slot qris slot gacor terbaru slot gacor terbaik slot dana link slot gacor slot deposit qris slot pulsa slot gacor situs slot gacor slot deposit qris slot qris bokep indo xhamster/a> jalalive/a>
| uswah-academy
WhatsApp Book A Free Trial
القائمة

🕋 تفسير سورة الطلاق

(At-Talaq) • المصدر: AR-TAFSEER-TANWIR-AL-MIQBAS

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا

📘 يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب من أساليب آيات التشريع المهتم به فلا يقتضي ذلك تخصيص ما يذكر بعده النبي صلى الله عليه وسلم مثل { يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال } [ الأنفال : 65 ] لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتولى تنفيذ الشريعة في أمته وتبيين أحوالها . فإن كان التشريع الوارد يشمله ويشمل الأمة جاء الخطاب مشتملاً على ما يفيد ذلك مثل صيغة الجمع في قوله هنا { إذا طلقتم النساء } وإن كان التشريع خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بما يقتضي ذلك نحو { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] .قال أبو بكر بن العربي : «وهذا قولهم أن الخطاب له لفظاً . والمعنى له وللمؤمنين ، وإذا أراد الله الخطاب للمؤمنين لاطفه بقوله : { يا أيها النبي } ، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال : { يا أيها الرسول } [ المائدة : 67 ] اه . ووجه الاهتمام بأحكام الطلاق والمراجعة والعِدّة سنذكره عند قوله تعالى : { واتقوا الله ربكم } .فالأحكام المذكورة في هذه السورة عامة للمسلمين فضمير الجمع في قوله : { إذا طلقتم النساء } وما بعده من الضمائر مثلِه مراد بها هو وأمته . وتوجيه الخطاب إليه لأنه المبلغ للناس وإمام أمته وقدوَتهم والمنفذ لأحكام الله فيهم فيما بينهم من المعاملات فالتقدير إذا طلقتم أيها المسلمون .وظاهر كلمة { إذا } أنها للمستقبل وهذا يؤيد ما قاله أبو بكر بن العربي من أنها شرع مبتدأ قالوا : إنه يجوز أن يكون المراد إذا طلقتم في المستقبل فلا تعودوا إلى مثل ما فعلتم ولكن طلقوهن لعدتهن ، أي في أطْهارهن كما سيأتي .وتكرير فعل { فطلقوهن } لمزيد الاهتمام به فلم يقل إذا طلقتم النساء فلِطهرهن وقد تقدم نظير ذلك عند قوله تعالى : { وإذا بطشتم بطشتم جبارين } في سورة [ الشعراء : 130 ] ، وقوله : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } في سورة [ الفرقان : 72 ] .واللام في لعدتهن } لام التوقيت وهي بمعنى عند مثل كُتب ليوممِ كذا من شهر كذا . ومنه قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] لا تحتمل هذه اللام غير ذلك من المعاني التي تأتي لها اللام . ولما كان مدخول اللام هنا غير زمان عُلم أن المراد الوقت المضاف إلى عدتهن أي وقت الطهر .ومعنى التركيب أن عدة النساء جعلت وقتاً لإيقاع طلاقهن فكني بالعدة عن الطهر لأن المطلقة تعتد بالأطهار .وفائدة ذلك أن يكون إيماء إلى حكمة هذا التشريع وهي أن يكون الطلاق عند ابتداء العِدة وإنما تُبتدأ العدة بأول طُهر من أطْهار ثلاثة لدفع المضرة عن المطلقة بإطالة انتظار تزويجها لأن ما بين حيضها إذا طلقت فيه وبين طهرها أيام غير محسوبة في عدتها فكان أكثر المطلقين يقصدون بذلك إطالة مدة العدة ليوسعوا على أنفسهم زمن الارتياء للمراجعة قبل أن يَبنَّ منهم .وفعل { طلقتم } مستعمل في معنى أردتم الطلاق وهو استعمال وارد ومنه قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية والقرينة ظاهرة .والآية تدل على إباحة التطليق بدلالة الإشارة لأن القرآن لا يقدِّر حصول فعل محرَّم من دون أن يبيّن منعه .والطلاق مباح لأنه قد يَكون حاجيّاً لبعض الأزواج فإن الزوجين شخصان اعتشرا اعتشاراً حديثاً في الغالب لم تكن بينهما قبله صلة من نسب ولا جوار ولا تخلق بخلق متقارب أو متماثل فيكثر أن يحدث بينهما بعد التزوج تخالف في بعض نواحي المعاشرة قد يكون شديداً ويعسر تذليله ، فيمل أحدهما ولا يوجد سبيل إلى إراحتهما من ذلك إلا التفرقة بينهما فأحله الله لأنه حاجيّ ولكنه ما أحله إلا لدفع الضر فلا ينبغي أن يجعل الإِذن فيه ذريعة للنكاية من أحَد الزوجين بالآخر . أو من ذوي قرابتهما ، أو لقصد تبديل المذاق . ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» .وتعليق { طلقتم } بإذا الشرطية مشعر بأن الطلاق خلاف الأصل في علاقة الزوجين التي قال الله فيها : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [ الروم : 21 ] .واختلف العلماء في أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وجزم به الخطابي في «شرح سنن أبي داود» : ولم يثْبُتْ تطليق النبي صلى الله عليه وسلم بحديث صحيح والمروي في ذلك خبراننِ ، أولهما ما رواه ابن ماجة عن سويد بن سعيد وعبد الله بن عامر بن زرارة ومسروق بن المرزبان بسندهم إلى ابن عباس عن عُمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصَة ثم راجعها . وفي هذا السند ضعف لأن سُوَيد بن سعيد ضعيف نسبه ابن معين إلى الكذب وضعفه ابن المديني والنسائي وابن عدي . وقَبله أحمد بن حنبل وأبو حاتم . وكذلك مسروق بن المرزبان يضعف أيضاً . وبقي عبد الله بن عامر بن زرارة لا متكلم فيه فيكون الحديث صحيحاً لكنه غريب وهو لا يُقبل فيما تتوفر الدواعي على روايته كهذا . وهذا الحديث غريب في مبدئه ومنتهاه لانفراد سعيد بن جبير بروايته عن ابن عباس ، وانفراد ابن عباس بروايته عن عمر بن الخطاب مع عدم إخراج أهل الصحيح إياه فالأشبه أنه لم يقع طلاق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ولكن كانت قضيةُ الإيلاء بسبب حفصة .والمعروف في «الصحيح» عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه فقال الناس طلق رسول الله نساءه . قال عمر : «فقلت يا رسول الله أطلقتَ نساءك؟ ، قال : «لا آليت منهن شهراً» . فلعل أحد رواة الحديث عن ابن عباس عبر عن الإيلاء بلفظ التطليق وعن الفَيْئة بلفظ راجع على أن ابن ماجه يضعف عند أهل النقد .وثانيهما : حديث الجونية أسماءَ أو أميمة بنت شُراحيل الكندية في «الصحيح» : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وأنه لما دخل يبني بها قالت له : «أعوذ بالله منك ، فقال : قد عذت بمعاذ ألحقي بأهلك» وأمَرَ أبا أُسيد الساعدي أن يكسوها ثوبين وأن يلحقها بأهلها ، ولعلها أرادت إظهار شرفها والتظاهر بأنها لا ترغب في الرجال وهو خُلق شائع في النساء .والأشبه أن هذا طلاق وأنه كان على سبب سؤالها فهو مثل التخيير الذي قال الله تعالى فيه : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا } في سورة [ الأحزاب : 28 ] . فلا يعارض ذلك قوله : أبغض الحلال إلى الله الطلاق . إذ يكون قوله ذلك مخصوصاً بالطلاق الذي يأتيه الزوج بداع من تلقاء نفسه لأن علة الكراهية هي ما يخلفه الطلاق من بغضاء المطلقة من يطلقها فلا يصدر من النبي ابتداء تجنباً من أن تبغضه المطلقة فيكون ذلك وَبَالاً عليها ، فأما إذا سألته فقد انتفت الذريعة التي يجب سدها .وعُلم من قوله تعالى : لعدتهن } أنهن النساء المدخول بهن لأن غير المدخول بهن لا عدة لهن إجماعاً بنص آية الأحزاب .وهذه الآية حجة لمالك والشافعي والجمهور أن العدة بالأطهار لا بالحِيَض فإن الآية دلت على أن يكون إيقاع الطلاق عند مبدإ الاعتداد فلو كان مبدأ الاعتداد هو الحيض لكانت الآية أمراً بإيقاع الطلاق في الحيض ولا خلاف في أن ذلك منهي عنه لحديث عمر في قضية طلاق ابنه عبد الله بن عمر زوجه وهي حائض . واتفق أهل العلم على الأخذ به فكيف يخالف مخالف في معنى القرء خلافاً يفضي إلى إبطال حكم القضية في ابن عمر وقد كانت العدة مشروعة من قبل بآية سورة البقرة وآيات الأحزاب فلذلك كان نوط إيقاع الطلاق بالحال التي تكون بها العدة إحالة على أمر معلوم لهم .وحكمة العدة تقدم بيانها .{ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ } .الإِحصاء : معرفة العدِّ وضبطه . وهو مشتق من الحصى وهي صغار الحجارة لأنهم كانوا إذا كثرت أعداد شيء جعلوا لكل معدود حصاةً ثم عدوا ذلك الحصى ، قال تعالى : { وأحصى كل شيء عدداً } [ الجن : 28 ] .والمعنى : الأمر بضبط أيام العدة والإتيان على جميعها وعدم التساهل فيها لأن التساهل فيها ذريعة إلى أحد أمرين؛ إما التزويج قبل انتهائها فربّما اختلط النسب ، وإما تطويل المدة على المطلقة في أيام منعها من التزوج لأنها في مدة العدة لا تخلو من حاجة إلى من يقوم بها .وأما فوات أمد المراجعة إذا كان المطلق قد ثاب إلى مراجعة امرأته .والتعريف في العدة للعهد فإن الاعتداد مشروع من قبل كما علمته آنفاً والكلام على تقدير مضاف لأن المحصَى أيام العدة .والمخاطب بضمير { أحصوا } هم المخاطبون بضمير { إذا طلقتم } فيأخذ كل من يتعلق به هذا الحكم حَظه من المطلق والمطلقة ومن يطلع على مخالفة ذلك من المسلمين وخاصة ولاة الأمور من الحكام وأهل الحسبة فإنهم الأولى بإقامة شرائع الله في الأمة وبخاصة إذا رأوا تفشي الاستخفاف بما قصدته الشريعة . وقد بيّنا ذلك في باب مقاصد القضاء من كتابي «مقاصد الشريعة» .ففي العدة مصالح كثيرة وتحتها حقوق مختلفة اقتضتها تلك المصالح الكثيرة وأكثر تلك الحقوق للمطلِّق والمطلَّقة وهي تستتبع حقوقاً للمسلمين وولاةِ أمورهم في المحافظة على تلك الحقوق وخاصة عند التحاكم .{ العدة واتقوا الله } .اعتراض بين جملة { وأحصوا العدة } وجملة { لا تخرجوهن من بيوتهن } والواو اعتراضية .وحذف متعلّق { اتقوا الله } ليعم جميع ما يتقى الله فيه فيكون هذا من قبيل الاعتراض التذييلي وأول ما يقصد بأن يتقى الله فيه ما سيق الكلام لأجله .فقوله : { واتقوا الله ربكم } تحذير من التساهل في أحكام الطلاق والعدة . ذلك أن أهل الجاهلية لم يكونوا يقيمون للنساء وزناً وكان قرابة المطلقات قلما يدافعن عنهن فتناسى الناس تلك الحقوق وغمصوها فلذلك كانت هذه الآيات شديدة اللهجة في التحدّي ، وعبر عن تلك الحقوق بالتقوى وبحدود الله ولزيادة الحرص على التقوى أتبع اسم الجلالة بوصف { ربّكم } للتذكير بأنه حقيق بأن يتقى غضبه .{ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة } .استئناف أو حال من ضمير { أحصوا العدة } ، أي حالة كون العدة في بيوتهن ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من مضمون جملة { أحصوا العدة } لأن مكثهن في بيوتهن في مدة العدة يحقق معنى إحصاء العدة .ولكلا الوجهين جردت الجملة عن الاقتران بالواو جوازاً أو وجوباً .وفي إضافة البيوت إلى ضمير النساء إيماء إلى أنهن مستحقات المكث في البيوت مدة العدة بمنزلة مالك الشيء وهذا ما يسمى في الفقه مِلْك الانتفاع دون العين ولأن بقاء المطلقات في البيوت اللاّتي كنّ فيها أزواجاً استصحاب لحال الزوجية إذ الزوجة هي المتصرفة في بيت زوجها ولذلك يدعوها العرب «ربّة البيت» وللمطلقة حكم الزوجة ما دامت في العدة إلا في استمتاع المطلق .وهذا الحكم سببُه مركب من قصد المكارمة بين المطلّق والمطلقة . وقصد الانضباط في علة الاعتداد تكميلاً لتحقق لحاق ما يظهر من حمل بأبيه المطلّق حتى يبرأ النسب من كل شك .وجملة { ولا يخرجن } عطف على جملة { لا تخرجوهن } وهو نهي لهن عن الخروج فإن المطلق قد يُخرجها فترْغب المطلقة في الخروج لأنها تستثقل البقاء في بيت زالت عنه سيادتها فنهاهن الله عن الخروج . فَإذا كان البيت مكترى سكنتْه المطلقة وكراؤه على المطلق وإذا انتهى أمد كرائه فعلى المطلق تجديده إلى انتهاء عدة المطلقة .وهذا الترتب بين الجملتين يشعر بالسببية وأن لكل امرأة معتدة حق السكنى في بيت زوجها مدة العدة لأنها معتدة لأجله أي لأجل حفظ نسبه وعِرضه فهذا مقتضى الآية .ولذلك قال مالك وجمهور العلماء بوجوب السكنى للمطلقة المدخول بها سواء كان الطلاق رجعياً أو بائناً وقال ابن أبي ليلى : لا سكنى إلا للمطلقة الرجعية ، وعلل وجوب الإسكان للمطلقة المدخول بها بعدة أمور : حفظ النسب ، وجبر خاطر المطلقة وحفظ عرضها . وسيجيء في هذه السورة قوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم } [ الطلاق : 6 ] الآية . وتَعلم أن ذلك تأكيداً لما في هذه الآية من وجوب الإِسكان في العدة أعيد ليبين عليه قوله : { من وجدكم } [ الطلاق : 6 ] وما عطف عليه .والاستثناء في قوله : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } يحتمل أن يرجع إلى الجملتين اللتين قبله كما هو الشأن فيه إذا ورد بعد جمل على أصح الأقوال لعلماء الأصول . ويحتمل أن يرجع إلى الأخيرة منهما وهو مقتضى كونه موافقاً لضميرها إذ كان الضمير في كلتيهما ضمير النسوة . وهو استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الذوات في قوله : { لا تخرجوهن } { ولا يخرجن } . فالمعنى : إلا أن يأتين بفاحشة فأخرجوهن أو ليخرجْن ، أي يباح لكم إخراجهن وليس لهن الامتناع من الخروج وكذلك عكسه .والفاحشة : الفِعلة الشديدة السوء بهذا غلب إطلاقها في عرف اللغة فتشمل الزنا كما في قوله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } الآية في سورة [ النساء : ] 15 .وشَمل غيره من الأعمال ذات الفساد كما في قوله : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } [ الأعراف : 28 ] . وقوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } في سورة [ الأعراف : 33 ] . قال ابن عطية : قال بعض الناس : الفاحشة متى وردت في القرآن معرَّفة فهي الزنا ( يريد أو ما يشبهه ) كما في قوله : { أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } [ الأعراف : 80 ] ومتى وردت منكرة فهي المعاصي .