slot qris slot gacor terbaru slot gacor terbaik slot dana link slot gacor slot deposit qris slot pulsa slot gacor situs slot gacor slot deposit qris
| uswah-academy
WhatsApp Book A Free Trial
القائمة

🕋 تفسير سورة الحجرات

(Al-Hujurat) • المصدر: AR-TAFSEER-TANWIR-AL-MIQBAS

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

📘 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1(الافتتاح بنداء المؤمنين للتنبيه على أهمية ما يرد بعد ذلك النداء لتترقبه أسماعهم بشوق . ووَصْفُهم ب { الذين آمنوا } جار مجرى اللقب لهم مع ما يؤذِن به أصله من أهليتهم لتلقي هذا النهي بالامتثال .وقد تقدم عند الكلام على أغراض السورة أن الفخر ذكر أن الله أرشد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وهي إما في جانب الله أو جانب رسوله صلى الله عليه وسلم أو بجانب الفساق أو بجانب المؤمن الحاضر أو بجانب المؤمن الغائب ، فهذه خمسة أقسام ، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات { يا أيها الذين آمنوا } فأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة إلخ ، فهذا النداء الأول اندرج فيه واجب الأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تعرض الغفلة عنها . رضي الله عنوالتقدم حقيقته : المشي قبل الغير ، وفعله المجرد : قَدُم من باب نصر قال تعالى : { يَقْدُم قومه يوم القيامة } [ هود : 98 ] . وحق قدم بالتضعيف أن يصير متعدياً إلى مفعولين لكن ذلك لم يرد وإنما يعدّى إلى المفعول الثاني بحرف على .ويقال : قدَّم بمعنى تَقدم كأنه قدّم نفسه ، فهو مضاعف صار غير متعد . فمعنى { لا تقدموا } لا تتقدموا .ففعل { لا تقدموا } مضارع قَدَّم القاصر بمعنى تقدم على غيره وليس لهذا الفعل مفعول ، ومنه اشتقت مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منه وهي ضد الساقة . ومنه سميت مقدمةَ الكتاب الطائفةُ منه المتقدمة على الكتاب . ومادة فَعَّل تجيء بمعنى تفعّل مثل وجّه بمعنى توجّه وبَيَّن بمعنى تبيّن ، ومن أمثالهم بَيّن الصبح لذي عينين .والتركيب تمثيل بتشبيه حال من يفعل فعلاً دون إذن مِن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحال من يتقدم مُماشِيَه في مَشيه ويتركه خلفه . ووجه الشبه الانفراد عنه في الطريق . والنهي هنا للتحذير إذ لم يسبق صدور فعل من أحد افتياتا على الشرع .ويستروح من هذا أن هذا التقدم المنهي عنه هو ما كان في حالة إمكان الترقب والتمكن من انتظار ما يبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله فيومىء إلى أن إبرام الأمر في غيبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا حرج فيه .وهذه الآية تؤيد قول الفقهاء : إن المكلف لا يقدِم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه . وعدّ الغزالي العلمَ بحكم ما يُقدم عليه المكلف من قسم العلوم التي هي فرض على الأعيان الذين تعرض لهم . والمقصود من الآية النهي عن إبرام شيء دون إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر قبله اسم الله للتنبيه على أن مراد الله إنما يعرف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حصل من قوله : { لا تقدموا } الخ معنى اتبعوا الله ورسوله .وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري في «صحيحه» في قصة وفد بني تميم بسنده إلى ابن الزبير قال «قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : أمَّرْ عليهم القعقاع بن معبد بن زُرارة . وقال عُمر : بل أمِّر الأقرعَ بن حابس . قال أبو بكر : ما أردت إلاّ خلافي أو إلَى خلافي قال عمر : ما أردت خِلافك أو إلى خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما في ذلك فنزل { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } [ الحجرات : 1 ، 2 ] .فهذه الآية توطئة للنهي عن رفع الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهرِ له بالقول وندائه من وراء الحجرات . وعن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت بسبب بَعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرية فقتلتْ بنُو عامر رجالَ السرية إلا ثلاثة نَفرٍ نَجَوا فلقُوا رجلين من بين سُليم فسألوهما عن نسبتهما فاعتزيا إلى بني عامر ظنّاً منهما أن هذا الاعتزاء أنجى لهما من شر توقعاه لأن بني عامر أعزُّ من بني سليم ، فقتلوا النفر الثلاثة وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال : " بئسما صنعتم كانَا من بني سليم ، والسلَب ما كَسَوْتُهما " أي عرف ذلك لما رأى السلب فعَرَفه بأنه كساهما إياه وكانت تلك الكسوة علامة على الإسلام لئلا يتعرض لهم المسلمون فوادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا } الآية ، أي لا تعملوا شيئاً من تلقاء أنفسكم في التصرف من الأمة إلا بعد أن تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذه الرواية تكون القصة جرت قبيل قصة بني تميم فقرنت آيتاهما في النزول . وهنالك روايات أخرى في سبب نزولها لا تناسب موقع الآية مع الآيات المتصلة بها . وأيَّا مَّا كان سبب نزولها فهي عامة في النهي عن جميع أحوال التقدم المراد .وجعلت هذه الآية في صدر السورة مقدَّمة على توبيخ وفد بني تميم حين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات لأن ما صدر من بني تميم هو من قبيل رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم ولأن مماراة أبي بكر وعمرَ وارتفاع أصواتهما كانت في قضية بني تميم فكانت هذه الآية تمهيداً لقوله : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية ، لأن من خصه الله بهذه الحظوة ، أي جعل إبرام العمل بدون أمره كإبرامه بدون أمر الله حقيق بالتهيب والإجلال أن يخفض الصوت لديه .وإنما قدم هذا على توبيخ الذين نادوا النبي لأن هذا أولى بالاعتناء إذ هو تأديب من هو أولى بالتهذيب .وقرأه الجمهور تقدموا } بضم الفوقية وكسر الدال مشددة . وقرأه يعقوب بفتحهما على أن أصله : لا تتقدموا . وقال فخر الدين عند الكلام على قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنَبإ فتبيّنوا } [ الحجرات : 6 ] في هذه السورة : إن فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وهي : إما مع الله أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما من أبناء الجنس وهم على صنفين لأنهم : إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين من الطاعة ، وإمّا أن يكونوا خارجين عنها بالفسق؛ والداخل في طريقتهم : إما حاضر عندهم ، أو غائب عنهم ، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات { يا أيها الذين آمنوا } وأرشد بعد كل مرة إلى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة .فقال أولاً : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بي يدي اللَّه ورسوله } وهي تشمل طاعة الله تعالى ، وذُكر الرسول معه للإشارة إلى أن طاعة الله لا تعلم إلا بقول الرسول فهذه طاعة للرسول تابعة لطاعة الله . وقال ثانياً : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } [ الحجرات : 2 ] لبيان الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم لذاته في باب حسن المعاملة . وقال ثالثاً : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ } الآية للتنبيه على طريقة سلوك المؤمنين في معاملة من يعرف بالخروج عن طريقتهم وهي طريقة الاحتراز منه لأن عمله إفساد في جماعتهم ، وأعقبه بآية { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] . وقال رابعاً { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم } [ الحجرات : 11 ] إلى قوله : { فأولئك هم الظالمون } [ البقرة : 229 ] فنهى عما يكثر عدم الاحتفاظ فيه من المعاملات اللسانية التي قلّما يقام لها وزن . وقال خامساً : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إلى قوله : تواب رحيم } [ الحجرات : 12 ] اه .ويريد : أن الله ذكر مثالاً من كل صنف من أصناف مكارم الأخلاق بحسب ما اقتضته المناسبات في هذه السورة بعد الابتداء بما نزلت السورة لأجله ابتداء ليكون كل مثال منها دالاً على بقية نوعه ومرشداً إلى حكم أمثاله دون كلفة ولا سآمة . وقد سلك القرآن لإقامة أهم حُسن المعاملة طريقَ النهي عن أضدادها من سوء المعاملة لأن درء المفسدة مقدم في النظر العقلي على جلب المصلحة .وعَطْف { واتقوا اللَّه } تكملة للنهي عن التقدم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ليدل على أن ترك إبرام شيء دون إذن الرسول صلى الله عليه وسلم من تقوى الله وحده ، أي ضده ليس من التقوى .وجملة { إن اللَّه سميع عليم } في موضع العلة للنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله وللأمر بتقوى الله .والسميع : العليم بالمسموعات ، والعليم أعم وذكرها بين الصفتين كناية عن التحذير من المخالفة ففي ذلك تأكيد للنهي والأمر .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

📘 إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10(تعليل لإقامة الإصلاح بين المؤمنين إذا استشرى الحال بينهم ، فالجملة موقعها موقع العلة ، وقد بني هذا التعليل على اعتبار حال المسلمين بعضهم مع بعض كحال الإخوة .وجيء بصيغة القصر المفيدة لحصر حالهم في حال الإخوة مبالغة في تقرير هذا الحكم بين المسلمين فهو قصر ادعائي أو هو قصر إضافي للرد على أصحاب الحالة المفروضة الذين يبغون على غيرهم من المؤمنين ، وأخبر عنهم بأنهم إخوة مجازاً على وجه التشبيه البليغ زيادة لتقرير معنى الأخوة بينهم حتى لا يحق أن يقرن بحرف التشبيه المشعر بضعف صفتهم عن حقيقة الأخُوَّة . وهذه الآية فيها دلالة قوية على تقرر وجوب الأخوة بين المسلمين لأن شأن { إنما } أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما يُنَزِّل منزلة ذلك كما قال الشيخ في «دلائل الإعجاز» في الفصل الثاني عشر وساق عليه شواهد كثيرة من القرآن وكلام العرب فلذلك كان قوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } مفيد أن معنى الأخوة بينهم معلوم مقرر . وقد تقرر ذلك في تضاعيف كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله تعالى : { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } في سورة الحشر ( 10 ( ، وهي سابقة في النزول على هذه السورة فإنها معدودة الثانية والمائة ، وسورة الحجرات معدودة الثامنة والمائة من السور . وآخى النبي بين المهاجرين والأنصار حين وروده المدينة وذلك مبدأ الإخاء بين المسلمين . وفي الحديث لو كنت متّخذاً خليلاً غيرَ ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام أفضل .وفي باب تزويج الصغار من الكبار من صحيح البخاري } " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة من أبي بكر . فقال له أبو بكر : إنما أنا أخوك فقال : أنتَ أخي في دين الله وكتابِه وهي لي حلال " وفي حديث «صحيح مسلم» " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم " وفي الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه " أي يحب للمسلم ما يحب لنفسه .فأشارت جملة { إنما المؤمنون إخوة } إلى وجه وجوب الإصلاح بين الطائفتين المُتبَاغِيَتَيْن منهم ببيان أن الإيمان قد عَقَد بين أهله من النسب الموحَى ما لا ينقص عن نسب الأخوة الجسدية على نحو قول عمر بن الخطاب للمرأة التي شكت إليه حاجة أولادها وقالت : أنا بنت خُفاف بن أيْمَاء ، وقد شهد أبي مع رسول الله الحديبية فقال عمر «مرحبا بنسب قريب» . ولما كان المتعارف بين الناس أنه إذا نشبت مشاقّة بين الأخوين لزم بقية الإخوة أن يتناهضوا في إزاحتها مشياً بالصلح بينهما فكذلك شأن المسلمين إذا حدث شقاق بين طائفتين منهم أن ينهض سائرهم بالسعي بالصلح بينهما وبثِّ السفراء إلى أن يرقعوا ما وهى ، ويرفعوا ما أصاب ودهَى .وتفريع الأمر بالإصلاح بين الأخوين ، على تحقيق كون المؤمنين إخوة تأكيد لما دلت عليه { إنما } من التعليل فصار الأمر بالإصلاح الواقع ابتداء دون تعليل في قوله : { فأصلحوا بينهما ، وقوله : { فأصلحوا بينهما بالعدل } [ الحجرات : 9 ] قد أردف بالتعليل فحصل تقريره ، ثم عقب بالتفريع فزاده تقريراً .وقد حصل من هذا النَظم ما يشبه الدعوى وهي كمطلوب القياس ، ثم ما يشبه الاستدلال بالقياس ، ثم ما يشبه النتيجة .ولمَّا تقرر معنى الأخوة بين المؤمنين كمالَ التقرّر عُدل عن أن يقول : فأصلحوا بين الطائفتين ، إلى قوله : { بين أخويكم } فهو وصف جديد نشأ عن قوله : { إنما المؤمنون إخوة } ، فتعين إطلاقه على الطائفتين فليس هذا من وضع الظاهر موضع الضمير فتأمل .وأوثرت صيغة التثنية في قوله : { أخويكم } مراعاة لكون الكلام جار على طائفتين من المؤمنين فجعلت كل طائفة كالأخ للأخرى . وقرأ الجمهور { بين أخويكم } بلفظ تثنية الأخ ، أي بين الطائفة والأخرى مراعاة لجريان الحديث على اقتتال طائفتين . وقرأ الجمهور { بين أخويكم } بلفظ تثنية الأخ على تشبيه كل طائفة بأخ . وقرأ يعقوب { فأصلحوا بين إخوَتِكم } بتاء فوقية بعد الواو على أنه جمع أخ باعتبار كل فرد من الطائفتين كالأخ .والمخاطب بقوله : { واتقوا اللَّه لعلكم ترحمون } جميع المؤمنين فيشمل الطائفتين الباغية والمبغي عليها ، ويشمل غيرهما ممن أمروا بالإصلاح بينما ومقاتلة الباغية ، فتقوى كلَ بالوقوف عند ما أمر الله به كُلّا مما يخصه ، وهذا يشبه التذييل . ومعنى { لعلكم ترحمون } : تُرجى لكم الرحمة من الله فتجري أحوالكم على استقامة وصلاح . وإنما اختيرت الرحمة لأن الأمر بالتقوى واقع إثر تقرير حقيقة الأخوة بين المؤمنين وشأن تعامل الإخوة الرحمة فيكون الجزاء عليها من جنسها .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

