Aal-i-Imraan • AR-TAFSEER-TANWIR-AL-MIQBAS
﴿ هَٰٓأَنتُمْ أُو۟لَآءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوٓا۟ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا۟ عَضُّوا۟ عَلَيْكُمُ ٱلْأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا۟ بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴾
“Lo! It is you who [are prepared to] love them, but they will not love you, although you believe in all of the revelation. And when they meet you, they assert, "We believe [as you believe]"; but when they find themselves alone, they gnaw their fingers in rage against you. Say: "Perish in your rage! Behold, God has full knowledge of what is in the hearts [of men]!"”
استئناف ابتدائي ، قصد منه المقابلة بين خُلق الفريقين ، فالمؤمنون يحبّون أهل الكتاب ، وأهل الكتاب يبغضونهم ، وكلّ إناء بما فيه يرشح ، والشأن أنّ المحبَّة تجلب المحبَّة إلاّ إذا اختلفت المقاصد والأخلاق .وتركيب ها أنتم أولاء ونظائره مثل هأنا تقدم في قوله تعالى في سورة [ البقرة : 85 ] : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } ولمّا كان التعجيب في الآية من مجموع الحالين قيل : هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم } فالعَجب من محبّة المؤمنين إيّاهم في حال بغضهم المؤمنين ، ولا يذكر بعد اسم الإشارة جملة في هذا التركيب إلاّ والقصد التعجّب من مضمون تلك الجملة .وجملة { ولا يحبونكم } جملة حال من الضمير المرفوع في قوله : { تحبونهم } لأنّ محلّ التّعجيب هو مجموع الحالين .وليس في هذا التعجيب شيء من التغليط ، ولكنَّه مجرد إيقاظ ، ولذلك عقّبه بقوله : { وتؤمنون بالكتاب كله } فإنَّه كالعذر للمؤمنين في استبطانهم أهل الكتاب بعد إيمان المؤمنين ، لأنّ المؤمنين لمَّا آمنوا بجميع رسل الله وكتبهم كانوا ينسبون أهل الكتاب إلى هدى ذهب زمانه ، وأدخلوا فيه التّحريف بخلاف أهل الكتاب إذ يرمقون المسلمين بعين الازدراء والضلالة واتّباع ما ليس بحقّ . وهذان النظران ، منّا ومنهم ، هما أصل تسامح المسلمين مع قوّتهم ، وتصَلُّب أهل الكتابين مع ضعفهم .{ وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } .جملة { وتؤمنون } معطوفة على { تحبونهم } كما أن جملة { وإذا لقوكم } معطوفة على { ولا يحبونكم } وكلّها أحوال موزّعة على ضمائر الخطاب وضمائر الغيبة .والتعريف في { الكتاب } للجنس وأكّد بصيغة المفرد مراعاةً للفظه ، وأراد بهذا جماعة من منافقي اليهود أشهرهم زيد بن الصتيتتِ القَيْنُقَاعي .والعَضّ : شدّ الشيء بالأسنان . وعضّ الأنامل كناية عن شدّة الغيظ والتحسّر . وإن لم يكن عَضّ أنامل محسوساً ، ولكن كنّي به عن لازمه في المتعارف ، فإنّ الإنسان إذا اضطرب باطنه من الانفعال صدرت عنه أفعال تناسب ذلك الانفعال ، فقد تكون مُعِينة على دفع انفعاله كقتل عدوّه ، وفي ضدّه تقبيل من يحبّهُ ، وقد تكون قاصرة عليه يشفي بها بعض انفعاله ، كتخبّط الصّبي في الأرض إذا غضب ، وضَرب الرجل نفسه من الغضب ، وعضّه أصابعه من الغيظ ، وقرعه سنّه من النَّدم ، وضرب الكفّ بالكفّ من التحسّر ، ومن ذلك التأوّه والصّياح ونحوها ، وهي ضروب من علامات الجزع ، وبعضها جبلّي كالصياح ، وبعضها عادي يتعارفه النَّاس ويكثر بينهم ، فيصيرون يفعلونه بدون تأمّل ، وقال الحارث بن ظالم المري: ... فأقبل أقوام لئام أذلّةيعضّون من غيظ رؤوس الأباهم ... وقوله : { عليكم } على فيه للتَّعليل ، والضّمير المجرور ضمير المسلمين ، وهو من تعليق الحكم بالذات بتقدير حالة معيّنة ، أي على التئامكم وزوال البغضاء ، كما فعل شاس بن قيس اليهودي فنزل فيه قوله تعالى :{ يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } [ آل عمران : 100 ] ، ونظير هذا التعليق قول الشاعر: ... لتقرعِنّ على السنّ من ندمإذا تذكرتتِ يوما بعضَ أخلاقي ... و { من الغيظ } ( من ) للتعليل . والغيظ : غضب شديد يلازمه إرادة الانتقام .وقوله : { قل موتوا بغيظكم } كلام لم يقصد به مخاطبون معيَّنون لأنَّه دعاء على الَّذين يعضّون الأنامل من الغيظ ، وهم يفعلون ذلك إذا خلوا ، فلا يتصوّر مشافهتهم بالدّعاء على التَّعيين ولكنَّه كلام قصد إسماعه لكلّ من يعلم من نفسه الاتّصاف بالغيظ على المسلمين وهو قريب من الخطاب الَّذي يقصد به عموم كُل مخاطب نحو : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } [ السجدة : 12 ] .والدعاء عليهم بالموت بالغيظ صريحهُ طلب موتهم بسبب غيظهم ، وهو كناية عن ملازمة الغيظ لهم طول حياتهم إن طالت أو قصرت ، وذلك كناية عن دوام سبب غيظهم ، وهو حسن حال المسلمين ، وانتظام أمرهم ، وازدياد خيرهم ، وفي هذا الدعاء عليهم بلزوم ألم الغيظ لهم ، وبتعجيل موتهم به ، وكلّ من المعنيين المكني بهما مراد هنا ، والتكنّي بالغيظ وبالحسد عن كمال المغيظ منه المحسود مشهور ، والعرب تقول : فلان محسَّد ، أي هو في حالة نعمة وكمال .{ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .تذييل لقوله : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } وما بيْنها كالاعتراض أي أنّ الله مطلّع عليهم وهو مطلعك على دخائلهم .