وقرأ الجمهور { مبينة } بكسر الياء التحتية ، أي هي تُبيِّن لمن تبلغه أنها فاحشة عظيمة فإسناد التبيين إليها مجاز باستعارة التبيين للوضوح أو تبيين لولاة الأمور صدورَها من المرأة فيكون إسناد التبيين إلى الفاحشة مجازاً عقلياً وإنما المبيِّن ملابسها وهو الإقرار والشهادة فيحمل في كل حالة على ما يناسب معنى التبيين .وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم { مبيَّنة } بفتح التحتية ، أي كانت فاحشة بَينتْها الحجة أو بينَها الخارج ومحمل القراءتين واحد .ووصفها ب { مبينة } إما أن يراد به أنها واضحة في جنس الفواحش ، أي هي فاحشة عظيمة وهذا المقام يشعر بأن عظمها هو عظم ما يأتيه النساء من أمثالها عرفاً . وإما أن يراد به مبينة الثبوت للمدة التي تخرج .وقد اختلفوا في المراد من الفاحشة هنا وفي معنى الخروج لأجلها فعن ابن مسعود وابن عباس والشعبي والحسن وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث بن سعْدود أبي يوسف : أن الفاحشة الزنا ، قالوا : ومعاد الاستثناء الإِذن في إخراجهن ، أي ليقام عليهن الحد .وفسرت الفاحشة بالبَذَاء على الجيران والأحماء أو على الزوج بحيث أن بقاء أمثالهن في جوار أهل البيت يفضي إلى تكرر الخصام فيكون إخراجها من ارتكاب أخف الضررين ونسب هذا إلى أبي بن كعب لأنه قرأ «إلا أن يفحشن عليكم» ( بفتح التحتية وضم الحاء المهملة أي الاعتداء بكلام فاحش ) وروي عن ابن عباس أيضاً واختاره الشافعي .وفسرت الفاحشة بالمعصية من سرقة أو سب أو خروج من البيت فإن العدة بَلْه الزنا ونسب إلى ابن عباس أيضاً وابن عُمر وقاله السدي وأبو حنيفة .وعن قتادة الفاحشة : النشوز ، أي إذا طلقها لأجللِ النشوز فلا سكنى لها .وعن ابن عمر والسدي إرجاع الاستثناء إلى الجملة التي هو موال لها وهي جملة { ولا يخرجن } أي هن منهيات عن الخروج إلا أن يردن أن يأتين بفاحشة ، ومعنى ذلك إرادة تفظيع خروجهن ، أي إن أردن أن يأتين بفاحشة يخرجن وهذا بما يسمى تأكيد الشيء بما يشبه ضده كذا سماه السكاكي تسمية عند الأقدمين تأكيد المادح بما يشبه الذم ومنه قول النابغة: ... ولا عيب فيهم غير أن سيوفهمبهن فلول من قراع الكتائب ... فجعلت الآية خروجهن ريبة لهن وحذرت النساء منه بأسلوب خطابي ( بفتح الخاء ) فيكون هذا الاستثناء منعاً لهن من الخروج على طريقة المبالغة في النهي .ومحمل فعل { يأتين } على هذا الوجه أنه من يردن أن يأتين مثل { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] .وقد ورد في «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتته فاطمة بنت قيس الفهرية فأخبرته أن زوجها أبا عمرو بن حفص أو أبا حفص بن عَمرو ( وكان وجهه النبي صلى الله عليه وسلم مع عليّ إلى اليمن ) فأرسل إليها من اليمن بتطليقة صادفت آخر الثلاث فبانت منه ، وأنه أرسل إلى بعض ذويه بأن ينفقوا عليها مدة العدة فقالوا لها : ما لكِ نفقة إلا أن تكوني حاملاً ، وأنها رفعت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا نفقة لك فاستأذنته في الانتقال فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم . وفي رواية أنها قالت : أخاف أن يُقْتَحَم عليَّ ( بالبناء للمجهول ) ، وفي رواية أنها كانت في مكان وحْش مخيف على ناحيتها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتقال .واختلف العلماء في انتقالها فقال جماعة : هو رُخصة لفاطمة بنت قيس لا تتجاوزها وكانت عائشة أم المؤمنين ترى ذلك ، روَى البخاري أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق امرأته عَمرة بنت عبد الرحمان بن الحكم وكان عمُّها مروان بن الحكم أميرَ المدينة يومئذٍ فانتقلها أبوها إليه فبلغ ذلك عائشةَ أم المؤمنين فأرسلت إلى مروان أن اتَّققِ الله وأرددها إلى بيتها فقال مروان : أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس؟ قالت عائشة : لا يضركَ أن لا تذكر حديثَ فاطمة ، فقال مروان : إن كان بككِ الشَّرَّ فحسبككِ ما بين هذين من الشَّر ، ( ولعل عائشة اقتنعت بذلك إذ لم يرد أنها ردت عليه ) .وفي «الصحيح» عن عمر بن الخطاب أنه قال : لا ندع كتاب الله وسنةَ نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت . وقالت عائشة : ليس لفاطمة بنت قيس خبر في ذكر هذا الحديث وعابت عليها أشدَّ العيب . وقالت إن فاطمة كانت في مكان وحش مُخيف على ناحيتها فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتقال . ويظهر من هذا أنه اختلاف في حقيقة العذر المسوغ للانتقال . قال مالك : وليس للمرأة أن تنتقل من موضع عدتها بغير عذر رواه الباجي في «المنتقى» .وقال ابن العربي : إن الخروج للحدث والبَذاء والحاجة إلى المعايش وخوففِ العودة من المسكن جائز بالسنة .ومن العلماء من جوز الانتقال للضرورة وجعلوا ذلك محمل حديث فاطمة بنت قيس فإنها خيف عليها في مكان وحش وحدث بينها وبين أهل زوجها شر وبَذاء قال سعيد بن المسيب : تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها أنها كانت لَسِنَة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنتقل وهذا الاختلاف قريب من أن يكون اختلافاً لفظياً لاتفاق الجميع عدا عمر بن الخطاب على أن انتقالها كان لعذر قَبله النبي صلى الله عليه وسلم فتكون تلك القضية مخصصة للآية ويجري القياس عليها إذا تحققت علة القياس .أما قول عمر بن الخطاب : لا نَدع كتابَ الله وسنةَ نبينا لقول امرأة أحفظتْ أم نسيت . فهو دحض لرواية فاطمة ابنة قيس بشكَ له فيه فلا تكون معارضة لآية حتى يصار إلى الجمع بالتخصيص والترخيص . وقال ابن العربي : قيل إن عمر لم يخصص القرآن بخبر الواحد .وأما تحديد منع خروج المعتدة من بيتها فلا خلاف في أن مبيتها في غير بيتها حرام . وأما خروجها نهاراً لقضاء شؤون نفسها فجوزه مالك والليث بن سعد وأحمد للمعتدة مطلقاً .وقال الشافعي : المطلقة الرجعية لا تخرج ليلاً ولا نهاراً والمبتوتة تخرج نهاراً . وقال أبو حنيفة : تخرج المعتدة عدة الوفاة نهاراً ولا تخرج غيرها ، لا ليلاً ولا نهاراً .وفي «صحيح مسلم» أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن حديثها فلما أبلغ إليه قال : لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعِصمة التي وجدنا عليها الناس . فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان : «فبَيني وبينكم القرآن قال الله عز وجل : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } . هذا لمن كان له رجعة فأيّ أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملاً فعَلام تحبسُونها فظنت أن ملازمة بيتها لاستبقاء الصلة بينها وبين مفارقها وأنها ملزمة بذلك لأجْل الإنفاق .والذي تخلص لي أن حكمة السكنى للمطلقة أنها حفظ الإعراض فإن المطلقة يكثر إلتفات العيون لها وقد يتسرب سوء الظن إليها فيكثر الاختلاف عليها ولا تجد ذا عصمة يذب عنها فلذلك شرعت لها السكنى ولا تخرج إلا لحاجياتها فهذه حكمة من قبيل المَظنة فإذا طرأ على الأحوال ما أوقعها في المشقة أو أوقع الناس في مشقة من جرائها أخرجت من ذلك المسكن وجرَى على مكثها في المسكن الذي تنتقل إليه ما يجري عليها في مسكن مطلقها لأن المظِنة قد عارضتها مَئِنَّة . ومن الحكم أيضاً في ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكناً لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال وإنما هن عيال على الرجال فلما كانت المعتدة ممنوعة من التزوج كان إسكانها حقاً على مفارقها استصحاباً للحال حتى تحل للتزوج فتصير سكناها على من يتزوجها . ويزاد في المطلقة الرجعية قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها لعلهُ أن يثوب إليه رشده فيراجعها فلا يحتاج في مراجعتها إلى إعادة التذاكر بينه وبينها أو بينه وبين أهلها . فهذا مجموع علل فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها بخلاف العلة المركبة إذا تخلف جزء منها .{ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ } .الواو اعتراضية والجملة معترضة بين جملة { ولا يخرجن } ، وجملة { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } أريد بهذا الاعتراض المبادرة بالتنبيه إلى إقامة الأحكام المذكورة من أول السورة إقامةً لا تقصير فيها ولا خيرة لأحد في التسامح بها ، وخاصة المطلَّقة والمطلِّق أن يحسبا أن ذلك من حقهما انفراداً أو اشتراكاً .والإشارة إلى الجمل المتقدمة باعتبار معانيها بتأويل القضايا .والحدودُ : جمع حد وهو ما يَحُد ، أي يمنع من الاجتياز إلى ما ورائه للأماكن التي لا يحبون الاقتحام فيها إما مطلقاً مِثل حدود الحِمى وإما لوجوب تغيير الحالة مثل حدود الحَرم لمنع الصيد وحدود المواقيت للإحرام بالحج والعمرة .والمعنى : أن هذه الأحكام مشابهة الحدود في المحافظة على ما تقتضيه في هذا .ووجه الشبه إنما يراعى بما يسمح به عرف الكلام مثل قولهم : «النحو في الكلام كالملح في الطعام» فإن وجه التشبيه أنه لا يصلح الكلام بدونه وليس ذلك بمقتض أن يكون الكثير من النحو في الكلام مفسداً ككثرة الملح في الطعام .ووقوع { حدود الله } خبراً عن اسم الإشارة الذي أشير به إلى أشياء معينة يجعل إضافة حدود إلى اسم الجلالة مراداً منها تشريف المضاف وتعظيمه .والمعنى : وتلك مما حدّ الله فلا تفيد تعريف الجمع بالإضافة عموماً لصرف القرينة عن إفادة ذلك لظهور أن تلك الأشياء المعينة ليست جميع حدود الله .{ الله وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ } .عطف على جملة ، { وتلك حدود الله } . فهو تتميم وهو المقصود من التذييل وإذ قد كان حدود الله جمعاً معرفاً بالإضافة كان مفيداً للعموم إذ لا صارف عن إرادة العموم بخلاف إضافة حدود الله السابق .والمعنى : من يتعد شيئاً من حدود الله فقد ظلم نفسه ، وبهذا تعلم أن ليس في قوله : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } إظهار في مقام الإضمار لاختلاف هذين المركبين بالعموم والخصوص وجيء بهذا الإطناب لتهويل أمر هذا التعدي .وأُخبر عن متعديها بأنه ظلم نفسه للتخويف تحذيراً من تعدي هذه الحدود فإن ظلم النفس هو الجريرة عليها بما يعود بالإضرار وذلك منه ظلم لها في الدنيا بتعريض النفس لعواقب سيئة تنجر من مخالفة أحكام الدين لأن أحكامه صلاح للناس فمن فرط فيها فاتته المصالح المنطوية هي عليها .قال : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطَهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } [ المائدة : 6 ] .ومنه ظلم للنفس في الآخرة بتعريضها للعقاب المتوعد به على الإخلال بأحكام الدّين قال تعالى : { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنتُ لمن الساخرين أو تقولَ لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين } [ الزمر : 56 58 ] فإن للمؤمنين حظاً من هذا الوعيد بمقدار تفاوت ما بين الكفر ومجرد العصيان وجيء في هذا التحذير بمَن الشرطية لإفادة عموم كل من تعدى حدود الله فيدخل في ذلك الذين يتعدون أحكام الطلاق وأحكام العدة في هذا العموم .{ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ } .هذه الجملة تعليل لجملة { فطلقوهن لعدتهن } وما ألحق بها مما هو إيضاح لها وتفصيل لأحوالها . ولذلك جاءت مفصولة عن الجمل التي قبلها .ويجوز كونها بَدلاً من جملة { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } بدل اشتمال لأن ظلم النفس بعضه حاصل في الدنيا وهو مشتمل على إضاعة مصالح النفس عنها . وقد سلك في هذه الآية مسلك الترغيب في امتثال الأحكام المتقدمة بعد أن سلك في شأنها مسلك الترهيب من مخالفتها .فمن مصالح الاعتداد ما في مدة الاعتداد من التوسيع على الزوجين في مهلة النظر في مصير شأنهما بعد الطلاق ، فقد يتضح لهما أو لأحدهما متاعب وأضرار من انفصام عروة المعاشرة بينهما فَيعُّدّ ما أضجرهما من بعض خُلقهما شيئاً تافهاً بالنسبة لما لحقهما من أضرار الطلاق فيندم كلاهما أو أحدهما فيجدا من المدة ما يسع للسعي بينهما في إصلاح ذات بينهما .والمقصود الإشارة إلى أهم ما في العدة من المصالح وهو ما يُحدثه الله من أمر بعد الطلاق وتنكير أمر للتنويع .أي أمراً موصوفاً بصفة محذوفة ، أي أمراً نافعاً لهما .وهذا الأمر هو تقليب القلوب من بغض إلى محبة ، ومن غضب إلى رضى ، ومن إيثار تحمل المخالفة في الأخلاق مع المعاشرة على تحمل آلام الفراق وخاصة إذا كان بين المتفارقين أبناء ، أو من ظهور حمل بالمطلقة بعد أن لم يكن لها أولاد فيلزُّ ظهوره أباه إلى مراجعة أمه المطلقة . على أن في الاعتداد والإسكان مصالح أخرى كما علمته آنفاً .والخطاب في قوله : { لا تدري } لغير معين جار على طريقة القصد بالخطاب إلى كل من يصلح للخطاب ويهمه أمر الشيء المخاطب به من كل من قَصر بصره إلى حالة الكراهية التي نشأ عليها الطلاق ولم يتدبر في عواقب الأمور ولا أحاط فِكرُه بصور الأحوال المختلفة المتقلبة كما قال تعالى : { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } [ النساء : 19 ] .ولعل كلمة { لا تدري } تجري مجرى المثل فلا يراد مما فيها من علامة الخطاب ولا من صيغة الإفراد إلا الجري على الغالب في الخطاب وهو مبني على توجيه الخطاب لغير معين .و { لعل } ومعمولاها سادّة معلقة فعل { تدري } عن العمل .