📘 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11({ تُرْحَمُونَ * ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن }لما اقتضت الأخوة أن تَحْسُن المعاملة بين الأخوين كان ما تقرر من إيجاب معاملة الإخوة بين المسلمين يقتضي حسن المعاملة بين آحادهم ، فجاءت هذه الآيات منبهة على أمور من حسن المعاملة قد تقع الغفلة عن مراعاتها لكثرة تفشّيها في الجاهلية لهذه المناسبة ، وهذا نداء رابع أريد بما بَعده أمرُ المسلمين بواجب بعض المجاملة بين أفرادهم .وعن الضحاك : أن المقصود بنو تميم إذ سخروا من بلال وعَمار وصهيب ، فيكون لنزول الآية سبب متعلق بالسبب الذي نزلت السورة لأجله وهذا من السخرية المنهي عنها .وروى الواحدي عن ابن عباس أن سبب نزولها : «أن ثابت بن قيس بن شمَّاس كان في سمعه وَقْر وكان إذا أتى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أوسِعوا له ليجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فجاء يوماً يتخطى رقاب الناس فقال رجل : قد أصبتَ مجلساً فاجلِس . فقال ثابت : مَنْ هذا؟ فقال الرجل : أنا فلان . فقال ثابت : ابنُ فلانة وذكر أمًّا له كان يُعيّر بها في الجاهلية ، فاستحيا الرجل . فأنزل الله هذه الآية» ، فهذا من اللمز . وروي عن عكرمة : «أنها نزلت لما عَيّرت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ سلمة بالقِصَر» ، وهذا من السخرية . وقيل : عير بعضهن صفية بأنها يهودية ، وهذا من اللمز في عرفهم .وافتتحت هذه الآيات بإعادة النداء للاهتمام بالغرض فيكون مستقلاً غير تابع حسبما تقدم من كلام الفخر . وقد تعرضت الآيات الواقعة عقب هذا النداء لصنف مُهمّ من معاملة المسلمين بعضهم لبعض مما فشا في الناس من عهد الجاهلية التساهلُ فيها . وهي من إساءة الأقوال ويقتضي النهي عنها الأمر بأضدادها . وتلك المنهيات هي السخرية واللمز والنبز .والسَّخر ، ويقال السخرية : الاستهزاء ، وتقدم في قوله : { فيسخرون منهم } في سورة براءة ( 79 ( ، وتقدم وجه تعديته ب ( من ( .والقوم : اسم جمع : جماعة الرجال خاصة دون النساء ، قال زهير :وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آلُ حصن أم نساء؟وتنكير قوم } في الموضعين لإفادة الشياع ، لئلا يتوهم نهي قوم معينين سخروا من قوم معينين . وإنما أسند { يسخر } إلى { قوم } دون أن يقول : لا يسخر بعضُكم من بعض كما قال : { ولا يغتب بعضكم بعضاً } [ الحجرات : 12 ] للنهي عما كان شائعاً بين العرب من سخرية القبائل بعضها من بعض فوجّه النهي إلى الأقوام . ولهذا أيضاً لم يقل : لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة . ويفهم منه النهي عن أن يسخر أحد من أحد بطريق لحن الخطاب . وهذا النهي صريح في التحريم .وخص النساء بالذكر مع أن القوم يشملهم بطريق التغليب العرفي في الكلام ، كما يشمل لفظُ { المؤمنين } المؤمنات في اصطلاح القرآن بقرينة مقام التشريع ، فإن أصله التساوي في الأحكام إلا ما اقتضى الدليل تخصيص أحد الصنفين به دفعاً لتوهم تخصيص النهي بسخرية الرجال إذ كان الاستسخار متأصلاً في النساء ، فلأجل دفع التوهم الناشىء من هذين السيئين على نحو ما تقدم في قوله من آية القصاص{ والأنثى بالأنثى } في سورة العقود ( 178 ( .وجملة عسى أن يكونوا خيراً منهم } مستأنفة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين تفيد المبالغة في النهي عن السخرية بذكر حالة يكثر وجودها في المسخُورية ، فتكون سخرية الساخر أفظع من الساخر ، ولأنه يثير انفعال الحياء في نفس الساخرة بينه وبين نفسه . وليست جملة { عسى أن يكونوا خيراً منهم } صفةً لقوم من قومه : { من قوم } وإلا لصار النهي عن السخرية خاصاً بما إذا كان المسخور به مظنة أنه خير من الساخر ، وكذلك القول في جملة { عسى أن يكُنَّ خيراً منهنّ } وليست صفة ل { نسَاء } من قوله : { من نسَاء } .وتشابه الضميرين في قوله : { أن يكونوا خيراً منهم } وفي قوله : { أنْ يَكُنَّ خيراً منهن } لا لبس فيه لظهور مرجع كل ضمير ، فهو كالضمائر في قوله تعالى : { وعَمروها أكثَر مما عمَروها } في سورة الروم ( 9 ( ، وقول عباس بن مرداس :عُدنا ولولا نحن أحْدَق جمعهم ... بالمسلمين وأحرَزُوا ما جَمَّعوامِّنْهُنَّ وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ } .اللمز : ذكر ما يَعُده الذاكر عيباً لأحد مواجهةً فهو المباشرة بالمكروه . فإن كان بحق فهو وقاحة واعتداء ، وإن كان باطلاً فهو وقاحة وكذب ، وكان شائعاً بين العرب في جاهليتهم قال تعالى : { ويل لكلِّ هُمَزة لُمزة } [ الهمزة : 1 ] يعني نفراً من المشركين كان دأبهم لَمز رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون بحالة بين الإشارة والكلام بتحريك الشفتين بكلام خفيّ يعرِف منه المواجه به أنه يذمّ أو يتوعد ، أو يتنقص باحتمالات كثيرة ، وهو غير النبز وغير الغِيبة . وللمفسرين وكتب اللغة اضطراب في شرح معنى اللمز وهذا الذي ذكرته هو المنخول من ذلك .ومعنى { لا تلمزوا أنفسكم } لا يلمز بعضكم بعضاً فَنُزِّلَ البعضُ الملموز نَفْساً للامزه لتقرر معنى الأخوة ، وقد تقدم نظيره عند قوله : { ولا تخرجونَ أنفسكم من دياركم } في سورة البقرة ( 84 ( .والتنابز : نبز بعضهم بعضاً ، والنبْز بسكون الباء : ذكر النَبَز بتحريك الباء وهو اللقب السوء ، كقولهم : أنف الناقة ، وقُرْقُور ، وبطَة . وكان غالب الألقاب في الجاهلية نبزا . قال بعض الفزاريين :أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسَّؤْأةُ اللقبروي برفع السوأْةُ اللقب فيكون جرياً على الأغلب عندهم في اللقب وأنه سوأة . ورواه ديوان الحماسة } بنصب السوأةَ على أن الواو واو المعية . وروي بالسوأة اللقبا أي لا ألقبه لقباً ملابساً للسوءة فيكون أراد تجنب بعض اللقب وهو ما يدل على سُوء ورواية الرفع أرجح وهي التي يقتضيها استشهاد سيبويه ببيت بعده في باب ظن . ولعل ما وقع في «ديوان الحماسة» من تغييرات أبي تمام التي نسب إليه بعضها في بعض أبيات الحماسة لأنه رأى النصب أصح معنى .فالمراد ب { الألقاب } في الآية الألقاب المكروهة بقرينة { ولا تنابزوا } . واللقب ما أشعر بخسّة أو شرف سواء كان ملقباً به صاحبه أم اخترعه له النابز له .وقد خصص النهي في الآية ب { الألقاب } التي لم يتقادم عهدها حتى صارت كالأسماء لأصحابها وتنوسي منها قصد الذم والسب خُصّ بما وقع في كثير من الأحاديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم " أصدق ذو اليدين " ، وقوله لأبي هريرة «يا أبا هِرّ» ، ولُقب شاول ملك إسرائيل في القرآن طالوت ، وقول المحدثين الأعرج لعبد الرحمن بن هرمز ، والأعمش لسليمان من مَهران .وإنما قال { ولا تلمزوا } بصيغة الفعل الواقع من جانب واحد وقال : { ولا تَنابزوا } بصيغة الفعل الواقع من جانبين ، لأن اللمز قليل الحصول فهو كثير في الجاهلية في قبائل كثيرة منهم بنو سلمة بالمدينة قاله ابن عطية .{ بالالقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الايمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ } .تذييل للمنهيات المتقدمة وهو تعريض قوّي بأن ما نُهوا عنه فُسوق وظلم ، إذ لا مناسبة بين مدلول هذه الجملة وبين الجمل التي قبلها لولا معنى التعريض بأن ذلك فسوق وذلك مذموم ومعاقب عليه فدلّ قوله : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } ، على أن ما نهوا عنه مذموم لأنه فسوق يعاقب عليه ولا تزيله إلا التوبة فوقع إيجاز بحذف جملتين في الكلام اكتفاء بما دل عليه التذييل ، وهذا دال على اللمز والتنابز معصيتان لأنهما فسوق . وفي الحديث " سباب المسلم فسوق "ولفظ { الاسم } هنا مطلق على الذكر ، أي التسمية ، كما يقال : طار اسمه في الناس بالجود أو باللؤم . والمعنى : بئس الذِكر أن يذكر أحد بالفسوق بعد أن وُصِف بالإيمان . وإيثار لفظ الاسم هنا من الرشاقة بمكان لأن السياق تحذير من ذكر الناس بالأسماء الذميمة إذ الألقاب أسماء فكان اختيار لفظ الاسم للفسوق مشاكلة معنوية .ومعنى البعديَّة في قوله : { بعد الإيمان } : بعدَ الاتصاف بالإيمان ، أي أن الإيمان لا يناسبه الفسوق لأن المعاصي من شأن أهل الشرك الذين لا يزعهم عن الفسوق وازع ، وهذا كقول جميلة بنت أُبيّ حين شكت للنبيء صلى الله عليه وسلم أنها تكره زوجها ثابت بن قيس وجاءت تطلب فراقه : «لا أعيب على ثابت في دين ولا في خُلق ولكنّي أكره الكفر بعد الإسلام تريد التعريض بخشية الزنا وإني لا أطيقه بغضاً» .وإذ كان كل من السخرية واللمز والتنابز معاصي فقد وجبت التوبة منها فمن لم يتب فهو ظالم : لأنه ظلم الناس بالاعتداء عليهم ، وظلم نفسه بأن رضي لها عقاب الآخرة مع التمكن من الإقلاع عن ذلك فكان ظلمه شديداً جداً . فلذلك جيء له بصيغة قصر الظالمين عليهم كأنه لا ظالم غيرهم لعدم الاعتداد بالظالمين الآخرين في مقابلة هؤلاء على سبيل المبالغة ليزدجروا . والتوبة واجبة من كل ذنب وهذه الذنوب المذكورة مراتب وإدمان الصغائر كبيرة .وتوسيط اسم الإشارة لزيادة تمييزهم تفظيعاً لحالهم وللتنبيه ، بل إنهم استحقوا قصر الظلم عليهم لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ

📘 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12(أعيد النداء خامس مرة لاختلاف الغرض والاهتمام به وذلك أن المنهيات المذكورة بعد هذا النداء من جنس المعاملات السيئة الخفية التي لا يتفطن لها من عومل بها فلا يدفعها فما يزيلها من نفس من عامله بها .ففي قوله تعالى : { اجتنبوا كثيراً من الظن } تأديب عظيم يبطل ما كان فاشياً في الجاهلية من الظنون السيئة والتهم الباطلة وأن الظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة والمكائد والاغتيالات ، والطعن في الأنساب ، والمبادأة بالقتال حذراً من اعتداء مظنون ظناً باطلاً ، كما قالوا : خذ اللص قبْلَ أن يَأخُذَك .وما نجمت العقائد الضالة والمذاهب الباطلة إلا من الظنون الكاذبة قال تعالى : { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } [ آل عمران : 154 ] وقال : { وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } [ الزخرف : 20 ] وقال : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرَّمنا من شيء } [ الأنعام : 148 ] ثم قال : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } [ الأنعام : 148 ] .وقال النبي صلى الله عليه وسلم « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » ولما جاء الأمر في هذه الآية باجتناب كثير من الظن علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة ، فوجب التمحيص والفحص لتمييز الظن الباطل من الظن الصادق .والمراد ب { الظن } هنا : الظن المتعلق بأحوال الناس وحذف المتعلّق لتذهب نفس السامع إلى كل ظن ممكن هو إثم . وجملة { إن بعض الظن إثم } استئناف بياني لأن قوله : { اجتنبوا كثيراً من الظن } يستوقف السامع ليتطلب البيان فأعلموا أن بعض الظن جرم ، وهذا كناية عن وجوب التأمل في آثار الظنون ليعرضوا ما تفضي إليه الظنون على ما يعلمونه من أحكام الشريعة ، أو ليسألوا أهل العلم على أن هذا البيان الاستئنافي يقتصر على التخويف من الوقوع في الإثم . وليس هذا البيان توضيحاً لأنواع الكثير من الظن المأمور باجتنابه ، لأنها أنواع كثيرة فنبه على عاقبتها وتُرك التفصيل لأن في إبهامه بعثاً على مزيد الاحتياط .ومعنى كونه إثماً أنه : إمّا أن ينشأ على ذلك الظن عمل أو مجرد اعتقاد ، فإن كان قد ينشأ عليه عمل من قول أو فعل كالاغتياب والتجسس وغير ذلك فليقدِّر الظانّ أن ظنه كاذب ثم لينظر بعدُ في عمله الذي بناه عليه فيجده قد عامل به من لا يستحق تلك المعاملة من اتهامه بالباطل فيأثم مما طوى عليه قلبه لأخيه المسلم ، وقد قال العلماء : إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز . وإن لم ينشأ عليه إلا مجرد اعتقاد دون عمل فليقدِّر أن ظنه كان مخطئاً يجد نفسه قد اعتقد في أحد ما ليس به ، فإن كان اعتقادا في صفات الله فقد افترى على الله وإن كان اعتقاداً في أحوال الناس فقد خسر الانتفاع بمن ظنه ضاراً ، أو الاهتداء بمن ظنه ضالاً ، أو تحصيل العلم ممن ظنه جاهلاً ونحو ذلك .ووراء ذلك فالظن الباطل إذا تكررت ملاحظته ومعاودة جولانه في النفس قد يصير علماً راسخاً في النفس فتترتب عليه الآثار بسهولة فتصادف من هو حقيق بضدها كما تقدم في قوله تعالى : { أن تُصِيبُوا قوما بجهالة فتُصبحُوا على ما فعلتم نادمين } [ الحجرات : 6 ] .والاجتناب : افتعال مِن جنَّبه وأجنبه ، إذا أبعده ، أي جعله جانباً آخر ، وفعله يُعدّى إلى مفعولين ، يقال : جَنبه الشرَّ ، قال تعالى : { واجْنُبْنِي وبَنِيّ أن نعبد الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] . ومطاوعه اجتَنب ، أي ابتعد ، ولم يسمع له فعل أمر إلا بصيغة الافتعال .ومعنى الأمر باجتناب كثير من الظن الأمر بتعاطي وسائل اجتنابه فإن الظن يحصل في خاطر الإنسان اضطراراً عن غير اختيار ، فلا يعقل التكليف باجتنابه وإنما يراد الأمر بالتثبت فيه وتمحيصه والتشكك في صدقه إلى أن يتبين موجبه بدون تردد أو برجحان أو يتبين كذبه فتكذب نفسك فيما حدثتك . وهذا التحذير يراد منه مقاومة الظنون السيئة بما هو معيارها من الأمارات الصحيحة . وفي الحديث « إذا ظننتم فلا تحققوا » على أن الظن الحسن الذي لا مستند له غير محمود لأنه قد يوقع فيما لا يحد ضره من اغترار في محل الحذر ومن اقتداء بمن ليس أهلاً للتأسي . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية حين مات في بيتها عثمان بن مظعون وقال : « رحمة الله عليك أبا السايب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله وما يدريككِ أن الله أكرمه . فقالت : يا رسول الله ومن يكرمه الله؟ فقال : أمَّا هو فقد جاءه اليقين وإنّي أرجو له الخير وإنّي والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي . فقالت أم عطية : والله لا أزكّي بعده أحداً »وقد علم من قوله : { كثيراً من الظن } وتبيينِه بأن بعض الظن إثم أن بعضاً من الظن ليس إثماً وأنا لم نؤمر باجتناب الظن الذي ليس بإثم لأن { كثيراً } وصف ، فمفهوم المخالفة منه يدلّ على أن كثيراً من الظنّ لم نؤمر باجتنابه وهو الذي يبينه { إن بعض الظن إثم } أي أن بعض الظن ليس إثماً ، فعلى المُسلم أن يكون معيارُه في تمييز أحد الظنين من الآخر أن يعرضه على ما بينته الشريعة في تضاعيف أحكامها من الكتاب والسنة وما أجمعت عليه علماء الأمة وما أفاده الاجتهاد الصحيح وتتبع مقاصد الشريعة ، فمنه ظن يجب اتباعه كالحَذر من مكائد العدّو في الحرب ، وكالظنّ المستند إلى الدليل الحاصل من دلالة الأدلة الشرعية ، فإن أكثر التفريعات الشرعية حاصلة من الظن المستند إلى الأدلة . وقد فتح مفهوم هذه الآية باب العمل بالظن غير الإثم إلا أنها لا تقوم حجة إلاّ على الذين يَرون العمل بمفهوم المخالفة وهو أرجح الأقوال فإن معظم دلالات اللغة العربية على المفاهيم كما تقرر في أصول الفقه .وأما الظن الذي هو فهم الإنسان وزكانته فذلك خاطر في نفسه وهو أدْرَى فمعتاده منه من إصابه أو ضدها قال أوس بن حجر :الألمعيُ الذي يظن بك الظ ... ن كأن قَدْ رأى وقد سمِعا{ إِثْمٌ وَلاَ } .التجسس من آثار الظن لأن الظن يبعث عليه حين تدعو الظانَّ نفسُه إلى تحقيق ما ظنه سراً فيسلك طريق التجنيس فحذرهم الله من سلوك هذا الطريق للتحقق ليسلكوا غيره إن كان في تحقيق ما ظن فائدة .والتجسّس : البحث بوسيلة خفيّة وهو مشتق من الجس ، ومنه سمي الجاسوس .والتجسّس من المعاملة الخفية عن المتجسس عليه . ووجه النهي عنه أنه ضرب من الكيد والتطلع على العورات . وقد يرى المتجسس من المتجسس عليه ما يسوءه فتنشأ عنه العداوة والحقد . ويدخل صدره الحرج والتخوف بعد أن كانت ضمائره خالصة طيبة وذلك من نكد العيش .وذلك ثلم للأخوة الإسلامية لأنه يبعث على إظهار التنكر ثم إن اطلع المتجسس عليه على تجسس الآخر ساءه فنشأ في نفسه كره له وانثلمت الأخوة ثلمة أخرى كما وصفنا في حال المتجسِّس ، ثم يبعث ذلك على انتقام كليهما من أخيه .وإذ قد اعتبر النهي عن التجسس من فروع النهي عن الظن فهو مقيد بالتجسس الذي هو إثم أو يفضي إلى الإثم ، وإذا علم أنه يترتب عليه مفسدة عامة صار التجسس كبيرة . ومنه التجسس على المسلمين لمن يبتغي الضُرّ بهم .فالمنهي عنه هو التجسس الذي لا ينجرّ منه نفع للمسلمين أو دفع ضر عنهم فلا يشمل التجسس على الأعداء ولا تجسس الشُرَط على الجناة واللصوص .{ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } .الاغتياب : افتعال من غَابه المتعدي ، إذا ذَكره في غيبه بما يسوءه .فالاغتياب ذكر أحد غائب بما لا يُحب أن يُذكَر به ، والاسم منه الغِيبة بكسر الغين مثل الغِيلة . وإنما يكون ذكره بما يكره غيبه إذا لم يكن ما ذكره به مما يثلم العِرض وإلا صار قذعا .وإنما قال : { ولا يغتب بعضكم بعضاً } دون أن يقول : اجتنبوا الغيبة . لقصد التوطئة للتمثيل الوارد في قوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } لأنه لما كان ذلك التمثيل مشتملاً على جانب فاعل الاغتياب ومفعولِه مُهّد له بما يدلّ على ذاتين لأن ذلك يزيد التمثيل وضوحاً .والاستفهام في { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } تقريري لتحقق أن كل أحد يقر بأنه لا يحب ذلك ، ولذلك أجيب الاستفهام بقوله : { فكرهتموه } .وإنما لم يرد الاستفهام على نفي محبة ذلك بأن يقال : ألا يحب أحدكم ، كما هو غالب الاستفهام التقريري ، إشارة إلى تحقق الإقرار المقرَّر عليه بحيث يترك للمقرّر مجالاً لعدم الإقرار ومع ذلك لا يسعه إلا الإقرار .مثُلّت الغيبة بأكل لحم الأخ الميت وهو يستلزم تمثيل المولوع بها بمحبة أكل لحم الأخ الميت ، والتمثيل مقصود منه استفظاع الممثَّل وتشويهه لإفادة الإغلاظ على المغتابين لأن الغيبة متفشية في الناس وخاصة في أيام الجاهلية .فشبهت حالة اغتياب المسلم مَن هو أخوه في الإسلام وهو غائب بحالة أكل لحم أخيه وهو ميت لا يدافع عن نفسه ، وهذا التمثيل للهيئة قابل للتفريق بأن يشبه الذي اغتاب بآكل لحم ، ويشبه الذي اغتيب بأخ ، وتشبه غَيْبته بالمَوت .والفاء في قوله : { فكرهتموه } فاء الفصيحة ، وضمير الغائب عائد إلى { أحدكم } ، أو يعود إلى { لحم } .والكراهة هنا : الاشمئزاز والتقذر . والتقدير : إن وقع هذا أو إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه .وفاء الفصيحة تفيد الإلزام بما بعدها كما صرح به الزمخشري في قوله تعالى : { فقد كذبوكم بما تقولون } في سورة الفرقان ، أي تدل على أن لا مناص للمواجه بها من التزام مدلول جواب شرطها المحذوف .والمعنى : فتعيّن إقراركم بما سئلتم عنه من الممثَّل به ( إذ لا يستطاع جَحْدَهُ ( تحققتْ كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أن تكرهوا نظيره الممثَّل وهو الغِيبة فكأنه قيل : فاكرهوا الممثل كما كرهتم الممثل به .وفي هذا الكلام مبالغات : منها الاستفهام التقريري الذي لا يقع إلا على أمر مسلّم عند المخاطب فجعلك للشيء في حيّز الاستفهام التقريري يقتضي أنك تدّعي أنه لا ينكره المخاطب .ومنها جعل ما هو شديد الكراهة للنفس مفعولاً لفعل المحبة للإشعار بتفظيع حالة ما شبه به وحالة من ارتضاه لنفسه فلذلك لم يقل : أيَتحمل أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً ، بل قال : { أيحب أحدكم } .ومنها إسناد الفعل إلى { احد } للإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك .ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتّى جَعل الإنسان أخاً .ومنها أنه لم يقتصر على كون المأكول لحم الأخ حتى جعل الأخَ ميتاً .وفيه من المحسنات الطباق بين { أيحب } وبين { فكرهتموه } .والغِيبة حرام بدلالة هذه الآية وآثار من السنة بعضها صحيح وبعضها دونه .وذلك أنها تشتمل على مفسدة ضُعف في أخوة الإسلام . وقد تبلغ الذي اغتيب فتقدح في نفسه عداوة لمن اغتابه فينثلم بناء الأخوة ، ولأن فيها الاشتغال بأحوال الناس وذلك يلهي الإنسان عن الاشتغال بالمهم النافع له وترك ما لا يعنيه .وهي عند المالكية من الكبائر وقلّ من صرح بذلك ، لكن الشيخ عليّاً الصعيدي في «حاشية الكفاية» صرح بأنها عندنا من الكبائر مطلقاً . ووجهُه أن الله نهَى عنها وشنّعها . ومُقتضى كلام السجلماسي في كتاب «العمل الفاسي» أنها كبيرة .وجعلها الشافعية من الصغائر لأن الكبيرة في اصطلاحهم فِعل يؤذن بقلة اكتراث فاعله بالدين ورقة الديانة كذا حدّها إمامُ الحرمين .فإذا كان ذلك لوجه مصلحة مثل تجريح الشهود ورواة الحديث وما يقال للمستشير في مخالطة أو مصاهرة فإن ذلك ليس بغِيبة ، بشرط أن لا يتجاوز الحد الذي يحصل به وصف الحالة المسؤول عنها .وكذلك لا غيبة في فاسق بذكر فسقه دون مجاهرة له به . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما استؤذن عنده لعُيينة بن حصن { بئس أخو العشيرة } ليحذّره من سمعه إذ كان عيينة يومئذ منحرفاً عن الإسلام .وعن الطبري صاحب «العُدة» في فروع الشافعية أنها صغيرة ، قال المحلي وأقره الرافعي ومن تبعه . قلت : وذكر السجلماسي في نظمه في المسائل التي جرى بها عمل القضاة في فاس فقال :ولا تجرح شاهداً بالغيبه ... لأنها عمت بها المصيبهوذكر في شرحه : أن القضاة عملوا بكلام الغزالي .وأما عموم البلوى فلا يوجب اغتفار ما عمّت به إلاّ عند الضرورة والتعذر كما ذكر ذلك عن أبي محمد بن أبي زيد .وعندي : أن ضابط ذلك أن يكثر في الناس كثرةً بحيث يصير غير دالّ على استخفاف بالوازع الديني فحيئذٍ يفارقها معنى ضعف الديانة الذي جعله الشافعية جزءاً من ماهية الغِيبة .{ فَكَرِهْتُمُوهُ واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ } .عطف على جُمل الطلب السابقة ابتداء من قوله : { اجتنبوا كثيراً من الظن } هذا كالتذييل لها إذ أمر بالتقوى وهي جُماع الاجتناب والإمتثال فمن كان سالماً من التلبس بتلك المنهيات فالأمر بالتقوى يجنبه التلبس بشيء منها في المستقبل ، ومن كان متلبساً بها أو ببعضها فالأمر بالتقوى يجمع الأمر بالكف عما هو متلبس به منها .وجملة { إن الله تواب رحيم } تذييل للتذييل لأن التقوى تكون بالتوبة بعد التلبس بالإثم فقيل : { إن الله تواب } وتكون التقوى ابتداء فيرحم الله المتقي ، فالرحيم شامل للجميع .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

📘 يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13(انتقال من واجبات المعاملات إلى ما يجب أن يراعيه المرء في نفسه ، وأعيد النداء للاهتمام بهذا الغرض ، إذ كان إعجابُ كل قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشياً في الجاهلية كما ترى بقيته في شعر الفرزدق وجرير ، وكانوا يحقرون بعض القبائل مثل بَاهلة ، وضُبيعة ، وبني عُكل .سئل أعرابي : أتحب أن تدخل الجنة وأنت باهلي فأطرق حينا ثم قال : على شرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلى . فكان ذلك يجرّ إلى الإحن والتقاتل وتتفرع عليه السخرية واللمز والنبز والظن والتجسس والاغتياب الواردة فيها الآيات السابقة ، فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود إذ كثر الداخلون في الإسلام .فعن أبي داود أنه روى في كتابه «المراسيل» عن الزهري قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة ( من الأنصار ( أن يزوجوا أبا هند ( مولَى بني بياضة قيل اسمه يَسار ( امرأةً منهم فقالوا : تزوج بناتنا موالينَا ، فأنزل الله تعالى : { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا } الآية . وروي غير ذلك في سبب نزولها .ونُودوا بعنوان { الناس } دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صُدّر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد ، أي أنهم في الخلقة سواء ليتوسل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل وإلى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى فقيل : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } .فمن أقدم على القول بأن هذه الآية نزلت في مكة دون بقية السورة اغترّ بأن غالِب الخطاب ب { يا أيها الناس } إنما كان في المكي .والمراد بالذَكَر والأنثى : آدم وحواء أبَوَا البشر ، بقرينة قوله { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } .ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أنتم بنو آدم وآدم من تراب " كما سيأتي قريباً . فيكون تنوين ( ذكر وأنثى ( لأنهما وصفان لموصوف فقرر ، أي من أب ذكر ومن أم أنثى .ويجوز أن يراد ب { ذكر وأنثى } صنف الذكر والأنثى ، أي كل واحد مكون من صنف الذكر والأنثى .وحرف ( من ( على كلا الاحتمالين للابتداء .والشعوب : جمع شعب بفتح الشين وهو مجمع القبائل التي ترجع إلى جد واحد من أمة مخصوصة وقد يسمى جذماً ، فالأمة العربية تنقسم إلى شعوب كثيرة فمُضر شعب ، وربيعة شعب ، وأنمار شعب ، وإياد شعب ، وتجمعها الأمة العربية المستعربة ، وهي عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام ، وحمير وسبأ ، والأزدُ شعوب من أمة قحطان . وكنانة وقيس وتميم قبائل من شعب مضر . ومَذْحج ، وَكِنْدَة قبيلتان من شَعب سَبأ . والأوسُ والخزرج قبيلتان من شَعب الأزد .وتحت القبيلة العمارة مثل قريش من كِنانة ، وتحت العمارة البطن مثل قصيّ من قريش ، وتحت البطن الفخِذ مثل هاشم وأمية من قَصي ، وتحت الفخذ الفصيلة مثل أبي طالب والعباس وأبي سفيان .واقُتصر على ذكر الشعوب والقبائل لأن ما تحتها داخل بطريق لحن الخطاب .وتجاوز القرآن عن ذكر الأمم جرياً على المتداول في كلام العرب في تقسيم طبقات الأنساب إذ لا يدركون إلا أنسابهم .وجعلت علة جَعْل الله إياه شعوباً وقبائل . وحكمتهُ من هذا الجَعل أن يتعارف الناس ، أي يعرِف بعضهم بعضاً .والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجاً إلى الأعلى ، فالعائلة الواحدة متعارفون ، والعشيرة متعارفون من عائلات إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة ، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون والبطون مع العمائِر ، والعمائِر مع القبائل ، والقبائل مع الشعوب لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها .فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاماً محكماً لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل ثم بينه وبين جماعات أكثر . وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم .والمقصود : أنكم حرَّفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل بِسبب تناكر وتطاحن وعدوان .ألا ترى إلى قول الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب :مهلاً بني عمنا مهلاً موالِينا ... لا تَنْبُشوا بيننا ما كان مدفوناًلا تطمَعوا أن تُهِينُونا ونكرمَكُم ... وأن نَكُف الأذى عنكم وتؤذوناوقول العُقيلي وحاربه بنو عمه فقَتل منهم :ونَبكي حين نقتلكم عليكم ... ونَقتلكم كأنَّا لا نباليوقول الشَّمَيْذَرِ الحارثي :وقد ساءنِي ما جرَّت الحربُ بيننا ... بني عَمّنا لو كان أمراً مُدانياوأقوالهم في هذا لا تحصر عدا ما دون ذلك من التفاخر والتطاول والسخرية واللمز والنبز وسوء الظن والغيبة مما سبق ذكره .وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام كما قال تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة .ولما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكونوا إخوة وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يَغِين على نُورها في نفوسهم من السخرية واللمز والتنابز والظن السوء والتَجسِس والغيبة ، ذكَّرهم بأصل الأخوة في الأنساب التي أكدتها أخوة الإسلام ووحدة الاعتقاد ليكون ذلك التذكير عوناً على تبصرهم في حالهم ، ولما كانت السخرية واللمز والتنابز مما يحمل عليه التنافس بين الأفراد والقبائل جمع الله ذلك كله في هذه الموعظة الحكيمة التي تدل على النداء عليهم بأنهم عَمدوا إلى هذا التشعيب الذي وضعتْه الحكمة الإلهية فاستعملوه في فاسد لوازمه وأهملوا صالح ما جعل له بقوله : { لتعارفوا } ثم وأتبعه بقوله : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } أي فإن تنافستم فتنافسوا في التقوى كما قال تعالى :{ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] .والخبر في قوله : { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني ليتوصل من ذلك إلى إرادة اكتساب الفضائل والمزايا التي ترفع بعض الناس على بعض كناية بمرتبتين . والمعنى المقصود من ذلك هو مضمون جملة { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فتلك الجملة تتنزل من جملة { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } منزلة المقصد من المقدمة والنتيجةِ من القياس ولذلك فصلت لأنها بمنزلة البيان .وأما جملة { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } فهي معترضة بين الجملتين الأخريين .والمقصود من اعتراضها : إدماج تأديب آخر من واجب بث التعارف والتواصل بين القبائل والأمم وأن ذلك مراد الله منهم .ومن معنى الآية ما خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إذ قال : " يا أيها الناس ألاَ إن ربكم واحد وأن أباكم واحد لا فضل لعَربي على عجمي ولا لِعجمي على عربي ولا لأسودَ على أحمرَ ولا لأحمرَ على أسود إلا بالتقوى "ومن نمط نظم الآية وتبيينها ما رواه الترمذي في تفسير هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله أذهب عنكم عبيّة الجاهلية وفخرها لا لآباء الناس مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب " وفي رواية «أن ذلك مما خطب به يوم فتح مكة ( عبية بضم العين المهملة وبكسرها وبتشديد الموحدة المكسورة ثم تشديد المثناة التحتية : الكبر والفخر . ووزنهما على لغة ضم الفاء فُعولة وعلى لغة كسر الفاء فعلية ، وهي إما مشتقة من التعبية فتضعيف الباء لمجرد الإلحاق مثل نضّ الثوب بمعنى نضى أو مشتقة من عباب الماء فالتضعيف في الباء أصلي ( .وفي رواية ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عمر «طاف رسول الله يوم فتح مكة ثم خطبهم في بطن المسيل فذكر الحديث وزاد فيه أن الله يقول : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } إلى { إن الله عليم خبير } .وجملة { إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وإنما أخّرت في النظم عن جملة إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة لأنهم لما تساوَوا في أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة كان الشأن أن لا يفضُل بعضهم بعضاً إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته ولذلك ناط التفاضل في الكرم ب { عند الله } إذ لا اعتداد بكرم لا يعبأ الله به .والمراد بالأكرم : الأنْفَس والأشَرف ، كما تقدم بيانه في قوله : { إني ألقي إلى كتاب كريم }في سورة [ النمل : 29 ] .والأتقى : الأفضل في التقوى وهو اسم تفضيل صيغ من اتَّقى على غير قياس .وجملة { إن الله عليم خبير } تعليل لمضمون { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } أي إنما كان أكرمكم أتقاكم لأن الله عليم بالكرامة الحق وأنتم جعلتم المكارم فيما دون ذلك من البطش وإفناء الأموال في غير وجه وغير ذلك الكرامة التي هي التقوى خبير بمقدار حظوظ الناس من التقوى فهي عنده حظوظ الكرامة فلذلك الأكرم هو الأتقى ، وهذا كقوله : { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } [ النجم : 32 ] أي هو أعلم بمراتبكم في التقوى ، أي التي هي التزكية الحق . ومن هذا الباب قوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] .علم أن قوله : { إن أكرمكم عند الله اتقاكم } لا ينافي أن تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مما شأنه أن يكون له أثر تزكية في النفوس مثل حسن التربية ونقاء النسب والعرافة في العلم والحضارة وحسن السمعة في الأمم وفي الفصائل ، وفي العائلات ، وكذلك بحسب ما خلده التاريخ الصادق للأمم والأفراد فما يترك آثاراً لأفرادها وخلالاً في سلائلها قال النبي صلى الله عليه وسلم « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا »فإن في خلق الأنباء آثاراً من طباع الآباء الأدنَيْن أو الأعَليْن تكون مهيئة نفوسهم للكمال أو ضده وأن للتهذيب والتربية آثاراً جمّة في تكميل النفوس أو تقصيرها وللعوائد والتقاليد آثارها في الرفعة والضعة وكل هذه وسائل لإعداد النفوس إلى الكمال والزكاء الحقيقي الذي تخططه التقوى .وجملة { إن الله عليم خبير } تذييل ، وهو كناية عن الأمر بتزكية نواياهم في معاملاتهم وما يريدون من التقوى بأن الله يعلم ما في نفوسهم ويحاسبهم عليه .