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا

📘 أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) وجملة { أعد الله لهم عذاباً شديداً } بدل اشتمال من جملة { وكان عاقبة أمرها خسراً } أو بدلَ بعض من كل .والمراد عذاب الآخرة لأن الإِعداد التهيئة وإنما يهيَّأ الشيء الذي لم يحصل .وإن جعلتَ الحساب والعذاب المذكورين آنفاً حساب الآخرة وعذابها كما تقدم آنفاً فجملة { أعد الله لهم عذاباً شديداً } استئنافاً لبيان أن ذلك متزايد غير مخفف منه كقوله : { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً } [ النبأ : 30 ] ..( هذا التفريع المقصود على التكاليف السابقة وخاصة على قوله : { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه شَدِيداً فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين } [ الطلاق : 1 ] وهو نتيجة ما مهّد له به من قوله : { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله } .وفي نداء المؤمنين بوصف { أولي الألباب } إيماء إلى أن العقول الراجحة تدعو إلى تقوى الله لأنها كمال نفساني ، ولأن فوائدها حقيقية دائمة ، ولأن بها اجتناب المضار في الدنيا والآخرة ، قال تعالى :{ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } [ يونس : 62 ، 63 ] ، وقوله : { أولي } معناه ذوي ، وتقدم بيانه عند قوله : { واللائي يئسن من المحيض } [ الطلاق : 4 ] آنفاً و { الذين آمنوا } بدل من { أولي الألباب } . وهذا الاتباع يومىء إلى أن قبولهم الإِيمان عنوان على رجاحة عقولهم . والإتيان بصلة الموصول إشعار بأن الإِيمان سبب للتقوى وجامع لمعظمها ولكن للتقوى درجات هي التي أمروا بأن يحيطوا بها .لله .في هذه الجملة معنى العلة للأمر بالتقوى لأن إنزال الكتاب نفع عظيم لهم مستحق شكرهم عليه .وتأكيد الخبر ب { قدءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايات الله مبينات لِّيُخْرِجَ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } للاهتمام به وبعث النفوس على تصفح هذا الكتاب ومتابعة إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلموالذكر : القرآن . وقد سمي بالذكر في آيات كثيرة لأنه يتضمن تذكير الناس بما هم في غفلة عنه من دلائل التوحيد وما يتفرع عنها من حسن السلوك ، ثم تذكيرهم بما تضمنه من التكاليف وبيناه عند قوله تعالى : { وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر } في سورة [ الحجر : 6 ] . وإنزال القرآن تبليغه إلى الرسول بواسطة الملك واستعير له الإِنزال لأن الذكر مشبه بالشيء المرفوع في السماوات ، كما تقدم في سورة الحجر وفي آيات كثيرة .وجعل إنزال الذكر إلى المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به وعملوا بما فيه فخصصوا هنا من بين جميع الأمم لأن القرآن أنزل إلى الناس كلهم .وقوله : رسولاً } بدل من { ذكراً } بدل اشتمال لأن بين القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ملازمةً وملابسةً فإن الرسالة تحققت له عند نزول القرآن عليه ، فقد أُعمل فعل { أنزل } في { رسولاً } تبعاً لإِعماله في المبدل منه باعتبار هذه المقارنة واشتمال مفهوم أحد الاسمين على مفهوم الآخر . وهذا كما أبدل { رسول من الله } [ البينة : 2 ] من قوله : { حتى تأتيهم البينة في سورة البينة ( 1 ) .والرسول : هو محمد .وأما تفسير الذكر بجبريل ، وهو مروي عن الكلبي لتصحيح إبدال رسولاً } منه ففيه تكلفات لا داعي إليها فإنه لا محيص عن اعتبار بدل الاشتمال ، ولا يستقيم وصف جبريل بأنه يتلو على الناس الآيات فإن معنى التلاوة بعيد من ذلك ، وكذلك تفسير الذكر بجبريل .

رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا

📘 رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)ويجوز أن يكون { رسولاً } مفعولاً لفعل محذوف يدل عليه { أنزل الله } وتقديره : وأرسل إليكم رسولاً ، ويكون حذفه إيجازاً إلاّ أن الوجه السابق أبلغ وأوجز .وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم { مبينات } بفتح الياء . وقرأه الباقون بكسرها ومَآل القراءتين واحد .وجعلت علة إنزال الذكر إخراجَ المؤمنين الصالحين من الظلمات إلى النور وإن كانت علة إنزاله إخراج جميع الناس من ظلمات الكفر وفساد الأعمال إلى نور الإِيمان والأعمال الصالحات ، نظراً لخصوص الفريق الذي انتفع بهذا الذكر اهتماماً بشأنهم .وليس ذلك بدالّ على أن العلة مقصورة على هذا الفريق ولكنه مجرد تخصيص بالذكر . وقد تقدم نظير هذه الجملة في مواضع كثيرة منها أول سورة الأعراف .{ النور وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ } .عطف على الأمر بالتقوى والتنويه بالمتقين والعناية بهم هذا الوعد على امتثالهم بالنعيم الخالد بصيغة الشرط للدلالة على أن ذلك نعيم مقيّد حصوله لراغبيه بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات .و { صالحاً } نعت لموصوف محذوف دل عليه { يعمل } أي عملاً صالحاً ، وهو نكرة في سياق الشرط تفيد العموم كإفادته إياه في سياق النفي . فالمعنى : ويعمل جميع الصالحات ، أي المأمور بها أمراً جازماً بقرينة استقراء أدلة الشريعة .وتقدم نظير هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن .وجملة { قد أحسن الله له رزقاً } حال من الضمير المنصوب في { ندخله } ولذلك فذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإِضمار لتكون الجملة مستقلة بنفسها .والرزق : كل ما ينتفع به وتنكيره هنا للتعظيم ، أي رزقاً عظيماً .وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر { ندخله } بنون العظمة . وقرأه الباقون بالتحتية على أنه عائد إلى اسم الجلالة من قوله : { ومن يؤمن بالله } وعلى قراءة نافع وابن عامر يكون فيه سكون الالتفات .