۞ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

📘 قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14(كان من بين الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع المسماة سنةَ الوفود ، وفْدُ بني أسدٍ بننِ خُزيمة وكانوا ينزلون بقرب المدينة ، وكان قدومهم المدينة عقب قدوم وفد بني تميم الذي ذُكر في أول السورة ، ووفَدَ بنُو أسد في عدد كثير وفيهم ضِرار بن الأزْوَر ، وطُلَيْحَة بن عبد الله ( الذي ادعى النبوءة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أيام الردة ( ، وكانت هذه السنة سنة جدب ببلادهم فأسلموا وكانوا يقولون للنبيء صلى الله عليه وسلم أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولمْ نقاتلك كما قاتلك محارب خَصَفَةَ وهوازنُ وغَطفانَ . يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروحون بهذه المقالة ويمنُّون عليه ويريدون أن يَصرف إليهم الصدقات ، فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى آخر السورة لوقوع القصتين قصة وفد بني تميم وقصة وفد بني أسد في أيام متقاربة ، والأغراض المسكوَّة بالجَفاء متناسبة . وقال السدّي : نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح ( 11 ( في قوله تعالى : { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا } الآية .قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فنزلت هذه الآية .والأعراب : سكان البادية من العَرب . وأحسب أنه لا يطلق على أهل البادية من غير العرب ، وهو اسم جمع لا مفرد له فيكون الواحد منه بياء النسبة أعرابي .وتعريف { الأعراب } تعريف العهد لإعراب معينين وهم بنو أسد فليس هذا الحكم الذي في الآية حاقاً على جميع سكان البوادي ولا قال هذا القول غير بني أسد .وهم قالوا آمنا حين كانوا في شك لم يتمكن الإيمان منهم فأنبأهم الله بما في قلوبهم وأعلمهم أن الإيمان هو التصديق بالقلب لا بمجرد اللسان لقصد أن يخلصوا إيمانهم ويتمكنوا منه كما بينه عقب هذه الآية بقوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } الآية .والاستدراك بحرف ( لكن ( لرفع ما يتوهم من قوله : { لم تؤمنوا } أنهم جاؤوا مضمرين الغدْر بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنما قال : { ولكن قولوا أسلمنا } تعليماً لهم بالفرق بين الإيمان والإسلام فإن الإسلام مَقرُّه اللسان والأعمالُ البدنية ، وهي قواعد الإسلام الأربعة : الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج الكعبة الوارد في حديث عمر عن سُؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتأتي الزكاة وتصوم رمضان وتحُجّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلا» فهؤلاء الأعراب لما جاءوا مظهرين الإسلام وكانت قلوبهم غير مطمئنة لعقائد الإيمان لأنهم حديثو عهد به كذبهم الله في قولهم { آمنَّا } ليعلموا أنهم لم يخف باطنهم على الله ، وأنه لا يتعدّ بالإسلام إلا إذا قارنه الإيمان ، فلا يغني أحدهما بدون الآخر ، فالإيمان بدون إسلام عناد ، والإسلام بدون إيمان نفاق ، ويجمعهما طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلموكان مقتضى ظاهر نظم الكلام أن يقال : قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم ، أو أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا ، ليتوافق المستدرك عنه والاستدراك بحسب النظم المتعارف في المجادلات ، فعدل عن الظاهر إلى هذا النظم لأن فيه صراحة بنفي الإيمان عنهم فلا يحسبوا أنهم غالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلمواستغني بقوله : { لم تؤمنوا } عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مُؤدّاه النهي عن الإعلان بالإيمان لأنهم مطالبون بأن يؤمنوا ويقولوا آمنا قولا صادقاً لا كاذباً فقيل لهم { لم تؤمنو } تكذيباً لهم مع عدم التصريح بلفظ التكذيب ولكن وقع التعريض لهم بذلك بعد في قوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } إلى قوله : { أولئك هم الصادقون } أي لا أنتم ولذلك جيء بالاستدراك محمولاً على المعنى .وعدل عن أن يقال : ولكن أسلمتم إلى { قولوا أسلمنا } تعريضاً بوجوب الصدق في القول ليطابق الواقع ، فهم يشعرون بأن كذبهم قد ظهر ، وذلك مما يُتعير به ، أي الشأن أن تقولوا قولاً صادقاً .وقوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } واقع موقع الحال من ضمير { لم تؤمنوا } وهو مبيّنٌ لمعنى نفي الإيمان عنهم في قوله : { لم تؤمنوا } بأنه ليس انتفاء وجود تصديق باللسان ولكن انتفاء رسوخه وعقد القلب عليه إذ كان فيهم بقية من ارتياب كما أشعر به مقابلته بقوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } .واستعير الدخول في قوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } للتمكن وعدم التزلزل لأن الداخل إلى المكان يتمكن ويَسْتقر والخارج عنه يكون سريع المفارقة له مستوفزاً للانصراف عنه .و ( لمّا ( هذه أخت ( لم ( وتدل على أن النفي بها متصل بزمان التكلم وذلك الفارق بينها وبين ( لم ( أختها . وهذه الدلالة على استمرار النفي إلى زمن التكلم تؤذن غالباً ، بأن النمفي بها متوقع الوقوع . قال في «الكشاف» «وما في ( لمّا ( من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد» .وهي دلالة من مستتبعات التراكيب . وهذا من دقائق العربية . وخالف فيه أبو حيان والزمخشري حجة في الذوق لا يدانيه أبو حيان ، ولهذا لم يكن قوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } تكريراً مع قوله : { لم يؤمنوا } .وقوله : { وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً } إرشاد إلى دواء مرض الحال في قلوبهم من ضعف الإيمان بأنه إن يطيعوا الله ورسوله حَصل إيمانهم فإن مما أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيان عقائد الإيمان بأن يقبلوا على التعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة إقامتهم بالمدينة عوضاً عن الاشتغال بالمَنّ والتعريض بطلب الصدقات .ومعنى { لا يلتكم } لا يُنقصكم ، يقال : لاته مثل باعه . وهذا في لغة أهل الحجاز وبني أسد ، ويقال : التَه ألَتاً مثل : أمره ، وهي لغة غطفان قال تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } في سورة الطور ( 21 ( .وقرأ بالأولى جمهور القراء وبالثانية أبو عمرو ويعقوب . ولأبي عمرو في تحقيق الهمزة فيها وتخفيفها ألفا روايتان فالدُّوري روى عنه تحقيق الهمزة والسوسي روى عنه تخفيفها .وضمير الرفع في { يلتكم } عائد إلى اسم الله ولم يقل : لا يَلِتَاكم بضمير التثنية لأنّ الله هو متولي الجزاء دون الرسول صلى الله عليه وسلموالمعنى : إن أخلصتم الإيمان كما أمركم الله ورسوله تقبَّل الله أعمالكم التي ذكرتم من أنكم جئتم طائعين للإسلام من غير قتال .وجملة { إن الله غفور رحيم } استئناف تعليم لهم بأن الله يتجاوز عن كذبهم إذا تابوا ، وترغيب في إخلاص الإيمان لأن الغفور كثير المغفرة شديدُها ، ومن فرط مغفرته أنه يجازي على الأعمال الصالحة الواقعة في حالة الكفر غيرَ معتدّ بها فإذا آمن عاملها جوزي عليها بمجرد إيمانه وذلك من فرط رحمته بعباده .وترتيب { رحيم } بعد { غفور } لأن الرحمة أصل للمغفرة وشأن العلة أن تورد بعد المعلل بها .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ

📘 إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15(هذا تعليل لقوله : { لم تؤمنوا } إلى قوله : { في قلوبكم } وهو من جملة ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للأعراب ، أي ليس المؤمنون إلا الذين آمنوا ولم يخالط إيمانهم ارتياب أو تشكك .و ( إنما ( للحصر ، و ( إنّ ( التي هي جُزء منها مفيدة أيضاً للتعليل وقائمة مقام فاء التفريع ، أي إنما لم تكونوا مؤمنين لأن الإيمان ينافيه الارتياب .والقصر إضافي ، أي المؤمنون الذين هذه صفاتهم غير هؤلاء الأعراب .فأفاد أن هؤلاء الأعراب انتفى عنهم الإيمان لأنهم انتفى عنهم مجموع هذه الصفات .وإذ قد كان القصر إضافياً لم يكن الغرض منه إلاّ إثبات الوصف لغير المقصور لإخراج المتحدث عنهم عن أن يكونوا مؤمنين ، وليس بمقتض أن حقيقة الإيمان لا تتقوم إلا بمجموع تلك الصفات لأن عد الجِهاد في سبيل الله مع صفتي الإيمان وانتفاء الريب فيه يمنع من ذَلك لأن الذي يقعُد عن الجهاد لا ينتفي عنه وصف الإيمان إذ لا يكفَّر المسلم بارتكاب الكبائر عند أهل الحق . وما عداه خطأ واضح ، وإلا لانتقضت جامعة الإسلام بأسرها إلا فئة قليلة في أوقات غير طويلة .والمقصود من إدماج ذكر الجهاد التنويه بفضل المؤمنين المجاهدين وتحريض الذين دخلوا في الإيمان على الاستعداد إلى الجهاد كما في قوله تعالى : { قل للمخلفين من الأعراب ستُدْعَون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يُسلمون } الآية [ الفتح : 16 ] .و ( ثم ( من قوله : { ثم لم يرتابوا } للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجمل . ففي ( ثم ( إشارة إلى أن انتفاء الارتياب في إيمانهم أهم رتبةً من الإيمان إذ به قوامُ الإيمان ، وهذا إيماء إلى بيان قوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] ، أي من أجل ما يخالجكم ارتياب في بعض ما آمنتم به مما اطلّع الله عليه .وقوله : { أولئك هم الصادقون } قصر ، وهو قصر إضافي أيضاً ، أي هم الصادقون لا أنتم في قولكم { آمناً } .

قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

📘 قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16(أعيد فعل { قل } ليدل على أن المقول لهم هذا هم الأعراب الذين أمر أن يقول لهم { لم تؤمنوا } إلى آخره ، فأعيد لَمَّا طال الفصل بين القولين بالجمل المتتابعة ، فهذا متصل بقوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } اتصالَ البيان بالمبين ، ولذلك لم تعطف جملة الاستفهام .وجملة { قل } معترضة بين الجملتين المبيِّنة والمبَّينة .قيل : إنهم لمَّا سمعوا قوله تعالى : { قل لم تؤمنوا } الآية جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحلَفوا أنهم مؤمنون فنزل قوله : «قل أتعلمون الله بدينكم ولم يرو بسند معروف وإنما ذكره البغوي تفسيراً ولو كان كذلك لوبَّخهم الله على الأيمان الكاذبة كما وبَّخ المنافقين في سورة براءة ( 42 ( بقوله { وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يُهلكون أنفسهم } الآية . ولم أر ذلك بسند مقبول ، فهذه الآية مما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم .والتعليم مبالغة في إيصال العلم إلى المعلَّم لأن صيغة التفعيل تقتضي قوة في حصول الفعل كالتفريق والتفسير ، يقال : أعْلَمَهُ وعلّمه كما يقال : أنباه ونَبَّأه . وهذا يفيد أنهم تكلفوا وتعسفوا في الاستدلال على خلوص إيمانهم ليقنعوا به الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أبلغهم أن الله نفى عنهم رسوخ الإيمان بمحاولة إقناعه تدل إلى محاولة إقناع الله بما يعلم خلافه .وباء { بدينكم } زائدة لتأكيد لصوق الفعل بمفعوله كقوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } وقول النابغة :لك الخيران وارتْ بك الأرض واحداً ... والاستفهام في { أتعلمون الله بدينكم } مستعمل في التوبيخ وقد أيد التوبيخ بجملة الحال في قوله : { والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } .وفي هذا تجهيل إذ حاولوا إخفاء باطنهم عن المطّلع على كل شيء .وجملة { والله بكل شيء عليم } تذييل لأن { كل شيء } أعم من { ما في السماوات وما في الأرض } فإن الله يعلم صفاته ويعلم الموجودات التي هي أعلى من السماوات كالعرش .

يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

📘 يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17(استئناف ابتدائي أريد به إبطال ما أظهره بنو أسد للنبيء صلى الله عليه وسلم من مزيتهم إذ أسلموا من دون إكراه بغزو .والمنّ : ذكر النعمة والإحسان ليراعيَه المحسَن إليه للذاكر ، وهو يكون صريحاً مثل قول سبرة بن عمرو الفقعسي :أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مُسلم ... وقد سال من ذل عليك قراقرويكون بالتعريض بأن يذكر المان من معاملته مع الممنون عليه ما هو نافعه مع قرينة تدلّ على أنه لم يرد مجرد الإخبار مثل قول الراعي مخاطباً عبد الملك بن مروان :فآزرت آل أبي خُبيب وافدا ... يوماً أريد لبيعتي تبديلاأبو خبيب : كنية عبد الله بن الزبير .وكانت مقالة بني أسد مشتملة على النوعين من المنّ لأنهم قالوا : ولم نقاتلك كما قاتلك محارب وغَطَفان وهوازن وقالوا : وجئناك بالأثقال والعيال .و { أن أسْلَمُوا } منصوب بنزع الخافض وهو باء التعدية ، يقال : منّ عليه بكذا ، وكذلك قوله : { لا تمنوا على إسلامكم } إلا أن الأول مطرد مع { أنْ } و ( أن ( والثاني سماعي وهو كثير .وهم قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم آمنَّا كما حكاه الله آنفاً ، وسماه هنا إسلاماً لقوله : { ولكن قولوا أسلمنا } [ الحجرات : 14 ] أي أن الذي مَنُّوا به عليك إسلام لا إيمان . وأثبت بحرف { بَل } أن ما مَنُّوا به إن كان إسلاماً حقاً موافقاً للإيمان فالمنّة لله لأنْ هداهم إليه فأسلموا عن طواعية . وسماه الآن إيماناً مجاراة لزعمهم لأن المقام مقام كون المنّة لله فمناسبة مُسَابَرَة زعمهم أنهم آمنوا ، أي لو فرض أنكم آمنتم كما تزعمون فإن إيمانكم نعمة أنعم الله بها عليكم . ولذلك ذيله بقوله : { إن كنتم صادقين } فنفى أولاً أن يكون ما يمنّون به حقاً ، ثم أفاد ثانياً أن يكون الفضل فيما ادعوه لهم لو كانوا صادقين بل هو فضل الله .وقد أضيف إسلام إلى ضميرهم لأنهم أتوا بما يسمى إسلاماً لقوله : { ولكن قولوا أسْلَمْنا } . وأُتي بالإيمان معرّفا بلام الجنس لأنه حقيقة في حدّ ذاته وأنهم ملابسوها .وجيء بالمضارع في { يمنون } مع أن منَّهم بذلك حصل فيما مضى لاستحضار حالة منّهم كيف يمنون بما لم يفعلوا مثل المضارع في قوله تعالى : { ويسخرون من الذين آمنوا } في سورة البقرة ( 212 ( . وجيء بالمضارع في قوله : بل اللَّه يمن عليكم } لأنه مَنّ مفروض لأن الممنون به لمّا يقع . وفيه من الإيذان بأنه سيمنّ عليهم بالإيمان ما في قوله : { ولمَّا يدخُل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] ، وهذا من التفنن البديع في الكلام ليضع السامع كل فنّ منه في قَراره ، ومثلهم من يتفطن لهذه الخصائص .وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة التقوية مثل : هو يعطي الجزيل ، كما مثَّل به عبد القاهر .

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

📘 إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18(ذُيِّل تقويمُهم على الحق بهذا التذييل ليعلموا أن الله لا يُكتم ، وأنه لا يُكذَب ، لأنه يعلم كُلَّ غائبة في السماء والأرض فإنهم كانوا في الجاهلية لا تخطر ببال كثير منهم أصول الصفات الإلهية . وربما علمها بعضهم مثل زهير في قوله :فلا تكتمُنّ الله ما في نفوسكم ... ليَخفى فَمَهْمَا يُكْتم الله يعلَمولعل ذلك من آثار تنصره .وتأكيد الخبر ب { إن } لأنهم بحال من ينكر أن الله يعلم الغيب فكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم أنه مرسل من الله فكان كذبهم عليه مثل الكذب على الله .وقد أفادت هذه الجملة تأكيد مضمون جملتي { والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، والله بكل شيء عليم } [ الحجرات : 16 ] ولكن هذه زادت بالتصريح بأنه يعلم الأمور الغائبة لئلا يتوهم متوهم أن العمومين في الجملتين قبلها عمومان عرفيان قياساً على عِلم البشر .وجملة { والله بصير بما تعملون } معطوف على جملة { إن الله يعلم غيب السماوات والأرض } عطف الأخص على الأعم لأنه لما ذكر أنه يعلم الغيب وكان شأن الغائب أن لا يُرى عطف عليه علمه بالمبصرات احتراساً من أن يتوهّموا أن الله يعلم خفايا النفوس وما يجول في الخواطر ولا يعلم المشاهدات نظير قول كَثير من الفلاسفة : إنّ الخالق يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات ، ولهذا أوثر هنا وصف { بصير } . وقرأ الجمهور { بما تعملون } بتاء الخطاب ، وقرأه ابن كثير بياء الغيبة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ

📘 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2(إعادة النداء ثانياً للاهتمام بهذا الغرض والإشعار بأنه غرض جدير بالتنبيه عليه بخصوصه حتى لا ينغمر في الغرض الأول فإن هذا من آداب سلوك المؤمنين في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ومقتضى التأدب بما هو آكد من المعاملات بدلالة الفحوى .وهذا أيضاً توطئة لقوله : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } [ الحجرات : 4 ] وإلقاءٌ لتربية ألقيت إليهم لمناسبة طرف من أطراف خبر وفد بني تميم .والرفع : مستعار لجهر الصوت جهراً متجاوزاً لِمعتاد الكلام ، شبه جهر الصوت بإعلاء الجسم في أنه أشدّ بلوغاً إلى الأسماع كما أن إعلاء الجسم أوضح له في الإبصار ، على طريقة الاستعارة المكنية ، أو شبه إلقاء الكلام بجهر قويّ بإلقائه من مكان مرتفع كالمئذنة على طريقة الاستعارة التبعية .و { فوق صوت النبي } ترشيح لاستعارة { لا ترفعوا } وهو فوْق مجازي أيضاً .وموقع قوله : { فوق صوت النبي } موقع الحال من { أصواتكم } ، أي متجاوزة صوت النبي صلى الله عليه وسلم أي متجاوزة المعتاد في جهر الأصوات فإن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بجهر معتاد . ولا مفهوم لهذا الظرف لأنه خارج مخرج الغالب ، إذ ليس المراد أنه إذا رفع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فارفعوا أصواتكم بمقدار رفعه .والمعنى : لا ترفعوا أصواتكم في مجلسه وبحضرته إذا كلم بعضُكم بعضاً كما وقع في سُورة سبب النزول . ولقد تحصل من هذا النهي معنى الأمر بتخفيض الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس المراد أن يكونوا سكوتا عنده .وفي «صحيح البخاري» : قال ابن الزبير فما كان عُمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه . ولم يذكر أي ابن الزبير ذلك عن أبيه يعني أبا بكر ولكن أخرج الحاكم وعبد بن حُميد عن أبي هريرة : أن أبا بكر قال بعد نزول هذه الآية ( والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلاّ كأخِي السِّرَار حتى ألقى الله ( .وفي «صحيح البخاري» قال ابن أبي مليكة «كاد الخَيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رفعا أصْوَاتَهما عند النبي صلى الله عليه وسلم .وهذا النهي مخصوص بغير المواضع التي يؤمر بالجهر فيها كالأذان وتكبير يوم العيد ، وبغير ما أذِن فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذناً خاصاً كقوله للعباس حين انهزم المسلمون يوم حنين «نَادِ يا أصحابَ السَّمُرة» وكان العباس جهير الصوت .وقوله : { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } نهي عن جهر آخر وهو الجهر بالصوت عند خطابهم الرسول صلى الله عليه وسلم لوجوب التغاير بين مقتضَى قوله : { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } ومقتضَى { ولا تجهروا له بالقول } .واللام في { له } لتعدية { تجهروا } لأن { تجهروا } في معنى : تقولوا ، فدلت اللام على أن هذا الجهر يتعلق بمخاطبته ، وزاده وضوحاً التشبيه في قوله : { كجهر بعضكم لبعض } .وفي هذا النهي ما يشمل صنيع الذين نادَوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فيكون تخلصاً من المقدمة إلى الغرض المقصود ، ويظهر حسن موقع قولِه بعده { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } [ الحجرات : 4 ] .و { أن تحبط أعمالكم } في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل وهذا تعليل للمنهي عنه لا للنهي ، أي أن الجهر له بالقول يفضي بكم إن لم تكفوا عنه أن تحبط أعمالكم ، فحبط الأعمال بذلك ما يحذر منه فجعله مدخولاً للام التعليل مصروف عن ظاهر . فالتقدير : خشية أن تحبط أعمالكم ، كذا يقدّر نحاة البصرة في هذا وأمثاله . والكوفيون يجعلونه بتقدير ( لا ( النافية فيكون التقدير : أنْ لا تحبَط أعمالكم فيكون تعليلاً للنهي على حسب الظاهر .والحَبْط : تمثيل لعدم الانتفاع بالأعمال الصالحة بسبب ما يطرأ عليها من الكفر مأخوذ من حَبِطَت الإبل إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها وتعتلّ وربما هلكت . وفي الحديث « وإن مما يُنبت الربيعُ لَمَا يقتل حَبطاً أو يُلمّ » وتقدم في سورة المائدة قوله تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقد حَبط عملُه } [ المائدة : 5 ] .وظاهر الآية التحذير من حبط جميع الأعمال لأن الجمع المضاف من صيغ العموم ولا يكون حبط جميع الأعمال إلا في حالة الكفر لأن الأعمال الإيمان فمعنى الآية : أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته أو يفضي به إلى الكفر . قال ابن عطية : أي يكون ذلك سبباً إلى الوحشة في نفوسكم فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فحَبط الأعمال . وأقول : لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعود النفس بالاسترسال فيه فلا تزال تزداد منه وينقص توفير الرسول صلى الله عليه وسلم من النفس وتتولى من سيّىء إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه وذلك كفر . وهذا معنى { وأنتم لا تشعرون } لأن المنتقل من سيّىء إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملّي من السوء بحكم التعوّد بالشيء قليلاً قليلاً حتى تغمره المعاصي وربّما كان آخرها الكفر حين تضْرَى النفس بالإقدام على ذلك . ويجوز أن يراد حبط بعض الأعمال على أنه عام مراد به الخصوص فيكون المعنى حصول حطيطة في أعمالهم بغلبة عظم ذنب جهرهم له بالقول ، وهذا مجمل لا يعلم مقدار الحبط إلا الله تعالى .ففي قوله : { وأنتم لا تشعرون } تنبيه إلى مزيد الحذر من هذه المهلكات حتى يصير ذلك دُربة حتى يصل إلى ما يحبط الأعمال ، وليس عدم الشعور كائناً في إتيان الفعل المنهي عنه لأنه لو كان كذلك لكان صاحبه غير مكلف لامتناع تكليف الغافل ونحوه .

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ

📘 إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3(عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى : { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } [ الحجرات : 2 ] كان أبو بكر لا يكلم رسولَ الله إلا كأخي السِّرار ، أي مصاحب السرِّ من الكلام ، فأنزل الله تعالى : { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللَّه } الآية . فهذه الجملة استئناف بياني لأن التحذير الذي في قوله : { أن تحبط أعمالكم } [ الحجرات : 2 ] الخ يثير في النفس أن يسأل سائل عن ضد حال الذي يرفع صوته .وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بمضمونه من الثناء عليهم وجزاء عملهم ، وتفيد الجملة تعليلَ النهيين بذكر الجزاء عن ضد المنهي عنهُما وأكد هذا الاهتمام باسم الإشارة في قوله : { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } مع ما في اسم الإشارة من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون بالخبر المذكور بعده لأجللِ ما ذكر من الوصف قبل اسم الإشارة .وإذ قد علمت آنفاً أن محصل معنى قوله : { لا ترفعوا أصواتكم } وقوله : { ولا تجهروا } [ الحجرات : 2 ] الأمر بخفض الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم يتضح لك وجهُ العدول عن نوط الثناء هنا بعدم رفع الصوت وعدم الجهر عند الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نوطه بغض الصوت عنده .والغض حقيقته : خفض العين ، أي أن لا يُحدق بها إلى الشخص وهو هنا مستعار لِخفض الصوت والميللِ به إلى الإسرار .والامتحان : الاختبار والتجربة ، وهو افتعال من مَحَنه ، إذا اختبره ، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة كقولهم : اضطره إلى كذا .واللام في قوله : للتقوى لام العلة ، والتقدير : امتحن قلوبهم لأجل التقوى ، أي لتكون فيها التقوى ، أي ليكونوا أتقياء ، يقال : امتحَن فلان للشيء الفلاني كما يقال : جرب للشيء ودُرب للنهوض بالأمر ، أي فهو مضطلع به ليس بِواننٍ عنه فيجوز أن يجعل الامتحان كناية على تمكّن التقوى من قلوبهم وثباتهم عليها بحيث لا يوجدون في حال مَّا غيرَ متقين وهي كناية تلويحية لكون الانتقال بعدة لوازم ، ويجوز أن يجعل فعل { امتحن } مجازاً مرسلاً عن العلم ، أي علم الله أنهم متقون ، وعليه فتكون اللام من قوله : { للتقوى } متعلّقة بمحذوف هو حال من قلوب ، أي كائنة للتقوى ، فاللام للاختصاص .وجملة { لهم مغفرة } خبر { إنّ } وهو المقصود من هذه من الجملة المستأنفة وما بينهما اعتراض للتنويه بشأنه . وجعل في «الكشاف» خبر { إنَّ } هو اسم الإشارة مع خبره وجعل جملة { لهم } مستأنفة ولكل وجه فانظره .وقال : «وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسماً ل { إنّ } المؤكّدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً . والمبتدأ اسم الإشارة ، واستئناف الجملة المستودَعة ما هو جزاؤهم على عملهم ، وإيراد الجزاء نكرة مبهماً أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعَل الذين وقَّروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإعلام بمبلغ عزة رسول الله وقدر شرف منزلته» اه . وهذا الوعد والثناء يشملان ابتداءً أبا بكر وعمر إذ كان كلاهما يكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كأخي السِّرار .