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا

📘 اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)اسم الجلالة خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو الله . وهذا من حذف المسند إليه لمتابعة الاستعمال كما سماه السكاكي ، فإنه بعد أن جرى ذكر شؤون من عظيم شؤون الله تعالى ابتداء من قوله : { واتقوا الله ربكم } [ الطلاق : 1 ] إلى هنا ، فقد تكرر اسم الجلالة وضميره والإِسناد إليه زهاء ثلاثين مرة فاقتضى المقام عقب ذلك أن يُزاد تعريف الناس بهذا العظيم ، ولمَّا صار البساط مِليئاً بذكر اسمه صح حذفه عند الإِخبار عنه إيجازاً وقد تقدم قوله تعالى : { رب السماوات والأرض وما بينهما } في سورة مريم ( 65 ) ، وكذلك عند قوله : صم بكم عمي } [ البقرة : 18 ] ، وقوله : { مقام إبراهيم } في سورة البقرة ( 125 .( فالجملة على هذا الوجه مستأنفة استئنافاً ابتدائياً .والموصول صفة لاسم الجلالة وقد ذُكرت هذه الصلة لما فيها من الدلالة على عظيم قدرته تعالى ، وعلى أن الناس وهم من جملة ما في الأرض عبيده ، فعليهم أن يتقوه ، ولا يتعدوا حدوده ، ويحاسبوا أنفسهم على مدى طاعتهم إياه فإنه لا تخفى عليه خافية ، وأنه قدير على إيصال الخير إليهم إن أطاعوه وعقابهم إن عصوه .وفيه تنويه بالقرآن لأنه من جملة الأمر الذي يتنزل بين السماء والأرض .والسبع السماوات تقدم القول فيها غير مرة ، وهي سبع منفصل بعضها عن الآخر لقوله تعالى في سورة نوح ( 15 ) : { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً }وقوله : ومن الأرض مثلهن } عطف على { سبع سموات } وهو يحتمل وجهين : أحدهما أن يكون المعطوف قوله : { من الأرض } على أن يكون المعطوف لفظ الأرض ويكون حرف { مِن } مزيداً للتوكيد بناء على قول الكوفيين والأخفش أنه لا يشترط لزيادة { من } أن تقع في سياق النفي والنهي والاستفهام والشرط وهو الأحق بالقبول وإن لم يكن كثيراً في الكلام ، وعدمُ الكثرة لا ينافي الفصاحة ، والتقدير : وخلق الأرض ، ويكون قوله : { مثلهن } حالاً من { الأرض } .ومماثلة الأرض للسماوات في دلالة خلقها على عظيم قدرة الله تعالى ، أي أن خلْق الأرض ليس أضعف دلالة على القدرة من خلق السماوات لأن لكل منهما خصائص دالة على عظيم القدرة .وهذا أظهر ما تُؤَوَّلُ به الآية .وفي إفراد لفظ { الأرض } دون أن يُؤتى به جمعاً كما أُتي بلفظ السماوات إيذان بالاختلاف بين حاليهما .والوجه الثاني : أن يكون المعطوف { مثلهن } ويكون قوله : { ومن الأرض } بياناً للمثل فمصدق { مثلهن } هو { الأرض } . وتكون { مِن } بيانية وفيه تقديم البيان على المبيّن ، وهو وارد غير نادر .فيجوز أن تكون مماثلة في الكُروية ، أي مثل واحدة من السماوات ، أي مثل كوكب من الكواكب السبعة في كونها تسير حول الشمس مثل الكواكب فيكون ما في الآية من الإِعجاز العلمي الذي قدمنا ذكره في المقدمة العاشرة .وجمهور المفسرين جعلوا المماثلة في عدد السبع وقالوا : إن الأرض سبع طبقات فمنهم من قال هي سبع طبقات مُنبسطة تفرق بينها البحار .وهذا مروي عن ابن عباس من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه ، ومنهم من قال هي سبع طباق بعضُها فوق بعض وهو قول الجمهور . وهذا يقرب من قول علماء طبقات الأرض ( الجيولوجيا ) ، من إثبات طبقات أرضية لكنها لا تصل إلى سبع طبقات .وفي «الكشاف» «قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه» اه . وقد علمت أنها لا دلالة فيها على ذلك .وقال المازري في كتابه «المُعلم» على «صحيح مسلم» عند قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الشفعة : «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه من سبع أرضين يوم القيامة» .كان شيخنا أبو محمد عبد الحميد كتب إليّ بعدَ فراقي له : هل وقع في الشرع عما يدل على كون الأرض سبعاً ، فكتبت إليه قولُ الله تعالى : { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن } وذكرت له هذا الحديث فأعاد كتابه إليّ يذكر فيه أن الآية محتملة هل مثلهن في الشكل والهيئة أو مثلهن في العدد . وأن الخبر من أخبار الآحاد ، والقرآن إذا احتمل والخبر إذا لم يتواتر لم يصح القطع بذلك ، والمسألة ليست من العمليات فيتمسك فيها بالظواهر وأخبارِ الآحاد ، فأعدت إليه المجاوبة أحتج لبعد الاحتمال عن القرآن وبسطتُ القول في ذلك وترددتُ في آخر كتابي في احتماللِ ما قال . فقطع المجاوبة اه .وأنت قد تبينت أن إفراد الأرض مشعر بأنها أرض واحدة وأن المماثلة في قوله : { مثلهن } راجعة إلى المماثلة في الخلق العظيم ، وأما الحديث فإنه في شأن من شؤون الآخرة وهي مخالفة للمتعارف ، فيجوز أن يطوق الغاصب بالمقدار الذي غصبه مضاعفاً سبع مرات في الغِلظ والثقل ، على أن عدد السبع يجوز أن يراد به المبالغة في المضاعفة . ولو كان المراد طبقات معلومة لقال : طوقه من السبع الأرضين بصيغة التعريف . وكلام عبد الحميد أدخل في التحقيق من كلام المازري .وعلى مجاراة تفسير الجمهور لقوله : { ومن الأرض مثلهن } من المماثلة في عدد السبع ، فيجوز أن يقال : إن السبع سبع قطع واسعة من سطح الأرض يفصل بينها البحار نسميها القارات ولكن لا نعني بهذه التسمية المعنى الاصطلاحي في كتب الجغرافيا القديمة أو الحديثة بل هي قارات طبيعية كان يتعذر وصول سكان بعضها إلى بعضها الآخَر في الأزمان التي لم يكن فيها تنقّل بحري وفيما بعدها مما كان ركوب البحر فيها مهولاً . ! وهي أن آسيا مع أوروبا قارة ، وإفريقيا قارة ، وأستراليا قارة ، وأميركا الشمالية قارة ، وأميركا الجنوبية قارة ، وجرولندة في الشمال ، والقارة القطبية الجنوبية . ولا التفات إلى الأجزاء المتفرقة من الأرض في البحار ، وتكون { من } تبعيضية لأن هذه القارات الاصطلاحية أجزاء من الأرض .

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا

📘 فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } .تفريع على جميع ما تقدم من أحكام العدة معطوف على جملة { وأحصوا العدة } [ الطلاق : 1 ] لأن إحصاءها بحفظ مدتها واستيعاب أيامها فإذا انتهت المدة فقد أعذر الله لهما والزيادة عليها إضرار بأحدهما أو بكليهما وفائدة الآجال الوقوف عند انتهائها .وبلوغ الأجل أصله انتهاء المُدة المقدرة له كما يؤذن به معنى البلوغ الذي هو الوصول إلى المطلوب على تشبيه الأجل المعين بالمكان المسير إليه وشاع ذلك في الاستعمال فالمجاز في لفظ الأجل وتبعه المجاز في البلوغ وقد استعمل البلوغ في هذه الآية في مقاربة ذلك الإِنتهاء مبالغة في عدم التسامح فيه وهذا الاستعمال مجاز آخر لمشابهة مقاربة الشيء بالحصول فيه والتلبس به .وقرينة المجاز هنا هو لفظ الأجل لأنه لا تتصور المراجعة بعد بلوغ الأجل لأن في ذلك رفع معنى التأجيل .ومنه قوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } في سورة [ البقرة : 231 ] .والإمساك : اعتزام المراجعة عبر عنه بالإمساك للإيماء إلى أن المطلقة الرجعية لها حكم الزوجة فيما عدا الاستمتاع فكأنه لما راجعها قد أمسكها أن لا تفارقه فكأنه لم يفارقها لأن الإِمساك هو الضن بالشيء وعدم التفريط فيه ومنه قوله تعالى : { أمسك عليك زوجك } [ الأحزاب : 37 ] وأنه إذا لم يراجعها فكأنه قد أعاد فراقها وقسا قلبه .ومن أجل هذه النكتة جعل عدم الإمساك فراقاً جديداً في قوله : { أو فارقوهن بمعروف } .والأمر في { فأمسكوهن } { أو فارقوهن } للإِباحة ، و { أو } فيه للتخيير .والباء في { بمعروف } للملابسة أي ملابسة كل من الإِمساك والفراق للمعروف .والمعروف : هو ما تعارفه الأزواج من حسن المعاملة في المعاشرة وفي الفراق .فالمعروف في الإِمساك : حسن اللقاء والاعتذارُ لها عما فرط والعودُ إلى حسن المعاشرة .والمعروف في الفراق : كف اللسان عن غِيبتها وإظهارِ الاستراحة منها .والمعروف في الحالين من عمل الرَّجل لأنه هو المخاطب بالإِمساك أو الفراق .وأما المعروف الذي هو من عمل المرأة فمقرر من أدلة أخرى كقوله تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } [ البقرة : 228 ] .وتقديم الإِمساك أعني المراجعة على إمضاء المفارقة ، إيماء إلى أنه أرضى لله تعالى وأَوفَقُ بمقاصد الشريعة مع ما تقدم من التعبير عن المراجعة بالإمساك ، ففهم أن المراجعة مندوب إليها لأن أبْغض الحلال إلى الله الطلاق .ولمَّا قيد أمر الإباحة من قوله : { فأمسكوهن } { أو فارقوهن } ، بقيد بالمعروف ، فُهم منه أنّه إن كان إمساك دون المعروف فهو غير مأذون فيه وهو الإمساك الذي كان يفعله أهل الجاهلية أن يطلق الرجل امرأته فإذا قاربت انتهاء عدتها راجعها أياماً ثم طلقها يفعل ذلك ثلاثاً ليطيل عليها من العدة فلا تتزوج عدة أشهر إضراراً بها .وقد تقدم هذا عند قوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن ، إلى قوله : ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } في سورة [ البقرة : 231 ] .{ ه4س65ش2ن8/ن11-->بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ } .ظاهر وقوع هذا الأمر بعد ذكر الإِمساك أو الفراق ، أنه راجع إلى كليهما لأن الإِشهاد جُعل تتمة للمأمور به في معنى الشرط للإِمساك أو الفراق لأن هذا العطف يشبه القيد وإن لم يكن قيداً وشأن الشروط الواردةِ بعد جمل أن تعود إلى جميعها .وظاهر صيغة الأمر الدلالة على الوجوب فيتركب من هذين أن يكون الإِشهاد على المراجعة وعلى بتّ الطلاق واجباً على الأزواج لأن الإِشهاد يرفع أشكالاً من النوازل وهو قول ابن عباس وأخذ به يحيى بن بُكير من المالكية والشافعي في أحد قوليه وابن حنبل في أحد قوليه وروي عن عمران بن حصين وطَاوس وإبراهيم وأبي قلابة وعطاء . وقال الجمهور : الإِشهاد المأمور به الإِشهاد على المراجعة دون بتّ الطلاق .أما مقتضى صيغة الأمر في قوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل } فقيل هو مستحب وهو قول أبي حنيفة والمشهورُ عن مالك فيما حكاه ابن القصار ولعل مستند هذا القول عدمُ جريان العمل بالتزامه بين المسلمين في عصر الصحابة وعصور أهل العلم ، وقياسه على الإِشهاد بالبيع فإنهم اتفقوا على عدم وجوبه وكلا هذين مدخول لأن دعوى العمل بترك الإِشهاد دونها مَنع ، ولأن قياس الطلاق والرجعة على البيع قد يقدح فيه بوجود فارق معتبر وهو خطر الطلاق والمراجعة وأهمية ما يترتب عليهما من الخصومات بين الأنساب ، وما في البيوعات مما يغني عن الإِشهاد وهو التقايض في الأعواض . وقيل الأمر للوجوب المراجعة دون الفرقة وهو أحد قولي الشافعي وأحمد ونسبه إسماعيل بن حماد من فقهاء المالكية ببغداد إلى مالك وهو ظاهر مذهب ابنِ بكير .واتفق الجميع على أن هذا الإِشهاد ليس شرطاً في صحة المراجعة أو المفارقة لأنه إنما شرع احتياطاً لحقهما وتجنباً لنوازل الخصومات خوفاً من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق ، أو أن تموت هي فيدعي هو ذلك ، وكأنهم بنوه على أن الأمر لا يقتضي الفور ، على أن جعل الشيء شرطاً لغيره يحتاج إلى دليل خاص غير دليل الوجوب لأنه قد يتحقق الإثم بتركه ولا يبطل بتركه ما أمر بإيقاعه معه مثل الصلاة في الأرض المغصوبة ، وبالثوب المغصوب . قال الموجبون للإِشهاد : لو راجع ولم يشهد أو بتّ الفراق ولم يشهد صحت مراجعته ومفارقته وعليه أن يشهد بعد ذلك .قال يحيى بن بكير : معنى الإشهاد على المراجعة والمفارقة أن يشهد عند مراجعتها إنْ راجعها ، وعند انقضاء عدتها إن لم يراجعها أنه قد كان طلقها وأن عدتها قد انقضت .ولفقهاء الأمصار في صفة ما تقع المراجعة من صيغة بالقول ومن فعل ما هو من أفعال الأزواج ، تفاصيل محلها كتب الفروع ولا يتعلق بالآية إلا ما جعله أهل العلم دليلاً على المراجعة عند من جعله كذلك .{ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشهادة } .عطف على { وأشهدوا ذوي عدل منكم } .والخطاب موجه لكل من تتعلق به الشهادة من المشهود عليهم والشهود كلٌ يأخذ بما هو حظه من هذين الخطابين . وليس هو من قبيل { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبكِ } [ يوسف : 29 ] لظهور التوزيع هناك باللفظ دون ما هنا فإنه بالمعنى فالكل مأمورون بإقامة الشهادة .فتعريف الشهادة للاستغراق ، أي كل شهادة وهو استغراق عرفي لأن المأمور به الشهادة الشرعية .ومعنى إقامة الشهادة : إيقاعها مستقيمة لا عوج فيها فالإقامة مستعارة لإيقاع الشهادة على مستوفيها ما يجب فيها شرعاً مما دلت عليه أدلة الشريعة وهذه استعارة شائعة وتقدم عند قوله تعالى : { وأقوم للشهادة } في سورة [ البقرة : 282 ] .وقوله : { لله } ، أي لأجل الله وامتثال أمره لا لأجل المشهود له ولا لأجل المشهود عليه ولا لأجل منفعة الشاهد والإبقاء على راحته . وتقدم بعض هذا عند قوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } في سورة [ البقرة : 282 ] .{ ه4س65ش2ن15/ن23-->لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم } .الإِشارة إلى جميع ما تقدم من الأحكام التي فيها موعظة للمسلمين من قوله : { وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم } [ الطلاق : 1 ] ، إلى قوله : { وأقيموا الشهادة لله } .والوعظ : التحذير مما يضر والتذكير المليّن للقلوب وقد تقدم عند قوله تعالى : { ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله } في سورة [ البقرة : 232 ] وعند قوله تعالى : { يعظكم الله أن تعودوا لمثله } في سورة [ النور : 17 ] .الاخر وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ } { مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْراً } .اعتراض بين جملة { وأقيموا الشهادة } وجملة { واللائي يئسن من المحيض } [ الطلاق : 4 ] الآية ، فإن تلك الأحكام لما اعتبرت موعظة بقوله : { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } أعقب ذلك بقضيّة عامة ، وهي أن تلك من تقوى الله تعالى وبما لتقوى الله من خير في الدنيا والآخرة على عادة القرآن من تعقيب الموعظة والترهيب بالبشارة والترغيب .ولمّا كان أمر الطلاق غير خال من حرج وغم يعرض للزوجين وأمر المراجعة لا يخلو في بعض أحواله من تحمل أحدهما لبعض الكره من الأحوال التي سببت الطلاق ، أعلمهما الله بأنه وعد المتقين الواقفين عند حدوده بأن يجعل لهم مخرجاً من الضائقات ، شبه ما هم فيه من الحرج بالمكان المغلق على الحالّ فيه وشبه ما يمنحهم الله به من اللطف وإجراء الأمور على ما يلائم أحوالهم بجعللِ منفذ في المكان المغلق يتخلص منه المتضائق فيه .ففي الكلام استعارة أن إحداهما ضمنية مطوية والأخرى صريحة وشمل المَخْرَج ما يحف من اللطف بالمتقين في الآخرة أيضاً بتخليصهم من أهوال الحساب والانتظار فالمخرج لهم في الآخرة هو الإِسراع بهم إلى النعيم .ولما كان من دواعي الفراق والخلاف بين الزوجين ما هو من التقتير في الإِنفاق لضيق ذات اليد فكان الإحجام عن المراجعة عارضاً كثيراً للناس بعد التطليق ، أُتبع الوعد بجعل المخرَج للمتقين بالوعد بمخرج خاص وهو مخرج التوسعة في الرزق .وقوله : { من حيث لا يحتسب } احتراس لئلا يتوهَّم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل مالاً ينفق منه ، فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهيىء له أسباباً غير مرتقبة .فمعنى { من حيث لا يحتسب } : من مكان لا يحتسب منه الرزق أي لا يظن أنه يرزق منه .و { حيثُ } مستعملة مجازاً في الأحوال والوجوه تشبيهاً للأحوال بالجهات لأنها لما جعلت مقارنة للرزق أشبهت المكان الذي يَرِد منه الوارد ولذلك كانت { مِن } هنا للابتداء المجازي تبعاً لاستعارة { حيث } . ففي حرف { مِن } استعارة تبعية . وذكر الواحدي في «أسباب النزول» أنها نزلت في شأن عوف بن مالك الأشجعي إذْ أسَرَ المشركون ابنه سالماً فأتى عوف النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ذلك وأن أمه جزعت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتق الله واصبر» وأمره وزوجَه أن يكثرا قولاً : لا حول ولا قوة إلا بالله فغفل المشركون عن الابن فَسَاقَ عنزاً كثيرة من عنز المشركين وجاء بها المدينة فنزلت الآية ، فيجوز أن يكون نزولها في أثناء نزول هذه السورة فصادفت الغرضين ، ويكون ذلك من قبيل معجزات القرآن .{ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بالغ } .تكملة للتي قبلها فإن تقوى الله سبب تفريج الكُرَب والخَلاص من المضائق ، وملاحظةُ المسلم ذلك ويقينُه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى يحقق وعد الله إياه بأن يجعل له مخرجاً ويرزقَه من حيث لا يحتسب .وَحَسْب : وصف بمعنى كاففٍ . وأصله اسم مصدر أو مصدر .وجملة { إن الله بالغ أمره } في موضع العلة لجملة { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } ، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة فإن الله إذا وعد وعداً فقد أراده وإذا أراد الله أمراً يسَّر أسبابه .ولعل قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدراً } إشارة إلى هذا المعنى ، أي علم الله أن يكفي من يتوكل عليه مهمّة فقدّر لذلك أسبابه كما قدّر أسباب الأشياء كلها فلا تشُكّوا في إنجاز وَعده فإنه إذا أراد أمراً يسّر أسبابه من حيث لا يحتسب الناس وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة .ومعنى { بالغ أمره } : واصلٌ إلى مراده . والبلوغ مجاز مشهور في الحصول على المراد . والأمر هنا بمعنى الشأن .وعن عبد الله بن رافع لما نزل قوله تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ( أي بعضهم ) : فنحن إذا توكلنا نرسل ما كان لنا ولا نحفظه فنزلت { إن الله بالغ أمره } ، أي فيكم وعليكم اه .وقرأ الجمهور { بالغٌ } بالتنوين و { أمرَه } بالنصب . وقرأه حفص عن عاصم { بالغُ أمرهِ } بإضافة { بالغ } إلى { أمره } .{ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَىْءٍ } .لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت . فهذه الجملة لها موْقع الاستئناف البياني ناشىء عما اشتملت عليه جمل { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } ، إلى قوله : { إن الله بالغ أمره } لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل بعرضها على ارتباك أحْواله ، أو يتردد يقينه فيقول : أين أنا من تحصيل هذا ، حين يُتبع نظره فيرى بَوْنا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس .فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيراً بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدراً .ولها موقع التعليل لجملة { وأحصوا العدة } [ الطلاق : 1 ] فإن العِدة من الأشياء فلما أمر الله بإحصاء أمرها عَلّل ذلك بأن تقدير مدة العدة جعله الله ، فلا يسوغ التهاون فيه . ولهذا موقع التذييل لجملة { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } [ الطلاق : 1 ] ، أي الذي وضع تلك الحدود قد جعل لكل شيء قدراً لا يعدوه كما جعل الحدود .ولها موقع التعليل لجملة { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } ، لأن المعنى إذا بلغن القَدْر الذي جعله الله لمدة العدة فقد حصل المقصد الشرعي الذي أشار إليه قوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [ الطلاق : 1 ] فالمعنى : فإن لم يُحدث الله أمر المراجعة فقد رفق بكم وحطّ عنكم امتداد العدة .ولها موقع التعليل لجملة { وأقيموا الشهادة لله } فإن الله جعل الشهادة قدراً لرفع النزاع .فهذه الجملة جُزء آية وهي تحتوي على حقائق من الحكمة .ومعنى { لكل شيء } لكل موجود ، أي لكل حادث فالشيء الموجود سواء كان ذاتاً أو معنى من المعاني قال تعالى : { وكل شيء فعلوه في الزبر } [ القمر : 52 ] . فعموم قوله : { لكل شيء } صريح في أن ما وعد الله به يَجعل له حين تكوينه قَدْراً .قال الراغب في «مفرداته» : وذلك أن فعل الله ضربان : ضرب أوجده بالفعل ، ومعنى إيجاده بالفعل أنه أبدعه كاملاً دفعة لا تعتريه الزيادة والنقصان إلى أن يشاء أن يغنيه أو يبدله كالسماوات وما فيها . ومنها ما جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزاءَه بالصلاحية وقدَّره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون أن ينبت منها تفاح أو زيتون .وتقديره نطفة الإِنسان لأن يكون منها إنسان دون حيوان آخر . فتقدير الله على وجهين : أحدهما بالحُكم منه أن يَكون كذا أو لا يكون ، كذا إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الإِمكان . وعلى ذلك قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدراً } . والثاني بإعطاء القدرة عليه ، وعلى ذلك قوله : { فقدرنا فنعم القادرون } [ المرسلات : 23 ]

وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا

📘 وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)أو يكون من قبيل قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدراً } اه .والقَدْر : مصدر قَدَره المتعدي إلى مفعول بتخفيف الدال الذي معناه وَضع فيه بمقدار كمية ذاتيةً أو معنوية تُجعل على حسب ما يتحمله المفعول . فقَدر كلّ مفعولٍ لفعل قَدَرَ ما تتحمله طاقته واستطاعتُه من أعمال ، أو تتحمله مساحته من أشياء أو يتحمله وَعْيه لما يَكُدُّ به ذهنه من مدارك وأفهام . ومن فروع هذا المعنى ما في قوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } في سورة [ البقرة : 286 ] . وقوله هنا : { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } [ الطلاق : 7 ] .ومن جزئيات معنى القَدْر ما يسمى التقدير : مصدر قَدَّر المضاعف إذا جَعَل شيئاً أو أشياء على مقدار معين مناسب لما جُعل لأجله كقوله تعالى : { وقدر في السرد } في سورة [ سبأ : 11 ]

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا

📘 وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) { واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ } .عطف على قوله : { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] فإن العدة هنالك أريد بها الأقراء فأشعر ذلك أن تلك المعتدة ممن لها أقراء ، فبقي بيان اعتداد المرأة التي تجاوزت سن المحيض أو التي لم تبلغ سن من تحيض وهي الصغيرة . وكلتاهما يصدق عليها أنها آيسة من المحيض ، أي في ذلك الوقت .والوقف على قوله : { واللائي لم يحضن } ، أي هن معطوفات على الآيسين .واليأس : عدم الأمل . والمأيوس منه في الآية يعلم من السياق من قوله : { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] ، أي يئسن من المحيض سواء كان اليأس منه بعد تعدده أو كان بعدم ظهوره ، أي لم يكن انقطاعه لمرض أو إرضاع . وهذا السنّ يختلف تحديده باختلاف الذوات والأقطار كما يختلف سن ابتداء الحيض كذلك . وقد اختُلف في تحديد هذا السنّ بعدد السنين فقيل : ستون سنة ، وقيل : خمس وخمسون ، وترك الضبط بالسنين أولى وإنما هذا تقريب لإبّان اليأس .والمقصود من الآية بيِّن وهي مخصصة لعموم قوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } من سورة [ البقرة : 228 ] . وقد نزلت سورة الطلاق بعد سورة البقرة .وقد خفي مفاد الشرط من قوله : إن ارتبتم } وما هو متصل به . وجمهور أهل التفسير جعلوا هذا الشرط متصلاً بالكلام الذي وقع هو في أثنائه ، وإنه ليس متصلاً بقوله : { لا تخرجوهن من بيوتهن } [ الطلاق : 1 ] في أول هذه السورة خلافاً لشذوذ تأويل بعيد وتشتيت لشمل الكلام ، ثم خفيَ المراد من هذا الشرط بقوله : { إن ارتبتم } .وللعلماء فيه طريقتان :الطريقة الأولى : مشَى أصحابها إلى أن مرجع اليأس غير مرجع الارتياب باختلاف المتعلق ، فروى أشهب عن مالك أن الله تعالى لما بين عدة ذوات القُروء وذوات الحمل ، أي في سورة البقرة ، وبقيت اليائسة والتي لم تحض ارتاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أمرهما فنزلت هذه الآية ، ومثله مروي عن مجاهد ، وروى الطبري خبراً عن أبيّ بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اعتداد هاتين اللتين لم تذكرا في سورة البقرة ، فنزلت هذه الآية . فجعلوا حرف { إنْ } بمعنى ( إذْ ) وأن الارتياب وقع في حكم العدة قبل نزول الآية ، أي إذ ارتبتم في حكم ذلك فبيّنّاه بهذه الآية قال ابن العربي : حديث أُبّي غير صحيح . وأنا أقول : رواه البيهقي في «سننه» والحاكم في «المستدرك» وصَحّحه . والطبراني بسنده عن عَمرو بن سالم أن أبَيَّا قال : وليس في رواية الطبري ما يدل على إسناد الحديث .وهو في رواية البيهقي بسنده إلى أبي عثمان عُمر بن سالم الأنصاري عن أُبي بن كعب وهو منقطع ، لأن أبا عثمان لم يلق أُبي بن كعب وأحسب أنه في «مستدرك الحاكم» كذلك لأن البيهقي رواه عن الحاكم فلا وجه لقول ابن العربي : هو غير صحيح .فإن رجال سنده ثقات .وفي «أسباب النزول» للواحدي عن قتادة أن خلاد بن النعمان وأبيَّا سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية . وقيل : إن السائل معاذ بن جبل سأل عن عدة الآيسة .فالريبة على هذه الطريقة تكون مراداً بها ما حصل من التردد في حكم هؤلاء المطلقات فتكون جملة الشرط معترضة بين المبتدأ وهو الموصول وبين خبره وهو جملة { فعدتهن ثلاثة أشهر } .والفاء في { فعدتهن } داخلة على جملة الخبر لما في الموصول من معنى الشرط مثل قوله تعالى : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } [ النساء : 16 ] ومثله كثير في الكلام .والارتياب على هذا قد وقع فيما مضى فتكون { إنْ } مستعملة في معنى اليقين بلا نكتة .والطريقة الثانية : مشى أصحابها إلى أن مرجع اليأس ومرجع الارتياب واحد ، وهو حالة المطلقة من المحيض ، وهو عن عكرمة وقتادة وابن زيد وبه فسر يحيى بن بكير وإسماعيل بن هاد مِن المالكية ونسبه ابن لبابة من المالكية إلى داود الظاهري .وهذا التفسير يمحض أن يكون المراد من الارتياب حصول الريب في حال المرأة .وعلى هذا فجملة الشرط وجوابه خَبر عن { اللاء يئسن } ، أي إن ارتبن هُن وارتبتُم أنتم لأجل ارتيابهن ، فيكون ضمير جمع الذكور المخاطبين تغليباً ويبقى الشرط على شرطيته . والارتياب مستقبل والفاء رابطة للجواب .وهذا التفسير يقتضي أن يكون الاعتداد بثلاثة أشهر مشروطاً بأن تحصل الريبة في يأسها من المحيض فاصطَدم أصحابُه بمفهوم الشرط الذي يقتضي أنه إن لم تحصل الريبة في يأسهن أنهن لا يعتددن بذلك أو لا يعتددن أصلاً فنسب ابنُ لبابة ( من فقهاء المالكية ) إلى داود الظاهري أنه ذهب إلى سقوط العدة عن المرأة التي يُوقَن أنها يائسة .قلت ولا تُعرف نسبة هذا إلى داود . فإن ابن حزم لم يحكه عنه ولا حكاه أحد ممن تعرضوا لاختلاف الفقهاء ، قال ابن لبابة : وهو شذوذ ، وقال ابن لبابة : وأمّا ابن بكير وإسماعيلُ بن حمَّاد ، أي من فقهاء المالكية فجعلا المرأة المتيقّن يأسها ملحقةً بالمرتابة في العدة بطريق القياس يريد أن العدة لها حكمتان براءة الرحم ، وانتظار المراجعة ، وأما الذين لا يعتبرون مفهوم المخالفة فهم في سعة مما لزم الذين يعتبرونه .وأصحاب هذا الطريق مختلفون في الوجهة وفي محمل الآية بحسبها : فقال عكرمة وابن زيد وقتادة : ليس على المرأة المرتاب في معاودة الحيض إليها عدّة أكثر من ثلاثة أشهر تعلقاً بظاهر الآية ( ولعل علة ذلك عندهم أن ثلاثة الأشهر يتبيّن فيها أمر الحمل فإن لم يظهر حمل بعد انقضائها تمت عدة المرأة ) ، لأن الحمل بعد سنّ اليأس نادر فإذا اعترتها ريبة الحمل انتَقل النظر إلى حكم الشك في الحمل وتلك مسألة غير التي نزلت في شأنها الآية .وقال الأكثرون من أهل العلم : إن المرتاب في يأسها تمكث تسعة أشهر ( أي أمدَ الحمللِ المعتادِ ) فإن لم يظهر بها حمل ابتْدأت الاعتداد بثلاثة أشهر فتكمل لها سنةٌ كاملة . وأصل ذلك ما رواه سعيد بن المسيب من قضاء عمر بن الخطاب ولم يخالفه أحد من الصحابة ، وأخذ به مالك . وعن مالك في «المدونة» : تسعة أشهر للريبة والثلاثة الأشهر هي العدة . ولعلهم رأوا أن العدة بعد مضي التسعة الأشهر تعبُّد لأن ذلك هو الذي في القرآن وأما التسعة الأشهر فأوجبها عمر بن الخطاب لعله بالاجتهاد ، وهو تقييد للإِطلاق الذي في الآية .وقال النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي : تعتد المرتاب في يأسها بالأقراء ( أي تنتظر الدم إلى أن تبلغ سن من لا يشبه أن تحيض ولو زادت مدة انتظارها على تسعة أشهر ) . فإذا بلغت سن اليأس دون ريبة اعتدّت بثلاثة أشهر من يومئذٍ . ونحن نتأول له بأن تقدير الكلام : فعدتهن ثلاثة أشهر ، أي بعد زوال الارتياب كما سنذكره ، وهو مع ذلك يقتضي أن هذه الثلاثة الأشهر بعد مضي تسعة أشهر أو بعد مضي مدة تبلغ بها سن من لا يشبه أن تحيض تعبدٌ ، لأن انتفاء الحمل قد اتضح وانتظار المراجعة قد امتدّ . إلا أن نعتذر لهم بأن مدة الانتظار لا يتحفز في خِلالها المطلِّق للرأي في أمر المراجعة لأنه في سعة الانتظار فيُزاد في المدة لأجل ذلك ، وفي «تفسير القرطبي» : «قال عكرمة وقتادة : من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض تحيض في أول الشهر مراراً ، وفي الأشهر مرة ( أي بدون انضباط ) » اه . ونقل الطبري مثل هذا الكلام عن الزهري وابن زيد ، فيجب أن يصار إلى هذا الوجه في تفسير الآية . والمرأة إذا قاربت وقت اليأس لا ينقطع عنها المحيض دفعة واحدة بل تبقى عدة أشهر ينتابها الحيض غِبًّا بدون انتظام ثم ينقطع تماماً .وقوله تعالى : { واللائي لم يحضن } عطف على { واللائي يئسن } والتقدير : عدتهن ثلاثة أشهر . ويحسن الوقف على قوله : { فعدتهن ثلاثة أشهر } .{ يَحِضْنَ وأولات الاحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ } .معطوفة على جملة { واللائي لم يحضن } فهي إتمام لأحوال العدة المجمل في قوله تعالى : { وأحصوا العدة } [ الطلاق : 1 ] وتقدير الكلام : وأولات الأحمال منهن ، أي من المطلقات أجلهن أن يضعن حملهن .فحصل بهذه الآية مع التي قبلها تفصيل لأحوال المطلقات وحصل أيضاً منها بيان لإِجمال الآية التي في سورة البقرة .{ وأولات } اسم جَمع لذاتتٍ بمعنى : صاحبة . وذات : مؤنث ذو ، بمعنى : صاحب . ولا مفرد ل { أولات } من لفظه كما لا مفرد للفظ ( أولو ) و { أولات } مثل ذوات كما أن أولو مثل ذَوُو . ويكتب { أولات } بواو بعد الهمزة في الرسم تبعاً لكتابة لفظ ( أولو ) بواو بعد الهمزة لقصد التفرقة في الرسم بين أولي في حالة النصب والجر وبين حرف ( إلى ) .وليتهم قصروا كتابته بواو بعد الهمزة على لفظ أولي المذكر المنصوب أو المجرور وتركوا التكلف في غيرهما . [وجعلت عدة المطلقة الحامل منهَّاة بوضع الحمل لأنه لا أدل على براءة الرحم منه ، إذ الغرض الأول من العدة تحقق براءة الرحم من ولدٍ للمطلِّق أو ظهور اشتغال الرحم بجنين له . وضمّ إلى ذلك غرض آخر هو ترقب ندم المطلق وتمكينه من تدارك أمره بالمراجعة ، فلما حصل الأهم أُلغي ما عداه رعْياً لحق المرأة في الانطلاق من حرج الانتظار ، على أن وضع الحمل قد يحصل بالقرب من الطلاق فألغي قصد الانتظار تعليلاً بالغالب دون النادر ، خلافاً لمن قال في المتوفى عنها : عليها أقصى الأجلين وهو منسوب إلى علي بن أبي طالب وابن عباس .وبهذا التفسير لا تتعارض هذه الآية مع آية عدة المتوفى عنها التي في سورة [ البقرة : 234 ] { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } لأن تلك في وادٍ وهذه في وادٍ ، تلك في شأن المتوفى عنهن وهذه في شأن المطلقات .ولكن لما كان أجل أربعة أشهر وعشر للمتوفى عنها منحصرةً حكمتُه في تحقق براءة رحم امرأة المتوفى من ولدٍ له إذ له فائدة فيه غيرَ ذلك ( ولا يتوهم أن الشريعة جعلت ذلك لغرض الحزن على الزوج المتوفى للقطع بأن هذا مقصد جاهلي ) ، وقد دلت الشريعة في مواضع على إبطاله والنهي عنه في تصاريف كثيرة كما بينّاه في تفسير قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن } الخ في سورة [ البقرة : 234 ] .وقد علمنا أن وضع الحمل غاية لحصول هذا المقصد نجم من جهة المعنى أن المتوفى عنها الحاملَ إذا وضعت حملها تخرج من عدة وفاة زوجها ولا تقضي أربعة أشهر وعشراً كما أنها لو كان أمد حملها أكثر من أربعة أشهر وعشر لا تقتصر على الأربعة الأشهر وعشر إذ لا حكمة في ذلك .من أجْل ذلك كانت الآية دالة على أن عدة الحامل وضع حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم كانت معتدة من وفاة .ومن أجل ذلك قال جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم : إن عدة الحامل المتوفّى عنها كعدتها من الطلاق وضع حملها غير أن أقوالهم تدل على أن بينهم من كانوا يرون في تعارض العمومين أن العامّ المتأخر منهما ينسخ العامّ الآخر وهي طريقة المتقدمين .روى أهل الصحيح أن عبد الله بن مسعود لما بلغه أن عليّ بن أبي طالب قال في عدة الحامل المتوفّي عنها : إن عليها أقصَى الأجلين أي أجل وضع الحمل وأجل الأربعة الأشهر والعشر قال ابن مسعود : لَنَزَلَتْ سورة النساء القُصرى أي سورة الطلاق بعد الطولى أي بعد طولى السور وهي البقرة ، أي ليست آية سورة البقرة بناسخة لما في آية سورة الطلاق .ويعضدهم خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية توفي زوجها سعدُ بن خولة في حجة الوداع بمكة وتركها حاملاً فوضعت بعد وفاته بخمس عشرة ليلة وقيل بأربعين ليلة . فاستأذنت رسولَ الله في التزوج فقال لها : قد حَلَلْتتِ فانكحي إن شئتِ . روته أم سلمة أم المؤمنين وقبله معظم الصحابة الذين بلغهم . وتلقاه الفقهاء بعدهم بالقبول ويشهد له بالمعنى والحكمة كما تقدم آنفاً .واختلف المتأخرون من أهل الأصول في وجه العمل في تعارض عمومين كل واحد منهما عام من وجه مثل هاتين الآيتين فالجمهور درجوا على ترجيح أحدهما بمُرجح والحنفية جعلوا المتأخِر من العمومين ناسخاً للمتقدم . فقوله : وأولات الأحمال } لأن الموصول من صيغ العموم فيعم كل حامل معتدة سواء كانت في عدة طلاق أو في عدة وفاة ، وقوله : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } [ البقرة : 234 ] تَعمّ كلّ امرأة تركها الميت سواء كانت حاملاً أو غير حامل ، لأن { أزواجاً } نكرة وقعت مفعولَ الصلة وهي { يَذرون } المشتملة على ضمير المَوصول الذي هو عام فمفعوله تبع له في عمومه فيشمل المتوفى عنهن الحوامل وهن ممن شملهن عموم { أولات الأحمال } فتعارض العمومان كل من وجه ، فآية { وأولات الأحمال } اقتضت أن الحوامل كلهن تنتهي عدتهن بالوضع وقد يكون الوضع قبل الأربعة الأشهر والعشر ، وآية البقرة يقتضي عمومها أن المتوفّى عنهن يتربصن أربعة أشهر وعشراً . وقد يتأخر هذا الأجل عن وضع الحمل .فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم { وأولات الأحمال } على عموم { ويذرون أزواجاً } [ البقرة : 234 ] من وجوه .أحدها : أن عموم { وأولات الأحمال } حاصل بذات اللفظ لأن الموصول مع صلته من صيغ العموم ، وأما قوله : { ويذرون أزواجاً } فإن { أزواجاً } نكرة في سياق الإِثبات فلا عموم لها في لفظها وإنما عرض لها العموم تبعاً لعموم الموصول العامل فيها وما كان عمومه بالذات أرجح مما كان عمومه بالعرض .وثانيها : أن الحكم في عموم { وأولات الأحمال } علق بمدلول صلة الموصول وهي مشتق ، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بتعليل ما اشتق منه بخلاف العموم الذي في سورة البقرة ، فما كان عمومه معلَّلاً بالوصف أرجح في العمل مما عمومه غير معلل .وثالثها : قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدّة سُبَيْعة الأسلمية .وذهب الحنفية إلى أن عموم { وأولات الأحمال } ناسخ لعموم قوله : { ويذرون أزواجاً } [ البقرة : 234 ] في مقدار ما تعارضا فيه .ومآل الرأيين واحد هو أن عدة الحامل وضعُ حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم من وفاة زوجها .والصحيح أن آية البقرة لم يرتفع حكمها وشذ القائلون بأن المتوفّى عنها إن لم تكن حاملاً ووضعت حملها يجب عليها عدة أربعة أشهر وعشر .وقال قليل من أهل العلم بالجمع بين الآيتين بما يحقق العمل بهما معاً فأوجبوا على الحامل المتوفّى عنها زوجها الاعتداد بالأقصى من الأجلين أجل الأربعة الأشهر والعشر .وأجل وضع الحمل ، وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس . وقصدهم من ذلك الاحتياط لأنه قد تأتَّى لهم هنا إذ كان التعارض في مقدار زمنين فأمكن العمل بأوسعهما الذي يتحقق فيه الآخَر وزيادة فيصير معنى هذه الآية { أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ما لم تكن عدة وفاة ويكون معنى آية سورة البقرة وأزواج المتوفَّيْن يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ما لم تكنَّ حوامل فيزدْن تربّصاً إلى وضع الحمل . ولا يجوز تخصيص عموم { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } [ البقرة : 234 ] بما في آية { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } من خصوص بالنظر إلى الحوامل المتوفَّى عنهن ، إذ لا يجوز أن تنتهي عدة الحامل المتوفّى عنها التي مضت عليها أربعة أشهر وعشر قبل وضع حملها من عِدة زوجها ، وهي في حالة حمل لأن ذلك مقرر بطلانه من عدة أدلة في الشريعة لا خلاف فيها وإلى هذا ذهب ابن أبي ليلى .وفي «صحيح البخاري» «عن محمد بن سيرين قال : كنت في حلقة فيها عُظْم من الأنصار ( أي بالكوفة ) وفيهم عبد الرحمان بن أبي ليلى وكان أصحابه يعظمونه فذَكَر آخرَ الأجلين ، فحدثتُ حديث عبد الله بن عتبة في شأن سُبيعة بنت الحارث فقال عبد الرحمان لكن عمه ( أي عم عتبة وهو عبد الله بن مسعود ) كان لا يقول ذلك ( أي لم يحدثنا به ) فقلت : إني إذن لجَرِيء إن كذبتُ على رجل في جانب الكوفة ( وكان عبد الله بن عتبة ساكناً بظاهر الكوفة ) فخرجتُ فلقيت عامراً أو مالك بن عوف فقلت : كيف كان قول ابن مسعود في المتوفّى عنها زوجها وهي حامل ، فقال : قال ابن مسعود : أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى ( أي البقرة ) .وفي «البخاري» عن أبي سلمة جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال : أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة فقال ابن عباس : آخرُ الأجلين : فقلتُ أنا { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } . قال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي ( أي مع أبي سلمة ) فأرسل ابن عباس كريباً إلى أمّ سلمة يسألها فقالت : قُتل ( كذا والتحقيق أنه مات في حجة الوداع ) زَوج سُبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخُطِبت فأنكحها رسول الله . وقد قال بعضهم : إن ابن عباس رجع عن قوله . ولم يذكر رجوعه في حديث أبي سلمة .{ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ } { يُسْراً * ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } .تكرير للموعظة وهو اعتراض . والقول فيه كالقول في قوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } [ الطلاق : 2 ، 3 ] . والمقصود موعظة الرجال والنساء على الأخذ بما في هذه الأحكام مما عسى أن يكون فيه مشقة على أحد بأن على كل أن يصبر لذلك امتثالاً لأمر الله فإن الممتثل وهو مسمى المتقي يجعل الله له يسراً فيما لحقه من عسر .والأمر : الشأن والحال . والمقصود : يجعل له من أمره العسير في نظره يسراً بقرينة جعل اليسر لأمره .و { مِن } للابتداء المجازي المراد به المقارنةُ والملابسة .واليسر : انتفاء الصعوبة ، أي انتفاء المشاقّ والمكروهات .والمقصود من هذا تحقيق الوعد باليسر فيما شأنه العسر لحث الأزواج على امتثال ما أمر الله به الزوج من الإِنفاق في مدة العدة ومن المراجعة وترك منزلِه لأجل سكناها إذا كان لا يسعهما وما أمر به المرأة من تربص أمد العدة وعدم الخروج ونحو ذلك .

ذَٰلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا

📘 ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)والإِشارة بقوله : { ذلك أمر الله } إلى الأحكام المتقدمة من أول السورة . وهذه الجملة معترضة بين المتعاطفتين .والأمر في قوله : { أمر الله } : حكمه وما شرعه لكم كما قال : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] .وإنزاله : إبلاغه إلى الناس بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق عليه الإِنزال تشبيهاً لشرف معانيه وألفاظه بالشيء الرفيع لأن الشريف يتخيل رفيعاً . وهو استعارة كثيرة في القرآن . ففي قوله : { أنزله } استعارة مكنية .والكلام كناية عن الحث على التهمّم برعايته والعمل به وبعث الناس على التنافس في العلم به إذ قد اعتنى الله بالناس حيث أنزل إليهم ما فيه صلاحهم .وأعيد التحريض على العمل بما أمر الله بالوعد بما هو أعظم من الأرزاق وتفريج الكرب وتيسير الصعوبات في الدنيا . وذلك هو تكفير للسيئات وتوفير للأجور .والجملة معطوفة على الجملة المعترضة فلها حكم الاعتراض .وجيء بالوعد من الشرط لتحقيق تعليق الجواب على شرطه .

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۖ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ۖ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ

📘 أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6){ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ }هذه الجملة وما ألحق بها من الجمل إلى قوله : { وكأين من قرية عتت } [ الطلاق : 8 ] الخ تشريع مستأنف فيه بيان لما أُجمل في الآيات السابقة من قوله : { لا تخرجوهن من بيوتهن } [ الطلاق : 1 ] وقوله : { أو فارقوهن بمعروف } [ الطلاق : 2 ] ، وقوله : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] فتتنزّل هذه الجمل من اللاتي قبلها منزلة البيان لبعض ، ويدل الاشتمال لبعض وكل ذلك مقتضى للفصل . وابتدىء ببيان ما في { لا تخرجوهن من بيوتهن } [ الطلاق : 1 ] من إجمال .والضمير المنصوب في { أسكنوهن } عائد إلى النساء المطلقات في قوله : { إذا طلقتم } [ الطلاق : 1 ] . وليس فيما تقدم من الكلام ما يصلح لأن يعود عليه هذا الضمير إلا لفظ النساء وإلاّ لفظ { أولات الأحمال } [ الطلاق : 4 ] ، ولكن لم يقل أحد بأن الإِسكان خاص بالمعتدّات الحوامل فإنه ينافي قوله تعالى : { لا تخرجوهن } [ الطلاق : 1 ] فتعين عود الضمير إلى النساء المطلقات كلّهن ، وبذلك يشْمل المطلقة الرجعية والبائنة والحامل ، لما علمتَه في أول السورة من إرادة الرجعية والبائنة من لفظ { إذا طلقتم النساء } [ الطلاق : 1 ] .وجمهور أهل العلم قائلون بوجوب السكنى لهن جميعاً . قال أشهب : قال مالك : يَخرج عنها إذا طلقها وتبقى هي في المنزل . وروى ابن نافع قال مالك : فأما التي لم تَبِنْ فإنها زوجة يتوارثان والسكنى لهن لازمة لأزواجهن اه . يريد أنها مستغنى عن أخذ حكم سكناها من هذه الآية . ولا يريد أنها مستثناة من حكم الآية . وقال قتادة وابن أبي ليلى وإسحاق وأبو ثور وأحمد بن حنبل : لا سكنى للمطلقة طلاقاً بائناً . ومتمسكهم في ذلك ما روته فاطمة بنت قَيس : أن زوجها طلقها ثلاثاً وأن أخا زوجها منعها من السكنى والنفقة ، وأنها رفعت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها : " إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة " وهو حديث غريب لم يعرفه أحد إلا من رواية فاطمة بنت قيس . ولم يقبله عُمر بن الخطاب فقال : لا نترك كتاب الله وسنة نبيئنا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أو شُبّه عليها . وأنكرته عائشة على فاطمة بنت قيس فيما ذكرتْه من أنه أذن لها في الانتقال إلى مكان غير الذي طلقت فيه كما تقدم .وروي أن عمر «روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن للمطلقة البائنة سكنى» . ورووا أن قتادة وابن أبي ليلى أخذا بقوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [ الطلاق : 1 ] إذ الأمر هو المراجعة ، فقصَرا الطلاق في قوله : { إذا طلقتم النساء } [ الطلاق : 1 ] ، على الطلاق الرجعي لأن البائن لا تترقب بعده مراجعة وسبقها إلى هذا المأخذ فاطمة بنت قيس المذكورة .روى مسلم أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن الحديث فحدثته فقال مروان : لم نسمع هذا الحديث إلا من المرأة سنأخذ بالعصْمة التي وجدنا عليها الناس فبلغ قولُ مروان فاطمة بنت قيس فقالت : «بيني وبينكم القرآن ، قال الله عزّ وجل :{ لا تخرجوهن من بيوتهن ، إلى قوله : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [ الطلاق : 1 ] قالت : هذا لمن كانت له رجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث» اه .ويرد على ذلك أن إحداث الأمر ليس قاصراً على المراجعة فإن من الأمر الذي يحدثه الله أن يرقق قلوبهما فيرغبا معاً في إعادة المعاشرة بعقد جديد . وعلى تسليم اقتصار ذلك على إحداث أمر المراجعة فذكر هذه الحكمة لا يقتضي تخصيص عموم اللفظ الذي قبلها إذ يكفي أن تكون حكمة لبعض أحوال العام . فالصواب أن حق السكنى للمطلقات كلهن ، وهو قول جمهور العلماء .وقوله : { من حيث سكنتم } ، أي في البيوت التي تسكنونها ، أي لا يكلف المطلق بمكان للمطلقة غير بيته ولا يمنعها السكنى ببيته . وهذا تأكيد لقوله : { لا تخرجوهن من بيوتهن } [ الطلاق : 1 ] .فإذا كان المسكن لا يسع مبيتين متفرقين خَرج المطلق منه وبقيت المطلقة ، كما تقدم فيما رواه أشهب عن مالك .و { مِن } الواقعة في قوله : { من حيث سكنتم } للتبعيض ، أي في بعض ما سكنتم ويؤخذ منه أن المسكن صالح للتبعيض بحسب عرف السكنى مع تجنب التقارب في المبيت إن كانت غير رجعية ، فيؤخذ منه أنه إن لم يسعهما خرج الزوج المطلق .و { مِن } في قوله : { من وجدكم } بدل مطابق ، وهو بيان لقوله : { من حيث سكنتم } فإن مسكن المرء هو وجده الذي وجده غالباً لمن لم يكن مقتراً على نفسه .والوُجد : مثلث الواو هو الوسع والطاقة . وقرأه الجمهور بضم الواو . وقرأه رَوْح عن يعقوب بكسرها .{ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ } .أتبع الأمر بإسكان المطلقات بنهي عن الإِضرار بهن في شيء مدة العدة من ضيق محلّ أو تقتير في الإِنفاق أو مراجعة يعقبها تطليق لتطويل العدة عليهن قصداً للكناية والتشفي كما تقدم عند قوله تعالى : { ولا تتخذوا آيات الله هزؤاً } في سورة [ البقرة : 231 ] . أو للإِلجاء إلى افتدائها من مراجعته بخلع .والضارة : الإِضرار القوي فكأن المبالغة راجعة إلى النهي لا إلى المنهي عنه ، أي هو نهي شديد كالمبالغة في قوله : { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] في أنها مبالغة في النفي ومثله كثير في القرآن .والمراد بالتضييق : التضييق المجازي وهو الحرج والأذى .واللام في { لتضيقوا عليهن } لتعليل الإِضرار وهو قيد جرى على غالب ما يعرض للمطلقين من مقاصد أهل الجاهلية ، كما تقرر في قوله تعالى : { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } [ البقرة : 231 ] وإلا فإن الإِضرار بالمطلقات منهي عنه وإن لم يكن لقصد التضييق عليهن .{ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ } .ضمير { كن } يعود إلى ما عاد إليه ضمير { أسكنوهن } كما هو شأن ترتيب الضمائر ، وكما هو مقتضى عطف الجمل ، وليس عائداً على خصوص النساء الساكنات لأن الضمير لا يصلح لأن يكون معاداً لضمير آخر .وظاهر نظم الآية يقتضي أن الحوامل مستحقات الإِنفاق دون بعض المطلقات أخذاً بمفهوم الشرط ، وقد أخذ بذلك الشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى .ولكن المفهوم معطل في المطلقات الرجعيات لأن إنفاقهن ثابت بأنهن زوجات . ولذلك قال مالك : إن ضمير { أسكنوهن } للمطلقات البوائن كما تقدم .ومن لم يأخذ بالمفهوم قالوا : الآية تعرضت للحوامل تأكيداً للنفقة عليهن لأن مدة الحمل طويلة فربما سئم المطلق الإِنفاق ، فالمقصود من هذه الجملة هو الغاية التي بقوله : { حتى يضعن حملهن } وجعلوا للمطلقة غير ذات الحمل الإِنفاق . وبه أخذ أبو حنيفة والثوري . ونسب إلى عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما .وهذا الذي يرجح هو هذا القول وليس للشرط مفهوم وإنما الشرط مسوق لاستيعاب الإِنفاق جميع أمد الحمل .{ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَھَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ } .لما كان الحمل ينتهي بالوضع انتُقل إلى بيان ما يجب لهن بعد الوضع فإنهن بالوضع يصرن بائنات فتنقطع أحكام الزوجية فكان السامع بحيث لا يدري هل يكون إرضاعها ولدها حقاً عليها كما كان في زمن العصمة أو حقاً على أبيه فيعطيها أجر إرضاعها كما كان يعطيها النفقة لأجل ذلك الولد حين كان حملاً . وهذه الآية مخصصة لقوله في سورة [ البقرة : 233 ] { والوالدات يرضعن أولادهن } الآية .وأفهم قوله : لكم } أن إرضاع الولد بعد الفراق حق على الأب وحده لأنه كالإِنفاق والأُم ترضع ولدها في العصمة تبعاً لإِنفاق أبيه عليها عند مالك خلافاً لأبي حنيفة والشافعي ، إذ قالا : لا يجب الإِرضاع على الأم حتى في العصمة فلما انقطع إنفاق الأب عليها بالبينونة تمحضت إقامة غذاء ابنه عليه فإن أرادت أن ترضعه فهي أحق بذلك ، ولها أجل الإِرضاع وإن أبت فعليه أن يطلب ظئراً لابنه فإن كان الطفلُ غير قابل ثديَ غير أمه وجب عليها إرضاعه ووجب على أبيه دفع أجرة رضاعه .وقال أبو ثور : يجب إرضاع الابن على أمه ولو بعدَ البينونة . نقله عند أبُو بكر ابن العربي في «الأحكام» وهو عجيب . وهذه الآية أمامه .والائتمار : التشاور والتداول في النظر . وأصله مطاوع أمره لأن المتشاورين يأمر أحدهما الآخر فيأتمر الآخر بما أمره . ومنه تسمية مجامع أصحاب الدعوة أو النحلة أو القصد الموحّد مؤتمراً لأنه يقع الاستئمار فيه ، أي التشاور وتداول الآراء .وقوله : { وأتمروا بينكم } خطاب للرجال والنساء الواقع بينهم الطلاق ليتشاوروا في أمر إرضاع الأمّ ولدها . وما يبذله الأب لها من الأجرة على ذلك .وقيدَ الائتمارُ بالمعروف ، أي ائتماراً ملابساً لما هو المعروف في مثل حالهم وقومهم ، أي معتاد مقبول ، فلا يشتَطّ الأب في الشحّ ولا تشتط الأم في الحرص .وقوله : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } عتاب وموعظة للأب والأمّ بأن ينزّل كل منهما نفسه منزلة ما لو اجتُلبت للطفل ظِئر ، فلا تسأل الأمُّ أكثر من أجر أمثالها ، ولا يشحّ الأب عما يبلغ أجرَ أمثال أمّ الطفل ، ولا يسقط حق الأمّ إذا وجد الأب من يرضع له مجاناً لأن الله قال : { فسترضع له أخرى } وإنما يقال : أرضعت له ، إذا استؤجرت لذلك ، كما يقال : استرضَع أيضاً ، إذا آجر من يرضع له ولده . وتقدم في سورة البقرة قوله تعالى : { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } [ 233 ] الآية .والتعاسر صدور العسر من الجانبين . وهو تفاعل من قولكم : عسرتُ فلاناً ، إذا أخذته على عسره ، ويقال : تعاسر البيِّعان إذا لم يتفقا .فمعنى تعاسرتم } اشتدّ الخلاف بينكم ولم ترجعوا إلى وفاق ، أي فلا يبقى الولد بدون رضاعة .وسين الاستقبال مستعمل في معنى التأكيد ، كقوله : { قال سوف أستغفر لكم ربي } في سورة [ يوسف : 98 ] . وهذا المعنى ناشىء عن جعل علامة الاستقبال كنايَة عن تجدد ذلك الفعل في أزمنة المستقبل تحقيقاً لتحصيله .وهذا الخبر مستعمل كناية أيضاً عن أمر الأب باستئجار ظئر للطفل بقرينة تعليق له } بقوله : { فسترضع } .فاجتمع فيه ثلاث كنايات : كناية عن موعظة الأب ، وكناية عن موعظة الأم ، وكناية عن أمر الأب بالاسترضاع لولده .

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ۖ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا

📘 لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)تذييل لما سبق من أحكام الإِنفاق على المعتدات والمرضعات بما يعمّ ذلك . ويعم كل إنفاق يطالَب به المسلم من مفروض ومندوب ، أي الإِنفاق على قدر السعة .والسَّعة : هي الجِدَة من المال أو الرزق .والإِنفاق : كفاية مؤونة الحياة من طعام ولباس وغير ذلك مما يُحتاج إليه .و { من } هنا ابتدائية لأن الإِنفاق يصدر عن السعة في الإِعتبار ، وليست { من } هذه ك ( مِن ) التي في قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } [ الأنفال : 3 ] لأن النفقة هنا ليست بعضاً من السعة ، وهي هناك بعض الرزق فلذلك تكون ( مِن ) من قوله : { فلينفق مما آتاه الله } تبعيضية .ومعنى { قدر عليه رزقه } جعل رزقه مقدوراً ، أي محدوداً بقدر معين وذلك كناية عن التضييق . وضده { يرزقون فيها بغير حساب } [ غافر : 40 ] ، يقال : قدر عليه رزقه ، إذا قتّره ، قال تعالى : { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } وتقدم في سورة [ الرعد : 26 ] أي من كان في ضيق من المال فلينفق بما يسمح به رزقه بالنظر إلى الوفاء بالإِنفاق ومراتبه في التقديم . وهذا مُجمَل هنا تفصيله في أدلة أخرى من الكتاب والسنة والاستنباط ، قال النبي لهند بنت عتبة زوج أبي سفيان : خذي من ماله ما يكفيك وولدَك بالمعروف .والمعروف : هو ما تعارفه الناس في معتاد تصرفاتهم ما لم تبطله الشريعة .والرزق : اسم لما ينتفع به الإِنسان في حاجاته من طعام ولباس ومتاع ومنزل . سواء كان أعياناً أو أثماناً . ويطلق الرزق كثيراً على الطعام كما في قوله تعالى : { وجد عندها رزقاً } [ آل عمران : 37 ] .ولم يختلف العلماء في أن النفقات لا تتحدد بمقادير معينة لاختلاف أحوال الناس والأزمان والبلاد . وإنما اختلفوا في التوسع في الإِنفاق في مال المؤسر هل يقضَى عليه بالتوسعة على من يُنفق هو عليه ولا أحسب الخلاف في ذلك إلا اختلافاً في أحوال الناس وعوائدهم ولا بدّ من اعتبار حال المنفَق عليه ومعتاده ، كالزوجة العالية القَدر . وكل ذلك داخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند : «ما يكفيك وولدَك بالمعروف» .وجملة { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } تعليل لقوله : { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } . لأن مضمون هذه الجملة قد تقرر بين المسلمين من قبل في قوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } في سورة [ البقرة : 286 ] ، وهي قبل سورة الطلاق .والمقصود منه إقناع المنفَق عليه بأن لا يطلب من المنفِق أكثر من مقدُرته . ولهذا قال علماؤنا : لا يطلَّق على المعسر إذا كان يقدر على إشباع المنفَق عليها وإكسائها بالمعروف ولو بشظف ، أي دون ضر .ومما آتاه الله } يشمل المقدرة على الاكتساب فإذا كان مَن يجب عليه الإِنفاق قادراً على الاكتساب لِينفق من يجب عليه إنفاقه أو ليكمِّل له ما ضاق عنه ماله ، يجبر على الاكتساب .وأما من لا قدرة له على الاكتساب وليس له ما ينفق منه فنفقته أو نفقة من يجب عليه إنفاقُه على مراتبها تكون على بيت مال المسلمين . وقد قال عمر بن الخطاب : «وأن رب الصريمة ورب الغُنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببينة يقول يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين ، أفتاركهم أينا» ، رواه مالك في «الموطأ» .وفي عجز الزوج عن إنفاق زوجه إذا طلبت الفراق لعدم النفقة خلاف . فمن الفقهاء من رأى ذلك موجباً بينهما بعد أجللِ رجاء يسر الزوج وقُدر بشهرين ، وهو قول مالك . ومنهم من لم ير التفريق بين الزوجين بذلك وهو قول أبي حنيفة ، أي وتنفَق من بيت مال المسلمين .والذي يقتضيه النظر أنه إن كان بيت المال قائماً فإن من واجبه نفقة الزوجين المعسرين وإن لم يُتوصل إلى الإِنفاق من بيت المال كان حقاً أن يفرِّق القاضي بينهما ولا يترك المرأة وزوْجها في احتياج . ومحل بسط ذلك في مسائل الفقه .وجملة { سيجعل الله بعد عسر يسراً } تكملة للتذييل فإن قوله : { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } يناسب مضمون جملة { لينفق ذو سعة من سعته } .وقوله : { سيجعل الله } الخ تُناسب مضمون { ومن قدر عليه رزقه } الخ . وهذا الكلام خبر مستعمل في بعث الترجّي وطرح اليأس عن المعسر من ذوي العيال . ومعناه : عسى أن يجعل الله بعد عُسركم يُسراً لكم فإن الله يجعل بعد عسر يسراً . وهذا الخبر لا يقتضي إلا أنّ من تصرفات الله أن يجعل بعد عسر قوم يسراً لهم ، فمن كان في عسر رجَا أن يكون ممن يشمله فضل الله ، فيبدل عسره باليسر .وليس في هذا الخبر وعْد لكل معسر بأن يصير عُسره يُسراً . وقد يكون في المشاهدة ما يخالف ذلك فلا فائدة في التكلف بأن هذا وعد من الله للمسلمين الموحدين يومئذٍ بأن الله سيبدل عسرهم باليسر ، أو وعد للمُنفقين الذين يمتثلون لأمر الله ولا يشحّون بشيء مما يسعه مالهم . وانظر قوله تعالى : { فإن مع العسر يسراً } [ الشرح : 5 ] .ومن بلاغة القرآن الإِتيان ب ( عسر ويسراً ) نكرتين غير معرفين باللام لئلا يتوهم من التعريف معنى الاستغراق كما في قوله : { فإن مع العسر يسراً .

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا

📘 وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) لما شُرعت للمسلمين أحكام كثيرة من الطلاف ولَواحِقه ، وكانت كلها تكاليف قد تحجُم بعضُ الأنفس عن إيفاء حق الامتثال لها تكاسلاً أو تقصيراً رغّب في الامتثال لها بقوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً يُسْراً * وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً [ الطلاق : 2 ] وقوله : { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً } [ الطلاق : 4 ] ، وقوله : { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً } [ الطلاق : 5 ] وقوله : { سيجعل الله بعد عسر يسراً } [ الطلاق : 7 ] .وحذر الله الناس في خلال ذلك من مخالفتها بقوله : { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } [ الطلاق : 1 ] ، وقوله : { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } [ الطلاق : 2 ] أعقبها بتحذير عظيم من الوقوع في مخالفة أحكام الله ورسله لقلة العناية بمراقبتهم ، لأن الصغير يُثير الجليل ، فذكَّر المسلمين ( وليسوا ممن يعتوا على أمر ربهم ) بما حلّ بأقوام من عقاب عظيم على قلة اكتراثهم بأمر الله ورسله لئلا يسلكوا سبيل التهاون بإقامة الشريعة ، فيلقي بهم ذلك في مَهواة الضلال .وهذا الكلام مقدمة لما يأتي من قوله : { فاتقوا الله يا أولي الألباب } الآيات . فالجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة عطف غرض على غرض .و { كأيّن } اسم لعدد كثير مُبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بمن و { كأيّن } بمعنى ( كَم ) الخبرية . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وكأيّن من نبيء قتل معه ربيون كثير } في [ آل عمران : 146 ] .والمقصود من إفادة التكثير هنا تحقيق أن العذاب الذي نال أهل تلك القرى شيء ملازم لِجزائهم على عتوّهم عن أمر ربهم ورسله فلا يتوهم متوهم أن ذلك مصادفة في بعض القرى وأنها غير مطردة في جميعهم .وكأيّن } في موضع رفع على الابتداء ، وهو مبني .وجملة { عتت عن أمر ربها } في موضع الخبر ل { كأيّن } .والمعنى : الإِخبار بكثرة ذلك باعتبار ما فُرع عليه من قوله : { فحاسبناها } فالمفرع هو المقصود من الخبر .والمراد بالقرية : أهلها على حد قوله : { واسأل القرية التي كنا فيها } [ يوسف : 82 ] بقرينة قوله عَقب ذلك { أعد الله لهم عذاباً شديداً } إذ جيء بضمير جمع العقلاء .وإنما أوثر لفظ القرية هنا دون الأُمة ونحوها لأن في اجتلاب هذا اللفظ تعريضاً بالمشركين من أهل مَكة ومشايعةً لهم بالنذارة ولذلك كثر في القرآن ذكر أهل القرى في التذكير بعذاب الله في نحو { وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف : 4 ] .وفيه تذكير للمسلمين بوعد الله بنصرهم ومحق عدوّهم .والعتوّ ويقال العُتِيّ : تجاوز الحدّ في الاستكبار والعناد .وضمن معنى الإِعراض فعدي بحرف { عن } .والمحاسبة مستعملة في الجزاء على الفعل بما يناسب شدته من شديد العقاب ، تشبيهاً لتقدير الجزاء بإجراء الحساب بين المتعاملين ، وهو الحساب في الدنيا ، ولذلك جاء { فحاسبناها } و { عذبناها } بصيغة الماضي .والمعنى : فجازيناها على عتوّها جزاءً يكافىء طغيانها .والعذاب النُكُر : هو عذاب الاستئصال بالغرق ، والخسف ، والرجم ، ونحو ذلك .وعطفُ العذاب على الحساب مؤذن بأنه غيره ، فالحساب فيما لقوه قبل الاستئصال من المخوفات وأشراط الإِنذار مثل القحط والوباء والعذاب هو ما توعدوا به .ولك أن تجعل الحساب على حقيقته ويراد به حساب الآخرة . وشدته قوة المناقشة فيه والانتهارُ على كل سيئة يحاسبون عليها .والعذاب : عذاب جهنم ، ويكون الفعل الماضي مستعملاً في معنى المستقبل تشبيهاً للمستقبل بالماضي في تحقق وقوعه مثل قوله : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] ، وقوله : { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } [ الأعراف : 44 ] .والنُكُر بضمتين ، وبضم فَسكون : ما ينكره الرأي من فظاعة كيفيته إنكاراً شديداً .وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوبُ { نكُراً } بضمتين . وقرأه الباقون بسكون الكاف . وتقدم في سورة الكهف .

فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا

📘 فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) والفاء في قوله : { فذاقت وبال أمرها } لتفريع { فحاسبناها } { وعذبناها } .والذَّوق : هنا الإِحساس مطلقاً ، وهو مجاز مرسل .والوبيل : صفة مشبهة . يقال : وَبُل ( بالضم ) : المرعى ، إذا كان كَلأُه وخيماً ضاراً لما يرعاه .والأمر : الحال والشأن ، وإضافة الوَبال إلى الأمر من إضافة المسبب إلى السبب ، أي ذاقوا الوبال الذي تسبب لهم فيه أمرهم وشأنهم الذي كانوا عليه .وعاقبة الأمر : آخره وأثره . وهو يشمل العاقبة في الدنيا والآخرة كما دل عليه قوله : { أعد الله لهم عذاباً شديداً } .وشبهت عاقبتهم السّوأى بخسارة التاجر في بيعه في أنهم لما عتوا حسبوا أنهم أرضَوْا أنفسهم بإعْراضهم عن الرسل وانتصروا عليهم فلما لبثوا أن صاروا بمذلة وكما يخسر التاجر في تجره .وجيء بفعل { كان } بصيغة المضي لأن الحديث عن عاقبتها في الدنيا تغليباً . وفي كل ذلك تفظيع لما لحقهم مبالغة في التحذير مما وقعوا فيه .