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ

📘 إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4(.هذه الجملة بيان لجملة { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } [ الحجرات : 2 ] بياناً بالمثال وهو سبب النزول . فهذا شروع في الغرض والذي نشأ عنه ما أوجب نزول صدر السورة فافتتح به لأن التحذير والوعد اللذين جعلا لأجله صالحان لأن يكونا مقدمة للمقصود فحصل بذلك نسج بديع وإيجاز جليل وإن خالف ترتيب ذكره ترتيبَ حصوله في الخارج ، وقد صادف هذا الترتيب المحز أيضاً إذ كان نداؤهم من وراء الحجرات من قبيل الجهر للرسول صلى الله عليه وسلم بالقول كجهر بعضهم لبعض فكان النهي عن الجهر له بالقول تخلصاً لذكر ندائه من وراء الحجرات .والمراد بالذين ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات جماعة من وفد بني تميم جاؤوا المدينة في سنة تسع وهي سنة الوفود وكانوا سبعين رجلاً أو أكثر . وكان سبب وفود هذا الوفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن بني العنبر منهم كانوا قد شهروا السلاح على خزاعة ، وقيل كانوا منعوا إخوانهم بني كعب بن العنبر بن عمرو بن تميم من إعطاء الزكاة ، وكان بنو كعب قد أسلموامن قبلُ ولم أقف على وقت إسلامهم ، والظاهر أنهم أسلموا في سنة الوفود فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر بن سفيان ساعياً لقبض صدقات بني كعب ، فمنعهم بنو العنبر فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عُيينة بنَ حصن في خمسين من العرب ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري فأسر منهم أحد عشر رجلاً وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبياً . فجاء في أثرهم جماعة من رؤسائهم لفدائهم فجاؤوا المدينة . وكان خطيبهم عطارد بن حاجب بن زراره ، وفيهم سادتهم الزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم ، والأقْرع بن حابس ، ومعهم عيينة بن حصن الفزاري الغَطفاني وكان هذان الأخيران أسلما من قبل وشهدا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح ، ثم جاء معهم الوفد فلما دخل الوفد المسجد وكان وقت القائلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم في حجرته ، نَادوا جميعاً وراء الحجرات : يا محمد اخرُج إلينا ثلاثاً ، فإن مَدحَنا زَين ، وإن ذمنا شَيْن ، نحن أكرم العرب سلكوا في عملهم هذا مسلك وفود العرب على الملوك والسادة ، كانوا يأتون بيت الملك أو السيد فيطيفون به يُنادون ليؤذن لهم كما ورد في قصة ورود النابغة على النعمان بن الحارث الغسَاني .وقولهم : إن مدحنا زيْن ، طريقة كانوا يستدرون بها العظماء للعطاء فإضافة : مدحنا وذمنا إلى الضمير من إضافة المصدر إلى فاعله . فلما خرج إليهم رسول الله قالوا : جئناك نفاخرك فَاذَنْ لشاعرنا وخطِيبنا إلى آخر القصة . وقولهم : نفاخرك ، جروا فيه على عادة الوفود من العرب أن يذكروا مفاخرهم وأيامهم ، ويذكرَ الموفُودُ عليهم مفاخرَهم ، وذلك معنى صيغة المفاعلة في قولهم : نفاخرك ، وكان جمهورهم لم يزالوا كفاراً حينئذٍ وإنما أسلموا بعد أن تفاخروا وتناشدوا الأشعار .فالمراد ب { الذين ينادونك } رجال هذا الوفد . وإسناد فعل النداء إلى ضمير { الذين } لأن جميعهم نادوه ، كما قال ابن عطية . ووقع في حديث البراء بن عازب أن الذي نادى النداء هو الأقرع بن حابس ، وعليه فإسناد فعل { ينادونك } إلى ضمير الجماعة مجاز عقلي عن نسبة فعل المتبوع إلى أتباعه إذ كان الأقرع بن حابس مقدَّم الوفد ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً . وإنما قتله واحد منهم ، قال تعالى : { وإذ قتلتم نفساً } [ البقرة : 72 ] .ونفي العقل عنهم مراد به عقل التأدب الواجب في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أو عقل التأدب المفعول عنه في عادتهم التي اعتادوها في الجاهلية من الجفاء والغلظة والعنجهية ، وليس فيها تحريم ولا ترتب ذنب . وإنما قال الله تعالى : { أكثرهم لا يعقلون } لأن منهم من لم يناد النبي صلى الله عليه وسلم مثلَ ندائهم ، ولعل المقصود استثناء اللذيْن كانا أسلما من قبل . فهذه الآية تأديب لهم وإخراج لهم من مذام أهل الجاهلية .والوراء : الخلف ، وهو جهة اعتبارية بحسب موقع ما يضاف إليه .والمعنى : أن الحجرات حاجزة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فهم لا يرونه فعبر عن جهة من لا يرى بأنها وراء .و { من } للابتداء ، أي ينادونك نداء صادراً من وراء الحجرات فالمنادون بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانوا وراء حجراته فالذي يقول : ناداني فلان وراء الدار ، لا يريد وراء مفتح الدار ولا وراء ظهرها ولكن أيَّ جهة منها وكان القوم المنادون في المسجد فهم تجاه الحجرات النبوية ، ولو قال : ناداني فلان وراء الدار ، دون حرف { مِن } ، لكان محتمِلاً لأن يكون المنادي والمنادَى كلاهما في جهة وراء الدار ، وأنَّ المجرور ظرف مستقر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ولهذا أوثر جلب { مِن } ليدل بالصراحة على أن المنادَى كان داخل الحجرات لأن دلالة { مِن } على الابتداء تستلزم اختلافاً بين المبدإ والمنتهَى كذا أشار في «الكشاف» ، ولا شك أنه يعني أن اجتلاب حرف { مِن } لدفع اللبس فلا ينافي أنه لم يُثبت هذا الفرق في قوله تعالى : { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم } في سورة الأعراف ( 17 ( وقوله : { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض } في سورة الروم ( 25 ( . وفيما ذكرنا ما يدفع الاعتراضات على صاحب الكشاف } .فلفظ { وراء } هنا مجاز في الجهة المحجوبة عن الرؤية .والحُجُرات ، بضمتين ويجوز فتح الجيم : جمع حُجْرة بضم الحاء وسكون الجيم وهي البقعة المحجورة ، أي التي منعت من أن يستعملها غير حاجرها فهي فُعلة بمعنى مفعولة كغُرفة ، وقُبضة . وفي الحديث : أيقظوا صواحب الحجر يعني أزواجه ، وكانت الحجرات تفتح إلى المسجد .وقرأ الجمهور { الحجرات } بضمتين . وقرأه أبو جعفر بضم الحاء وفتح الجيم .وكانت الحجرات تِسعاً وهي من جريد النخل ، أي الحواجز التي بين كل واحدة والأخرى ، وعلى أبوابها مُسوح من شعر أسود وعَرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحو سبعة أذرع ، ومساحة البيت الداخل ، أي الذي في داخل الحجرة عشرة أذرع ، أي فتصير مساحة الحجرة مع البيت سبعة عشر ذراعاً . قال الحسن البصري : كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سُقْفها بيدي . وإنما ذكر الحجرات دون البيوت لأن البيت كان بيتاً واحداً مقسماً إلى حجرات تسع .وتعريف { الحجرات } باللام تعريف العهد ، لأن قوله : { ينادونك } مؤذن بأن الحجرات حجراته فلذلك لم تعرف بالإضافة . وهذا النداء وقع قبل نزول الآية فالتعبير بصيغة المضارع في { ينادونك } لاستحضار حالة ندائهم .

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

📘 وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5(ومعنى قوله : { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم } أنه يكسبهم وقارا بين أهل المدينة ويستدعي لهم الإقبال من الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يخرج إليهم غير كاره لندائهم إياه ، ورفع أصواتهم في مسجده فكان فيما فعلوه جلافة .فقوله : { خيراً } يجوز أن يكون اسم تفضيل ، ويكون في المعنى : لكان صبرهم أفضل من العجلة . ويجوز أن يكون اسما ضدّ الشر ، أي لكان صبرهم خيراً لما فيه من محاسن الخُلق بخلاف ما فعلوه فليس فيه خير ، وعلى الوجهين فالآية تأديب لهم وتعليمهم محاسن الأخلاق وإزالة لعوائد الجاهلية الذميمة .وإيثار { حتى } في قوله : { حتى تخرج إليهم } دون ( إلى ( لأجل الإيجاز بحذف حرف ( أن ( فإنه ملتزم حذفه بعد { حتّى } بخلافه بعد ( إلى ( فلا يجوز حذفه .وفي تعقيب هذا اللوم بقوله : { واللَّه غفور رحيم } إشارة إلى أنه تعالى لم يُحْص عليهم ذنباً فيما فعلوا ولا عَرّض لهم بتوبة . والمعنى : والله شأنه التجاوز عن مثل ذلك رحمة بالناس لأن القوم كانوا جاهلين .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ

📘 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6(هذا نداء ثالث ابتدىء به غرض آخر وهو آداب جماعات المؤمنين بعضهم مع بعض وقد تضافرت الروايات عند المفسرين عن أم سلمة وابن عباس والحارث بن ضرارة الخزاعي أن هذه الآية نزلت عن سبب قضية حدثت . ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الويد بن عقبة بن أبي مُعيط إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتي بصدقاتهم فلمّا بلغهم مجيئه ، أو لمّا استبطأُوا مجيئه ، فإنهم خرجوا لتلقيه أو خرجوا ليبلغوا صدقاتهم بأنفسهم وعَليهم السلاح ، وأن الوليد بلغه أنهم خرجوا إليه بتلك الحالة وهي حالة غير مألوفة في تلقي المصدقين وحدثته نفسه أنهم يريدون قتله ، أو لما رآهم مقبلين كذلك على اختلاف الروايات خاف أن يكونوا أرادوا قتله إذ كانت بينه وبينهم شحناء من زمن الجاهلية فولّى راجعاً إلى المدينة .هذا ما جاء في روايات أربع متفقة في صفة خروجهم إليه مع اختلافها في بيان الباعث لهم على ذلك الخروج وفي أن الوليد أُعلم بخروجهم إليه أو رآهم أو استشعرت نفسه خوفاً وأن الوليد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن بني المصطلق أرادوا قتلي وأنهم منعوا الزكاة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يبعث إليهم خالدَ بن الوليد لينظر في أمرهم ، وفي رواية أنه بعث خالداً وأمره بأن لا يغزوهم حتى يستثبت أمرهم وأن خالداً لما بلغ ديار القوم بعث عيناً له ينظر حالهم فأخبره أنهم يقيمون الأذان والصلاة فأخبرهم بما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقبض زكاتهم وقفل راجعاً . وفي رواية أخرى أنهم ظنوا من رجوع الوليد أن يُظن بهم منع الصدقات فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج خالد إليهم متبرئين من منع الزكاة ونية الفتك بالوليد بن عقبة . وفي رواية أنهم لما وصلوا إلى المدينة وجدوا الجيش خارجاً إلى غزوهم . فهذا تلخيص هذه الروايات وهي بأسانيد ليس منها شيء في «الصحيح» .وقد روي أن سبب نزول هذه الآية قضيتان أخريان ، وهذا أشهر . ولنشتغل الآن ببيان وجه المناسبة لموقع هذه الآية عقب التي قبلها فإن الانتقال منها إلى هذه يقتضي مناسبة بينهما ، فالقصتان متشابهتان إذ كان وفد بني تميم النازلةُ فيهم الآية السابقة جاؤوا معتذرين عن ردهم ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبض صدقات بني كعب بن العنبر من تميم كما تقدم ، وبنو المصطلق تبرُّؤوا من أنهم يمنعون الزكاة إلا أن هذا يُناكِده بُعد ما بين الوقتين إلا أن يكون في تعيين سنة وفد بني تميم وَهَم .وإعادة الخطاب ب { يا أيها الذين آمنوا } وفصله بدون عاطف لتخصيص هذا الغرض بالاهتمام كما علمت في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } .فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً للمناسبة المتقدم ذكرها .ولا تعلق لهذه الآية بتشريع في قضية بني المصطلق مع الوليد بن عقبة لأنها قضية انقضت وسُويت .والفاسق : المتصف بالفسوق ، وهو فعل ما يحرمه الشرع من الكبائر . وفسر هنا بالكاذب قاله ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله .وأوثر في الشرط حرف { إن } الذي الأصل فيه أن يكون للشرط المشكوك في وقوعه للتنبيه على أن شأن فعل الشرط أن يكون نادر الوقوع لا يقدم عليه المسلمون . واعلم أن ليس الآية ما يقتضي وصف الوليد بالفاسق تصريحاً ولا تلويحاً .وقد اتفق المفسرون على أن الوليد ظنّ ذلك كما في «الإصابة» عن ابن عبد البر وليس في الروايات ما يقتضي أنه تعمد الكذب . قال الفخر : «إن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد لأنه توهَّم وظن فأخطأ ، والمخطىء لا يسمى فاسقاً» . قلت : ولو كان الوليد فاسقاً لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تعنيفه واستتابته فإنه روى أنه لم يزد على قوله له «التبيّن من الله والعجلة من الشيطان» ، إذ كان تعجيل الوليد الرجوع عجلة . وقد كان خروج القوم للتعرض إلى الوليد بتلك الهيئة مثار ظنِّه حقاً إذ لم يكن المعروف خروج القبائل لتلقّي السعاة . وأنا أحسب أن عملهم كان حيلة من كبرائهم على انصراف الوليد عن الدخول في حيّهم تعيُّراً منهم في نظر عامتهم من أن يدخل عدوّ لهم إلى ديارهم ويتولى قبض صدقاتهم فتُعيرهم أعداؤهم بذلك يمتعض منهم دهماؤهم ولذلك ذهبوا بصدقاتهم بأنفسهم في رواية أو جاؤوا معتذرين قبل مجيء خالد بن الوليد إليهم في رواية أخرى .ويؤيد هذا ما جاء في بعض روايات هذا الخبر أن الوليد أعلم بخروج القوم إليه ، وسَمع بذلك فلعل ذلك الإعلام موعَز به إليه ليخاف فيرجع . وقد اتفق من ترجموا للوليد بن عقبة على أنه كان شجاعاً جواداً وكان ذا خلق ومروءة . واعلم أن جمهور أهل السنة على اعتبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عدولاً وإن كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به فهو من أصحابه . وزاد بعضهم شرط أن يروي عنه أو يلازمه ومال إليه المازري . قال في «أماليه» في أصول الفقه «ولسنا نعني بأصْحَاب النبي كل من رآه أو زاره لماماً إنما نريد أصحابه الذين لازموه وعززوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وأولئك هم المفلحون شهد الله لهم بالفلاح» اه . وإنما تلقف هذه الأخبار الناقمون على عثمان إذ كان من عداد مناقمهم الباطلة أنه أولى الوليد بن عقبة إمارة الكوفة فحملوا الآية على غير وجهها وألصقوا بالوليد وصف الفاسق ، وحاشاه منه لتكون ولايته الإمارة باطلاً .وعلى تسليم أن تكون الآية إشارة إلى فاسق معين فلماذا لا يحمل على إرادة الذي أعلم الوليدَ بأن القوم خرجوا له ليصدّوه عن الوصول إلى ديارهم قصداً لإرجاعه .وفي بعض الروايات أن خالداً وصل إلى ديار بني المصطلق . وفي بعضها أن بني المصطلق وردوا المدينة معتذرين ، واتفقت الروايات على أن بين بني المصطلق وبين الوليد بن عقبة شَحناء من عهد الجاهلية . وفي الرواية أنهم اعتذروا للتسلح بقصد إكرام ضيفهم . وفي السيرة الحلبية أنهم قالوا : خشِينا أن يبادئنا بالذي كان بيننا من شحناء . وهذه الآية أصل في الشهادة والرواية من وجوب البحث عن دخيلة من جُهل حال تقواه . وقد قال عمر بن الخطاب لا يُؤسر أحد في الإسلام بغير العدول ، وهي أيضاً أصل عظيم في تصرفات ولاة الأمور وفي تعامل الناس بعضهم مع بعض من عدم الإصغاء إلى كل ما يروى ويخبر به .والخطاب ب { يا أيها الذين آمنوا } مراد به النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ويشمل الوليد بن عقبة إذ صدق من أخبره بأن بني المصطلق يريد له سوءاً ومن يأتي من حكام المؤمنين وأمرائهم لأن المقصود منه تشريع تعديل من لا يعرف بالصدق والعدالة . ومجيء حرف { إن } في هذا الشرط يومىء إلى أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادراً .والتبين : قوة الإبانة وهو متعد إلى مفعول بمعنى أبان ، أي تأملوا وأبينوا . والمفعول محذوف دل عليه قوله بنبإ أي تبينوا ما جاء به وإبانة كل شيء بحسبها . والأمر بالتبيّن أصل عظيم في وجوب التثبت في القضاء وأن لا يتتبع الحاكم القيل والقال ولا ينصاع إلى الجولان في الخواطر من الظنون والأوهام .ومعنى { فتبينوا } تبينوا الحق ، أي من غير جهة ذلك الفاسق . فخبر الفاسق يكون داعياً إلى التتبع والتثبت يصلح لأن يكون مستنداً للحكم بحال من الأحوال وقد قال عمر بن الخطاب «لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول» .وإنما كان الفاسق معرَّضاً خبره للريبة والاختلاق لأن الفاسق ضعيف الوازع الديني في نفسه ، وضعف الوازع يجرئه على الاستخفاف بالمحظور وبما يخبر به في شهادة أو خَبَر يترتب عليهما إضرار بالغير أو بالصالح العام ويقوي جُرأته على ذلك دوماً إذا لم يتب ويندم على ما صدر منه ويقلع عن مثله .والإشراك أشد في ذلك الاجتراء لقلة مراعاة الوازع في أصول الإشراك . وتنكير { فاسق } ، و { نَبإ } ، في سياق الشرط يفيد العموم في الفساق بأي فسق اتصفوا ، وفي الأنباء كيف كانت ، كأنه قيل : أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبَإ فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشافه .وقرأ الجمهور { فتبينوا } بفوقية فموحدة فتحتية فنون من التبيّن ، وقرأ حمزة والكسائي وخلَف فتثبتوا بفوقية فمُثلثَة فموحدة ففوقية من التثبت . والتبيّن : تطلب البيان وهو ظهور الأمر ، والتثبت التحري وتطلب الثبات وهو الصدق .ومآل القراءتين واحد وإن اختلف معناهما . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « التثبّتُ من الله والعجلة من الشيطان »وموقع { أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا } الخ نصباً على نزع الخافض وهو لام التعليل محذوفة . ويجوز كونه منصوباً على المفعول لأجله .والمعلل باللام المحذوفة أو المقدرة هو التثبت ، فمعنى تعليله بإصابة يقع إثرها الندم هو التثبت . فمعنى تعليله بإصابة يقع آخرها الندم أن الإصابة علة تحمل على التثبت للتفادي منها فلذلك كان معنى الكلام على انتفاء حصول هذه الإضافة لأن العلة إذا صلحت لإثبات الكف عن فعل تصلح للإتيان بضده لتلازم الضد . وتقدم نظير هذا التعليل في قوله : { أن تحبط أعمالكم } [ الحجرات : 2 ] في هذه السورة .وهذا التحذير من جراء قبول خبر الكاذب يدل على تحذير من يخطر له اختلاق خبر مما يترتب على خبره الكاذب من إصَابة الناس . وهذا بدلالة فحوى الخطاب .والجهالة : تطلق بمعنى ضد العلم ، وتطلق بمعنى ضد الحِلم مثل قولهم : جَهْل كجهل السيف ، فإن كان الأول ، فالباء للملابسة وهو ظرف مستقر في موضع الحال ، أي متلبسين أنتم بعدم العلم بالواقع لتصديقكم الكاذب ، ومتعلق { تصيبوا } على هذا الوجه مَحذوف دل عليه السياق سابقاً ولاحقاً ، أي أن تصيبوهم بضرّ ، وأكثر إطلاق الإصابة على إيصال الضرّ وعلى الإطلاق الثاني الباء للتعدية ، أي أن تصيبوا قوماً بفعل من أثر الجهالة ، أي بفعل من الشدة والإضرار .ومعنى { فتصبحوا } فتصيروا لأن بعض أخوات ( كان ( تستعمل بمعنى الصيرورة . والندم : الأسف على فعل صدر . والمراد به هنا الندم الديني ، أي الندم على التورط في الذنب للتساهل وترك تطلب وجوه الحق .وهذا الخطاب الذي اشتمل عليه قوله : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } موجه ابتداء للمؤمنين المخبَرين بفتح الباء كل بحسب أثره بما يبلغ إليه من الأخبار على اختلاف أغراض المخبِرين بكسر الباء . ولكنّ هذا الخطاب لا يترك المخبِرين بكسر الباء بمعزل عن المطالبة بهذا التبيّن فيما يتحملونه من الأخبار وبتوخّي سوء العاقبة فيما يختلقونه من المختلقات ولكن هذا تبيّن وتثبت يخالف تبيُّن الآخر وتثبته ، فهذا تثبت من المتلقي بالتمحيص لما يتلقاه من حكاية أو يطرق سمعه من كلام والآخر تمحيص وتمييز لحال المخبر . واعلم أن هذه الآية تتخرج منها أربع مسائل من الفقه وأصوله :المسألة الأولى : وجوب البحث عن عدالة من كان مجهول الحال في قبول الشهادة أو الرواية عند القاضي وعند الرواة . وهذا صريح الآية وقد أشرنا إليه آنفاً .المسألة الثانية : أنها دالة على قبول خبر الواحد الذي انتفت عنه تهمة الكذب في شهادته أو روايته وهو الموسوم بالعدالة ، وهذا من مدلول مفهوم الشرط في قوله : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } وهي مسألة أصولية في العمل بخبر الواحد .المسألة الثالثة : قيل إن الآية تدل على أن الأصل في المجهول عدم العدالة ، أي عدم ظن عدالته فيجب الكشف عن مجهول الحال فلا يعمل بشهادته ولا بروايته حتى يبحث عنه وتثبت عدالته .وهذا قول جمهور الفقهاء والمحدثين وهو قول مالك . وقال بعضهم : الأصل في الناس العدالة وينسب إلى أبي حنيفة فيقبل عنده مجهول الباطن ويعبر عنه بمستور الحال . أما المجهول باطنُه وظاهره معاً فحكي الاتفاق على عدم قبول خبره ، وكأنهم نظروا إلى معنى كلمة الأصل العقلي دون الشرعي ، وقد قيل : إن عمر بن الخطاب كان قال : «المسلمون عدول بعضهم عن بعض» وأنه لما بلغه ظهور شهادة الزور رَجع فقال : «لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول» . ويستثنى من هذا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأصل أنهم عدول حتى يثبت خلاف ذلك بوجه لا خلاف فيه في الدين ولا يختلف فيه اجتهاد المجتهدين . وإنما تفيد الآية هذا الأصل إذا حُمل معنى الفاسق على ما يشمل المتهم بالفسق .المسألة الرابعة : دل قوله : { فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } أنه تحذير من الوقوع فيما يوجب الندم شرعاً ، أي ما يوجب التوبة من تلك الإصابة ، فكان هذا كناية عن الإثم في تلك الإصابة فحُذر ولاة الأمور من أن يصيبوا أحداً بضر أو عقاب أو حد أو غرم دون تبيّن وتحقق توجه ما يوجب تسليط تلك الإصابة عليه بوجه يوجب اليقين أو غلبة الظن وما دون ذلك فهو تقصير يؤاخذ عليه ، وله مراتب بينها العلماء في حكم خطها القاضي وصِفةِ المخطىء وما ينقض من أحكامه . وتقديم المجرور على متعلَّقه في قوله : { على ما فعلتم نادمين } للاهتمام بذلك الفعل ، وهو الإصابة بدون تثبت والتنبيه على خطر أمره .

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ

📘 وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7({ نادمين * واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الامر لَعَنِتُّمْ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمان } .عطف على جملة { إن جاءكم فاسق بنبأ } [ الحجرات : 6 ] عطفَ تشريع على تشريع وليس مضمونها تكملة لمضمون جملة { إن جاءكم فاسق } الخ بل هي جملة مستقلة .وابتداء الجملة ب { اعلموا } للاهتمام ، وقد تقدم في قوله تعالى : { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } في سورة البقرة ( 235 ( . وقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } في الأنفال ( 41 ( .وقوله : أن فيكم رسول اللَّه } إن خبر مستعمل في الإيقاظ والتحذير على وجه الكِنَاية . فإن كون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم أمر معلوم لا يخبر عنه . فالمقصود تعليم المسلمين باتباع ما شرع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحكام ولو كانت غير موافقة لرغباتهم .وجملة { لو يطيعكم في كثير من الأمر } الخ يجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً . فضميرا الجمع في قوله : { يطيعكم } وقوله : { لعنتم } عائدان إلى الذين آمنوا على توزيع الفعل على الأفراد فالمطاع بَعض الذين آمنوا وهم الذين يبتغون أن يعمَل الرسولُ صلى الله عليه وسلم بما يطلبون منه ، والعانِت بعض آخر وهم جمهور المؤمنين الذين يجري عليهم قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بحسب رغبة غيرهم . ويجوز أن تكون جملة { لو يطيعكم } الخ في موضع الحال من ضمير { فيكم } لأن مضمون الجملة يتعلق بأحوال المخاطبين ، من جهة أن مضمون جواب { لو } عَنَتٌ يحصل للمخاطبين . ومآل الاعتبارين في موقع الجملة واحد وانتظام الكلام على كلا التقديرين غير منثلم .والطاعة : عملُ أحد يُؤمَر به وما يُنهى عنه وما يشار به عليه ، أي لو أطاعكم فيما ترغبون . و { الأمر } هنا بمعنى الحادث والقضية النازلة .والتعريف في الأمر تعريف الجنس شامل لجميع الأمور ولذلك جيء معه بلفظ { كثير من } أي في أحداث كثيرة مما لكم رغبة في تحصيل شيء منها فيه مخالفة لما شرعه .وهذا احتراز عن طاعته إياهم في بعض الأمر مما هو غير شؤون التشريع كما أطاعهم في نزول الجيش يوم بدر على جهة يستأثِرون فيها بماء بدر .والعنت : اختلال الأمر في الحاضر أو في العاقبة .وصيغة المضارع في قوله : { لو يطيعكم } مستعملة في الماضي لأن حرف { لو } يفيد تعليق الشرط في الماضي ، وإنما عدل إلى صيغة المضارع لأن المضارع صالح للدلالة على الاستمرار ، أي لو أطاعكم في قضية معينة ولو أطاعكم كلما رغبتم منه أو أشرتم عليه لعنتُّم لأن بعض ما يطلبونه مضر بالغير أو بالراغب نفسه فإنه قد يحب عاجِل النفع العائدَ عليه بالضر .وتقديم خبر ( أنَّ ( على اسمها في قوله : { أن فيكم رسولَ الله } للاهتمام بهذا الكون فيهم وتنبيهاً على أن واجبهم الاغتباط به والإخلاص له لأن كونه فيهم شرف عظيم لجماعتهم وصلاح لهم .والعَنت : المشقة ، أي لأصاب الساعين في أن يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بما يرغبون العنتُ . وهو الإثم إذا استغفلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولأصاب غيرهم العنت بمعنى المشقة وهي ما يلحقهم من جريان أمر النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلائم الواقع فيضر ببقية الناس وقد يعود بالضر على الكاذب المتشفي برغبته تارة فيلحق عنت من كذب غيره تارة أخرى .{ لَعَنِتُّمْ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمان وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان أولئك هُمُ } { الراشدون * فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .الاستدراك المستفاد من { لكنَّ } ناشىء عن قوله : { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } لأنه اقتضى أن لبعضهم رغبة في أن يطيعهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرغبون أن يفعله مما يبتغون مما يخالونه صالحاً بهم في أشياء كثيرة تعرِض لهم . والمعنى : ولكن الله لا يأمرُ رسوله إلا بما فيه صلاح العاقبة وإن لم يصادف رغباتكم العاجلة وذلك فيما شرعه الله من الأحكام ، فالإيمان هنا مراد منه أحكام الإسلام وليس مراداً منه الاعتقاد ، فإن اسم الإيمان واسم الإسلام يتواردان ، أي حبب إليكم الإيمان الذي هو الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا تحريض على التسليم لما يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في معنى قوله تعالى : { حتى يُحَكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } [ النساء : 65 ] ، ولذا فكونه حبّب إليهم الإيمان إدماج وإيجاز . والتقدير : ولكن الله شرع لكم الإسلام وحببه إليكم أي دعاكم إلى حبه والرضى به فامتثلتم .وفي قوله : { وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } تعريض بأن الذين لا يطيعون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم بقية من الكفر والفسوق ، قال تعالى : { وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون إلى قوله : { هم الظالمون } [ النور : 48 50 ] . والمقصود من هذا أن يتركوا ما ليس من أحكام الإيمان فهو من قبيل قوله { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [ الحجرات : 11 ] تحذيراً لهم من الحياد عن مَهْيَععِ الإيمان وتجنيباً لهم ما هو من شأن أهل الكفر .فالخبر في قوله : { حبب إليكم الإيمان } إلى قوله : { والعصيان } مستعمل في الإلهاب وتحريك الهِمم لمراعاة محبة الإيمان وكراهة الكفر والفسوق والعصيان ، أي إن كنتم أحببتم الإيمان وكرهتم الكفر والفسوق والعصين فلا ترغبوا في حصول ما ترغبونه إذا كان الدين يصد عنه وكان الفسوق والعصيان يدعو إليه . [ وفي هذا إشارة إلى أن الاندفاع إلى تحصيل المرغوب من الهوى دون تمييز بين ما يرضي الله وما لا يرضيه أثر من آثار الجاهلية مِن آثار الكفر والفسوق والعصيان .وذكر اسم الله في صدر جملة الاستدراك دون ضمير المتكلم لما يشعر به اسم الجلالة من المهابة والروعة . وما يقتضيه من واجب اقتبال ما حَبّب إليه ونبذِ ما كَرَّه إليه .وعدي فعلاً { حبب } و { كَرَّه } بحرف ( إلى ( لتضمينهما معنى بَلَّغَ ، أي بلغ إليكم حب الإيمان وكُره الكفر . ولم يعدّ فعل { وزينه } بحرف ( إلى ( مثل فعلي { حبّب } و { كرّه } ، للإيماء إلى أنه لما رغّبهم في الإيمان وكرههم الكفر امتثلوا فأحبّوا الإيمان وزان في قلوبهم . والتزيين : جعل الشيء زَينا ، أي حسناً قال عمر بن أبي ربيعة :أجمعتْ خُلتي مع الفجر بَينا ... جَلل الله ذلك الوجه زَيْناوجملة { أولئك هم الراشدون } معترضة للمدح . والإشارة ب { أولئك } إلى ضمير المخاطبين في قوله : { إليكم } مرتين وفي قوله : { قلوبكم } أي الذين أحبّوا الإيمان وتزينت به قلوبهم ، وكَرِهُوا الكفر والفسوقَ والعصيان هم الراشدون ، أي هم المستقيمون على طريق الحق .وأفاد ضمير الفصللِ القصرَ وهو قصر إفراد إشارة إلى أن بينهم فريقا ليسوا براشدين وهم الذين تلبسوا بالفسق حين تلبسهم به فإن أقلعوا عنه التحقوا بالراشدين

فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

📘 فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8(.وانتصب { فضلاً من اللَّه ونعمة } على المفعول المطلق المبين للنوع من أفعال { حَبَّب } { وزيَّن } { وكرَّه } لأن ذلك التحبيب والتزيّين والتّكريه من نوع الفضل والنعمة .وجملة { واللَّه عليم حكيم } تذييل لجملة { واعلموا أن فيكم رسول الله } إلى آخرها إشارة إلى أن ما ذكر فيها من آثار علم الله وحكمته . . والواو اعتراضية .

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ

📘 وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9(لما جرى قوله : { أن تصيبوا قوماً بجهالة } [ الحجرات : 6 ] الآية كان مما يصدق عليه إصابة قوم أن تقع الإصابة بين طائفتين من المؤمنين لأن من الأخبار الكاذبة أخبار النميمة بين القبائل وخطرها أكبر مما يجري بين الأفراد والتبين فيها أعسر ، وقد لا يحصل التبيّن إلا بعد أن تستعر نار الفتنة ولا تجدي الندامة . وفي «الصحيحين» عن أنس بن مالك : أن الآية نزلت في قصة مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه عبد الله بنُ أبيّ بنُ سلول ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبال الحمار ، فقال عبد الله بن أُبَيّ : خلّ سبيل حمارك فقد آذانا نتنه . فقال له عبد الله بن رواحة : والله إن بول حماره لأطيَبُ من مسكك فاستَبَّا وتجالدا وجاء قوماهما الأوس والخزرج ، فتجالدوا بالنعال والسعف فرجع إليهم رسول الله فأصلح بينهم . . . فنزلت هذه الآية . وفي «الصحيحين» عن أسامة بن زيد : وليس فيه أن الآية نزلت في تلك الحادثة .ويناكد هذا أن تلك الوقعة كانت في أول أيام قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة . وهذه السورة نزلت سنة تسع من الهجرة وأن أنس بن مالك لم يجزم بنزولها في ذلك لقوله : فبلغنا أن نزلت فيهم { وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } . اللهم أن تكون هذه الآية ألحقت بهذه السورة بعد نزول الآية بمدة طويلة . وعن قتاده والسدي : أنها نزلت في فتنة بين الأوس والخزرج بسبب خصومة بين رجل وامرأته أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج انتصر لكل منهما قومه حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال والعصيّ فنزلت الآية فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهما وهذا أظهر من الرواية الأولى فكانت حكماً عاماً نزل في سبب خاص .و { إنْ } حرف شرط يُخلّص الماضي للاستقبال فيكون في قوة المضارع وارتفع { طائفتان } بفعل مقدر يفسره قوله : { اقتتلوا } للاهتمام بالفاعل . وإنما عدل عن المضارع بعد كونه الأليق بالشرط لأنه لما أريد تقديم الفاعل على فعله للاهتمام بالمسند إليه جعل الفعل ماضياً على طريقة الكلام الفصيح في مثله مما أولِيَت فيه { إنْ } الشرطية الاسم نحو { وإن أحد من المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] ، { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً } [ النساء : 128 ] . قال الرضي «وحق الفعل الذي يكون بعد الاسم الذي يلي ( إنْ ( أن يكون ماضياً وقد يكون مضارعاً على الشذوذ وإنما ضعف مجيء المضارع لحصول الفصل بين الجازم وبين معموله» . ويعود ضمير { اقتتلوا } على { طائفتان } باعتبار المعنى لأن طائفة ذات جمع ، والطائفة الجماعة . وتقدم عند قوله تعالى : { فلتقم طائفة منهم معك } في سورة النساء ( 102 ( .والوجه أن يكون فعل اقتتلوا } مستعملاً في إرادة الوقوع مثل{ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ومثل { والذين يظّاهرون من نسائهم ثم يَعُودون لما قالوا } [ المجادلة : 3 ] ، أي يريدون العود لأن الأمر بالإصلاح بينهما واجب قبل الشروع في الاقتتال وذلك عند ظهور بوادره وهو أولى من انتظار وقوع الاقتتال ليمكن تدارك الخطب قبل وقوعه على معنى قوله تعالى : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصَّلحا بينهما صلحاً } [ النساء : 128 ] .وبذلك يظهر وجه تفريع قوله : { فإن بغت إحداهما على الأخرى } على جملة { اقتتلوا } ، أي فإن ابتدأتْ إحدى الطائفتين قتال الأخرى ولم تنصع إلى الإصلاح فقاتلوا الباغية .والبغي : الظلم والاعتداء على حق الغير ، وهو هنا مستعمل في معناه اللغوي وهو غير معناه الفقهي ف { التي تبغي } هي الطائفة الظالمة الخارجة عن الحق وإن لم تقاتل لأن بغيها يحمل الطائفة المبغِي عليها أن تدافع عن حقها . وإنما جعل حكم قتال الباغية أن تكون طائفة لأن الجماعة يعسر الأخذ على أيدي ظلمهم بأفراد من الناس وأعواننِ الشرطة فتعين أن يكون كفهم عن البغي بالجيش والسلاح .وهذا في التقاتل بين الجماعات والقبائل ، فأما خروج فئة عن جماعة المسلمين فهو أشد وليس هو مورد هذه الآية ولكنها أصل له في التشريع . وقد بغى أهل الردة على جماعة المسلمين بغياً بغير قتال فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه ، وبغى بغاة أهل مصر على عثمان رضي الله عنه فكانوا بغاةً على جماعة المؤمنين ، فأبى عثمان قتالهم وكره أن يكون سبباً في إراقة دماء المسلمين اجتهاداً منه فوجب على المسلمين طاعته لأن وليُّ الأمر ولم يَنفُوا عن الثوار حكم البغي .ويتحقق وصف البغي بإخبار أهل العلم أن الفئة بغت على الأخرى أو بحكم الخليفة العالم العدل ، وبالخروج عن طاعة الخليفة وعن الجماعة بالسيف إذا أمر بغير ظلم ولا جور ولم تُخش من عصيانه فتنةٌ لأن ضر الفتنة أشد من شدّ الجور في غير إضاعة المصالح العامة من مصالح المسلمين ، وذلك لأن الخروج عن طاعة الخليفة بغي على الجماعة الذين مع الخليفة .وقد كان تحقيق معنى البغي وصُورهُ غيرَ مضبوط في صدر الإسلام وإنما ضبطه العلماء بعد وقعة الجمل ولم تطل ثم بعد وقعة صفين ، وقد كان القتال فيها بين فئتين ولم يكن الخارجون عن علي رضي الله عنه من الذين بايعوه بالخلافة ، بل كانوا شرطوا لمبايعتهم إياه أخذ القَوَد من قتلة عثمان منهم ، فكان اقتناع أصحاب معاوية مجالاً للاجتهاد بينهم وقد دارت بينهم كتب فيها حجج الفريقين ولا يعلم الثابت منها والمكذوب إذ كان المؤرخون أصحاب أهواء مختلفة . وقال ابن العربي : كان طلحة والزبير يريان البداءة بقتل قتلة عثمان أولى ، إلا أن العلماء حققوا بعد ذلك أن البغي في جانب أصحاب معاوية لأن البيعة بالخلافة لا تقبل التقييد بشرط .وقد اعترف الجميع بأن معاوية وأصحابه كانوا مدافعين عن نظر اجتهادي مخطىء ، وكان الواجب يقضى على جماعة من المسلمين الدعاء إلى الصلح بين الفريقين حسب أمر القرآن وجوب الكفاية فقد قيل : إن ذلك وقع التداعي إليه ولم يتم لانتقاض الحَرورية على أمر التحكيم فقالوا : لا حكم إلا لله ولا نحكم الرجال .وقيل : كيدت مكيدة بين الحَكَمين ، والأخبار في ذلك مضطربة على اختلاف المتصدين لحكاية القضية من المؤرخين أصحاب الأهواء . والله أعلم بالضمائر .وسئل الحسن البصري عن القتال بين الصحابة فقال : شهد أصحاب محمد وغبنا وعلموا وجهلنا . وقال المُحاسبي : تَعلّم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه مِنّا .والأمر في قوله : { فقاتلوا التي تبغي } للوجوب ، لأن هذا حُكم بين الخصمين والقضاء بالحق واجب لأنه لحفظ حق المحق ، ولأن ترك قتال الباغية يجرّ إلى استرسالها في البغي وإضاعة حقوق المبغي عليها في الأنفس والأحوال والأغراض والله لا يحب الفساد ، ولأن ذلك يجرىء غيرها على أن تأتي مثل صَنيعها فمقاتلها زجر لغيرها . وهو وجوب كفاية ويتعين بتعيين الإمام جيشاً يوجهه لقتالها إذ لا يجوز أن يلي قتال البغاة إلا الأيمة والخلفاء . فإذا اختلّ أمر الإمامة فليتولَّ قتال البغاة السوادُ الأعظم من الأمة وعلماؤها . فهذا الوجوب مطلق في الأحوال تقيده الأدلة الدالة على عدم المصير إليه إذا علم أن قتالها يجرّ إلى فتنة أشد من بغيها . وقد تلتبس الباغية من الطائفتين المتقاتلتين فإن أسباب التقاتل قد تتولد من أمور لا يُؤْبَهُ بها في أول الأمر ثم تثور الثائرة ويتجالد الفريقان فلا يضبط أمر الباغي منهما ، فالإصلاح بينهما يزيل اللبس فإن امتنعت إحداهما تعين البغي في جانبها لأن للإمام والقاضي أن يجبر على الصلح إذا خشي الفتنة ورأى بوارقها ، وذلك بعد أن تُبيَّن لكلتا الطائفتين شبهتها إن كانت لها شبهة وَتُزال بالحجة الواضحة والبراهين القاطعة ومن يَأْب منهما فهو أعق وأظلم .وجعل الفَيْء إلى أمر الله غاية للمقاتلة ، أي يستمر قتال الطائفة الباغية إلى غاية رجوعها إلى أمر الله ، وأمر الله هو ما في الشريعة من العدل والكف عن الظلم ، أي حتى تقلع عن بغيها ، وأُتْبع مفهوم الغاية ببيان ما تُعامَل به الطائفتان بعد أن تفي الباغية بقوله : { فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل } ، والباء للملابسة والمجرور حال من ضمير { اصلحوا } .والعدل : هو ما يقع التصالح عليه بالتراضي والإنصاف وأن لا يضر بإحدى الطائفتين فإن المتالف التي تلحق كلتا الطائفتين قد تتفاوت تفاوتا شديداً فتجب مراعاة التعديل .وقُيد الإصلاحُ المأمور به ثانياً بقيد أن تفيء الباغية بقيد { بالعدل } ولم يقيد الإصلاح المأمور به ، وهذا القيد يقيد به أيضاً الإصلاح المأمور به أولاً لأن القيد من شأنه أن يعود إليه لاتحاد سبب المطلق والمقيد ، أي يجب العدل في صورة الإصلاح فلا يضيعوا بصورة الصلح منافع عن كلا الفريقين إلا بقدر ما تقتضيه حقيقة الصلح من نزول عن بعض الحق بالمعروف .ثم أمر المسلمين بالعدل بقوله : { وأقسطوا } أمراً عاماً تذييلاً للأمر بالعدل الخاص في الصلح بين الفريقين ، فشمل ذلك هذا الأمر العام أن يعدلوا في صورة ما إذا قاتلوا التي تبغي ، ثم قال : { فإن فاءت فأصلحوا بينهما } . وهذا إصلاح ثان بعد الإصلاح المأمور به ابتداء . ومعناه : أن الفِئة التي خضعت للقوة وألقت السلاح تكون مكسورة الخاطر شاعرة بانتصار الفئة الأخرى عليها فأوجب على المسلمين أن يصلحوا بينهما بترغيبهما في إزالة الإحن والرجوع إلى أخُوَّة الإسلام لئلا يعود التنكر بينهما .قال أبو بكر بن العربي : ومن العدل في صلحهم أن لا يطالبوا بما جرى بينهم مدة القتال من دم ولا مال فإنه تلف على تأويل وفي طلبهم به تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي وهذا أصل في المصلحة اه . ثم قال : لا ضمان عليهم في نفس ولا مال عندنا المالكية . وقال أبو حنيفة يضمنون . وللشافعي فيه قولان . فأما ما كان قائماً رُدّ بعينه وانظر هل ينطبق كلام ابن العربي على نوعي الباغية أو هو خاص بالباغية على الخليفة وهو الأظهر .فأما حكم تصرف الجيش المقاتل للبغاة فكأحوال الجهاد إلا أنه لا يقتل أسيرهم ولا يتَّبع مدبرهم ولا يذفّف على جريحهم ولا تسبى ذراريهم ولا تغنم أموالهم ولا تسترق أسراهم . وللفقهاء تفاصيل في أحوال جبر الأضرار اللاحقة بالفئة المعتدَى عليها والأضرار اللاحقة بالجماعة التي تتولى قتال البغاة فينبغي أن يؤخذ من مجموع أقوالهم ما يرى أولو الأمر المصلحة في الحمل عليها جرياً على قوله تعالى : { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } .