🕋 تفسير سورة الأعراف
(Al-Araf) • المصدر: AR-TAFSEER-TANWIR-AL-MIQBAS
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ المص
📘 هذه الحروف الأربعة المقطّعة التي افتتحت بها هاته السّورة ، يُنطَق بأسمائها ( ألِفْ لاَمْ مِيمْ صَادْ ) كما يَنْطِق بالحروف ملقِّن المتعلّمين للهجاء في المكتب ، لأنّ المقصود بها أسماء الحروف لا مسميّاتها وأشكالها ، كما أنّك إذا أخبرت عن أحد بخبر تذكر اسم المخبر عنه دون أن تَعْرِض صورته أو ذاته ، فتقولُ مثلاً : لقيت زيداً ، ولا تقول : لقيت هذه الصورة ، ولا لقيتُ هذه الذات .فالنّطق بأسماء الحروف هو مقتضَى وقوعها في أوائل السّور التي افتتحت بها ، لقصد التّعريض بتعجيز الذين أنكروا نزول القرآن من عند الله تعالى ، أي تعجيزِ بلغائهم عن معارضته بمثله كما تقدّم في سورة البقرة .وإنّما رسموها في المصاحف بصور الحروف دون أسمائها ، أي بمسمّيات الحروف التي يُنطق بأسمائها ولم يرسموها بما تُقْرأ به أسماؤُها ، مراعاة لحالة التّهجي ( فيما أحسب ) ، أنّهم لو رسموها بالحروف التي يُنطق بها عند ذكر أسمائها خَشُوا أن يلتبس مجموعُ حروف الأسماءِ بكلمات مثل ( يَاسين ) ، لو رسمت بأسماء حروفها أن تلتبس بنداء من اسمه سين .فعدلوا إلى رسم الحروف علماً بأنّ القارىء في المصحف إذا وجد صورة الحرف نَطق باسم تلك الصّورة . على معتادهم في التّهجي طرداً للرسم على وتيرة واحدة .على أنّ رسم المصحف سنّة سنّها كُتاب المصاحف فأقِرّت . وإنّما العمدة في النّطق بالقرآن على الرّواية والتّلقي ، وما جُعلت كتابة المصحف إلاّ تذكرة وعوناً للمتلقّي .وتقدّم هذا في أوّل سورة البقرة وفيما هنا زيادة عليه .
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ
📘 عطف على جملة : { ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } [ الأعراف : 3 ] فهذا تذكير لهم بأن الله هو ولي الخلق ، لأنّه خالقهم على وجه الأرض ، وخالق ما به عيشهم الذي به بقاء وجودهم إلى أجل معلوم ، وتوبيخ على قلّة شكرها ، كما دلّ عليه تذييل الجملة بقوله : { قليلاً ما تشكرون } فإنّ النّفوس التي لا يزجُرها التّهديد قد تنفعها الذكريات الصّالحة ، وقد قال أحد الخوارج وطُلب منه أن يخرج إلى قتال الحجّاج بن يوسف وكان قد أسدى إليه نِعماً :أأقَاتِلُ الحجّاجَ عن سلطانه ... بيدٍ تُقِرّ بأنَّها مَوْلاَتِهوتأكيد الخبر بلام القسم وقد ، المفيد للتّحقيققِ ، تنزيلٌ للذين هم المقصود من الخطاب منزّلة من ينكر مضمون الخبر لأنّهم لما عَبدوا غير الله كان حالهم كحال من ينكر أنّ الله هو الذي مكَّنهم من الأرض ، أو كحال من ينكر وقوع التمكين من أصله .والتّمكين جعل الشّيء في مكان ، وهو يطلق على الإقدار على التّصرف ، على سبيل الكناية ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { مَكَّنَّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم } في سورة الأنعام ( 6 ) وهو مستعمل هنا في معناه الكنائي لا الصّريح ، أي جعلنا لكم قدرة ، أي أقدَرناكم على أمور الأرض وخوّلناكم التّصرف في مخلوقاتها ، وذلك بما أودع الله في البشر من قوّة العقل والتفكير التي أهلته لسيادة هذا العالم والتّغلّب على مصاعبه ، وليس المراد من التّمكين هنا القوّة والحكم كالمراد في قوله تعالى : { إنا مكنا له في الأرض } [ الكهف : 84 ] لأنّ ذلك ليس حاصلاً بجميع البشر إلاّ على تأويل ، وليس المراد بالتمكين أيضاً معناه الحقيقي وهو جعل المكان في الأرض لأنّ قوله : { في الأرض } يمنع من ذلك ، لأنّه لو كان كذلك لقال ولقد مكناكم الأرضَ ، وقد قال تعالى عن عاد : { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } [ الأحقاف : 26 ] أي جعلنا ما أقررناهم عليه أعظم ممّا أقدرناكم عليه ، أي في آثارهم في الأرض أمّا أصل القرار في الأرض فهو صراط بينهما .ومعايش جمع معيشه ، وهي ما يعيش به الحيّ من الطّعام والشّراب ، مشتقّة من العيش وهو الحياة ، وأصل المعيشة اسم مصدر عاش قال تعالى : { فإن له معيشة ضنكاً } [ طه : 124 ] سمي به الشّيء الذي يحصل به العيش ، تسمية للشّيء باسم سببه على طريقة المجاز الذي غلب حتّى صار مساوياً للحقيقة .وياء ( معايش ) أصل في الكلمة لأنّها عين الكلمة من المصدر ( عَيْش ) فوزن معيشة مفعلة ومعايش مَفاعل ، فحقّها أن ينطق بها في الجمع ياء وأن لا تقلب همزة . لأن استعمال العرب في حرف المدّ الذي في المفرد أنّهم إذا جمعوه جمعاً بألف زائدة ردّوه إلى أصله واواً أو ياء بعد ألف الجمع ، مثل : مفَازة ومفاوِز ، فيما أصله واو من الفوز ومعيبة ومعايب فيما أصله الياء ، فإذا كان حرف المدّ في المفرد غير أصلي فإنّهم إذا جمعوه جمعاً بألف زائدة قلبوا حرف المد همزة نحو قِلاَدة وقلائِد ، وعَجُوز وعجَائز ، وصحيفَه وصحائف ، وهذا الاستعمال من لطائف التّفرقه بين حرف المد الأصلي والمد الزّائد واتّفق القراء على قراءته بالياء ، وروى خارجة بن مصعب ، وحميد بن عمير ، عن نافع أنّه قرأ : معائش بهمز بعد الألف ، وهي رواية شاذة عنه لا يُعْبَأ بها ، وقُرىء في الشاذ : بالهمز ، رواه عن الأعرج ، وفي «الكشاف» نسبة هذه القراءة إلى ابن عامر وهو سهو من الزمخشري .وقوله : { قليلاً ما تشكرون } هو كقوله في أوّل السّورة { قليلاً ما تذكّرون } [ الأعراف : 3 ] ونظائره .والخطاب للمشركين خاصة ، لأنّهم الذين قَل شكرهم لله تعالى إذا اتّخذوا معه آلهة .ووصف قليل يستعمل في معنى المعدوم كما تقدّم آنفاً في أوّل السّورة ، ويجوز أن يكون على حقيقته أي إن شكركم الله قليل . لأنّهم لمّا عرفوا أنّه ربّهم فقد شَكروه ، ولكن أكثر أحوالهم هو الإعراض عن شكره والإقبال على عبادة الأصنام وما يتبعها ، ويجوز أن تكون القلّة كناية عن العدم على طريقة الكلام المقتصد استنزالاً لتذكرهم .وانتصب ( قليلاً ) على الحال من ضمير المخاطبين و ( ما ) مصدريّة ، والمصدر المؤول في محلّ الفاعل بقليلاً فهي حال سببيّة .وفي التّعقيب بهذه الآية لآية : { وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف : 4 ] إيماء إلى أنّ إهمال شكر النّعمة يعرّض صاحبها لزوالها ، وهو ما دلّ عليه قوله : { أهلكناها }.
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ۚ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ
📘 عطفت على جملة : { أفأمن أهل القرى } [ الأعراف : 97 ] لاشتراك مضمون الجملتين في الاستفهام التعجيبي ، فانتقُل عن التعجيب من حال الذين مضوا إلى التعجيب من حال الأمة الحاضرة ، وهي الأمة العربية الذين ورثوا ديار الأمم الماضية فسكنوها : مثل أهل نَجْران ، وأهل اليمن ، ومن سكنوا ديار ثمود مثل بَليِّ ، وكعب ، والضجاغم ، وبهراء ، ومن سكنوا ديار مَدْين مثل جُهَيْنة ، وجَرْم ، وكذلك من صاروا قبائل عظيمة فنالوا السيادة على القبائل : مثل قُريش ، وطَي ، وتَميم ، وهُذَيْل . فالموصول بمنزلة لام التعريف العهدي ، وقد يقصد بالذين يرثون الأرض كل أمة خلفت أمة قبلها ، فيشمل عاداً وثموداً ، فقد قال لكلَ نبيّهم { واذكروا إذ جلعكم خلفاء } [ الأعراف : 74 ] الخ ولكن المشركين من العرب يومئذٍ مقصودون في هذا ابتداء . فالموصول بمنزلة لام الجنس .والاستفهام في قوله : { أو لم يهد } مستعمل في التعجيب . مثل الذي في قوله : { أفأمن أهلُ القرى } [ الأعراف : 97 ] تعجيباً من شدة ضلالتهم إذ عدموا الاهتداء والاتعاظ بحال من قبلهم من الأمم ، ونسوا أن الله قادر على استئصالهم إذا شاءه .والتعريف في الأرض تعريف الجنس ، أي يرثون أي أرض كانت منازل لقوم قبلهم ، وهذا إطلاق شائع في كلام العرب ، يقولون هذه أرض طَيء ، وفي حديث الجنازة «من أهل الأرض» أي من السكان القاطنين بأرضهم لا من المسلمين الفاتحين فالأرض بهذا المعنى اسم جنس صادق على شائع متعدد ، فتعريفه تعريف الجنس ، وبهذا الإطلاق جُمعت على أرضين ، فالمعنى : أو لم يهد للذين يرثون أرضاً من بعد أهلها .والإرث : مصير مال الميت إلى من هو أولى به ، ويطلق مجازاً على مماثلة الحي مَيتاً في صفات كانت له ، من عزّأ وسيادة ، كما فسر به قوله تعالى حكاية عن زكرياء { فهب لي من لدنك ولياً يرثني } [ مريم : 5 ، 6 ] أي يخلفني في النبوءة ، وقد يطلق على القَدْر المشترك بين المعنيين ، وهو مطلقُ خلافةِ المُنْقَرَضضِ . وهو هنا محتمل للإطلاقين ، لأنه إن أريد بالكلام أهل مكة فالإرث بمعناه المجازي ، وإن أريد أهل مكة والقبائل التي سكنت بلاد الأمم الماضية فهو مستعمل في القدر المشترك ، وهو كقوله تعالى : { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] وأيّاً ما كان فقيْدُ { من بعد أهلها } تأكيدٌ لمعنى { يرثون } ، يراد منه تذكير السامعين بما كان فيه أهل الأرض الموروثة من بحبوحة العيش ، ثم ما صاروا إليه من الهلاك الشامل العاجل ، تصويراً للموعظة بأعظم صورة فهو كقوله تعالى : { ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } [ الأعراف : 129 ].ومعنى { لم يهد } لم يرشد ويُبَيْن لهم ، فالهداية أصلها تبيين الطريق للسائر ، واشتهر استعمالهم في مطلق الإرشاد : مجازاً أو استعارة كقوله تعالى : { اهْدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ]. وتقدم أن فعلها يتعدى إلى مفعولين ، وأنه يتعدى إلى الأول منهما بنفسه وإلى الثاني تارة بنفسه وأخرى بالحرف : اللام أو ( إلى ) ، فلذلك كانت تعديته إلى المفعول الأول باللام في هذه الآية إمّا لتضمينه معنى يُبين ، وإما لتقوية تعلق معنى الفعل بالمفعول كما في قولهم : شكرتُ له ، وقوله تعالى :{ فَهَبْ لي من لدنك ولياً } [ مريم : 5 ] ، ومثل قوله تعالى : { أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم } في سورة طه ( 128 ).و { أنْ } مخففة من ( أنّ ) واسمها ضمير الشأن ، وجملة { لو نشاء } خبرها . ولما كانت ( أن ) المفتوحة الهمزة من الحروف التي تفيد المصدرية على التحقيق لأنها مركّبة من ( إنّ ) المكسورة المشددة ، ومن ( أنّ ) المفتوحة المخففة المصدرية لذلك عُدّت في الموصولات الحرفية وكان ما بعدها مؤولاً بمصدر منسبك من لفظ خبرها إن كان مفرداً مشتقاً ، أو من الكَون إن كان خبرها جملة ، فموقع { أن لو نشاء أصبناهم } موقعُ فاعل { يهد } ، والمعنى : أو لم يبيّنْ للذين يخلْفون في الأرض بعد أهلها كونُ الشأن المهم وهو لو نشاءُ أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم .وهؤلاء هم الذين أشركوا بالله وكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلموالإصابة : نوال الشيء المطلوب بتمكّن فيه . فالمعنى : أن نأخذهم أخذاً لا يفلتون منه . والباء في { بذنوبهم } للسببية ، وليست لتعدية فعل { أصبناهم }.وجملة : { أنْ لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } واقعة موقع مفرد ، هو فاعل { يَهْدِ } ، ف ( إنْ ) مخففة من الثقيلة وهي من حروف التأكيد والمصدرية واسمها في حالةِ التخفيف ، ضمير شأن مقدر ، وجملة شرط ( لو ) وجوابه خبر ( أنّ ).و ( لو ) حرف شرط يفيد تعليق امتناع حصول جوابه لأجل امتناع حصول شرطه : في الماضي ، أو في المستقبل ، وإذ قد كان فعل الشرط هنا مضارعاً كان في معنى الماضي ، إذ لا يجوز اختلاف زمني فعلي الشرط والجواب ، وإنما يخالف بينهما في الصورة لمجرد التفنن كراهية تكرير الصورة الواحدة ، فتقدير قوله : { لَوْ نشاء أصبناهُم } انْتفى أخذُنَا إياهم في الماضي بذنوب تكذيبهم ، لأجل انتفاء مشيئتنا ذلك لحكمة إمهالهم لا لكونهم أعزّ من الأمم البائدة أو أفضل حالاً منهم ، كما قال تعالى : { فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم } [ غافر : 21 ] الآية ، وفي هذا تهديد بأن الله قد يصيبهم بذنوبهم في المستقبل ، إذ لا يصده عن ذلك غالبٌ ، والمعنى : أغرهم تأخّر العذاب مع تكذيبهم فحسبوا أنفسهم في منعة منه ، ولم يهتدوا إلى أن انتفاء نزوله بهم معلق على انتفاء مشيئتنا وقوعَه لحكمة ، فما بينهم وبين العذاب إلاّ أن نشاء أخذهم ، والمصدر الذي تفيده ( أن ) المخففة ، إذا كان اسمها ضمير شأن ، يقدر ثُبوتاً متصيّداً مما في ( أنْ ) وخبرها من النسبة المؤكدة ، وهو فاعل { يَهِد } فالتقدير في الآية : أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ثبوتُ هذا الخبر المُهم وهو { لو نشاء أصبناهم بذنوبهم }.والمعنى : اعْجَبوا كيف لم يهتدوا إلى أن تأخير العذاب عنهم هو بمحض مشيئتنا وأنه يحق عليهم عندما نشاؤه .وجملة : { ونطبع على قلوبهم } ليست معطوفة على جملة : { أصبناهم } حتى تكون في حكم جواب ( لو ) لأن هذا يفسد المعنى ، فإن هؤلا الذين ورثوا الأرض من بعد أهلها قد طُبع على قلوبهم فلذلك لم تُجْدِ فيهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم مُنذ بُعث إلى زمن نزول هذه السورة ، فلو كان جواباً ل ( لو ) لصار الطبع على قلوبهم ممتنعاً وهذا فاسد ، فتعين : إما أن تكون جملة { ونطبع } معطوفة على جملة الاستفهام برُمَتها فلها حكمها من العطف على أخبار الأمم الماضية والحاضرة .والتقدير : وطَبَعنا على قلوبهم ، ولكنه صيغ بصيغة المضارع للدلالة على استمرار هذا الطبع وازدياده آنا فآنا ، وإمّا أن تجعل ( الواو ) للاستئناف والجملة مستأنفة ، أي : ونحن نطبع على قلوبهم في المستقبل كما طبعنا عليها في الماضي ، ويُعرف الطبع عليها في الماضي بأخبار أخرى كقوله تعالى : { إن الذين كفروا سواء عليهم } [ البقرة : 6 ] الآية ، فتكون الجملة تذييلاً لتنهية القصة ، ولكن موقع الواو في أول الجملة يرجح الوجه الأول ، وكأن صاحب «المفتاح» يأبى اعتبار الاستئناف من معاني الواو .وجملة : { فهم لا يسمعون } معطوفة بالفاء على { نطبع } متفرعاً عليه ، والمراد بالسماع فهم مغزى المسموعات لا استكاك الآذان ، بقرينة قوله : { ونطبع على قلوبهم }. وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى : { بَلْ طبع الله عليها بكفرهم } في سورة النساء ( 155 ).
تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ
📘 لما تكرر ذكر القرى التي كذب أهلها رسل الله بالتعيين وبالتعميم ، صارت للسامعين كالحاضرة المشاهدة الصالحة لأن يشار إليها ، فجاء اسم الإشارة لزيادة إحضارها في أذهان السامعين من قوم محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبروا حالهم بحال أهل القرى ، فيروا أنهم سواء فيفيئوا إلى الحق .وجملة : { تلك القرى } مستأنفة استئناف الفذلكة لما قبلها من القصص من قوله : { لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ الأعراف : 59 ] ثم قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبيء } [ الأعراف : 94 ] الآية .و { القرى } يجوز أن يكون خبراً عن اسم الإشارة لأن استحضار القرى في الذهن بحيث صارت كالمشاهد للسامع ، فكانت الإشارة إليها إشارة عبرة بحالها ، وذلك مفيد للمقصود من الإخبار عنها باسمها لمن لا يجهل الخبر كقوله تعالى : { هذا ما كنزتم لأنفسكم } [ التوبة : 35 ] أي هذا الذي تشاهدونه تُكْوَون به هو كنزكم ، وهم قد علموا أنه كنزهم ، وإنما أريد من الإخبار بأنه كنزهم إظهارُ خطإ فعلهم ، ويجوز أن يكون القرى بياناً لاسم الإشارة .وجملة : { نقص عليك من أنبائها } إما حال من { القرى } على الوجه الأول .وفائدة هذه الحال الامتنان بذكر قَصصها ، والاستدلال على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم إذ علمه الله من علم الأولين ما لم يسبق له علمه ، والوعدُ بالزيادة من ذلك ، لما دل عليه قوله : { نقص } من التجدد والاستمرار ، والتعريضُ بالمعرضين عن الإتعاظ بأخبارها .وإمّا خبر عن اسم الإشارة على الوجه الثاني في محمل قوله : { القرى }.و ( منْ ) تبعيضية لأن لها أنباء غير ما ذكر هنا مما ذكر بعضه في آيات أخرى وطوى ذكر بعضه لعدم الحاجة إليه في التبليغ .والأنباء : الأخبار ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ولقد جاءك من نبإ المرسلين } في سورة الأنعام ( 34 ).والمراد بالقرى وضمير أنبائها : أهلها ، كما دل عليه الضمير في قوله : رسلهم .وجملة : ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } عطف على جملة : { تلك القرى } لمناسبة ما في كلتا الجملتين من قصد التنظير بحال المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلموجمع «البينات» يشير إلى تكرر البينات مع كل رسول ، والبينات : الدلائل الدالة على الصدق وقد تقدمت عند قوله تعالى : { قد جاءتكم بينة من ربكم } في قصة ثمود في هذه السورة ( 73 ).( والفاء ) في قوله : { فما كانوا ليؤمنوا } لترتيب الإخبار بانتفاء إيمانهم عن الإخبار بمجيء الرسل إليهم بما من شأنه أن يحملهم على الإيمان .وصيغة { ما كانوا ليؤمنوا } تفيد مبالغة النفي بلام الجحود الدالة على أن حصول الإيمان كان منافياً لحالهم من التصلب في الكفر . وقد تقدم وجه دلالة لام الجحود على مبالغة النفي عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية في سورة آل عمران ( 79 ). والمعنى : فاستمر عدم إيمانهم وتمكّن منهم الكفر في حين كان الشأن أن يقلعوا عنه .و { ما كذبوا } موصول وصلته وحُذف العائد المجرور على طريقة حذف أمثاله إذا جر الموصول بمثل الحرف المحذوف ، ولا يشترط اتحاد متعلقي الحرفين على ما ذهب إليه المحققون منهم الرضي كما في هذه الآية .وما صْدَقُ ( ما ) الموصولة : ما يدل عليه { كذبوا } ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بشيء كذبوا به من قبل مما دُعوا إلى الإيمان به من التوحيد والبعث . وشأن ( ما ) الموصولة أن يراد بها غير العاقل ، فلا يكون ما صْدقُ ( ما ) هنا الرسل ، بل ما جاءت به الرسل ، فلذلك كان فعل { كذبوا } هنا مقدراً متعلّقهُ لفظُ ( به ) كما هو الفرق بين كذّبه وكذّب به ، قال تعالى : { فكذّبوه فأنجيناه } [ الأعراف : 64 ] وقال : { وكذّب به قومُك وهو الحق } [ الأنعام : 66 ] وحُذف المتعلق هنا إيجازاً ، لأنه قد سبق ذكر تكذيب أهل القرى ، ابتداء من قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من بنيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون } [ الأعراف : 94 ] وقد سبق في ذلك قوله : { ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } [ الأعراف : 96 ] ولهذا لم يحذف متعلق فعل { كذبوا } في نظير هذه الآية من سورة يونس .والمعنى : ما أفادتهم البينات أن يؤمنوا بشيء كان بَدَرَ منهم التكذيب به في ابتداء الدعوة ، فالمضاف المحذوف الذي دل عليه بناء { قبلُ } على الضم تقديره : من قبللِ مجيء البينات .وأسند نفي الإيمان إلى ضمير جميع أهل القرى باعتبار الغالب ، وهو استعمال كثير ، وسيُخرج المؤمنون منهم بقوله : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين }.ومعنى قولهن : { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } مثلَ ذلك الطبع العجيب المستفاد من حكاية استمرارهم على الكفر ، والمؤذن به فعل { يطبع } ، وقد تقدم نظائره غير مرة ، منها عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ).وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى : { بل طبع الله عليها بكفرهم } في سورة النساء ( 155 ).وإظهار المسند إليه في جملة يطبع الله } دون الإضمار : لما في إسناد الطبع إلى الاسم العلم من صراحة التنبيه على أنه طبع رهيب لا يغادر للهدى منفذاً إلى قلوبهم كقوله تعالى : { هذا خلق الله } [ لقمان : 11 ] دون أن يقول : هذا خلقي ، ولهذا اختير له الفعل المضارع الدال على استمرار الختم وتجدده .والقلوب : العقول ، والقلب ، في لسان العرب : من أسماء العقل ، وتقدم عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } في سورة البقرة ( 7 ).والتعريف في الكافرين } تعريف الجنس ، مفيد للاستغراق ، أي : جميع الكافرين ممن ذكر وغيرهم .وفي قوله : { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } إلى آخر الآية ، تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من قومه هو سنّة الرسل السابقين ، وأن ذلك ليس لتقصير منه ، ولا لضعف آياته ، ولكنه للختم على قلوب كثير من قومه .
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ۖ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ
📘 وعطفت جملة : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } على جملة : { ولقد جاءتهم رسلهم } وما رتب عليها من قوله : { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } تنبيهاً على رسوخ الكفر من نفوسهم بحيث لم يقلعه منهم لا ما شاهدوه من البينات ، ولا ما وضعه الله في فطرة الإنسان من اعتقاد وجود إله واحد وتصديق الرسل الداعين إليه ، ولا الوفاءُ بما عاهدوا عليه الرسل عند الدعوة : إنهم إن أتوهم بالبينات يؤمنون بها .والوجدان في الموضعين مجاز في العلم ، فصار من أفعال القلوب ، ونفيه في الأول كناية عن انتفاء العهد بالمعنى المقصود ، أي : وفائه ، لأنه لو كان موجوداً لعَلمه مَنْ شأنه أن يعلمَه ويبحث عنه عند طلب الوفاء به ، لا سيما والمتكلم هو الذي لا تخفى عليه خافية كقوله : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً } [ الأنعام : 145 ] الآية ، أي لا محرم إلاّ ما ذكر ، فمعنى { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } ما لأكثرهم عهد .والعهدُ : الالتزامُ والوعدُ المؤكّدُ وقوعُه ، والمُوَثّقُ بما يمنع من إخلافه : من يمين ، أو ضمان ، أو خشية مسبة ، وهو مشتق من عَهِد الشيء بمعنى عَرفه ، لأن الوعد المؤكد يعرفه ملتزمه ويحرص أن لا ينساه .ويسمى إيقاع ما التزمه الملتزم من عهده الوفاءَ بالعهد ، فالعهد هنا يجوز أن يراد به الوعد الذي حققَه الأممُ لرسلهم مثل قولهم : فأننا بآية إن كنت من الصادقين ، فإن معنى ذلك : إن أتيتنا بآية صدقناك . ويجوز أن يراد به وعد وثقه أسلاف الأمم من عهد آدم أن لا يعبدوا إلاّ الله وهو المذكور في قوله تعالى : { ألَمْ أعْهَدْ إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } [ يس : 60 ] الآية ، فكان لازماً لأعقابهم .ويجوز أن يراد به ما وعَدت به أرواح البشر خالقها في الأزل المحكيُ في قوله تعالى : { وإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريّاتهم وأشهدهم على أنفسهم ألسّتُ بربّكم قالوا بلى شهدنا } [ الأعراف : 172 ] الآية . وهو عبارة عن خلق الله فطرة البشرية معتقدة وجود خالقها ووحدانيتَه ، ثم حرفتها النزعات الوثنية والضلالات الشيطانية .ووقوع اسم هذا الجنس في سياق النفي يقتضي انتفاءه بجميع المعاني الصادق هو عليها .ومعنى انتفاء وجدانه . هو انتفاء الوفاء به ، لأن أصل الوعد ثابت موجود ، ولكنه لما كان تحققه لا يظهر إلاّ في المستقبل ، وهو الوفاء ، جعل انتفاء الوفاء بمنزلة انتفاء الوقوع ، والمعنى على تقدير مضاف ، أي : ما وجدنا لأكثرهم من وفاء عهد .وإنما عدّي عدم وجدان الوفاء بالعهد في { أكثرهم } للإشارة إلى إخراج مؤمني كل أمة من هذا الذم ، والمراد بأكثرهم ، أكثر كل أمة منهم ، لا أمة واحدة قليلة من بين جميع الأمم .وقوله : { وإنْ وجدْنا أكثرهم لفَاسقين } إخبار بأن عدم الوفاء بالعهد من أكثرهم كان منهم عن عمد ونكث ، ولكون ذلك معنى زائداً على ما في الجملة التي قبلها عطفت ولم تجعل تأكيداً للتي قبلها أو بياناً ، لأن الفسق هو عصيان الأمر ، وذلك أنهم كذبوا فيما وعدوا عن قصد للكفر .و ( إنْ ) مخففة من الثقيلة ، وبعدها مبتدأ محذوف هو ضمير الشأن ، والجملة خبر عنه تنويهاً بشأن هذا الخبر ليعلمه السامعون .واللام الداخلة في خبر { وجدنا } لام ابتداء ، باعتبار كون ذلك الخبر خبراً من جملة هي خبر عن الاسم الواقع بعد ( إنْ ) ، وجلبت اللام للتفرقة بين المخففة والنافية .وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى : { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } [ آل عمران : 164 ].وأسند حكم النكث إلى أكثر أهل القرى ، تبيناً لكون ضمير { فما كانوا ليؤمنوا } جرى على التغليب ، ولعل نكتة هذا التصريح في خصوص هذا الحكم أنه حكم مذمة ومسبة ، فناسبت محاشاة من لم تلتصق به تلك المسبة .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
📘 انتقال من أخبار الرسالات السابقة إلى أخبار رسالة عظيمة لأمة باقية إلى وقت نزول القرآن فضّلها الله بفضله فلم تُوَف حق الشكر وتلقت رسولها بين طاعة وإباء وانقياد ونفار ، فلم يعاملها الله بالاستيصال ولكنه أراها جزاء مختلف أَعمالها ، جزاء وفاقاً ، إنْ خيراً فخير ، وإن شراً فشر .وخصت بالتفضيل قصة إرسال موسى لِما تحتوي عليه من الحوادث العظيمة ، والأنباء القيمة ، ولأن رسالته جاءت بأعظم شريعة بين يدي شريعة الإسلام ، وأرسل رسولها هادياً وشارعاً تمهيداً لشريعة تأتي لأمة أعظم منها تكون بعدها ، ولأن حال المرسل إليهم أشبه بحال من أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا فريقيْن كثيريْن اتَبع أحدهم موسى وكفَر به الآخر ، كما اتّبع محمداً عليه السلام جمع عظيم وكفر به فريق كثير ، فأهلك الله من كفر ونصر من آمن .وقد دلت { ثم } على المُهلة : لأن موسى عليه السلام بعث بعد شعيب بزمن طويل ، فإنه لما توجه إلى مدين حين خروجه من مصر ، رجَا الله أن يهديَه فوجد شعيباً ، وكان اتصاله به ومصاهرته تدريجاً له في سلم قبول الرسالة عن الله تعالى فالمهلة باعتبار مجموع الأمم المحكي عنها قبل ، فإن منها ما بينه وبين موسى قرونَ مثل قوم نوح ، ومثل عاد وثمود ، وقوم لوط ، فالمهلة التي دلت عليها { ثم } متفاوتة المقدار ، مع ما يقتضيه عطف الجملة بحرف { ثم } من التراخي الرتبي وهو ملازم لها إذا عطفت بها الجمل . فحرف ( ثم ) هنا مستعمل في معنيي المهلة الحقيقي والمجازي .والضمير في قوله : { من بعدهم } يعود إلى القرى ، باعتبار أهلها ، كما عادت عليهم الضمائر في قوله { ولقد جاءتهم رسلهم } الآيتين [ الأعراف : 101 ].والباء في { بآياتنا } للملابسة ، وهي في موضع الحال من موسى ، أي : مصحوباً بآيات منا ، والآيات : الدلائل على صدق الرسول ، وهي المعجزات ، قال تعالى : { قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } [ الأعراف : 106 ، 107 ].و { فرعون } علَم جنس لملك مصر في القديم ، أي : قبل أن يملكها اليونان ، وهو اسم من لغة القبط . قيل : أصله في القبطية ( فاراه ) ولعل الهاء فيه مبدلة عن العين فإن ( رع ) اسم الشمس فمعنى ( فاراه ) نور الشمس لأنهم كانوا يعبدون الشمس فجعلوا ملك مصر بمنزلة نور الشمس ، لأنه يصلح الناس ، نقل هذا الاسم عنهم في كتب اليهود وانتقل عنهم إلى العربية ، ولعله مما أدخله الإسلام ، وهذا الاسم نظير ( كسرى ) لملك ملوك الفرس القدماء ، و ( قيصر ) لملك الروم ، و ( نمروذ ) لملك كنعان ، و ( النجاشي ) لملك الحبش ، و ( تُبَع ) لملك ملوك اليمن ، و ( خان ) لملك الترك .واسم فرعون الذي أرسل موسى إليه : منفطاح الثاني ، أحد ملوك العائلة التاسعة عشرة من العائلات التي ملكت مصر ، على ترتيب المؤرخين من الإفرنج وذلك في سنة 1491 قبل ميلاد المسيح .والملأ : الجماعة من علية القوم ، وتقدم قريباً ، وهم وزراء فرعون وسادة أهل مصر من الكهنة وقواد الجند ، وإنما خص فرعون وملأه لأنهم أهل الحل والعقد الذين يأذنون في سراح بني إسرائيل ، فإن موسى بعثه الله إلى بني إسرائيل ليحررهم من الرق الذي كانوا فيه بمصر ، ولما كان خروجهم من مصر متوقفاً على أمر فرعون وملئه بعثه الله إليهم ليعلموا أن الله أرسل موسى بذلك ، وفي ضمن ذلك تحصل دعوة فرعون للهُدى ، لأن كل نبيء يُعلن التوحيد ويأمر بالهدى ، وإن كان المأمور من غير المبعوث إليهم حرصاً على الهُدى إلاّ أنَّه لا يقيم فيهم ولا يكرر ذلك ، والفاء في قوله : { فظلموا } للتعقيب أي فبادروا بالتكذيب .والظلم : الاعتداء على حق الغير ، فيجوز أن يكون { فظلموا } هنا على أصل وضعه وتكون الباء للسببية ، وحذف مفعول ( ظلموا ) لقصد العموم ، والمعنى : فظلموا كل من له حق في الانتفاع بالآيات ، أي منعوا الناس من التصديق بها وآذوا الذين آمنوا بموسى لَمّا رأوا آياته ، كما قال تعالى : { قال فرعون أآمنتم به قبل أن آذن لكم إلى قوله لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } [ الأعراف : 123 ، 124 ] الآية .وظلموا أنفسهم إذ كابروا ولم يُؤمنوا ، فكان الظلم بسبب الآيات أي بسبب الاعتراف بها .ويجوز أن يكون ضمّن { ظلموا } معنى كفروا فعدّي إلى الآيات بالباء ، والتقدير : فظلموا إذ كفروا بها ، لأن الكفر بالآيات ظلم حقيقة ، إذ الظلم الاعتداء على الحق فمن كفر بالدلائل الواضحة المسماة ( آيات ) فقد اعتدى على حق التأمل والنظر .والفاء في قوله : { فانظر } لتفريع الأمر على هذا الإخبار ، أي : لا تتريّث عند سماع خبر كفرهم عن أن تبادر بالتدبّر فيما سنقص عليك من عاقبتهم .والمنظور هو عاقبتهم التي دل عليها قوله : { فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } [ الأعراف : 136 ] وهذا النظر نظر العقل وهو الفكر المُؤَدِّي إلى العلم فهو من أفعال القلوب .والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد هو ومن يَبْلغْه ، أو المخاطب غيرُ معين وهو كل من يتأتى منه النظر والاعتبار عند سماع هذه الآيات ، فالتقدير : فانظر أيها الناظر ، وهذا استعمال شائع في كل كلام موجه لغير معين .ولما كان ما آل إليه أمر فرعون وملئه حالة عجيبة ، عبر عنه ب ( كيف ) الموضوعة للسؤال عن الحال ، والاستفهام المستفاد من ( كيف ) يقتضي تقدير شيء ، أي : انظر عاقبة المفسدين التي يسأل عنها بكيف .وعُلّق فعل النظر عن العمل لمجيء الاستفهام بعده ، فصار التقدير : فانظر ، ثم افتتح كلاماً بجملة { كيف كان عاقبة المفسدين } ، والتقدير في أمثاله أن يقدر : فانظر جوابَ كيفَ كان عاقبة المفسدين .والعاقبة : آخر الأمر ونهايته ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } في سورة الأنعام ( 11 ).والمراد بالمفسدين : فرعون وملأه ، فهو من الإظهار في مقام الإضمار تنبيهاً على أنهم أصيبوا بسوء العاقبة لكفرهم وفسادهم ، والكفر أعظم الفساد لأنه فساد القلب ينشأ عنه فساد الأعمال ، وفي الحديث : « ألا وإن في الجسد مُضْغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب » .
وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
📘 عُطف قول موسى بالواو ، ولم يفصل عمّا قبله ، مع أن جملة هذا القول بمنزلة البيان لجملة { بعثنا من بعدهم موسى } [ الأعراف : 103 ] ، لأنه لما كان قوله : { بآياتنا } [ الأعراف : 103 ] حالاً من موسى فقد فهم أن المقصود تنظير حال الذين أرسل إليهم موسى بحال الأمم التي مضى الإخبار عنها في المكابرة على التكذيب ، مع ظهور آيات الصدق ، ليتم بذلك تشابه حال الماضين مع حال الحاضرين المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم فجُعلت حكايةُ محاورة موسى مع فرعون وملئه خَبَراً مستقلاً لأنه لم يُحك فيه قوله المقارن لإظهار الآية بل ذكرت الآية من قبلُ ، بخلاف ما حكي في القصص التي قبلَها فإن حكاية أقوال الرسل كانت قبل ذكر الآية ، ولأن القصة هنا قد حكي جميعها باختصار بجُمَل { بَعَثْنَا } [ الأعراف : 103 ] ، { فظلموا } [ الأعراف : 103 ] ، { فانظر } [ الأعراف : 103 ] ، فصارت جملة : { قال } تفصيلاً لبعض ما تقدم ، فلا تكون مفصولة لأن الفصل إنما يكون بين جملتين ، لا بين جملة وبين عدة جمل أخرى .والظاهر أن خطاب موسى فرعونَ بقوله : { يا فرعون } خطاب إكرام لأنه ناداه بالاسم الدال على الملك والسلطان بحسب متعارف أمته فليس هو بترفع عليه لأن الله تعالى قال له ولهارون { فقولا له قولاً لينّاً } [ طه : 44 ] ، والظاهر أيضاً أن قول موسى هذا هو أول ما خاطب به فرعون كما دلت عليه سورة طه .وصوغ حكاية كلام موسى بصيغة التأكيد بحرف ( إن ) لأن المخاطب مظنة الإنكار أو التردد القوي في صحة الخبر .واختيار صفة { رب العالمين } في الإعلام بالمرسِل إبطال لاعتقاد فرعون أنه رب مصر وأهلها فإنه قال لهم : { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] فلما وصف موسى مُرْسلَه بأنه رب العالمين شمل فرعون وأهل مملكته فتبطل دعوى فرعون أنه إلاه مصر بطريق اللزوم ، ودخل في ذلك جميع البلاد والعباد الذين لم يكن فرعون يدعي أنه إلههم مثل الفرس والأشوريين .
حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
📘 وقوله : { حقيق عَليّ } قرأه نافع بالياء في آخر ( علي ) فهي ياء المتكلم دخل عليها حرف ( على ) وتعدية حقيق بحرف ( على ) معروفة . قال تعالى : { فحق علينا قول ربنا } [ الصافات : 31 ] ، ولأن حقيق بمعنى واجب فتعديته بحرف على واضحة ، و { حقيقٌ } خبر ثان عن { إني } ، فليس في ضمير المتكلم من قوله : ( علي ) على قراءة نافع التفات ، بخلاف ما لو جعل قوله : { حقيق } صفة ل { رسول } فحينئذٍ يكون مقتضى الظاهر الإتيان بضمير الغائب ، فيقول : حقيق عليه ، فيكون العدول إلى التكلم التفاتاً ، وفاعل { حقيق } هو المصدر المأخوذ من قوله : { أنْ لا أقولَ } أي : حقيق علي عدم قولي على الله غيرَ الحق .وحقيق فعيل بمعنى فاعل ، وهو مشتق من ( حَق ) بمعنى وجب وثبت أي : متعين وواجب علي قول الحق على الله ، و ( على ) الأولى للاستعلاء المجازي و ( على ) الثانية بمعنى عن ، وقرأ الجمهور ( علىَ ) بألف بعد اللام ، وهي ( على ) الجارة .ففي تعلق ( على ) ومجرورها الظاهر ب { حقيق } تأويلٌ بوجوه أحسنها قول الفراء ، وأبي علي الفارسي : أن ( على ) هنا بمعنى الباء وأن { حقيق } فعيل بمعنى مفعول : أي محقوق بأن لا أقول على الله إلاّ الحق ، أي : مجعول قولُ الحق حقّاً علي ، كقَول الأعشى : "لَمَحْقُوقَةٌ أنْ تَسْتَجيبيِ لقَوْلِهِ "أي محقوقة بأن تستجيبي ، وقول سعيد بن زيد «ولوْ أنّ أُحُداً انْقضّ لِما صنعتم بعُثْمانَ لكان محقوقاً بأن ينقضّ» .ومنها ما قال صاحب «الكشاف» «والأوْجهُ الأدْخلُ في نُكت القرآن أن يُغْرِقَ موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام فيقول : أنا حقيق على قوللِ الحق ، أي : أنا واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله والقائمَ به» . قال شارحوه : فالمعنى لو كان قول الحق شخصاً عاقلاً لكنتُ أنا واجباً عليه . أن لا يصْدُرَ إلاّ عنّي وأن أكون قائله ، وهو على هذا استعارة بالكناية : شُبه قول الحق بالعقلاء الذين يختارون مواردهم ومصادرهم . ورُمز إلى المشبه به بما هو من رَوادفه ، وهو كون ما يناسبه متعيناً عليه .ومنها ما قيل : ضمن { حقيق } معنى حريص فعُدّي بعلى إشارة إلى ذلك التضمين وأحسن من هذا أن يضمن { حقيق } معنى مكين وتكون ( على ) استعارة للاستعلاء المجازي .وجملة { قد جئتمكم ببينة } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن مقام الإنكار مما يثير سؤال سائل أن يقول هذه دعوى غريبة تحتاج إلى بينة .والبينة : الحجة . وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { قل إني على بينة من ربي } في سورة [ الأنعام : 57 ]. والحجة هنا يجوز أن يكون المراد بها البراهين العقلية على صدق ما جاء به موسى من التوحيد والهُدى ، ويجوز أن تكون المعجزة الدالةَ على صدق الرسول . فعلى الوجه الأول تكون الباء في قوله : { ببينة } لتعدية فعل المجيء ، وعلى الوجه الثاني تكون الباء للملابسة ، والمراد بالملابسة ملابسة التمكن من إظهار المعجزة التي أظهرها الله له كما في سورة [ طه : 17 ] { وما تلك بيمينك يا موسى } ويحتمل المعنى الأعم الشامل للنوعين على ما يحتمله كلام موسى المترجم عنه هنا .والفاء في قوله فأرْسلْ } لتفريع طلب تسريح بني إسرائيل على تحقق الرسالة عن رب العالمين ، والاستعداد لإظهار البينة على ذلك ، وقد بنى موسى كلامه على ما يثق به من صدق دعوته مع الاستعداد للتبيين على ذلك الصدق بالبراهين أو المعجزة إن طلبها فرعون لأن شأن الرسل أن لا يبتدئوا بإظهار المعجزات صوناً لمقام الرسالة عن تعريضه للتكذيب ، كما بيناه عند قوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليُؤمنن بها } الآيات في سورة [ الأنعام : 109 ].والإرسال : الإطلاق والتخلية ، كقولهم : أرسلها العراك ، وهو هنا مجاز لغوي في الإذن لبني إسرائيل بالخروج ، المطلوب من فرعون .وتقييده ب { معي } لأن المقصود من إخراجهم من مصر أن يكونوا مع الرسول ليرشدهم ويدبر شؤونهم .
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
📘 وقول فرعون : { إن كنت جئت برية فأت بها } مُتعين لأن يكون معناه : إن كنت جئت بمعجزة ، فإن أكثر موارد الآية في القرآن مراد فيه المعجزة ، وأكثر موارد البينة مراد فيه الحجة ، فالمراد بالبينة في قول موسى { قد جئتكم ببينة من ربكم } الحجة على إثبات الإلهية وعلى حقية ما جاء به من إرشاد لقومه ، فكان فرعون غير مقتنع ببرهان العقل أو قاصراً عن النظر فيه فانتقل إلى طلب خارق العادة ، فالمعنى : إن كنت جئتنا متمكناً من إظهار المعجزات ، لأن فرعون قال ذلك قبل أن يظهر موسى عليه السلام معجزته ، فالباء في قوله : { بآية } للمعية التقديرية ، أي : متمكناً من آية ، أو الباء للملابسة ، والملابسة معناها واسع ، أي : لك تمكين من إظهار آية .وقوله : { فأت بها } استعمل الإتيان في الإظهار مجازاً مرسلاً ، فالباء في قوله : { بها } لتعدية فعل الإتيان ، وبذلك يتضح ارتباط الجزاء بالشرط ، لأن الإتيان بالآية المذكورة في الجزاء هو غير المجيء بالآية المذكورة في الشرط ، أي : إن كنت جئت متمكناً من إظهار الآية فأظهر هذه الآية .
فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ
📘 والإلقاء : الرمي على الأرض أو في الماء أو نحو ذلك ، أي : فرمى عصاه من يده .و ( إذا ) للمفاجأة وهي حدوث الحادث عن غير ترقب .والثعبان : حية عظيمة ، و { مبين } اسم فاعل من أبان القاصر المرادف لبان ، أي ظهر ، أي : الظاهر الذي لا شك فيه ولا تخيل .
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ
📘 ونزع : أزال اتصال شيء عن شيء ، ومنه نزع ثوبه ، والمعنى هنا أنه أخرج يده من جيب قميصه بعد أن أدخلها في جيبه كما في سورة النمل وسورة القصص فلما أخرجها صارت بيضاء ، أي بياضاً من النور .وقد دل على هذا البياض قوله : { للناظرين } ، أي بياضاً يراه الناظرون رؤية تعجب من بياضها . فالمقصود من ذكر قوله : { للناظرين } تتميم معنى البياض .واللام في قوله : { للناظرين } لم يعرج المفسرون على بيان معناها وموقعها سوى أن صاحب «الكشاف» قال : «يتعلق للناظرين ببيضاء» دون أن يبين نوع التعلق ولا معنى اللام ، وسكت عليه «شراحه» والبيضاوي ، وظاهر قوله يتعلق أنه ظرف لغو تعلق ببيضاء فلعله لما في بيضاء من معنى الفعل كأنه قيل : ابيضّت للناظرين كما يتعلق المجرور بالمشتق فتعين أن يكون معنى اللام هو ما سماه ابن مالك بمعنى التعدية وهو يريد به تعدية خاصة ( لا مطلقَ التعدية أي تعدية الفعل القاصر إلى ما لا يتعدى له بأصل وضعه لأن ذلك حاصل في جميع حروف الجر ، فلا شك أنه أراد تعدية خاصة لم يبين حقيقتها . وقد مثل لها في «شرح الكافية» بقوله تعالى : { فهب لي من لدنك ولياً } [ مريم : 5 ] وجعل في «شرح التسهيل» هذا المثال مثالاً لمعنى شبه الملك ، واختار ابن هشام أن يمثل للتعدية بنحو ما أضرب زيداً لعمرو .ولم يفصحوا عن هذه التعدية الخاصة باللام ، ويظهر لي أنها عمل لفظي محض ، أي لا يفيد معنى جزئياً كمعاني الحروف ، فتحصّل أنهم في ارتباك في تحقيق معنى التعدية ، وعندي أن قوله تعالى : { بيضاء للناظرين } أحسن ما يمثل به لكون اللام للتعدية وأن نفسر هذا المعنى بأنه تقريب المتعلّق بكسر اللام لمتعلّق بفتح اللام تقريباً لا يجعله في معنى المفعول به .وإن شئت إرجاع معنى التعدية إلى أصل من المعاني المشهورة للام ، فالظاهر أنها من فروع معنى شبه الملك كما اقتضاه جعل ابن مالك المثال الذي مثل به للتعدية مثالاً لشبه الملك .وأقرب من ذلك أن تكون اللام بمعنى ( عند ) ويكون مفاد قوله تعالى : { بيضاء للناظرين } أنها بيضاء بياضاً مستقراً في أنظار الناظرين ويكون الظرف مستقراً يجعل حالاً من ضمير يده .
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ
📘 جرت جملة : { قال الملأ } على طريقة الفصل لأنها جرت في طريق المحاورة الجارية بين موسى وبين فرعون وملئه فإنه حوار واحد .وتقدم الكلام على الملإِ آنفاً في القصص الماضية ، فملأ قوم فرعون هم سادتهم وهم أهل مجلس فرعون ومشورته ، وقد كانت دعوة موسى أول الأمر قاصرة على فرعون في مجلسه فلم يكن بمرأى ومسمع من العامة لأن الله تعالى قال في آية أخرى { اذهبا إلى فرعون إنه طغى } [ طه : 43 ] وقال في هذه الآية : { إلى فرعون وملائه } [ الأعراف : 103 ] وإنما أشهرت دعوته في المرة الآتية بعد اجتماع السحرة .وإنما قالوا هذا الكلام على وجه الشورى مع فرعون واستنباط الاعتذار لأنفسهم عن قيام حجة موسى في وجوههم فاعتلوا لأنفسهم بعضهم لبعض بأن موسى إنما هو ساحر عليم بالسحر أظهر لهم ما لا عهد لهم بمثله من أعمال السحرة ، وهذا القول قد أعرب عن رأي جميع أهل مجلس فرعون ، ففرعون كان مشاركاً لهم في هذا لأن القرآن حكى عن فرعون في غير هذه السورة أنه قال للملإ حوله { إن هذا لساحر عليم } ، وهذه المعذرة قد انتحلوها وتواطأوا عليها تبعوا فيها ملكهم أو تبعهم فيها ، فكل واحد من أهل ذلك المجلس قد وطَّن نفسه على هذا الاعتذار ولذلك فالخطاب في قوله : { يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون } خطاب بعضهم لبعض وهو حاصل من طوائف ذلك الملأ لطوائفَ يرددونه بينهم ويقوله بعضهم لبعض .
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ
📘 عطف على جملة : { ولقد مكناكم في الأرض } [ الأعراف : 10 ] تذكيراً بنعمة إيجاد النّوع ، وهي نعمة عناية ، لأنّ الوجود أشرف من العدم ، بقطع النّظر عما قد يعرض للموجود من الأكدار والمتاعب ، وبنعمة تفضيله على النّوع بأنْ أمَر الملائكة بالسّجود لأصله ، وأُدمج في هذا الامتنان تنبيهٌ وإيقاظ إلى عداوة الشّيطان لنوع الإنسان من القِدم ، ليكون ذلك تمهيداً للتّحذير من وسوسه وتضليله ، وإغراء بالإقلاع عمّا أوقع فيه النّاس من الشّرك والضّلالة ، وهو غرض السورة ، وذلك عند قوله تعالى : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] ومَا تلاه من الآيات ، فلذلك كان هذا بمنزلة الاستدلال وُسِّط في خلال الموعظة .والخطاب للنّاس كلّهم ، والمقصود منه المشركون ، لأنّهم الغرض في هذه السورة .وتأكيد الخبر باللاّم و ( قد ) للوجه الذي تقدّم في قوله : { ولقد خلقناكم } ، وتعدية فعلي الخلق والتّصوير إلى ضمير المخاطبين ، لما كان على معنى خلق النّوع الذي هم من أفراد تعيّن أن يكون المعنى : خلقنا أصلكم ثمّ صوّرناه ، وهو آدم ، كما أفصح عنه قوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم }.والخلق الإيجاد وإبراز الشّيء إلى الوجود ، وهذا الإطلاق هو المراد منه عند إسناده إلى الله تعالى أو وَصْف الله به .والتّصوير جعل الشّيء صورة ، والصّورة الشّكل الذي يشكّل به الجسم كما يشكّل الطين بصورة نوع من الأنواع .وعطفت جملة { صورناكم } بحرف ( ثمّ ) الدّالة على تراخي رتبة التّصوير عن رتبة الخلق ، لأنّ التّصوير حالة كمال في الخلق بأن كان الإنسان على الصورة الإنسانيّة المتقنة حسناً وشرفاً ، بما فيها من مشاعر الإدراك والتّدبير ، سواء كان التّصوير مقارناً للخلق كما في خلق آدم ، أم كان بعد الخلق بمدّة ، كما في تصوير الأجنّة من عظام ولحم وعصب وعروق ومشاعر ، كقوله تعالى : { فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً } [ المؤمنون : 14 ].وتعدية فعلي ( خلقنا ) و ( صوّرنا ) إلى ضمير الخطاب ينتظم في سلك ما عاد إليه الضّمير قبله في قوله : { ولقد مكناكم في الأرض } [ الأعراف : 10 ] الآية فالخطاب للنّاس كلّهم توطئة لقوله فيما يأتي : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] والمقصود بالخصوص منه المشركون لأنّهم الذين سوّل لهم الشّيطان كفران هذه النّعم لقوله تعالى عقب ذلك : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } [ الأعراف : 28 ] وقوله فيما تقدّم : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } [ الأعراف : 3 ].وأمّا تعلُّق فعلي الخلق والتّصوير بضمير المخاطبين فمراد منه أصل نوعهم الأوّل وهو آدم بقرينة تعقيبه بقوله : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فنُزل خلق أصل نوعهم منزلةَ خلق أفراد النّوع الذين منهم المخاطبون لأنّ المقصود التّذكير بنعمة الإيجاد ليشكروا موجدهم ونظيره قوله تعالى : { إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية }[ الحاقة : 11 ] أي حملنا أصولكم وهم الذين كانوا مع نوح وتناسل منهم النّاس بعد الطّوفان ، لأنّ المقصود الامتنان على المخاطبين بإنجاء أصولهم الذين تناسلوا منهم ، ويجوز أن يؤول فعلا الخلق والتّصوير بمعنى إرادة حصول ذلك ، كقوله تعالى : حكاية عن كلام الملائكة مع إبراهيم : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين } [ الذاريات : 35 ] أي أردنا إخراج من كان فيها ، فإن هذا الكلام وقع قبل أمر لوط ومَن آمن به بالخروج من القرية .ودلّ قوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } على أنّ المخلوق والمصوّر هو آدم ، ومعنى الكلام خلقنا أصلكم وصوّرناه فبرز موجوداً معيَّناً مسمّى بآدم ، فإنّ التّسمية طريق لتعيين المسمّى ، ثمّ أظهرنا فضله وبديع صنعنا فيه فقلنا للملائكة اسجدوا له فوقع إيجاز بديع في نسج الكلام .و ( ثُمّ ) في قوله : { ثم قال للملائكة اسجدوا لآدم } عاطفةٌ الجملةَ على الجملة فهي مقيّدة للتّراخي الرّتبي لا للتّراخي الزّماني وذلك أنّ مضمون الجملة المعطوفة هنا أرقى رتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها .وقوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } ، تقدّم تفسيره ، وبيانُ ما تقدّم أمَر الله الملائكةَ بالسّجود لآدم ، من ظهور فضل ما علمه الله من الأسماء ما لم يَعلِّمه الملائكة ، عند قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } في سورة البقرة ( 34 ).وتعريف { الملائكة } للجنس فلا يلزم أن يكون الأمر عاماً لجميع الملائكة ، بل يجوز أن يكون المأمورون هم الملائكة ، الذين كانوا في المكان الذي خُلق فيه آدم ، ونقل ذلك عن ابن عبّاس ، ويحتمل الاستغراق لجميع الملائكة . وطريق أمرهم جميعاً وسجودِهم جميعاً لآدم لا يعلمه إلاّ الله ، لأنّ طرق علمهم بمراد الله عنهم في العالم العلوي لا تقاس على المألوف في عالم الأرض .واعلم أن أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم لا يقتضي أن يكون آدمُ قد خلق في العالم الذي فيه الملائكة بل ذلك محتمل ، ويحتمل أنّ الله لمّا خلق آدم حشر الملائكة ، وأطلعهم على هذا الخلق العجيب ، فإنّ الملائكة ينتقلون من مكان إلى مكان فالآية ليست نصّاً في أنّ آدم خلق في السّماوات ولا أنّه في الجنّة التي هي دار الثّواب والعقاب ، وإن كان ظاهرها يقتضي ذلك ، وبهذا الظاهر أخذ جمهور أهل السنّة ، وتقدّم ذلك في سورة البقرة . واستثناء إبليس من الساجدين في قوله : { إلا إبليس } يدلّ على أنّه كان في عداد الملائكة لأنّه كان مختلطا بهم . وقال السكاكي في «المفتاح» عُدّ إبليس من الملائكة بحكم التّغليب .وجملة : عغتاة ، { لم يكن من الساجدين } حال من ( إبليس ) ، وهي حال مؤكدة لمضمون عاملها وهو ما دلّت عليه أداة الاستثناء ، لما فيها من معنى : أستثنِي ، لأنّ الاستثناء يقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنَى ، وهو عين مدلول : لم يكن من الساجدين فكانت الحال تأكيداً . وفي اختيار الاخبار عن نفي سجوده بجعْلِه من غير السّاجدين : إشارة إلى أنّه انتفى عنه السّجود انتفاء شديداً لأنّ قولك لم يكن فلان من المهتدين يفيد من النّفي أشدّ ممّا يفيده قولك لم يكن مُهتدياً كما في قوله تعالى :{ قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام ( 56 ).ففِي الآية إشارة إلى أنّ الله تعالى خلق في نفس إبليس جبلة تدفعه إلى العصيان عندما لا يوافق الأمر هواه ، وجعل له هوىً ورأياً ، فكانت جبلته مخالفة لجبلة الملائكة . وإنّما استمرّ في عِداد الملائكة لأنّه لم يَحدث من الأمر ما يخالف هواه ، فلمّا حدث الأمرُ بالسّجود ظَهر خُلق العصيان الكامِنُ فيه ، فكان قوله تعالى : لم يكن من الساجدين } إشارة إلى أنّه لم يقدّر له أن يكون من الطائفة السّاجدين ، أي انتفى سجوده انتفاء لارجاء في حصوله بعدُ ، وقد عُلِم أنّه أبى السّجود إباء وذلك تمهيداً لحكاية السّؤال
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ۖ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
📘 الخطاب في قوله : { يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون } خطاب بعضهم لبعض وهو حاصل من طوائف ذلك الملأ لطوائفَ يرددونه بينهم ويقوله بعضهم لبعض .ووجه استفادتهم أن موسى يريد إخراجهم من أرضهم ، إما أنهم قاسوا ذلك عن قول موسى { فأرسل معى بني إسرائيل } [ الأعراف : 105 ] بقاعدة ما جاز على المثل يجوز على المماثل ، يعنون أنه ما أظهر إخراج بني إسرائيل إلاْ ذريعة لإخراج كل من يؤمن به ليتخدهم تبعاً ويقيم بهم ملكاً خارجَ مصر . فزعموا أن تلك مكيدة من موسى لثلم ملك فرعون .وإما أن يكون ملأ فرعون محتوياً على رجال من بني إسرائيل كانوا مقربين عند فرعون ومن أهل الرأي في المملكة ، فهم المقصود بالخطاب ، أي : يريد إخراج قومكم من أرضكم التي استوطنتموها أربعة قرون وصارت لكم موطناً كما هي للمصريين ، ومقصدهم من ذلك تذكيرهم بحب وطنهم ، وتقريبهم من أنفسهم ، وإنساؤهم ما كانوا يلقون من اضطهاد القبط واستذلالهم ، شعوراً منهم بحراجة الموقف .وإما إنهم علموا أنه إذا شاع في الأمة ظهور حجة موسى وعَجْز فرعون وملئه أدخل ذلك فتنة في عامة الأمة فآمنوا بموسى وأصبح هو الملك على مصر فأخرج فرعونَ وملأه منها .ويجوز أن يكون الملأ خاطبوا بذلك فرعون . فجرَتْ ضمائر الخطاب في قوله : { أن يخرجكم من أرضكم } على صيغة الجمع تعظيماً للملك كما في قوله تعالى : { قال رب ارجعون } [ المؤمنون : 99 ] وهذا استعمال مطرد .والأمر حقيقته طلبُ الفعل ، فمعنى { فماذا تأمرون } ماذا تطلبون أن نفعل ، وقال جماعة من أهل اللغة : غلب استعمال الأمر في الطلب الصادر من العلي إلى من دونه فإذا التزم هذا كان إطلاقه هنا على وجه التلطف مع المخاطبين ، وأياً ما كان فالمقصود منه الطلب على وجه الإفتاء والاشتوار لأن أمرهم لا يتعين العمل به ، فإذا كان المخاطب فرعون على ما تقدم ، كان مراداً من الأمر الطلب الذي يجب امتثاله كما قال ملأ بلقيس : { فانظُرِي ماذا تأمرين } [ النمل : 33 ].والساحر فاعل السحر ، وتقدم الكلام على السحر عند قوله تعالى : { يعلمون الناس السحر } في سورة البقرة ( 102 ).
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ
📘 وجملة : { قالوا أرجه } جواب القوم المستشَارين ، فتجر يدها من حرف العطف لجريانها في طريق المحاورة ، أي : فأجاب بعض الملأ بإبداء رأي لفرعون فيما يتعين عليه اتخاذه . ويجوز أن تكون جملة : { قالوا أرجه } بدلاً من جملة : { قال الملأ من قوم فرعون } بإعادة فعل القول وهو العامل في المبدل منه إذا كان فرعون هو المقصود بقولهم : { فماذا تأمرون }.وفعل { أرجه } أمر من الإرجاء وهو التأخير . قرأه نافع ، وعاصم ، والكسائي وأبو جعفر { أرجه } بجيم ثم هاء وأصله ( أرجئه ) بهمزة بعد الجيم فسُهلت الهمزة تخفيفاً ، فصارت ياء ساكنة ، وعوملت معاملة حرف العلة في حالة الأمر ، وقرأه الباقون بالهمز ساكناً على الأصل ولهم في حركات هاء الغيبة وإشباعها وجوه مقررة في علم القراءات .والمعنى : أخّرْ المجادلة مع موسى إلى إحضار السحرة الذين يدافعون سحره ، وحكى القرآن ذكر الأخ هنا للإشارة إلى أنه طوي ذكره في أول القصة ، وقد ذكر في غير هذه القصة ابتداء .وعدي فعل الإرسال ( بفي ) دون ( إلى ) لأن الفعل هنا غير مقصود تعديته إلى المرسل إليهم بل المقصود منه المرسَلون خاصة . وهو المفعول الأول . إذ المعنى : وأرسل حاشرين في المدائن يأتوك بالسّحرة ، فعُلم أنهم مرسلون للبحث والجلب . لا للإبلاغ وهذا قريب من قوله تعالى : { فأرسلنا فيهم رسولاً منهم } في سورة المؤمنين ( 32 ) ، قال في { الكشاف } هنالك : «لم يُعَد الفعل بقي مثلَ ما يُعدى بإلى ، ولكن الأمة جعلت موضعاً للإرسال كما قال رؤبة :أرسلتَ فيها مُصْعَبا ذَا إقحام ... وقد جاء ( بَعَثَ ) على ذلك في قوله : { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً } [ الفرقان : 51 ] ، وقد تقدم آنفاً قريب منه عند قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبي } [ الأعراف : 94 ].والمَدائن : جمع مدينة ، وهي بوزن فعيلة ، مشتقة من مَدَن بالمكان إذا أقام ولعل ( مَدَن ) هو المشتق من المدينة لا العكس ، وأيّاً ما كان فالأظهر أن ميم مدينة أصلية ولذلك جمعت على مدائن بالهمزة كما قالوا ( صَحَائف ) جمع صحيفة . ولو كانت مَفْعَلة من دانه لقالوا في الجمع مداين بالياء مثل معايش .ومداين مصر في ذلك الزمن كثيرة وسنذكر بعضها عند قوله تعالى : { فأرسل فرعون في المدائن حاشرين }في سورة الشعراء ( 53 ). قيل أرادوا مدائن الصعيد وكانت مقر العلماء بالسحر . والحاشرون الذين يحشرون الناس ويجمعونهم .والشأن أن يكون ملأ فرعون عقلاءَ أهلَ سياسة ، فعلموا أن أمر دعوة موسى لا يكاد يخفى . وأن فرعون إنْ سجنه أو عاند ، تحقق الناس أن حجة موسى غلبت ، فصار ذلك ذريعة للشك في دين فرعون ، فرأوا أن يلاينوا موسى ، وطمعوا أن يوجد في سحَرة مصر من يدافع آيات موسى ، فتكون الحجة عليه ظاهرة للناس .
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
📘 وجَزْم { يأتوك } على جواب الأمر للدلالة على شدة اتصال السببية بين الإرسال والإتيان ، فالتقدير : إنْ تُرْسل يأتُوك ، وقد قيل : في مثله إنه مجزوم بلام الأمر محْذوفة ، على أن الجملة بدل من { أرسلْ } بدلَ اشتمال . أي : أرسلهم آمراً لهم فليأتوك بكل ساحر عليم ، وهذا الاستعمال كثير في كلام العرب مع فعل القول نحو : { قل لعباديَ الذين آمنوا يُقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 31 ] فكذلك ما كان فيه معنى القول كما هنا .و ( كل ) مستعمل في معنى الكثرة ، أي : بجمع عظيم من السحرة يشبه أن يكون جميع ذلك النوع .وقرأ الجمهور : { بكل ساحر } وقرأ جمزة ، والكسائي ، وخلف : { بكل سَحّار } ، على المبالغة في معرفة السحر ، فيكون وصف { عليم } تأكيداً لمعنى المبالغة لأن وصف { عليم } الذي هو من أمثلة المبالغة للدلالة على قوة المعرفة بالسحر ، وحذف متعلق { عليم } لأنه صار بمنزلة أفعال السجايا . والمقام يدل على أن المراد قوة علم السحر له .
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ
📘 عطفت جملة { وجاء السحرة } على جملة : { قالوا أرجه وأخاه وأرْسلْ في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم } [ الأعراف : 111 ، 112 ] وفي الكلام إيجاز حذف . والتقدير : قالوا أرجه وأخاه وأرسل الخ ، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين فحشروا وجاء السحرة من المدائن فحضروا عند فرعون .فالتعريف في قوله : { السحرة } تعريف العهد . أي السحرة المذكورون ، وكان حضور السحرة عند فرعون في اليوم الذي عينه موسى للقاء السحرة وهو المذكور في سورة طه .وجملة : { قالوا إن لنا لأجراً } استئناف بياني بتقدير سؤال من يسأل : ماذا صدر من السحرة حين مثُلوا بين يدي فرعون؟ .وقرأ نافع ، وابن كثير ، وحفص ، وأبو جعفر { إن لنا لأجراً } ابتداء بحرف ( إن ) دون همزة استفهام ، وقرأه الباقون بهمزة استفهام قبل ( إن ).وعلى القراءتين فالمعنى على الاستفهام ، كما هو ظاهر الجواب ب { نعم } ، وهمزة الاستفهام محذوفة تخفيفاً على القراءة الأولى ، ويجوز أن يكون المعنى عليها أيضاً على الخبرية لأنهم وثقوا بحصول الأجر لهم ، حتى صيروه في حيز المخبر به عن فرعون ، ويكون جواب فرعون ب { نعم } تقريراً لما أخبروا به عنه .وتنكير { أجراً } تنكير تعظيم بقرينة مقام المَلِك وعظم العمل ، وضمير { نحن } تأكيد لضمير { كنا } إشعاراً بجدارتهم بالغلَب ، وثقتهم بأنهم أعلم الناس بالسحر ، فأكدوا ضميرهم لزيادة تقرير مدلوله ، وليس هو بضمير فصل إذ لا يقصد إرادة القصر ، لأن إخبارهم عن أنفسهم بالغالبين يغني عن القصر ، إذ يتعين أن المغلوب في زعمهم هو موسى عليه السلام .
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
📘 وقول فرعون { نعم } إجابة عما استفهموا ، أو تقرير لما توسموا : على الاحتمالين المذكورين في قوله : { إن لنا لأجراً } آنفاً ، فحرف ( نعم ) يقرر مضمون الكلام الذي يجاب به ، فهو تصديق بعد الخبر ، وإعلام بعد الاستفهام ، بحصول الجانب المستفهم عنه ، والمعنيان محتملان هنا على قراءة نافع ومن وافقه ، وأما على قراءة غيرهم فيتعين المعنى الثاني .وعُطف جملة : { إنكم لمن المقربين } على ما تضمنه حرف الجواب إذ التقدير : نعم لكم أجر وإنكم لمن المقربين ، وليس هو من عطف التلقين : لأن التلقين إنما يعتبر في كلامين من متكلميْن لا من متكلم واحد .
قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ
📘 وفصلت جملة : { قالوا يا موسى } لوقوعها في طريقة المحاورة بينهم وبين فرعون وموسى ، لأن هؤلاء هم أهل الكلام في ذلك المجمع .و { إمّا } حرف يدل على الترديد بين أحد شيئين أو أشياء ، ولا عمل له ولا هو معمول ، وما بعده يكون معمولاً للعامل الذي في الكلام . ويَكون ( إما ) بمنزلة جزء كلمة مثل أل المعرفة ، كقول تأبط شراً :هُمَا خُطّتَا إما إسارٍ ومنّةٍ ... وإمّا دَممٍ والموتُ بالحر أجدروقوله : { أنْ تُلْقي } وقوله : { أن نكون نحن الملقين } يجوز كونهما في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف ، أي إما إلقاؤك مقدم وإما كوننا ملقين مقدم ، وقد دل على الخبر المقام لأنهم جاءوا لإلقاء آلات سحرهم ، وزعموا أن موسى مثلهم .وفي «الكشاف» في سورة طه ، جَعَل { إما أن تلقي } خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا ، ولما كان الواقع لا يخلو عن أحد هذين الأمرين لم يكن المقصود بالخبر الفائدة لأنها ضرورية ، فلا يحسن الإخبار بها مثل : السماء فوقنا ، فتعين أن يكون الكلام مستعملاً في معنى غير الإخبار ، وذلك هو التخيير أي : إِما أن تبتدىء بإلقاء آلات سحرك وإما أن نبتدىء ، فاختر أنت أحد مرين ومن هنا جازَ جَعل المصدرين المنسبكين في محل نصب بفعل تخيير محذوف ، كما قدره الفراء وجوزه في «الكشاف» في سورة طه ، أي : اختر أن تلقي أو كوننا الملقين ، أي : في الأولية ، ابتدأ السحرة موسى بالتخيير في التقدم إظهاراً لثقتهم بمقدرتهم وإنهم الغالبون ، سواء ابتدأ السحرة موسى بالأعمال أم كانوا هم المبتدئين ، ووجه دلالة التخيير على ذلك أن التقدم في التخييلات والشعوذة أنجح للبادىء لأن بديهتها تمضي في النفوس وتستقر فيها ، فتكون النفوس أشد تأثراً بها من تأثرها بما يأتي بعدها ، ولعلهم مع ذلك أرادوا أن يسبروا مقدار ثقة موسى بمعرفته مما يبدو منه من استواء الأمرين عنده أو من الحرص على أن يكون هو المقدم ، فإن لاستضعاف النفس تأثيراً عظيماً في استرهابَها وإبطال حيلتها ، وقد جاءوا في جانبهم بكلام يسترهب موسى ويهول شأنهم في نفسه ، إذ اعتنوا بما يدل على ذواتهم بزيادة تقرير الدلالة في نفس السامع المعبر عنها في حكاية كلامهم بتأكيد الضمير في قوله : { وإما أن نكون نحن الملقين }.
قَالَ أَلْقُوا ۖ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ
📘 وبذلك تعلم أن المقام لا يصلح لاحتمال أنهم دلوا على رغبتهم في أن يُلقوا سحرهم قبل موسى ، لأن ذلك ينافي إظهار استواء الأمرين عندهم ، خلافاً لما في «الكشاف» وغيره ، ولذلك كان في جواب موسى إياهم بقوله : { ألْقُوا } استخفافٌ بأمرهم إذ مكّنهم من مباداة إظهار تخييلاتهم وسحرهم ، لأن الله قوّى نفس موسى بذلك الجواب لتكون غلبته عليهم بعد أن كانوا هم المبتدئين أوقعَ حجةٍ وأقطع معذرة ، وبهذا يظهر أن ليس في أمر موسى عليه السلام إياهم بالتقدم ما يقتضي تسويغ معارضة دعوة الحق لأن القوم كانوا معروفين بالكفر بما جاء به موسى فليس في معارضتهم إياه تجديد كفر ، ولأنهم جاءوا مصممين على معارضته فليس الإذن لهم تسويغاً ، ولكنهم خيروه في التقدم أو يتقدموا فاختار أن يتقدموا لحكمة إلهية تزيد المعجزة ظهوراً ، ولأن في تقديمه إياهم إبلاغاً في إقامة الحجة عليهم ، ولعل الله ألقى في نفسه ذلك ، وفي هذا دليل على جواز الابتداء بتقرير الشبهة للذي يثق بأنه سيدفعها .وقوله { فلما ألقوا } عطف على محذوف للإيجاز ، والتقدير : فألْقَوا . لأن قوله : { فلما ألقوا } يؤذن بهذا المحذوف ، وحذف مفعول { ألقَوا } لظهوره ، أي : ألقوا آلات سحرهم .ومعنى { سحروا أعين الناس } : جعلوها متأثرة بالسحر بما ألقَوا من التخييلات والشعوذة .وتعدية فعل { سحروا } إلى { أعين } مجاز عقلي لأن الأعين آلة إيصال التخييلات إلى الإدراك ، وهم إنما سحروا العقول ، ولذلك لو قيل : سحروا الناسَ لأفاد ذلك ، ولكن تفوت نكتة التنبيه على أن السحر إنما هو تخيلات مرئية ، ومثل هذه الزيادة زيادة الأعين في قول الأعشى :كذَلكَ فافْعَلْ ما حيَيتَ إذا شَتَوْا ... وَأقْدِم إذَا مَا أعْيُنُ النّاس تَفرقَأي إذا ما الناس تفرَق فَرَقا يحصل من رؤية الأخطار المخيفة .والاسترهاب : طلب الرهب أي الخَوْف . وذلك أنهم عززوا تخيلات السحر بأمور أخرى تثير خوف الناظرين ، لتزداد تمكن التخيلات من قلوبهم ، وتلك الأمور أقوال وأفعال توهم أن سيقع شيء مُخيف كأن يقولوا للناس : خُذوا حذركم وحاذروا ، ولا تقتربوا ، وسيقع شيء عظيم ، وسيحضر كبير السحرة ، ونحو ذلك من التمويهات ، والخزعبلات ، والصياح ، والتعجيب .ولك أن تجعل السين والتاء في { واسترهبوهم } للتأكيد ، أي : أرهبوهم رهَبا شديداً ، كما يقال استكبر واستجاب .وقد بينت في تفسير قوله تعالى : { يعلّمون الناس السحر } من سورة البقرة ( 102 ) أن مبنى السحر على التخييل والتخويف .ووصف السحر بالعظيم لأنه من أعظم ما يفعله السحرة إذ كان مجموعاً مما تفرق بين سحرة المملكة من الخصائص المستورة بالتوهيم الخفية أسبابها عن العامة .
۞ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
📘 جملة : { وأوحينا } معطوفة على جمل { سحروا أعين الناس ، واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم } [ الأعراف : 116 ] ، فهي في حيز جواب لمّا ، أي : لمّا ألْقَوا سَحَروا ، وأوحينا إلى موسى أن الق لهم عصاك .و { أن } تفسيرية لفعل { أوحينا } ، والفاء للتعقيب الدال على سرعة مفاجأة شروعها في التلقف بمجرد إلقائها ، وقد دل السياق على جملتين محذوفتين ، إذ التقدير : فألقاها فدبّت فيها الحياة وانقلبت ثعباناً فإذا هي تلقف ، دل على الجملة الأولى الأمر بالإلقاء ، وعلى الجملة الثانية التلقف لأنه من شأن الحيوان ، والعصا إذا دبت فيها الحياة صارت ثعباناً بدون تبديل شكل .والتلقف : مبَالغة في اللقف وهو الابتلاع والازدراد .و { ما } موصولة والعائد محذوف أي : ما يأفكونه . والإفك : الصرف عن الشيء ويسمى الزور إفكاً ، والكذب المصنوعُ إفكاً ، لأن فيه صرفاً عن الحق وإخفاء للواقع ، فلا يسمى إفكاً إلاّ الكذبُ المصطنع المموه ، وإنما جعل السحر إفكاً لأن ما يظْهَر منه مخالف للواقع فشبه بالخبر الكاذب .وقرأ الجمهور { تَلَقّفَ } بقاف مشددة ، وأصله تتلقف ، أي تبالغ وتتكلف اللقف ما استطاعت ، وقرأ حفص عن عاصم : بسكون اللام وتخفيف القاف على صيغة المجرد .والتعبير بصيغة المضارع في قوله : { تَلقف } و { يأفكون } للدلالة على التجديد والتكرير ، مع استحضار الصورة العجيبة ، أي : فإذا هي يتجدد تلقفها لِما يتجدد ويتكرر من إفكهم . وتسمية سحرهم إفكاً دليل على أن السحر لا معمول له وأنه مجرد تخييلات وتمويهات .
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
📘 وقوله { فوقع الحق } تفريع على { تلقّف ما يأفكون }. والوقوع حقيقته سقوط الشيء من أعلى إلى الأرض ، ومنه : وقَع الطائر ، إذا نَزَل إلى الأرض ، واستعير الوقوع لظهور أمر رفيع القدر ، لأن ظهوره كان بتأييد الهي فشبه بشيء نزل من علو ، وقد يطلق الوقوع على الحصول لأن الشيء الحاصل يشبه النازل على الأرض ، وهي استعارة شائعة قال تعالى : { وإن الدين لَواقع } [ الذاريات : 6 ] أي : حاصل وكائن ، والمعنى فظهر الحق وحصل .ولعل في اختيار لفظ ( وقع ) ، هنا دون ( نزل ) مراعاة لفعل الإلقاء لأن الشيء الملقَى يقع على الأرض فكانَ وقوع العصا على الأرض وظهور الحق مقترنين .و { الحق } : هو الأمر الثابت الموافق للبرهان ، وضده الباطل ، والحق هنا أريد به صدق موسى وصحة معجزته وكون ما فعلته العصا هو من صنع الله تعالى ، وأثَرِ قدرته .و { بطل } : حقيقته اضمحل . والمراد : اضمحلال المقصود منه وانتفاء أثَرٍ مزعوم لشيء يقال : بطَل سعيه ، أي : لم يأت بفائدة ، ويقال : بطَل عمله ، أي : ذهب ضياعاً وخُسر بلا أجر ، ومنه قوله تعالى : { ويُبْطلُ الباطلَ } [ الأنفال : 8 ] أي : يزيل مفعوله وما قصدوه منه ، فالباطل هو الذي لا فائدة فيه ، أو لا خير فيه ، ومنه سمي ضد الحق باطلاً لأنه شيء لا يحصل منه الأثر المرجو ، وهو القبول لدى العقول المستقيمة .وشاع هذا الإطلاق حتى صار الباطل كالاسم الجامد ، مدلوله هو ضد الحق ، ويطلق الباطل اسمَ فاعل من بطَل ، فيساوي المصدر في اللفظ ، ويتعين المراد منهما بالقرينة ، فصوغ فعل بطل يكون مشتقاً من المصدر وهو البطلان ، وقد يكون مشتقاً من الاسم وهو الباطل . فمعنى { بطل } حينئذٍ وُصف بأنه باطل مثل فَهِد وأسد ، ويصح تفسيره هنا بالمعنيين ، فعلى الأول يكون المعنى : وانتفت حينئذٍ آثار ما كانوا يعملون ، وعلى الثاني يكون المعنى : واتصف ما يعملون بأنه باطل ، وعلى هذا الوجه يتعين أن يكون المراد من الفعل معنى الظهور لا الحدوث ، لأن كون ما يعملونه باطلاً وصف ثابت له من قبللِ أن يُلقيَ موسى عصاه ، ولكن عند إلقاء العصا ظهر كونه باطلاً ، ويبعّد هذا أن استعمال صيغة الفعل في معنى ظهور حدثه لا في معنى وجوده وحدوثه ، خلافُ الأصل فلا يصار إليه بلا دَاع .وأما من فسر { بطل } بمعنى : العدم . وفسر { ما كانوا يعملون } بحبال السحرة وعصيهم ففي تفسيره نبُو عن الاستعمال ، وعن المقام .وزيادة قوله : { وبطل ما كانوا يعملون } بعد قوله : { فوقع الحق } تقرير لمضمون جملة { فوقع الحق } لتسجيل ذم عملهم ، ونداءٌ بخيبتهم ، تأنيساً للمسلمين وتهديداً للمشركين وللكافرين أمثالها .و { ما كانوا يعملون } هو السحر ، أي : بطلت تخيلات الناس أن عصي السحرة وحبالهم تسعى كالحيات ، ولم يعبّر عنه بالسحر إشارة إلى أنه كان سحراً عجيباً تكلفوا له وأَتوا بمنتهى ما يعرفونه .
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ
📘 وقد عطف عليه جملة { فغُلبوا } بالفاء لحصول المغلوبية إثر تلقف العصا لإفكهم .و { هنالك } اسم إشارة المكان أي غلبوا في ذلك المكان فأفاد بداهة مغلوبيتهم وظهورها لكل حاضر .والانقلاب : مطاوع قَلَبَ والقلب تغيير الحال وتبدله ، والأكثر أن يكون تغييراً من الحال المعتادة إلى حال غريبة .ويطلق الانقلاب شائعاً على الرجوع إلى المكان الذي يخرج منه ولأن الراجع قد عكس حال خروجه .وانقلب من الأفعال التي تجيء بمعنى ( صار ) وهو المراد هنا أي : صاروا صاغرين . واختيار لفظ { انقلبوا } دون ( رَجعُوا ) أو ( صاروا ) لمناسبته للفظ غُلبوا في الصيغة ، ولما يشعر به أصل اشتقاقه من الرجوع إلى حال أدون ، فكان لفظ ( انقلبوا ) أدخل في الفصاحة .والصّغَار : المذلة ، وتلك المذلة هي مذلة ظهور عجزهم ، ومذلة خيبة رجائهم ما أملوه من الأجر والقرب عند فرعون .
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ
📘 والجواب في قوله : { قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } ابتداء المحاورة ، لأنّ ترك إبليس السّجود لآدم بمنزلة جواب عن قول الله : { أسجدوا لآدم } ، فكان بحيث يتوجّه إليه استفسار عن سبب تركه السّجود ، وضمير : { قال } عائد إلى معلوم من المقام أي قال اللَّهُ تعالى بقرينة قوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا } ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال : قُلنا ، فكان العدول إلى ضمير الغائب التفاتاً ، نكتته تحويل مقام الكلام ، إذ كان المقامُ مقام أمرٍ للملائكة ومن في زمرتهم فصار مقام توبيخ لإبليس خاصة .و { مَا } للاستفهام ، وهو استفهام ظاهره حقيقي ، ومشوب بتوبيخ ، والمقصود من الاستفهام إظهار مقصد إبليس للملائكة .و { منعك } معناه صدّك وكفّك عن السجود فكان مقتضى الظاهر أن يقال : ما منعك أن تسجد لأنّه إنّما كفّ عن السّجود لا عن نفي السجود فقد قال تعالى في الآية الأخرى : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ ص : 75 ] ، فلذلك كان ذكر ( لا ) هنا على خلاف مقتضى الظاهر ، فقيل هي مزيدة للتّأكيد ، ولا تفيد نفياً ، لأنّ الحرف المزيد للتّأكيد لا يفيد معنى غيرَ التّأكيد . و ( لاَ ) من جملة الحروف التي يؤكّد بها الكلام كما في قوله تعالى : { لا أقسم بهذا البلد } [ البلد : 1 ] وقوله { لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله } [ الحديد : 29 ] أي ليعلم أهل الكتاب علماً محقّقاً . وقوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون } [ الأنبياء : 95 ] أي ممنوع أنّهم يرجعون منعاً محقّقاً ، وهذا تأويل الكسائي ، والفراء ، والزّجاج ، والزّمخشري ، وفي توجيه معنى التّأكيد إلى الفعل مع كوننِ السّجود غير واقععٍ فلا ينبغي تأكيده خفاءٌ لأنّ التّوكيد تحقيق حصول الفعل المؤكّد ، فلا ينبغي التّعويل على هذا التّأويل .وقيل ( لا ) نافية ، ووجودها يؤذن بفعل مقدر دلّ عليه { منعك } لأنّ المانع من شيء يدعو لضدّه ، فكأنّه قيل : ما منعك أن تسجد فدعاك إلى أن لا تسجد ، فإمّا أن يكون { منعك } مستعملاً في معنى دعَاك ، على سبيل المجاز ، و ( لا ) هي قرينة المجاز ، وهذا تأويل السكاكي في «المفتاح» في فصل المجاز اللّغوي ، وقريبٌ منه لعبد الجبّار فيما نقله الفخر عنه ، وهو أحسن تأويلاً ، وإمّا أن يكون قد أريد الفعلان ، فذُكر أحدهما وحذف الآخر ، وأشير إلى المحذوف بمتعلّقه الصّالح له فيكون من إيجاز الحذف ، وهو اختيار الطّبري ومن تبعه .وانظر ما قلتُه عند قوله تعالى : { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني } في سورة طه ( 92 ، 93 ).وقوله : { إذ أمرتك } ظرف ل { تسجد } ، وتعليق ضميره بالأمر يقتضي أن أمر الملائكة شامل له ، إمّا لأنّه صنف من الملائكة ، فخلق الله إبليس أصلاً للجنّ ليجعل منه صنفاً مُتَمِّيزاً عن بقيّة الملائكة بقبوله للمعصية ، وهذا هو ظاهر القرآن ، وإليه ذهب كثير من الفقهاء ، وقد قال الله تعالى : { إلا إبليس كانَ من الجنّ } [ الكهف : 50 ] الآية ، وإما لأنّ الجنّ نوع آخر من المجردات ، وإبليس أصل ذلك النّوع ، جعله الله في عداد الملائكة ، فكان أمرهم شاملاً له بناء على أن الملائكة خلقوا من النّور وأنّ الجنّ خلقوا من النّار ، وفي «صحيح مسلم» ، عن عائشة رضي الله عنها : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خلقت الملائكة من نور وخُلق الجان من مارج من نار " وإلى هذا ذهب المعتزله وبعض الأشاعرة ، وقد يكون المراد من النّار نوراً مخلوطاً بالمادة ، ويكون المراد بالنّور نوراً مجرداً ، فيكون الجنّ نوعاً من جنس الملائكة أحطّ ، كما كان الإنسان نوعاً من جنس الحيوان أرقى .وفُصِل : { قال أنا خير منه } لوقوعه على طريقة المحاورات .وبَيّن مانعه من السّجود بأنّه رأى نفسه خيراً من آدم ، فلم يمتثل لأمر الله تعالى إياه بالسّجود لآدم ، وهذا معصية صريحة ، وقوله : { أنا خير منه } مسوق مساق التّعليل للامتناع ولذلك حذف منه اللام .وجملة : { خلقتني من نار } بيان لجملة : { أنا خير منه } فلذلك فصلت ، لأنّها بمنزلة عطف البيان من المبيّن .وحصَل لإبليس العلم بكونه مخلوقاً من نار ، بإخبار من الملائكة الذين شهدوا خلقَه ، أو بإخبار من الله تعالى .وكونه مخلوقاً من النّار ثابت قال تعالى : { خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار } [ الرحمن : 14 ، 15 ] وإبليس من جنس الجنّ قال تعالى في سورة الكهف ( 50) : { فسجدوا إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه } واستند في تفضيل نفسه إلى فضيلة العنصر الذي خلق منه على العنصر الذي خلق منه آدم .والنّار هي الحرارة البالغة لشدّتها الالتهاب الكائنة في الأجسام المصهورة بأصل الخلقة ، كالنّار التي في الشّمس ، وإذا بلغت الحرارة الالتهام عرضت النّارية للجسم من معدن أو نبات أو تراب مثل النّار الباقية في الرّماد .والنار أفضل من التّراب لقوّة تأثيرها وتسلّطها على الأجسام التي تلاقيها ، ولأنّها تضيء ، ولأنّها زكيّة لا تلصق بها الأقذار ، والتّراب لا يشاركها في ذلك وقد اشتركا في أن كليهما تتكوّن منه الأجسام الحيّة كلّها .وأمّا النّور الذي خُلق منه الملَكُ فهو أخلَص من الشّعاع الذي يبيّن من النّار مجرّدا عن ما في النّار من الأخلاط الجثمانيّه .والطّينُ التّراب المختلط بالماء ، والماءُ عنصر آخر تتوقّف عليه الحياة الحيوانيّة مع النّار والتّراب ، وظاهر القرآن في آيات هذه القصة كلّها أنّ شرف النّار على التّراب مقرّر ، وأنّ إبليس أُوخذ بعصيان أمر الله عصياناً باتّاً ، والله تعالى لمّا أمر الملائكه بالسّجود لآدم قد عَلِم استحقاق آدمَ ذلك بما أوْدع الله فيه من القوّة التي قد تبلغ به إلى مبلغ الملائكة في الزّكاء والتّقديس ، فأمّا إبليس فغرّه زكاء عنصره وذلك ليس كافياً في التّفضيل وحده ، ما لم يَكن كِيَانُه من ذلك العنصر مهيّئاً إياه لبلوغ الكمالات ، لأنّ العبرة بكيفيّة التّركيب ، واعتبار خصائص المادة المركّب منها بعد التّركيب ، بحسب مقصد الخالق عند التّركيب ، ولا عبرة بحالة المادة المجرّدة ، فاللَّه تعالى ركب إبليس من عنصر النّار على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الفساد والاندفاع إليه بالطّبع دون نظر ، بحسب خصائص المادة المركّب هو منها ، وركّب آدم من عنصر التّراب على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الخبر والصّلاح والاندفاع إلى ازدياد الكمال بمحض الاختيار والنّظر ، بحسب ما تسمح به خصائص المادّة المركّب هو منها ، وكلّ ذلك منوط بحكمة الخالق للتّركيب ، وركّب الملائكة من عنصر النّور على هيئة تجعلهم يستخدمون قواهم العنصرية في الخيرات المحضة ، والاندفاع إلى ذلك بالطّبع دون اختيار ولا نظر ، بحسب خصايص عنصرهم ، ولذلك كان بلوغ الإنسان إلى الفضائل الملكيّة أعلى وأعجب ، وكان مبلغه إلى الرّذائل الشّيطانيّة أحطّ وأسهل ، ومن أجل ذلك خوطب بالتّكليف .ولأجل هذا المعنى أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم أصل النّوع البشري لأنّه سجود اعتراف لله تعالى بمظهر قدرته العظيمة ، وأمر إبليس بالسّجود له كذلك ، فأمّا الملائكة فامتثلوا أمر الله ولم يعلموا حكمته ، وانتظروا البيان ، كما حكى عنهم بقوله : { قالوا سبحانك لا عِلْم لنا إلا ما علمتنا إنّك أنت العليم الحكيم } [ البقرة : 32 ] فجاءهم البيان مجملاً بقوله : { إنّي أعلَمُ ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] ثمّ مفصّلا بقصّة قوله : { ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } [ البقرة : 31 ] إلى قوله { وما كنتم تكتمون } في سورة البقرة ( 33 ).
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ
📘 عَطْف على { فغُلبوا وانقَلبوا } [ الأعراف : 119 ] ، فهو في حيز فاء التعقيب ، أي : حصل ذلك كله عقب تلقف العصا ما يأفكون ، أي : بدون مهلة ، وتعقيب كل شيء بحسبه ، فسجود السحرة متأخر عن مصيرهم صاغرين ، ولكنه متأخر بزمن قليل وهو زمن انقداح الدليل على صدق موسى في نفوسهم ، فإنهم كانوا أعلم الناس بالسحر فلا يخفى عليهم ما هو خارج عن الأعمال السحرية ، ولذلك لما رأوا تلقف عصا موسى لحبالهم وعصيهم جزموا بأن ذلك خارج عن طوق الساحر ، فعلموا أنه تأييد من الله لموسى وأيقنوا أن ما دعاهم إليه موسى حق ، فلذلك سجدوا ، وكان هذا خاصاً بهم دون بقية الحاضرين ، فلذلك جيء بالاسم الظاهر دون الضمير لئلا يلتبس بالضمير الذي قبله الذي هو شامل للسحرة وغيرهم .والإلقاء : مستعمل في سرعة الهُوِي إلى الأرض ، أي : لم يتمالكوا أن سجدوا بدون تريث ولا تردد .وبُني فعل الإلقاء للمجهول لظهور الفاعل ، وهو أنفسُهم ، والتقدير : وألقَوْا أنفسهم على الأرض .و { ساجدين } حال ، والسجود هيئة خاصة لإلقاء المرء نفسه على الأرض يقصد منها الإفراط في التعظيم ، وسجودهم كان لله الذي عرفوه حينئذٍ بظهور معجزة موسى عليه السلام والداعي إليه بعنوان كونه رب العالمين .
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
📘 وجملة : { قالوا } بدل اشتمال من جملة : { ألقي السحرة } لأن الهوي للسجود اشتمل على ذلك القول ، وهم قصدوا من قولهم ذلك الإعلان بإيمانهم بالله لئلا يظن الناس أنهم سجدوا لفرعون ، إذ كانت عادة القبط السجود لفرعون ، ولذلك وصفوا الله بأنه رب العالمين بالعنوان الذي دَعا به موسى عليه السلام ، ولعلهم لم يكونوا يعرفون اسماً علماً لله تعالى ، إذ لم يكن لله اسم عندهم ، وقد عُلم بذلك أنهم كفروا بالإهية فرعون .
رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ
📘 وزادوا هذا القصد بياناً بالإبدال من { رب العالمين } قولّهم { رب موسى وهارون } لئلا يُتوهم المبالغة في وصف فرعون بأنه رب جميع العالمين ، وتعين في تعريف البدل طريق تعريف الإضافة لأنها أخصر طريق ، وأوضحه هنا ، لاسيما إذا لم يكونوا يعرفون اسماً علماً على الذات العلية . وهذا ما يقتضيه تعليم الله اسمه لموسى حين كلمه فقال : { إنني أنا الله } في سورة طه ( 14 ). وفي سفر الخروج { وقال الله لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل ( يهوه ) إله آبائكم } الخ الإصحاح الثالث .
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
📘 وفصلت جملة : { قال فرعون } لوقوعها في طريق المحاورة .وقوله : { أآمنتم } قرأه الجمهور بصيغة الاستفهام بهمزتين فمنهم من حققها ، وهم : حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وروْح عن يعقوب ، وخلفٌ ، ومنهم من سهل الثانية مَدّة ، فصار بعد الهمزة الأولى مدتان ، وهؤلاء هم : نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وقرأه حفص عن عاصم بهمزة واحدة فيجوز أن يكون إخباراً ، ويجوز أن تكون همزة الاستفهام محذوفة وما ذلك ببدع .والاستفهام للإنكار والتهديد مجازاً مرسلاً مركباً ، والإخبار مستعمل كذلك أيضاً لظهور أنه لا يقصد حقيقة الاستفهام ولا حقيقة الإخبار لأن المخاطبين صرحُوا بذلك وعلموه ، والضمير المجرور بالباء عائد إلى موسى ، أي : آمنتم بما قاله ، أو إلى رب موسى .وجملة : { إن هذا لمكر } الخ . . . خبر مراد به لازم الفائدة أي : قد علمتُ مرادكم لأن المخاطَب لا يخبَر بشيء صَدر منه ، كقول عنترة :إنْ كنتتِ أزمعتتِ الفراق فإنما ... زُمّتْ ركابُكُم بليل مظلمأي : إن كنت أخفيتتِ عني عزمك على الفراق فقد علمتُ أنكم شددتُم رحالكم بليل لترحلوا خفية .وقوله : { قَبْلَ أنْ آذنَ لكُم } ترق في موجب التوبيخ ، أي لم يكفكم أنكم آمنتم بغيري حتى فعلتم ذلك عن غير استئذان ، وَفصْلها عما قبلها لأنها تعداد للتوبيخ .والمكر تقدم عند قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله } في سورة آل عمران ( 54 ) ، وتقدم آنفاً عند قوله تعالى : { أفأمنوا مَكر الله } [ الأعراف : 99 ] والضمير المنصوب في { مكرتموه } ضمير المصدر المؤكّد لفعله .و { في } ظرفية مجازية : جعل مكرهم كأنه موضوع في المدينة كما يوضع العنصر المفسد ، أي : أردتم إضرار أهلها ، وليست ظرفية حقيقية لأنها لا جدوى لها إذ معلوم لكل أحد أن مكرهم وقع في تلك المدينة ، وفسره في «الكشاف» بأنهم دبروه في المدينة حين كانوا بها قبل الحضور إلى الصحراء التي وقعت فيها المحاورة ، وقد تبين أن المراد بالظرفية ما ذكرناه بالتعليل الذي بعدها في قوله : { لتخرجوا منها أهلها } والمراد هنا بعض أهلها ، وهم بنو إسرائيل ، لأن موسى جاء طلباً لإخراج بني إسرائيل كما تقدم .وقول فرعون هذا يحتمل أنه قاله موافقاً لظنه على سبيل التهمة لهم لأنه لم يكن له علم بدقائق علم السحر حتى يفرق بينه وبين المعجزة الخارقة للعادة ، فظن أنها مكيدة دبرها موسى مع السحرة ، وأنه لكونه أعلمهم أو معلمهم أمرهم فاتمروا بأمره ، كما في الآية الأخرى { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } [ طه : 71 ].ويحتمل أنه قاله تمويهاً وبهتاناً ليصرف الناس عن اتباع السحرة ، وعن التأثر بغلبة موسى إياهم فيدخل عليهم شكاً في دلالة الغلبة واعتراف السحرة بها ، وأن ذلك مواطاة بين الغالب والمغلوب لغاية مقصودة ، وهو موافق في قوله هذا ، لما كان أشار به .الملأ من قومه حين قالوا : { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } [ الشعراء : 35 ] وأيّا ما كان فعزمه على تعذيبهم مصير إلى الظلم والغشم لأنه ما كان يحق له أن يأخذهم بالتهمة ، بله أن يعاقبهم على المصير إلى الحجة ، ولكنه لما أعجزته الحجة صار إلى الجبروت .وَفرع على الإنكار والتوبيخ الوعيدَ بقوله : { فسوف تعلمون } ، وحذف مفعول { تعلمون } لقصد الإجمال في الوعيد لإدخال الرعب ، ثم بيّنه بجملة { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف }. ووقوع الجمع معرفاً بالإضافة يكسبه العموم فيعم كل يدَ وكل رجْل من أيدي وأرجل السحرة .
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
📘 وَفرع على الإنكار والتوبيخ الوعيدَ بقوله : { فسوف تعلمون } ، وحذف مفعول { تعلمون } لقصد الإجمال في الوعيد لإدخال الرعب ، ثم بيّنه بجملة { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف }. ووقوع الجمع معرفاً بالإضافة يكسبه العموم فيعم كل يدَ وكل رجْل من أيدي وأرجل السحرة .و { منْ } في قوله : { من خلاف } ابتدائية لبيان موضع القطع بالنسبة إلى العضو الثاني ، وقد تقدم بيان نظيرها عند قوله تعالى : { أو تُقطّعُ أيْدِيهمْ وَأرْجُلُهمْ من خلاف } في سورة المائدة ( 33 ). فالمعنى : أنه يقطع من كل ساحر يداً ورجلاً متخالفتي الجهة غير متقابلتيها ، أي : إنْ قطعَ يدَه اليمنى قطعَ رجله اليسرى والعكس ، وإنما لم يقطع القوائم الأربع لأن المقصود بقاء الشخص متمكناً من المشي متوكئاً على عود تحت اليد من جهة الرجل المقطوعة .ودلت { ثُم } على الارتقاء في الوعيد بالثلب ، والمعروف أن الصلب أن يقتل المرء مشدوداً على خشبة ، وتقدم في قوله : { وما قتلوه وما صلبوه } في سورة النساء ( 157 ) ، وعلى هذا يكون توعّدهم بنوعين من العذاب . والوعيد موجّه إلى جماعتهم فعلم أنه جعلهم فريقين : فريق يعذب بالقطع من خلاف ، وفريق يعذب بالصلب والقتل ، فعلى هذا ليس المعنى على أنه يصلبهم بعد أن يقطعهم ، إذ لا فائدة في تقييد القطع بكونه من خلاف حينئذٍ ويحتمل أن يراد بالصلب : الصلب دون قتل ، فيكون أراد صلبهم بعد القطع ليجعلهم نكالاً ينذعر بهم الناس ، كيلا يُقدم أحد على عصيان أمره من بعد ، فتكون ( ثم ) دالة على الترتيب والمهلة ، ولعل المهلة قصد منها مدة كيّ واندمال موضع القطع ، وهذا هو المناسب لظاهر قوله : { أجمعين } المفيد أن الصلب ينالهم كلهم .
قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ
📘 وفصلت جملة { قالوا إنا إلى ربنا منقلبون } لوقوعها في سياق المحاورة .والانقلابُ : الرجوع وقد تقدم قريباً . وهذا جواب عن وعيد فرعون بأنه وعيد لا يضيرهم ، لأنهم يعلمون أنهم صائرون إلى الله رب الجميع ، وقد جاء هذا الجواب موجزاً إيجازاً بديعاً لأنه يتضمن أنهم يرجون ثواب الله على ما ينالهم من عذاب فرعون ، ويرجون منه مغفرة ذنوبهم ، ويرجون العقابَ لفرعون على ذلك ، وإذا كان المراد بالصلب القتل وكان المراد تهديد جميع المؤمنين ، كان قولهم : { إنا إلى ربنا منقلبون } تشوقاً إلى حلول ذلك بهم محبة للقاء الله تعالى ، فإن الله تعالى لما هداهم إلى الإيمان أكسبهم محبة لقائه ، ثم بينوا أن عقاب فرعون لا غضاضة عليهم منه ، لأنه لم يكن عن جناية تَصمهم بل كان على الإيمان بآيات لما ظهرت لهم . أي : فإنك لا تعرف لنا سبباً يوجب العقوبة غير ذلك .
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ۚ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ
📘 والنّقْم : بسكون القاف وبفتحها ، الإنكار على الفعل ، وكراهة صدوره وحقد على فاعله ، ويكون باللسان وبالعمل ، وفعله من باب ضرب وتعب ، والأول أفصح ولذلك قرأه الجميع { ومَا تنقمُ } بكسر القاف .والاستثناء في قولهم : { إلاّ أن آمنا بآيات ربنا } متصل ، لأن الإيمان ينقمه فرعون عليهم ، فليس في الكلام تأكيد الشيء بما يشبه ضده .وجملة { ربنا أفرغ علينا صبراً } من تمام كلامهم ، وهي انتقال من خطابهم فرعون إلى التوجه إلى دعاء الله تعالى ، ولذلك فصلت عن الجملة التي قبلها .ومعنى قوله : { ربنا أفرغ علينا صبراً } اجعل لنا طاقة لتحمل ما توعدنا به فرعون .ولما كان ذلك الوعيد مما لا تطيقه النفوس سألوا الله أن يجعل لنفوسهم صبراً قوياً ، يفوق المتعارف ، فشه الصبر بماء تشبيه المعقول بالمحسوس ، على طريقة الاستعارة المكنية ، وشبه خلقُه في نفوسهم بإفراغ الماء من الإناء على طريقة التخييلية ، فإن الإفراغ صّب جميع ما في الإناء ، والمقصود من ذلك الكناية عن قوة الصبر لأن إفراغ الإناء يستلزم أنه لم يبق فيه شيء مما حواه ، فاشتملت هذه الجملة على مكنية وتخييلية وكناية .وتقدم نظيره في قوله تعالى : { قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً } في سورة البقرة ( 250 ).ودعوا لأنفسهم بالوفاة على الإسلام إيذاناً بأنهم غير راغبين في الحياة ، ولا مبالين بوعيد فرعون ، وأن همتهم لا ترجو إلاّ النجاة في الآخرة ، والفوزَ بما عند الله ، وقد انخذل بذلك فرعون ، وذهب وعيده باطلاً ، ولعله لم يحقق ما توعدهم به لأن الله أكرمهم فنجاهم من خزي الدنيا كما نجاهم من عذاب الآخرة .والقرآن لم يتعرض هنا ، ولا في سورة الشعراء ، ولا في سورة طه ، للإخبار عن وقوع ما توعدهم به فرعون لأن غرض القصص القرآنية هو الاعتبار بمحل العبرة وهو تأييد الله موسى وهداية السحرة وتصلبهم في إيمانهم بعد تعرضهم للوعيد بنفوس مطمئنّة .وليس من غرض القرآن معرفة الحوادث كما قال في سورة النازعات ( 26) : { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } فاختلاف المفسرين في البحث عن تحقيق وعيد فرعون زيادة في تفسير الآية .والظاهر أن فرعون أفحم لما رأى قلة مبالاتهم بوعيده فلم يُرد جواباً .وذكرُهم الإسلام في دعائهم يدل على أن الله ألهمهم حقيقته التي كان عليها النبيّون والصديقون من عهد إبراهيم عليه السلام .والظاهر أن كلمة مسلمين } تعبير القرآن عن دعائهم بأن يتوفاهم الله على حالة الصديقين ، وهي التي يجمعُ لفظُ الإسلام تفصيلها ، وقد تقدم شرح معنى كون الإسلام وهو دين الأنبياء عند قوله : { فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون } في سورة البقرة ( 132 ).
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ
📘 جملة : { قال الملأ } عطف على جملة : { قال فرعون آمنتم به } [ الأعراف : 123 ] أو على حملة { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم } [ الأعراف : 109 ]. وإنما عطفت ولم تفصل لأنها خارجة عن المحاورة التي بين فرعون ومن آمن من قومه بموسى وآياته ، لأن أولئك لم يعرجوا على ذكر ملأ فرعون ، بل هي محاورة بين ملإ فرعون وبينه في وقت غير وقت المحاورة التي جرت بين فرعون والسحرة ، فإنهم لمّا رأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون ، ورأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون ، ورأوا نهوض حجتهم على فرعون وإفحامَه . وأنه لم يَحرْ جَوَاباً . راموا إيقاظ ذهنه ، وإسعارَ حميته ، فجاءوا بهذا الكلام المثير لغضب فرعون ، ولعلهم رأوا منه تأثراً بمعجزة موسى وموعظة الذين آمنوا من قومه وتوقعوا عدوله عن تحقيق وعيده ، فهذه الجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة : { قال موسى لقومه استعينوا بالله }.والاستفهام في قوله : { أتذر موسى } مستعمل في الإغراء بإهلاك موسى وقومه والإنكار على الإبطاء بإتلافهم ، وموسى مفعول { تذر } أي تتركه متصرفاً ولا تأخذ على يده .والكلام على فعل { تذر } تقدم في قوله : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً } في الأنعام ( 70 ).وقوم موسى هم من آمن به ، وأولئك هم بنوا إسرائيل كلهم ومَن آمن من القبط .واللام في قوله : { ليفسدوا } لام التعليل وهو مبالغة في الإنكار إذ جعلوا ترك موسى وقومه معللاً بالفساد ، وهذه اللام تسمى لام العاقبة ، وليست العاقبة معنى من معاني اللام حقيقة ولكنها مجاز : شُبه الحاصل عقب الفعل لا محالة بالغرض الذي يفعل الفعل لتحصيله ، واستعير لذلك المعنى حرفُ اللام عوَضاً عن فاء التعقيب كما في قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ].والإفساد عندهم هو إبطال أصول ديانتهم وما ينشأ عن ذلك من تفريق الجماعة وحث بني إسرائيل على الحرية ، ومغادرة أرض الاستعباد .و { الأرض } مملكة فرعون وهي قطر مصر .وقوله : { ويذَرَك } عطف على { ليفسدوا } فهو داخلي التعليل المجازي ، لأنّ هذا حاصل في بقائهم دون شك ، ومعنى تركهم فرعون ، تركهم تأليهه وتعظيمه ، ومعنى ترك آلهته نبذُهم عبادتَها ونهيُهم الناس عن عبادتها .والآلهة جمع إله ، ووزنه أفعلة ، وكان القبط مشركين يعبدون آلهة متنوعة من الكواكب والعناصر وصوروا لها صوراً عديدة مختلفة باختلاف العصور والأقطار ، أشهرها ( فتاح ) وهو أعظمها عندهم وكان يُعبد بمدينة ( مَنْفيس ) ، ومنها ( رع ) وهو الشمس وتتفرع عنه آلهة باعتبار أوقات شعاع الشمس ، ومنها ( ازيريس ) و ( إزيس ) و ( هوروس ) وهذا عندهم ثالوث مجموع من أب وأم وابن ، ومنها ( توت ) وهو القمر وكان عندهم رب الحكمة ، ومنها ( أمُون رع ) فهذه الأصنام المشهورة عندهم وهي أصل إضلال عقولهم .وكانت لهم أصنام فرعية صغرى عديدة مثل العجل ( إيبيس ) ومثل الجعران وهو الجُعل .وكان أعظم هذه الأصنام هو الذي ينتسب فرعونُ إلى بُنوتهِ وخدمته ، وكان فرعون معدوداً ابنَ الآلهة وقد حلت فيه الإلهية على نحو عقيدة الحلول ، ففرعون هو المنفذ للدين ، وكان يعد إله مصر ، وكانت طاعته طاعة للآلهة كما حكى الله تعالى عنه : { فقال أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] { ما علمْتُ لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ]. وتوعُد فرعون موسى وقومه بالاستئصال بقتل الأبناء والمراد الرجال بقرينة مقابلته بالنساء ، والضمير المضاف إليه عائد على موسى وقومه ، فالإضافة على معنى ( من ) التبعيضية .وقرأ نافع وابن كثير ، وأبو جعفر : { سنقتل } بفتح النون وسكون القاف وضم التاء وقرأه البقية بضم النون وفتح القاف وتشديد التاء للمبالغة في القتل مبالغة كثرة واستيعاب .والاستحياء : مبالغة في الإحياء ، فالسين والتاء فيه للمبالغة ، وإخباره ملأه باستحياء النساء تتميم لا أثر له في إجابة مقترح ملئه ، لأنهم اقترحوا عليه أن لا يُبقي موسى وقومه فأجابهم بما عزم عليه في هذا الشأن ، والغرض من استبقاء النساء أن يتخذوهن سراري وخدماً .وجملة : { وإنّا فوقهم قاهرون } اعتذار من فرعون للملإ من قومه عن إبطائه باستئصال موسى وقومه ، أي : هم لا يقدرون أن يفسدوا في البلاد ولا أن يخرجوا عن طاعتي والقاهر : الغالب بإذلال .و { فوقهم } مستعمل مجازاً في التمكن من الشيء وكلمة { فوقهم } مستعارة لاستطاعة قهرهم لأن الاعتلاء على الشيء أقوى أحوال التمكن من قهره ، فهي تمثيلية .
قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
📘 وجملة : { قال موسى لقومه } واقعة جواباً لقول قومه { إنا إلى ربنا منقلبون } [ الأعراف : 125 ] إلى آخرها الذي أجابوا به عن وعيد فرعون ، فكان موسى معدوداً في المحاورة ، ولذلك نزل كلامه الذي خاطب به قومه منزلة جواب منه لفرعون ، لأنه في قوة التصريح بقلة الاكتراث بالوعيد ، وبدفع ذلك بالتوكل على الله .والتوكل هو جُماع قوله : { استعينوا بالله واصبروا } وقد عبر عن ذلك بلفظ التوكل في قوله : { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } في سورة يونس ( 84 ) ، فإن حقيقة التوكل أنه طلب نصر الله وتأييده في الأمر الذي يُرغب حصوله ، وذلك داخل في الاستعانة وهو يستلزم الصبر على الضر لاعتقاد أنه زائل بإذن الله .وخاطب موسى قومه بذلك تطميناً لقلوبهم ، وتعليماً لهم بنصر الله إياهم لأنه علم لأنه بوحي الله إليه .وجملة : { إن الأرض لله } تذييل وتعليل للأمر بالاستعانة بالله والصبر ، أي : افعلوا ذلك لأن حكم الظلم لا يدوم ، ولأجل هذا المعنى فصلت الجملة .وقوله : { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده } كناية عن ترقب زوال استعباد فرعون إياهم ، قصد منها صرف اليأس عن أنفسهم الناشىء عن مشاهدة قوة فرعون وسلطانه ، بأن الله الذي خوله ذلك السلطان قادر على نزعه منه لأن ملك الأرض كلها لله فهو الذي يقدر لمن يشاء ملك شيء منها وهو الذي يقدر نزعه .فالمراد من الأرض هنا الدنيا لأنه أليق بالتذييل وأقوى في التعليل ، فهذا إيماء إلى أنهم خارجون من مصر وسيملكون أرضاً أخرى .وجملة : { والعاقبة للمتقين } تذييل ، فيجوز أن تكون الواو اعتراضية ، أي : عاطفة على ما في قوله : { إن الأرض لله } من معنى التعليل ، فيكون هذا تعليلاً ثانياً للأمر بالاستعانة والصبر ، وبهذا الاعتبار أوثر العطف بالواو على فصل الجملة مع أن مقتضى التذييل أن تكون مفصولة .والعاقبة حقيقتها نهاية أمر من الأمور وآخره ، كقوله تعالى : { فكان عاقبتهما أنهما في النار } [ الحشر : 17 ] ، وقد تقدم ذكرها عند قوله تعالى : { قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } في أول سورة الأنعام ( 11 ) ، فإذا عُرفَت العاقبة باللام كان المراد منها انتهاء أمر الشيء بأحسن من أوله ولعل التعريف فيها من قبيل العلم بالغلبة . وذلك لأن كل أحد يود أن يكون آخرُ أحواله خيراً من أولها؛ لكراهة مفارقة الملائم ، أو للرغبة في زوال المنافر ، فلذلك أطلقت العاقبة معرَفة على انتهاء الحال بما يسر ويلائم ، كما قال تعالى : { والعاقبة للتقوى } [ طه : 132 ]. وفي حديث أبي سفيان قول هرقل : «وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة» فلا تطلق المعرفة على عاقبة السوء . فالمراد بالعاقبة هنا عاقبة أمورهم في الحياة الدنيا ليناسب قوله { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده } وتشمل عاقبة الخير في الآخرة لأنها أهم ما يلاحظه المؤمنون . والمتقون : المؤمنون العاملون .وجيء في جملتي : { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين } بلفظين عامين ، وهما : من يشاء من عباده والمتقين ، لتكون الجملتان تذييلاً للكلام وليحرص السامعون على أن يكونوا من المتقين .وقد علم من قوله : { والعاقبة للمتقين } أن من يشاء الله أن يورثهم الأرض هم المتقون إذا كان في الناس متقون وغيرهم ، وأن تمليك الأرض لغيرهم إمّا عارض وإمّا لاستواء أهل الأرض في عدم التقوى .
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
📘 { قالوا } حكاية جواب قوم موسى إياه ، فلذلك فصلت جملة القول على طريقة المحاورة ، وهذا الخبر مستعمل في الشكاية واستئثارتهم موسى ليدعو ربه أن يفرج كربهم .والإيذاء : الإصابة بالأذى ، والأذى ما يؤلم ويحزن من قول أو فعل ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { لن يضروكم إلاّ أذى } في سورة آل عمران ( 111 ) ، وقوله : { فصَبروا على ما كُذبوا وأوذوا } في سورة الأنعام ( 34 ) ، وهو يكون ضعيفاً وقوياً ، ومرادهم هنا القوي منه ، وهو ما لحقهم من الاستعباد وتكليفهم الأعمال الشاقة عليهم في خدمة فرعون وما توعدهم به فرعون بعد بعثة موسى من القطع والصلب وقتل الأبناء ، وكأنهم أرادوا التعريض بنفاد صبرهم وأن الأذى الذي مسهم بعد بعثة موسى لم يكن بداية الأذى ، بل جاء بعد طول مدة في الأذى ، فلذلك جمعوا في كلامهم ما لحقهم قبل بعثة موسى .وقد توهم بعض المفسرين أن هذا امتعاض منهم مما لحقهم بسبب موسى وبواسطته مستنداً إلى أن قتل الذكور منهم كان قبل مجيء موسى بسبب توقع ولادة موسى ، وكان الوعيد بمثله بعد مجيئه بسبب دعوته ، وليس ذلك بمتجه لأنه لو كان هو المراد لما كان للتعبير بقوله : { من قبل أن تأتينا } موقع ، والإتيان والمجيء مترادفان ، فذكر المجيء بعد الإتيان ليس لاختلاف المعنى ، ولكنه للتفنن وكراهية إعادة اللفظ .والإتيان والمجيء مدلولهما واحد ، وهو بعثة موسى بالرسالة ، فجعل الفعل المعبّر عنه حين عُلق به ( قبل ) بصيغة المضارع المقترن ب ( أن ) الدالة على الاستقبال والمصدرية لمناسبة لفظ ( قبل ) لأن ما يضاف إلى ( قبل ) مستقبل بالنسبة لمدلولها ، وجُعل حين علق به ( بعد ) بصيغة الماضي المقترن بحرف ( مّا ) المصدرية لأن ( ما ) المصدرية لا تفيد الاستقبال ليناسب لفظ ( بعد ) لأن مضاف كلمة ( بعد ) ماض بالنسبة لمدلولها .فأجابهم موسى بتقريب أن يكونوا هم الذين يرثون مُلك الأرض والذين تكون لهم العاقبة .وجاء بفعل الرجاء دون الجزم تأدباً مع الله تعالى ، وإقصاء للاتكال على أعمالهم ليزدادوا من التقوى والتعرض إلى رضى الله تعالى ونصره . فقوله : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } ناظر إلى قوله : { إن الأرض لله } [ الأعراف : 128 ] وقوله : { ويَسْتخلفَكم في الأرض } ناظر إلى قوله { والعاقبة للمتقين } [ الأعراف : 128 ].والمراد بالعدو ، فرعون وحزبه ، فوصفُ عدو يوصف به الجمع قال تعالى : { هم العدو } [ المنافقون : 4 ].والمراد بالاستخلاف : الاستخلاف عن الله في مُلك الأرض . والاستخلاف إقامة الخليفة ، فالسين والتاء لتأكيد الفعل مثل استجاب له ، أي جعلهم أحراراً غالبين ومؤسسين ملكاً في الأرض المقدسة .ومعنى { فينظر كيف تعملون } التحذير من أن يعملوا ما لا يرضي الله تعالى ، والتحريض على الاستكثار من الطاعة ليستحقوا وصف المتقين ، تذكيراً لهم بأنه عليم بما يعملونه .فالنظر مستعمل في العلم بالمرئيات ، والمقصود بما { تعملون } عملهم مع الناس في سياسة ما استخلفوا فيه ، وهو كله من الأمور التي تشاهد إذ لا دخل للنيات والضمائر في السياسة وتدبير الممالك ، إلاّ بمقدار ما تدفع إليه النيات الصالحة من الأعمال المناسبة لها ، فإذا صدرت الأعمال صالحة كما يرضي الله ، وما أوصى به ، حصل المقصود ، ولا يضرها ما تكنه نفس العامل .و ( كيف ) يجوز كونها استفهاماً فهي معلّقة لفعل ( ينظرُ ) عن المفعول ، فالتقدير فينظر جواب السؤال ب { كيف تعملون } ، ويجوز كونها مجردة عن معنى الاستفهام دالة على مجرد الكيفية ، فهي مفعول به ل { ينظرَ } كما تقدم في قوله تعالى : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } في سورة آل عمران ( 6 ) ، وقوله تعالى : { انظْر كيف نبين لهم الآيات } في سورة المائدة ( 75 ) وقد تقدم .
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
📘 وقد عاقبه الله على عصيانه بإخراجه من المكان الذي كان فيه في اعتلاء وهو السّماء ، وأحل الملائكة فيه ، وجعله مكاناً مقدّساً فاضِلاً على الأرض فإنّ ذلك كلّه بجعل آلهي بإفاضة الأنوار وملازمة الملائكة ، فقال له : فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها }.والتّعبير بالهبوط إمّا حقيقة إن كان المكان عالياً ، وإمّا استعارة للبعد عن المكان المشرّف ، بتشبيه البُعد عنه بالنّزول من مكان مرتفع وقد تقدّم ذلك في سورة البقرة .والفاء في جملة : { فاهبط } لترتيب الأمر بالهبوط على جواب إبليس ، فهو من عطف كلام متكلّم على كلام متكلّم آخر ، لأنّ الكلامين بمنزلة الكلام الواحد في مقام المحاورة ، كالعطف الذي في قوله تعالى : { قال إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ].والفاء دالة على أن أمره بالهبوط مسبّب عن جوابه .وضمير المؤنّث المجرور بمن في قوله : { منها } عائد على المعلوم بين المتكلّم والمخاطب ، وتأنيثه إمّا رعي لمعناه بتأويل البقعة ، أو للفظ السّماء لأنّها مكان الملائكة ، وقد تكرّر في القرآن ذكر هذا الضّمير بالتّأنيث .وقوله : { فما يكون لك أن تتكبر فيها } الفاء للسّببيّة والتّفريع تعليلاً للأمر بالهبوط ، وهو عقوبة خاصه عقوبةَ إبعاد عن المكان المقدّس ، لأنّه قد صار خُلُقُه غير ملائم لمّا جعل الله ذلك المكان له ، وذلك خُلقُ التّكبر لأنّ المكان كان مكاناً مقدّساً فاضلاً لا يكون إلاّ مطهّراً من كلّ ما له وصف ينافيه وهذا مبدأ حاوله الحكماء الباحثون عن المدينة الفاضلة وقد قال مالك رحمه الله : لا تحْدِثوا بدعة في بلدنا . وهذه الآية أصل في ثبوت الحقّ لأهل المحلّة أن يخرجوا من محلّتهم من يخشى من سيرته فشّو الفساد بينهم .ودلّ قوله : { ما يكون لك } على أنّ ذلك الوصف لا يغتفر منه ، لأنّ النّفي بصيغة ( ما يكون لك ) كذا أشدّ من النّفي ب ( ليس لك كذا ) كما تقدّم عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية في آل عمران ( 79 ) ، وهو يستلزم هنا نهيا لأنّه نفاه عنه مع وقوعه ، وعليه فتقييد نفي التّكبّر عنه بالكون في السّماء لوقوعه علّة للعقوبة الخاصة وهي عقوبة الطّرد من السّماء ، فلا دلالة لذلك القيد على أنّه يكون له أن يتكبّر في غيرها ، وكيف وقد علم أنّ التّكبّر معصية لا تليق بأهل العالم العلويّ .وقوله : فاخرج } تأكيد لجملة { فاهبط } بمرادفها ، وأُعيدت الفاء مع الجملة الثّانية لزيادة تأكيد تسبّب الكبر في إخراجه من الجنّة .وجملة : { إنك من الصاغرين } يجوز أن تكون مستأنفة استينافاً بيانياً ، إذا كان المراد من الخبر الإخبار عن تكوين الصّغار فيه بجعل الله تعالى إياه صاغراً حقيراً حيثما حلّ ، ففصلها عن التي قبلها للاستيناف ، ويجوز أن تكون واقعة موقع التّعليل للإخراج على طريقة استعمال ( إنّ ) في مثل هذا المقام استعمال فاء التّعليل ، فهذا إذا كان المراد من الخبر إظهار ما فيه من الصّغار والحقارة التي غَفَل عنها فذهبت به الغفلة عنها إلى التّكبّر .وقوله : { إنك من الصاغرين } أشدّ في إثبات الصّغار له من نحو : إنّك صَاغر ، أوْ قد صَغُرت ، كما تقدّم في قوله تعالى : { قد ضللتُ إذا وما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام ( 56 ) ، وقوله آنفاً : لم يكن من الساجدين }. والصّاغر المتّصف بالصّغار وهو الذلّ والحقارة ، وإنّما يكون له الصّغار عند الله لأنّ جبلته صارت على غير ما يرضي الله ، وهو صغار الغواية ، ولذلك قال بعد هذا : { فبما أغويتني } [ الأعراف : 16 ].
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
📘 هذا انتقال إلى ذكر المصائب التي أصاب الله بها فرعون وقومه ، وجعلها آيات لموسى ، ليلجىء فرعون إلى الإذن لبني إسرائيل بالخروج ، وقد وقعت تلك الآيات بعد المعجزة الكبرى التي أظهرها الله لموسى في مجمع السحرة ، ويظهر أن فرعون أغضى عن تحقيق وعيده إبقاء على بني إسرائيل ، لأنهم كانوا يقومون بالأشغال العظيمة لفرعون .ويُؤخذ من التوراة أن موسى بقي في قومه مدة يعيد محاولة فرعون أن يطلق بني إسرائيل ، وفرعون يَعد ويُخلف ، ولم تضبط التوراة مدة مقام موسى كذلك ، وظاهرها أن المدة لم تطُل ، وليس قوله تعالى : { بالسنين } دليلاً على أنها طالت أعواماً لأن السنين هنا جمع سنة بمعنى الجدْب لا بمعنى الزمن المقدر من الدهر . فالسنة في كلام العرب إذا عرفت باللام يراد بها سنة الجدب ، والقحط ، وهي حينئذٍ علم جنس بالغلبة ، ومن ثَم اشتقوا منها : أسْنَت القومُ ، إذا أصابهم الجدب والقحط ، فالسنين في الآية مراد بها القحوط وجمعها باعتبار كثرة مواقعها أي : أصابهم القحط في جميع الأرضين والبلدان ، فالمعنى : ولقد أخذناهم بالقحوط العامة في كل أرض .والأخْذُ : هنا مجاز في القهر والغلبة ، كقوله : { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ]. ويصح أن يكون هنا مجازاً في الإصابة بالشدائد ، لأن حقيقة الأخذ : تناول الشيء باليد ، وتعددت إطلاقاته ، فأطلق كناية عن الملك .وأطلق استعارة للقهر والغلبة ، وللإهلاك . وقد تقدمت معانيه متفرقة في السور الماضية .وجملة { لعلهم يذكرون } في موضع التعليل لجملة { ولقد أخذنا } فلذلك فصلت .ونقص الثمرات قلة إنتاجها قلة غير معتادة لهم . فتنوين { نقص } للتكثير ولذلك نكر ( نقص ) ولم يضف إلى ( الثمرات ) لئلا تفوت الدلالة على الكثرة .فالسنون تنتاب المزارع والحقول ، ونقص الثمرات ينتاب الجنات .و ( لعل ) للرجاء ، أي مرجوا تذكرهم ، لأن المصائب والأضرار المقارنة لتذكير موسى إياهم بربهم ، وتسريح عبيده ، من شأنها أن يكون أصحابها مرجواً منهم أن يتذكروا بأن ذلك عقاب على إعراضهم وعلى عدم تذكرهم ، لأن الله نصب العلامات للاهتداء إلى الخفيات كما قدمناه عند قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبيء } في هذه السورة ( 94 ) ، فشأن أهل الألباب أن يتذكروا ، فإذا لم يتذكروا ، فقد خيبوا ظن من يظن بهم ذلك مثل موسى وهارون ، أما الله تعالى فهو يعلم أنهم لا يتذكرون ولكنه أراد الإملاء لهم ، وقطع عذرهم ، وذلك لا ينافي ما يدل عليه ( لعل ) من الرجاء لأن دلالتها على الراجي والمرجو منه دلالة عرفية ، وقد تقدم الكلام على وقوع ( لعل ) في كلام الله تعالى عند قوله تعالى : { يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } في سورة البقرة ( 21 ).وفي هذه الآية تنبيه للأمة للنظر فيما يحيط بها من دلائل غضب الله فإن سلب النعمة للمنعم عليهم تنبيه لهم على استحقاقهم إعراض الله تعالى عنهم .
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ ۗ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
📘 والفاء في قوله : { فإذا جاءتهم الحسنة } لتفريع هذا الخبر على جملة { أخذنا آل فرعون بالسنين } أي : فكان حالهم إذا جاءتهم الحسنة الخ . . . والمعنى : فلم يتذكروا ولكنهم زادوا كفراً وغروراً .والمجيء : الحصول والإصابة ، وإنما عبر في جانب الحسنة بالمجيء لأن حصولها مرغوب ، فهي بحيث تُترقب كما يُترقَب الجائي ، وعبر في جانب السيئة بالإصابة لأنها تحصل فجأة من غير رغبة ولا ترقب .وجيء في جانب الحسنة بإذا الشرطية لأن الغالب في ( إذا ) الدلالة على اليقين بوقوع الشرط أو ما يقرب من اليقين كقولك : إذا طلعت الشمس فعلتُ كذا ، ولذلك غلب أن يكون فعل الشرط مع ( إذا ) فعلاً ماضياً لكون الماضي أقرب إلى اليقين في الحصول من المستقبل ، كما في الآية ، فالحسنات أي : النعم كثيرة الحصول تنتابهم متوالية من صحة وخصب ورخاء ورفاهية . وجيء في جانب السيئة بحرف ( إنْ ) لأن الغالب أن تدل ( إنْ ) على التردد في وقوع الشرط ، أو على الشك ، ولكون الشيء النادر الحصول غير مجزوم بوقوعه ، ومشكوكاً فيه ، جيء في شرط إصابة السيئة بحرف ( إنْ ) لندرة وقوع السيئات أي : المكروهات عليهم ، بالنسبة إلى الحسنات ، أي : النعم ، وفي ذلك تعريض بأن نعم الله كانت متكاثرة لديهم وأنهم كانوا معرضين عن الشكر ، وتعريض بأن إصابتهم بالسيئات نادرة وهم يعدون السيئات من جراء موسى ومن آمن معه ، فهم في كلتا الحالتين بين كافرين بالنعمة وظالمين لموسى ومن معه ، ولهذين الاعتبارين عُرفت الحسنة تعريف الجنس المعروف في علم المعاني بالعهد الذهني ، أي : جاءتهم الحسنات ، لأن هذا الجنس محبوب مألوف كثير الحصول لديهم ، ونكرت { سيئة } لندرة وقوعها عليهم ، ولأنها شيء غير مألوف حلوله بهم ، أي : وإن تصبهم آية سيئة ، كذا في «الكشاف» و«المفتاح» .واعْلم أن التفرقة بين تعريف الجنس والتنكير من لطائف الاستعمال البَلاغي ، كما أشرنا إليه في قوله تعالى : { الحمد لله } في سورة الفاتحة ( 2 ) ، وأما من جهة مُفاد اللفظ ، فالمعرف بلام الجنس والمنكرة سواء ، فلا تظن أن اللام للعهد لحسنة معهودة ووقوع المعرف بلام الجنس والنكرة في سياق الشرط ، في هذه الآية يعم كل حسنة وكل سيئة . والحسنة والسيئة هنا مراد بهما الحالة الحسنة والحالة السيئة .واللام في قوله { لنا } هذه لام الاستحقاق أي : هذه الحسنة حق لنا ، لأنهم بغرورهم يحسبون أنهم أحرياء بالنعم ، أي : فلا يرون تلك الحسنة فضلاً من الله ونعمة .{ ويَطَيّرُوا } أصله يتَطيروا ، وهو تَفَعّلُ ، مشتق من اسم الطَيْرِ ، كأنهم صاغوه على وزن التفعّل لما فيه من تكلف معرفة حظ المرء بدلالة حركات الطير ، أو هو مطاوعة سمي بها ما يحصل من الانفعال من إثر طيران الطير . وكان العرب إذا خرجوا في سفر لحاجة ، نظروا إلى ما يلاقيهم أول سيرهم من طائر ، فكانوا يزعمون أن في مروره علامات يُمن وعلاماتتِ شُؤم ، فالذي في طيرانه علامة بُمننٍ في إصطلاحهم يسمونه السانح ، وهو الذي ينهض فيطير من جهة اليمين للسائر والذي علامته الشؤم هو البَارح وهو الذي يمر على اليسار ، وإذا وجد السائر طيراً جاثماً آثاره لينظر أي جهة يطير ، وتسمى تلك الإثارة زجراً ، فمن الطير ميمون ومنه مشؤوم والعرب يدْعُون للمسافر بقولهم «على الطائر الميمون» ، ثم غلب استعمال لفظ التطير في معنى التشاؤم خاصة ، يقال الطيرة أيضاً ، كما في الحديث« لا طيرة وإنما الطيرَة على من تطيّر » أي : الشؤم يقع على من يتشاءم ، جعل الله ذلك عقوبة له في الدنيا لسوء ظنه بالله ، وإنما غلب لفظ الطيرة على التشاؤم لأن للأثر الحاصل من دلالة الطيران على الشؤم دلالة أشد على النفس ، لأن توقع الضر أدخل في النفوس من رجاء النفع . والمراد به في الآية أنهم يتشاءمون بموسى ومن معه فاستعمل التطير في التشاؤم بدون دلالة من الطير ، لأن قوم فرعون لم يكونوا ممن يزجر الطير فيما علمنا من أحوال تاريخهم ، ولكنهم زعموا أن دعوة موسى فيهم كانت سبب مصائب حلت بهم ، فعبر عن ذلك بالتطير على طريقة التعبير العربي .والتشاؤم : هو عد الشيء مشؤوماً ، أي : يكون وجوده . سبباً في وجود ما يُحزن ويضر ، فمعنى { يَطَّيّرُوا بموسى } يحسبون حلول ذلك بهم مسبباً عن وجود موسى ومن آمن به وذلك أن آل فرعون كانوا متعلقين بضلال دينهم ، وكانوا يحسبون أنهم إذا حافظوا على إتباعه كانوا في سعادة عيش ، فحسبوا وجود من يخالف دينهم بينهم سبباً في حلول المصائب والإضرار بهم فتشاءموا بهم ، ولم يعلموا أن سبب المصائب هو كفرهم وإعراضهم ، لأن حلول المصائب بهم يلزم أن يكون مسبباً عن أسباب فيهم لا في غيرهم . وهذا من العَماية في الضلالة فيبقون منصرفين عن معرفة الأسباب الحقيقية ، ولذلك كان التطير من شعار أهل الشرك لأنه مبني على نسبة المسببات لغير أسبابها ، وذلك من مخترعات الذين وضعوا لهم ديانة الشرك وأوهامها .في الحديث « الطيرة شرك » وتأويله أنها : من بقايا دين الشرك ، ويقع بعد فعل التطير باء ، وهي باء السببية تدخل على موجب التطير ، وقد يقال أيضاً : تطير من كذا .وعطفُ { ومن معه } ، أي : من آمنوا به ، لأن قوم فرعون يعدون موجب شُؤم موسى هو ما جاء به من الدين لأنه لا يُرضي آلهتهم ودينهم ، ولولا دينُه لم يكن مشؤوماً كما قال ثمود { قد كنت فينا سرجوا قبل هذا } [ هود : 62 ].و { ألا } حرف استفتاح يفيد الاهتمام بالخبر الوارد بعده . تعليماً للأمة ، وتعريضاً بمشركي العرب .والطائر : اسم للطير الذي يُثار ليتيمن به أو يتشاءَم ، واستعير هنا للسبب الحق لحلول المصائب بهم بعلاقة المشاكلة لقوله : { يطيروا } فشبه السبب الحق ، وهو ما استحقوا به العذاب من غضب الله بالطائر .و { عند } مستعملة في التصرف مجازاً لأن الشيء المتصرف فيه كالمستقر في مكان ، أي : سبب شؤمهم مقدر من الله ، وهذا كما وقع في الحديث : " ولا طيْرَ إلا طَيْرُك " فعبر عما قدره الله للناس «بطير» مشاكلة لقوله : «ولا طَيْر» ومن فسر الطائر بالحظ فقد أبعد عن السياق .والقصر المستفاد من { إنما } إضافي أي : سوء حالهم عقابٌ من الله ، لا من عند موسى ومن معه ، فلا ينافي أن المؤمنين يعلمون أن سبب حلول المصائب بأهل الشرك المعاندين للرسل ، هو شركهم وتكذيبهم الرسل : يعلمون ذلك بأخبار الرسل ، أو بصدق الفراسة وحسن الاستدلال ، كما قال أبو سفيان ليلة الفتح لما هداه الله «لقد علمتُ أن لو كان معه إله آخر لَقد أغنَى عني شيئاً» . فأما المشركون وأضرابهم من أهل العقائد الضالة ، فيسندون صدور الضرر والنفع إلى أشياء تقارن حصول ضر ونفع ، فيتوهمون تلك المقارنة تسبباً ، ولذلك تراهم يتطلبون معرفة حصول الخير والشر من غير أسبابها ، ومن ذلك الاستقسام بالأزلام كما تقدم في سورة العقود .وجملة { ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون } معترضة ولذلك فصلت ، والاستدراك المستفاد من { لكّن } عما يوهمه الاهتمام بالخبر الذي قبله لقرنه بأداة الاستفتاح ، واشتماله على صيغة القصر : من كون شأنه أن لا يجهله العقلاء ، فاستدرك بأن أكثر أولئك لا يعلمون .فالضمير في قوله : { أكثرهم } عائد إلى الذين { قالوا لنا هذه } وإنما نفي العلم عن أكثرهم تنبيهاً على أن قليلاً منهم يعلمون خلاف ذلك ولكنهم يشايعون مقالة الأكثرين .
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
📘 جملة : { وقالوا } معطوفة على جملة { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } [ الأعراف : 130 ] الآية ، فهم قابلوا المصائب التي أصابهم الله بها ليذكّروا ، بازدياد الغرور فأيسوا من التذكر بها ، وعاندوا موسى حين تحداهم بها فقالوا : مَهْما تأتنا به من أعمال سحرك العجيبة فما نحن لك بمؤمنين ، أي : فلا تتعب نفسك في السحر .و { مهما } اسم مضمن معنى الشرط ، لأن أصله ( ما ) الموصولة أو النكرة الدالة على العموم ، فركبّت معها ( ما ) لتصييرها شرطية كما ركبت ( ما ) مع ( أي ) و ( متى ) و ( أيْنَ ) فصارت أسماء شرط ، وجعلت الألف الأولى هاء اسْتثقالاً لتكرير المتجانسين ، ولقرب الهاء من الألف فصارت مهما ، ومعناها : شيء ما ، وهي مبهمة فيؤتى بعدها بمن التبْيينية ، أي : إن تأتنا بشيء من الآيات فما نحن لك بمؤمنين .و { مهما } في محل رفع بالابتداء ، والتقدير : أيّما شيء تأتينا به ، وخبره الشرط وجوابه ، ويجوز كونها في محل نصب لفعل محذوف يدل عليه { تأتنا به } المذكور . والتقدير : أي شيء تُحضرنا تأتينا به .وذُكّر ضمير { به } رعياً للفظ { مهما } الذي هو في معنى أي شيء ، وأنّث ضمير { بها } رعياً لوقوعه بعد بيان { مهما } باسم مؤنث هو { آية }.و { من آية } بيان لإبهام { مهما }.والآية : العلامة الدالة ، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { والذين كفروا وكذبوا بآياتا أولئك أصحاب النار } في سورة البقرة ( 39 ) ، وفي قوله تعالى : { وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه } في سورة الأنعام ( 37 ).وسموا ما جاء به موسى آية باعتبار الغرض الذي تحداهم به موسى حين الإتيان بها ، لأن موسى يأتيهم بها استدلالاً على صدق رسالته ، وهم لا يعدونها آية ولكنهم جارَوْا موسى في التسمية بقرينة قولهم لتسحرنا بها } ، وفي ذلك استهزاء كما حكى الله عن مشركي أهل مكة وقالوا : { يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } [ الحجر : 6 ] بقرينة قولهم : إنك لمجنون .وجملة { فما نحن لك بمؤمنين } مفيدة المبالغة في القطع بانتفاء إيمانهم بموسى لأنهم جاءوا في كلامهم بما حوته الجملة الاسمية التي حَكَتْهُ من الدلالة على ثبوت هذا الانتفاء ودوامه . وبما تفيده الباء من توكيد النفي ، وما يفيده تقديم متعلق مؤمنين من اهتمامهم بموسى في تعليق الإيمان به المنفي باسمه .
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ
📘 والفاء في قوله : { فأرسلنا } لتفريع إصابتهم بهذه المصائب على عتوهم وعنادهم .والإرسال : حقيقته توجيه رسول أو رسالة فيعدى إلى المفعول الثاني ( بإلى ) ويضمّن معنى الإرسال من فوق ، فيعدى إلى المفعول الثاني ( بعَلى ) ، قال تعالى : { وأرسل عليهم طيراً أبابيل } [ الفيل : 3 ] ، { وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] فحرف ( على ) دل على أن جملة أرسلنا مفرعة تفريع العقاب لا تفريغ زيادة الآيات .والطوفان : السَيْح الغالب من الماء الذي يغمر جهات كثيرة ويطغى على المنازل والمزارع ، قيل هو مشتق من الطواف لأن الماء يطوف بالمنازل ، أي : تتكرر جريته حولها ، ولم يدخل الطوفان الأرض التي كان بها بنو إسرائيل وهي أرض ( جاسان ).والجراد : الحشرة الطائرة من فصيلة الصرصر والخنافس له أجنحة ستة ذات ألوان صفر وحمر تنتشر عند طيرانه ، يكون جنوداً كثيرة يسمى الجند منها رِجْلا . وهو مهلك للزرع والشجر ، يأكل الورق والسنبل ووَرَق الشجر وقشره ، فهو من أسباب القحط . أصاب أرض قوم فرعون ولم يصب أرض بني إسرائيل .والقُمّلُ : بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة في القراءات المشهورة اسم نوع من القراد عظيم يسمى الحُمْنان بضم الحاء المهملة وميم ساكنة ونونين واحدته حمنانة وهو يمتص دم الإنسان ( وهو غير القَمْل بفتح القاف وسكون الميم الذي هو من الحشرات الدقيقة التي تكون في شعر الرأس وفي جلد الجسد يتكون من تعفن الجلد لوسخه ودسومته ومن تعفن جلد الرأس كثيراً ) ، أصاب القبط جند كثير من الحمنان عسر الاحتراز عنه ولعله أصاب مواشيَهم .والضفادع : جمع ضَفْدَع وهو حيوان يمشي على أرجل أربع ويسحب بطنه على الأرض ويسبح في المياه ، ويكون في الغدران ومناقع المياه ، صوته مثل القراقر يسمى نقيقاً ، أصابهم جند كثير منه يقع في طعامهم يرتمي إلى القدور ، ويقع في العيون والأسقية وفي البيوت فيفسد ما يقع فيه وتطؤه أرْجُل الناس فتتقذر به البيوت ، وقد سلمت منه بلاد ( جاسان ) منزل بني إسرائيل .والدم معروف ، قيل : أصابهم رعاف متفش فيهم ، وقيل : صارت مياه القبط كالدم في اللون ، كما في التوراة ، ولعل ذلك من حدوث دود أحمر في الماء فشبه الماء بالدم ، وسلمت مياه ( جاسان ) قرية بني إسرائيل .وسمى الله هاته { آيات } لأنها دلائل على صدق موسى لاقترانها بالتحدي ، ولأنها دلائل على غضب الله عليهم لتظافرها عليهم حين صمموا الكفر والعناد .وانتصب { آيات } على الحال من الطوفان وما عطف عليه ، و { مفصّلات } اسم مفعول من فصّل المضاعف الدال على قوة الفصل . والفصل حقيقته التفرقة بين الشيئين بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر ، ويستعار الفصل لإزالة اللبس والاختلاط في المعاني ف { مفصلات } وصف ل { آيات } ، فيكون مراداً منه معنى الفصل المجازي وهو إزالة اللبس ، لأن ذلك هو الأنسب بالآيات والدلائل ، أي : هي آيات لا شبهة في كونها كذلك لمن نَظر نَظر اعتبار .وقيل : المراد أنها مفصول بعضها عن بعض في الزمان ، أي لم تحدث كلها في وقت واحد ، بل حدث بعضها بعد بعض ، وعلى هذا فصيغة التفعيل للدلالة على تراخي المدة بين الواحدة والأخرى ، ويجيء على هذا أن العذاب كان أشد وأطول زمناً كما دل عليه قوله تعالى : { وما نريهم من آية إلاّ هي أكبر من أختها } [ الزخرف : 48 ] ، قيل : كان بين الآية منها والأخرى مدة شهر أو مدة ثمانية أيام ، وكانت تدوم الواحدة منها مدة ثمانية أيام وأكثر ، وعلى هذا الوجه فالأنسب أن يجعل { مفصلات } حالاً ثانية من الطوفان والجراد ، وأن لا يجعل صفة { آيات }.والفاء في قوله : { فاستكبروا } للتفريع والترتب ، أي : فتفرع على إرسال الطوفان وما بعده استكبارهم ، كما تفرع على أخذهم بالسنين غرورُهم بأن ذلك من شؤم موسى ومن معه ، فعُلم أن من طبع تفكيرهم فسادَ الوضع ، وهو انتزاع المدلولات من أضداد أدلتها ، وذلك دليل على انغماسهم في الضلالة والخذلان ، وبعدهم عن السعادة والتوفيق ، فلا يزالون مورطين في وحل الشقاوة .فالاستكبار : شدة التكبر كما دلت عليه السين والتاء ، أي : عدَ أنفسهم كبراء ، أي تعاظمهم عن التصديق بموسى وإبطال دينهم إذ أعرضوا عن التصديق بتلك الآيات المفصلات .وجملة : { وكانوا قوماً مجرمين } معطوفة على جملة { فاستكبروا } ، فالمعنى : فاستكبروا عن الاعتراف بدلالة تلك الآيات وأجرموا ، وإنما صيغ الخبر عن إجرامهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على ثبات وصف الإجرام فيهم ، وتمكنه منهم ، ورسوخه فيهم من قبل حدوث الاستكبار ، وفي ذلك تنبيه على أن وصف الإجرام الراسخ فيهم هو علة للاستكبار الصادر منهم ، ف ( كان ) دالةٌ على استمرار الخبر وهو وصف الإجرام . والإجرام : فعل الجرم وقد تقدم عند قوله تعالى : { وكذلك نجزي المجرمين } في هذه السورة ( 40 ).
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ۖ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
📘 الرجز العذاب فالتعريف باللام هنا للعهد أي العذاب المذكور وهو ما في قوله تعالى : { فأرسلنا عليهم الطوفان } إلى قوله { آيات مفصّلات } [ الأعراف : 133 ] والرجز من أسماء الطاعون ، وقد تقدم عند قولهم تعالى : { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء } في سورة البقرة ( 59 ) ، فيجوز أن يراد بالرجز الطاعون أي أصابهم طاعون ألجأهم إلى التضرع بموسى عليه السلام ، فطُوي ذكره للإيجاز ، فالتقدير : وأرسلنا عليهم الرجز ولما وقع عليهم الخ . . . وإنما لم يذكر الرجز في عداد الآيات التي في قوله : { فأرسلنا عليهم الطوفان } [ الأعراف : 133 ] الآية تخصيصاً له بالذكر لأن له نبأ عجيباً فإنه كان ملجئَهم إلى الاعتراف بآيات موسى ووجود ربه تعالى .وهذا الطاعون هو المَوَتانُ الذي حكي في الإصحاح الحادي عشر من سفر الخروج «هكذا يقول الرب إني أخرج نحوَ نصف الليل في وسط مصر فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعونَ الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلْف الرحى وكل بكر بهيمة ثم قالت في الإصحاح الثاني عشر فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر فقام فرعون ليلاً هو وعبيدُه وجميع المصريين فدعَا موسى وهارونَ ليْلاً وقال قوموا اخرجوا أنتم وبنو إسرائيل جميعاً واذهبوا اعبدوا ربكم واذهبوا وباركوني» الخ . . . قيل مات سبعون ألف رجل في ذلك اليوم من القبط خاصة ، ولم يصب بني إسرائيل منه شيء .وليس قولهم : { ادع لنا ربك } بإيمان بالله ورسالة موسى ، ولكنهم كانوا مشركين وكانوا يجوزون تعدد الآلهة واختصاص بعض الأمم وبعض الأقطار بآلهة لهم ، فهم قد خامرهم من كثرة ما رأوا من آيات موسى أن يكون لموسى رب له تصرف وقدرة . وأنه أصابهم بالمصائب لأنهم أضروا عبيده ، فسألوا موسى أن يكف عنهم ربه ويكون جزاؤه الإذن لبني إسرائيل بالخروج من مصر ليعبدوا ربهم ، كما حكت التوراة في الإصحاح الثاني عشر عن فرعون ، «فقال قوموا اخرجوا أنتم وبنو إسرائيل جميعاً واذهبوا اعبدوا ربكم» وقد كان عبدة الأرباب الكثيرين يجوز أن تغلب بعض الأرباب على بعض مثل ما يحدث بين الملوك كما تدل عليه أساطير ( الميثولوجيا ) اليونانية ، وقصة الياذة ( هُومَيْروس ) ، فبدَا لفرعون أن وَجْه الفصْل مع بني إسرائيل أن يعبدوا ربهم في أرض غير أرض مصر التي لها أرباب أخر ولذلك قال { ربك } ولم يقل ربنا .وحذف متعلق فعل الدعاء لظهور المراد ، أي ادع لنا ربك بأن يكف عنا ، كما دل عليه قوله بعدُ { لئن كشفت عنا الرجز } ووقع في التوراة في الإصحاح الثاني عشر قول فرعون لموسى وهارون ( واذهبوا وباركوني أيضاً ).وقد انبرم حال موسى على فرعون فلم يدر أهو رسول من إله غير آلهة القبط فلذلك قال له { بما عهد عندك } ، أي : بما عرفك وأودع عندك من الأسرار ، وهذه عبارة متحير في الأمر ملتبسة عليه الأدلة .والباء في { بما عهد عندك } لتعدية فعل الدعاء . و ( ما ) موصولة مبهمة ، أي ادعه بما علمك ربك من وسائل إجابة دعائك عند ربك ، وهذا يقتضي أنهم جوزوا أن يكون موسى مبعوثاً من رب له بناء على تجويزهم تعدد الآلهة .وجملة { لَئن كشفتَ عنا الرجز } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن طلبهم من موسى الدعاء بكشف الرجز عنهم مع سابقيّة كفرهم به يثير سؤال موسى أن يقول : فما الجزاء على ذلك .واللام موطئة للقسم ، وجملة : { لنؤمنّن } جواب القسم .ووعدُهم بالإيمان لموسى وعد بالإيمان بأنه صادق في أنه مرسل من رب بني إسرائيل ليخرجهم من أرض مصر ، وليس وعداً باتباع الدين الذي جاء به موسى عليه السلام ، لأنهم مكذبون به في ذلك وزاعمون أنه ساحر يريد إخراج الناس من أرضهم ولذلك جاء فعل الإيمان متعلقاً بموسى لا باسم الله ، وقد جاء هذا الوعد على حسب ظنهم أن الرب الذي يدعو إليه موسى هو رب خاص به وبقومه ، كما دل عليه قوله : { ادع لنا ربك بما عهد عندك } وقد وضحوا مرادهم بقولهم : { ولنرسلن معك بني إسرائيل }.
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ
📘 وجملة { فلما كشفنا عنهم الرجز } دالة على أن موسى دعا الله برفع الطاعون فارتقع وقد جاء ذلك صريحاً في التوراة ، وحُذف هنا للإيجاز .وقوله : { إلى أجل هم بالغوه } متعلق ب { كشفنا } باعتبار كون كشف الرجز إزالة للموتان الذي سببه الطاعون ، فإزالة الموتان مغياة إلى أجل هم بالغون إليه وهو الأجل الذي قدره الله لهلاكهم فالغاية منظور فيها إلى فعل الكشف لا إلى مفعوله ، وهو الرجْز .وجملة : { إذا هم ينكثون } جواب ( لما ) ، و ( إذا ) رابطة للجواب لوقوع جواب الشرط جملة أسمية ، فلما كان ( إذا ) حرفاً يدل على معنى المفاجأة كان فيه معنى الفعل كأنه قيل فاجأوا بالنكث ، أي : بادروا به ولم يؤخروه . وهذا وصف لهم بإضمار الكفر بموسى وإضمار النكث لليمين .والنكث حقيقته نقض المفتول من حبل أو غَزْل ، قال تعالى : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً } [ النحل : 92 ] واستعير النكث لعدم الوفاء بالعهد ، كما استعير الحبل للعهد في قوله تعالى : { إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] ففي قوله : { ينكثون } استعارة تبعية .وهذا النكث هو أن فرعون بعد أن أذن لبني إسرائيل بالخروج وخرجوا من أرض ( جاسان ) ليلاً قال لفرعون بعضُ خاصته : مَاذا فعلنا حتى أطلقنا إسرائيل من خدمتنا فندم فرعون وجهز جيشاً للالتحاق ببني إسرائيل ليردوهم إلى منازلهم كما هو في الإصحاح الربع عشر من سفر الخروج .
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ
📘 هذا محل العبرة من القصة ، فهو مفرع عليها تفريع النتيجة على المقدمات والفذلكة على القصة ، فإنه بعد أن وصف عناد فرعون وَمَلَئهِ وتكذيبَهم رسالة موسى واقتراحهم على موسى أن يجيء بآية ومشاهدتهم آية انقلاب العصا ثعباناً ، وتغيير لون يده ، ورميَهم موسى بالسحر ، وسوء المقصد ، ومعارضة السحرة معجزة موسى وتغلب موسى عليهم ، وكيف أخذ الله آل فرعون بمصائِب جعلها آيات على صدق موسى ، وكيف كابروا وعاندوا ، حتى ألْجِئوا إلى أن وعدوا موسى بالإيمان وتسريح بني إسرائيل معه وعاهدوه على ذلك ، فلما كشف عنهم الرجز نكثوا ، فأخبر الله بأن ذلك ترتب عليه استئصال المستكبرين المعاندين ، وتحريرُ المؤمنين الذين كانوا مستضعفين .وذلك محل العبرة ، فلذلك كان الموقع في عطفه لفاء الترتيب والتسبب ، وقد اتبع في هذا الختام الأسلوبُ التي اختتمت به القصص التي قبل هذا .والانتقام افتعال ، وهو العقوبة الشديدة الشبيهة بالنّقْم . وهو غضب الحنق على ذنْببِ اعتداء على المنتقممِ ينكر ويَكْرَه فاعلَه .وأصل صيغة الافتعال أن تكون لمطاوعة فَعَل المتعدي بحيث يكون فاعل المطاوعة هو مفعول الفعل المجرد ، ولم يسمع أن قالوا نَقَمَه فانتقم . أي أحفظه وأغضبه فعاقب ، فهذه المطاوعة أميت فعلها المجردُ ، وعدوه إلى المعاقب بمن الابتدائية للدلالة على أنه منشأ العقوبة وسببها وأنه مستوجبها ، وتقدم الكلام على المجرد من هذا الفعل عند قوله تعالى آنفاً : { وما تَنَقم منا إلاّ أن آمنا بآيات ربنا } [ الأعراف : 126 ].وكان إغراقهم انتقاماً من الله لذاته لأنهم جحدوا انفراد الله بالإلاهية ، أو جحدوا إلاهيته أصلاً ، وانتقاماً أيضاً لبني إسرائيل لأن فرعون وقومه ظلموا بني إسرائيل وأذلوهم واستعبدوهم باطلاً .والإغراقُ : الإلقاء في الماء المستبحر الذي يغمر المُلْقَى فلا يترك له تنفساً ، وهو بيان للانتقام وتفصيل لمجمله ، فالفاء في قوله : { فأغرقناهم } للترتيب الذكري ، وهو عطف مفصّل على مجمل كما في قوله تعالى : { فتوبوا إلى بارئكم فاقتُلوا أنفسكم } [ البقرة : 54 ].وحَمَل صاحب «الكشاف» الفعل المعطوف عليه هنا على معنى العزم فيكون المعنى : فأرْدنا الانتقام منهم فأغرقناهم ، وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } في سورة البقرة ( 54 ).واليمّ : البحر والنهر العظيم ، قيل هو كلمة عربية . وهو صنيع الكشاف } إذ جعله مشتقاً من التيمم لأنه يُقصد للمنتفعين به ، وقال بعضْ اللغويين : هو معرب عن السريانية وأصله فيها ( يَمّا ) وقال شَيْدَلَةُ : هو من القبطية ، وقال ابن الجوزي : هو من العبرية ، ولعله موجود في هذه اللغات . ولعل أصله عربي وأخذته لغات أخرى ساميّة من العربية والمراد به هنا بحر القُلْزُم ، المسمى في التوراة بحر سُوف ، وهو البحر الأحمر . وقد أطلق ( اليم ) على نهر النيل في قوله تعالى : { أن اقذفيه في التابوت فاقْذفيه في اليَمّ } [ طه : 39 ] وقوله :{ فإذا خفتتِ عليه فألقيه في اليمّ } [ القصص : 7 ] ، فالتعريف في قوله : { اليَمّ } هنا تعريف العهد الذهني عند علماء المعاني المعروف بتعريف الجنس عند النحاة إذ ليس في العبرة اهتمام ببحر مخصوص ولكن بفرد من هذا النوع .وقد أغرق فرعون وجنده في البحر الأحمر حين لحق بني إسرائيل يريد صدهم عن الخروج من أرض مصر ، وتقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة البقرة وسيأتي تفصيله عند قوله تعالى : { حتى إذا أدركه الغرق } في سورة يونس ( 90 ).والباء في بأنهم } للسببية ، أي : أغرقناهم جزاء على تكذيبهم بالآيات .والغفلة ذهول الذهن عن تذكر شيء ، وتقدمت في قوله تعالى : { وإن كنا عن دراستهم لغافلين } في سورة الأنعام ( 156 ) ، وأريد بها التغافل عن عمد وهو الإعراض عن التفكر في الآيات ، وإباية النظر في دلالتها على صدق موسى ، فإطلاق الغفلة على هذا مجاز ، وهذا تعريض بمشركي العرب في إعراضهم عن التفكر في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالة معجزة القرآن ، فلذلك أعيد التصريح بتسبب الإعراض في غرقهم مع استفادته من التفريع بالفاء في قوله : { فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم } تنبيهاً للسامعين للانتقال من القصة إلى العبرة .وقد صيغ الإخبار عن إعراضهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على أن هذا الإعراض ثابت لهم ، وراسخ فيهم ، وأنه هو علة التكذيب المصوغغِ خبرُه بصيغة الجملة الفعلية لإفادة تجدده عند تجدد الآيات .
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ
📘 { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها التى بَارَكْنَا فِيهَا }.عطف على { فانتقمنا منهم } [ الأعراف : 136 ]. والمعنى : فأخذناهم بالعقاب الذي استحقوه وجازيّنا بني إسرائيل بنعمة عظيمة .وتقدم ءانفاً الكلام على معنى { أوْرثنا } عند قوله تعالى : { أوَ لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } [ الأعراف : 100 ] والمراد هنا تمليك بني إسرائيل جميع الأرض المقدسة بعد أهلها من الأمم التي كانت تملكها من الكنعانيين وغيرهم . وقد قيل إن فرعون كان له سلطان على بلاد الشام ، ولا حاجة إلى هذا إذ ليس في الآية تعيين الموروث عنه .والقومُ الذين كانوا يُستْضعفون هم بنو إسرائيل كما وقع في الآية الأخرى : { كذلك وأورثناها بني إسرائيل } [ الشعراء : 59 ] ، وعدل عن تعريفهم بطريق الإضافة إلى تعريفهم بطريق الموصولية لنكتتين : أولاهما : الإيماء إلى علة الخبر ، أي أن الله ملَّكهم الأرض وجعلهم أمة حاكمة جزاء لهم على ما صبروا على الاستعباد ، غيرة من الله على عبيده .الثانية : التعريض ببشارة المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنهم ستكون لهم عاقبة السلطان كما كانت لبني إسرائيل ، جزاء على صبرهم على الأذى في الله ، ونذارةُ المشركين بزوال سلطان دينهم .ومعنى يُستضعفون : يستعْبَدون ويهانون ، فالسين والتاء للحسبان مثل استنجب ، أو للمبالغة كما في استجاب .والمشارق والمغارب جُمع باعتبار تعدد الجهات ، لأن الجهة أمر نسبي تتعد بتعدد الأمكنة المفروضة ، والمراد بهما إحاطة الأمكنة .و { الأرض } أرض الشام وهي الأرض المقدسة وهي تبتدىء من السواحل الشرقية الشمالية للبحر الأحمر وتنتهي إلى سواحل بحر الروم وهو البحر المتوسط وإلى حدود العراق وحدود بلاد العرب وحدود بلاد الترك .و { التي باركنا فيها } صفة للأرض أو لمشارقها ومَغاربها؛ لأن ما صدقيْهما متحدان ، أي قدرنا لها البركة ، وقد مضى الكلام على البركة عند قوله تعالى : { لَفَتَحْنا عليهم بركات في هذه السورة ( 96 ). أي أعضناهم عن أرض مصر التي أخرجوا منها أرضاً هي خير من أرض مصر .عطف على جملة : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } الخ . . . والمقصود من هذا الخبر هو قوله : { بما صبروا } تنويهاً بفضيلة الصبر وحسن عاقبته ، وبذلك الاعتبار عطفت هذه الجملة على التي قبلها ، وإلاّ فإن كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل تشمل إيراثهم الأرض التي بارك الله فيها ، فتتنزل من جملة : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } إلى آخرها منزلة التذييل الذي لا يعطف ، فكان مقتضى العطف هو قوله { بما صبروا }.وكلمة : هي القول ، وهو هنا يُحتمل أن يكون المراد به اللفظ الذي وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى في قوله : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض } [ الأعراف : 129 ] أو على لسان إبراهيم وهي وعد تمليكهم الأرض المقدسة ، فتمام الكلمة تحقق وعدها ، شُبّه تحققها بالشيء إذا استوفى أجزاءه ، ويحتمل أنها كلمة الله في علمه وقدَره وهي أرادة الله إطلاقهم من استعباد القبط وإرادته تمليكهم الأرض المقدسة كقوله :{ وكلمته ألقاها إلى مريم } [ النساء : 171 ].وتمام الكلمة بهذا المعنى ظهور تعلقها التنجيزي في الخارج على نحو قول موسى { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } [ المائدة : 21 ] وقد تقدم عند قوله تعالى : { وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً } في سورة الأنعام ( 115 ).و { الحسنى } : صفة ل { كلمة } وهي صفة تشريف كما يقال : الأسماء الحسنى ، أي كلمة ربك المنزهة عن الخُلف ، ويحتمل أن يكون المراد حسنَها لبني إسرائيل ، وإن كانت سيئة على فرعون وقومه ، لأن العدل حسَن وإن كان فيه إضرار بالمحكوم عليه .والخطاب في قوله : { ربك } للنبيء صلى الله عليه وسلم أدمح في ذكر القصة إشارة إلى أن الذي حقق نصر موسى وأمته على عدوهم هو ربك فسينصرك وأمتك على عدوكم؛ لأنه ذلك الرب الذي نصر المؤمنين السابقين ، وتلك سنتُه وصنعه ، وليس في الخطاب التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف المراد من الضمائر .وعدي فعل التمام ( بعلى ) للإشارة إلى تضمين { تمت } معنى الإنعام ، أو معنى حقت .وباء { بما صبروا } للسببية ، و ( ما ) مصدرية أي بصبرهم على الأذى في ذات الإله وفي ذلك تنبيه على فائدة الصبر وأن الصابر صائر إلى النصر وتحقيق الأمل .والتدمير : التخريب الشديد وهو مصدر دمّر الشيء إذا جعله دامراً للتعدية متصرف من الدمار بفتح الدال وهو مصدر قاصر ، يقال دَمَر القومُ بفتح الميم يدمُرون بضم الميم دَمارا ، إذا هلكوا جميعاً ، فهم دامرون . والظاهر أن إطلاق التدمير على إهلاك المصنوع مجازي علاقته الإطلاق لأن الظاهر أن التدمير حقيقته إهلاك الإنسان .و { ما كان يصنع فرعون } : ما شاده من المصانع ، وإسناد الصنع إليه مجاز عقلي لأنه الآمر بالصنع ، وأما إسناده إلى قوم فرعون فهو على الحقيقة العقلية بالنسبة إلى القوم لا بالنسبة إلى كل فرد على وجه التغليب .و { يَعْرشون } ينشئون من الجنات ذات العرايش . والعريش : ما يُرفع من دوالي الكروم ، ويطلق أيضاً على النخلات العديدة تربّى في أصل واحد ، ولعل جنات القبط كانت كذلك كما تشهد به بعض الصور المرسومة على هياكلهم نقشاً ودهناً ، وقد تقدم في قوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات } في سورة الأنعام ( 141 ) وفعله عَرَش من بابي ضرَب ونصَرَ وبالأول قرأ الجمهور ، وقرأ بالثاني ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وذلك أن الله خرب ديار فرعون وقومه المذكورين ، ودمر جناتهم بما ظلموا بالإهمال ، أو بالزلزال ، أو على أيديهم جيوش أعدائهم الذين ملكوا مصر بعدهم ، ويجوز أن يكون يعرشون } بمعنى يرفعون أي يشيدون من البناء مثل مباني الأهرام والهياكل وهو المناسب لفعل { دمرنا } ، شبه البناء المرفوع بالعرش . ويجوز أن يكون يعرشون استعارة لقوة الملك والدولة ويكون دمرنا ترشيحاً للاستعارة .وفعل { كان } في الصلتين دال على أن ذلك دأبُه وهجيرَاه ، أي ما عني به من الصنائع والجنات . وصيغة المضارع في الخبرين عن ( كان ) للدلالة على التجدد والتكرر .
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
📘 لما تمت العبرة بقصة بعث موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه ، وكيف نصره الله على عدوه ، ونصر قومه بني إسرائيل ، وأهلك عدوهم كشأن سنة الله في نصر الحق على الباطل ، استرسل الكلام إلى وصف تكوين أمة بني إسرائيل وما يحق أن يعتبرَ به من الأحوال العارضة لهم في خلال ذلك مما فيه طمأنينةُ نفوس المؤمنين الصالحين في صالح أعمالهم ، وتحذيرهم مما يرمي بهم إلى غضب الله فيما يحقرون من المخالفات ، لما في ذلك كله من التشابه في تدبير الله تعالى أمور عبيده ، وسنته في تأييد رسله وأتباعهم ، وإيقاظ نفوس الأمة إلى مراقبة خواطرهم ومحاسبة نفوسهم في شكر النعمة ودحض الكفران .والمجاوزة : البعد عن المكان عقب المرور فيه ، يقال : جَاوز بمعنى جاز ، كما يقال : عَالى بمعنى علا ، وفعله متعد إلى واحد بنفسه وإلى المفعول الثاني بالباء فإذا قلت : جُزتُ به ، فأصل معناه أنك جزته مصاحباً في الجواز به للمجرور بالباء ، ثم استعيرت الباء للتعدية يقال : جُزت به الطريق إذا سهلت له ذلك وإن لم تسر معه ، فهو بمعنى أجزته ، كما قالوا : ذَهبت به بمعنى أذهبته ، فمعنى قوله هنا : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } قدرنا لهم جَوازه ويسرّناه لهم .والبحر هو بحر القُلْزُم المعروف اليوم بالبحر الأحمر وهو المراد باليمّ في الآية السابقة ، فالتعريف للعهد الحضوري ، أي البحر المذكور كما هو شأن المعرفة إذا أعيدت معرفة ، واختلاف اللفظ تفنن ، وتجنباً للإعادة ، والمعنى : أنهم قطعوا البحر وخرجوا على شاطئه الشرقي .و { أتوا على قوم } معناه أتَوْا قوماً ، ولما ضمن { أتَوْا } معنى مروا عدي بعلى ، لأنهم لم يقصدوا الإقامة في القوم ، ولكنهم ألْفَوهم في طريقهم .والقوم هم الكنعانيون ويقال لهم عند العرب العمالقةُ ويعرفون عند متأخري المؤرخين بالفنيقيين .والأصنام كانت صُورَ البقر ، وقد كان البقر يعبد عند الكنعانيين ، أي الفنيقيين باسم ( بَعل ) ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : { ثم اتخذتم العجل من بعده } في سورة البقرة ( 51 ).والعُكوف : الملازمة بنية العبادة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } في سورة البقرة ( 187 ) ، وتعدية العكوف بحرف ( على ) لما فيه من معنى النزول وتمكنه كقوله : { قالوا لن نبرح عليه عاكفين } [ طه : 91 ].وقريء { يعكفون } بضم الكاف للجمهور ، وبكسرها لحمزة والكسائي ، وخَلف ، وهما لغتان في مضارع عَكف .واختير طريق التنكير في أصنام ووصفُه بأنها لهم ، أي القوم دون طريق الإضافة ليتوسل بالتنكير إلى إرادة تحقير الأصنام وأنها مجهولة ، لأن التنكير يستلزم خفاء المعرفة .وإنما وصفت الأصنام بأنها لهم ولم يُقتصر على قوله : { أصنام } قال ابن عرفة التونسي : «عادتهم يجيبون بأنه زيادة تشنيع بهم وتنبيه على جهلهم وغوايتهم في أنهم يعبدون ما هو ملك لهم فيجعلون مملوكهم إلاههم» .وفُصلت جملة { قالوا } ، فلم تعطف بالفاء : لأنها لما كانت افتتاح محاور ، وكان شأن المحاورة أن تكون جملها مفصولة شاع فصلها ، ولو عطفت بالفاء لجاز أيضاً .ونداؤهم موسى وهو معهم مستعمل في طلب الإصغاء لما يقولونه ، إظهاراً لرغبتهم فيما سيطلبون ، وسموا الصنم إلاهاً لجهلهم فهم يحْسبون أن اتخاذ الصنم يُجدي صاحبه ، كما لو كان إلاهُه معَه ، وهذا يدل على أن بني إسرائيل قد انخلعوا في مدة إقامتهم بمصر عن عقيدة التوحيد وحنيفية إبراهيم ويعقوب التي وصى بها في قوله : { فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] لأنهم لما كانوا في حال ذل واستعباد ذهب علمهم وتاريخ مجدهم واندمجوا في ديانة الغالبين لهم فلم تبق لهم ميزة تميزهم إلاّ أنهم خدمة وعبيد .والتشبيه في قوله : { كما لَهم آلهة } أرادوا به حَض موسى على إجابة سؤالهم ، وابتهاجاً بما رأوا من حال القوم الذين حَلّوا بين ظهرانيهم وكفَى بالأمة خسّةَ عقول أن تعُد القبيح حسناً ، وأن تتخذ المظاهر المزيّنة قدوة لها ، وأن تنخلع عن كمالها في اتباع نقائص غيرها .و { ما } يجوز أن تكون صلة وتوكيداً كافة عمل حرف التشبيه ، ولذلك صار كاف التشبيه داخلاً على جملة لا على مفرد ، وهي جملة من خبر ومبتدأ ، ويجوز أن تكون ( ما ) مصدرية غير زمانية ، والجملة بعدها في تأويل مصدر ، والتقدير كوجود آلهة لهم ، وإن كان الغالب أن ( ما ) المصدرية لا تدخل إلاّ على الفعل نحو قوله تعالى : { ودوا ما عنَتّم } [ آل عمران : 118 ] فيتعين تقدير فعل يتعلق به المجرور في قوله : { لهم } أو يكتفَى بالاستقرار الذي يقتضيه وقوع الخبر جازا ومجروراً ، كقول نهْشَل بن جرير التميمي :كما سيف عمرو لم تخنه مضاربهوفصلت جملة { قال إنكم قوم تجهلون } لوقوعها في جواب المحاورة ، أي : أجاب موسى كلامهم ، وكان جوابه بعنف وغلظة بقوله : { إنكم قوم تجهلون } لأن ذلك هو المناسب لحالهم .والجهل : انتفاء العلم أو تصور الشيء على خلاف حقيقته ، وتقدم في قوله تعالى : { للذين يعملون السوء بجهالة } في سورة النساء ( 17 ) ، والمراد جهلهم بمفاسد عبادة الأصنام ، وكانَ وصف موسى إياهم بالجهالة مؤكداً لما دلت عليه الجملة الاسمية من كون الجهالة صفة ثابتة فيهم وراسخة من نفوسهم ، ولولا ذلك لكان لهم في باديء النظر زاجر عن مثل هذا السؤال ، فالخبر مستعمل في معنييه : الصريح والكناية ، مكنى به عن التعجب من فداحة جهلهم .وفي الإتيان بلفظ قوم } وجعل ما هو مقصود بالإخبار وصفاً لقوم ، تنبيه على أن وصفهم بالجهالة كالمتحقق المعلوم الداخل في تقويم قوميتهم ، وفي الحكم بالجهالة على القوم كلهم تأكيد للتعجب من حال جهالتهم وعمومها فيهم بحيث لا يوجد فيهم من يشذ عن هذا الوصف مع كثرتهم ، ولأجل هذه الغرابة أكد الحكم ( بإن ) لأن شأنه أن يتردد في ثبوته السامعُ .
إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
📘 وجملة { إن هؤلاء متّبرٌ ما همُ فيه } بمعنى التعليل لمضمون جملة { إنكم قوم تجهلون } فلذلك فصلت عنها وقد أكدت وجعلت اسمية لمثل الأغراض التي ذكرت في أختها ، وقد عُرّف المسند إليه بالإشارة لتمييزهم بتلك الحالة التي هم متلبسون بها أكمل تمييز ، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يَرِد بعد اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم متّبرا أمرهم وباطلاً عملهم ، وقُدم المسند وهو { متَبّر } على المسند إليه وهو { ما هم فيه } ليفيد تخصيصه بالمسند إليه أي : هم المعرضون للتّبار وأنه لا يعدوهم البتة ، وأنه لهم ضربة لازب ، ولا يصح أن يجعل { متَبر } مسنداً إليه لأن المقصود بالإخبار هو ما هم فيه .والمتَبّر : المدمّر ، والتّبَار بفتح التاء الهلاك { ولا تزد الظالمين إلاّ تباراً } [ نوح : 28 ]. يقال نَبَر الشيء كضرب وتعب وقتل وتَبّره تضعيف للتعدية ، أي أهلكه والتتبير مستعار هنا لفساد الحال ، فيبقى اسم المفعول على حقيقته في أنه وصف للموصوف به في زمن الحال .ويجوز أن يكون التتبير مستعاراً لسوء العاقبة ، شبه حالهم المزخرفُ ظاهرهُ بحال الشيء البهيج الآيل إلى الدمار والكَسْر فيكون اسم المفعول مجازاً في الاستقبال ، أي صائِر إلى السوء .و { ما هم فيه } هو حالهم ، وهو عبادة الأصنام وما تقتضيه من الضلالات والسيئات ولذلك اختير في تعريفها طريق الموصولية لأن الصلة تحيط بأحوالهم التي لا يحيط بها المتكلم ولا المخاطبون .والظرفية مجازية مستعارة للملابسة ، تشبيهاً للتلبس باحتواء الظرف على المظروف .والباطل اسم لضد الحق فالإخبار به كالإخبار بالمصدر يفيد مبالغة في بطلانه لأن المقام مقام التوبيخ والمبالغة في الإنكار ، وقد تقدم آنفاً معنى الباطل عند قوله تعالى : { فوقع الحَقُّ وبَطَل ما كانوا يعملون } [ الأعراف : 118 ].وفي تقديم المسند ، وهو { باطل } على المسند إليه وهو { ما كانوا يعملون } ما في نظيره من قوله : { متبر ما هم فيه }.
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
📘 لمّا كوّن الله فيه الصّغار والحقارة بعد عزّة الملَكية وشرفها انقلبت مرامي همّته إلى التّعلق بالسّفاسف ( إذَا ما لم تكن إبل فمَعْزَى ) فسأل النَّظِرة بطول الحياة إلى يوم البعث ، إذ كان يعلم قبل ذلك أنّه من الحوادث الباقية لأنّه من أهل العالم الباقي ، فلمّا أهبط إلى العالم الأرضي ظنّ أنّه صائر إلى العدم فلذلك سأل النَظِرة إبقاء لما كان له من قبلُ ، وإذ قد كان ذلك بتقدير الله تعالى وعلِمه ، وبَدر من إبليس طلب النظِرة ، قال الله تعالى : { إنك من المنظرين } أي إنّك من المخلوقات الباقية .
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
📘 وإعادة لفظ { قال } مستأنفاً في حكاية تكملة جواب موسى بقوله تعالى : { قال أغير الله أبغيكم } تقدم توجيه نظيره عند قوله تعالى : { قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو } إلى قوله { قال فيها تحيون } من هذه السورة ( 24 ، 25 ).والذي يظهر أنه يعاد في حكاية الأقوال إذا طال المقول ، أو لأنه انتقال من غرض التوبيخ على سؤالهم إلى غرض التذكير بنعمة الله عليهم ، وأن شكر النعمة يقتضي زجرهم عن محاولة عبادة غير المنعم ، وهو من الارتقاء في الاستدلال على طريقة التسليم الجدَلي ، أي : لو لم تكن تلك الآلهة باطلاً لكان في اشتغالكم بعبادتها والإعراض عن الإله الذي أنعم عليكم كفران للنعمة ونداء على الحماقة وتنزه عن أن يُشاركهم في حماقتهم .والاستفهام بقوله : { أغير الله أبغيكم إلاهاً } للإنكار والتعجب من طلبهم أن يجعل لهم إلاهاً غير الله ، وقد أوليَ المستفهم عنه الهمزة للدلالة على أن محل الإنكار هو اتخاذ غير الله إلاهاً ، فتقديم المفعول الثاني للاختصاص ، للمبالغة في الإنكار أي : اختصاص الإنكار ببغي غير الله إلاهاً .وهمزة { أبغيكم } همزة المتكلم للفعل المضارع ، وهو مضارع بغَى بمعنى طلب ، ومصدره البَغاء بضم الباء .وفعله يتعدى إلى مفعول واحد ، ومفعوله هو { غيرَ الله } لأنه هو الذي ينكر موسى أن يكون يبغيه لقومه .وتعديته إلى ضمير المخاطبين على طريقة الحذف والإيصال ، وأصل الكلام : أبغي لكم و { إلاهاً } تمييز ل { غير }.وجملة : { وهو فضلكم على العالمين } في موضع الحال ، وحين كان عاملها محَل إنكار باعتبار معموله ، كانت الحال أيضاً داخلة في حيز الإنكار ، ومقررة لجهته .وظاهر صوغ الكلام على هذا الأسلوب أن تفضيلهم على العالمين كان معلوماً عندهم لأن ذلك هو المناسب للإنكار ، ويحتمل أنه أراد إعلامهم بذلك وأنه أمر محقق .ومجيء المسند فعلياً : ليفيد تقديم المسند إليه عليه تخصيصه بذلك الخبر الفعلي أي : وهو فضلكم ، لم تفضلكم الأصنام ، فكان الإنكار عليهم تحميقاً لهم في أنهم مغمورون في نعمة الله ويطلبون عبادة ما لا يُنعم .والمرادُ بالعالمين : أممُ عصرهم ، وتفضيلهم عليهم بأنهم ذرية رسول وأنبياءَ ، وبأن منهم رسلاً وأنبياء ، وبأن الله هداهم إلى التوحيد والخلاص من دين فرعون بعد أن تخبطوا فيه ، وبأنه جعلهم أحراراً بعد أن كانوا عبيداً ، وساقهم إلى امتلاك أرض مباركة وأيدهم بنصره وآياته ، وبعث فيهم رسولاً ليقيم لهم الشريعة . وهذه الفضائِل لم تجتمع لأمة غيرهم يومئذٍ ، ومن جملة العالمين هؤلاء القوم الذين أتوا عليهم ، وذلك كناية عن إنكار طلبهم اتخاذَ أصنام مثلهم ، لأن شأن الفاضل أن لا يقلد المفضول ، لأن اقتباس أحوال الغير يتضمن اعترافاً بأنه أرجح رأياً وأحسن حالاً ، في تلك الناحية .
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ
📘 من تتمة كلام موسى عليه السلام كما يقتضيه السياق ، ويعضده قراءة ابن عامر : { واذ أنجاكم } والمعنى : أأبتغي لكم إلاهاً غير الله في حال أنه فضلكم على العالمين ، وفي زمان أنجاكم فيه من آل فرعون بواسطتي ، فابتغاء إلاه غيره كفران لنعمته ، فضمير المتكلم المشارَك يعود إلى الله وموسى ، ومعاده يدل عليه قوله : { أغير الله أبغيكم إلاهاً } [ الأعراف : 140 ].ويجوز أن يكون هذا امْتناناً من الله اعترضه بين القصة وعدَةِ موسى عليه السلام انتقالاً من الخبر والعبرة إلى النعمة والمنة ، فيكون الضمير ضَمير تعظيم ، وقرأ الجمهور : { أنجيناكم } بنون المتكلم المشارك ، وقرأه ابن عامر : { وإذ أنجاكم } على إعادة الضمير إلى الله في قوله : { أغير الله أبغيكم إلاهاً } [ الأعراف : 140 ] ، وكذلك هو مرسوم في مصحف الشام فيكون من كلام موسى وبمجموع القراءتين يحصُل المعنيان .و { إذ } اسم زمان ، وهو مفعول به لفعل محذوف تقديره : واذكروا .واختار الطبري وجماعة أن يكون قوله : { وإذ أنجيناكم } خطاباً لليهود الموجودين في زمن محمد صلى الله عليه وسلم فيكون ابتداء خطاب افتتح بكلمة ( إذ ) ، والتعريض بتذكير المشركين من العرب قد انتهى عند قوله : { وهو فضلكم على العالمين } [ الأعراف : 140 ] وسورة الأعراف مكية ولم يكن في المكي من القرآن هو مجادلة مع اليهود .وقوله : { يسومونكم سوء العذاب } إلى آخر الآية تقدم تفسير مشابهتها في سورة البقرة .
۞ وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ
📘 عَوْد إلى بقية حوادث بني إسرائيل ، بعد مجاوزتهم البَحر ، فالجملة عطف على جملة : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } [ الأعراف : 138 ].وقد تقدم الكلام على معنى المواعدة في نظير هذه الآية في سورة البقرة ، وقرأ أبو عمرو : وَوَعَدْنَا . وحذف الموعود به اعتماداً على القرينة في قوله : { ثلاثين ليلة } الخ ، و { ثلاثين } منصوب على النيابة عن الظرف ، لأن تمييزه ظرف للمواعد به وهو الحضور لتلقي الشريعة ، ودل عليه { واعدنا } لأن المواعدة للقاء فالعامل { واعدنا } باعتبار المقدر ، أي حضوراً مدة ثلاثين ليلة .وقد جعل الله مدة المناجاة ثلاثين ليلة تيسيراً عليه ، فلما قضاها وزادت نفسه الزكية تعلقاً ورغبة في مناجاة الله وعبادته ، زاده الله من هذا الفضل عشر ليال ، فصارت مدة المناجاة أربعين ليلة ، وقد ذكر بعض المفسرين قصة في سبب زيادة عشر ليال ، لم تصح ، ولم يزده على أربعين ليلة : إما لأنه قد بلغ أقصى ما تحتمله قوته البشرية فباعَدهُ الله من أن تعرض له السّآمة في عبادة ربه ، وذلك يُجنّب عنه المتقون بَله الأنبياء ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا " وإما لأن زيادة مغيبه عن قومه تفضي إلى أضرار ، كما قيل : إنهم عبدوا العجل في العشر الليالي الأخيرة من الأربعين ليلة ، وسميت زيادةُ الليالي العشر إتماماً إشارة إلى أن الله تعالى أراد أن تكون مناجاة موسى أربعين ليلة ، ولكنه لما أمره بها أمره بها مفرقة ، إما لحكمة الاستيناس ، وإما لتكون تلك العشر عبادة أخرى فيتكرر الثواب ، والمراد الليالي بأيامها فاقتصر على الليالي؛ لأن المواعدة كانت لأجل الانقطاع للعبادة وتلقي المناجاة .والنفس في الليل أكثر تجرداً للكمالات النفسانية ، والأحوال المَلَكية ، منها في النهار ، إذ قد اعتادت النفوس بحسب أصل التكوين الاستيناسُ بنور الشمس والنشاط به للشغل ، فلا يفارقها في النهار الاشتغال بالدنيا ولو بالتفكر وبمشاهدة الموجودات ، وذلك ينحّط في الليل والظلمة ، وتنعكس تفكرات النفس إلى دَاخلها ، ولذلك لم تزل الشريعة تحرض على قيام الليل وعلى الابتهال فيه إلى الله تعالى ، قال : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } [ السجدة : 16 ] الآية ، وقال : { وبالأسحار هم يستغفرون } ، وفي الحديث : " ينزل ربّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول هل من مستغفر فأغفر له ، هل من داع فأستجيب له " ولم يزل الشغل في السهر من شعار الحكماء والمرتاضين لأن السهر يلطف سلطان القوة الحيوانية كما يلطفها الصوم قال في «هياكل النور» «النّفوسُ الناطقة من عالم الملكوت ، وإنما شغَلها عن عالَمها القوى البدنية ومشاغَلتُها فإذا قويتْ النفس بالفضائل الرُوحانية وضعُف سلطان القُوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحياناً إلى عالم القُدس وتتصل بربها وتتلقى منه المعارف» .على أن الغالب في الكلام العربي التوقيتُ بالليالي ، ويُريدون أنها بأيامها ، لأن الأشهر العربية تُبتدأ بالليالي إذ هي منوطة بظهور الأهلة .وقوله { فَتَم ميقاتُ ربه أربعينَ ليلة } فذلكةُ الحساب كما في قوله : { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلكَ عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] ، فالفاء للتفريع .والتمام الذي في قوله : { فتم ميقات ربه } مستعمل في معنى النماء والتفوق فكان ميقاتاً أكمل وأفضل كقوله تعالى : { تماماً على الذي أحسنَ } [ الأنعام : 154 ] إلى قوله : { وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] إشارة إلى أن زيادة العشر كانت لحكمة عظيمة تكون مدة الثلاثين بدونها غير بالغة أقصى الكمال ، وأن الله قدر المناجاة أربعين ليلة ، ولكنه أبرز الأمر لموسى مفرقاً وتيسيراً عليه ، ليكون إقبالُه على إتمام الأربعين باشتياق وقوة .وانتصب { أربعين } على الحال بتأويل : بالغاً أربعين .والميقات قيل : مرادف للوقت ، وقيل هو وقت قدّر فيه عمل مّا ، وقد تقدم في قوله تعالى : { قل هي مواقيت للناس والحج } في سورة البقرة ( 189 ).وإضافته إلى { ربه } للتشريف ، وللتعريض بتحميق بعض قومه حين تأخر مغيب موسى عنهم في المناجاة بعد الثلاثين ، فزعموا أن موسى هلَك في الجبَل كما رواه ابن جُريج ، ويشهد لبعضه كلام التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج .أي : قال موسى لأخيه عند العزم على الصعود إلى الجبل للمناجاة فإنه صعد وحدَه ومعه غلامُهْ يُوشعُ بنُ نَون .ومعنى { اخلْفني } كُنْ خلَفاً عني وخليفة ، وهو الذي يتولى عمل غيره عند فقده فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلَف ، فالخلافة وكالة ، وفعْلُ خَلَف مشتق من الخَلْف بسكون اللام وهو ضد الإمام ، لأن الخليفة يقوم بعمل مَن خَلَفَه عند مغيبه ، والغائِب يَجعل مكانَه وراءَه .وقد جمع له في وصيته ملاك السياسة بقوله : { وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } فإن سياسة الأمة تدور حول مِحور الإصلاح ، وهو جعل الشيء صالحاً ، فجميعُ تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة ، وذلك بأن تكون الأعمال عائدة بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره ، فإن عادت بالصلاح عليه وبضده على غيره لم تعتبر صلاحاً ، ولا تلبث أن تؤول فساداً على مَن لاحت عنده صلاحاً ، ثم إذا تردد فعلٌ بين كونه خيراً من جهة وشراً من جهة أخرى وجب اعتبار أقوى حالتيه فاعتُبر بها إن تعذر العدول عنه إلى غيره مما هو أوفرُ صلاحاً ، وإن استوى جهتاه ألغي إن أمكَنَ إلغاؤُه وإلاّ تخيّر ، وهذا أمر لهارون جامع لما يتعين عليه عمله من أعماله في سياسة الأمة .وقوله : { ولا تتبع سبيل المفسدين } تحذير من الفساد بأبلغ صيغة لأنها جامعة بين نَهي والنهي عن فعل تنصرف صيغته أول وهلة إلى فساد المنهي عنه وبينَ تعليق النهي باتباع سبيل المفسدين .والإتباع أصله المشي على حلف ماش ، وهو هنا مستعار للمشاركة في عمل المفسد ، فإن الطريق مستعار للعمل المؤدي إلى الفساد والمفسِد من كان الفساد صفتَه ، فلما تعلق النهي بسلوك طريق المفسدين كان تحذيراً من كل ما يستروح منه مآل إلى فساد ، لأن المفسدين قد يعملون عملاً لا فساد فيه ، فنُهي عن المشاركة في عمل من عُرف بالفساد ، لأن صدوره عن المعروف بالفساد ، كاففٍ في توقع إفضائه إلى فساد . ففي هذا النهي سد ذريعة الفساد ، وسَد ذرائع الفساد من أصول الإسلام ، وقد عني بها مالك بن أنس وكررها في كتابه واشتهرت هذه القاعدة في أصول مذهبه .فلا جرم أن كان قوله تعالى : { ولا تتبع سبيل المفسدين } جامعاً للنهي عن ثلاث مراتب من مراتب الإفضاء إلى الفساد وهو العمل المعروف بالانتساب إلى المفسد ، وعمل المفسد وإن لم يكن مما اعتاده ، وتجنبُ الاقتراب من المفسد ومخالطته .وقد أجرى الله على لسان رسوله موسى ، أو أعلمه ، ما يقتضي أن في رعية هارون مفسدين ، وإنه يوشك إن سلكوا سبيل الفساد أن يسايرهم عليه لما يعلم في نفس هارون من اللين في سياسته ، والاحتياط من حدوث العصيان في قومه ، كما حكى الله عنه في قوله : { إن القوم استضعفوني وكادوا يقتُلونني } [ الأعراف : 150 ] وقوله : { إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل } [ طه : 94 ].فليست جملة : { ولا تتبع سبيل المفسدين } مجرد تأكيد لمضمون جملة { وأصلح } تأكيداً للشيء بنفي ضده مثل قوله : { أموات غير أحياء } [ النحل : 21 ] لأنها لو كان ذلك هو المقصَد منها لجُرّدت من حرف العطف ، ولاقتصر على النهي عن الإفساد فقيل : وأصلح لا تفسد ، نعم يحصل من معانيها ما فيه تأكيد لمضمون جملة : { وأصلح }.
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ
📘 جُعل مجيءُ موسى في الوقت المعين أمراً حاصلاً غير محتاج للإخبار عنه ، للعلم بأن موسى لا يتأخر ولا يترك ذلك ، وجُعل تكليمُ الله إياه في خلال ذلك الميقات أيضاً حاصلاً غير محتاج للإخبار عن حلوله ، لظهور أن المواعدة المتضمنة للملاقاة تتضمن الكلام ، لأن ملاقاة الله بالمعنى الحقيقي غير مُمكنة ، فليس يحصل من شؤون المواعدة إلاّ الكلام الصادر عن إرادة الله وقدرته ، فلذلك كله جُعل مجيء موسى للميقات وتكليم الله إياه شرطاً لحرف ( لمّا ) لأنه كالمعلوم ، وجعل الإخبار متعلقاً بما بعد ذلك ، وهو اعتبار بعظمة الله وجلاله ، فكان الكلام ضرباً من الإيجاز بحذف الخبر عن جملتين اسغناء عنهما بأنهما جعلتا شرطاً للمّا .ويجوز أن تجعل الواو في قوله : { وَكلّمه ربه } زائدة في جواب { لمّا } كما قاله الأكثر في قول امرىء القيس :فلمّا أجَزْنَا ساحةَ الحي وانتحى ... بنا بطْنُ خبت ذي حقاف عقنقلأن جواب { لَما } هو قوله وانتحى ، وجوزوه في قوله تعالى : { فلمّا أسلما وتَلْه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم } [ الصافات : 103 ، 104 ] الآية ، أن يكون { وناديناه } هو جواب ( لَما ) فيصير التقدير : لما جاء موسى لميقاتنا كَلّمه ربه ، فيكون إيجازاً بحذف جملة واحدة ، ولا يستفاد من معنى إنشاء التكليم الطمع في الرؤية إلاّ من لازم المواعدة .واللام في قوله : { لميقاتنا } صنفٌ من لام الاختصاص ، كما سماها في «الكشاف» ومثلها بقولهم : أتيته لعشر خلَون من الشهر ، يعني أنه اختصاص مّا ، وجعلها ابن هشام بمعنى عند ، وجعل ذلك من معاني اللام وهو أظهر ، والمعنى : فلما جاء موسى مجيئاً خاصاً بالميقات أي : حاصلاً عنده لا تأخير فيه ، كقوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] وفي الحديث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل فقال : " الصلاة لوقتها " أي عند وقتها ومنه { فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ].ويجوز جعل اللام للأجل والعلة ، أي جاء لأجل ميقاتنا ، وذلك لما قدمناه من تضمن الميقات معنى الملاقاة والمناجاة ، أي جاء لأجل مناجاتنا .والمجيء : انتقاله من بين قومه إلى جبل سينا المعيّن فيه مكانُ المناجاة .والتكليم حقيقته النطق بالألفاظ المفيدة معانيَ بحسب وضع مصطلح عليه ، وهذه الحقيقة مستحيلة على الله تعالى لأنها من أعراض الحوادث ، فتعين أن يكون إسناد التكليم إلى الله مجازاً مستعملاً في الدلالة على مُراد الله تعالى بألفاظ من لغة المخاطَب به بكيفية يوقن المخاطَب به أن ذلك الكلام من أثر قدرة الله على وَفْق الإرادة ووَفْققِ العلم ، وهو تعلق تنجيزي بطريق غير معتاد ، فيجوز أن يخلق الله الكلام في شيء حادث سمعه موسى كما رُوي أن الله خلق الكلام في الشجرة التي كان موسى حذوها ، وذلك أولُ كلام كلّمه الله موسى في أرض مَدين في جبل ( حوريب ) ، ويجوز أن يخلق الله الكلام من خِلال السحاب وذلك الكلام الواقع في طُور سينا ، وهو المراد هنا ، وهو المذكور في الإصحاح 19 من سفر الخروج .والكلام بهذه الكيفية كان يسمعه موسى حين يكون بعيداً عن الناس في المناجاة أو نحوها ، وهو أحد الأحوال الثلاثة التي يكلم الله بها أنبياءه كما في قوله تعالى : { وما كان لِبَشَرٍ أن يكلمه الله إلاّ وحيا } الآية في سورة الشورى ( 51 ) ، وهو حادث لا محالة ونسبته إلى الله أنه صادر بكيفية غير معتادة لا تكون إلاّ بإرادة الله أن يخالف به المعتاد تشريفاً له ، وهو المعبر عنه بقوله : { أوْ منْ وراء حجاب } [ الشورى : 51 ] ، وقد كلم الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ، وأحسب الأحاديث القدسية كلها أو معظمها مما كلم الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأما إرسال الله جبريل بكلام إلى أحد أنبيائه ، فهي كيفية أخرى ، وذلك بإلقاء الكلام في نفس المَلَك الذي يبلغه إلى النبي ، والقرآنُ كله من هذا النوع ، وقد كان الوحي إلى موسى بواسطة الملَك في أحوال كثيرة وهو الذي يعبر عنه في التوراة بقولها : قال الله لموسى .وقوله : { قال رب أرني } هو جواب { لَمّا } على الأظهر ، فإنْ قدرنا الواو في قوله : { وكلمهُ } زائدة في جواب لما كان قوله : { قال } واقعاً في طريق المحاورة فلذلك فُصل .وسؤالُ موسى رؤية الله تعالى تطلّع إلى زيادة المعرفة بالجلال الإلهي ، لأنه لما كانت المواعدة تتضمن الملاقاة . وكانت الملاقاة تعتمد رؤية الذات وسماع الحديث ، وحصل لموسى أحد ركني الملاقاة وهو التكليم ، أطمعه ذلك في الركن الثاني وهو المشاهدة ، وممّا يؤذن بأن التكليم هو الذي أطمع موسى في حصول الرؤية جعْلُ جملة { وكلمه ربه } شرطاً لحرف ( لمّا ) لأن ( لمّا ) تدل على شدة الارتباط بين شرطها وجوابها ، فلذلك يكثر أن يكون علة في حصول جوابها كما تقدم في قوله تعالى : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما } في هذه السورة ( 22 ) ، هذا على جعل { وكَلمه } عطفاً على شرط لمّا ، وليسَ جوابَ لما ، ولا نشك في أنه سأل رؤية تليق بذات الله تعالى ، وهي مثل الرؤية الموعود بها في الآخرة ، فكان موسى يحسب أن مثلِها ممكن في الدنيا حتى أعلمه الله بأن ذلك غير واقع في الدنيا ، ولا يمتنع على نبي عدمُ العلم بتفاصيل الشؤون الإلهية قبل أن يُعلمها الله إياه ، وقد قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وقُل رب زدني علماً } [ طه : 114 ] ، ولذلك كان أيمة أهل السنة محقين في الاستدلال بسؤال موسى رؤية الله على إمكانها بكيفية تليق بصفات الإلاهية لا نعلم كنهها وهو معنى قولهم : «بلا كيف» .وكانَ المعتزلةُ غير محقين في استدلالهم بذلك على استحالتها بكل صفة .وقد يؤول الخلاف بين الفريقين إلى اللفظ ، فإن الفريقين متفقان على استحالة إحاطة الإدراك بذات الله واستحالة التحَيز ، وأهل السنة قاطعون بأنها رؤية لا تنافي صفات الله تعالى ، وأما ما تبجح به الزمخشري في «الكشاف» فذلك من عُدوان تعصبه على مخالفيه على عادته ، وما كان ينبغي لعلماء طريقتنا التنازلُ لمهاجاته بمثل ما هاجاهم به ، ولكنه قال فأوْجَب .وأعلم أن سؤال موسى رؤية الله تعالى طلبٌ على حقيقته كما يؤذن به سياق الآية وليس هو السؤالَ الذي سأله بنوا اسرائيل المحكي في سورة البقرة ( 55 ) بقوله : { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } وما تمحل به في «الكشاف» من أنه هو ذلك السؤال تكلفٌ لا داعي له .ومفعول { أرني } محذوف لدلالة الضمير المجرور عليه في قوله : { إليك }.وفصل قوله : { قالَ لنْ تراني } لأنه واقع في طريق المحاورة .و { لَن } يستعمل لتأبيد النفي ولتأكيد النفي في المستقبل ، وهما متقاربان ، وإنما يتعلق ذلك كله بهذه الحياة المعبر عنها بالأبد ، فنفت ( لن ) رؤية موسى ربّه نفياً لا طمع بعده للسائِل في الإلحاح والمراجعة بحيث يَعلم أن طلبته متعذرة الحصول ، فلا دلالة في هذا النفي على استمراره في الدار الآخرة .والاستدراك المستفاد من { لكن } لرفع توهم المخاطَب الاقتصارَ على نفي الرؤية بدون تعليل ولا إقناع ، أو أن يتوهم أن هذا المنع لغضب على السائِل ومنقصة فيه ، فلذلك يعلم من حرف الاستدراك أن بعض ما يتوهمه سيُرفع ، وذلك أنه أمره بالنظر إلى الجبل الذي هو فيه هل يثبت في مكانه ، وهذا يعلم منه أن الجبل سيتوجه إليه شيءٌ من شأن الجلال الإلهي ، وأن قوة الجبل لا تستقر عند ذلك التوجه العظيم ، فيعلم موسى أنه أحرى بتضاؤل قواه الفانية لو تجلى له شيء من سُبُحات الله تعالى .وعلق الشرط بحرف ( إنْ ) لأن الغالب استعمالها في مقام ندرة وقوع الشرط أو التعريض بتعَذره ، ولما كان استقرار الجبل في مكانه معلوماً لله انتفاؤه ، صح تعليق الأمر المرادِ تعذُر وقوعُه عليه بقطع النظر عن دليل الانتفاء ، فلذلك لم يكن في هذا التعليق حجَة لأهل السنة على المعتزلة تقتضي أن رؤية الله تعالى جائزة عليه تعالى ، خلافاً لما اعتاد كثيرٌ من علمائنا من الاحتجاج بذلك .وقوله : { فسوف تراني } ليس بوعد بالرؤية على الفرض لأن سُبق قوله : { لن تراني } أزال طماعية السائل الرؤية ، ولكنه إيذان بأن المقصود من نظرِه إلى الجبل أن يرى رأي اليقين عجزَ القوة البشرية عن رؤية الله تعالى بالأحرى ، من عدم ثبات قوة الجبل ، فصارت قوة الكلام : أن الجبل لا يستقر مكانه من التجلي الذي يحصل عليه فلست أنت بالذي تراني ، لأنك لا تستطيع ذلك ، فمنزلة الشرط هنا منزلة الشرط الامتناعي الحاصل بحرف ( لو ) بدلالة قرينة السابِق .والتجلي حقيقة الظهور وإزالة الحجاب ، وهو هنا مجاز ، ولعله أريد به إزالة الحوائِل المعتادة التي جعلها الله حجاباً بين الموجودات الأرضية وبين قوى الجبروت التي استأثر الله تعالى بتصريفها على مقاديرَ مضبوطة ومتدرجة في عوالم مترتبة ترتيباً يعلمه الله .وتقريبُه للإفهام شبيه بما اصطلح عليه الحكماء في ترتيب العقول العشرة ، وتلك القوى تنسب إلى الله تعالى لكونها آثاراً لقدرته بدون واسطة ، فإذا أزال الله الحجاب المعتاد بين شيء من الأجسام الأرضية وبين شيء من تلك القوى المؤثرة تأثيراً خارقاً للعادة اتصلت القوة بالجسم اتصالاً تظهرُ له آثار مناسبة لنوع تلك القوة ، فتلك الإزالة هي التي استعير لها التجلي المسندُ إلى الله تعالى تقريباً للإفهام ، فلما اتصلت قوة ربانية بالجبل تُماثل اتصال الرؤية اندّك الجبل ، ومما يقرب هذا المعنى ، ما رواه الترمذي وغيره ، من طرق عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى : { فلما تجلى ربه } فوضع إبهامه قريباً من طرف خنصره يُقلل مقدار التجلي .وصَعِق موسى من اندكاك الجبل فعلم موسى أنه لو توجه ذلك التجلي إليه لانتثر جسمه فُضاضاً .وقرأ الجمهور { دكّاً } بالتنوين والدك مصدر وهو والدق مترادفان ، وهو الهدّ وتفرق الأجزاء كقوله { وتَخِر الجبال هدّاً } [ مريم : 90 ] ، وقد أخبر عن الجبل بأنه جعل دَكاً للمبالغة ، والمراد أنه مدكوك أي : مدقوق مهدوم . وقرأ الكسائي ، وحمزة ، وخلف { دَكّاء } بمد بعد الكاف وتشديد الكاف والدكاء الناقة التي لا سنام لها ، فهو تشبيه بليغ أي كالدكاء أي ذهبت قُنته ، والظاهر أن ذلك الذي اندك منه لم يرجع ولعل آثار ذلك الدك ظاهرة فيه إلى الآن .والخرور السقوط على الأرض .والصعق : وصف بمعنى المصعوق ، ومعناه المغشي عليه من صيحة ونحوها ، مشتق من اسم الصاعقة وهي القطعة النارية التي تبلغ إلى الأرض من كهرباء البرق ، فإذا أصابت جسماً أحرقته ، وإذا أصابت الحيوان من قريب أماتته ، أو من بعيد غُشي عليه من رائحتها ، وسُمي خويلدُ بن نُفيْل الصِعقَ عَلماً عليه بالغلبة ، وإنما رجحنا أن الوصف والمصدر مشتقان من اسم الصاعقة دون أن نجعل الصاعقة مشتقاً من الصعق؛ لأن أيمة اللغة قالوا : إن الصعْق الغشيُ من صيحة ونحوها ، ولكن توسعوا في إطلاق هذا الوصف على من غشي عليه بسبب هدة أو رجَة ، وإن لم يكن ذلك من الصاعقة .والإفاقة : رجوع الإدراك بعد زواله بغشْي ، أو نوم ، أو سُكر ، أو تخبط جنون .و { سبحانك } مصدر جاء عوضاً عن فعله أي أسبحك ، وهو هنا إنشاء ثناء على الله وتنزيه عما لا يليق به ، لمناسبة سؤاله منه مَا تبين له أنه لا يليق به سؤالهُ دون استيذانه وتحقققِ إمكانه كما قال تعالى لنوح : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } في سورة هود ( 46 ).وقوله : { تبت إليك } إنشاء لتوبة من العود إلى مثل ذلك دون إذن من الله ، وهذا كقول نوح عليه السلام :{ رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } [ هود : 47 ] وصيغة الماضي من قوله : { تُبت } مستعملة في الإنشاء فهي مستعملة في زمن الحال مثل صيغ العقود في قولهم بعْتُ وزَوّجْتُ . مبالغة في تحقق العقد .وقوله : { وأنا أول المؤمنين } أطلق { الأول } على المُبادر إلى الإيمان ، وإطلاق الأول على المبادر مجاز شائع مساو للحقيقة ، والمرادُ به هنا وفي نظائره الكناية عن قوة إيمانه ، حتى أنه يبادر إليه حين تردد غيره فيه ، فهو للمبالغة ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { ولا تكونوا أولَ كافر به } في سورة البقرة ( 41 ) ، وقوله : { وأنا أول المسلمين } في سورة الأنعام ( 163 ).والمراد بالمؤمنين من كان الإيمان وصفهم ولقبَهم ، أي الإيمان بالله وصفاته كما يليق به فالإيمان مستعمل في معناه اللقبي ، ولذلك شُبه الوصف بأفعال السجايا فلم يذكر له متعلّق ، ومن ذهب من المفسرين يقدر له متعلّقاً فقد خرج عن نهج المعنى .
قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
📘 وفُصلت جملة : { قال يا موسى } لوقوع القول في طريق المحاورة والمجاوبة ، والنداءُ للتأنيس وإزالة الرّوع .وتأكيد الخبر في قوله : { إني اصطفيك } للاهتمام به إذ ليس محلاً للإنكار .والاصطفاء افتعال مبالغة في الاصفاء وهو مشتق من الصّفْو ، وهو الخلوص مما يكدر ، وتقدم عند قوله تعالى : { إن الله اصطفى آدم ونوحاً } في سورة آل عمران ( 33 ) وضمن اصطفيتك معنى الإيثار والتفضيل فعُدي بعَلَى .والمراد بالناس : جميع الناس ، أي الموجودين في زمنه ، فالاستغراق في { الناس } عرفي أي هو مفضل على الناس يومئذٍ لأنه رسول ، ولتفضيله بمزية الكلام ، وقد يقال إن موسى أفضل جميع الناس الذين مضَوا يومئذٍ ، وعلى الاحتمالين : فهو أفضل من أخيه هارون ، لأن موسى أرسل بشريعة عظيمة ، وكلمه الله ، وهارون أرسله الله معاوناً لموسى ولم يكلمه الله ، ولذلك قال : { برسالتي وبكلامي } وما ورد في الحديث من النهي عن التفضيل بين الأنبياء محمول على التفضيل الذي لا يستند لدليل صريح ، أو على جعل التفضيل بين الأنبياء شُغلاً للناس في نواديهم بدون مقتض معتبر للخوض في ذلك . وهذا امتنان من الله وتعريف .ثم فرع على ذلك قوله : { فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين } والأول تفريع على الإرسال وَالتكليم . والثاني تفريع على الامتنان ، وما صْدقُ { ما آتيتك } قيل هو الشريعة والرسالة ، فالإيتاء مجاز أطلق على التعليم والإرشاد ، والأخذ مجاز في التلقي والحفظ ، والأظهر أن يكون { ما آتيتك } إعطاءَ الألواح بقرينة قوله : { وكتبنا له في الألواح } [ الأعراف : 145 ] وقد فُسر بذلك ، فالإيتاء حقيقة ، والأخذ كذلك ، وهذا أليق بنظم الكلام مع قوله : { فخذها بقوة } [ الأعراف : 145 ] وَيحصل به أخذ الرسالة والكلام وزيادة .والإخبار عن { كُن } بقوله : { من الشاكرين } أبلغُ من أن يقالُ كن شاكراً كما تقدم في قوله : { قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام ( 56 ).وقرأ نافع : وابن كثير ، وأبو جعفر ، وروْح عن يعقوب : برسالتي } ، بصيغة الإفراد وقرأ البقية { برسالاتي } بصيغة الجمع ، وهو على تأويله بتعدد التكاليف والإرشاد التي أرسل بها .
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ
📘 عطف على جملة { قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي } [ الأعراف : 144 ] إلى آخرها ، لأن فيها : { فخذ ما آتيتك } [ الأعراف : 144 ] والذي آتاه هو ألواح الشريعة ، أو هو المقصود من قوله : { ما آتيتك }.والتعريف في الألواح يجوز أن يكون تعريف العهد ، إن كان { ما آتيتك } مراداً به الألواح التي أُعطيها موسى في المناجاة ، فساغ أن تعرّف تعريف العهد ، كأنه قيل : فخذ ألواحاً آتيتُكها ، ثم قيل : كتبنا له في الألواح ، وإذا كان ما آتيتك مراداً به الرسالة والكلام كان التعريف في الألواح تعريف الذهني ، أي : وكتبنا له في ألواح معينة من جنس الألواح .والألواح جمع لَوْحَ بفتح اللام ، وهو قطعة مربعة من الخشب ، وكانوا يكتبون على الألواح ، أو لأنها ألواح معهودة للمسلمين الذين سيقت إليهم تفاصيل القصة ( وإن كان سوق مجمل القصة لتهديد المشركين بأن يحل بهم ما حصل بالمكذبين بموسى ).وتسمية الألواح التي أعطاها الله موسى ألواحاً مجاز بالصورة لأن الألواح التي أعطيها موسى كانت من حجارة ، كما في التوراة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج ، فتسميتها الألواح؛ لأنها على صورة الألواح ، والذي بالإصحاح الرابع والثلاثين أن اللوحين كتبت فيهما الوصايا العشر التي ابتدأت بها شريعة موسى ، وكانا لوحين ، كما في التوراة ، فإطلاق الجمع عليها هنا : إما من باب إطلاق صيغة الجمع على المثنى بناء على أن أقل الجمع اثنان ، وإما لأنهما كانا مكتوبين على كلا وجهيهما ، كما يقتضيه الإصحاح الثاني والثلاثون من سفر الخروج ، فكانا بمنزلة أربعة ألواح .وأسندت الكتابة إلى الله تعالى؛ لأنها كانت مكتوبة نقشاً في الحجر من غير فعل إنسان بل بمحض قدرة الله تعالى ، كما يفهم من الإصحاح الثاني والثلاثين ، كما أسند الكلام إلى الله في قوله : { وبكلامي } [ الأعراف : 144 ].و ( مِنْ ) التي في قوله : { من كل شيء } تبعيضية متعلقة ب { كتبنا } ومفعول { كتبنا } محذوف دل عليه فعل كتبنا أي مكتُوباً ، ويجوز جعل ( مِن ) اسما بمعنى بعض فيكون منصوباً على المفعول به بكتبنا ، أي كتبنا له بعضاً من كل شيء ، وهذا كقوله تعالى في سورة النمل ( 16 ) { وأوتينا من كل شيء } وكل شيء عام عموماً عرفياً أي كل شيء تحتاج إليه الأمة في دينها على طريقة قوله تعالى : { مَا فرطنا في الكتاب من شيء } [ الأنعام : 138 ] علئى أحد تأويلين في أن المراد من الكتاب القرآن ، وعلى طريقة قوله تعالى : { اليوم أكملتُ لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] أي أصوله .والذي كتب الله لموسى في الألواح هو أصول كليات هامة للشريعة التي أوحى الله بها إلى موسى عليه السلام وهي ما في الإصحاح ( 20 ) من سفر الخروج ونصها : أنا الرب إلاهك الذي اخرجك من أرض مصر من بيت العبودية ، لا يكن لك ءالهة أخرى أمامي ، لا تصنع تمثالاً منحوتاً ، ولا صورة مّا مما في السماء ، من فوق ، وما في الأرض من تحت ، وما في الماء من تحت الأرض ، لا تسجد لهن ولا تعبُدْهن لأني أنا الرب إلاهك غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيَّ واصنع إحساناً إلى ألوف من محِبّيّ وحافظي وصاياي ، لا تنطق باسم الرب إلاهك باطلاً لأن الرب لا يبرىء من نطق باسمه باطلاً ، اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلاهك لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك واختك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك؛ لأن في ستة أيام صنع الرب السما والأرض والبحر ، وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه ، أكرم أباك وأمك؛ لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلاهك ، لا تقتلْ ، لا تزْننِ لا تسرق ، لا تشهد ، على قريبك شهادة زور ، لا تشته بيت قريبك ، لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ، ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك اه ، واشتهرت عند بني إسرائيل بالوصايا العشر ، وبالكلمات العشر أي لجمل العشر .وقد فصلت ( في ) من الإصحاح العشرين إلى نهاية الحادي والثلاثين من سفر الخروج ، ومن جملتها الوصايا العشر التي كلم الله بها موسى في جبل سينا ووقع في الإصحاح الرابع والثلاثين إن الألواح لم تكتب فيها إلاّ الكلمات العشر ، التي بالفقرات السبع عشرة منه ، وقوله هنا { موعظة وتفصيلاً } يقتضي الاعتماد على ما في الأصاحيح الثلاثة عشر .والموعظة اسم مصدر الوعظ وهو نصح بإرشاد مشوب بتحذير من لحاق ضر في العاقبة أو بتحريض على جلب نفع ، مغفول عنه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } في سورة البقرة ( 275 ) ، وقوله : { فأعرض عنهم وعظْهم } في سورة النساء ( 63 ) ، وسيجيء قوله : { والموعظة الحسنة } في آخر سورة النحل ( 125 ).والتفصيل التبيين للمجملات ولعل الموعظة هي الكلمات العشر والتفصيل ما ذكر بعدها من الأحكام في الإصحاحات التي ذكرناها .وانتصب موعظة } على الحال من كل شيء ، أو على البدل من ( من ) إذا كانت اسماً إذا كان ابتداء التفصيل قد عَقِبَ كتابة الألواح بما كلمه الله به في المناجاة مما تضمنه سفر الخروج من الإصحاح الحادي والعشرين إلى الإصحاح الثاني والثلاثين ولما أوحي إليه إثر ذلك .ولك أن تجعل { موعظة وتفصيلاً } حالين من الضمير المرفوع في قوله : { وكتبنا له } أي واعظينَ ومفصلين ، فموعظة حال مقارنة وتفصيلاً حال مقدّرة ، وأما جعلهما بدلين من قوله : { من كل شيء } فلا يستقيم بالنسبة لقوله : { وتفصيلاً }.وقوله : { فخذها } يتعين أن الفاء دالة على شيء من معنى ما خاطب الله به موسى ، ولما لم يقع فيما وَليتْه ما يصلح لأن يتقرع عنه الأمر بأخذها بقوة . تعين أن يكون قوله : { فخذها } بدلاً من قوله : { فخذ ما آتيتك } [ الأعراف : 144 ] بدلَ اشتمال لأن الأخذ بقوة يشتمل عليه الأخذ المطلق ، وقد اقتضاه العود ، إلى ما خاطب الله به موسى إثر صعقته إتماماً لذلك الخطاب فأعيد مضمون ما سبق ليتصل ببقيته ، فيكون بمنزلة أن يقول فخذ ما آتيتك بقوة وكن من الشاكرين ، ويكون ما بينهما بمنزلة اعتراض ، ولولا إعادة { فخذها } لكان ما بين قوله : { من الشاكرين } [ الأعراف : 144 ] وقوله : { وأمرْ قومك يأخذوا } اعتراضاً على بابه ولمّا اقتضى المقام هذا الفصلَ ، وإعادة الأمر بالأخذ ، اقتضى حسن ذلك أن يكون في الإعادة زيادة ، فأخر مقيّد الأخذ ، وهو كونه بقوة ، عن التعلق بالأمر الأول ، وعلق بالأمر الثاني الرابط للأمر الأول ، فليس قوله : { فخذها } بتأكيد ، وعلى هذا الوجه يكون نظم حكاية الخطاب لموسى على هذا الأسلوب من نظم القرآن .ويجوز أن يكون في أصل الخطاب المحكي إعادة ما يدل على الأمر بالأخذ لقصد تأكيد هذا الأخذ ، فيكون توكيداً لفظياً ، ويكون تأخيرُ القيد تحسيناً للتوكيد اللفظي ليكون معه زيادة فائدة ، ويكون الاعتراض قد وقع بيْن التوكيد والموكّد وعلى هذا الوجه يكون نظم الخطاب على هذا الأسلوب من نظم الكلام الذي كلّم الله به موسى حكي في القرآن على أسلوبه الصادر به .والضمير المؤنث في قوله : { فخذها } عائِد إلى الألواح باعتبار تقدم ذكرها في قوله : { وكتبنا له في الألواح }. والمقول لموسى هو مرجع الضمير ، وفي هذا الضمير تفسير للإجمال في قوله : { ما آتيتك } [ الأعراف : 144 ] وفي هذا ترجْيح كون ما صْدَق { ما آتيتك } هو الألواح ، وَمن جَعلوا ما صْدَق { ما آتيتك } الرسالةَ والكلامَ جعلوا الفاءَ عاطفة لقول محذوف على جملة { وكتبنا } والتقدير عندهم : وكتبنا فقلنا خُذها بقوة ، وما اخترناه أحسن وأوفق بالنظم .والأخذُ : تناول الشيء ، وهو هنا مجاز في التلقي والحفظ .والباء في قوله : { بقوة } للمصاحبة .والقوة حقيقتها حالة في الجسم يتأتّى له بها أن يعمل ما يشُق عمله في المعتاد فتكون في الأعضاء الظاهرة مثل قُوة اليدين على الصنع الشديد ، والرجلْين على المشي الطويل ، والعينين على النظر للمرئيات الدقيقة . وتكون في الأعضاء الباطنة مثل قوة الدماغ على التفكير الذي لا يستطيعه غالب الناس ، وعلى حفظ ما يعجز عن حفظه غالب الناس ومنه قولهم : قوة العقل .وإطلاق اسم القُوى على العقل وفيما أنشد ثعْلب :وصاحِبيْن حازماً قَواهما ... نَبّهْتُ والرقادُ قدْ علاهماإلى أمونَيْن فعدّياهما ... وسمى الحكماء الحواس الخمس العقلية بالقوى الباطنية وهي الحافظة ، والواهمة ، والمفكرة ، والمخيّلة ، والحسُ المشترك .فيقال : فرس قوي ، وجمل قوي على الحقيقة ، ويقال : عود قوي ، إذا كان عسير الإنكسار ، وأسّس قوي ، إذا كان لا ينخسف بما يُبنى عليه من جدار ثقيل ، إطلاقاً قريباً من الحقيقة ، وهاته الحالة مقول عليها بالتشكيك لأنها في بعض موصوفاتها أشّدُ منها في بعض آخر ، ويظهر تفاوتها في تفاوت ما يستطيع موصوفها أن يعمله من عمل ممّا هي حالة فيه ، ولما كان من لوازم القوة أن قدره صاحبها على عمل ما يريده أشد مما هو المعتاد ، والأعمالُ عليه أيسر ، شاع إطلاقها على الوسائِل التي يستعين بها المرء على تذليل المصاعب مثل السلاح والعتاد ، والمال ، والجاه ، وهو إطلاق كنائي قال تعالى :{ قالوا نحن أولوا قوة } في سورة النمل ( 33 ).ولكونها يلزمها الاقتدار على الفعل وُصف الله تعالى باسم القوي أي الكامل القدرة قال تعالى : { إن الله قوي شديد العقاب } في سورة الأنفال ( 52 ).والقوة هنا في قوله : فخذها بقوة } تمثيل لحالة العزم على العمل بما في الألواح ، بمنتهى الجِد والحِرص دون تأخير ولا تساهل ولا انقطاع عند المشقة ولا ملل ، بحالة القوي الذي لا يستعصي عليه عمل يريده . ومنه قوله تعالى : { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } في سورة مريم ( 12 ).وهذا الأخذ هو حَظ الرسول وأصحابه المبلغين للشريعة والمنفذين لها ، فالله المشرّع ، والرسولُ المنفذ ، وأصحابه ووُلاةَ الأمور هم أعوان على التنفيذ ، وإنما اقتصر على أمر الرسول بهذا الأخذ لأنه من خصائصه من يقوم مقامه في حضرته وعند مغيبه ، وهُو وُهمْ فيما سوى ذلك كسائر الأمة .فقوله : وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } تعريج على ما هو حظ عموم الأمة من الشريعة وهو التمسك بها ، فهذا الأخذ مجاز في التمسك والعمل ولذلك عدي بالباء الدالة على اللصوق ، يقال : أخذ بكذا إذا تمسك به وقبض عليه ، كقوله : { وأخذ برأس أخيه } [ الأعراف : 150 ] وقوله : { لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } [ طه : 94 ]. ولم يُعد فعل الأخذ بالباء في قوله : { فخذها } لأنه مستعمل في معنى التلقي والحفظ لأنه أهم من الأخذ بمعنى التمسك والعمل ، فإن الأول حظ ولي الأمر والثاني حظ جميع الأمة .وجزم { يأخذوا } جواباً لقوله : { وأُمرْ } تحقيقاً لحصول امتثالهم عندما يأمرهم .و { بأحسنها } وصف مسلوب المفاضلة مقصود به المبالغة في الحُسن ، فإضافتها إلى ضمير الألواح على معنى اللام ، أي : بالأحسن الذي هو لها وهو جميع ما فيها ، لظهور أن ما فيها من الشرائع ليس بينه تفاضل بين أحسن ودون الأحسن ، بل كله مرتبة واحدة فيما عين له ، ولظهور أنهم لا يؤمنون بالأخذ ببعض الشريعة وترك بعضها ، ولأن الشريعة مفصّل فيها مراتب الأعمال ، فلو أن بعض الأعمال كان عندها أفضلَ من بعض ، كالمندوب بالنسبة إلى المباح ، وكالرخصة بالنسبة إلى العزيمة ، كان الترغيب في العمل بالأفضل مذكوراً في الشريعة ، فكان ذلك من جملة الأخذ بها ، فقرائِن سلب صيغة التفضيل عن المفاضلة قائمة واضحة ، فلا وجه للتردد في تفسير الأحسن في هذه الآية والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء ، وهذه الآية والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء ، وهذه الآية نظير قوله تعالى :{ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } في سورة الزمر ( 55 ). والمعنى : واُمر قومَك يأخذوا بما فيها لحسنها .كلام موجّه إلى موسى عليه السلام فيجوز أن يكون منفصلاً عن الكلام الذي قبله فيكون استئنافاً ابتدائياً : هو وعد له بدخولهم الأرض الموعودة ، ويجوز أن تكون الجملة متصلة بما قبلها فتكون من تمام جملة { وأُمرْ قومك يأخذوا باحسنها } على أنها تحذير من التفريط في شيء مما كُتب له في الألواح . والمعنى سأبين لكم عقاب الذين لا يأخذون بها .والدار المكان الذي تسكنه العائِلة ، كما في قوله تعالى : { فخسفنا به وبداره الأرض } في سورة القصص ( 81 ) والمكان الذي يحله الجماعة من حي أو قبيلة كما قال تعالى : { فأصبحوا في دارهم جاثمين } [ الأعراف : 91 ] وقد تقدم . وتطلق الدار على م { فنعم عقبى الدار } [ الرعد : 24 ] ، وقد يراد بها مآل المرء ومصيره؛ لأنه بمنزلة الدار يأوي إليه في شأنه . وقد تقدم قريب من هذا عند قوله تعالى : { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } في سورة الأنعام ( 135 ).وخوطب بضمير الجمع باعتبار من معه من أصحابه شيوخ بني إسرائيل ، أو باعتبار جماعة قومه فالخطاب شامل لموسى ومن معه .والإراءة من رأى البصرية؛ لأنها عديت إلى مفعولين فقط .وأوثر فعل أريكم } دون نحو : سأدخلكم ، لأن الله منع معظم القوم الذين كانوا مع موسى من دخول الأرض المقدسة لمّا امتنعوا من قتال الكنعانيين كما تقدم في قوله تعالى : { قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } في سورة المائدة ( 26 ). وجاء ذلك في التوراة في سفر التثنية الإصحاح الأول : أن الله قال لموسى : { وأنت لا تدخل إلى هناك } وفي الإصحاح ( 34 ) وصعد موسى إلى الجبل ( نبو ) فأراه الله جميع الأرض وقال له : هذه الأرض التي أقسمتُ لإبراهيم قائِلاً لِنسلك أُعطيها قد أريتُك إياها بعينيك ولكنك لا تعبُرُ .ويجوز أن يكون سأريكم خطاباً لقوم موسى ، فيكون فعل أريكم كناية عن الحلول في دار الفاسقين ، والحلول في ديار قوم لا يكون إلاّ الفتح والغلبة ، فالإراءة رمز إلى الوعد بفتح بلاد الفاسقين ، والمراد بالفاسقين المشركون ، فالكلام وعد لموسى وقومه بأن يفتحوا ديار الأمم الحالة بالأرض المقدسة التي وعدهم الله بها ، وهم المذكورون في التوراة في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر الخروج خطاباً للشعب إحفظ ما أنا موصيك به ها أنا طارد من قدامك الأموريين ، والكنعانيين ، والحثيين ، والفرزيين ، والحويين ، واليبوسيين ، احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فَخّا في وسطك بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم فإنك لا تسْجد لإله آخر .ويؤيده مَا روي عن قتادة أن دار الفاسقين هي دار العمالقة والجبابرة ، وهي الشام ، فمن الخطأ تفسير من فسروا دار الفاسقين بأنها أرض مصر فإنهم قد كانوا بها وخرجوا منها ولم يرجعوا إليها ، ومن البعيد تفسير دار الفاسقين بجهتهم ، وفي الإصحاح 34 من سفر الخروج احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التي أنت آت إليها فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم فتُدعى وتأكل من ذبيحتهم وتأخذ من بناتهم لبنيك فتزني بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن ، ولا يخفى حسن مناسبة التعبير عن أولئك الأقوام بالفاسقين على هذا الوجه .وقيل المراد بدار الفاسقين ديار الأمم الخالية مثل ديار ثمود وقوم لوط الذين أهلكهم الله لكفرهم ، أي ستمرون عليهم فترون ديارهم فتتعظون بسوء عاقبتهم لفسقهم ، وفيه بعد لأن بني إسرائيل لم يمروا مع موسى على هذه البلاد .والعدول عن تسمية الأمم بأسمائهم إلى التعبير عنهم بوصف الفاسقين؛ لأنه أدل على تسبب الوصف في المصير الذي صاروا إليه ، ولأنه أجمع وأوجز ، واختيار وصف الفاسقين دون المشركين والظالمين الشائِع في التعبير عن الشرك في القرآن؛ للتنبيه على أن عاقبتهم السوأى تسببت على الشرك وفاسد الأفعال معاً .
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ
📘 يجوز أن تكون هذه الآية تكملة لما خاطب الله به موسى وقومه ، فتكون جملة { سأصرف } الخ بأسهم ، استئنافاً بيانياً ، لأن بني إسرائيل كانوا يهابون أولئك الأقوام ويخْشوْن ، فكأنهم تساءلوا كيف تُرينا دارهم وَتعدُنا بها ، وهلْ لا نهلك قبل الحلول بها ، كما حكى الله عنهم { قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبّارين } الآية في سورة العقود ( 22 ) وقد حكى ذلك في الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد ، فاجيبوا بأن الله سيصرف أولئك عن آياتِه .والصرف الدفع أي سَأَصُدُّ عن آياتي ، أي عن تعطيلها وإبطالها .والآيات الشريعة ، ووعد الله أهلها بأن يورثهم أرض الشام ، فيكون المعنى سأتَوَلّى دفعهم عنكم ، ويكون هذا مثل ما ورد في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين «ها أنا طاردٌ من قُدَّامِك الأُموريين الخ» ، فالصرف على هذا الوجه عناية من الله بموسى وقومِه بما يُهيء لهم من أسباب النصر على أولئك الأقوام الأقوياء ، كإلقاء الرعببِ في قلوبهم ، وتشتيت كلمتهم ، وإيجاد الحوادث التي تفت في ساعد عُدتهم أو تكونُ الجملة جواباً لسؤال من يقول : إذا دخلنا أرض العدو فلعلهم يؤمنون بهدينا ، ويتبعون ديننا ، فلا نحتاج إلى قتالهم ، فأجيبوا بأن الله يَصرفهم عن إتباع آياته؛ لأنهم جُبلوا على التكبر في الأرض ، والإعراضضِ عن الآيات ، فالصرف هنا صرف تكويني في نفوس الأقوام ، وعن الحسن : أن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى حد إذا وصل إليه مَات قلبه .وفي قَصِّ الله تعالى هذا الكلامَ على محمد صلى الله عليه وسلم تعريض بكفار العرب بأن الله دافِعُهم عن تعطيل آياته ، وبأنه مانع كثيراً منهم عن الإيمان بها لما ذكرناه آنفاً .ويجوز أن تكون جملة { سأصرف عن آياتي } من خطاب الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم رَوى الطبري ذلك عن سفيان بن عيينة ، فتكون الجملة معترضة في أثناء قصة بني إسرائيل بمناسبة قوله : { سأُريكم دار الفاسقين } [ الأعراف : 145 ] تعريضاً بأن حال مشركي العرب كحال أولئك الفاسقين ، وتصريحاً بسبب إدامتهم العناد والإعراض عن الإيمان ، فتكون الجملة مستأنفة استينافاً ابتدائياً ، وتأتي في معنى الصرف عن الآيات الوجوه السابقة واقتران فعل { سأصرف } بسين الاستقبال القريب تنبهه على أن الله يُعجل ذلك الصرف .وتقديم المجرور على مفعول { أصرف } للاهتمام بالآيات ، ولأن ذكره عقب الفعل المتعلق هو به أحسنُ .وتعريف المصروفين عن الآيات بطريق الموصولية للإيماء بالصلة إلى علة الصرف . وهي ما تضمنته الصلات المذكورة ، لأن من صارت تلك الصفات حالات له يَنصره الله ، أو لأنه إذا صار ذلك حاله رين على قلبه ، فصرف قلبه عن إدراك دلالة الآيات وزالت منه الأهلية لذلك الفهم الشريف .والأوصاف التي تضمنتها الصلات في الآية تنطبق على مشركي أهل مكة أتَمّ الانطباق .والتكبر الاتصاف بالكبر . وقد صيغ له الصيغة الدالة على التكلف ، وقد بينا ذلك عند قوله تعالى : { أبَى واستكبر } [ البقرة : 34 ] وقوله : { استكْبرتم } في سورة البقرة ( 87 ) ، والمعنى : أنهم يُعْجبَون بأنفسهم ، ويعُدون أنفسهم عظماءَ فلا يأتمرون لآمر ، ولا ينتصحون لناصح .وزيادة قوله : في الأرض } لتفضيح تكبرهم ، والتشهير بهم بأن كبرهم مظروف في الأرض ، أي ليس هو خفياً مقتصراً على أنفسهم ، بل هو مبثوث في الأرض ، أي مبثوث أثره ، فهو تكبر شائع في بقاع الأرض كقوله : { يبغون في الأرض بغير الحق } [ يونس : 23 ] وقوله : { ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون } [ البقرة : 27 ] وقوله : { ولا تمش في الأرض مَرحاً } [ الإسراء : 37 ] وقولُ مرة بن عَدّاءَ الفقعسي :فهلاّ أعدوني لِمثلي تفاقَدوا ... وفي الأرْض مبثوثٌ شجاعٌ وعقربوقوله : { بغير الحق } زيادة لتشنيع التكبر بذكر ما هو صفة لازمة له ، وهو مغايرة الحق ، أي : باطل وهي حال لازمة للتكبر ، كاشفة لوصفه ، إذ التكبر لا يكون بحق في جانب الخلق ، وإنما هو وصف لله بحق؛ لأنه العظيم على كل موجود ، وليس تكبر الله بمقصود أن يحترز عنه هنا حتى يجعل القيد { بغير الحق } للاحتراز عنه ، كما في «الكشاف» .ومن المفسرين من حاول جعل قوله : { بغير الحق } قيداً للتكبر ، وجعل من التكبر ما هو حق ، لأن للمحق أن يتكبر على المبطل ، ومنه المقالة الشمهورة «الكِبْر على المتكبر صدقة» وهذه المقالة المستشهد بها جرت على المجاز أو الغلط .وقوله : { وإن يَروا كل آية لا يؤمنوا بها } عطف على قوله : { يتكبرون } فهو في حكم الصلة ، والقول فيه كالقول في قوله : { لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية } في سورة يونس ( 96 ، 97 ) وكل مستعملة في معنى الكثرة ، كما تقدم في قوله تعالى : { ولئن أتيتَ الذين أوتوا الكتاب بكل آية } في سورة البقرة ( 145 ).والسبيل مستعار لوسيلة الشيء بقرينة إضافته إلى الرشد وإلى الغي . والرؤية مستعارة للإدراك .والاتخاذ حقيقته مطاوع أخّذه بالتشديد ، إذا جعله آخذاً ، ثم أطلق على أخذ الشيء ولو لم يعطه إياه غيرُه ، وهوَ هنا مستعار للملازمة ، أي لا يلازمون طريق الرشد ، ويلازمون طريق الغي .والرشد الصلاح وفعل النافع ، وقد تقدم في قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشداً } في سورة النساء ( 6 ) والمراد به هنا : الشيء الصالح كله من الإيمان والأعمال الصالحة .والغي الفساد والضلال ، وهو ضد الرشد بهذا المعنى ، كما أن السفه ضد الرشد بمعنى حسن النظر في المال ، فالمعنى : أن يدركوا الشيءَ الصالح لم يعملوا به . لغلبة الهوى على قلوبهم ، وإن يدركوا الفساد عملوا به لغلبة الهوى ، فالعمل به حمل للنفس على كلفة ، وذلك تأباه الأنفس التي نشأت على متابعة مَرغوبها ، وذلك شأن الناس الذين لم يروّضوا أنفسهم بالهدى الإلهي ، ولا بالحكمة ونصائح الحكماء والعقلاء ، بخلاف الغي ، فإنه ما ظهر في العالم إلاّ من آثار شهوات النفوس ودعواتها التي يزيَن لها الظاهر العاجل ، وتجهل عواقب السوء الآجلة ، كما جاء في الحديث : { حفّت الجنة بالمكاره وُحفّت النار بالشهوات }.والتعبير في الصلات الأربع بالأفعال المضارعة : لإفادة تجدد تلك الأفعال منهم واستمرارهم عليها .وقرأ الجمهور : { الرُشد } بضم فسكون وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف : بفتحتين ، وهما لغتان فيه .وجملة : { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن توسيمهم بتلك الصلات يثير سؤالاً .والمشار إليه بذلك ما تضمنه الكلام السابق ، نُزّل منزلة الموجود في الخارج وهو ما تضمنه قوله : { سأصرف عن آياتي } إلى آخر الآية ، واستعمل له اسم إشارة المفرد؛ لتأويل المشار إليه بالمذكور كقوله تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً } [ الفرقان : 68 ] أي من يفعل المذكور ، وهذا الاستعمال كثير في اسم الإشارة ، وألحق به الضمير كما تقدم في قوله تعالى : { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله } في سورة البقرة ( 61 ).والباء السببية أي : كِبْرُهم . وعدمُ إيمانهم ، واتباعُهم سبيل الغي ، وإعراضُهم عن سبيل الرشد سببه تَكذيبهم بالآيات ، فأفادت الجملة بيان سبب الكبر ، وما عطف عليه من الأوصاف التي هي سبب صرفهم عن الآيات ، فكان ذلك سبب السبب ، وهذا أحسن من إرجاع الإشارة إلى الصرف المأخوذة من { سأصرف } لأن هذا المحمل يجعل التكذيب سبباً ثانياً للصرف ، وجعله سبباً للسبب أرشق .واجتلبت ( أن ) الدالة على المصدرية والتوكيد؛ لتحقيق هذا التسبب وتأكيده ، لأنه محل عرابة .وجعل المسند فعلاً ماضياً ، لإفادة أن وصف التكذيب قديم راسخ فيهم ، فكان رسوخ ذلك فيهم سبباً في أن خُلق الطبعُ والختمُ على قلوبهم فلا يشعرون بنقائصهم ، ولا يصلحون أنفسهم ، فلا يزالون متكبرين معرضين غاوين .ومعنى { كذبوا بآياتنا } إنهم ابتدأوا بالتكذيب ، ولم ينظروا ، ولم يهتموا بالتأمل في الآيات فداموا على الكبر وما معه ، فصرف الله قلوبهم عن الانتفاع بالآيات ، وليس المراد الإخبار بأنهم حصل منهم التكذيب ، لأن ذلك قد علم من قوله : { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها }.والغفلة انصراف العقل والذهن عن تذكر شيء بقصدٍ أو بغير قصد ، وأكثر استعماله في القرآن فيما كان عن قصد بإعراض وتشاغل ، والمذموم منها ما كان عن قصد ، وهو مناط التكليف والمؤاخذة ، فأما الغفلة عن غير قصد فلا مؤاخذة عليها ، وهي المقصود من قول علماء أصول الفقه : يمتنع تكليف الغافل .وللتنبيه على أن غفلتهم عن قصد صيغ الإخبار عنهم بصيغة { كانوا عنها غافلين } للدلالة على استمرار غفلتهم . وكونها دأباً لهم ، وإنما تكون كذلك إذا كانوا قد التزموها ، فأما لو كانت عن غير قصد . فإنها قد تعتريهم وقد تفارقهم .
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
📘 يجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على جملة { سأصرف عن آياتي } [ الأعراف : 146 ] إلى آخر الآيات على الوجهين السابقين ويجوز أن يكون معطوفة على جملة { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا } [ الأعراف : 146 ] ، ويجوز أن تكون تذييلاً معترضاً بين القصتين وتكون الواو اعتراضية ، وأيّاً ما كان فهي آثارها الإخبار عنهم بأنهم إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً ، فإن ذلك لما كان هو الغالب على المتكبرين الجاحدين للآيات ، وكأن لا تخلو جماعة المتكبرين من فريق قليل يتخذ سبيل الرشد عن حلم وحب للمحمدة ، وهم بعض سادة المشركين وعظماؤهم في كل عصر ، كانوا قد يحسب السامع أنْ ستنفعهم أعمالهم ، أزيل هذا التوهم بأن أعمالهم لا تنفعهم مع التكذيب بآيات الله ولقاء الآخرة ، وأشير إلى أن التكذيب هو سبب حبط أعمالهم بتعريفهم بطريق الموصولية ، دون الإضمار ، مع تقدم ذكرهم المقتضي بحسب الظاهر الإضمار فخولف مقتضى الظاهر لذلك .وإضافة { ولقاء } إلى { الآخرة } على معنى ( في ) لأنها إضافة إلى ظرف المكان ، مثلُ { عقْبى الدار } [ الرعد : 24 ] أي لقاء الله في الآخرة ، أي لقاء وعده ووعيده .والحبط فساد الشيء الذي كان صالحاً ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } في سورة المائدة ( 5 ).وجملة : { هل يُجْزَون إلاّ ما كانوا يعملون } مستأنفة استينافاً بيانياً ، جواباً عن سؤال ينشأ عن قوله : { حبطت أعمالهم } إذ قد يقول سائل : كيف تحبط أعمالهم الصالحة ، فأجيب بأنهم جُوزُوا كما كانوا يعملون ، فإنهم لما كذبوا بآيات الله كانوا قد أحالوا الرسالة والتبليغ عن الله ، فمن أين جاءهم العلم بأن لهم على أعمالهم الصالحة جزاءً حسناً ، لأن ذلك لا يعرف إلاّ بإخبار من الله تعالى ، وهم قد عطلوا طريق الإخبار وهو الرسالة ، ولأن الجزاء إنما يظهر في الآخرة ، وهم قد كذبوا بلقاء الآخرة ، فقد قطعوا الصلة بينهم وبين الجزاء ، فكان حبط أعمالهم الصالحة وفاقاً لاعتقادهم .والمراد ب { ما كانوا يعملون } ما كانوا يعتقدون ، فأطلق على التكذيب بالآيات وبلقاء الآخرة فعلُ { يَعملون } لأن آثار الاعتقاد تظهر في أقوال المعتقد وأفعاله ، وهي من أعماله .والاستفهام ب { هل } مُشْرب معنى النفي ، وقد جعل من معاني ( هل ) النفيُ ، وقد بيناه عند قوله تعالى : { هل تجزون إلاّ ما كنتم تعملون } في سورة النمل ( 90 ) ، فانظره هناك .{ وما كانوا يعملون } مقدر فيه مضاف ، والتقدير مكافىء ما كانوا يعملون بقرينة قوله : { يُجزون } لأن الجزاء لا يكون نفس المجزي عليه ، فإن فعل جَزى يتعدى إلى العوض المجعول جزاء بنفسه ، ويتعدى إلى العمل المجزي عليه بالباء ، كما قال تعالى : { وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً } [ الإنسان : 12 ] ونظير هذه الآية قوله في سورة الأنعام ( 139 ) { سيجزيهم وصفهم . }
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ
📘 عطف على جملة : { وواعدنا موسى } [ الأعراف : 142 ] عطَف قصة على قصة ، فذكر فيما تقدم قصة المناجاة ، وما حصل فيها من الآيات والعبر ، وذكر في هذه الآية ما كان من قوم موسى ، في مدة مغيبه في المناجاة ، من الإشراك .فقوله : { من بعده } أي من بعد مغيبه ، كما هو معلوم من قوله : { ولما جاء موسى لميقاتنا } [ الأعراف : 143 ] ومن قوله : { وقال موسى لأخيه هارون اخلفْني في قومي } [ الأعراف : 142 ].وحَذْفُ المضاف مع «بَعْد» المضافةِ إلى اسم المتحّدث عنه شائع في كلام العرب ، كما تقدم في نظيرها من سورة البقرة .و ( مِن ) في مثله للابتداء ، وهو أصل معاني ( مِن ) وأما ( مِن ) في قوله : { من حليَّهم } فهي للتبعيض .والحُلّي بضم الحاء وكسر اللام وتشديد المثناة التحتية ، جمع حَلْي ، بفتح الحاء وسكون اللام وتخفيف التحتية ، ووزن هذا الجمع فُعول كما جمع ثدْي ، ويجمع أيضاً على حِلي ، بكسر الحاء مع اللام ، مثل عِصي وقِسي اتباعاً لحركة العين ، وبالأول قرأ جمهور العشرة ، وبالثاني حمزة ، والكسائي ، وقرأ يعقوب حَلْيهم بفتح الحاء وسكون اللام على صيغة الإفراد ، أي اتخذوا من مصوغهم وفي التوراة أنهم اتخذوه من ذهب ، نزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائِهم وبناتهم وبنيهم .والعجل ولد البقرة قبل أن يصير ثَوْراً ، وذكر في سورة طه أن صانع العجل رجل يقال له السامري ، وفي التوراة أن صانعه هو هارون ، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه الواقع في التوراة بعد موسى ، ولم يكن هارون صائِغاً ، ونسب الاتخاذ إلى قوم موسى كلهم على طريقة المجاز العقلي ، لأنهم الآمرون باتخاذه والحريصون عليه ، وهذا مجاز شائِع في كلام العرب .ومعنى اتخذوا عِجلاً صورة عِجْل ، وهذا من مجاز الصورة ، وهو شائِع في الكلام .والجسد الجسم الذي لا روح فيه ، فهو خاص بجسم الحيوان إذا كان بلا روح ، والمراد أنه كجسم العجل في الصورة والمقدار إلاّ أنه ليس بحي وما وَقع في القصص : إنه كان لحماً ودماً ويأكل ويشرب ، فهو من وضع القصاصين ، وكيف والقرآننِ يقول : { من حُليهم } ، ويقول : { له خوار } ، فلو كان لحماً ودماً لكان ذكره أدخل في التعجيب منه .والخُوار بالخاء المعجمة صوت البقر ، وقد جعل صانع العجل في باطنه تجْويفاً على تقدير من الضيق مخصوص ، واتخذ له آلة نافخة خفية ، فإذا حركت آلة النفخ انضغط الهواء في باطنه ، وخرج من المضيق ، فكان له صوت كالخوار ، وهذه صنعة كصنعة الصفارة والمزمار ، وكان الكنعانيون يجعلون مثل ذلك لصنعهما المسمى بعْلاً .و { جسداً } نعت ل { عجلاً } وكذلك { له خوار }.وجملة : { ألم يروا أنه لا يكلمهم } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً؛ لبيان فساد نظرهم في اعتقادهم .والاستفهام للتقرير وللتعجيب من حالهم ، ولذلك جعل الاستفهام عن نفي الرؤية ، لأن نفي الرؤية هو غير الواقع من حالهم في نفس الأمر ، ولكن حالهم يشبه حال من لا يرون عدم تكليمه ، فوقع الاستفهام عنه لعلهم لم يروا ذلك ، مبالغة ، وهو للتعجيب وليس للإنكار ، إذ لا ينكر ما ليس بموجود ، وبهذا يعلم أن معنى كونه في هذا المقام بمنزلة النفي للنفي إنما نشأ من تنزيل المسؤول عنهم منزلة من لا يرى ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى :{ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } في سورة البقرة ( 243 ).والرؤية بصرية ، لأن عدم تكليم العجل إياهم مشاهد لهم ، لأن عدم الكلام يرى من حال الشيء الذي لا يتكلم ، بانعدام آلة التكلم وهو الفم الصالح للكلام ، وبتكرر دعائهم إياه وهو لا يجيب .وقد سفه رأي الذين اتخذوا العجل إلاهاً ، بأنهم يشاهدون أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ، ووجه الاستدلال بذلك على سفه رأيهم هو أنهم لا شبهة لهم في اتخاذه إلاهاً بأن خصائصه خصائص العجماوات ، فجسمه جسم عجل ، وهو من نوع ليس أرقى أنواع الموجودات المعروفة ، وصوته صوت البقر ، وهو صوت لا يفيد سامعه ، ولا يبين خطاباً ، وليس هو بالذي يهديهم إلى أمر يتبعونه حتى تغني هدايتهم عن كلامه ، فهو من الموجودات المنحطة عنهم ، وهذا كقول إبراهيم { فاسْالوهم إن كانوا ينطقون } [ الأنبياء : 63 ] فماذا رأوا منه مما يستأهل الإلهية ، فضلاً على أن ترتقي بهم إلى الصفات التي يستحقها الإله الحق ، والذين عبدوه أشرف منه حالاً وأهدى ، وليس المقصود من هذا الاستدلال على الألوهية بالتكليم والهداية ، وإلا للزم إثبات الإلهية لحكماء البشر .وجملة : { اتخذوه } مؤكدة لجملة { واتخذ قوم موسى } فلذلك فصلت ، والغرض من التوكيد في مثل هذا المقام هو التكرير لأجل التعجيب ، كما يقال : نَعمْ اتخذوه ، ولتبنى عليه جملة { وكانوا ظالمين } فيظهرَ أنها متعلقة باتخاذ العجل ، وذلك لبعد جملة : { واتخذ قوم موسى } بما وليها من الجملة وهذا كقوله : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } إلى قوله { فليكتب } [ البقرة : 282 ] أعيد فليكتب لتُبنى عليه جملة : { وليُملل الذي عليه الحق } [ البقرة : 282 ] ، وهذا التكرير يفيد معَ ذلك التوكيدَ وما يترتب على التوكيد .وجملة : { وكانوا ظالمين } في موضع الحال من الضمير المرفوع في قوله : { اتخذوه } وهذا كقوله في سورة البقرة ( 51 ) { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون . }
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
📘 كان مقتضى الظاهر في ترتيب حكاية الحوادث أن يتأخر قوله : { ولما سُقط في أيديهم } الآية ، عن قوله : { ولما رَجع موسى إلى قومه غضبانَ أسِفاً } [ الأعراف : 150 ] لأنهم ما سُقط في أيديهم إلاّ بعد أن رجع موسى ورأوا فَرْط غضبه وسمعوا توبيخه أخاه وإيّاهم ، وإنما خولف مقتضى الترتيب تعجيلاً بذكر ما كان لاتخاذهم العجل من عاقبة الندامة وتبين الضلالة ، موعظة للسامعين لكيلا يعجلوا في التحول عن سنتهم ، حتى يتبينوا عواقب ما هم متحولون إليه .و { سُقط في أيديهم } مبني للمجهول ، كلمة أجراها القرآن مجرى المثل إذا أُنظمت على إيجاز بديع وكناية واستعارة ، فإن اليد تستعار للقوة والنصرة إذ بها يُضرب بالسيففِ والرمح ، ولذلك حين يَدْعون على أنفسهم بالسوء يقولون : «شَلّتْ من يديّ الأنامل» ، وهي آلةُ القدرة قال تعالى : { ذَا الأيد } [ ص : 17 ] ، ويقال : ما لي بذلك يدٌ ، أوْ ما لي بذلك يَداننِ أي لا أستطيعه ، والمرء إذا حصل له شلل في عضد ولم يستطع تحريكه يحسن أن يقال : سَقط في يده ساقط ، أي نزل به نازل .ولما كان ذكر فاعل السقوط المجهول لا يزيد على كونه مشتقاً من فعله ، ساغ أن يُبنى فعله للمجهول فمعنى «سُقط في يده» سَقط في يده ساقِط فأبطل حركة يده ، إذ المقصود أن حركة يده تعطلت بسبب غير معلوم ، إلاّ بأنه شيء دخل في يده فصيّرها عاجزة عن العمل وذلك كناية عن كونه قد فجأه ما أوجب حيرته في أمره ، كما يقال : فُتَ في ساعده .وقد استعمل في الآية في معنى الندم وتبيُّن الخطأ لهم ، فهو تمثيل لحالهم بحال من سُقط في يده حين العمل . فالمعنى أنهم تبين لهم خطأهم وسوء معاملتهم ربهم ونبيهم ، فالندامة هي معنى التركيب كله ، وأما الكناية فهي في بعض أجزاء المركب وهو سقط في اليد ، قال ابن عطية «وحُدثت عن أبي مروان بن سراج» أنه كان يقول قول العرب : سقط في يده مما أعياني معناه ، وقال الزجاح هو نظم لم يُسمع قبل القرآن ، ولم تعرفه العرب .قلت وهو القول الفصل ، فإني لم أره في شيء من كلامهم قبل القرآن ، فقول ابن سراج : قول العرب سقط في يده ، لعله يريد العرب الذين بعدَ القرآن .والمعنى لما رجع موسى إليهم وهددهم وأحرق العجل كما ذكر في سورة طه ، وأوجز هنا إذ من المعلوم أنهم ما سقط في أيديهم ورأوا أنهم ضلوا بعد تصميمهم وتصلبهم في عبادة العجل وقولهم : { لن نبرح عليه عاكفين } [ طه : 91 ] ، إلاّ بسبب حادث حدث ينكشف لهم بسببه ضلالهم ، فطيّ ذلك من قبيل الإيجاز ليبنى عليه أن ضلالهم لم يلبث أن انكشف لهم ، ولذلك قرن بهذا حكاية اتخاذهم العجل للمبادرة ببيان انكشاف ضلالهم تنهية لقصة ضلالهم ، وكأنه قيل : فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ثم قيل ولما سقط أيديهم قالوا .وقولهم : { لئن لم يرْحمنْا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين } توبة وإنابة ، وقد علموا أنهم أخطأوا خطيئة عظيمة ، ولذلك أكدوا التعليق الشرطي بالقسم الذي وطَأتْه اللامُ . وقدموا الرحمة على المغفرة؛ لأنها سببها .ومجيء خبر كان مقترناً بحرف ( مِن ) التبعيضية؛ لأن ذلك أقوى في إثبات الخسارة من لنكونن خاسرين كما تقدم في قوله تعالى : { قد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين } [ الأنعام : 55 ] وقرأه الجمهور { يرحمنا ربنا ويغفر } بياء الغيبة في أول الفعلين وبرفع ربُّنا ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب في أول الفعلين ونصب ربّنا على النداء ، أي قالوا ذلك كله لأنهم دعوا ربهم وتداولوا ذلك بينهم .
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
📘 { إنك من المنظرين } أي إنّك من المخلوقات الباقية .وقد أفاد التّأكيد بإنّ والإخبارُ بصيغة { من المنظرين } أنّ إنظاره أمر قد قضاه الله وقدّره من قبلِ سؤاله ، أي تحقّق كونك من الفريق الذين أنظروا إلى يوم البعث ، أي أنّ الله خلق خلقاً وقدّر بقاءهم إلى يوم البعث ، فكشف لإبليس أنّه بعض من جملة المنظرين من قبل حدوث المعصية منه ، وإن الله ليس بمغيّر ما قدّره له ، فجواب الله تعالى لإبليس إخبار عن أمر تَحقّق ، وليسَ إجابة لطلبة إبليس ، لأنّه أهون على الله من أن يجيب له طلَباً ، وهذه هي النّكتة في العدول عن أن يكون الجواب : أنْظرْتك أو أجبت لك ممّا يدلّ على تكرمة باستجابة طلبه ، ولكنّه أعلمه أنّ ما سأله أمر حَاصل فسؤاله تحصيل حاصل .
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
📘 جُعل رجوع موسى إلى قومه غضبان كالأمر الذي وقع الإخبار عنه من قبلُ على الأسلوب المبين في قوله : { ولما جاء موسى لميقاتنا } [ الأعراف : 143 ] وقوله : { ولما سُقط في أيديهم } [ الأعراف : 149 ]. فرجوع موسى معلوم من تَحقق انقضاء المدة الموعود بها ، وكونُه رجع في حالة غضب مشعر بأن الله أوحى إليه فأعلمه بما صنع قومُه في مغيبه ، وقد صرح بذلك في سورة طه ( 85 ) { قال فإنّا قد فتنّا قومك من بَعدِك وأضلهم السامري } ف { غضبان أسِفاً حَالان من موسى ، فهما قيداننِ لرجع } فعلم أن الغضب والأسف مقارنان للرجوع .والغْضب تقدم في قوله : { قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } في هذه السورة ( 71 ).والأَسِف بدون مد ، صيغة مبالغة للآسف بالمد الذي هو اسم فاعل للذي حل به الأسف وهو الحزن الشديد ، أي رجع غضْبان من عصْيان قومه حزيناً على فساد أحوالهم ، وبئسما ضد نِعمّا ، وقد مضى القول عليه في قوله تعالى : { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } في سورة البقرة ( 93 ) ، والمعنى بئست خلافة خلفتمونيها خِلاَفتُكم .وتقدم الكلام على فعل خَلف في قوله : { اخلُفْني في قومي } [ الأعراف : 142 ] قريباً .وهذا خطاب لهارون ووجوه القوم ، لأنهم خلفاء موسى في قومهم فيكون { خلفتموني } مستعملاً في حقيقته ، ويجوز أن يكون الخطاب لجميع القوم ، فأما هارون فلأنه لم يُحسن الخلافة بسياسة الأمة كما كان يسوسها موسى ، وأما القوم فلأنهم عبدوا العجل بعد غيبة موسى ، ومن لوازم الخلافة فعل ما كان يفعله المخلُوف عنه ، فهم لما تركوا ما كان يفعله موسى من عبادة الله وصاروا إلى عبادة العجل فقد انحرفوا عن سيرته فلم يخلفوه في سيرته ، وإطلاق الخلافة على هذا المعنى مجاز فيكون فعل { خلفتموني } مستعملاً في حقيقته ومجازه .وزيادة { مِن بعدي } عقب { خلفتموني } للتذكير بالبَون الشاسع بين حال الخلف وحال المخلوفَ عنه تصوير لفظاعة ما خلفوه به أي بعدما سمعتم مني التحذير من الإشراك وزجركم عن تقليد المشركين حين قلتم : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، فيكون قيد { من بعدي } للكشف وتصوير الحالة كقوله تعالى : { فخَر عليهم السقُف من فوقِهم } [ النحل : 26 ] ، ومعلوم أن السقف لا يكون إلاّ من فوق ، ولكنه ذكر لتصوير حالة الخرور وتهويلها ، ونظيره قوله تعالى ، بعد ذكر نفر من الأنبياء وصفاتهم ، { فخلف من بعدهم خَلْف } [ الأعراف : 169 ] أي من بعد أولئك الموصوفين بتلك الصفات .و«عَجلَ» أكثرَ ما يستعمل قاصراً ، بمعنى فعل العجلة أي السرعة ، وقد يتعدى إلى المعمول «بعن» فيقال : عجلَ عن كذا بمعنى لم يتمّه بعد أن شَرع فيه ، وضده تَم على الأمر إذا شرع فيه فأتمّه ، ويستعمل عَجِل مضمناً معنى سَبَق فعّدَيَ بنفسه على اعتبار هذا المعنى ، وهو استعمال كثير .ومعنى «عَجِل» هنا يَجوز أن يكون بمعنى لم يُتّمَ ، وتكون تعديته إلى المفعول على نزع الخافض .والأمرُ يكون بمعنى التكليف وهو ما أمرهم الله به : من المحافظة على الشريعة ، وانتظار رجوعه ، فلم يتموا ذلك واستعجلوا فبدلوا وغيروا ، ويجوز أن يكون بمعنى سَبق أي بادرتم فيكون الأمر بمعنى الشأن أي الغضب والسخط كقوله : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } [ النحل : 1 ] وقوله : { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور } [ هود : 40 ] فالأمر هو الوعيد ، فإن الله حذرهم من عبادة الأصنام وتوعدهم ، فكان الظن بهم إن وقع منهم ذلك إن يقع بعد طول المدة ، فلما فعلوا ما نُهوا عنه بحدثان عهد النهي ، جُعلوا سابقين له على طريقة الاستعارة : شبهوا في مبادرتهم إلى أسباب الغضب والسخط بسبق السابق المسبوقَ ، وهذا هو المعنى الأوضح ، ويوضحه قوله ، في نظير هذه القصة في سورة طه ( 86 ) ، حكاية عن موسى : { قال يا قوم ألم يَعدْكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي } وقد تعرضت التوراة إلى شيء من هذا المعنى في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج «وقال الله لموسى رأيتُ هذا الشّعْب فإذا هو شعب صلْب الرقبة فالآن اتركني ليحميَ غَضبي عليهم فأفنيهم» .وإلقاء الألواح رَميُها من يده إلى الأرض ، وقد تقدم بيان الإلقاء آنفاً . وذلك يؤذن بأنه لما نزل من المناجاة كانت الألواح في يده كما صرح به في التوراة .ثم إن إلقاءه إياها إنما كان إظهاراً للغضب ، أو أثراً من آثار فوران الغضب لما شاهدهم على تلك الحالة ، وما ذكر القرآن ذلك الإلقاءَ إلاّ للدلالة على هذا المعنى إذ ليس فيه من فوائد العبرة في القصة إلاّ ذلك ، فلا يستقيم قول من فسرها بأن الإلقاء لأجل إشغال يده بجرّ رأس أخيه ، لأن ذكر ذلك لا جرور فيه ، ولأنه لو كان كذلك لعطف ، وأخذ برأس أخيه بالفاء .وروي أن موسى عليه السلام كان في خلقه ضيق ، وكان شديداً عند الغضب ، ولذلك وكزَ القبطي فقضى عليه ، ولذلك أخذ برأس أخيه يجره إليه ، فهو دليل على فظاعة الفعل الذي شاهده من قومه ، وذلك علامة على الفظاعة ، وتشنيع عليهم ، وليس تأديباً لهم ، لأنه لا يكون تأديبهم بإلقاء ألواح كُتب فيها ما يصلحهم ، لأن ذلك لا يناسب تصرف النبوءة ( ولذلك جزمنا بأن إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة الكتاب الذي هَمَّ بكتابته قبيل وفاته لم يكن تأديباً للقوم على اختلافهم عنده ، كما هو ظاهر قول ابن عباس ، بل إنما كان ذلك لِما رأى من اختلافهم في ذلك ، فرأى أن الأوْلى ترك كتابته ، إذ لم يكن الدين محتاجاً إليه ) ووقع في التوراة أن الألواح تكسرت حين ألقاها ، وليس في القرآن ما يدل على ذلك سوى أن التعبير بالإلقاء الذي هو الرمي ، ومَا روي من أن الألواح كانت من حجر ، يقتضي أنها اعتراها انكسار ، ولكن ذلك الانكسار لا يُذهب ما احتوت عليه من الكتابة ، وأما ما روي أنها لما تكسرت ذهب ستة أسباعها ، أو ذهب تفصيلها وبقيت موعظتها ، فهو من وضع القصّاصين والله تعالى يقول :{ ولما سكت عن موسى الغضبْ أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون } [ الأعراف : 154 ].وأما أخذه برأس أخيه هارون يجره إليه ، أي إمساكه بشعر رأسه ، وذلك يولمه ، فذلك تأنيب لهارون على عدم أخذه بالشدة على عَبدَة العجل ، واقتصاره على تغيير ذلك عليهم بالقول ، وذلك دليل على أنه غير معذور في اجتهاده الذي أفصح عنه بقوله : { إني خشيت أن تقول فرقْت بين بني إسرائيل ولم تَرْقُب قولي } [ طه : 94 ] لأن ضعف مستنده جعله بحيث يستحق التأديب ، ولم يكن له عذراً ، وكان موسى هو الرسول لبني إسرائيل ، وما هارون إلاّ من جملة قومه بهذا الاعتبار ، وإنما كان هارون رسولاً مع موسى لفرعون خاصة ، ولذلك لم يسَعْ هارونَ إلاّ الاعتذارُ والاستصفاح منه .وفي هذا دليل على أن الخطأ في الاجتهاد مع وضوح الأدلة غير معذور فيه صاحبه في إجراء الأحكام عليه ، وهو ما يسميه الفقهاء بالتأويل البَعيد ولا يظن بأن موسى عاقب هارون قبل تحقق التقصير .وفصلت جملةٌ : { قال ابن أم } لوقوعها جوابها لحوار مقدر دل عليه قوله { وأخذ برأس أخيه يجره إليه } لأن الشأن أن ذلك لا يقع إلاّ مع كلام توبيخ ، وهو ما حكي في سورة طه ( 92 ، 93 ) بقوله : { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضَلوا ألاَّ تتبعننِ أفعصيت أمري } على عادة القرآن في توزيع القصة ، واقتصاراً على موقع العبرة؛ ليخالف أسلوبُ قصَصه الذي قصد منه الموعظة أساليبَ القصّاصين الذين يقصدون الخبر بكل ما حدث .و { ابنَ أم } منادى بحذف حرف النداء ، والنداء بهذا الوصف للترقيق والاستشفاع ، وحذف حرف النداء لإظهار ما صاحب هارون من الرعب والاضطراب ، أو لأن كلامه هذا وقع بعد كلام سبقه فيه حرف النداء وهو المحكي في سورة طه ( 94 ) { قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي } ثم قال ، بعد ذلك { ابنَ أم إن القوم استضعفوني } فهما كلامان متعاقبان ، ويظهر أن المحكي هنا هو القول الثاني ، وأن ما في سورة طه هو الذي ابتدأ به هارون ، لأنه كان جواباً عن قول موسى : { ما منعك إذ رأيتهم ضَلوا أن لا تتبعن } [ طه : 92 ، 93 ].واختيار التعريف بالإضافة؛ لتضمن المضاف إليه معنى التذكير بصلة الرحم ، لأن إخوة الأم أشد أواصر القرابة؛ لاشتراك الأخوين في الألف من وقت الصبا والرضاع .وفتح الميم في { ابن أم } قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي عَمرو ، وحفص عن عاصم ، وهي لغة مشهورة في المنادى المضاف إلى أم أو عَم ، وذلك بحذف ياء المتكلم وتعويض ألف عنها في آخر المنادى ، ثم يحذف ذلك الألف تخفيفاً ، ويجوز بقاء كسرة الميم على الأصل ، وهي لغة مشهورة أيضاً ، وبها قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلفٌ .وتقدم الكلام على الأم عند قوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } في سورة النساء ( 23 ).وتأكيد الخبر ب { إن } لتحقيقه لدى موسى ، لأنه بحيث يتردد فيه قبل إخبار المخبر به ، والتأكيدُ يستدعيه قبولُ الخبر للتردد من قِبَل إخبار المخبر به ، وإن كان المخبر لا يُظن به الكذب ، أو لئلا يظن به أنه تَوهم ذلك من حال قومه ، وكانت حالهم دون ذلك .والسين والتاء في { استضعفوني } للحسبان أي حسبوني ضعيفاً لا ناصر لي ، لأنهم تمالؤوا على عبادة العجل ولم يخالفهم إلا هارون في شرذمة قليلة .وقوله : { وكادوا يقتلونني } يدل على أنه عارضهم معارضة شديدة ثم سلّم خشيةَ القتل .والتفريع في قوله : { فَلا تُشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين } تفريع على تبين عذره في إقرارهم على ذلك ، فطلب من أخيه الكف عن عقابه الذي يَشْمت به الأعداء لأجله ، ويجعله مع عداد الظالمين فطلبُ ذلك كنايةٌ عن طلب الإعراض عن العقاب .والشماتة : سُرور النفس بما يصيب غيرها من الإضرار ، وإنما تحصل من العداوة والحسد . وفعلَها قاصر كفرح ، ومصدرها مخالف للقياس ، ويتعدى الفعل إلى المفعول بالباء يقال : شَمتَ به : أي : كان شامتاً بسببه ، وأشمته به جعله شامتاً به ، وأراد بالأعداء الذين دعوا إلى عبادة العجل ، لأن هارون أنكره عليهم فكرهوه لذلك ، ويجوز أن تكون شماتةُ الأعداء كلمة جرت مجرى المثل في الشيء الذي يُلحق بالمرءِ سوءاً شديداً ، سواء كان للمرء أعداء أو لم يكونوا ، جرياً على غالب العرْف .ومعنى { ولا تجعلْني مع القوم الظالمين } لا تحسبني واحداً منهم ، ف ( جعل ) بمعنى ظن كقوله تعالى : { وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمان إناثاً } [ الزخرف : 19 ]. والقوم الظالمون هم الذين أشركوا بالله عبادة العجل ، ويجوز أن يكون المعنى : ولا تجعلني في العقوبة معهم ، لأن مُوسى قد أمر بقتل الذين عَبدوا العجل ، ف ( جعل ) على أصلها .
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ۖ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
📘 وجملة : { قال رب اغفر لي } جواب عن كلام هارون ، فلذلك فصلت . وابتدأ موسى دعاءه فطلب المغفرة لنفسه تأدباً مع الله فيما ظهر عليه من الغضب ، ثم طلب المغفرة لأخيه فيما عسى أن يكون قد ظهر منه من تفريط أو تساهل في ردع عبدة العجل عن ذلك .وذكر وصف الأُخوة هناك زيادة في الاستعطاف عسى الله أن يُكرم رسوله بالمغفرة لأخيه كقول نوح : { رب إن ابني من أهلي } [ هود : 45 ].والإدخال في الرحمة استعارة لشمول الرحمة لهما في سائر أحوالهما ، بحيث يكونان منها ، كالمستقر في بيت أو نحوه مما يحوي ، فالإدخال استعارة أصلية وحرف ( في ) استعارة تبعية ، أوقع حرفه الظرفية موقع باء الملابسة .وجملة : { وأنت أرحم الراحمين } تذييل ، والواوُ للحال أو اعتراضية ، و { أرحم الراحمين } الأشد رحمة من كل راحم .
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ
📘 يجوز أن قوله : { إن الذين اتخذوا العجل } إلى قوله : { الدنيا } من تمام كلام موسى ، فبعد أن دعا لأخيه بالمغفرة أخبر أن الله غضب على الذين عبدوا العجل . وأنه سيظهر أثر عضبه عليهم ، وستنالهم ذلة في الدنيا وذلك بوحي تلقاه ، وانتهى كلام موسى عند قوله : { في الحياة الدنيا } ، وأن جملة : { وكذلك نجزي المفترين } خطاب من جانب الله في القرآن ، فهو اعتراض والواو اعتراضية ذيل الله بهذا الاعتراض حكاية كلام موسى فأخبر بأنه يجازي كل مفتر بمثل ما أخبر به موسى عن مفتري قومه ، وأن جملة : { والذين عملوا السيئات } إلى آخر الآية تكملة للفائدة ببيان حالة أضداد المتحدث عنهم وعن أمثالهم .ويجوز أن تكون جملة : { إن الذين اتخذوا العجل } إلى آخرها خطاباً من الله لموسى ، جواباً عن دعائه لأخيه بالمغفرة بتقدير فعللِ قول محذوف : أي قلنا إن الذين اتخذوا العجل إلى آخره ، مثل ما حكى الله تعالى عن إبراهيم في قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً } [ البقرة : 126 ] الآية .و { ينالهم } يصيبهم .والنول والنّيْل : الأخذُ وهو هنا استعارة للإصابة والتلبس كما في قوله تعالى : { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } في هذه السورة ( 37 ) ، والذين اتخذوا العجل هم الذين عبدوه فالمفعول الثاني { لاتخذوا } محذوف اختصاراً ، أي اتخذوه إلاهاً .وتعريفهم بطريق الموصولية ، لأنها أخصر طريق في استحضارهم بصفة عرفوا بها ، ولأنه يؤذن بسببية ما نالهم من العقاب ، والمراد بالغضب ظهور أثره من الخذلان ومنع العناية ، وأما نفس الغضب فهو حاصل في الحال .وغضب الله تعالى إرادته السوء بعبده وعقابه في الدنيا والآخرة أو في إحداهما .والذلة : خضوع في النفس واستكانة من جرّاء العجز عن الدفع ، فمعنى : نيل الذلّة إياهم أنهم يصيرون مغلوبين لمن يغلبهم ، فقد يكون ذلك بتسليط العدو عليهم ، أو بسلب الشجاعة من نفوسهم . بحيث يكونون خائفين العدو ، ولو لم يسلّط عليهم ، أو ذلّة الاغتراب إذ حرمهم الله ملك الأرض المقدسة فكانوا بلا وطن طول حياتهم حتى انقرض ذلك الجيل كله ، وهذه الذلّة عقوبة دنيوية قد لا تمحوها التوبة ، فإن التوبة إنما تقتضي العفو عن عقاب التكليف ، ولا تقتضي ترك المؤاخذة بمصائب الدنيا ، لأن العقوبات الدنيوية مسببات تنشأ عن أسبابها ، فلا يلزم أن ترفعها التوبة إلا بعناية إلهية خاصة ، وهذا يشبه التفرقة بين خطاب الوضع وخطاب التكليف كما يؤخذ من حديث الإسراء لما أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناءَيْن أحدهما من لبن والآخر من خمر ، فاختار اللبن ، فقال جبريل : الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر لغَوَتْ أمتك ، هذا وقد يمحو الله العقوبة الدنيوية إذا رَضي عن الجاني والله ذو فضل عظيم .والقول في الإشارة من قوله : { وكذلك } تقدم في قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) ، أي ومثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المفترين .والافتراء الكذب الذي لا شبهة لكاذبه في اختلاقه ، وقد مضى في قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } في سورة المائدة ( 103 ).والمراد بالافتراء الاختلاق في أصول الدين بوضع عقائِدَ لا تستند إلى دليل صحيح من دلالة العقل أو من دلالة الوحي ، فإن موسى عليه السلام كان حذرهم من عبادة الأصنام كما حكاه الله فيما مضى في قوله تعالى : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . . . } [ الأعراف : 138 140 ] الآيات الثلاث المتقدمة آنفاً ، فجعل الله جزاءهم على الافتراء الغضبَ والذلة ، وذلك إذا فعلوا مثله بعد أن جاءتهم الموعظة من الله ، ولذلك لم يكن مشركو العرب أذلاّء ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم وهداهم فاستمروا على الافتراء عاقبهم الله بالذلة ، فأزال مهابتهم من قلوب العرب ، واستأصلهم قتلاً وأسراً ، وسلَب ديارهم ، فلما أسلم منهم من أسلموا صاروا أعزة بالإسلام .ويؤخذ من هذه الآية أن الكذاب يُرمى بالمذلّة .
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
📘 وقوله : { والذين عملوا السيئات ثم تابوا } الآية اعتراض بأنهم إن تابوا وآمنوا يغفر الله لهم على عادة القرآن من تعقيب التهديد بالترغيب ، والمغفرة ترجع إلى عدم مؤاخذتهم بذنوبهم في عقاب الآخرة ، وإلى ارتفاع غضب الله عنهم في المستقبل ، والمراد بالسيئات : ما يشمل الكفر ، وهو أعظم السيّئات . والتوبةُ منه هي الإيمان .وفي قوله : { من بعدها } في الموضعين حذف مضاف قبل ما أضيفت إليه ( بَعْد ) وقد شاع حذفهُ دل عليه { عملوا } أي من بَعد عَملها ، وقد تقدم الكلام على حذف المضاف مع ( بعد ) و ( قبل ) المضافين إلى مضاف للمضاف إليه عند قوله تعالى : { ثم اتخذتم العجل من بعده } في سورة البقرة ( 51 ).وحرف ( ثم ) هنا مفيد للتراخي ، وذلك إلجاء إلى قبول التوبة ، ولو بعد زمان طويل مملوء بفعل السيّئات .وقوله : { من بعدها } تأكيد لمفاد المهلة التي أفادها حرف ( ثم ) وهذا تعريض للمشركين بأنهم إن آمنوا يغفر لهم ولو طال أمد الشرك عليهم .وعطف الإيمان على التوبة ، مع أن التوبة تشمله من حيث إن الإيمان توبة من الكفر ، إما للاهتمام به ، لأنه أصل الاعتداد بالأعمال الصالحة عند الله تعالى كقوله : { وما أدراك ما العقبة فكّ رقبة إلى قوله : ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 12 17 ]. ولئلا يظن أن الإشراك لخطورته لا تنجي منه التوبة .وإما أن يراد بالإيمان إيمان خاص ، وهو الإيمان بإخلاص ، فيشمل عمل الواجبات .والخطاب في قوله : { إن ربك } لمحمد صلى الله عليه وسلم على الوجه الأظهر ، أو لموسى على جعل قوله : { إن الذين اتخذوا العجل } مقولاً من الله لموسى .وفي تعريف المسند إليه بالإضافة توسل إلى تشريف المضاف إليه بأنه مربوب لله تعالى ، وفي ذكر وصف الربوبية هنا تمهيد لوصف الرحمة .وتأكيد الخبر بإن ولام التوكيد وصيغتي المبالغة في { غفور رحيم } لمزيد الاهتمام به ترغيب للعصاة في التوبة ، وطرداً للقنوط من نفوسهم ، وإن عظمت ذنوبهم ، فلا يحسبوا تحديد التوبة بحد إذا تجاوزتْه الذنوب بالكثرة أو العِظَم لم تقبل منه توبة .وضمير : { من بعدها } الثاني مبالغة في الامتنان بقبول توبتهم بعد التملّي من السيئات .وحذف متعلق { غفور رحيم } لظهوره من السياق ، والتقدير : لغفور رحيم لهم . أو لكل من عمل سيّئة وتاب منها .
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ۖ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ
📘 نظم هذا الكلام مثل نظم قوله : { ولما سقط في أيديهم } [ الأعراف : 149 ] وقوله : { ولما رجع موسى إلى قومه غضبان } [ الأعراف : 150 ] ، أي : ثم سكَت عن موسى الغضب ولَمّا سكت عنه أخذ الألواح . وهذه الجملة عطف على جملة { ولما رجع موسى إلى قومه } [ الأعراف : 150 ].والسكوت مستعار لذهاب الغضب عنهُ ، شُبّه ثَوَرانُ الغضب في نفس موسى المنشىء خواطر العقوبة لأخيه ولقومه ، وإلقاء الألواح حتى انكسرت ، بكلام شخصُ يغريه بذلك ، وحسّن هذا التشبيه أن الغضبان يجيش في نفسه حديث للنفس يدفعه إلى أفعال يطفىء بها ثَوران غضبه ، فإذا سكن غضبه وهدَأت نفْسه كان ذلك بمنزلة سكوت المغري ، فلذلك أطلق عليه السكوت ، وهذا يستلزم تشبيه الغضب بالناطق المغري على طريقة المكنية ، فاجتمع استعارتان ، أو هو استعارة تمثيلية مكنية؛ لأنه لم تذكر الهيئة المشبهُ بها ورُمزَ إليها بذكر شيء من رَوادفها وهو السكوت ، وفي هذا ما يؤيد أن إلقاء الألواح كان أثر للغضب .والتعريف في { الألواح } للعهد ، أي الألواح التي ألقاها ، وإنما أخذها حفظاً لها للعمل بها ، لأن انكسارها لا يضيع ما فيها من الكتابة .والنُسخة بمعنى المنسوخ ، كالخُطبة والقُبضة ، والنّسخ هو نقللِ مثل المكتوب في لوح أو صحيفة أخرى ، وهذا يقتضي أن هذه الألواح أخذت منها نسخة ، لأن النسخة أضيفت إلى ضمير الألواح ، وهذا من الإيجاز ، إذ التقدير : أخذ الألواح فجُعلت منها نسخة وفي نسختها هدى ورحمة ، وهذا يشير إلى ما في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر الخروج «ثم قال الرب لموسى إنحت لك لوحين من حجر مثل الأولين فأكتُبُ أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما» ثم قال «فنحت لوحين من حجر كالأولين إلاهان» قال «وقال الرب لموسى أكتُبْ لنفسك هذه الكلمات» إلى أن قال «فكتَب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر» .فوصْفُ النسخة بأن فيها هدى ورحمة يستلزم الأصل المنتسخ بذلك ، لأن ما في النسخة نظيرُ ما في الأصل ، وإنما ذكر لفظ النسخة هنا إشارة إلى أن اللوحتين الأصليين عوضا بنسخة لهما ، وقد قيل إن رضاض الألواح الأصلية وضعه في تابوت العهد الذي أشار إليه قوله تعالى : { أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى } في سورة البقرة ( 248 ).وقوله : { للذين هم لربهم يرهبون } يتنازع تعلّقه كلٌ من { هدى } و { رحمة } ، واللام في قوله : { لربهم يرهبون } لام التقوية دخلت على المفعول لضعف العامل بتأخيره عن المعمول .
وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا ۖ فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ۖ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ۖ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ۖ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۖ وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
📘 عطفت جملة { واختار موسى } على جملة : { واتخذ قوم موسى } [ الأعراف : 148 ] عطَف القصة على القصة : لأن هذه القصة أيضاً من مواقع الموعظة والعبرة بين العبَر المأخوذة من قصة موسى مع بني إسرائيل ، فإن في هذه عبرة بعظمة الله تعالى ورحمته ، ودعاء موسى بما فيه جُماع الخيرات والبشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وملاك شريعته .والاختيار تمييز المرغوب من بين ما هو مخلوط من مرغوب وضده ، وهو زنة افتعال من الخير صيغ الفعل من غير دلالة على مطاوعة لفعل ( خار ).وقوله : { سبعين رجلا } بدل من { قَوْمَه } بدلَ بعض من كل ، وقيل إنما نُصب قوَمه على حذف حرف الجر ، والتقدير : اختار من قومه ، قالوا وحذْفُ الجار من المتعلق الذي هو في رتبة المفعول الثاني شائِع في ثلاثة أفعال : اختار ، واستغفر وأمر ، ومنه أمْرُتك الخير وعلى هذا يكون قوله : { سبعين } مفعولاً أول . وأيّاً مَّا كان فبناء نظم الكلام على ذكر القوم ابتداء دون الاقتصار على سبعين رجلاً اقتضاه حال الإيجاز في الحكاية ، وهو من مقاصد القرآن .وهذا الاختيار وقع عندما أمره الله بالمجيىء للمناجاة التي تقدم ذكرها في قوله تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } [ الأعراف : 142 ] الآية ، فقد جاء في التوراة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج : إن الله أمر موسى أن يصعد طور سينا هو وهارون و ( ناداب ) و ( أبيهو ) و ( يشوع ) وسبعون من شيوخ بني إسرائيل ويكون شيوخ بني إسرائيل في مكان معين من الجبل ويتقد موسى حتى يدخل في السحاب ليسمع كلام الله وأن الله لما تجلى للجبل ارتجف الجبل ومكث موسى أربعين يوماً . وجاء في الإصحاح الثاني والثلاثين والذي يعده ، بعدَ ذكر عبادتهم العجل وكسر الألواح ، أن الله أمر موسى بأن ينحت لوحين من حجر مثل الأولين ليكتب عليهما الكلمات العشر المكتوبة على اللوحين المنكسرين وأن يصعد إلى طور سينا وذكرتْ صفة صعود تقارب الصفة التي في الإصحاح الرابع والعشرين ، وأن الله قال لموسى من أخطأ أمحُوه من كتابي ، وأن موسى سجد لله تعالى واستغفر لقومه قلة امتثالهم وقال فإن عفرْتَ خطيئتهم وإلا فامحُني من كتابك . وجاء في الإصحاح التاسع من سفر التثنية : أن موسى لما صعد الطور في المناجاة الثانية صام أربعين يوماً وأربعين ليلة لا يأكل طعاماً ولا يشرب ماء استغفاراً لخطيئة قومه وطلباً للعفو عنهم .فتبين مما في التوراة أن الله جعل لموسى ميقاتين للمناجاة ، وأنه اختار سبعين رجلاً للمناجاة الأولى ولم تَذْكر اختيارهم للمناجاة الثانية ، ولما كانت المناجاة الثانية كالتكملة للأولى تعيّن أن موسى استصحب معه السبعين المختارين ، ولذلك وقعت فيها الرجفة مثل المرة الأولى ، ولم يذكر القرآن أن الرجفة أخذتهم في المرة الأولى ، وإنما ذكر أن موسى خَرَّ صعقاً ، ويتعين أن يكون السبعون قد أصابهم ما أصاب موسى لأنهم كانوا في الجبل أيضاً ، وذكر الرجفة في المرة الثانية ولم تذكرها التوراة .والضمير في أخذتهم الرجفة للسبعين . فالظاهر أن المراد في هذه الآية هو حكاية حال ميقات المناجاة الثانية التي وقع فيها الاستغفار لقومه ، وأن الرجفة المحكية هنا رجفة أخذتهم مثل الرجفة التي أخذتهم في المناجاة الأولى ، لأن الرجفة تكون من تجلي أثر عظيم من آثار الصفات الإلهية كما تقدم ، فإن قول موسى { اتهلكنا بما فعل السفهاء منا } يؤذن بأنه يعني به عبادتهم العجل ، وحضورَهم ذلك . وسكوتهم ، وهي المعنيُ بقوله : { إن هي إلا فتنتك } وقد خشي موسى أن تلك الرجفة مقدمة عذاب كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يخشى الريح أن يكون مبدأ عذاب .ويجوز أن يكون ذلك في المناجاة الأولى وأن قوله : { بما فعل السفهاء منا } يعني به ما صدر من بني إسرائيل من التصلب قبل المناجاة ، كقولهم { لن نصبر على طعام واحد } [ البقرة : 61 ] ، وسؤالهم رؤية الله تعالى . لكن الظاهر أن مثل ذلك لا يطلق عليه ( فَعَل ) في قوله : { بما فعل السفهاء منا }. والحاصل أن موضع العبرة في هذه القصة هو التوقي من غضب الله ، وخوف بطشه ، ومقامُ الرسل من الخشية ، ودعاء موسى ، إلخ .وقد صيغ نظم الكلام في قوله : { فلما أخذتهم الرجفة } على نحو ما صيغ عليه قوله : { ولما رجع موسى إلى قومه غضبانَ أسفا } [ الأعراف : 150 ] كما تقدم .والأخذ مجاز في الإصابة الشديدة المتمكنة تمكن الآخذ من المأخوذ .و ( لو ) في قوله : { لو شئت أهلكتهم } يجوز أن تكون مستعملة في التمني وهو معنى مجازي ناشىء من معنى الامتناع الذي هو معنى ( لو ) الأصلي ومنه قول المثل ( لو ذات سوار لطمتني ) إذ تقدير الجواب . لو لطمتني لكان أهون علي ، وقد صرح بالجواب في الآية وهو { شئت أهلكتهم } أي ليتك أردت إهلاكهم أي السبعين الذين معه . فجملة أهلكتهم بدل اشتمال من جملة { شئت } من قبل خطيئة القوم التي تسبب عنها الرجوع إلى المناجاة .وعلى هذا التقدير في ( لو ) لا يكون ، في قوله { أهلكتهم } حذف اللام التي من شأنها أن تقترن بجواب ( لو ) وإنما قال : { أهلكتهم } وإياي ولم يقل : أهلكتنا ، للتفرقة بين الإهلاكين لأن إهلاك السبعين لأجل سكوتهم على عبادة العجل ، وإهلاك موسى ، قد يكون لأجل أن لا يشهد هلاك القوم ، قال تعالى :{ فلما جاء أمرنا نجينا هوداً } [ هود : 58 ] الآية ونظائرها كثيرة ، وقد خشي موسى أن الله يهلك جميع القوم بتلك الرجفة لأن سائر القوم أجدر بالإهلاك من السبعين ، وقد أشارت التوراة إلى هذا في الإصحاح «فرجع موسى إلى الله وقال إن الشعب قد أخطأ خطيئة عظيمة وصنعوا لأنفسهم آلهة فان غفرت لهم خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت . فقال الله لموسى من أخطأ إليّ أمحوه من كتابي» فالمحو من الكتاب هو محو تقدير الله له الحياةَ محوَ غضب ، وهو المحكي في الآية بقوله { لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } وقد خشي موسى أن تكون تلك الرجفة إمارة غضب ومقدمة إهلاك عقوبة على عبادتهم العجل ، فلذلك قال { اتهلكنا بما فعل السفهاء منا } فالسفهاء هم الذين عبدوا العجل وسمي شركهم سفهاً؛ لأنه شرك مشوب بخسة عقل إذ جعلوا صورة صنعوها بأنفسهم إلهاً لهم .ويجوز أن يكون حرف ( لو ) مستعملاً في معناه الأصلي : من امتناع جوابه لامتناع شرطه ، فيتجه أن يتساءل عن موجب حذف اللام من جواب ( لو ) ولم يقل : لأهلكتهم مع أن الغالب في جوابها الماضي المثبت أن يقترن باللام فحذف اللام هنا لنكتة أن التلازم بين شرط لو وجوابها هنا قوي لظهور أن الإهلاك من فعل الله وحده فهو كقوله تعالى : { لو نشاء جعلناه أجاجاً } سورة الواقعة ( 70 ) وسيأتي بيانه . ويكون المعنى اعترافاً بمنة العفو عنهم فيما سبق ، وتمهيداً للتعريض بطلب العفو عنهم الآن ، وهو المقصود من قوله { أتهلكنا بما فعل السفهاء } أي أنك لم تشأ إهلاكهم حين تلبسوا بعبادة العجل فلا تهلكهم الآن .والاستفهام في قوله : { أتهلكنا } مستعمل في التفجع أي : أخشى ذلك ، لأن القوم استحقوا العذاب ويخشى أن يشمل عذابُ الله من كان مع القوم المستحقين وإن لم يشاركهم في سبب العذاب ، كما قال : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [ الأنفال : 25 ] وفي حديث أم سلمة أنها قالت : " يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبثُ " وفي حديث آخر ، " ثم يحشرون على نياتهم " وقد خشي موسى سوء الظنة لنفسه ولأخيه وللبراء من قومه أن يُظنهم الأمم التي يبلغها خبرهم أنهم مجرمون .وإنما جمع الضمير في قوله : { أتهلكنا } لأن هذا الإهلاك هو الإهلاك المتوقع من استمرار الرجفة ، وتوقعه واحد في زمن واحد ، بخلاف الإهلاك المتقدم ذكره فسببه مختلف فناسب توزيع مفعوله .وجملة : { أتهلكنا } مستأنفة على طريقة تقطيع كلام الحزين الخائف السائل . وكذلك جملة : { إن هي إلا فتنتك } وجملة { أنت ولينا }.وضمير { إن هي } راجع إلى ما فعل السفهاء لأن ما صْدقَ ما فعل السفهاء هو الفتنة ، والمعنى : ليست الفتنةُ الحاصلة بعبادة العجل إلا فتنة منك ، أي من تقديرك وخلْق أسباببِ حدوثها ، مثل سخافة عقول القوم ، وإعجابهم بأصنام الكنعانيين ، وعيبة موسى ، وليننِ هارون ، وخشيته من القوم ، وخشية شيوخ إسرائيل من عامتهم ، وغير ذلك مما يعلمه الله وأيقن موسى به إيقاناً إجمالياً .والخبر في قوله : { إن هي إلا فتنتك } الآية : مستعمل في إنشاء التمجيد بسعة العلم والقدرة ، والتعريض بطلب استبقائهم وهدايتهم ، وليس مستعملاً في الاعتذار لقومه بقرينة قوله : { تضل بها من تشاء } الذي هو في موضع الحال من { فتنتك } فالإضلال بها حال من أحْوالها .ثم عرَّض بطلب الهداية لهم بقوله : { وتهدي من تشاء } والمجرور في قوله { بها } متعلق بفعل { تضل } وحده ولا يتنازعه معه فعل { تهدي } لأن الفتنة لا تكون سبب هداية بقرينة تسميتها فتنة ، فمن قدر في التفسير : وتهدي بها أو نحوه ، فقد غفل .والباء : إما للملابسة ، أي تضل من تشاء ملابساً لها ، وإما للسببية ، أي تضل بسبب تلك الفتنة ، فهي من جهة فتنة ، ومن جهة سبب ضلال .والفتنة ما يقع به اضطراب الأحوال ، ومرجها ، وتشتت البال ، وقد مضى تفسيرها عند قوله تعالى : { وما يعلّمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة } في سورة البقرة ( 102 ). وقوله : { وحسبوا أن لا تكون فتنة } في سورة العقود ( 71 ) وقوله : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } في سورة الأنعام ( 23 ).والقصد من جملة : { أنت ولينا } الاعتراف بالانقطاع لعبادة الله تعالى ، تمهيداً لمطلب المغفرة والرحمة ، لأن شأن الولي أن يرحم مولاه وينصره .والولي : الذي له وَلاية على أحد ، والوَلايةِ حلف أو عتق يقتضي النصرة والإعانة ، فإن كان من جانبين متكافئين فكلا المتعاقدين يقال له مَولى ، وإن كان أحد الجانبين أقوى قيل للقوي ( ولي ) وللضعيف ( مَولى ) وإذ قد كانت الولاية غير قابلة للتعدد ، لأن المرء لا يتولى غيرَ مواليه ، كان قوله : { أنتَ ولينا } مقتضياً عدم الانتصار بغير الله . وفي صريحه صيغة قصر .والتفريع عن الولاية في قوله : { فاغفر لنا } تفريع كلام على كلام وليس المراد أن الولي يتعين عليه الغفران .وقدم المغفرة على الرحمة لأن المغفرة سبب لرحمات كثيرة ، فإن المغفرة تنهية لغضب الله المترتب على الذنب ، فإذا انتهى الغضب تسنى أن يخلفه الرضا . والرضا يقتضي الإحسان .و { وخيرُ الغافرين } الذي يغفر كثيراً ، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى : { بل الله مولاكم وهو خير الناصرين } في سورة آل عمران ( 150 ).وإنما عطف جملة : { وأنت خير الغافرين } لأنه خبر في معنى طلب المغفرة العظيمة ، فعطف على الدعاء ، كانه قيل : فاغفر لنا وارحمنا واغفر لنا جميع ذنوبنا ، لأن الزيادة في المغفرة من آثار الرحمة .
۞ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
📘 و { اكتُب } مستعار لمعنى العطاء المحقَق حصوله ، المجدد مرة بعد مرة ، لأن الذي يريد تحقيقَ عقد أو عدة ، أو عطاء ، وتعلّقه بالتجدد في المستقبل يكتب به في صحيفة ، فلا يقبل النكران ، ولا النقصان ، ولا الرجوع ، وتسمى تلك الكتابة عهداً ، ومنه ما كتبوه في صحيفة القطيعة ، وما كتبوه من حلف ذي المجاز ، قال الحارث بن حلزة :حذر الجَور والتطاخي وهل ينقض ما في المهارق الأهواءولو كان العطاء أو التعاقد لمرة واحدة لم يحتج للكتابة ، لأن الحوز أو التمكين مغن عن الكتابة ، كما قال تعالى :{ إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها } [ البقرة : 282 ] فالمعنى : آتنا الحسنة تلو الحسنة في أزمان حياتنا وفي يوم القيامة ، دل على هذا المعنى لفظ { اكتب } ولولاه لكان دعاء صادقاً باعطاء حسنة واحدة ، فيحتاج إلى الاستعانة على العموم بقرينة الدعاء ، فإن النكرة يراد بها العموم في سياق الدعاء كقول الحريري في المقامة الخامسة :يا أهل ذا المغنى وُقيتم ضُرا ... ( أي كل ضر وليس المراد وقيتم ضرا معيّنا ).والحسنة الحالة الحسنة ، وهي : في الدنيا المرضية للناس ، ولله تعالى ، فتجمع خير الدنيا والدين ، وفي الآخرة حالة الكمال ، وقد تقدم بيانها في تفسير قوله تعالى : { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة } في سورة البقرة ( 201 ).وجملة : إنا هدنا إليك } مسوقة مساق التعليل للطلب والاستجابة ، ولذلك فصلت ولان موقع حرف التأكيد في أولها موقع الاهتمام ، فيفيد التعليل والربط ، ويغني غناء فاء السببية كما تقدم غير مرة .و { هُدْنا } معناه تبنا ، يقال : هَادَ يهود إذا رجع وتاب فهو مَضموم الهاء في هذه الآية باتفاق القراءات المتواترة والمعنى تبنا مما عسى أن نكون ألممنا به من ذنب وتقصير ، وهذا إخبار عن نفسه ، وعن المختارين من قومه ، بما يعلم من صدق سرائرهم .جملة : { قال } الخ جوابٌ لكلام موسى عليه السلام ، فلذلك فصلت لوقوعها على طريقة المحاورة ، كما تقدم غير مرة ، وكلام موسى ، وإن كان طلبا ، وهو لا يستدعي جواباً ، فإن جواب الطالب عناية به وفضْل .والمراد بالعذاب هنا عذاب الدنيا ، لأن الكلام جواب لقول موسى : { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } والإهلاك عذاب ، فبيّن اللَّهُ له أن عذاب الدنيا يصيب الله به من يشاء من عباده ، وقد اجمل الله سبب المشيئة وهو أعلم به ، وموسى يعلمه إجمالاً ، فالكلام يتضمن طمأنة موسى من أن يناله العذاب هو والبزآء من قومه ، لأن الله أعظم من أن يعاملهم معاملةَ المجرمين . والمعنى إني قادر على تخصيص العذاب بمن عصوا وتنجية من لم يشارك في العصيان ، وجاء الكلام على طريقة مجملة شأن كلام مَن لا يُسأل عما يعقل .وقوله : { ورحمتي وسعت كل شيء } مقابل قول موسى : { فاغفر لنا وارحمنا }. وهو وعد تعريض بحصول الرحمة المسؤولة له ولمن معه من المختارين ، لأنها لما وسعت كل شيء فهم أرجى الناس بها ، وأن العاصين هم أيضاً مغمورون بالرحمة ، فمنها رحمة الإمهال والرزق ، ولكن رحمة الله عباده ذات مراتب متفاوتة .وقوله : { عذابي أصيب به من اشاء } إلى قوله { كل شيء } جواب إجمالي ، هو تمهيد للجواب التفصيلي في قوله : { فسأكتبها }.والتفريع في قوله : { فسأكتبها } تفريع على سعة الرحمة ، لأنها لما وسعت كل شيء كان منها ما يكتب أي يعطى في المستقبل للذين أجريت عليهم الصفات ويتضمن ذلك وعداً لموسى ولصلحاء قومه لتحقق تلك الصفات فيهم ، وهو وعد ناظر إلى قول موسى { إنا هدنا إليك } والضمير المنصوب في { أكْتُبها } عائدِ إلى { رحمتي } فهو ضمير جنس ، وهو مساو للمعرف بلام الجنس ، أي اكتب فَردا من هذا الجنس لأصحاب هذه الصفات ، وليس المراد أنه يكتب جميع الرحمة لهؤلاء لأن هذا غير معروف في الاستعمال في الإخبار عن الأجناس ، لكن يُعلم من السياق أن هذا النوع من الرحمة نوع عظيم بقرينة الثناء على متعلِقها بصفات توذن باستحقاقها ، وبقرينة السكوت عن غيره ، فيعلم أن لهذا المتعلِق رحمة خاصة عظيمة وأن غيره داخل في بعض مراتب عموم الرحمة المعلومة من قوله : { وَسِعت كل شيء } وقد أفصح عن هذا المعنى الحصر في قوله في آخر الآية { أولئك هم المفلحون }.وتقدم معنى { أكتبها } قريباً .وقد تقدم معنى : { وسعت كل شيء } في قوله تعالى : { وسع ربنا كل شيء علما } في هذه السورة ( 89 ).والمعنى : أن الرحمة التي سألها موسى له ولقومه وعدَ اللَّهُ بإعطائِها لمن كان منهم متصفاً بأنه من المتقين والمؤتين الزكاة ، ولمن كان من المؤمنين بآيات الله ، والآياتُ تصدق : بدلاِئل صدق الرسل ، وبكلمات الله التي شرع بها للناس رَشادهم وهديهم ، ولا سيما القرآن لأن كل مقدار ثلاث آيات منه هو آية لأنهُ معجز فدال على صدق الرسول ، وهو المقصود هنا ، وهم الذين يتبعون الرسول الامي إذا جاءهم ، أي يطيعونه فيما يأمرهم ، ولما جعلت هذه الأشياء بسبب تلك الرحمة علم أن التحصيل على بعضها يحصّل بعض تلك الرحمة بما يناسبه ، بشرط الإيمان ، كما علم من آيات أخرى خاطب الله بها موسى كقوله آنفاً { والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا } [ الأعراف : 153 ] فتشمل هذه الرحمة من اتقى وآمن وآتى الزكاة من بني إسرائيل قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإن أتباعهم إياه متعذر الحصول قبل بعثته ، ولكن يجب أن يكونوا عازمين على اتباعه عند مجيئه إن كانوا عالمين بذلك كما قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } [ آل عمران : 81 ، 82 ]. وتشمل الرحمة أيضاً الذين يؤمنون بآيات الله ، والمعنى بها الآيات التي ستجيء في المستقبل ، لأن آيات موسى قد استقر الإيمان بها يومئذ ، وهذا موجب إعادة اسم الموصول في ذكر أصحاب هذه الصلة ، للإشارة إلى أنهم طائفة أخرى ، وهم من يكون عند بعثة محمد عليه الصلاة والسلام ، ولذلك أبدل منهم قوله : { الذين يتبعون الرسولَ } إلخ .
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
📘 وهو إشارة إلى اليهود والنصارى الكائنين في زمن البعثة وبعدها لقوله : { الذي يجدونه مكتوباً عندهم } ولقوله : { ويضع عنهم إصرهم والأغلالَ التي كانت عليهم } فإنه يدل على أنهم كانوا أهل شريعة فيها شدة وحرج ، والمراد بآيات الله : القرآن ، لأن ألفاظه هي المخصوصة باسم الآيات ، لأنها جُعلت معجزات للفصحاء عن معارضتها . ودالة على أنها من عند الله وعلى صدق رسوله ، كما تقدم في المقدمة الثامنة .وفي هذه الآية بشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهي مشيرة إلى ما في التوراة من الإصحاح العاشر حتى الرابع عشر ، والاصحاح الثامن عشر من سفر التثنية : فإن موسى بعد أن ذكَرهم بخطيئة عبادتهم العجل ، وذكر مناجاته لله للدعاء لهم بالمغفرة ، كما تضمنه الاصحاح التاسع من ذلك السفر ، وذكرناه آنفاً في تفسير قوله : { واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا } ، ثم ذكر في الإصحاح العاشر أمرهم بالتقوى بقوله : «فالآن يا إسرائيل ما يطلب منكَ الرب إلا أن تتقي ربك لتسلك في طرقه وتحبه» . ثم ذكر فيه وفي الثلاثة بعده وصايا تفصيلاً للتقوى ، ثم ذكر في الاصحاح الرابع عشر الزكاة فقال «تعشيراً تعشر كل محصول زرعك سنة بسنة عشر حنطتك وخمرك وزيتك وأبكار بقرك وغنمك ، وفي آخر ثلاث سنين تخرج كل عشر محصولك في تلك السنة فتضعه في أبوابك فيأتي اللاوي والغريب واليتيم والأرملة الذين على أبوابك فيأكلون ويشبعون» إلخ . ثم ذكر أحكاماً كثيرة في الإصحاحات الثلاثة بعده .ثم في الإصحاح الثامن عشر قوله : «يُقيم لك الرب نبياً ومن وسط إخواتك مثلي له تسمعون حسب كل ما طلبتُ من الرب في حُوريب ( أي جبل الطور حين المناجاة ) يوم الاجتماع قال لي الرب أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعلُ كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به» فدل هذا على أن هذا النبي من غير بني إسرائيل لقوله : «من وسط أخوتك» فإن الخطاب لبني إسرائيل ، ولا يكونون إخوة لأنفسهم . وإخوتُهم هم أبناء أخي أبيهم : إسماعيل أخي إسحاق ، وهم العرب ، ولو كان المراد به نبيئاً من بني إسرائيل مثل ( صمويل ) كما يؤوله اليهود لقال : من بينكم أو من وسطكم ، وعُلم أن النبي رسول بشرع جديد من قوله : «مثلك» فإن موسى كان نبياً رسولاً ، فقد جمع القرآن ذلك كله في قوله : { للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } إلخ .ومن نكت القرآن الجمع في هذه الآية بين وصفي النبوة والرسالة للإشارة إلى أن اليهود بدّلوا وصف الرسول ، وعبروا عنه بالنبي ، ليصدق على أنبياء ليصدق على أنبياء بني إسرائيل ، وغفلوا عن مفاد قوله مثلك ، وحذفوا وصف الأمي ، وقد كانت هذه الآية سبب إسلام الحبر العظيم الأندلسي السموأل بن يحيى اليهودي ، كما حكاه عن نفسه في كتابه الذي سماه «غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود» .فهذه الرحمة العظيمة تختص بالذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ، وتشمل الرسل والأنبياء الذين أخذ الله عليهم العهد بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فكانوا عالمين ببعثته يقيناً فهم آمنوا به ، وتنزلوا منزلة من اتبع ما جاء به ، لأنهم استعدوا لذلك ، وتشمل المسلمين من العرب وغيرهم غير بني إسرائيل ، لأنهم ساروا من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام من اليهود في اتباع الرسول النبي الأمي .وتقديم وصف الرسول لأنه الوصف الأخص الأهم ، ولأن في تقديمه زيادة تسجيل لتحريف أهل الكتاب ، حيث حذفوا هذا الوصف ليصير كلام التوراة صادقاً بمن أتى بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل ، ولأن محمداً صلى الله عليه وسلم اتشهر بوصف النبي الأمي ، فصار هذا المركب كاللقب له ، فلذلك لا يغير عن شهرته ، وكذلك هو حيثما ورد ذكره في القرآن .والأمي : الذي لا يعرف الكتابة والقراءة ، قيل هو منسوب إلى الأم أي هو أشبه بأمه منه بأبيه ، لأن النساء في العرب ما كُنّ يعرفن القراءة والكتابة ، وما تعلمْنها إلاّ في الإسلام ، فصار تعلم القراءة والكتابة من شعار الحرائر دون الإماء كما قال عُبيْد الراعي ، وهو إسلامي :هُنَّ الحرائِر لا ربّاتُ أخمرَة ... سُودُ المحاجِر لا يقْرأن بالسّوَرِأما الرجال ففيهم من يقرأ ويكتب .وقيل : منسوب إلى الأمّة أي الذي حاله حال معظم الأمة ، أي الأمة المعهودة عندهم وهي العربية ، وكانوا في الجاهلية لا يعرف منهم القراءة والكتابة إلاّ النادر منهم ، ولذلك يصفهم أهلُ الكتاب بالأُمييّن ، لما حكى الله تعالى عنهم في قوله : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأُميين سبيل } في آل عمران ( 75 ).والأميّة وصف خص الله به من رسله محمداً ، إتماماً للإعجاز العلمي العقلي الذي أيده الله به ، فجعل الأمية وصفاً ذاتياً له ، ليتم بها وصفه الذاتي وهو الرسالة ، ليظهر أن كماله النفساني كمالٌ لدُنّي إلهي ، لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات ، وبذلك كانت الأمية وصف كمال فيه ، مع أنها في غيره وصف نقصان ، لأنه لمّا حصل له من المعرفة وسداد العقل ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي معرفة الكمالات الحق ، وكان على يقين من علمه ، وبينة من أمره ، ما هو أعظم مما حصل للمتعلمين ، صارت أميته آية على كون ما حصل له إنّما هو من فيوضات إلهية .ومعنى : يجدونه مكتوباً } وجدان صفاته ونعوته ، التي لا يشبهه فيها غيره ، فجعلت خاصته بمنزلة ذاته . وأطلق عليها ضمير الرسول النبي الأمي مجازاً بالاستخدام ، وإنما الموجود نعته ووصفه ، والقرينة قوله : { مكتوباً } فإن الذات لا تكتب ، وعُدل عن التعبير بالوصف للدلالة على أنهم يجدون وصفاً لا يقبل الالتباس ، وهو : كونه أمياً ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويُحل الطيبات ، ويحرم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم ، وشدة شريعتهم .وذكرالإنجيل هنا لأنه منزل لِبني إسرائيل ، وقد آمن به جمع منهم ومن جاء بعدهم من خلفهم ، وقد أعلم الله موسى بهذا .والمكتوب في التوراة هو ما ذكرناه آنفاً ، والمكتوب في الإنجيل بشارات جمة بمحمد صلى الله عليه وسلم وفي بعضها التصريح بأنه يبعث بعثة عامة ، ففي إنجيل متّى في الإصحاح الرابع والعشرين «ويقوم أنبياء كذَبةٌ كثيرون ويُضلون كثيرون ، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى ( أي يدوم شرعه إلى نهاية العالم ) فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى» ( أي منتهى الدنيا ) ، وفي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر «وإما المُعزّي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلتُه لكم» ( ومعنى باسمي أي بمماثلتي وهو كونه رسولاً مشرعاً لا نبيّاً موكداً ).وتقدم ذكر التوراة والإنجيل في أول سورة آل عمران .وجملة : { يأمرهم بالمعروف } قال أبو علي الفارسي : «هي بيان للمكتوب عندهم ولا يجوز أن تكون حالاً من ضمير { يجدونه } لأن الضمير راجع للذكر والاسم . والذكر والاسم لا يأمران» أي فتعين كون الضمير مجازاً ، وكون الآمر بالمعروف هو ذات الرسول لا وصفه وذِكرُه ، ولا شك أن المقصود من هذه الصفات تعريفهم بها؛ لتدلهم على تعيين الرسول الأمي عند مجيئه بشريعة هذه صفاتها .وقد جعل الله المعروف والمنكر ، والطيبات ، والخبائث ، والإصر والأغلال متعلقات لتشريع النبي الأمي وعلامات ، فوجب أن يكون المراد منها ما يتبادر من معاني ألفاظها للأفهام المستقيمة .فالمعروفُ شامل لكل ما تقبلُه العقول والفطر السليمة ، والمنكر ضده ، وقد تقدم بيانهما عند قوله تعالى : { ولتْكُن منكم أمة يَدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } في سورة آل عمران ( 104 ).ويجمعها معنى : الفطرة ، التي هي قوام الشريعة المحمدية كما قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها } [ الروم : 30 ] ، وهذه أوضح علامة لتعرف أحكام الشريعة المحمدية .والطيبات : جمع طيبة ، وقد روعي في التأنيث معنى الأكِيلة ، أو معنى الطُّعمة ، تنبيهاً على أن المراد الطيبات من المأكولات ، كما دل عليه قوله في نظائِرها نحو : { يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } في البقرة ( 168 ) وقوله : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } في سورة المائدة ( 4 ) ، وليس المراد الأفعال الحسنة؛ لأن الأفعال عُرّفت بوصف المعروف والمنكر . والمأكولات لا تدخل في المعروف والمنكر ، إذ ليس للعقل حظ في التمييز بين مقبُولها ومرفوضها ، وإنما تمتلك الناسَ فيها عوائِدُهم ، ولما كان الإسلام دينَ الفطرة ولا اعتداد بالعوائد فيه ، ناط حال المأكولات بالطّيب وحرمتها بالخُبث ، فالطّيب ما لا ضُر فيه ولا وخامَة ولا قذارة ، والخبيثُ ما أضر ، أوْ كان وَخيم العاقبة ، أو كان مستقذراً لا يقبله العقلاء ، كالنجاسة ، وهذا ملاك المُباح والمحرم من المآكل ، فلا تدخل العادات إلاّ في اختيار أهلها ما شاءوا من المباح ، فقد كانت قريش لا تأكل الضب ، وقد وُضع على مَائدة رسول الله فكره أن يأكل منه ، وقال : ما هو بحرام ولكنه لم يكن من طعام قومي فأجدني أعافُه ولهذا فالوجه : إن كل ما لا ضر فيه ولا فساد ولا قذارة فهو مباح ، وقد يكون مكروهاً اعتباراً بمضرة خفيفة ، فلذلك ورد النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ، ومحمله عند مالك في أشهر الروايات عنه ، على الكراهة ، وهو الذي لا ينبغي التردد فيه ، وأي ضُر في أكل لحم الأسد ، وكذلك إباحة أكل الخشاش والحشرات والزواحف البرية والبحرية ، لاختلاف عوائِد الناس في أكلها وعدمه ، فقد كانت جَرْم لا يأكلون الدجاج ، وَفقعس يأكلون الكلب ، فلا يحجر على قوم لأجل كراهية غيرهم مما كرهه ذوقه أو عادة قومه ، وقد تقدم شيء من هذا في آية سورة المائِدة ، فعلى الفقيه أن يقصر النظر على طبائِع المأكولات وصفاتها ، وما جهلت بعض صفاته وحرمته الشريعة مثل تحريم الخنزير .وَوْضع الإصر إبطال تشريعه ، أي بنسخ ما كان فيه شدة من الشرايع الإلهية السابقة ، وحقيقة الوضع الحط من علو إلى سفل ، وهو هنا مجاز في إبطال التكليف بالأعمال الشاقة .وحقه التعدية إلى المفعول الثاني بحرف ( في ) الظرفية ، فإذا عُدي إليْه ب ( عن ) دل على نقل المفعول الأول من مدخول ( عن ) وإذا عدي إلى المفعول الثاني ب ( على ) كان دالاً على حط المفعول الأول في مدخول ( على ) حطا متمكناً ، فاستعير يضعُ عنهم } هنا إلى إزالة التكليفات التي هي كالإصر والأغلال فيشمل الوضْعُ معنى النسخ وغيره ، كما سيأتي .و«الإصر» ظاهر كلام الزمخشري في «الكشاف» و«الأساس» إنه حقيقة في الثّقل ، ( بكسر الثاءِ ) الحسيّ بحيث يَصعب معه التحرك ، ولم يقيده غيره من أصحاب دواوين اللغة ، وهذا القيد من تحقيقاته ، وَهو الذي جرى عليه ظاهر كلام ابن العربي في «الأحكام» ، والمراد به هنا التكاليف الشاقة والحرج في الدين ، فإن كان كما قيده الزمخشري يكن { ويضع عنهم أصرهم } تمثيلية بتشبيه حال المزال عنه ما يحْرجه من التكاليف بحال مَن كان محمّلاً بثقل فأزيل عن ظهره ثَقله ، كما في قوله تعالى : { يحملون أوزارهم على ظهورهم } [ الأنعام : 31 ] وإن لم يكن كذلك كان «الإصر» استعارة مكنية { ويضع } تخييلاً ، وهو أيضاً استعارة تبعية للإزالة .وقد كانت شريعة التوراة مشتملة على أحكام كثيرة شاقة مثل العقوبة بالقتل على معاص كثيرة ، منها العمل يومَ السبتتِ ، ومثلُ تحريم مأكولات كثيرة طيبة وتغليظ التحريم في أمور هينة ، كالعمل يوم السبت ، وأشد ما في شريعة التوراة من الإصر أنها لم تشرع فيها التوبة من الذنوب ، ولا استتابة المُجرم ، والإصر قد تقدم في قوله تعالى :{ ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } في سورة البقرة ( 286 ) وقرأ ابن عامر وحده في القراءات المشهورة ، ( آصارهم ) بلفظ الجمع ، والجمع والإفراد في الأجناس سواء .والأغلالُ } جمع غُل بضم الغين وهو إطار من حديد يجعل في رقبة الأسير والجاني ويمسك بسير من جلد ، أو سلسلة من حديد بيد المُوكّل بحراسة الأسير ، قال تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل } [ غافر : 71 ] ويستعار الغُل للتكليف والعمل الذي يؤلم ولا يطاق فهوَ استعارة فإن بنيْنا على كلام الزَمخشري كان { الأغلال } تمثيلية بتشبيه حال المحرر من الذل والإهانة بحال من أطلق من الأسر ، فتعيّن أن وضع الأغلال استعارة لما يعانيه اليهود من المذلة بين الأمم الذين نزلوا في ديارهم بعد تخريب بيت المقدس ، وزوال ملك يهوذا ، فإن الإسلام جاء بتسوية أتباعه في حقوقهم في الجامعة الإسلامية ، فلا يبقى فيه مَيز بين أصيل ودخيل ، وصميم ولصيق ، كما كان الأمر في الجاهلية ، ومناسبة استعارة الأغلال للذلة أوضح ، لأن الأغلال من شعار الإذلال في الأسر والقود ونحوهما .وهذان الوصفان لهما مزيد اختصاص باليهود ، المتحدث عنهم في خطاب الله تعالى لموسى ، ولا يتحققان في غيرهم ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن اليهود قد كان لهم شرع ، وكان فيه تكاليف شاقة ، بخلاف غير اليهود من العرب والفرس وغيرهم ، ولذلك أضاف الله الإصر إلى ضميرهم ، ووَصف الأغلال بما فيه ضميرهم ، على أنك إذا تأملت في حال الأمم كلهم قبل الإسلام لا تجد شرائعهم وقوانينهم وأحوالهم خالية من إصر عليهم ، مثل تحريم بعض الطيبات في الجاهلية ، ومثل تكاليف شاقة عند النصارى والمجوس لا تتلاقى مع السماحة الفطرية ، وكذلك لا تجدها خالية من رهق الجبابرة ، وإذلال الرؤساء ، وشدة الأقوياء على الضعفاء ، وما كان يحدث بينهم من التقاتل والغارات ، والتكايُل في الدماء ، وأكلهم أموالهم بالباطل ، فأرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم بديننِ من شأنه أن يخلص البشر من تلك الشدائِد ، كما قال تعالى : { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] ولذلك فسرنا الوضع بما يَعم النسخ وغيره ، وفسرنا الأغلال بما يخالف المراد من الأصر ، ولا يناكد هذا ما في أديان الجاهلية والمجوسية وغيرها من التحلل في أحكام كثيرة ، فإنه فساد عظيم لا يخفف وطأة ما فيها من الإصر ، وهو التحلل الذي نظر إليه أبو خِراش الهُذلي في قوله ، يَعْني شريعة الإسلام :فليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحَاطت بالرقاب السلاسلوالفاء في قوله : { فالذين آمنوا به } فاء الفصيحة ، والمعنى : إذا كان هذا النبي كما علمتم من شهادة التوراة والإنجيل بنبوءته ، ومن اتصاف شرعه بالصفة التي سمعتم ، علمتم أن الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا هديه ، هم المفلحون .والقصر المستفاد من تعريف المسند ومن ضمير الفصل قصر إضافي ، أي هم الذين أفلحوا أي دون من كفر به بقرينة المقام ، لأن مقام دعاء موسى يقتضي أنه أراد المغفرة والرحمة وكتابة الحسنة في الدنيا والآخرة لكل من اتبع دينه ، ولا يريد موسى شمول ذلك لمن لا يتبع الإسلام بعد مجيء محمد صلى الله عليه وسلم ولكن جرى القصر على معنى الاحتراس من الإيهام ، ويجوز أن يكون القصر ادعائياً ، دالاً على معنى كمال صفة الفلاح للذين يتبعون النبي الأمي ، ففلاح غيرهم من الأمم المفلحين الذين سبقوهم كلاَ فلاح ، إذا نُسب إلى فلاحهم ، أي إن الأمة المحمدية أفضل الأمم على الجملة ، وإنهم الذين تنالهم الرحمة الإلهية التي تسع كل شيء من شؤونهم قال تعالى :{ وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ].ومعنى { عزروه } أيدوه وقّووْه ، وذلك بإظهار ما تضمنته كتبهم من البشارة بصفاته ، وصفات شريعته ، وإعلان ذلك بين الناس ، وذلك شيء زائِد على الإيمان به ، كما فعل عبد الله بن سَلاَم ، وكقول ورقة بن نوفل : «هذا الناموس الذي أنزل على موسى» ، وهو أيضاً مغاير للنصر ، لأن النصر هو الإعانة في الحرب بالسلاح ، ومن أجل ذلك عطف عليه { ونصروه }.واتّباع النور تمثيل للاقتداء بما جاء به القرآن : شبه حال المقتدي بهدي القرآن ، بحال الساري في الليل إذا رأى نوراً يلوح له اتّبعه ، لعلمه بأنه يجد عنده منجاة من المخاوف وأضرار السير ، وأجزاءُ هذا التمثيل استعارات ، فالإتباع يصلح مستعاراً للاقتداء ، وهو مجاز شائِع فيه ، والنور يصلح مستعاراً للقرآن؛ لأن الشيء الذي يعلّم الحقّ والرشد يشبّه بالنور ، وأحسن التمثيل ما كان صالحاً لاعتبار التشبيهات المفردة في أجزائه .والإشارة في قوله : { أولئك هم المفلحون } للتنويه بشأنهَم ، وللدلالة على أن المشار إليهم بتلك الأوصاف صاروا أحرياء بما يخبر به عنهم بعد اسم الإشارة كقوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ].وفي هذه الآية تنويه بعظيم فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم ، ويُلحق بهم من نصر دينه بعدهم .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
📘 هذه الجملة معترضة بين قصص بني إسرائيل جاءت مستطردة لمناسبة ذكر الرسول الأمي ، تذكيرً لبني إسرائيل بما وعد الله به موسى عليه السلام ، وإيقاظاً لأفهامهم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو مِصداق الصفات التي علمها الله موسى والخطاب ب { يا أيها الناس } لجميع البشر ، وضمير التكلم ضمير الرسول محمد صلى الله عليه وسلموتأكيد الخبر ب ( إن ) باعتبار أن في جملة المخاطبين منكرين ومترددين ، استقصاء في إبلاغ الدعوة إليهم .وتأكيد ضمير المخاطبين بوصف { جميعاً } الدال نصاً على العموم ، لرفع احتمال تخصيص رسالته بغير بني إسرائيل ، فإن من اليهود فريقاً كانوا يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيء ، ويزعمون إنه نبيُء العرب خاصة ، ولذلك لما قال رسول الله لابن صياد وهو يهودي أتشهد أني رسول الله ، قال ابن صياد : أشهد إنك رسول الأميين . وقد ثبت من مذاهب اليهود مذهب فريق من يهود أصفهان يدعون بالعيسوية وهم أتباع أبي عيسى الأصفهاني اليهودي القائِل بأن محمداً رسول الله إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل ، لأن اليهود فريقان : فريق يزعمون أن شريعة موسى لا تنسخ بغيرها ، وفريق يزعمون أنها لا تنسخ عن بني إسرائيل ، ويجوز أن يبعث رسول لغير بني إسرائيل .وانتصب { جميعاً } على الحال من الضمير المجرور ، ب ( إلى ) وهو فعيل بمعنى مفعوُل أي مجموعين ، ولذلك لزم الإفرادَ؛ لأنه لا يطابق موصوفه .{ الذي له ملك السماوات والأرض } نعت لاسم الجلالة ، دال على الثناء .وتقديم المجرور للقصر ، أي : لا لغيره مما يعبده المشركون ، فهو قصر إضافي للرد على المشركين .وجملة : { لا إله إلاّ هو } حال من اسم الجلالة في قوة متفرداً بالإلهية ، وهذا قصر حقيقي لتحقيق صفة الوحدانية ، لا لقصد الرد على المشركين .وجملة : { يُحيي ويميت } حال ،والمقصود من ذكر هذه الأوصاف الثلاثة : تذكير اليهود ، ووعظهم ، حيث جحدوا نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وزعموا أنه لا رسول بعد موسى ، واستعظموا دعوة محمد ، فكانوا يعتقدون أن موسى لا يشبهه رسول ، فذُكّروا بأن الله مالك السماوات والأرض ، وهو واهب الفضائِل ، فلا يُستعظم أن يرسل رسولاً ثم يرسل رسولاً آخر ، لأن الملك بيده ، وبأن الله هو الذي لا يشابهه أحد في ألوهيته ، فلا يكون إلهان للخلق ، وأما مرتبة الرسالة فهي قابلة للتعدد ، وبأن الله يحيي ويميت فكذلك هو يميت شريعة ويحيي شريعة أخرى ، وإحياء الشريعة إيجادها بعد أن لم تكن : لأن الإحياء حقيقته إيجاد الحياة في الموجود ، ثم يحصل من هذه الصفات إبطال عقيدة المشركين بتعدد الآلهة وبإنكار الحشر .وقد انتظم أن يفرع على هذه الصفات الثلاث الطلب الجازم بالإيمان بهذا الرسول في قوله : { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأُمي } والمقصود طلب الإيمان بالنبي الأمي؛ لأنه الذي سِيق الكلام لأجله ، ولكن لما صُدّر الأمر بخطاب جميع البشر وكان فيهم من لا يؤمن بالله ، وفيهم من يؤمن بالله ولا يؤمن بالنبي الأمّي ، جُمع بين الإيمان بالله والإيمان بالنبي الأمي في طلب واحد ، ليكون هذا الطلب متوجهاً للفرَق كلهم ، ليجمعوا في إيمانهم بين الإيمان بالله والنبي الأمي ، مع قضاء حق التأدب مع الله بجعل الإيمان به مقدماً على طلب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم للإشارة إلى أن الإيمان بالرسول إنما هو لأجل الإيمان بالله ، على نحو ما أشار إليه قوله تعالى :{ ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله } [ النساء : 150 ] ، وهذا الأسلوب نظير قوله تعالى : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه ، فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة } [ النساء : 171 ] فإنهم آمنوا بالله ورُسله ، وإنما المقصود زيادة النهي عن اعتقاد التثليث ، وهو المقصود من سياق الكلام .والإيمان بالله الإيمانُ بأعظم صفاته وهي الإلهية المتضمن إياها اسم الذات ، والإيمان بالرسول الإيمانُ بأخص صفاته وهو الرسالة ، وذلك معلوم من إناطة الإيمان بوصف الرسول دون اسمه العلم .وفي قوله : { ورسوله النبي الأمي } التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة لقصد إعلان تحقق الصفة الموعود بها في التوراة في شخص محمد صلى الله عليه وسلمووصف النبي الأمي بالذي يؤمن بالله وكلماته ، بطريق الموصولية للإيماء إلى وجه الأمر بالإيمان بالرسول ، وإنه لا معذرة لمن لا يؤمن به من أهل الكتاب ، لأن هذا الرسول يؤمن بالله وبكلمات الله ، فقد اندرج في الإيمان به الإيمان بسائِر الأديان الإلهية الحق ، وهذا نظير قوله تعالى ، في تفضيل المسلمين : { وتؤمنون بالكتاب كله } [ آل عمران : 119 ] وتقدم معنى الأمي قريباً .وكلمات جمع كلمة بمعنى الكلام مثل قوله تعالى : { كلاّ إنها كلمة هو قائِلها } [ المؤمنون : 100 ] أي قولُه : { رببِ ارْجِعُون لعليِّ أعْمل صالحاً فيما تركت } [ المؤمنون : 99 ، 100 ]. فكلمات الله تشمل كتبه ووحيه للرسل ، وأوِثر هنا التعبير بكلماته ، دون كتبه ، لأن المقصود الإيماء إلى إيمان الرسول عليه الصلاة والسلام بأن عيسى كلمة الله ، أي أثَرُ كلمته ، وهي أمر التكوين ، إذ كان تكّون عيسى عن غير سبب التكون المعتاد بل كان تكونه بقول الله { كُن } كما قال تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كُن فيكون } [ آل عمران : 59 ] ، فاقتضى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يؤمن بعيسى ، أي بكونه رسولاً من الله ، وذلك قطع لمعْذرة النصارى في التردد في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واقتضى أن الرسول يؤمن بأن عيسى كلمة الله ، وليس ابن الله ، وفي ذلك بيان للإيمان الحق ، ورد على اليهود فيما نسبوه إليه ، ورد على النصارى فيما غَلْوا فيه .والقول في معنى الاتّباع تقدم ، وكذلك القول في نحو { لعلكم تهتدون }.
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
📘 { ومن قوم موسى } عطف على قوله : { واتخذ قوم موسى من بعده من حُليهم عِجلاً } [ الأعراف : 148 ] الآية ، فهذا تخصيص لظاهر العموم الذي في قوله : { واتخذ قوم موسى } [ الأعراف : 148 ] قصد به الاحتراس لئلا يتوهم أن ذلك قد عمله قوم موسى كلُّهُم ، وللتنبيه على دفع هذا التوهم ، قُدّم { ومن قوم موسى } على متعلقه .وقوم موسى هم أتباع دينه من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فمن بقي متمسكاً بدين موسى ، بعد بلوغ دعوة الإسلام إليه ، فليس من قوم موسى ، ولكن يقال هو من بني إسرائيل أو من اليهود ، لأن الإضافة في { قوم موسى } تؤذن بأنهم متبعو دينه الذي من جملة أصوله ترقب مجيء الرسول الأمي صلى الله عليه وسلمو { أمة } : جماعة كثيرة متفقة في عمل يجمعها ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : { أمة واحدة } في سورة البقرة ( 213 ) ، والمراد أن منهم في كل زمان قبل الإسلام .و { يَهدون بالحق } أي يهدون الناس من بني إسرائيل أو من غيرهم ببث فضائل الدين الإلهي ، وهو الذي سماه الله بالحق ويعدلون أي يحكمون حكماً لا جَور فيه .وتقديم المجرور في قوله : { وبه يعدلون } للاهتمام به ولرعاية الفاصلة ، إذ لا مقتضي لإرادة القصر ، بقرينة قوله : { يهدون بالحق } حيث لم يقدم المجرور ، والمعنى : إنهم يحكمون بالعدل على بصيرة وعِلم ، وليس بمجرد مصادفة الحق عن جهل ، فإن القاضي الجاهل إذا قضى بغير علم كان أحدَ القاضيين اللذين في النار ، ولو صادف الحق ، لأنه بجهله قد استخف بحقوق الناس ولا تنفعه مصادفة الحق؛ لأن تلك المصادفة لا عمل له فيها .
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
📘 الفاء للتّرتيب والتسبب على قوله : { إنك من الصاغرين } [ الأعراف : 13 ] ثمّ قولِه { إنك من المنظرين } [ الأعراف : 15 ].فقد دلّ مضمون ذينك الكلامين أنّ الله خلق في نفس إبليس مَقدرة على إغواء النّاس بقوله : { إنك من الصاغرين } [ الأعراف : 13 ] وإنّه جعله باقياً متصرّفاً بقواه الشرّيرة إلى يوم البعث ، فأحسّ إبليس أنّه سيكون داعية إلى الضّلال والكفر ، بجبلةٍ قَلَبه الله إليها قَلْباً وهو من المَسخ النّفساني ، وإنّه فاعل ذلك لا محالة مع علمه بأنّ ما يصدر عنه هو ضلال وفساد ، فصدور ذلك منه كصدور النّهش من الحيّة ، وكتحرّك الأجفان عند مرور شيء على العين ، وإن كان صاحب العين لا يريد تحريكهما .والباء في قوله : { فبما أغويتني } سببيْة وهي ظرف مستقِر واقع موقع الحال من فاعل { لأقعدن } ، أي أقسم لهم حال كون ذلك مني بسبب إغوائك إياي . واللاّم في { لأقعدن } لام القسم : قصد تأكيد حصول ذلك وتحقيق العزم عليه .وقدم المجرور على عامله لإفادة معنى التّعليل ، وهو قريب من الشّرط فلذلك استحقّ التّقديم فإنّ المجرور إذا قُدم قد يفيد معنى قريباً من الشرطيّة ، كما في قول النّبي صلى الله عليه وسلم " كما تكونوا يُوَلَّى عليكم " وفي رواية جزم تكونوا مع عدم معاملة عامله معاملة جواب الشّرط بعلامة الجزم فلم يرو «يولى» إلاّ بالألف في آخره على عدم اعْتبار الجزم . وذلك يحصل من الاهتمام بالمتعلِّق ، إذ كان هو السّبب في حصول المتعلَّق به ، فالتّقديم للاهتمام ، ولذلك لم يكن هذا التّقديم منافياً لتصدير لام القسم في جملتها ، على أنّا لا نلتزم ذلك فقد خولف في كثير من كلام العرب . وما مصدريّة ، والقعود كناية عن الملازمة كما في قول النّابغة :قُعوداً لدى أبياتهم يَثْمدونهم ... رمَى اللَّهُ في تلك الأكُف الكوانعأي ملازمين أبياتاً لغيرهم يُرِد الجلوس ، إذ قد يكونون يسألون واقفين ، وماشين ، ووجه الكناية هو أنّ ملازمة المكان تستلزم الإعياء من الوقوف عنده ، فيقعد الملازم طلباً للرّاحة ، ومن ثم أطلق على المستجير اسم القَعيد ، ومن إطلاق القعيد على الملازم قوله تعالى : { إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ ق : 17 ] أي ملازم إذ الملَك لا يوصف بقعود ولا قيام .ولمّا ضمن فعل : { لأقعدن } معنى الملازمة انتصب { صراطك } على المفعولية ، أو على تقدير فعل تضمّنه معنى لأقعدن تقديره : فامْنَعَنّ صراطك أو فَأقْطَعَنّ عنهم صراطك ، واللاّم في لهم للأجل كقوله : { واقعدوا لهم كل مرصد } [ التوبة : 5 ].وإضافة الصّراط إلى اسم الجلالة على تقدير اللاّم أي الصّراط الذي هو لك أي الذي جعلته طريقاً لك ، والطّريق لله هو العمل الذي يحصل به ما يرضي الله بامتثال أمره ، وهو فعل الخيرات ، وترك السيّئات ، فالكلام تمثيلُ هيئة العازمين على فعل الخير ، وعزمهم عليه ، وتعرّض الشّيطان لهم بالمنع من فعله ، بهيئة السّاعي في طريق إلى مقصد ينفعه وسعيه إذا اعترضه في طريقه قاطع طريق منعه من المرور فيه .والضّمير في { لهم } ضمير الإنس الذين دلّ عليهم مقام المحاورة ، التي اختصرت هنا اختصاراً دعا إليه الاقتصار على المقصود منها ، وهو الامتنان بنعمة الخلق ، والتّحذير من كيد عدوّ الجنس ، فتفصيل المحاورة مشعر بأنّ الله لمّا خلق آدم خاطب أهل الملإ الأعلى بأنّه خلقه ليَعْمر به وبنسله الأرضَ ، كما أنبأ بذلك قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] فالأرض مخلوقة يومئذ ، وخلق الله آدم ليعمرها بذريته وعلم إبليس ذلك من إخبار الله تعالى الملائكةَ فحكى الله من كلامه ما به الحاجة هنا : وهو قوله : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } الآية وقد دلّت آية سورة الْحِجْر على أنّ إبليس ذكر في محاورته ما دلّ على أنّه يريد إغواءَ أهل الأرض في قوله تعالى : { قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلَصين } [ الحجر : 39 ، 40 ] فإن كان آدم قد خلق في الجنّة في السّماء ثمّ أهبط إلى الأرض فإن علم إبليس بأنّ آدم يصير إلى الأرض قد حصل من إخبار الله تعالى بأن يجعله في الأرض خليفة ، فعلم أنّه صائر إلى الأرض بعد حين ، وإن كان آدم قد خُلق في جنّة من جنّات الأرض فالأمر ظاهر ، وتقدّم ذلك في سورة البقرة .وهذا الكلام يدلّ على أنّ إبليس عَلِم أنّ الله خلق البشر للصّلاح والنّفععِ ، وأنّه أودع فيهم معرفة الكمال ، وأعانهم على بلوغه بالإرشاد ، فلذلك سُمِّيت أعمال الخير ، في حكاية كلام إبليس ، صراطاً مستقيماً ، وإضافه إلى ضمير الجلالة ، لأنّ الله دعا إليه وارد من النّاس سلوكه ، ولذلك أيضاً ألزم { لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لأتيناهم من بين أيديهم ومن خلفهم }.وبهذا الاعتبار كان إبليس عدواً لبني آدم ، لأنّه يطلب منهم ما لم يُخلقوا لأجله وما هو مناففٍ للفطرة التي فطر الله عليها البشر ، فالعداوة متأصّلة وجبليّة بين طبع الشّيطان وفطرة الإنسان السّالمة من التّغيير ، وذلك ما أفصح عنه الجَعل الإلهي المشار إليه بقوله : { بعضكم لبعض عدو } [ البقرة : 36 ] ، وبه سيتّضح كيف انقلبت العداوة ولاية بين الشّياطين وبين البشر الذين استحبُّوا الضّلال والكفر على الإيمان والصّلاح .
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
📘 { وقطعناهم اثنتى عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا }.عطف على قوله { ومن قوم موسى أمة } [ الأعراف : 159 ] إلخ ، فإن ذلك التقطيع وقع في الأمة الذين يهدون بالحق .والتقطيع شدة في القطع وهو التفريق ، والمراد به التقسيم ، وليس المراد بهذا الخبر الذم ، ولا بالتقطيع العقاب ، لأن ذلك التقطيع منة من الله ، وهو من محاسن سياسة الشريعة الموسوية ، ومن مقدمات نظام الجماعة كما فصله السفر الرابع ، وهو سفر عدد بني إسرائيل وتقسيمهم ، وهو نظير ما فعل عمر بن الخطاب من تدوين الديوان ، وهم كانوا منتسبين إلى أسباط إسحاق ، ولكنهم لم يكونوا مقسمين عشائِر لمّا كانوا في مصر ، ولمّا اجتازوا البحر ، فكان التقسيم بعد اجتيازهم البحر الأحمر ، وقبلَ انفجار العيون ، وهو ظاهر القرآن في سورة البقرة وفي هذه السورة لقوله فيهما : { قد علم كل أناس مشربهم } وذكرهُ هنا الاستسْقاء عقب الانقسام إلى اثنتي عشرة أمة ، وذلك ضروري أن يكون قبل الاستسْقاء ، لأنه لو وقع السقي قبل التقسيم لحصل من التزاحم على الماء ما يفضي إلى الضر بالقوم ، وظاهر التوراة أنهم لما مروا بِحُوريب ، وجاء شعيب للقاء موسى : إن شعيباً أشار على موسى أن يقيم لهم رؤساء ألوف ، ورؤساء مِئات ، ورؤساء خماسين ، ورؤساء عشرات ، حسب الإصحاح 18 من الخروج ، وذلك يقتضي أن الأمة كانت منتسبة قبائِل من قبلُ ، ليسهل وضع الرؤساء على الأعداد ، ووقع في السنة الثانية من خروجهم أن الله أمر موسى أن يحصي جميع بني إسرائيل ، وأن مِوسى وهارون جمعا جميع بني إسرائيل فانتسبوا إلى عشائرهم وبيوت آبائِهم ، كما في الإصحاح الأول من سفر العدد ، وتقدم ذكر الأسباط عند قوله تعالى : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } في سورة البقرة ( 136 ).وجيء باسم العدد بصيغه التأنيث في قوله : اثنتي عشرة } لأن السبط أطلق هنا على الأمة فحذف تمييز العدد لدلالة قوله : { أمماً } عليه .و { أسباطاً } حال من الضمير المنصوب في { وقطّعناهم } ولا يجوز كونه تمييزاً لأن تمييز اثنتي عشرة ونحوه لا يكون إلاّ مفرداً .وقوله : { أمماً } بدل من أسباط أو من أثنتي عشرة ، وعدل عن جعل أحد الحالين تمييزاً في الكلام إيجازاً وتنبيهاً على قصد المنة بكونهم أمماً من آباء أخوة . وأن كل سبط من أولئك قد صار أمة ، قال تعالى : { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثّرَكم } [ الأعراف : 86 ] مع ما يذكر به لفظ أسباط من تفضيلهم ، لأن الأسباط أسباط إسحاق بن إبراهيم عليه السلام .هذا مظهر من مظاهر حكمة تقسيمهم إلى اثني عشر سبطاً ولم يعطف هذا الخبر بالفاء لإفادة أنه منة مستقلة .وتفسير هذه الآية مضى في مشابهتها عند قوله : { وإذ استسقى موسى لقومه } في سورة البقرة ( 60 ).وانبجست } مطاوع بجس إذا شق ، والتعقيب الذي دلت عليه الفاء تعقيب مجازي تشبيهاً لقصر المهلة بالتعقيب ونظايره كثيرة في القرآن ، ومنه ما وقع في خبر الشّرب إلى أم زرع قولها : «فلقي امرأة معها ولدان كالفهديْن يلعبان من تحت خصرها برُمّانتين فطلّقني ونكحها» إذ التقدير فأعجبته فطلقني ونكحها .ضمائر الغيبة راجعة إلى قوم موسى ، وهذه الآية نظير ما في سورة البقرة سوى اختلاف بضميري الغيبة هنا وضميري الخطاب هناك لأن ما هنالك قصد به التوبيخ .وقد أسند فعل ( قيل ) في قوله : { وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية } [ الأعراف : 161 ] إلى المجهول وأسند في سورة البقرة ( 58 ) إلى ضمير الجلالة { وإذ قلنا } لظهور أن هذا القول لا يصدر إلاّ من الله تعالى .
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ ۚ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
📘 هذه الآية أيضاً نظير ما في سورة البقرة إلاّ أنه عبر في هذه الآية بقوله : { اسكنوا } وفي سورة البقرة ( 58 ) بقوله : { ادخلوا } لأن القولين قيلا لهم ، أي قيل لهم : ادخلوا واسكنوها ففُرّق ذلك على القصتين على عادة القرآن في تغيير أسلوب القصص استجداداً لنشاط السامع .وكذلك اختلاف التعبير في قوله هنا : { وكلوا } وقوله في سورة البقرة ( 58 ) { فكلوا } فإنه قد قيل لهم بما يرادف فاء التعقيب ، كما جاء في سورة البقرة ، لأن التعقيب معنى زائِد على مطلق الجمع الذي تفيده واو العطف ، واقتصر هنا على حكاية أنه قيل لهم ، وكانت آية البقرة أولى بحكاية ما دلت عليه فاء التعقيب ، لأن آية البقرة سيقت مساق التوبيخ فناسبها ما هو أدل على المنة ، وهو تعجيل الانتفاع بخيرات القرية ، وآيات الأعراف سيقت لمجرد العبرة بقصة بني إسرائيل .ولأجل هذا الاختلاف مُيزت آية البقرة بإعادة الموصول وصلته في قوله : { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً } [ البقرة : 59 ] وعوض عنه هنا بضمير الذين ظلموا ، لأن القصد في آية البقرة بيان سبب إنزال العذاب عليهم مرتين أشير إلى أولاهما بما يومىء إليه الموصول من علة الحكم ، وإلى الثانية بحرف السببية ، واقتصر هنا على الثاني .وقد وقع في سورة البقرة ( 59 ) لفظ { فأنزلنا } ووقع هنا لفظ { فأرسلنا } ولما قيد كلاهما بقوله : { من السماء } كان مفادهما واحداً ، فالاختلاف لمجرد التفنن بين القصتين .وعبر هنا { بما كانوا يظلمون } وفي البقرة ( 59 ) { بما كانوا يفسقون } لأنه لما اقتضى الحال في القصتين تأكيدَ وصفهم بالظلم وأدي ذلك في البقرة ( 59 ) بقوله : { فأنزلنا على الذين ظلموا } استثقلت إعادة لفظ الظلم هنالك ثالثة ، فعُدل عنه إلى ما يفيد مفاده ، وهو الفسق ، وهو أيضاً أعم ، فهو أنسب بتذييل التوبيخ ، وجيء هنا بلفظ يظلمون } لئلا يفوت تسجيل الظلم عليهم مرة ثالثة ، فكان تذييل آية البقرة أنسب بالتغليط في ذمهم ، لأن مقام التوبيخ يقتضيه .
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ
📘 ووقع في هذه الآية { فبدل الذين ظلموا منهم } ولم يقع لفظ { منهم } في سورة البقرة ، ووجه زيادتها هنا التصريحُ بأن تبديل القول لم يصدر من جميعهم ، وأجمل ذلك في سورة البقرة لأن آية البقرة لما سيقت مساق التوبيخ ناسب إرهابهم بما يوهم أن الذين فعلوا ذلك هم جميع القوم ، لأن تبعات بعض القبيلة تحمل على جماعتها .وقدم في سورة البقرة ( 58 ) قوله : { وادخلوا الباب سجداً } على قوله : { وقولوا حطة } [ البقرة : 58 ] وعُكس هنا وهو اختلاف في الإخبار لمجرد التفنن ، فإن كلا القولين واقع قُدّم أو أُخّر .وذكر في البقرة ( 58) : { وكلوا منها حيث شئتم رَغَداً } ولم يذكر وصف رغداً هنا ، وإنما حكي في سورة البقرة ، لأن زيادة المنة أدخل في تقوية التوبيخ .وجملة سنزيد المحسنين } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن قوله : { تُغفرْ لكم } في مقام الامتنان بإعطاء نعم كثيرة مما يثير سؤال سائِل يقول : وهل الغفران هو قصارىَ جزائِهم؟ فأجيب بأن بعده زيادة الأجر على الإحسان ، أي على الامتثال .وفي نظير هذه الآية من سورة البقرة ( 58 ) ذكرت جملة { وسنزيد المحسنين } معطوفة بالواو على تقدير : قلنا لهم ذلك وقلنا لهم سنزيد المحسنين ، فالواو هنالك لحكاية الأقوال ، فهي من الحكاية لا من المحكي أي قلنا وقلنا سنزيد .وقرأ نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب { تُغفر } بمثناة فوقية مبنياً للمجهول ، و { خطيئاتُكم } بصيغة جمع السلامة للمؤنث وقرأه ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : { نَغْفر } بالنون مبنياً للفاعل و { خطيئاتِكم } بصيغة جمع المؤنث السالم أيضاً وقرأه أبو عمرو { نغفر } بالنون و { خطاياكم } بصيغة جمع التكسير ، مثل آية البقرة ، وقرأ ابن عامر : { تُغفر } بالفوقية وخطيئتكم بالإفراد .والاختلاف بينها وبين آية البقرة في قراءة نافع ومن وافقه : تفنن في حكاية القصة .
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
📘 غُيّر أسلوب الخبر عن بني إسرائيل هُنا : فابتدىءَ ذِكرُ هذه القصة بطلب أن يسأل سائل بني إسرائيل الحاضرين عنها ، فنعلم من ذلك أن لهذه القصص الآتية شأناً غير شأن القصص الماضية ، ولا أحسب ذلك إلاّ من أجل أن هذه القصة ليست مما كُتب في توراة اليهود ولا في كتب أنبيائهم ، ولكنها مما كان مروياً عن أحبارهم ، ولذلك افتتحت بالأمر بسؤالهم عنها ، لإشعار يهود العصر النبوي بأن الله أْطلع نبيّه عليه الصلاة والسلام عليها ، وهم كانوا يكتمونها ، وذلك أن الحوادث التي تكون مواعظ للأمة فيما اجترحته من المخالفات والمعاصي تبقي لها عَقب الموعظة أثراً قد تعيّر الأمة به ، ولكن ذلك التعيير لا يؤبه به في جانب ما يحصل من النفع لها بالموعطة ، فالأمة في خُوَيْصّتها لا يهتم قادتها ونصحاؤها إلاّ بإصلاح الحال ، وإن كان في ذكر بعض تلك الأحوال غضاضة عندها وامتعاض ، فإذا جاء حكم التاريخ العام بين الأمم تناولتْ الأمم أحوال تلك الأمة بالحكم لها وعليها ، فبقيت حوادث فلتاتها مغمزاً عليها ومعرّة تُعير بها ، وكذلك كان شَأن اليهود لما أضاعوا مُلكهم ووطنهم وجاوروا أمماً أخرى فأصبحوا يكتمون عن أولئك الجيرة مَسَاوي تاريخهم ، حتى أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم فعلّمه من أحوالهم ما فيه معجزة لأسلافهم ، وما بقي معرّة لأخلافهم ، وذلك تَحدّ لهم ، ووخز على سوء تلقيهم الدعوة المحمدية بالمكر والحسد .فالسؤال هنا في معنى التقرير لتقريع بني إسرائيل وتوبيخهم وَعد سوابق عصيانهم أي ليس عصيانهم إياك ببدع ، فإن ذلك شنشنة قديمة فيهم ، وليس سؤالَ الاستفادة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلم بذلك من جانب ربه تعالى ، وهو نظير همزة الاستفهام التقريري فوزان { وأسألهم عن القرية } وزان : أعدَوْتُم في السَبْت ، فإن السؤال في كلام العرب على نوعين أشهرهما أن يسأل السائِل عما لا يعلمه ليعلمه ، والآخران يسأل على وجه التقرير حين يكون السائِل يعلم حصول المسؤول عنه ، ويعلم المسؤول أن السائل عالم وأنه إنما سأله ليقرره .وجملة : { واسألهم } عطف على جملة : { وإذْ قيل لهم اسكنوا هذه القرية } [ الأعراف : 161 ] واقعة معترضة بين قصص الامتنان وقصص الانتقام الآتية في قوله : { وقَطّعنْاهم } [ الأعراف : 168 ] ، ومناسبة الانتقال إلى هذه القصة إن في كلتا القصتين حديثا يتعلق بأهل قرية من قرى بني إسرائيل .وتقدم ذكر القرية عند قوله تعالى : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } الآية من سورة البقرة ( 65 ).وهذه القرية قيل : ( أْيلة ) وهي المسماة اليوم ( العقبة ) وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر قرب شبه جزيرة طور سينا ، وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر ، وكانت من مملكة إسرائيل في زمان داود عليه السلام ، ووصفت بأنها حاضرة البحر بمعنى الاتصال بالبحر والقرببِ منه ، لأن الحضور يستلزم القرب ، وكانت ( أيلة ) متصلة بخليج من البحر الأحمر وهو القلزم .وقيل هي ( طبرية ) وكانت طبرية تدعى بحيرة طبرية ، وقد قال المفسرون : إن هذه القصة التي أشير إليها في هذه الآية كانت في مدة داود .وأطلقت القرية على أهلها بقرينة قوله : إذ يعْدُون } أي أهلها .والمراد السؤال عن اعتدائهم في السبت بقرينة قوله : { إذ يعدون في السبت } الخ فقوله : { إذ يعدون في السبت } بدل اشتمال من القرية وهو المقصود بالحكم . فتقدير الكلام : وأسألهم إذ يعدُو أهل القرية في السبت و { إذْ } فيه اسم زمان للماضي ، وليست ظرفاً .والعدوان الظلم ومخالفة الحق ، وهو مشتق من العدوْ وبسكون الدال وهو التجاوز .والسبت علم لليوم الواقع بعد يوم الجمعة ، وتقدم عند قوله تعالى : { وقُلنا لهم لا تَعدُوا في السبت } في سورة النساء ( 154 ).واختيار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم .وتعدية فعل يعدون } إلى { في السبت } مؤذن بأن العدوان لأجل يوم السبت ، نظراً إلى ما دلت عليه صيغة المضارع من التكرير المقتضي أن عدوانهم يتكرر في كل سبت ، ونظراً إلى أن ذكر وقت العدوان لا يتعلق به غرض البليغ ما لم يكن لذلك الوقت مزيد اختصاص بالفعل فيعلم أن الاعتداء كان مَنوطاً بحق خاص بيوم السبت ، وذلك هو حق عدم العمل فيه ، إذ ليس ليوم السبت حق في شريعة موسى سوى أنه يحرم العمل فيه ، وهذا العمل هو الصيد كما تدل عليه بقية القصة .وهدف { في } للظرفية ، لأن العدوان وقع في شأن نقص حرمة السبت .وقوله : { إذ تأتيهم حيتانهم } ظرف ل { يعْدُون } أي يَعْدون حين تأتيهم حيتانهم .والحيتان جمع حوت ، وهو السمكة ، ويطلق الحوت على الجمع فهو مما استوى فيه المفرد والجمع مثل فُلْك ، وأكثر ما يطلق الحوت على الواحد ، والجمعُ حيتان .وقوله : { شُرّعاً } هو جمع شارع ، صفة للحوت الذي هو المفرد ، قال ابن عباس : أي ظاهرة على الماء ، يعني أنها قريبة من سطح البحر آمنة من أن تصاد ، أي أن الله ألهمها ذلك لتكون آية لبني إسرائيل على أن احترام السبت من العمل فيه هو من أمر الله ، وقال الضحاك : { شُرَعاً } متتابعة مصطفة ، أي فهو كناية عن كثرة ما يَرد منها يومَ السبت .وأحسب أن ذلك وصف من شَرَعَتْ الإبل نحو الماء أي دخلتْ لتشرب ، وهي إذا رعها الرعاة تسابقت إلى الماء فاكتظت وتراكمت وربما دخلت فيه ، فمثلت هيئة الحيتان ، في كثرتها في الماء بالنعم الشارعة إلى الماء وحسّن ذلك وجود الماء في الحالتين ، وهذا أحسن تفسيراً .والمعنى : أنهم يَعْدون في السبت ولم يمتثلوا أمر الله بترك العمل فيه ، ولا اتعظوا بآية إلهام الحوت أن يكون آمناً فيه .وقوله : { يوم سبتهم } يجوز أن يكون لفظ سبت مصدَر سبتَ إذا قطع العمل بقرينة ظاهر قوله : { ويوم لا يسبتون } فإنه مضارع سَبت ، فيتطابق المثبت والمنفي فيكون المعنى : إنهم إذا حفظوا حرمة السبت ، فأمسكوا عن الصيد في يوم السبت ، جاءت الحيتان يومئذٍ شُرعاً آمنة ، وإذا بعثهم الطمع في ورفة الصيد فأعدُّوا له آلاته ، وعزموا على الصيد لم تأتهم .ويجوز أن يكون لفظ { سبتهم } بمعنى الاسم العلم لليوم المعروف بهذا الاسم من أيام الأسبوع ، وإضافته إلى ضميرهم اختصاصه بهم بما أنهم يهود ، تعريضاً بهم لاستحلالهم حرمة السبت فإن الاسم العلم قد يضاف بهذا القصد ، كقول أحد الطائينَ :عَلاَ زيدْنا يوم النّقا رأسَ زيدِكم ... بأبيض ماضي الشفرتين يَمانِوقول ربيعة بن ثابت الأسدي :لشتان ما بين اليزيدين في النّدى ... يَزيدِ سُليْم والأغَرّ ابننِ حاتموعلى الوجهين يجوز في قوله : { ويوم لا يسبتون } أن يكون المعنى والأيامَ التي لا يحرم العمل فيها ، أي أيام الأسبوع ، لا تأتي فيها الحيتان ، وأن يكون المعنى وأيامَ السبوت التي استحلوها فلم يكفوا عن الصيد فيها يَنقطع فيها إتيان الحيتان ، ولا يخفى أن لا يثار هذا الأسلوب في التعبير عن السبت خصوصية بلاغية ، ترمي إلى إرادة كلا المعنيين .فالمقصود من الآية الموعظة والعبرة وليست منة عليهم ، وقرينته قوله تعالى : { كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } أي نمتحن طاعتهم بتعريضهم لداعي العصيان وهو وجود المشتهى الممنوع .وجملة { كذلك نبلوهم } مستأنفة استئنافاً بيانياً لجواب سؤال من يقول : ما فائدة هذه الآية مع علم الله بأنهم لا يَرعوون عن انتهاك حرمة السبت .والإشارة إلى البلوى الدال عليها { نبلوهم } أي مثل هذا الابتلاء العظيم نبلوهم ، وقد تقدم القول في نظيره من قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ).وأصل البلوى الاختبار ، والبلوى إذا أسندت إلى الله تعالى كانت مجازاً عقلياً أي ليبلَو الناس تمسكهم بشرائِع دينهم .والباء للسببية و ( ما ) مصدرية ، أي بفسقهم ، أي توغلهم في العصيان أضراهم على الزيادة منه ، فإذا عرض لهم داعِيهِ خفُّوا إليه ولم يرقبوا أمر الله تعالى .
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
📘 جملة : { وإذ قالت أمة منهم } عطف على قوله : { إذ يعدون } [ الأعراف : 163 ] والتقدير : واسألَ بني إسرائيل إذ قالت أمة منهم ، فإذْ فيه اسم زمان للماضي وليست ظرفاً ، ولها حكم { إذْ } [ الأعراف : 163 ] أختها ، المعطوفة هي عليها ، فالتقدير : واسألهم عن وقت قالت أمة ، أي عن زمنَ قول أمة منهم ، والضمير المجرور بمن عائِد إلى ما عاد إليه ضمير { أسألهم } [ الأعراف : 163 ] وليس عائداً إلى القرية ، لأن المقصود توبيخ بني إسرائيل كلهم ، فإن كان هذا القول حصل في تلك القرية كما ذكره المفسرون كان غير منظور إلى حصوله في تلك القرية ، بل منظوراً إليه بأنه مظهر آخر من مظاهر عصيانهم وعتوهم وقلة جدوى الموعظة فيهم ، وأن ذلك شأن معلوم منهم عند علمائهم وصلحائهم ، ولذلك لما عطفت هذه القصة أعيد معها لفظ اسم الزمان فقيل : { وإذْ قالت أمة } ولم يقل : وقالت أمة .والأمة الجماعة من الناس المشتركة في هذا القول ، قال المفسرون : إن أمة من بني إسرائيل كانت دائبة على القيام بالموعظة والنهى عن المنكر ، وأمة كانت قامت بذلك ثم أيست من إتعاظ الموعوظين وأيقنت أن قد حقت على الموعوظين المصمين آذانهم كلمة العذاب ، وأمة كانت سادرة في غلوائها ، لا ترعوي عن ضلالتها ، ولا ترقب الله في أعمالها .وقد أجملت الآية ما كان من الأمة القائلة إيجازاً في الكلام ، اعتماداً على القرينة لأن قولهم : { الله مهلكهم } يدل على أنهم كانوا منكرين على الموعوظين ، وإنهم ما علموا أن الله مهلكهم إلاّ بعدَ أن مارسوا أمرهم ، وسبروا غورهم ، ورأوا أنهم لا تغني معهم العظات ، ولا يكون ذلك إلاّ بعد التقدم لهم بالموعظة ، وبقرينة قوله بعد ذلك { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } إذ جعل الناس فريقين ، فعلمنا أن القائلين من الفريق الناجي ، لأنهم ليسوا بظالمين ، وعلمنا أنهم ينهون عن السوء .وقد تقدم ذكر الوعظ عند قوله تعالى : { فأعرض عنهم وعظْهم } في سورة النساء ( 63 ) وعند قوله آنفاً { موعظة وتفصيلاً لكل شيء } في هذه السورة ( 145 ).واللام في { لمَ تعظون } للتعليم ، فالمستفهم عنه من نوع العلل ، والاستفهام إنكاري في معنى النفي ، فيدل على انتفاء جميع العلل التي من شأنها أن يوعظَ لتحصيلها ، وذلك يفضي إلى اليأس من حصول إتعاظهم ، والمخاطب ب { تعظون } أمة أخرى .ووصف القوم بأن الله مهلكهم : مبني على أنهم تحققتْ فيهم الحال التي أخبر الله بأنه يهلك أو يعذب من تحققتْ فيه ، وقد أيقن القائلون بأنها قد تحققت فيهم ، وأيقن المقول لهم بذلك حتى جاز أن يصفهم القائلون للمخاطبين بهذا الوصف الكاشف لهم بأنهم موصوفون بالمصير إلى أحد الوعيدين .واسما الفاعل في قوله : { مهلكهم أو معذبهم } مستعملان في معنى الاستقبال بقرينة المقام ، وبقرينة التردد بين الإهلاك والعذاب ، فإنها تؤذن بأن أحد الأمرين غير معين الحصول ، لأنه مستقبل ولكن لا يخلو حالهم عن أحدهما .وفصلت جملة { قالوا } لوقوعها في سياق المحاورة ، كما تقدم غير مرة أي قال المخاطبون بِ { لمَ تعظون قوماً } الخ .والمعذرة بفتح الميم وكسر الذال مصدر ميمي لفعل ( اعتذر ) على غير قياس ، ومعنى اعتذر أظهر العذر بضم العين وسكون الذال والعذر السبب الذي تبطل به المؤاخذة بذنب أو تقصير ، فهو بمنزلة الحجة التي يبديها المؤاخَذ بذنب؛ ليظهر أنه بريء مما نسب إليه ، أو متأول فيه ، ويقال : عذَره إذا قبل عذره وتحقق براءته ، ويعدّى فعل الاعتذار بإلى لما فيه من معنى الإنهاء والإبلاغ .وارتفع { معذرة } على أنه خبر لمبتدإ محذوف دل عليه قول السائلين { لم تعظون } والتقديرُ موعظتنا معذرة منا إلى الله .وبالرفع قرأه الجمهور ، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على المفعول لأجله أي وعظناهم لأجل المعذرة .وقوله : { ولعلهم يتقون } علة ثانية للاستمرار على الموعظة أي رجاء لتأثير الموعظة فيهم بتكرارها .فالمعنى : أن صلحاء القوم كانوا فريقين . فريق منهم أيِس من نجاح الموعظة وتحقق حلول الوعيد بالقوم ، لتوغلهم في المعاصي ، وفريق لم ينقطع رجاؤُهم من حصول أثر الموعظة بزيادة التكرار ، فأنكر الفريقُ الأول على الفريق الثاني استمرارهم على كلفة الموعظة . واعتذر الفريق الثاني بقولهم : { معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون } فالفريق الأول أخذوا بالطرف الراجح الموجب للظن . والفريق الثاني أخذوا بالطرف المرجوح جمعاً بينه وبين الراجح لقصد الاحتياط ، ليكون لهم عذراً عند الله إن سألهم لماذا أقلعتم عن الموعظة ولما عسى أن يحصل من تقوى الموعوظين بزيادة الموعظة ، فاستعمال حرف الرجاء في موقعه ، لأن الرجاء يقال على جنسه بالتشكيك فمنه قوي ومنه ضعيف .
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
📘 وضمير { نسوا } عائد إلى { قوماً } والنسيان مستعمل في الإعراض المفضي إلى النسيان كما تقدم عند قوله تعالى : { فلما نسوا ما ذُكروا به } في سورة الأنعام ( 44 ).والذين ينهون عن السوء } هم الفريقان المذكوران في قوله آنفاً { وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً } إلى قوله { ولعلهم يتقون } ، و { الذين ظلموا } هم القوم المذكورون في قوله : { قوماً الله مُهلكهم } إلخ .والظلم هنا بمعنى العصيان ، وهو ظلم النفس ، حق الله تعالى في عدم الامتثال لأمره .و { بِيسٍ } قرأه نافع وأبو جعفر بكسر الباء الموحدة مشبعة بياء تحتية ساكنة وبتنوين السين على أن أصله بئْس بسكون الهمزة فخففت الهمزة ياء مثل قولهم : ذِيب في ذِئْب .وقرأه ابن عامر { بئْس } بالهمزة الساكنة وإبقاء التنوين على أن أصله بَئيس .وقرأه الجمهور { بَئيس } بفتح الموحدة وهمزة مكسورة بعدها تحتية ساكنة وتنوين السين على أنه مثالُ مبالغة من فعل بَؤُس بفتح الموحدة وضم الهمزة إذا أصابه البؤس ، وهو الشدة من الضر .أو على أنه مصدر مثل عَذير ونَكير .وقرأه أبو بكر عن عاصم { بَيْئسَ } بوزنَ صَيْقل ، على أنه اسم للموصوف بفعل البؤس مبالغة ، والمعنى ، على جميع القراءات : أنه عذاب شديد الضر .وقوله : { بما كانوا يفسقون } تقدم القول في نظيره قريباً .وقد أجمل هذا العذاب هنا ، فقيل هو عذاب غير المسخ المذكور بعده ، وهو عذاب أصيب به الذين نَسوا ما ذُكروا به ، فيكون المسخ عذاباً ثانياً أصيب به فريق شاهدوا العذاب الذي حل بإخوانهم ، وهو عذاب أشد ، وقع بعد العذاب البيس ، أي أن الله أعذر إليهم فابتدأهم بعذاب الشدة ، فلما لم ينتهوا وعتوا ، سلّط عليهم عذاب المسخ .وقيل : العذاب البِئس هو المسخ ، فيكون قوله : { فلما عتوا عما نهوا عنه } بياناً»جمال العذاب البئس ، ويكون قوله : { فلما عتوا } بمنزلة التأكيد لقوله : { فلما نسوا } صيغ بهذا الأسلوب لتهويل النسيان والعتو ، ويكون المعنى : أن النسيان ، وهو الإعراض ، وقع مقارناً للعتو .و { ما ذكّروا به } و { ما نُهوا عنه } ما صْدَقُهما شيء واحد ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : فلما نسوا وَعتوا عما نهوا عنه وذُكروا به قلنا لهم الخ ، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى هذا الأسلوب من الإطناب لتهويل أمر العذاب ، وتكثير أشكاله ، ومقام التهويل من مقتضيات الأطناب ، وهذا كإعادة التشبيه في قول لبيد :فتنازعا سبطاً يطير ظلاله ... كدخان مُشعَلة يشبّ ضرامهامشمولةٍ غُلِثت بنابت عَرفج ... كدُخان نار ساطع أسنامهاولكن أسلوب الآية أبلغ وأوفر فائدة ، وأبعد عن التكرير اللفظي ، فما في بيت لبيد كلامٌ بليغ ، وما في الآية كلام معجز .
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ
📘 وقيل : العذاب البِئس هو المسخ ، فيكون قوله : { فلما عتوا عما نهوا عنه } بياناً»جمال العذاب البئس ، ويكون قوله : { فلما عتوا } بمنزلة التأكيد لقوله : { فلما نسوا } صيغ بهذا الأسلوب لتهويل النسيان والعتو ، ويكون المعنى : أن النسيان ، وهو الإعراض ، وقع مقارناً للعتو .و { ما ذكّروا به } و { ما نُهوا عنه } ما صْدَقُهما شيء واحد ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : فلما نسوا وَعتوا عما نهوا عنه وذُكروا به قلنا لهم الخ ، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى هذا الأسلوب من الإطناب لتهويل أمر العذاب ، وتكثير أشكاله ، ومقام التهويل من مقتضيات الأطناب ، وهذا كإعادة التشبيه في قول لبيد :فتنازعا سبطاً يطير ظلاله ... كدخان مُشعَلة يشبّ ضرامهامشمولةٍ غُلِثت بنابت عَرفج ... كدُخان نار ساطع أسنامهاولكن أسلوب الآية أبلغ وأوفر فائدة ، وأبعد عن التكرير اللفظي ، فما في بيت لبيد كلامٌ بليغ ، وما في الآية كلام معجز .و ( العتو ) تقدم عند قوله تعالى : { فعقروا الناقة وعَتوا عن أمر ربهم } في هذه السورة ( 77 ).وقوله : { قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين } في سورة البقرة ( 65 ) ، ولأجل التشابه بين الآيتين ، وذكر العدْوِ في السبت فيهما ، وذكرِه هنا في الإخبار عن القرية ، جزم المفسرون بأن الذين نسوا مَا ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه هم أهل هذه القرية ، وبأن الأمة القائلة { لم تعظون قوماً } هي أمة من هذه القرية فجزموا بأن القصة واحدة ، وهذا وإن كان لا ينبو عنه المقام ، كما أنه لا يمنعُ تشابه فريقين في العذاب ، فقد بينتُ أن ذلك لا ينافي جعل القصة في معنى قصتين من جهة الاعتبار .
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ۖ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
📘 عطف على جملة : { واسألهم } [ الأعراف : 163 ] بتقدير اذكر ، وضمير { عليهم } عائد إلى اليهود المتقدم ذكرهم بالضمير الراجع إليهم بدلالة المقام في قوله تعالى : { واسألهم } [ الأعراف : 163 ] كما تقدم بيان ذلك كله مسستوفى عند قوله : { واسألهم عن القرية } [ الأعراف : 163 ] فالمتحدث عنهم بهذه الآية لا علاقة لهم بأهل القرية الذين عَدَوْا في السبت .و { تأذَّنَ } على اختلاف إطلاقاته ، ومما فيه هنا مشتق من الإذن وهو العلم ، يقال : أذِنَ أي علم ، وأصله العلم بالخبر ، لأن مادة هذا الفعل وتصاريفه جائية من الأُذْن ، اسم الجارحة التي هي آلة السمع ، فهذه التصاريف مشتقة من الجامد نحو استحجر الطين أي صار حجراً ، واستنسر البُغاث أي صار نَسراً ، فتأذن : بزنة تَفعَل الدالة على مطاوعة فَعل ، والمطاوعة مستعملة في معنى قوة حصول الفعل ، فقيل : هو هنا بمعنى أفْعلَ كما يقال : تَوعد بمعنى أوْعد فمعنى { تأذن ربك } أعلم وأخبر ليبعثن ، فيكون فعل أعلم معلقاً عن العمل بلام القسم ، وإلى هذا مَال الطبري ، قال ابن عطية : وهذا قلق من جهة التصريف إذ نسبة تأذن إلى الفاعل غير نسبة أعلم ، ويتبين ذلك من التعدي وغيره ، وعن مجاهد : { تأذن } تألى قال في «الكشاف» معناه عزم ربّك ، لأن العازم على الأمر يُحدث نفسه به» أراد أن إشرابه معنى القسم ناشىء عن مجاز فأطلق التأذن على العزم ، لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه ، فهو يؤذنها بفعله فتعزمُ نفسه ، ثم أجرى مجرى فعل القسم مثل عَلم الله ، وشهد الله . ولذلك أجيب بما يجاب به القسم . قال ابن عطية : «وقادهم إلى هذا القول دخول اللام في الجواب ، وأما اللفظة فبعيدة عن هذا» وعن ابن عباس { تأذن ربك } قال ربك يعني أن الله أعلن ذلك على لسان رسله .وحاصل المعنى : أن الله أعلمهم بذلك وتوعدهم به ، وهذا كقوله تعالى : { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم } في سورة إبراهيم ( 7 ).ومعنى البعث الإرسال وهو هنا مجاز في التقييض والإلهام ، وهو يؤذن بأن ذلك في أوقات مختلفة وليس ذلك مستمراً يوماً فيوماً ، ولذلك اختبر فعل ليبعثن } دُون نحو ليلزمنهم ، وضمن معنى التسليط فعدي بعلى كقوله : { بعثنا عليكم عباداً لنا } [ الإسراء : 5 ] وقوله : { فأرسلنا عليهم الطوفان } [ الأعراف : 133 ].و { إلى يوم القيامة } غاية لما في القسم من معنى الاستقبال ، وهي غاية مقصود منها جعل أزمنة المستقبل كله ظرفاً للبعث ، لإخراج ما بعد الغاية . وهذا الاستغراق لأزمنة البعث أي أن الله يسلط عليهم ذلك في خلال المستقبل كله ، والبعث مطلق لا عام .و { يسومهم } يفرض عليهم ، وحقيقة السوم أنه تقدير العوض الذي يستْبدل به الشيءُ ، واستعمل مجازاً في المعاملة اللازمة بتشبيهها بالسوم المقَدر للشيء ، وقد تقدم في سورة البقرة ( 49 ) { وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب }وتقدم في هذه السورة نظيره ، فالمعنى يجعل سوء العذاب كالقيمة لهم فهو حظهم .وسوء العذاب أشده ، لأن العذاب كله سوء فسوءهُ الأشد فيه .والآية تشير إلى وعيد الله إياهم بأن يسلط عليهم عدوهم كلما نقضوا ميثاق الله تعالى ، وقد تكرر هذا الوعيد من عهد موسى عليه السلام إلى هلُم جرّا ، كما في سفر التثنية في الثامن والعشرين ففيه إن لم تحرص لتعمل بجميع كلمات هذا الناموس . . . ويبددُك الله في جميع الشعوب وفي تلك الأمم لا تطمئن وترتعب ليلاً ونهاراً ولا تأمن على حياتك وفي سفر يوشع الإصحاح 23 لتحفظوا وتعملوا كل المكتوب في سفر شريعة موسى ولكن إذا رجعتم ولصفتم ببقية هؤلاء الشعوب اعلموا يقيناً أن الله يجعلهم لكم سَوطاً على جُنوبكم وشوكاً في أعينكم حتى تبيدوا حينما تتعدون عهد الرب إلهكم .وأعظم هذه الوصايا هي العهد باتباع الرسول الذي يُرسل إليهم ، كما تقدم ، ولذلك كان قوله : ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } معناه ما داموا على إعراضهم وعنادهم وكونهم أتباع ملة اليهودية مع عدم الوفاء بها ، فإذا أسلموا وآمنوا بالرسول النبي الأمي فقد خرجوا عن موجب ذلك التأذنُ ودخلوا فيما وعد الله به المسلمين .ولذلك ذيل هذا بقوله : { إن ربك لسريع العقاب } أي لهم ، والسرعة تقتضي التحقق ، أي أن عقابه واقع وغيرُ متأخر . لأن التأخر تقليل في التحقق إذ التأخر استمرار العدم مدة مّا .وأول من سُلط عليهم «بُخْتنصَّر» ملك ( بابل ). ثم توالت عليهم المصائب فكان أعظمها خراب ( أرشليم ) في زمن ( إدريانوس ) انبراطور ( رومة ) ولم تزل المصائب تنتابهم ويُنفس عليهم في فترات معروفة في التاريخ .وأما قوله : { وإنه لغفور رحيم } فهو وعد بالإنجاء من ذلك إذا تابوا واتبعوا الإسلام ، أي لغفور لمن تاب ورجع إلى الحق ، وفيه إيماء إلى أن الله قد ينفس عليهم في فترات من الزمن لأن رحمة الله سبقت غضبه ، وقد ألمّ بمعنى هذه الآية قوله تعالى : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفسدُن في الأرض مرتين ولتعلن عُلواً كبيراً فإذا جاء وعدُ أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً ثم رددنا لكم الكّرة عليهم وأمددناكم بأمواللٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءموا وجوهكم وليدْخلوا المسجدَ كما دخلوه أول مرةٍ وليتبروا ما علوا تتبيراً عسى ربكم أن يرحمكم وإن عُدتم عُدنا } [ الإسراء : 4 8 ].
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ۖ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
📘 عطف قصة على قصة ، وهو عود إلى قصص الإخبار عن أحوالهم ، فيجوز أن يكون الكلام إشارة إلى تفرقهم بعد الاجتماع ، والتقطيع التفريق ، فيكون محموداً مثل { وقطّعناهم اثنتي عشرة أسباطاً } [ الأعراف : 160 ] ، ويكون مذموماً ، فالتعويل على القرينة لا على لفظ التقطيع .فالمراد من الأرض الجنس أي في أقطار الأرض .و { أمماً } جمع أمّة بمعنى الجماعة ، فيجوز أن يكون المراد هنا تقطيعاً مذموماً أي تفريقاً بعد اجتماع أمتهم فيكون إشارة إلى أسر بني إسرائيل عندما غزا مملكة إسرائيل ( شلمناصرُ ) مَلك بابل . ونقلهم إلى جبال انشور وأرض بابل سنة 721 قبل الميلاد . ثم أسر ( بُخْتنصّر ) مملكة يهوذا وملكها سنة 578 قبل الميلاد ، ونقل اليهود من ( أرشليم ) ولم يبق إلاّ الفقراء والعجّز . ثم عادوا إلى أرشليم سنة 530 ، وَبَنوْا البيت المقدس إلى أن أجلاهم ( طيطوس ) الروماني ، وخرّب بيت المقدس في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد ، فلم تجتمع أمتهم بعد ذلك فتمزقوا أيدي سبأ .ووصف الأمم بأنهم { منهم الصالحون } إيذان بأن التفريق شمل المذنبين وغيرهم ، وأن الله جعل للصالحين منزلة إكرام عند الأمم التي حلّوا بينها ، كما دل عليه قوله : { وبلوناهم بالحسنات والسيّئات }.وشمل قوله : { ومنهم دون ذلك } كل من لم يكن صالحاً على اختلاف مراتب فقدان الصلاح منهم .و { الصالحون } هم المتمسكون بشريعة موسى والمصدقون للأنبياء المبعوثين من بعده والمؤمنون بعيسى بعد بعثته ، وأن بني إسرائيل كانوا بعد بعثة عيسى غير صالحين إلاّ قليلاً منهم : الذين آمنوا به ، وزادوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وعدم إيمانهم به ، بُعداً عن الصلاح إلاّ نفراً قليلاً منهم مثل عبد لله بن سَلام ، ومخيريق .وانتصب { دونَ ذلك } على الظرفية وصفاً لمحذوف دل عليه قوله : { منهم } أي ومنهم فريق دون ذلك ، ويجوز أن تكون ( مِن ) بمعنى بعض اسماً عند من يجوّز ذلك ، فهي مبتدأ ، و { دون } خبر عنه .ويحتمل أن تكون الآية تشير إلى تفريقهم في الأرض في مدة ملوك بابل ، وإنهم كانوا في مدة إقامتهم ببابل { منهم الصالحون } مثل ( دانيال ) وغيره ، ومنهم دون ذلك ، لأن التقسيم بمِنهم مشعر بوفرة كلا الفريقين .وقوله : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } أي أظهرنا مختلف حال بني إسرائيل في الصبر والشكر ، أو في الجزع والكفر ، بسبب الحسنات والسيئات ، فهي جمع حسنة وسيئة بمعنى التي تَحسن والتي تَسوء ، كما تقدم في قوله : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئةٌ يطيّروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] وعلى هذا يكون الحسنات والسيئات تفصيلاً للبلوى ، فالحسنات والسيئات من فعل الله تعالى ، أي بالتي تحسن لفريق الصالحين وبالتي تسوء فريق غيرهم ، توزيعاً لحال الضمير المنصوب في قوله : { بلوناهم }.وجملة : { لعلهم يرجعون } استئناف بياني أي رجاء أن يتوبوا أي حين يذكرون مدة الحسنات والسيئات ، أو حين يرون حسن حال الصالحين وسوء حال من هم دون ذلك ، على حسب الوجهين المتقدمين .والرجوع هنا الرجوع عن نقض العهد وعن العصيان ، وهو معنى التوبة .هذا كله جري على تأويل المفسرين الآية في معنى { قَطّعناهم }.ويجوز عندي أن يكون قوله : { وقطعناهم في الأرض أمماً } ، عوداً إلى أخبار المنن عليهم ، فيكون كالبناء على قوله : { وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً } [ الأعراف : 160 ] ، فيكون تقطيعاً محموداً ، والمراد بالأرض : أرض القدس الموعودة لهم أي لكثرناهم فعمروها جميعها ، فيكون ذكر الأرض هنا دون آية { وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً } [ الأعراف : 160 ] للدلالة على أنهم عمروها كلها ، ويكون قوله : { منهم الصالحون } إنصافاً لهم بعد ذكر أحوال عدوان جماعاتهم وصم آذانهم عن الموعظة ، وقوله : { وبلوناهم } إشارة إلى أن الله عاملهم مرة بالرحمة ومرة بالجزاء على أعمال دهمائهم .
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ۚ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ۗ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
📘 جملة { فخلف } تفريع على قوله : { وقطّعناهم } [ الأعراف : 168 ] إن كان المراد تقطيعهم في بلاد أعدائهم وإخراجهم من مملكتهم ، فتكون الآية مشيرة إلى عودة بني إسرائيل إلى بلادهم في عهد الملك ( كورش ) ملك الفرس في حدود سنة 530 قبل الميلاد ، فإنه لما فتح بلاد أشور أذن لليهود الذين أسرهم ( بختنصر ) أن يرجعوا إلى بلادهم فرجعوا ، وبنوا بيت المقدس بعد خرابه على يد ( نحميا ) و ( عزرا ) كما تضمنه سفر نحميا وسفر عزرا ، وكان من جملة ما أحيوه أنهم أتوا بسفر شريعة موسى الذي كتبه عزرا وقرأوه على الشعب في ( أورشليم ) فيكون المراد بالخلْف ما أوّله ذلك الفلّ من بني إسرائيل الذين رجعوا من أسر الآشوريين . والمراد بإرث الكتاب إعادة مزاولتهم التوراة التي أخرجها إليهم ( عزرا ) المعروف عند أهل الإسلام باسم عُزَير ، ويكون أخذهم عرض الأدنى أخذَ بعض الخلف لا جميعه ، لأن صدر ذلك الخلف كانوا تائبين وفيهم أنبياء وصالحون .وإن كان المراد من تقطيعهم في الأرض أمماً تكثيرَهم والامتنانَ عليهم ، كان قوله : { فخلف من بعدهم خلف } تفريعاً على جميع القصص المتقدمة التي هي قصص أسلافهم ، فيكون المراد بالخلْف من نشأ من ذرية أولئك اليهود بعد زوال الأمة وتفرقها ، منهم الذين كانوا عند ظهور الإسلام ، وهم اليهود الذين كانوا بالمدينة ، وإلى هذا المعنى في ( الخلْف ) نحا المفسرون .والخلْف بسكون اللام من يأتي بعد غيره سابِقِه في مكان أو عمل أو نسل ، يُبينه المقام أو القرينة ، ولا يغلب فيمن يخلف في أمر سيء ، قاله النضر بن شُميل ، خلافاً لكثير من أهل اللغة إذ قالوا : الأكثر استعمال الخلْف بسكون اللام فيمن يخلف في الشر ، وبفتح اللام فيمن يخلف في الخير ، وقال البصريون : يجوز التحريك والإسكان في الرديء ، وأما الحسن فبالتحريك فقطْ .وهو مصدر أريد به اسم الفاعل أي خَالِف ، والخَلْف مأخوذ من الخَلَفْ ضد القدّام لأن من يجيء بعد قوم فكأنه جاء من ورائهم ، وَلاَ حَد لآخر الخلف ، بل يكون تحديده بالقرائن ، فلا ينحصر في جيل ولا في قرن ، بل قد يكون الخلف ممتداً ، قال تعالى بعد ذكر الأنبياء { فخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات } [ مريم : 59 ] فيشمل من خلفهم من ذرياتهم من العرب واليهود وغيرهم ، فإنه ذكر من أسلافهم إدريسَ وهو جد نوح .و { ورثوا } مجازٌ في القيام مقام الغير كما تقدم في قوله تعالى : { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } في هذه السورة ( 43 ) وقوله فيها : { أو لم يهد الذين يرثون الأرض من بعد أهلها } [ الأعراف : 100 ] فهو بمعنى الحلفية ، والمعنى : فخلف من بعدهم خلف في إرث الكتاب ، وهذا يجري على كلا القولين في تخصيص الخلف ، لأنه بيان للفعل لا لاسم الخلف .وجملة : { يأخذون عرض هذا الأدنى } حال من ضمير { ورثوا } ، والمقصود هو ذم الخلف بأنهم يأخذون عرض الأدنى ويقولون سيغفر لنا ، ومهد لذلك بأنهم ورثوا الكتاب ليدل على أنهم يفعلون ذلك عن علم لا عن جهل ، وذلك أشد مذمة ، كما قال تعالى : { وأضله الله على علمٍ } [ الجاثية : 23 ].ومعنى الأخذ هنا الملابسة والاستعمال فهو مجاز أي : يلابسونه ، ويجوز كونه حقيقة كما سيأتي .والعَرَض بفتح العين وفتح الراء الأمر الذي يزول ولا يدوم . ويراد به المال ، ويراد به أيضاً ما يعرض للمرء من الشهوات والمنافع .والأدنى الأقرب من المكان ، والمراد به هنا الدنيا ، وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير هذا العرض الذي رغبوا فيه كالإشارة في قول قيس بن الخطيم :متى يات هذَا الموت لا يُلَففِ حاجة ... لنفسيَ إلاّ قد قضيت قضاءَهاوقد قيل : أَخذ عرض الدنيا أريد به ملابسة الذنوب ، وبذلك فسر سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والطبري ، فيشمل كل ذنب ، ويكون الأخذ مستعملاً في المجاز وهو الملابسة ، فيصدق بالتناول باليد وبغير ذلك ، فهو من عموم المجاز ، وقيل عرض الدنيا هو الرّشا وبه فسّرالسّدي ، ومعظمُ المفسرين ، فيكون الأخذ مستعملاً في حقيقته وهو التناول ، وقد يترجح هذا التفسير بقوله { وإن يأتهم عَرَض } كما سيأتي .والقول في : { ويقولون } هو الكلام اللساني ، يقولون لمن ينكر عليهم ملابسة الذنوب وتناول الشهوات ، لأن ( ما ) بعد يقولون يناسبه الكلام اللفظي ، ويجوز أن يكون الكلام النفساني ، لأنه فرع عنه ، أي قولهم في أنفسهم يعللونها به حين يجيش فيها وازع النهي ، فهو بنمزلة قوله تعالى : { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } [ المجادلة : 8 ] وذلك من غرورهم في الدين .وبناء فعل «يُغفر» على صيغة المجهول لأن الفاعل معروف ، وهو الله ، إذ لا يصدر هذا الفعل إلاّ عنه ، وللدلالة على أنهم يقولون ذلك على وجه العموم لا في خصوص الذنب الذي أنكر عليهم ، أو الذي تلبَّسُوا به حين القول ، ونائب الفاعل محذوف لعلمه من السياق ، والتقدير : سيُغفر لنا ذلك ، أو ذُنوبنا ، لأنهم يحسبون أن ذنوبهم كلها مغفورة { وقالوا لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة } كما تقدم في سورة البقرة ( 80 ) ، أي يغفر لنا بدون سبب المغفرة ، وهو التوبة كما يعلم من السياق ، وهو جزمهم بذلك عقب ذكر الذنب دون ذكر كفارة أو نحوها .وقوله { لنا } لا يصلح للنيابة عن الفاعل ، لأنه ليس في معنى المفعول ، إذ فعل المغفرة يتعدّى لمفعول واحد ، وأما المجرور بعده باللام فهو في معنى المفعول لأجله ، يقال : غفر الله لك ذنبك ، كما قال تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] فلو بُني شُرح للمجهول لما صح أن يجعل { لك } نائِباً عن الفاعل .وجملة : { ويقولون سيُغفر لنا } معطوفة على جملة ، { يأخذون } لأن كِلا الخبرين يوجب الذم ، واجتماعهما أشد في ذلك .وجملة : { وَإنْ يأتهم عرض مثلُه يأخذوه } معطوفة على التي قبلها ، واستعير إتيان العرْض لبذله لهم إن كان المراد بالعرض المالَ ، وقد يُراد به خطور شهوته في نفوسهم إن كان المراد بالعرض جميع الشهوات والملاذ المحرمة ، واستعمال الإتيان في الذوات أنسب من استعماله في خطور الأعراض والأمور المعنوية ، لقرب المشابهة في الأول دون الثاني .والمعنى : أنهم يعصون ، ويزعمون أن سيّئاتهم مغفورة ، ولا يُقلعون عن المعاصي .وجملة : { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب } جواب عن قولهم : { سيُغفر لنا } إبطالاً لمضمونه ، لأن قولهم : { سيغفر لنا } يتضمن أنهم يزعمون أن الله وعدهم بالمغفرة على ذلك ، والجملة معترضة في أثناء الإخبار عن الصالحين وغيرهم ، والمقصود من هذه الجملة إعلام النبي صلى الله عليه وسلم ليحجهم بها ، فهم المقصود بالكلام . كما تشهد به قراءة { أفلا تعقلون } بتاء الخطاب .والاستفهام للتقرير المقصود منه التوبيخ ، وهذا التقرير لا يسعهم إلاّ الاعتراف به ، لأنه صريح كتابهم ، في الإصحاح الرابع من السفر الخامس «لا تزيدوا على الكلام الذي أوصيكم به ولا تنقصوا منه لكي تحفظوا وصايا الرب» ولا يجدون في الكتاب أنهم يغفر لهم ، وإنما يجدون فيه التوبة كما في الإصحاح من سفر التثنية ، وكما في سفر الملوك الأول في دعوة سليمان حين بنى الهيكل في الإصحاح الثامن ، فقولهم : { سيغفر لنا } تقوّل على الله بما لم يقله .والميثاق : العهد ، وهو وصية موسى التي بلّغها إليهم عن الله تعالى في مواضع كثيرة ، وإضافة الميثاق إلى الكتاب على معنى ( في ) أو على معنى اللام أي الميثاق المعروف به ، والكتاب توراة موسى ، وأن لا يقولوا هو مضمون ميثاق الكتاب فهو على حذف حرف الجر قبل ( أن ) الناصبة ، والمعنى : بأن لا يقولوا ، أي بانتفاء قولهم على الله غيرَ الحق ، ويجوز كونه عطف بيان من ميثاق ، فلا يقدر حرف جر ، والتقدير : ميثاق الكتاب انتفاءُ قولهم على الله الخ .وفعل { درسوا } عطف على { يؤخذ } ، . لأن يؤخذ في معنى المضي ، لأجل دخول لم عليه ، والتقدير : ألم يؤخذ ويدرسوا ، لأن المقصود تقريرهم بأنهم درسوا الكتاب ، لا الإخبار عنهم بذلك كقوله تعالى : { ألم نجعل الأرض مهاداً والجبالَ أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سُباتاً } إلى قوله { وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً } [ النبإ : 6 14 ] والتقدير : ومخلقكم أزواجاً ونجعل نومكم سباتاً ، إلى آخر الآية .والمعنى : أنهم قد أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على الله إلاّ الحق ، وهم عالمون بذلك الميثاق ، لأنهم درسوا ما في الكتاب فبمجموع الأمرين قامت عليهم الحجة .وجملة : { والدارُ الآخرة خير للذين يتقون } حالية من ضمير { يأخذون } أي : يأخذون ذلك ويكذبون على الله ويصرون على الذنب وينبذون ميثاق الكتاب على علم في حال أن الدار الآخرة خير مما تعجّلوه ، وفي جعل الجملة في موضع الحال تعريض بأنهم يعلمون ذلك أيضاً فهم قد خيّروا عليه عرض الدنيا قصداً ، وليس ذلك عن غفلة صادفتهم فحرمتهم من خير الآخرة ، بل هم قد حَرموا أنفسهم ، وقرينة ذلك قوله : { أفلا تعقلون } المتفرع على قوله : { والدار الآخرة خير للذين يتقون } وقد نُزلوا في تخيرهم عرض الدينا بمنزلة من لا عقول لهم ، فخوطبوا ب { أفلا تعقلون } بالاستفهام الإنكاري ، وقد قريء بتاء الخطاب ، على الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب .ليكون أوقع في توجبه التوبيخ إليهم مواجهة ، وهي قراءةَ نافع ، وابن عامر ، وابن ذكوان ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، وأبي جعفر ، وقرأ البقية بياء الغيبة ، فيكون توبيخهم تعريضياً .وفي قوله : { والدارُ الآخرة خير للذين يتقون } كناية عن كونهم خَسروا خير الآخرة بأخذهم عرض الدنيا بتلك الكيفية ، لأن كون الدار الآخرة خيراً مما أخذوه يستلزم أن يكون ما أخذوه قد أفات عليهم خيرَ الآخرة .وفي جعل الآخرة خير للمتقين كناية عن كون الذين أخذوا عَرض الدنيا بتلك الكيفية لم يكونوا من المتقين ، لأن الكناية عن خسرانهم خيرَ الآخرة مع إثبات كون خير الآخرة للمتقين تستلزم أن الذين أضاعوا خير الآخرة ليسوا من المتقين ، وهذه معان كثيرة جمعها قوله : { والدارُ الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون } وهذا من حَد الإعجاز العجيب .
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
📘 وجملة : { ثم لأتيناهم } ( ثمّ ) فيها للتّرتيب الرّتبي ، وهو التّدرّج في الأخبار إلى خبر أهم لأنّ مضمون الجملة المعطوفة أوقع في غرض الكلام من مضمون الجملة المعطوف عليها ، لأنّ الجملة الأولى أفادت التّرصد للبشر بالإغواء ، والجملة المعطوفة أفادت التّهجّم عليهم بشتّى الوسائل .وكما ضُرب المثل لهيئة الحرص على الإغواء بالقعود على الطريق ، كذلك مُثلت هيئة التّوسل إلى الإغواء بكلّ وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدوّ إذ يأتيه من كلّ جهة حتّى يصادف الجهة التي يتمكّن فيها من أخذه ، فهو يأتيه من بين يديه ومِن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتّى تخور قوّة مدافعته ، فالكلام تمثيل ، وليس للشّيطان مسلك للإنسان إلاّ من نفسه وعقله بإلقاء الوسوسة في نفسه ، وليست الجهات الأربع المذكوره في الآية بحقيقه ، ولكنّها مجاز تمثيلي بما هو متعارف في محاولة النّاس ومخاتلتهم ، ولذلك لم يذكر في الآية الإتيان من فوقهم ومن تحتهم إذ ليس ذلك من شأن النّاس في المخاتلة وإلاّ المهاجمة .وعُلِّق { بين أيديهم } و { خلفهم } بحرف ( مِن ) وعلّق { أيمانهم } و { شمالهم } بحرف عن جرياً على ما هو شائع في «لسان العرب» في تعدية الأفعال إلى أسماء الجهات ، وأصل ( عن ) في قولهم : عن يمينه وعن شماله المجاوزة : أي من جهة يمينه مجاوِزا له ومجافياً له ، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت ( عن ) بمعنى على ، فكما يقولون : جلس على يمينه يقولون : جلس عن يمينه ، وكذلك ( مِن ) في قولهم مِن بين يديه أصلها الابتدا يقال : أتاه من بين يديه ، أي من المكان المواجه له ، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت ( من ) بمنزلة الحرف الزّائد يجرّ بها الظّرف فلذلك جُرّت بها الظّروف الملازمة للظّرفيّة مثل عند ، لأنّ وجود ( مِن ) كالعدم ، وقد قال الحريري في «المقامة النّحويّة» ( مَا منصوبٌ على الظرف لا يَخفِضه سوى حرف : «فهي هنا زائدة ويجوز اعتبارها ابتدائيّة .والأيمان جمع يمين ، واليمين هنا جانب من جسم الإنسان يكون من جهة القطب الجنوبي إذا استقبل المرء مشرق الشّمس ، تعارفه النّاس ، فشاعت معرفته ولا يشعرون بتطبيق الضّابط الذي ذكرناه ، فاليمين جهة يتعرّف بها مواقع الأعضاء من البدَن يقال العَيْن اليمنى واليد اليُمنى ونحو ذلك . وتتعرّف بها مواقع من غيرها قال تعالى : { قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } [ الصافات : 28 ]. وقال امرؤ القيس :عَلَى قَطَننٍ بالشَّيْممِ أيْمَنُ صَوبه ... لذلك قال أيمّة اللّغة سمّيت بلاد اليَمَن يَمَناً لأنّه عن يمين الكعبة ، فاعتبروا الكعبة كشخص مستقبِللٍ مشرق الشّمس فالرّكن اليماني منها وهو زاوية الجدار الذي فيه الحجر الأسود باعتبار اليد اليمنى من الإنسان ، ولا يدري أصل اشتقاق كلمة ( يَمِين ) ، ولا أن اليُمْن أصل لها أو فرع عنها ، والأيمان جمع قياسي .والشّمائلُ جمع شِمَال وهي الجهة التي تكون شِمَالاً لمستقبللِ مشرِق الشّمس ، وهو جمع على غير قياس .وقوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } زيادة في بيان قوّة إضلاله بحيث لا يفلت من الوقوع في حبائله إلاّ القليل من النّاس ، وقد عَلِم ذلك بعلم الحدس وترتيب المسبّبات .وكني بنفي الشّكر عن الكفر إذ لا واسطة بينهما كما قال تعالى : { واشكروا لي ولا تكفرون } [ البقرة : 152 ] ووجهُ هذه الكناية ، إن كانت محكيّة كما صدرت من كلام إبليس ، أنّه أراد الأدب مع الله تعالى فلم يصرّح بين يديه بكفر أتباعه المقتضي أنّه يأمرهم بالكفر ، وإن كانت من كلام الله تعالى ففيها تنبيه على أنّ المشركين بالله قد أتَوا أمراً شنيعاً إذ لم يشكروا نعمه الجمّة عليهم .
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ
📘 ووقعت جملة : { والذين يمسِكون بالكتاب } إلى آخرها عقب التي قبلها : لأن مضمونها مقابلَ حكمَ التي قبلها إذ حصل من التي قبلها أن هؤلاء الخلف الذين أخذوا عرض الأدني قد فرطوا في ميثاق الكتاب ، ولم يكونوا من المتقين ، فعُقب ذلك ببشارة من كانوا ضد أعمالهم ، وهم الآخذون بميثاق الكتاب والعاملون ببشارته بالرسل ، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأولئك يستكملون أجرهم لأنهم مصلحون . فكني عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة ، لأن الصلاة شعار دين الإسلام ، حتى سمي أهل الإسلام أهلَ القبلة ، فالمراد من هؤلاء هم من آمن من اليهود بعيسى في الجملة وإن لم يتبعوا النصرانية ، لأنهم وجدوها مبدّلة محرّفة فبقوا في انتظار الرسول المخلّص الذي بشرت به التوراة والإنجيل ، ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم حين بُعث : مثل عبد الله بن سَلاَم .ويحتمل أن المراد بالذين يمسكون بالكتاب : المسلمون ، ثناء عليهم بأنهم الفائزون في الآخرة وتبشيراً لهم بأنهم لا يسلكون بكتابهم مسلك اليهود بكتابهم .وجملة : { إنا لا نضيع أجر المصلحين } خبر عن الذين يمسكون ، والمصلحون هم ، والتقدير : إنّا لا نضيع أجرهم لأنهم مصلحون ، فطوي ذكرهم اكتفاء بشمول الوصف لهم وثناء عليهم على طريقة الإيجاز البديع .
۞ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
📘 عاد الكلام إلى العبرة بقصص بني إسرائيل مع موسى عليه السلام ، لأن قصة رفع الطور عليهم من أمهات قصصهم ، وليست مثل قصة القرية الذين اعتدوا في السبت ، ولا مثلَ خبر إيذانهم بمن يسومهم سوء العذاب . فضمائر الجمع كلها هنا مراد بها بنو إسرائيل الذين كانوا مع موسى ، بقرينة المقام .والجملة معطوفة على الجمل قبلها .و { إذْ } متعلقة بمحذوف تقديره : واذكر إذ نتقنا الجبل فوقهم .والنتق : الفصل والقلع . والجبل الطور .وهذه آية أظهرها الله لهم تخويفاً لهم ، لتكون مُذَكرة لهم ، فيعقب ذلك أخذُ العهد عليهم بعزيمة العمل بالتوراة ، فكان رفع الطور معجزة لموسى عليه السلام تصديقاً له فيما سيبلغهم عن الله من أخذ أحكام التوراة بعزيمة ومداومة والقصة تقدمت في سورة البقرة ( 63 ) عند قوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور } والظلة السحابة ، وجملة : { خذوا ما آتيناكم } مقولة لقول محذوف يدل عليه نظم الكلام ، وحذفُ القول في مثله شائع كثير ، وتقدم نظيرها في سورة البقرة .وعُدّي { واقع } بالباء : للدلالة على أنهم كانوا مستقرين في الجبل فهو إذا ارتفع وقع ملابساً لهم ففتتهم ، فهم يرون أعلاه فوقهم وهم في سفحه ، وهذا وجه الجمع بين قوله { فوقهم } وبين باء الملابسة . وجعل بعض المفسرين الباء بمعنى ( على ).وجملة : { خُذوا ما آتيناكم بقوة } مقول قول محذوف . وتقدم تفسير نظيرها في سورة البقرة .
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ
📘 هذا كلام مصروف إلى غير بني إسرائيل ، فإنهم لم يكونوا مشركين والله يقول { أو تقولوا إنما أشرك آباءنا من قبل } فهذا انتقال بالكلام إلى محاجة المشركين من العرب ، وهو المقصود من السورة ابتداء ونهاية ، فكان هذا الانتقال بمنزلة رد العجز على الصدر . جاء هذا الانتقال بمناسبة ذكر العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل في وصية موسى ، وهو ميثاق الكتاب ، وفي يوم رفع الطور . وهو عهد حصل بالخطاب التكويني أي بجعل معناه في جبلة كل نسمة وفطرتها ، فالجملة معطوفة على الجمل السابقة عطف القصة على القصة . والمقصود به ابتداءهم المشركون .وتَبَدُّل أسلوب القصة واضح إذ اشتملت هذه القصة على خطاب في قوله : { أن تقولوا يوم القيامة } إلى آخر الآية . وإذ صرح فيها بمعاد ضمير الغيبة وهو قوله { من بني آدم } فعموم الموعظة تابع لعموم العظة . فهذا ابتداء لتقريع المشركين على الإشراك ، وما ذكر بعده إلى آخر السورة مناسب لأحوال المشركين .و { إذ } اسم للزمن الماضي ، وهو هنا مجردٌ عن الظرفية ، فهو مفعول به لفعل «اذكرْ» محذوف .وفعل { أخذ } يتعلق به { من بني آدم } وهو معدَّى إلى ذرياتهم ، فتعين أن يكون المعنى : أخذ ربك كلَّ فرد من أفراد الذرية . من كل فرد من أفراد بني آدم ، فيحصل من ذلك أن كل فرد من أفراد بني آدم أقر على نفسه بالمربوبية لله تعالى .و ( من ) في قوله : { من بني آدم } وقوله : { من ظهورهم } ابتدائية فيهما .والذُرّيات جمع ذُرَيّةَ ، والذّريّة اسمُ جمع لما يتولد من الإنسان ، وجمعُه هنا للتنصيص على العموم .وأخذُ العهد على الذرية المخرَجين من ظهور بني آدم يقتضي أخذَ العهد عى الذرية الذين في ظهر آدم بدلالة الفحوى ، وإلا لكان أبناء آدم الأدْنَون ليسوا مأخوذا عليهم العهد مع أنهم أولى بأخذ العهد عليهم في ظهر آدم .ومما يثبت هذه الدلالة أخبار كثيرة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جمع من أصحابه ، متفاوتة في القوة غيرُ خاللٍ واحدٌ منها عن مُتكلَّم ، غير أن كثرتها يؤيد بعضُها بعضاً ، وأوضحها ما روى مالك في «الموطأ» في ترجمة «النهيُ عن القول بالقدر» بسنده إلى عمر بن الخطاب قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن هذه الآية { وإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } فقال إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه حتى استخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون وساق الحديث بما لا حاجة إليه في غرضنا ، ومحمل هذا الحديث على أنه تصريح بمدلول الفحوى المذكور ، وليس تفسيراً لمنطوق الآية ، وبه صارت الآية دالة على أمرين ، أحدهما : صريح وهو ما أفاده لفظها ، وثانيهما : مفهوم وهو فحوى الخطاب .وجاء في الآية أن الله أخذ على الذريات العهد بالإقرار بربوبية الله ، ولم يُتعرض لذلك في الحديث ، وذُكر فيه أنه ميز بين أهل الجنة وأهل النار منهم ، ولعل الحديث اقتصار على بيان ما سأل عنه السائِلُ فيكون تفسيراً للأية تفسيرَ تكميل لما لم يذكر فيها ، أو كان في الحديث اقتصار من أحد رواته على بعض ما سمعه .والأخذ مجاز في الإخراج والانتزاع قال الله تعالى : { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } [ الأنعام : 46 ] الآية .وقوله : { من ظهورهم } بدل { من بني آدم } أبدل بعض من كل ، وقد أعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كما تقدم في قوله تعالى : { ومن النخل من طلعها قنوانٌ دانيةٌ } في سورة الأنعام ( 99 ).والإشهاد على الأنفس يطلق على ما يساوي الإقرار أو الحمل عليه ، وهو هنا الحمل على الإقرار ، واستعير لحالة مغيبة تتضمن هذا الإقرار يعلمها الله لاستقرار معنى هذا الاعتراف في فطرتهم . والضمير في أشهدهم } عائد على الذرية باعتبار معناه ، لأنه اسم يدل على جمعَ .والقول في { قالوا بلى } مستعار أيضاً لدلالة حالهم على الإعتراف بالربوبية لله تعالى .وجملة { ألستُ بربكم } مقولٌ لقول محذوف هو بيان لجملة { أشهدهم على أنفسهم } أي قررهم بهذا القول وهو من أمر التكوين . والمعنى واحد ، لأن الذرية لما أضيف إلى ضمير بني آدم كان على معنى التوزيع .والاستفهام في { ألست بربكم } تقريري ، ومثله يقال في تقرير من يُظن به الإنكار أو يُنزل منزلة ذلك ، فلذلك يقرر على النفي استدراجاً له حتى إذا كان عاقداً قلبه على النفي ظن أن المقّرر يطلبه منه ، فأقدم على الجواب بالنفي ، فأما إذا لم يكن عاقداً قلبه عليه فإنه يجيب بإبطال النفي ، فيتحقق أنه بريء من نفي ذلك ، وعليه قوله تعالى : { ويوم يُعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق } [ الأحقاف : 34 ] تنزيلاً لهم منزلة من يظنه ليس بحق ، لأنهم كانوا ينكرونه في الدنيا ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم ياتكم رسلٌ منكم } في سورة الأنعام ( 130 ).والكلام تمثيل حال من أحوال الغيب ، من تسلط أمر التكوين الإلهي على ذوات الكائنات وأعراضها عند إرادة تكوينها ، لا تبلغ النفوس إلى تصورها بالكُنْه ، لأنها وراء المعتاد المألوف ، فيراد تقريبها بهذا التمثيل ، وحاصل المعنى : أن الله خلق في الإنسان من وقت تكوينه إدراك أدلة الوحدانية ، وجعل في فطرة حركة تفكير الإنسان التطلع إلى إدراك ذلك ، وتحصيل إدراكه إذا جرد نفسه من العوارض التي تدخل على فطرته فتفسدها .وجملة : { قالوا بلى } جواب عن الاستفهام التقريري ، وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة كما تقدم في قوله تعالى :{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ).وأطلق القول إما حقيقة فذلك قول خارق للعادة ، وإمّا مجازاً على دلالة حالهم على أنهم مربوبون لله تعالى ، كما أطلق القول على مثله في قوله تعالى : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] أي ظهرت فيهما آثار أمر التكوين . وقال أبو النجم :قالت له الطيرُ تقّدم راشداً ... إنك لا ترجع إلا حامداًفهو من المجاز الذي كثر في كلام العرب .و { بلى } حرف جواب لكلام فيه معنى النفي ، فيقتضي إبطال النفي وتقرير المنفي ، ولذلك كان الجواب بها بعد النفي أصرح من الجواب بحرف ( نَعم ) ، لأن نعم تحتمل تقرير النفي وتقرير المنفي ، وهذا معنى ما نقل عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : «لو قالوا نعم لكفروا» أي لكان جوابهم محتملا للكفر ، ولما كان المقام مقام إقرار كان الاحتمال فيه تفصيا من الاعتراف .وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب : { ذرياتهم } ، بالجمع ، وقرأ الباقون { ذُريتهم } ، بالإفراد .وقولهم : { شهدنا } تأكيد لمضمون { بلى } والشهادة هنا أيضاً بمعنى الإقرار .ووقع { أن تقولوا } في موقع التعليل لفعل الأخذ والإشهاد ، فهو على تقرير لام التعليل الجارة ، وحذفُها مع أنْ جار على المطرد الشائع . والمقصود التعليل بنفي أن يقولوا { إنا كنا عن هذا غافلين } لا بإيقاع القول ، فحذف حرف النفي جريا على شيوخ حذفه مع القول ، أو هو تعليل بأنهم يقولون ذلك ، إن لم يقع إشهادهم على أنفسهم كما تقدم عند قوله تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب } في سورة الأنعام ( 156 ).وقرأ الجمهور : أن تقولوا بتاء الخطاب وقد حول الأسلوب من الغيبة إلى الخطاب ، ثم من خطاب الرسول إلى خطاب قومه ، تصريحاً بأن المقصود من قصة أخذ العهد تذكير المشركين بما أودع الله في الفطرة من التوحيد ، وهذا الأسلوب هو من تحويل الخطاب عن مخاطب إلى غيره ، وليس من الإلتفاف لاختلاف المخاطبين . وقرأه أبو عمرو ، وحده : بياء الغيبة ، والضمير عائد إلى ذريات بني آدم .والإشارة { بهذا } إلى مضمون الاستفهام وجوابه وهو الاعتراف بالربوبية لله تعالى على تقديره بالمذكور .والمعنى : أن ذلك لمَّا جُعل في الفطرة عند التكوين كانت عقول البشر منساقة إليه ، فلا يغفل عنه أحد منهم فيعتذرَ يوم القيامة ، إذا سئل عن الإشراك ، بعذر الغفلة ، فهذا إبطال للاعتذار بالغفلة ، ولذلك وقع تقدير حرف نفي أي أنْ لا تقولوا إلخ .
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ
📘 وعُطف عليه الاعتذار بالجهل دون الغفلة بأن يقولوا إننا اتبعنا آباءنا وما ظننا الإشراك إلا حقاً ، فلما كان في أصل الفطرة العلمُ بوحدانية الله بطل الاعتذار بالجهل به ، وكان الإشراك إما عن عمد وإما عن تقصير ، وكلاهما لا ينهض عذراً ، وكل هذا إنما يصلح لخطاب المشركين دون بني إسرائيل .ومعنى : { وكنا ذرية من بعدهم } كنا على دينهم تبعاً لهم لأننا ذرية لهم ، وشأن الذرية الاقتداء بالآباء وإقامة عوائدهم فوقع إيجاز في الكلام وأقيم التعليل مقام المعلل .و { من بعدهم } نعت لذرية لما تؤذن به ذرية من الخلفية والقيام في مقامهم . والاستفهام في { أفتهلكنا } إنكاري ، والإهلاك هنا مستعار للعذاب ، والمبطلون الآخذون بالباطل ، وهو في هذا المقام الإشراك .وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان بالإله الواحد مستقر في فطرة العقل ، لو خُلي ونفسه ، وتجرد من الشبهات الناشئة فيه من التقصير في النظر ، أو الملقاة إليه من أهل الضلالة المستقرة فيهم الضلالة ، بقصد أو بغير قصد ، ولذلك قال الماتريدي والمعتزلة : أن الإيمان بالإله الواحد واجب بالعقل ، ونسب إلى أبي حنيفة وإلى الماوردي وبعضضِ الشافعية من أهل العراق ، وعليه أنبتت مؤاخذة أهل الفترة على الإشراك ، وقال الأشعري : معرفة الله واجبة بالشرع لا بالعقل تمسكاً بقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] ولعله أرجع مؤاخذة أهل الفترة على الشرك إلى التواتر بمجيء الرسل بالتوحيد .
وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
📘 وجملة : { وكذلك نفصل الآيات } معترضة بين القصتين ، والواو اعتراضية ، وتسمى واو الاستئناف أي مثل هذا التفصيل نفصل الآيات أي آيات القرآن ، وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } في سورة الأنعام ( 55 ). وتفصيلها بيانها وتجريدها من الإلتباس .وجملة : { ولعلهم يرجعون } عطف على جملة : { وكذلك نفصل الآيات } فهي في موقع الاعتراض ، وهذا إنشاء ترجّي رجوععِ المشركين إلى التوحيد ، وقد تقدم القول في تأويل معنى الرجاء بالنسبة إلى صدوره من جانب الله تعالى عنه قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } في سورة البقرة ( 21 ).والرجوع مستعار للإقلاع عن الشرك ، شُبه الإقلاع عن الحالة التي هم متلبسون بها بترك من حل في غير مقره الموضع الذي هو به ليرجع إلى مقره ، وهذا التشبيه يقتضي تشبيه حال الإشراك بموضع الغُربة ، لأن الشرك ليس من مقتضى الفطرة فالتلبس به خروج عن أصل الخلقة كخروج المسافر عن موطنه ، ويقتضي أيضاً تشبيه حال التوحيد بمحل المرء وحيّه الذي يأوي إليه ، وقد تكرر في القرآن إطلاق الرجوع على إقلاع المشركين عن الشرك كقوله : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براءٌ مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمةً باقيةً في عقبه لعلهم يرجعون } [ الزخرف : 26 28 ] أي يرجعون عن الشرك ، وهو تعريض بالعرب ، لأنهم المشركون من عقب إبراهيم ، وبقرينة قوله : { بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسولٌ مبينٌ } [ الزخرف : 29 ] ، فإني استقريْتُ من اصطلاح القرآن أنه يشير بهؤلاء إلى العرب .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ
📘 أعقب ما يُفيد أن التوحيد جعل في الفطرة بذكر حالة اهتداء بعض الناس إلى نبذ الشرك في مبدأ أمره ثم تعرّض وساوس الشيطان له بتحسين الشرك .ومناسبتُها للتي قبلها إشارة العبرة من حال أحد الذين أخذ الله عليهم العهد بالتوحيد والامتثال لأمر الله ، وأمده الله بعلم يعينه على الوفاء بما عاهد الله عليه في الفطرة ، ثم لم ينفعه ذلك كله حين لم يقدر الله له الهدى المستمر .وشأن القصص المفتتحة بقوله : { واتل عليهم } أن يقصد منها وعظ المشركين بصاحب القصة بقرينة قوله : { ذلك مثل القوم } الخ ، ويحصل من ذلك أيضاً تعليم مثل قوله : { واتل عليهم نبأ نوحٍ } [ يونس : 71 ] { واتل عليهم نبأ إبراهيم } [ الشعراء : 69 ] { نَتْلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق } [ القصص : 3 ] ونظائر ذلك ، فضمير { عليهم } راجع إلى المشركين الذين وجهت إليهم العبر والمواعظ من أول هذه السورة ، وقصت عليهم قصص الأمم مع رسلهم ، على أن توجيه ضمائر الغيبة إليهم أسلوب متبع في مواقع كثيرة من القرآن ، كما قدّمناه غير مرة ، فهذا من قبيل رد العجُز على الصدر .ومناسبة فعل التلاوة لهم أنهم كانوا قوماً تغلب عليهم الأمية فأراد الله أن يبلّغ إليهم من التعليم ما يُساوون به حال أهل الكتاب في التلاوة ، فالضمير المجرور ب ( على ) عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون ، وكثيراً ما يجيء ضمير جمع الغائب في القرآن مراداً به المشركون كقوله : { عم يتساءلون } [ النبأ : 1 ].والنبأ الخبر المروي .وظاهر اسم الموصول المفرد أن صاحب الصلة واحد معيّن ، وأن مضمون الصلة حال من أحواله التي عرف بها ، والأقرب أن يكون صاحب هذا النبأ ممّن للعرب إلمام بمجمل خبره .فقيل المعنى به أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وروي هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاصي ، بأسانيد كثيرة عند الطبري ، وعن زيد بن أسلم ، وقال القرطبي في «التفسير» هو الأشهر ، وهو قول الأكثر ذلك أن أمية بن أبي الصلت الثقفي كان ممن أراد اتباع دين غير الشرك طالباً دين الحق ، ونظر في التوراة والإنجيل فلم ير النجاة في اليهودية ولا النصرانية ، وتزهّد وتوخّى الحنيفية دينَ إبراهيم ، وأخبر أن الله يبعث نبيّاً في العرب ، فطمع أن يكونَه ، ورفض عبادة الأصنام ، وحرم الخمر ، وذكر في شعره أخباراً من قصص التوراة ، ويروى أنه كانت له إلهامات ومكاشفات وكان يقول :كُل دين يومَ القيامة عند ... اللَّه إلا دين الحنيفيةُ زُورُوله شعر كثير في أمورٍ إلآهية ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم أسف أن لم يكن هو الرسول المبعوث في العرب ، وقد اتفق أن خرج إلى البحرين قبل البعثة وأقام هنالك ثمان سنين ثم رجع إلى مكة فوجد البعثة ، وتردد في الإسلام ، ثم خرج إلى الشام ورجع بعد وقعة بدر فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حسداً ، ورثى من قُتل من المشركين يومَ بدر ، وخرج إلى الطائف بلاد قومه فمات كافراً .وكان يذكر في شعره الثواب والعقاب واسم الله وأسماء الأنبياء ، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم " كاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم " وروي عن أمية أنه قال لما مرِض مَرض موته «أنا أعلم أن الحنيفية حق ، ولكن الشك يداخلني في محمد» .فمعنى { آتيناه آياتنا } أن الله ألهم أمية كراهية الشرك ، وألقى في نفسه طلب الحق ، ويسّر له قراءة كتب الأنبياء ، وحّبب إليه الحنيفية ، فلما انفتح له باب الهدى وأشرق نور الدعوة المحمدية كابَر وحسَد وأعرض عن الإسلام ، فلا جرم أن كانت حاله أنه انسلخ عن جميع ما يُسر له ، ولم ينتفع به عند إبان الانتفاع ، فكان الشيطان هو الذي صرفه عن الهدى فكان من الغاوين ، إذ مات على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلموقال سعيد بن المسيب نزلت في أبي عامر بن صيفي الراهب ، واسمه النعمان الخزرجي ، وكان يلقب بالراهب في الجاهلية لأنه قد تنصّر في الجاهلية ، ولبس المسوح وزعم أنه على الحنيفية ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «يا محمد ما الذي جئت به قال جئت بالحنيفية دين إبراهيم قال فإني عليها فقال النبي لست عليها لأنك أدخلت فيها ما ليس منها» فكفر وخرج إلى مكة يحرّض المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ويخرج معهم ، إلى أن قاتل في حُنين بعد فتح مكة ، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج إلى الشام فمات هنالك .وذهب كثير من المفسرين إلى أنها نزلت في رجل من الكنعانيين ، وكان في زمن موسى عليه السلام يقال له : بلعام بن باعُور ، وذكروا قصته فخلطوها وغيروها واختلفُوا فيها ، والتحقيق أن بلعام هذا كان من صالحي أهل مَدْيَن وعرّافيهم في زمن مرور بني إسرائيل على أرض ( مُؤاب ) ولكنه لم يتغير عن حال الصلاح ، وذلك مذكور في سفر العدد من التوراة في الاصحاحات 22 23 24 فلا ينبغي الإلتفات إلى هذا القول لاضطرابه واختلاطه .والإيتاء هنا مستعار للإطْلاَع وتيسير العلم مثل قوله { وآتاه الله الملك والحكمة } [ البقرة : 251 ].و«الآيات» دلائل الوحدانية التي كرّهت إليه الشرك وبعثته على تطلب الحنيفية بالنسبة لأمية بن أبي الصلت ، أو دلائل الإنجيل على صفة محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة للراهب أبي عامر بن صيفي .والانسلاخ حقيقته خروج جسد الحيوان من جلده حينما يُسلخ عنه جلده ، والسلخ إزالة جلد الحيوان الميت عن جسده ، واستعير في الآية للانفصال المعنوي ، وهو ترك التلبس بالشيء أو عدم العمل به ، ومعنى الانسلاخ عن الآيات الإقلاع عن العمل بما تقتضيه ، وذلك أن الآيات أعلمته بفساد دين الجاهلية .وأتْبعهُ بهمزة قطع وسكون المثناة الفوقيه بمعنى لحقة غير مُفلت كقوله : { فأتبعه شهابٌ ثاقب } [ الصافات : 10 ] { فأتبعهم فرعون بجنوده } [ طه : 78 ] وهذا أخص من اتّبعه بتشديد المثناة ووصل الهمزة .والمراد بالغاوين : المتصفين بالغي وهو الضلال { فكان من الغاوين } أشد مبالغة في الاتصاف بالغواية من أن يقال : وغوى أو كان غاوياً ، كما تقدم عند قوله تعالى : { قد ضَلَلْت إذاً وما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام ( 56 ).ورتبت أفعال الانسلاخ والاتباع والكون من الغاوين بفاء العطف على حسب ترتيبها في الحصول ، فإنه لما عاند ولم يعمل بما هداه الله إليه حصلت في نفسه ظلمة شيطانية مكنت الشيطان من استخدامه وإدامة إضلاله ، فالانسلاخ على الآيات أثرٌ من وسوسة الشيطان ، وإذا أطاع المرء الوسوسة تمكن الشيطان من مقاده ، فسخره وأدام إضلاله ، وهو المعبر عنه بأتبعه } فصار بذلك في زُمرة الغواة المتمكنين من الغواية .
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
📘 وقوله تعالى : { ولو شئنا لرَفَعْناه بها } أفاد أن تلك الآيات شأنها أن تكون سبباً للهداية والتزكية ، لو شاء الله له التوفيق وعصمه من كيد الشيطان وفتنته فلم ينسلخ عنها ، وهذه عبرة للموفقين ليعلموا فضل الله عليهم في توفيقهم ، فالمعنى : ولو شئنا لزاد في العمل بما آتيناه من الآيات فلرَفعه الله بعلمه .والرفعة مستعارة لكمال النفس وزكائها ، لأن الصفات الحميدة تُخيل صاحبها مرتفعاً على من دونه ، أي لو شئنا لاكتسب بعمله بالآيات فضلاً وزكاء وتميزاً بالفضل ، فمعنى لرفعناه ليسرّنا له العمل بها الذي يشرُف به .وقد وقع الاستدراك على مضمون قوله : { ولو شئنا لرفعناه بها } بذكر ما يناقض تلك المشيئة الممتنعة ، وهو الاستدراك بأنه انعكست حاله فأخلد إلى الأرض ، أي ركن ومال إلى الأرض ، والكلام تمثيل لحال المتلبس بالنقائص والكفر بعد الإيمان والتقوى ، بحال من كان مرتفعاً عن الأرض فنزل من اعتلاء إلى أسفل ، فبذكر الأرض عُلمَ أن الإخلاد هنا ركون إلى السفل أي تلبس بالنقائص والمفاسد .واتباع الهوى ترجيح ما يحسن لدى النفس من النقائص المحبوبة ، على ما يدعو إليه الحق والرشد ، فالاتباع مستعار للاختيار والميل ، والهوى شاع في المحبة المذمومة الخاسرة عاقبتها .وقد تفرع على هذه الحالة تمثيله بالكلب اللاهث ، لأن اتصافه بالحالة التي صيرته شبيهاً بحال الكلب اللاهث تفرع على إخلاده إلى الأرض واتباع هواه ، فالكلام في قوة أن يقال : ولكنه أخلد إلى الأرض فصار في شَقاء وعناد ، كمثل الكلب إلخ .واستعمال القرآن لفظ المثل بعد كاف التشبيه مألوف بأنه يراد به تشبيه الحالة بالحالة ، وتقدم قوله تعالى؛{ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } في سورة البقرة ( 17 ) ، فلذلك تعين أن التشبيه هنا لا يخرج عن المتعارف في التشبيه المركب ، فهذا الضال تحمل كلفة اتباع الدين الصالح وصار يطلبه في حينَ كان غير مكلف بذلك في زمن الفترة فلقي من ذلك نصباً وعناء ، فلما حان حين اتباع الحق ببعثة محمد تحمل مشقة العناد والإعراض عنه في وقت كان جديراً فيه بأن يستريح من عنائه؛ لحصول طلبته فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الموصوف باللّهث ، فهو يلهث في حالة وجود أسباب اللهث من الطرد والإرهاب والمشقة وهي حالة الحمل عليه ، وفي حالة الخلو عن ذلك السبب وهي حالة تركه في دعة ومسالمة ، والذي ينبه على هذا المعنى هو قوله { أو تَتْركه }.وليس لشيء من الحيوان حالة تصلح للتشبيه بها في الحالتين غير حالة الكلب اللاهث ، لأنه يلهث إذا أتْعب وإذا كان في دعة ، فاللهث في أصل خلقته .وهذا التمثيل من مبتكرات القرآن فإن اللهث حالة تؤذن بحرج الكلب من جراء عسر تنفسه عن اضطراب باطنه وإن لم يكن لاضطراب باطنه ، سبب آت من غيره فمعنى { إن تحمل عليه } إن تُطارده وتُهاجمه . مشتق من الحَمل الذي هو الهجوم على أحد لقتاله ، يقال حمل فلانٌ على القوم حملة شعواء أو حملة منكرة . وقد أغفل المفسرون توضيحه ، وأغفل الراغب في «مفردات القرآن» هذا المعنى لهذا الفعل .فهذا تشبيهُ تمثيل مُركب منتزعةٌ فيه الحالة المشبهة والحالةُ المشبه بها من متعدد ، ولما ذُكر { تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } في شق الحالة المشبه بها ، تعين أن يكون لها مقابل في الحالة المشبهة ، وتتقابل أجزاءُ هذا التمثيل بأن يشبّه الضال بالكلب ، ويشبه شقاؤُه واضطرابُ أمره في مدة البحث عن الدين بلهث الكلب في حالة تركه في دعة ، تشبيهَ المعقول بالمحسوس ، ويشبّه شقاؤه في إعراضه عن الدين الحق عند مجيئه بلهث الكلب في حالة طرده وضربه تشبيه المعقول بالمحسوس . وقد أغفل هذا الذين فسروا هذه الآية فقرروا التمثيل بتشبيه حالة بسيطة بحالة بسيطة في مجرد التشويه أو الخسة . فيؤول إلى أن الغرض من تشبيهه بالكلب إظهار خسة المشبه ، كما درج عليه في «الكشاف» ، ولو كان هذا هو المراد لما كان لذكر { إنْ تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } كبير جدوى ، بل يقتصر على أنه لتشويه الحالة المشبه بها ، لتكتسب الحالةُ المشبهة تشويها ، وذلك تقصير في حق التمثيل .والكلب حيوان من ذوات الأربع ذو أنياب وأظفار كثير النبح في الليل قليل النوم فيه كثير النوم في النهار ، يألف من يعاشره ويحرس مكانه من الطارقين الذين لا يألفهم ، ويحرس الأنعام التي يعاشرها ، ويعدو على الذئاب ، ويقبل التعليم ، لأنه ذكي .ويلهث إذا أتعب أو اشتد عليه الحر ، ويلهث بدون ذلك ، لأن في خلقته ضيقاً في مجاري النفس يرتاح له باللهث .وجملة : { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } في موضع الحال من الكلب والخطاب في { تَحْمل } وتترك لمخاطب غير معيّن ، والمعنى إن يحمل عليه حامل ، أو يتركه تارك .واللهث : سرعة التنفس مع امتداد اللسان لضيق النفس ، وفعله بفتح الهاء وبكسرها ، ومضارعه بفتحها لا غير ، والمصدر اللهث بفتح اللام والهاء ويقال اللهاث بضم اللام ، لأنه من الأدواء ، وليس بصوت .جملة مبيّنة لجملة : { واتْلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } الآيتين ، والمثال الحال أي ذلك التمثيل مثل للمشركين المكذبين بالقرآن ، تشبيه بليغ ، لأن حالة الكلب المشتبه شبيهة بحال المكذبين وليست عينها .والإشارة بذلك إلى { الذي آتيناه آياتنا } ، وهو صاحب القصة ، هو مَثل المشركين ، لأنهم شابهوه في أنهم أتوا القرآن فكذبوا به ، فكانت حالهم كحال ذلك المكذب ، والأظهر أن تكون الإشارة إلى المثَل في قوله : { كمثل الكلب } أي حالُ الكلب المذكورة كحال المشركين المكذبين في أنهم كانوا يودون معرفة دين إبراهيم ، ويتمنون مساواة أهل الكتاب في العلم والفضل ، فكانوا بذلك في عناء وحيرة في الجاهلية فلما جاءهم رسول منهم بكتاب مبين انتقلوا إلى عناء معاندته كقوله تعالى : { أو تقولوا لو أنا أنْزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } [ الأنعام : 157 ] وهذا تأويل ما روي عن عبادة بن الصامت أن آية { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } إلى آخرها نزلت في قريش .وفُرع على ذلك الأمرُ بقوله : { فاقْصص القصصَ لعلهم يتفكرون } أي اقصص هذه القصة وغيرها ، وهذا تذييل للقصة الممثل بها يشملها وغيرها من القصص التي في القرآن ، فإن في القصص تفكراً وموعظة ، فيرجى منه تفكرهم وموعظتهم ، لأن للأمثال واستحضار النظائر شاناً عظيماً في اهتداء النفوس بها وتقريب الأحوال الخفية إلى النفوس الذاهلة أو المتغافلة ، لما في التنظير بالقصة المخصوصة من تذكر مشاهدة الحالة بالحواس ، بخلاف التذكير المجرد عن التنظير بالشيء المحسوس .
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ
📘 جملة مستأنفة لأنها جعلت إنشاء ذَم لهم ، بأن كانوا في حالة شنيعة وظلموا أنفسهم .والظلم هنا على حقيقته فإنهم ظلموا أنفسهم بما أحلّوه بها من الكفر الذي جعلهم مذمومين في الدنيا ومعذبين في الآخرة .وتقديم المفعول للاختصاص ، أي ما ظلموا إلا أنفسهم ، وشأن العاقل أن لا يؤذي نفسه ، وفيه إزالة تبجحهم بأنهم لم يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم ظناً منهم أن ذلك يغيظه ويغيظ المسلمين ، وإنما يضُرون أنفسهم .وجملة : { وأنفسهم كانوا يظلمون } يجوز أن تكون معطوفة على الصلة باعتبار أنهم معروفون بمضمون هذه الجملة عند النبي والمسلمين ، ويجوز أن تكون معطوفة على جملة : { ساء مثلاً القوم } فتكون تذييلاً للجملة التي قبلها إخباراً عنهم بأنهم في تكذيبهم ، وإنتفاء من القصص ما ظلموا إلا أنفسهم .وقوله : { كانوا يظلمون } أقوى في إفادة وصفهم بالظلم من أن يقال : وظلموا أنفسهم ، كما تقدم في قوله تعالى : { وليكون من الموقنين } في سورة الأنعام ( 75 ).
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ۖ وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
📘 هذه الجملة تذييل للقصة والمثل وما أعقبا به من وصف حال المشركين ، فإن هذه الجملة تُحصل ذلك كله وتجري مجرى المثل ، وذلك أعلى أنواع التذييل ، وفيها تنويه بشأن المهتدين وتلقين للمسلمين للتوجه إلى الله تعالى بطلب الهداية منه والعصمة من مزالق الضلال ، أي فالذين لم يهتدوا إلى الحق بعد أن جاءهم دلت حالهم على أن الله غضب عليهم فحرمهم التوفيق .والهداية حقيقتها إبانة الطريق ، وتطلق على مطلق الإرشاد لما فيه النفع سواء اهتدى المهْدي إلى ما هُدي إليه أم لم يهتد ، قال تعالى : { إنّا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً } [ الإنسان : 3 ] وقال : { وأما ثمودُ فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } [ فصلت : 17 ].ثم قد علم أن الفعل الذي يسند إلى الله تعالى إنما يراد به اتقن أنواع تلك الماهية وأدوَمها ، ما لم تقم القرينة على خلاف ذلك ، فقوله : { من يَهْد الله } يُعنى به من يقدرِ الله اهتداءَه ، وليس المعنى من يرشده الله بالأدلة أو بواسطة الرسل ، وقد استفيد ذلك من القصة المُذَيلة فإنه قال فيها : { الذي آتيناه آياتنا } [ الأعراف : 175 ] فايتاءُ الآيات ضرب من الهداية بالمعنى الأصلي ، ثم قال فيها { فانسلخ منها } [ الأعراف : 175 ] وقال { ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه } [ الأعراف : 176 ] وقال : { ولو شئنا لرفعناه بها } [ الأعراف : 176 ] فعلمنا أن الله أرشده ، ولم يقدر له الاهتداء ، فالحالة التي كان عليها قبل أن يخلد إلى الأرض ليست حالة هدى ، ولكنها حالة تردد وتجربة ، كما تكون حالة المنافق عند حضوره مع المسلمين إذ يكون متلبساً بمحاسن الإسلام في الظاهر ، ولكنه غير مبطن لها كما قدمناه عند قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } في سورة البقرة ( 17 ) ، فتعين أن يكون المعنى هنا : من يقدر الله له أن يكون مهتدياً فهو المهتدي .والقصر المستفاد من تعريف جزأى الجملة { فهو المهتدي } قصر حقيقي ادعائي باعتبار الكمال واستمرار الاهتداء إلى وفاة صاحبه ، وهي مسألة الموافاة عند الأشاعرة ، أي وأما غيره فهو وإن بان مهتدياً فليس بالمهتدي لينطبق هذا على حال الذي أوتي الآيات فانسلخ منها وكان الشأن أن يرفع بها .وبهذا تعلم أن قوله { من يهد الله فهو المهتدي } ليس من باب قول أبي النجم :وشعري شعري ... وقول النبي صلى الله عليه وسلم « من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله » لأن ذلك فيما ليس في مفاد الثاني منه شيء زائد على مفاد ما قبله بخلاف ما في الآية فإن فيها القصر .وكذلك القول في { ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } وزيد في جانب الخاسرين الفصل باسم الإشارة لزيادة الاهتمام بتمييزهم بعنوان الخسران تحذيراً منه ، فالقصر فيه مؤكد .وجُمع الوصف في الثاني مراعاة لمعنى ( مَن ) الشرطية ، وإنما روعي معنى ( من ) الثانية دون الأولى؛ لرعاية الفاصلة ولتبين أن ليس المراد ب ( مَن ) الأولى مفرداً .وقد عُلم من مقابلة الهداية بالإضلال ، ومقابلة المهتدي بالخاسر أن المهتدي فائز رابح فحذف ذكر ربحه إيجازاً .والخسران استعير لتحصيل ضد المقصود من العمل كما يستعار الربح لحصول الخير من العمل كما تقدم عند قوله تعالى : { ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } في هذه السورة ( 9 ) ، وفي قوله : { فما ربحت تجارتهم } في سورة البقرة ( 16 ).
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ
📘 عطف على جملة : { واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } [ الأعراف : 175 ] ، والمناسبة أن صاحب القصة المعطوف عليها انتقل من صورة الهدى إلى الضلال ، لأن الله لما خلقه خلقه ليكون من أهل جهنم ، مع مالها من المناسبة للتذييل الذي ختمت به القصة وهو قوله : { من يهد الله فهو المهتدي } [ الأعراف : 178 ] الآية .وتأكيد الخبر بلام القسم وبقد؛ لقصد تحقيقه لأن غرابته تُنزل سامعه خالي الذهن منه منزلةَ المتردد في تأويله ، ولأن المخبرَ عنهم قد وصفوا ب { لهم قلوب لا يفقهون بها } إلى قوله { بل هم أضل } ، والمعني بهم المشركون ، وهم ينكرون أنهم في ضلال ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، وكانوا يحسبون أنهم أصحاب أحلام وأفهام ، ولذلك قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم في معرض التهكم { قلوبنا في أكنةٍ مما تدعونا إليه وفي آذاننا وَقْرٌ } [ فصلت : 5 ].والذرْء الخلق وقد تقدم في قوله : { وجعلوا لله مما ذَرَأ من الحرث والأنعام نصيباً } في سورة الأنعام ( 136 ).واللام في لجهنم } للتعليل ، أي خلقنا كثيراً لأجل جهنم .وجهنم مستعملة هنا في الأفعال الموجبة لها بعلاقة المسببية ، لأنهم خلقوا لأعمال الضلالة المفضية إلى الكون في جهنم ، ولم يُخلقوا لأجل جهنم ، لأن جهنم لا يقصد إيجاد خلق لتعميرها ، وليست اللام لام العاقبة؛ لعدم انطباق حقيقتها عليها ، وفي «الكشاف» جعلهم لاغراقهم في الكفر ، وأنهم لا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار ، مخلوقين للنار دلالة على تمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار اه ، وهذا يقتضي أن تكون الاستعارة في { ذرأنا } وهو تكلف راعى به قواعد الاعتزال في خَلق أفعال العباد وفي نسبة ذلك إلى الله تعالى .وتقديم المجرور على المفعول في قوله : { لجهنم كثيراً } ليظهر تعلقه ب { ذرَأنَا }.ومعنى خلق الكثير لاعمال الشر المفضية إلى النار : أن الله خلق كثيراً فجعل في نفوسهم قُوَى من شأنها إفساد ما أودعه في الناس من استقامة الفطرة المشار إليها في قوله : { وإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172 ] وهي قوى الشهوة والغضب فخلقها أشد سلطانا على نفوسهم من القوة الفطرية المسماة الحكمة ، فجعلت الشهوةُ والغضب المسمّيْن بالهوى تغلب قوة الفطرة ، وهي الحكمة والرشاد ، فترجح نفوسهم دواعيَ الشهوة والغضب فتتبعها وتُعرض عن الفطرة ، فدلائلُ الحق قائمة في نفوسهم ، ولكنهم ينصرفون عنها؛ لغلبة الهوى عليهم فَبِحَسَب خلقة نفوسهم غير ذات عزيمة على مقاومة الشهوات : جُعلوا كأنهم خلقوا لجهنم ، وكأنهم لم تخلق فيهم دواعي الحق في الفطرة .والجن خَلْق غير مَرْئي لنا ، وظاهر القرآن أنهم عقلاء ، وأنهم مطبوعون على ما خلقوا لأجله من نفع أو ضر ، وخير أو شر ، ومنهم الشياطين ، وهذا الخلق لا قبل لنا بتفصيل نظامه ولا كيفيات تلقيه لمراد الله تعالى منه .وقوله : { لهم قلوب } حال أو صفة لخصوص الإنس ، لأنهم الذين لهم : قلوب ، وعقول ، وعيون وآذان ، ولم يعرف للجن مثلُ ذلك ، وقد قدم الجن على الإنس في الذكر ، ليتعين كون الصفات الواردة من بعدُ صفات للإنس وبقرينة قوله : { أولئك كالأنعام }.و { القلوب } اسم لموقع العُقول في اللغة العربية ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } في سورة البقرة ( 7 ).والفقه تقدم عند قوله : { لعلهم يفقهون } في سورة الأنعام ( 65 ).ومعنى نفي الفقه والإبصار والسمع عن آلالتها الكائنة فيهم أنهم عطلوا أعمالها بترك استعمالها في أهم ما تصلح له : وهو معرفة ما يحصل به الخير الأبدي ، ويدفع به الضر الأبدي ، لأن الآت الإدراك والعلم خلقها الله لتحصيل المنافع ودفع المضار ، فلما لم يستعملوها في جلب أفضل المنافع ودفع أكبر المضار ، نفي عنهم عملها على وجه العموم للمبالغة ، لأن الفعل في حيز النفي يعم ، مثل النكرة ، فهذا عام أريد به الخصوص للمبالغة لعدم الاعتداد بما يعلمون من غير هذا ، فالنفي إستعارة بتشبيه بعض الموجود بالمعدوم كله .وليس في تقديم الأعين على الآذان مخالفة لما جرى عليه اصطلاح القرآن من تقديم السمع على البصر لتشريف السمع يتلقى ما أمر الله به كما تقدم عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ } [ البقرة : 7 ] لأن الترتيب في آية سورة الأعراف هذه سلك طريق الترقي من القلوب التي هي مقر المدركات إلى الآت الإدراك الأعين ثم الآذان فللاذان المرتبة الأولى في الارتقاء .وجملة : { أولئك كالأنعام } مستأنفة لابتداء كلام بتفظيع حالهم فجعل ابتداء كلام ليكون أدعى للسامعين . وعرّفوا بالإشارة لزيادة تمييزهم بتلك الصفات ، وللتنبيه على أنهم بسببها أحرياء بما سيذكر من تسويتهم بالأنعام أو جعلهم أضل من الأنعام ، وتشبيههم بالأنعام في عدم الانتفاع بما ينتفع به العقلاء فكأن قلوبهم وأعينهم وآذانهم ، قلوب الأنعام وأعينها وآذانها ، في أنها لا تقيس الأشياء على أمثالها ، ولا تنتفع ببعض للدلائل العقلية فلا تعرف كثيراً مما يفضي بها إلى سوء العاقبة .و ( بل ) في قوله : { بل هم أضل } للانتقال والترقي في التشبيه في الضلال وعدم الانتفاع بما يمكن الانتفاع به ، ولما كان وجه الشبه المستفاد من قوله : { كالأنعام } يؤول إلى معنى الضلال ، كان الارتقاء في التشبيه بطريقة اسم التفضيل في الضلال .ووجه كونهم أضل من الأنعام : أن الأنعام لا يبلغ بها ضلالها إلى إيقاعها في مهاوي الشقاء الأبدي ، لأن لها إلهاماً تتفصى به عن المهالك كالتردي من الجبال والسقوط في الهوّات ، هذا إذا حمل التفضيل في الضلال على التفضيل في جنسه وهو الأظهر ، وإن حمل على التفضيل في كيفية الضلال ومقارناته كان وجهه أن الأنعام قد خلق إدراكها محدوداً لا يتجاوز ما خلقت لأجله ، فنقصان انتفاعها بمشاعرها ليس عن تقصير منها ، فلا تكون بمحل الملامة ، وأما أهل الضلالة فإنهم حجروا أنفسهم عن مدركاتهم ، بتقصير منهم وإعراض عن النظر والاستدلال فهم أضل سبيلاً من الأنعام .وجملة : { أولئك هم الغافلون } تعليل لكونهم أضل من الأنعام وهو بلوغهم حد النهاية في الغفلة ، وبلوغهم هذا الحد أفيد بصيغة القصر الادعائي إذ ادُّعي انحصار صفة الغفلة فيهم بحيث لا يوجد غافل غيرهم لعدم الاعتداد بغفلة غيرهم كل غفلة في جانب غفلتهم كلا غفلة ، لأن غفلة هؤلاء تعلقت بأجدر الأشياء بأن لا يغفل عنه ، وهو ما تقضي الغفلة عنه بالغافل إلى الشقاء الأبدي ، فهي غفلة لا تدارك منها ، وعثرة لا لعى لها .والغفلة عدم الشعور بما يحق الشعور به ، وأطلق على ضلالهم لفظ الغفلة بناء على تشبيه الإيمان بأنه أمر بيّن واضح يعد عدم الشعور به غفلة ، ففي قوله : { هم الغافلون } استعارة مكنية ضمنية ، والغفلة من روادف المشبه به ، وفي وصف { الغافلون } استعارة مصرحة بأنهم جاهلون أو منكرون .وقد وقع التدرج في وصفهم بهذه الأوصاف من نفي انتفاعهم ، بمداركهم ثم تشبيههم بالأنعام ، ثم الترقي إلى أنهم أضل من الأنعام ، ثم قصر الغفلة عليهم .
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا ۖ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ
📘 أعاد الله أمره بالخروج من السّماء تأكيداً للأمرين الأوللِ والثّاني : قال : { اهبط منها } إلى قوله { فاخرج } [ الأعراف : 13 ].ومذءوم اسم مفعول من ذَأمه مهموزاً إذا عابَه وذمَّه ذَأماً وقد تسهل همزة ذأم فتصير ألفاً فيقال ذَام ولا تسهل في بقيّة تصاريفه .مدحور مفعول من دَحره إذا أبعده وأقصاه ، أي : أخرجُ خروجَ مذمُوم مطرود ، فالذّم لِمَا اتّصف به من الرّذائل ، والطّرد لتنزيه عالم القُدس عن مخالطته .واللاّم في { لمن تبعك } موطئة للقسم .و ( مَن ) شرطية ، واللاّم في لأمْلأنّ لام جواب القسم ، والجواب ساد مسد جواب الشّرط ، والتّقدير : أُقسِم من تبعك منهم لأمْلأنّ جهنّم منهم ومنك ، وغُلِّب في الضّمير حال الخطاب لأنّ الفرد الموجود من هذا العموم هو المخاطَب ، وهو إبليس ، ولأنّه المقصود ابتداء من هذا الوعيد لأنّه وعيد على فعله ، وأمّا وعيد اتّباعه فبالتّبع له ، بخلاف الضّمير في آية الحجر ( 43 ) وهو قوله : { وإن جهنّم لموعدهم أجمعين } [ الحجر : 43 ] لأنّه جاء بعد الإعراض عن وعيده بفعله والاهتمام ببيان مرتبة عباد الله المُخْلَصين الذين ليس لإبليس عليهم سلطان ثمّ الإهتمام بوعيد الغاوين .وهذا كقوله تعالى في سورة الحجر ( 41 43) : { قال هذا صراط عليّ مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين } والتّأكيد بأجمعين للتّنصيص على العموم لئلا يحمل على التّغليب ، وذلك أنّ الكلام جرى على أمّة بعنوان كونهم إتباعاً لواحد ، والعرب قد تجري العموم في مثل هذا على المجموع دون الجمع ، كما يقولون : قتلت تميمٌ فُلاناً ، وإنّما قتله بعضهم ، قال النّابغة في شأن بني حُنّ ( بحاء مهملة مضمومه) :وهُمْ قتلوا الطاءِى بالجَوّ عَنْوَة ...
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
📘 هذا خطاب للمسلمين ، فتوسطه في خلال مذام المشركين؛ لمناسبة أن أفظع أحوال المعدودين لجنهم هو حال إشراكهم بالله غيره ، لأن في ذلك إبطالاً لأخص الصفات بمعنى الإلهية : وهي صفة الوحدانية وما في معناها من الصفات نحو الفرد ، الصمد . وينضوي تحت الشرك تعطيل صفات كثيرة مثل : الباعث ، الحسيب ، والمُعيد ، ونشأ عن عناد أهل الشرك إنكار صفة الرحمن .فعقبت الآيات التي وصفت ضلال إشراكهم بتنبيه المسلمين للاقبال على دعاء الله بأسمائه الدالة على عظيم صفات الإلهية ، والدوام على ذلك ، وأن يُعرضوا عن شغب المشركين وجدالهم في أسماء الله تعالى .وقد كان من جملة ما يتورك به المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، أن أنكروا اسمه تعالى الرحمن ، وهو إنكار لم يقدمهم عليه جهلهم بأن الله موصوف بما يدل عليه وصف ( رحمان ) من شدة الرحمة ، وإنما أقدمهم عليه ما يقدم كل معاند من تطلب التغليظ والتخطئة للمخالف ، ولو فيما يعرف أنه حق ، وذكر ابن عطية ، وغيره . أنه روي في سبب نزول قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيذكر الله في قراءته ، ومرة يقرأ فيذكر الرحمان فقال أبو جهل «محمد يزعم أن الإله واحد وهو إنما يعبد آلهة كثيرة» فنزلت هذه الآية .فعطفُ هذه الآية على التي قبلها عطفُ الإخبار عن أحوال المشركين وضلالهم ، والغرض منها قوله : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه }.وتقديم المجرور المسند على المسند إليه؛ لمجرد الاهتمام المفيد تأكيد استحقاقه إياها ، المستفاد من اللام ، والمعنى أن اتسامه بها أمر ثابت ، وذلك تمهيد لقوله : { فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } ، وقد التزم مثل هذا التقديم في جميع الآي التي في هذا الغرض مثل قوله في سورة الإسراء ( 110 ) { فله الأسماء الحسنى } وسورة طه ( 8 ) { له الأسماء الحسنى } وفي سورة الحشر ( 24 ) { له الأسماء الحسنى } وكل ذلك تأكيد للرد على المشركين أن يكون بعض الأسماء الواردة في القرآن أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم أسماء لله تعالى بتخييلهم أن تعدد الاسم تعدد للمسمى تمويهاً على الدهماء .والأسماء هي الألفاظ المجعولة أعلاماً على الذات بالتخصيص أو بالغلبة فاسم الجلالة وهو ( الله ) علم على ذات الإله الحق بالتخصيص ، شأن الأعلام ، و ( الرحمن ) و ( الرحيم ) اسمان لله بالغلبة ، وكذلك كل لفظ مفرد دل على صفة من صفات الله ، وأطلق إطلاق الأعلام نحو الرب ، والخالق ، والعزيز ، والحكيم ، والغفور ، ولا يدخل في هذا ما كان مركّباً إضافياً نحو : ذو الجلال ، ورب العرش ، فإن ذلك بالأوصاف أشبه ، وإن كان دالاً على معنى لا يليق إلا بالله نحو : { مَلك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ].والحسنى مؤنث الأحسن ، وهو المتصف بالحسن الكامل في ذاته ، المقبول لدى العقول السليمة المجردة عن الهوى ، وليس المراد بالحسن الملاءمةَ لجميع الناس ، لأن الملاءمة وصف إضافة نسبي ، فقد يلائم زيداً ما لا يلائم عمراً ، فلذلك فالحسنُ صفة ذاتية للشيء الحسن .ووصف الأسماء ب { الحسنى } : لأنها دالة على ثبوت صفات كمال حقيقي ، أما بعضها فلأن معانيها الكاملة لم تثبت إلا لله نحو الحي ، والعزيز ، والحكيم ، والغني ، وأما البعض الآخر فلأن معانيها مطلقاً لا يحسن الاتصاف بها إلا في جانب الله نحو المتكبر ، والجبّار ، لأن معاني هذه الصفات وأشباهها كانت نقصاً في المخلوق من حيث أن المتسم بها لم يكن مستحقاً لها لعجزه أو لحاجته ، بخلاف الإله ، لأنه الغني المُطلق ، فكان اتصافُ المخلوق بها منشأ فساد في الأرض ، وكان اتصاف الخالق بها منشأ صلاح ، لأنها مصدر العدالة والجزاء القسطِ .والتفريع في قوله : { فادعوه بها } تفريع عن كونها أسماء له ، وعن كونها حسنى ، أي فلا حرج في دعائه بها؛ لأنها أسماء متعددة لمسمى واحد ، لا كما يزعم المشركون ، ولأنها حسنى فلا ضير في دعاء الله تعالى بها . وذلك يشير إلى أن الله يُدعى بكل ما دل على صفاته وعلى أفعاله .وقد دلت الآية على أن كل ما دل على صفة الله تعالى وشأن من شؤونه على وجه التقريب للأفهام بحسب المعتاد يسوغ أن يُطلق منه اسم لله تعالى ما لم يكن مجيئه على وجه المجاز نحو { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] أو يُوهم معنى نقص في متعارف الناس نحو الماكر من قوله : { واللَّه خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ].وليست أسماء الله الحسنى منحصرة في التسعه والتسعين الواردة في الحديث الصحيح عن الأعرج ، وعن أبي رافع ، وعن همام بن منبه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله تسعة وتسعين أسماً مَن أحصاها دخل الجنة " لأن الحديث الصحيح ليس فيه ما يقتضي حصر الأسماء في ذلك العدد ، ولكن تلك الأسماءَ ذات العدد لها تلك المزية ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا فقال يا حنّان يا منّان ولم يقع هذان الاسمان فيما روي من التسعة والتسعين ، وليس في الحديث المروي بأسانيد صحية مشهورة تعيين الأسماء التسعة والتسعين ، ووقع في «جامع الترمذي» من رواية شعيب بن أبي حمزة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة بعد قوله : «دخل الجنة» هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمان الرحيم إلى آخرها ، فعيّن صفات لله تعالى تسعاً وتسعين ، وهي المشهورة بين الذين تصدوا لبيانها ، قال الترمذي : «هذا حديث غريب حدَثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث ، ولا نعلم في شيء من الروايات لها إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث» .وتعيين هذه الأسماء لا يقتضي أكثر من أن مزيتها أن مَن أحصاها وحفظها دخل الجنة ، فلا يمنع أن تُعد لله أسماء أخرى . وقد عد ابن بَرّحان الإشبيلي في كتابه «أسماء الله الحسنى» مائة واثنتين وثلاثين اسماً مستخرجة من القرآن والأحاديث المقبولة ، وذكر القرطبي : أن له كتاباً سماه «الأسنى في شرح الأسماء الحسنى» ذكر فيه من الأسماء ما يُنيف على مائتي اسم ، وذكر أيضاً أن أبا بكر بن العربي ذكر عدة من أسمائه تعالى مثل مُتمّ نوره ، وخير الوارثين ، وخير الماكرين ، ورابع ثلاثة ، وسادس خمسة ، والطيب ، والمعلم إلخ .ولا تخفى سماجة عد نحو رَابع ثلاثة ، وسادس خمسة ، فإنها وردت في القرآن في سياق المجاز الواضح ولا مناص من تحكيم الذوق السليم ، وليس مجردَ الوقوف عند صورة ظاهرة من اللفظ ، وذكر ابن كثير في «تفسيره» عن كتاب «الأحوذي في شرح الترمذي» لعله يعني «عارضة الأحوذي» «أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله تعالى ألف اسم» ولم أجده في نسخ «عارضة الأحواذي» لابن العربي ، ولا ذكره القرطبي وهو من خاصة تلاميذ ابن العربي ، والموجود في كتاب «أحكام القرآن» له أنه حضره منها مائة وستة وأربعون اسماً وساقها في كتاب «الأحكام» ، وسقط واحد منها في المطبوعة ، وذكر أنه أبلغها في كتابه «الآمد» ( أي «الامد الأقصى» ) في شرح الأسماء إلى مائة وستة وسبعين اسماً .قال ابن عطية : واختلف في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ، ولا تتعلق به شبهة ولا اشتراك إلا أنه لم يَرد منصوصاً هل يطلق ويسمى الله به ، فنصُ الباقلاني على جواز ذلك ، ونص أبي الحسن الأشعري على منع ذلك ، والفقهاءُ والجمهور على المنع ، والصواب : أن لا يُسمى الله تعالى إلا باسم قد أطلقته الشريعة ، وأن يكون مدحاً خالصاً لا شبهة فيه ولا اشتراك أمر لا يحسنه ، إلا الأقل من أهل العلوم ، فإذا أبيح ذلك تسور عليه من يظن بنفسه الإحسان ، فادخل في أسماء الله ما لا يجوز إجماعاً . واختلف في الأفعال التي في القرآن نحو { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] و { مكر اللَّهُ } [ آل عمران : 54 ] ونحو ذلك هل يطلق منها اسم الفاعل ، فقالت فرقة : لا يُطلق ذلك بوجه ، وجوزت فرقة أن يقال ذلك مقيّداً بسببه نحو : اللَّهَ ماكر بالذين يمكرون بالدين ، وأما إطلاق ذلك دون تقييد فممنوع إجماعاً .والمراد من ترك { الذين يُلحدون في أسمائه } الإمساكُ عن الاسترسال في محاجتهم لظهور أنهم غير قاصدين معرفة الحق ، أو تركُ الإصغاء لكلامهم؛ لئلا يفتنوا عامة المؤمنين بشبهاتهم ، أي اتركوهم ولا تُغلّبوا أنفسكم في مجادلتهم ، فإني سأجْزيهم وقد تقدم معنى «ذر» عند قوله تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } في سورة الأنعام ( 70 ).والإلحاد : الميل عن وسط الشيء إلى جانبه ، وإلى هذا المعنى ترجع مشتقاته كلها ، ولما كان وسط الشيء يشبّه به الحق والصواب ، استتبع ذلك تشبيه العدول عن الحق إلى الباطل بالإلحاد ، فأطلق الإلحاد على الكفر والإفساد ، ويُعدى حينئذ ب ( في ) لتنزيل المجرور بها منزلة المكان للإلحاد ، والأكثر أن يكون ذلك عن تعمد للإفساد ، ويقال : لحَد وألحد ، والأشهر ألحد .وقرأ من عدا حمزة يُلحدون } بضم الياء وكسر الحاء من ألحد المهموز ، وقرأه حمزة وحده : بفتح الياء والحاء ، من لحد المجرد .وإضافة الأسماء إلى الله تؤذن بأن المقصود أسماؤه التي ورد في الشرع ما يقتضي تسميته بها .ومعنى الإلحاد في أسماء الله جعلها مظهراً من مظاهر الكفر ، وذلك بإنكار تسميته تعالى بالأسماء الدالة على صفات ثابتة له ، وهو الأحق بكمال مدلولها فإنهم أنكروا الرحمان ، كما تقدم ، وجعلوا تسميته به في القرآن وسيلة للتشنيع ، ولمز النبي عليه الصلاة والسلام بأنه عدد الآلهة ، ولا أعظم من هذا البهتان والجور في الجدال ، فحُق بأن يُسمى إلحاداً؛ لأنه عدول عن الحق بقصد المكابرة والحسد .وهذا يناسب أن يكون حرف ( في ) من قوله : { في أسمائه } مستعملاً في معنى التعليل كقول النبي صلى الله عليه وسلم « دَخلتْ امرأة النار في هرة » الحديث ، وقول عُمر بن أبي ربيعة :وعصيْتُ فيك أقاربي فتقطعت ... بيني وبينهم عُرى أسبابيوقد جوّز المفسرون احتمالات أخرى في معنى الإلحاد في أسمائه : منها ثلاثة ذكرها الفخر ، وأنا لا أراها مُلاقية لإضافة الأسماء إلى ضميره تعالى ، كما لا يخفى عن الناظر فيها .وجملة : { سيُجْزون ما كانوا يعملون } تتنزل منزلة التعليل للأمر بترك الملحدين ، فلذلك فصلت ، أي لا تهتموا بإلحادهم ولا تحزنوا له ، لأن الله سيجزيهم بسوء صنيعهم ، وسمي إلحادهم عملاً؛ لأنه من أعمال قلوبهم وألسنتهم .و ( ما ) موصولة عامة أي سيجزون بجميع ما يعملونه من الكفر ، ومن جملة ذلك إلحادهم في أسمائه .والسين للاستقبال ، وهي تفيد تأكيد .وقيل : { ما كانوا يعملون } دون ما عملوا أو ما يعملون للدلالة على أن ذلك العمل سنة لهم ومتجدد منهم .
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
📘 عطف على جملة : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس } [ الأعراف : 179 ] الآية ، والمقصود : التنويه بالمسلمين في هديهم واهتدائهم ، وذلك مقابلة لحال المشركين في ضلالهم ، أي عرّض عن المشركين ، فإن الله أغناك عنهم بالمسلمين ، فما صْدَقُ «الأمة» هم المسلمون بقرينة السياق كما في قول لبيد :ترَّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلقُ بَعْضَ النفوس حِمامُهايريد نفسه فإنها بعض النفوس . روى الطبري عن قتادة قال بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية : " هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها " . وقوله : { ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون } وبقية ألفاظ الآية عرف تفسيرها من نظره المتقدمة في هذه السورة .
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ
📘 والذين كذبوا بالآيات هم المشركون الذين كذبوا بالقرآن ، وقد تقدم وجه تعدية فعل التكذيب بالباء؛ ليدل على معنى الإنكار عند قوله تعالى : { قل إني على بينةٍ من ربي وكذبتم به } في سورة الأنعام ( 57 ).والاستدراج مشتق من الدّرَجة بفتحتين وهي طبقة من البناء مرتفعة من الأرض بقدر ما ترتفع الرِّجْل للارتقاء منها إلى ما فوقها تيسيراً للصعود في مثل العلو أو الصومعة أو البرج ، وهي أيضاً واحدة الأعواد المصفوفة في السلم يرتقى منها إلى التي فوقها ، وتسمى هذه الدرجة مرقاة ، فالسين والتاء في فعل الاستدراج للطلب ، أي طلب منه أن يتدرج ، أي صاعداً أو نازلاً ، والكلام تمثيل لحال القاصد إبدال حال أحد إلى غيرها بدون إشعاره ، بحال من يطلب من غيره أن ينزل من درجة إلى أخرى بحيث ينتهي إلى المكان الذي لا يستطيع الوصول إليه بدون ذلك ، وهو تمثيل بديع يشتمل على تشبيهات كثيرة ، فإنه مبني على تشبيه حُسن الحال برفعة المكان وضده بسفالة المكان ، والقرينة تعيّن المقصود من انتقال إلى حال أحسن أو أسوا .ومما يشير إلى مراعاة هذا التمثيل في الآية قوله تعالى : { من حيث لا يعلمون } ولما تضمن الاستدراج معنى الإيصال إلى المقصود علق بفعله مجرور بمن الابتدائية أي مبتدئاً استدراجهم من مكان لا يعلمون أنه مفض بهم إلى المبلغ الضار ، ف { حيث } هنا للمكان على أصلها ، أي من مكان لا يعلمون ما يفضي إليه ، وحذف مفعول يعلمون لدلالة الاستدراج عليه ، والتقدير : لا يعلمون تدرجه ، وهذا مؤذن بأنه استدراج عظيم لا يظن بالمفعول به أن يتفطن له .
وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
📘 والإملاء إفعال وهو الإمهال ، وهمزة هذا المصدر منقلبة عن واو ، مشتق من الملاوة مثلثة الميم ، وهي مدة الحياة يقال أملاه وملاه إذا أمهله وأخّره ، كلاهما بالألف دون همز فهو قريب من معنى عَمره ، ولذلك يقال في الدعاء بالحياة ملاك الله .واللام في قوله : { لهم } هي اللام التي تسمى : لام التبيين ، ولها استعمالات كثيرة فيها خفاء ومرجعها : إلى أنها يقصد منها تبيين اتصال مدخولها بعامله لخفاء في ذلك الاتصال ، فإن اشتقاق أملى من الملو اشتقاق غير مكين ، لأن المشتق منه ليس فيه معنى الحدث ، فلم يجيء منه فعل مجرد ، فاحتيج إلى اللام ، لتبيين تعلق المفعول بفعله .وأما قولهم : أملى للبعير بمعنى أطال له في طِوَله في المرعى ، فهو جاء من هذا المعنى بضرب من المجاز أو الاستعارة .فجملة : { إن كيدي متين } في موضع العلة للجملتين قبلها ، فإن الاستدراج والإملاء ضرب من الكيد ، وكيد الله متين أي قوي لا انفلات منه للمكيد .وموقع ( إن ) هنا موقع التفريع والتعليل ، كما قال عبد القاهر : إنها تغني في مثل هذا الموقع غَناء الفاء ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : { إن أول بيتتٍ وضع للناس } في سورة آل عمران ( 96 ) ، أي : يكون ذلك الاستدراج وذلك الاملاء بالغين ما أردناه بهم لأن كيدي قوي .ولما كان { أملي } معطوفاً على { سنستدرجهم } ، فهو مشارك له في الدخول تحت حكم الاستبقال ، أي : وسأملي لهم .والمغايرة بين فعلي ( نستدرج ) و ( أملي ) في كون ثانيهما بهمزة المتكلم ، وأولهما بنون العظمة مغايرة اقتضتها الفصاحة من جهة ثقل الهمزة بين حرفين متماثلين في النطق في { سنستدرجهم } وللتفنن والاكتفاء بحصول معنى التعظيم الأول .و ( الكيد ) لم يضبط تحديد معناه في كتب اللغة ، وظاهرها أنه يرادف المكر والحيلة ، وقال الراغب : «ضرب من الاحتيال ، وقد يكون مذموماً وممدوحاً وإن كان يستعمل في المذموم أكثر وهو يقتضي أن الكيد أخص من الاحتيال وما ذلك إلا لأنه غلب استعماله في الاحتيال على تحصيل ما لو اطلع عليه المكيد لاحترز منه ، فهو احتيال فيه مضرة ما على المفعول به ، فمراد الراغب بالمذموم المذموم عند المكيد لا في نفس الأمر» وقال ابن كمال باشا : الكيد الأخذ على خفاء ، ولا يعتبر فيه إظهار الكائد خلاف ما يبطنه .ويتحصل من هذه التدقيقات : أن الكيد أخص من الحيلة ومن الاستدراج .ووقوع جملة : { إن كيدي متين } موقعَ التعليل يقتضي أن استدراجهم والإملاء لهم كيد ، فيفيد أنه استدراج إلى ما يكرهونه ، وتأجيل لهم إلى حلول ما يكرهونه ، لأن مضمون الجملة الثانية على هذا شامل لمضمون الجملة السابقة مع زيادة الوصف ، المتين ، ما لو حمل الكيد على معنى الأخذ على خفاء بقطع النظر عن إظهار خلاف ما يخفيه ، فإن جملة : إن كيدي متين لا تفيد إلا تعليل الاستدراج والإملاء بأنهما من فعل من يأخذ على خفاء دون تلوين أخذه بما يغر المأخوذ ، فكأنه قال : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون كائدين لهم ، إن كيدي متين .وإطلاقه هنا جاء على طريقة التمثيلية بتشبيه الحال التي يستدرج الله بها المكذبين مع تأخير العذاب عنهم إلى أمد هم بالغوه ، بحال من يهيىء أخذاً لعدوه مع إظهار المصانعة والمحاسنة؛ ليزيد عدوه غروراً ، وليكون وقوع ضر الأخذ به أشد وأبعد عن الاستعداد لتلقيه .و ( المتين ) القوي ، وحقيقته القوي المتن أي الظهر ، لأن قوة متنه تمكنه من الأعمال الشديدة ، ومتن كل شيء عموده وما يتماسك به .
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ۗ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ
📘 لما كان تكذيبهم بالآيات منبعثاً عن تكذيبهم من جاء بها ، وناشئاً عن ظن أن آيات الله لا يجيء بها البشر ، وأن مَن يدعي أنه مرسل من الله مجنون ، عقب الإخبار عن المكذبين ووعيدهم بدعوتهم للنظر في حال الرسول ، وأنه ليس بمجنون كما يزعمون .واستعمال العرب همزة الاستفهام مع حروف العطف المشركة في الحكم استعمال عجيب تقدم بيانه عند قوله تعالى : { أفكلما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم أستكبرتم } في سورة البقرة ( 87 ).والجملة مستأنفة ، وهي ابتداء كلام في محاجتهم وتنبيههم بعد الإخبار عنهم بأنهم مستدرجون ومملى لهم .والاستفهام للتعجيب من حالهم والانكار عليهم ، و ( ما ) في قوله : { ما بصاحبهم من جنة } نافية كما يؤذن به دخول ( من ) على منفى ما ، لتأكيد الاستغراق .وفعل { يتفكروا } منزل منزلة اللازم ، فلا يقدر له متعلق للاستغناء عن ذلك بما دل عليه النفي في قوله : { ما بصاحبهم من جنة } أي ألم يكونوا من المفكرين أهل النظر ، والفعل المعلق عن العمل لا يقدر له مفعول ولا متعلق .والمقصود من تعليق الفعل هو الانتقال من علم الظان إلى تحقيق الخبر المظنون وجعله قضية مستقلة ، فيصير الكلام بمنزلة خبرين خبر من جانب الظان ونحوه ، وخبر من جانب المتكلم دخل في قسم الواقعات فنحو قوله تعالى : { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } [ الأنبياء : 65 ] هو في قوة أن يقال : لقد علمت لا ينطقون ما هؤلاء ينطقون ، أي ذلك علمك وهذا علمي ، وقوله هنا : { أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } في قوة : أو لم يتفكروا صاحبهم غير مجنون ، ما بصاحبهم من جنة . فتعليق أفعال القلب ضرب من ضروب الإيجاز ، وأحسب هذا هو الغرض من أسلوب التعليق لم يُنبه عليه علماء المعاني ، وأن خصائص العربية لا تنحصر .و«الصاحب» حقيقته الذي يلازم غيره في حالة من سفر أو نحوه ، ومنه قوله تعالى : { يا صاحبي السجن } [ يوسف : 41 ] ، وسميت الزوجة صاحبة ، ويطلق مجازاً على الذي له مع غيره حادث عظيم وخبر ، تنزيلاً لملازمة الذكر منزلة ملازمة الذات ، ومنه قول أبي معبد الخزاعي لامرأته ، أم معبد ، لما أخبرته بدخول النبي صلى الله عليه وسلم بيتها في طريق الهجرة ووصفت له هديه وبركتَه : «هذا صاحب قريش» ، وقولُ الحجاج في بعض خطبه لأهل العراق «ألَسْتُم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتُم الكفر» يريد أنهم الذين قاتلوه بالأهواز ، فمعنى كونهم أصحابه أنه كثر اشتغاله بهم ، وقول الفضل بن عبّاس اللّهَبي :كلُّ له نيّةٌ في بُغْض صاحبه ... بنعمة اللَّه نقليكم وتقلونافوصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب الذين كذبوا بالآيات : هو بمعنى الذي اشتغلوا بشأنه ولزموا الخوض في أمره ، وقد تكرر ذلك في القرآن كقوله تعالى : { وما صاحبكم بمجنونٍ }[ التكوير : 22 ].والجنة بكسر الجيم اسم للجنون ، وهو الخبال الذي يعتري الإنسان من أثر مسّ الجن إيّاه في عرف الناس ، ولذلك علقت الجنة بفعل الكون المقدر ، بحرف الباء الدال على الملابسة . وإنما أنكر عليهم وعُجّب من إعراضهم عن التفكر في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه غير مجنون ، رداً عليهم وصفهم إياه بالجنون { وقالوا يأيها الذي نُزّل عليه الذكر إنك لمجنون } [ الحجر : 6 ] ، { وقالوا معلمٌ مجنونٌ } [ الدخان : 14 ] وهذا كقوله تعالى : { وما صاحبكم بمجنون } [ التكوير : 22 ].وجملة : { إن هو إلا نذير مبين } استئناف بياني لجواب سائِل منهم يقول : فماذا شأنه ، أو هي تقرير لحكم جملة : { ما بصاحبهم من جنة } ففصلت لكمال الاتصال بينهما المغني عن العطف .والنذير المحذر من شيء يضر ، وأصله الذي يخبر القوم بقدوم عدوهم ، ومنه المثل «أنا النذير العُريان» يقال أنذر نذارة بكسر النون مثل بشارة فهو منذر ونذير .وهذا مما جاء فيه فعيل في موضع مُفْعل ، مثل الحكيم ، بمعنى المحكم ، وقول عمرو بن معديكرب :أمنْ رَيْحانةَ الداعي السميعُ ... أي المُسْمع . والمبين اسم فاعل من أبان إذا أوضح ، ووقع هذا الوصف عقب الإخبار ب ( نذير ) يقتضي أنه وصف للخبر ، فالمعنى أنه النذير المبين لنذارته بحيث لا يغادر شكاً في صدقه ، ولا في تصوير الحال المحذر منها ، فالغرض من اتباع «النذير» بوصف «المبين» التعريض بالذين لم ينصاعوا لنذارته ، ولم يأخذوا حذرهم من شر ما حذرهم منه ، وذلك يقطع عذرهم .ويجوز جعل { مبين } خبراً ثانياً عن ضمير صاحبهم ، والمعنى أنه نذير وأنه مبين فيما يبلغه من نذارة وغيرها .والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة ، وهو يقتضي انحصار أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم في النذارة والبيان ، وذلك قصر إضافي ، هو قصر قلب ، أي هو نذير مبين لا مجنون كما يزعمون ، وفي هذا استغباء أو تسفيهٌ لهم بأن حاله لا يلتبس بحال المجنون للبون الواضح بين حال النذارة البينة وحال هذيان المجنون . فدعواهم جنونه : إما غباوة منهم بحيث التبست عليهم الحقائق المتمايزة ، وإما مكابرة وعناد وافتراء على الرسول .
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
📘 ترق في الإنكار والتعجيب من حالهم في إعراضهم عن النظر في حال رسولهم . إلى الإنكار والتعجيب من إعراضهم عن النظر فيما هو أوضح من ذلك وأعم ، وهو ملكوت السموات والأرض ، وما خلق الله من شيء مما هو آيات من آيات وحدانية اللَّه تعالى التي دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بها . والمناسبة بين الكلامين : أن دعوة الرسول إلى التوحيد وإبطال الشرك هو من أكبر بواعثهم على تكذيبهِ { أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيءٌ عُجابٌ } [ ص : 5 ].وعُدِّي فعل ( النظر ) إلى متعلِّقه بحرف الظرفية ، لأن المراد التامل بتدبر ، وهو التفكر كقوله تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] وتقول نظرت في شأني ، فدل بحرف الظرفية على أن هذا التفكر عميق متغلغل في أصناف الموجودات وهي ظرفية مجازية .والملكوت المُلك العظيم ، وقد مضى عند قوله تعالى : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } في سورة الأنعام ( 75 ).وإضافته إلى السماء والأرض بيانية أي الملك الذي هو السماوات والأرض أي مُلك الله لهما ، فالمراد السماء بمجموعها والأرض بمجموعها الدالين على عظم ملك الله تعالى .وعطف { وما خلق الله من شيء } على { ملكوت } فقسّم النظر إلى نظر في عظيم مُلك الله تعالى ، وإلى نظر في مخلوقاته ودقائق أحوالها الدالة على عظيم قدرة الله تعالى ، فالنظر إلى عظمة السموات والأرض دليل على عظم ملك الله تعالى فهو الحقيق بالإلهية دون غيره ، والنظر إلى المخلوقات دليل على عظم قدرته تعالى ، وأنه المنفرد بالصنع فهو الحقيق بالإلهية ، فلو نظروا في ذلك نظر اعتبار؛ لعلموا أن صانع ذلك كله ليس إلا إله واحد ، فلزال إنكارهم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبطال الشرك .وقوله : { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } معطوف على { وما خلق الله من شيء }.و { أنْ } هذه هي أن المفتوحه الهمزة المشددة النون خففت ، فكان اسمها ضمير شأن مقدراً . وجملة : { عسى أن يكون } إلخ خبر ضمير الشأن .و { أن } التي بعد عسى مصدرية هي التي تزاد بعد عسى غالباً في الاستعمال .واسمُ { يكون } ضمير شأن أيضاً محذوف ، لأن ما بعد ( يكون ) غير صالح لأن يعتبر اسماً لكان ، والمعنى ألم ينظروا في توقع قرب أجلهم .وصيغ الكلامُ على هذا النظم؛ لإفادة تهويل الأمر عليهم وتخويفهم ، بجعل متعلق النظر من معنى الإخبار للدلالة على أنه أمر من شأنه أن يخْطر في النفوس ، وأن يتحدث به الناس ، وأنه قد صار حديثاً وخبراً فكأنه أمر مسلم مقرر .وهذا موقع ضمير الشان حيثما ورد ، ولذلك يسمى : ضميرَ القصة اعتداداً بأن جملة خبره قد صارت شيئاً مقرراً ومما يقصه الناس ويتحدثون به .ومعنى النظر في توقع اقتراب الأجل ، التخوفُ من ذلك .والأجل المضاف إلى ضمير المكذبين هو أجل الأمة لا أجل الأفراد ، لأن الكلام تهديد بأجل غير متعارف ، نبههم إلى التفكر في توقع حلول الاستئصال بهم وإهلاكهم كما هلك المكذبون من قبلهم ، لأنهم إذا تفكروا في أن صاحبهم ليس بمجنون حصل لهم العلم بأنه من العقلاء ، فما كان العاقل بالذي يُحدث لقومه حادثاً عظيماً مثل هذا ، ويحدث لنفسه عناء كهذا العناء لغير أمر عظيم جاء به ، وما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله ، وإذا نظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء علموا أن الله الملك الأعظم ، وأنه خالق المخلوقات ، فأيقنوا بأنه الإله الواحد ، فآل ذلك إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام ، وإبطال معتقدهم تعدد الآلهة أو آل في أقل الاحتمالات إلى الشك في ذلك ، فلا جرم أن يفضي بهم إلى النظر في توقع مصير لهم مثل ما صار إليه المكذبون من قبلهم .ويجوز أن يكون المراد بالأجل مجيء الساعة ، وانقراض هذا العالم ، فهو أجلهم وأجل غيرهم من الناس فيكون تخويفاً من يوم الجزاء .ومن بديع نظم هذه الآيات : أنه لما أريد التبصر والتفكر في ثبوت الحقائق والنِّسب في نفس الأمر جيء مع فعلى القلب بصيغة القضية والخبر في قوله : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } [ الأعراف : 184 ] وقوله : { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } ولما أريد التبصر والتفكر في صفات الذات جعل فعل القلب متعلقاً بأسماء الذوات في قوله : { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء }.ثم فرع على التهديد والوعيد توبيخهم والإنكارُ عليهم بطريقة الاستفهام التعجيبي المفيد للاستبعاد بقوله : { فبأي حديث بعده يؤمنون } فهو تعجيب مشوب باستبعاد للإيمان بما أبلغ إليهم الله بلسان رسوله عليه الصلاة والسلام ، وما نصب لهم من الآيات في أصناف المخلوقات ، فإن ذلك كله قد بلغ منتهى البيان قولاً ودلالة بحيث لا مطمع أن يكون غيره أدل منه .و ( أي ) هنا اسم أُشربَ معنى الاستفهام ، وأصله اسم مبهم يفسره ما يضاف هو إليه ، وهو اسم لحصة متميزة عما يشاركها في نوع من جنس أو صفة ، فإذا أُشرب ( أي ) معنى الاستفهام ، كان للسؤال عن تعييننِ مشارك لغيره في الوصف المدلول عليه بما تضاف إليه ( أي ) طلباً لتعيينه ، فالمسؤول عنه بها مُساو لمماثل له معروف فقوله : { فبأي حديث } سؤال عن الحديث المجهول المماثل للحديث المعروف بين السائل والمسؤول وسيأتي الكلام على ( أي ) عند قوله تعالى : { فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون } في سورة القلم ( 5 ، 6 ).والاستفهام هنا مستعمل في الإنكار ، أي لا يؤمنون بشيء من الحديث بعد هذا الحديث .وحقيقة الحديث أنه الخبر والقصة الحادثة { هل أتاك حديثُ ضيف إبراهيم } [ الذاريات : 24 ] ويطلق مجازاً على الأمر الذي من شأنه أن يصير حديثاً وهو أعم من المعنى الحقيقي .ف«الحديث» هنا إن حُمل على حقيقته جاز أن يراد به القرآن ، كما في قوله تعالى : { فليأتوا بحديثثٍ مثله } [ الطور : 34 ] فيكون الضمير في قوله : { بعده } بمعنى بعد القرآن ، أي بعدَ نزوله ، وجاز أن يراد به دعوى محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة من عند الله ، وكلا الاحتمالين يناسب قوله : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } [ الأعراف : 184 ].والباء في قوله : { فبأي حديث } على هذا باء التعدية لتعدية فعل { يؤمنون } ، وإن حمل على المجاز شمل القرآن وغيره من دلائل المصنوعات باعتبار أنها من شأنها أن يتحدث الناس بها كما في قوله : { فبأي حديثثٍ بعد الله وآياته يؤمنون } [ الجاثية : 6 ] فيكون الضمير في قوله : { بعده } عائداً على معنى المذكور أي ما ذُكر من ملكوت السموات والأرض ، وما خلق الله من شيء ، وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ، وأفرد الضمير لتأويله بالمذكور كما في قوله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلةً فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفْساً } في سورة النساء ( 4 ) أي فبأي شيء يستدل عليهم غير ما ذكر بعدَ أن لم ينتفعوا بدلالة ما ذكر ، ولم يؤمنوا له فلا يرجى منهم إيمان بعد ذلك .والباء على هذا الوجه للسببية متعلقة بيؤمنون } و ( بَعد ) هنا مستعارة لمعنى غير ، لأن الظروف الدالة على المباعدة والمفارقة تستعمل استعمال المغاير قال تعالى : { فمن يهديه من بعد الله } [ الجاثية : 23 ] وحمل ( بعد ) على حقيقتها هنا يحوج إلى تأويل ، ويخرج الكلام عن سواء السبيل .
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ۚ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
📘 هذه الجملة تعليل للإنكار في قوله : { فبأي حديث بعده يؤمنون } [ الأعراف : 185 ] ، لإفادة أن ضلالهم أمر قدر الله دوامَه ، فلا طمع لأحد في هديهم ، ولما كان هذا الحكم حاقاً على من اتصف بالتكذيب ، وعدم التفكر في حال الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله ، وفي توقع اقتراب استيصالهم ، كان المحكوم عليهم بعدم الاهتداء فريقاً غير معروف للناس ، وإنما ينفرد الله بعلمه ويُطْلع عليه رسوله عليه الصلاة والسلام ، وينكشف بعض ذلك عند موت بعضهم على الشرك ، وهذه هي المسألة الملقبة بالموافاة عند علماء الكلام .وعطف جملة : { ونذَرهم في طغيانهم يعمهون } على جملة : { من يضلل الله فلا هادي له } للإشارة إلى استمرار ضلالهم وانتفاء هديهم في المستقبل كما وقع في الماضي .وتفسير : { نذرهم } تقدم في قوله تعالى : { وذَر الذين اتخذوا دينهم لعباً } في سورة الأنعام ( 70 ) وتفسير «طغيان» و { يعمهون } تقدم عند قوله : { في طغيانهم يعمهون } في سورة البقرة ( 15 ).وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر : { نَذرهم } بالنون وبالرفع ، على أنه عطف جملة على جملة : { من يضلل الله } على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم .وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : بالياء التحتية والجزم ، على أنه عطف على موضع { فلا هادي له } وهو جواب الشرط .وقرأ أبو عَمرو ، وعاصم ، ويعقوب : بالياء التحتية وبالرفع والوجه ظاهر .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
📘 استئناف ابتدائي يذكر به شيء من ضلالهم ومحاولة تعجيزهم النبي صلى الله عليه وسلم بتعيين وقت الساعة .ومناسبة هذا الاستئناف هي التعرض لتوقع اقتراب أجلهم في قوله : { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلُهم } [ الأعراف : 185 ] سواء أفسر الأجل بأجل إذهاب أهل الشرك من العرب في الدنيا ، وهو الاستئصال ، أم فسر بأجلهم وأجل بقية الناس وهو قيام الساعة ، فإن الكلام على الساعة مناسبة لكلا الأجلين .وقد عرف من شنشنة المشركين إنكارهم ، البعثَ وتهكمهم بالرسول عليه الصلاة والسلام من أجل إخباره عن البعث { وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزقتم كل مُمزققٍ إنكم لفي خلققٍ جديدٍ أفترى على الله كذباً أم به جنةٌ } [ سبأ : 7 ، 8 ] ، وقد جعلوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة ووقتها تعجيزاً له ، لتوهمهم أنه لما أخبرهم بأمرها فهو يدعي العلم بوقتها { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوممٍ لا تستأخرون عنه ساعةً ولا تستقدمون } [ سبأ : 29 ، 30 ].فالسائلون هم المشركون ، وروي ذلك عن قتادة ، والضمير يعود إلى الذين كذبوا بآياتنا ، وقد حكي عنهم مثل هذا السؤال في مواضع من القرآن ، كقوله تعالى في سورة النازعات ( 42 ) { يسألونك عن الساعة أيّانَ مرساها } وقوله { عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون } [ النبأ : 1 3 ] يعني البعثَ والساعة ، ومن المفسرين من قال : المعني بالسائلين اليهود أرادوا امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الساعة ، وهذا لا يكون سبب نزول الآية ، لأن هذه السورة مكية ، قيل كلها ، وقيل إن آيتين منها نزلتا بالمدينة ، ولم يعُدوا هذه الآية ، فيما اختُلف في مكان نزوله والسور التي حكي فيها مثل هذا السؤال مكية أيضاً نازلة قبل هذه السورة .والساعة معرّفةً باللام علم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء هذا العالم الدنيوي والدخول في العالم الأخروي ، وتسمى : يومَ البعث ، ويومَ القيامة .و { أيّان } اسم يدل على السؤال عن الزمان وهو جامد غير متصرف مركب من ( أي ) الاستفهامية و ( آنَ ) وهو الوقت ، ثم خففت ( أي ) وقلبت همزة ( آن ) ياء ليتأتى الإدغام ، فصارت ( أيّان ) بمعنى أي زمان ، ويتعين الزمان المسؤول عنه بما بعد ( أيان ) ، ولذلك يتعين أن يكون اسمَ معنى لا اسمَ ذات ، إذ لا يخبر بالزمان عن الذات ، وأما استعمالها اسم شرط لعموم الأزمنة فذلك بالنقل من الاستفهام إلى الشرط كما نقلت ( متى ) من الاستفهام إلى الشرطية ، وهي توسيعات في اللغة تَصيرُ معاني متجددة ، وقد ذكروا في اشتقاق ( أيان ) احتمالات يرجعون بها إلى معاني أفعال ، وكلها غير مرضية ، وما ارتأيناه هنا أحسن منها .فقوله : { أيان } خبر مقدم لصدارة الاستفهام ، و { مرساها } مبتدأ مؤخر ، وهو في الأصل مضاف إليه آن إذ الأصل أي ( آن ) آن مُرسى الساعة .وجملة : { أيان مُرساها } في موضع نصب بقول محذوف دل عليه فعل { يسألونك } والتقدير : يقولون أيان مرساها ، وهو حكاية لقولهم بالمعنى ، ولذلك كانت الجملة في معنى البدل عن جملة : { يسألونك عن الساعة }.والمُرْسَى مصدر ميمي من الإرساء وهو الإقرار يقال رَسَا الجبل ثُبت ، وأرساه أثبته وأقره ، والإرساء الاستقرار بعد السير كما قال الأخطل :وقال رَائدُهم أرْسُوا نزاوِلُها ... ومرسى السفينة استقرارها بعد المخر قال تعالى : { بسم الله مجراها ومرساها } [ هود : 41 ] ، وقد أطلق الإرساء هنا استعارة للوقوع تشبيهاً لوقوع الأمر الذي كان مترقباً أو متردد فيه بوصول السائر في البر أو البحر إلى المكان الذي يريده .وقد أمر الله رسوله بجوابهم جواب جد وإغضاء عن سوء قصدهم بالسؤال التهكْم ، إظهاراً لنفي الوصمة عن وصف النبوءة من جراء عدم العلم بوقت الشاعة ، وتعليماً للذين يترقبون أن يحصل من جواب الرسول عن سؤال المشركين علْم للجميع بتعيين وقت الساعة فإذا أمْر الساعة مما تتوجه النفوس إلى تطلبه .فقد ورد في الصحيح أن رجلاً من المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يا رسول الله متى الساعة؟ فقال رسول الله ماذا أعْدَدْتَ لها؟ فقال ما أعددتُ لها كبيرَ عَمل إلاّ أني أحب الله ورسوله فقال أنتَ مع مَن أحببت » .وعلْمُ الساعة هو علم تحديد وقتها كما يُنبىء عنه السؤال ، وقوله : { لا يُجليها لوقتها إلاّ هو } ، فإضافة علم إلى ضمير الساعة على تقدير مضاف بينهما أيْ علْم وقتها ، والإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله ، وظرفية ( عند ) مجازية استعملت في تحقيق تعلق علم الله بوقتها .والحصر حقيقي : لأنه الأصل ، ولما دل عليه توكيده بعَد في قوله : { قل إنما علمها عند الله } ، والقصر الحقيقي يشتمل على معنى الإضافي وزيادة ، لأن علم الساعة بالتحديد مقصور على الله تعالى .والتعريف بوصف الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم إيماءٌ إلى الاستدلال على استئثار الله تعالى بعلم وقت الساعة دون الرسول المسؤول ففيه إيماء إلى خطإهم وإلى شبهة خطإهم .و ( التجلية ) الكشف ، والمراد بها ما يشمل الكشف بالإخبار والتعيين ، والكشفَ بالإيقاع ، وكلاهما منفيُ الإسناد عن غير الله تعالى ، فهو الذي يعلم وقْتها ، وهو الذي يُظهرها إذا أراد ، فإذا أظهرها فقد أجلاها .واللام في قوله : { لوقتها } للتوقيت كالتي في قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ].ومعنى التوقيت ، قريب من معنى ( عندَ ) ، والتحقيقُ : أن معناه ناشىء عن معنى لام الاختصاص .ومعنى اللام يناسب أحد معنيي الإجلاء ، وهو الإظهار ، لأنه الذي إذا حصل تَم كشف أمرها ، وتحقق الناسُ أن القادر على إجلائها كان عالماً بوقت حلولها .وفصلت جملة : { لا يجليها لوقتها إلاّ هو } لأنها تتنزل من التي قبلها منزلة التأكيد والتقرير .وقدم المجرور وهو { لوقتها } على فاعل { يجليها } الواقع استثناء مفرغاً للاهتمام به تنبيهاً على أن تجلية أمرها تكون عند وقت حلولها لأنها تأتي بغتة .وجملة : { ثقلت في السماوات والأرض } معترضة لقصد الإفادة بهولها ، والإيماء إلى حكمة إخفائها .وفعل { ثقلت } يجوز أن يكون لمجرد الإخبار بشدة ، أمرها كقوله : { ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً }.ويجوز أن يكون تعجيباً بصيغة فعُل بضم العين فتقدر الضمة ضمة تحويل الفعل للتعجيب ، وإن كانت هي ضمة أصلية في الفعل ، فيكون من قبيل قوله : { كُبرت كلمة تخرُج من أفواههم } [ الكهف : 5 ].والثقل مستعار للمشقة كما يستعار العظم والكِبَر ، لأن شدة وقع الشيء في النفوس ومشقته عليها تخيّل لمن خلت به أنه حامل شيئاً ثقيلاً ، ومنه قوله تعالى : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] أي شديداً تلقيه وهو القرآن ، ووصف الساعة بالثقل باعتبار ما هو مظروف في وقتها من الحوادث ، فوصفها بذلك مجاز عقلي ، والقرينة واضحة ، وهي كون الثقل بمعنى الشدة لا يكون وصفاً للزمان ، ولكنه وصف للأحداث ، فإذا أسند إلى الزمان ، فإسناده إليه إنما هو باعتباره ظرفاً للأحداث ، كقوله : { وقالَ هذا يومٌ عَصيبٌ } [ هود : 77 ].وثقل الساعة أي شدتها هو عظم ما يحدث فيها من الحوادث المهولة في السماوات والأرض ، من تصادم الكواكب ، وانخرَام سيرها ، ومن زلازل الأرض وفيضان البراكين ، والبحار ، وجفاف المياه ، ونحو ذلك مما ينشأ عن اختلال النظام الذي مكان عليه سير العالم ، وذلك كله يحدث شدة عظيمة على كل ذي إدراك من الموجودات .ومن بديع الإيجاز تعدية فعل { ثَقُلَت } بحرف الظرفية الدال على مكان حلول الفعل ، وحذفُ ما حقه أن يتعدى إليه وهو حرف ( إلى ) الذي يدل على ما يقع عليه الفعل ، ليعم كل ما تحويه السماوات والأرض مما يقع عملية عملية الثقل بمعنى الشدة .وجملة : { لا تأتيكم إلاّ بغتة } مستأنفة جاءت تكملة للإخبار عن وقت حلول الساعة ، لأن الإتيان بغتة يحقق مضمون الإخبار عن وقتها بأنه غير معلوم إلاّ لله ، وبأن الله غيرُ مُظهره لأحد ، فدل قوله : { لا تأتيكم إلاّ بغتة } على أن انتفاء إظهار وقتها انتفاءٌ متوغل في نوعه بحيث لا يحصل العلم لأحد بحلولها بالكنه ولا بالإجمال ، وأما ما ذكر لها من أمارات في حديث سُؤال جبريل عن أماراتها فلا ينافي إتيانها بغتة ، لأن تلك الأمارات ممتدةُ الأزمان بحيث لا يحصل معها تهيؤ للعلم بحلولها .و«البغتة» مصدر على زنة المرّة من البغْت وهو المفاجأة أي الحصول بدون تهيؤ له ، وقد مضى القول فيها عند قوله تعالى : { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتةً } في سورة الأنعام ( 31 ).وجملة : { يسألونك كأنك حفي عنها } مؤكدة لجملة : { يسألونك عن الساعة } ومبينة لكيفية سؤالهم فلذيْنك فُصلت .وحذف متعلق السؤال لعلمه من الجملة الأولى .و { حَفي } فعيل فيجوز أن يكون بمعنى فاعل مشتقاً من حَفي به ، مثل غَنيِ فهو غَني إذا أكثر السؤال عن حاله تلطفاً ، ويكون المعنى كأنك أكثرتَ السؤال عن وقتها حتى علمته ، فيكون وصف حَفي كناية عن العالم بالشيء ، لأن كثرة السؤال تقتضي حصول العلم بالمسؤول عنه ، وبهذا المعنى فسر في «الكشاف» فهو من الكناية بالسؤال عن طلب العلم ، لأن السؤال سبب العلم ، كقول السموْأل أوْ عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو غيرهما :سَلي إنَ جهلت الناسَ عنا وعنهم ... فليسَ سواءً عَالم وجَهُولوقول عامر بن الطُفيل :طُلْقت إنَ لم تسألي أي فارس ... حَليلُك إذْ لاقى صُداء وخثْعهاوقول أُنَيْفٍ بن زَبّانَ النبهاني :فلما التقيْنا بيْنَ السيفُ بيننا ... لسائلةٍ عنّا حَفِيٌّ سؤالهاويجوز أن يكون مشتقاً من أحفاه إذا ألح عليه في فعل ، فيكون فعيلاً بمعنى مُفعل مثل حَكيم ، أي كأنك مُلح في السؤال عنها ، أي ملح على الله في سؤال تعيين وقت الساعة كقوله تعالى : { إنْ يسألكموها فيُحْفكم تبخلوا } [ محمد : 37 ].وقوله : { كأنك حفي } حال من ضمير المخاطب في قوله : { يسألونك } معترضة بين { يسألونك } ومتعلقه .ويتعلق قوله : { عنها } على الوجهين بكل من { يسألونك } و { حفيّ } على نحو من التنازع في التعليق .ويجوز أن يكون { حفيّ } مشتقاً من حَفي به ، كرضي بمعنى بَالغ في الإكرام ، فيكون مستعملاً في صريح معناه ، والتقدير : كأنك حفي بهم أي مكرم لهم وملاطف فيكون تهكماً بالمشركين ، أي يظهرون لك أنك كذلك ليستنزلوك للخوض معهم في تعيين وقت الساعة ، روي عن ابن عباس : كأنك صديق لهم ، وقال قتادة : قالت قريش لمحمد : إن بيننا قرابة فأسِرَّ إليْنا متى الساعة فقال الله تعالى : { يسألونك كأنك حَفي عنها } وعلى هذا الوجه يتعلق { عنها } ب { يسألونك } وحذف متعلق { حفي } لظهوره .وبهذا تعلم أن تأخير { عنها } للإيفاء بهذه الاعتبارات .وفي الآية إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتعلق همته بتعيين وقت الساعة ، إذ لا فائدة له في ذلك ، ولأنه لو اهتم بذلك لكان في اهتمامه تطلباً لإبطال الحكمة في إخفائها ، وفي هذا إشارة إلى أن انتفاء علمه بوقتها لا ينافي كرامته على الله تعالى بأن الله أعطاه كمالاً نفسياً يصرفه عن تطلب ذلك ، ولو تطلبه لأعْلمه الله به ، كما صرف موسى عليه السلام عن الاستمرار على كراهة الموت حين حل أجله كيلا ينزع روحه وهو كاره ، وهذه سرائر عالية بين الله وبين الصالحين من عباده .وأكدت جملة الجواب الأولى بقوله : { قل إنما علمها عند الله } تأكيداً لمعناها ليعلم أن ذلك الجواب لا يرجى غيره وأن الحصر المشتمل عليه قوله : { إنما علمها عند ربي } حصر حقيقي ثم عطف على جملة الجواب استدراك عن الحصر في قوله : { قل إنما علمها عند الله } تأكيداً لكونه حصراً حقيقياً ، وإبطالاً لظن الذين يحسبون أن شأن الرسل أن يكونوا عالمين بكل مجهول ، ومن ذلك وقت الساعة بالنسبة إلى أوقاتهم يستطيعون إعلام الناس فيستدلون بعدم علم الساعة على عدم صدق مدعي الرسالة ، وهذا الاعتقاد ضلالة ملازمة للعقول الأفنة ، فإنها تتوهم الحقائق على غيْر ما هي عليه ، وتوقن بما يخيل إليها ، وتجعله أصولاً تبني عليها معارفها ومعاملاتها ، وتجعلها حَكماً في الأمور إثباتاً ونفياً ، وهذا فرط ضلالة ، وإنه لَضغْث على إبَالة بتشديد الباء وتخفيفها ، وقد حكي التاريخ القديم شاهداً مما قلناه وهو ما جاء في سفر دانيال من كتب الأنبياء الملحقة بالتوراة أن ( بُخْتَنَصَّر ) ملك بابل رأى رؤيا أزعجته وتطلب تعبيرها ، فجمع العرافين والمنجمين والسحرة وأمرهم أن يخبروه بصورة ما رآه في حلمه من دون أن يحكيه لهم ، فلما أجابوه بأن هذا ليس في طاقة أحد من البشر ولا يطلع على ما في ضمير الملك إلاّ الآلهة ، غضب ، واغتاظ ، وأمر بقتلهم ، وأنه أحضر دانيال النبي وكان من جملة أسرى بني إسرائيل في ( بابل ) وهدده بالقتل إن لم ينبئه بصورة رؤياه ، ثم بتعبيرها ، وأن دانيال استنظره مدة ، وأنه التجأ إلى الله بالدعاء هو وأصحابه ( عزريا ) و ( ميشاييل ) و ( حننيا ) فدعوا الله لينقذ دانيال من القتل ، وأن الله أوحى إلى دانيال بصورة ما رءاه الملك فأخبر دانيالُ الملكَ بذلك ، ثم عبر له ، فنال حظوة لديه انظر الإصحاح الثاني من سفر دانيال .
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
📘 هذا ارتقاء في التبرُّؤ من معرفة الغيب ومن التصرف في العالم ، وزيادةٌ من التعليم للأمة بشيء من حقيقة الرسالة والنبوة ، وتمييز ما هو من خصائصها عما ليس منها .والجملة مستأنفة ابتدائية قصد من استينافها الاهتمام بمضمونها ، كي تتوجه الأسماع إليها ، ولذلك أعيد الأمر بالقول مع تقدمه مرتين في قوله : { قل إنما علمها عند ربي . . . قل إنما علمها عند الله } [ الأعراف : 187 ] للاهتمام باستقلال المقول ، وأن لا يندرج في جملة المقول المحكي قبله ، وخص هذا المقول بالإخبار عن حال الرسول عليه الصلاة والسلام نحو معرفة الغيب ليقلع من عقول المشركين توهمَ ملازمة معرفة الغيب لصفة النبوة ، إعلاناً للمشركين بالتزام أنه لا يَعلم الغيب ، وأن ذلك ليس بطاعن في نبوته حتى يستيْئسوا من تحديه بذلك ، وإعلاماً للمسلمين بالتمييز بين ما تقتضيه النبوة وما لا تقتضيه ، ولذلك نفى عن نفسه معرفة أحواله المغيّبة ، فضلاً على معرفة المغيبات من أحوال غيره إلاّ ما شاء الله .في «تفسير البغوي» ، عن ابن عباس : أن أهل مكة قالوا يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يَغلو فتشتريَ عند الغلاء ، وبالأرض التي تريد أن تَجْدب فترتحل منها إلى التي قد أخصبتْ ، فأنزل الله تعالى : { قُل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلاّ ما شاء الله } فيكون هذا من جملة ما توركوا به مثل السؤال عن الساعة ، وقد جمع رد القولين في قول .ومعنى الملْك هنا الاستطاعة والتمكن ، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى : { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً } في سورة المائدة ( 76 ) ، والمقصود منه ، هنا : ما يشمل العلم بالنفع والضر ، لأن المقام لنفي معرفة الغيب ، ولأن العلم بالشيء هو موجب توجه النفس إلى عَمله .وقُدم النفع في الذكر هنا على الضر : لأن النفع أحب إلى الإنسان ، وعُكس في آية المائدة؛ لأن المقصود تهوين أمر معبوداتهم ، وأنها لا يُخشى غضبها .وإنما عطف قوله : { ولا ضَراً } مع أن المرء لا يتطلب إضرار نفسه لأن المقصود تعميم الأحوال إذ لا تعدو أحوال الإنسان عن نافع وضار ، فصار ذكر هذين الضدين مثل ذكر المساء والصباح وذكر الليل والنهار والشر والخير وسيأتي مزيد بيان لهذا عند قوله تعالى : { ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً } في سورة الفرقان ( 3 ) ، وجُعل نفي أن يملك لنفسه نفعاً أو ضراً مقْدمة لنفي العلم بالغيب ، لأن غاية الناس من التطلع إلى معرفة الغيب هو الإسراع إلى الخيرات المستقبلة بتهيئة أسبابها وتقريبها ، وإلى التجنب لمواقع الإضرار ، فنفي أن يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، يعم سائر أنواع الملك وسائر أنواع النفع والضر ، ومن جملة ذلك العموم ما يكون منه في المستقبل وهو من الغيب .والاستثناء من مجموع النفع والضر ، والأولى جعله متصلاً ، أي إلاّ ما شاء الله أن يُملّكنيه بأن يُعْلمنيه ويُقدرَني عليه ، فإن لم يشأ ذلك لم يطلعني على مواقعه وخلق الموانع من أسباب تحصيل النفع ، ومن أسباب اتقاء الضر ، وحمْله على الاتصال يناسب ثبوت قدرة للعبد بجعل الله تعالى وهي المسماة بالكسب ، فإذا أراد الله أن يوجه نفس الرسول عليه الصلاة والسلام إلى معرفة شيء مغيب أطلعه عليه لمصلحة الأمة أو لإكرام الأمة له كقوله تعالى : { إذْ يريكهم الله في منامك } إلى قوله : { ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } [ الأنفال : 44 ].وقوله : { ولو كنتُ أعلم الغيب } الخ تكملة للتبرؤ من معرفة الغيب ، سواء منه ما كان يخص نفسه وما كان من شؤون غيره .فحصل من مجموع الجملتين أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، في عالم الشهادة وفي عالَم الغيب ، وأنه لا يعلم شيئاً من الغيب ، مما فيه نفعه وضره وما عداه .والاستدلال على انتفاء علمه بالغيب بانتفاء الاستكثار من الخير ، وتجنب السوء ، استدلال بأخص ما لو عَلم المرء الغيبَ لَعلمه ، أولَ ما يعلم وهو الغيب الذي يَهُم نفسه ، ولأن الله لو أراد إطلاعه على الغيب؛ لكان القصد من ذلك إكرام الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون إطلاعه على ما فيه راحته أول ما ينبغي إطلاعه عليه ، فإذا انتفى ذلك كان انتفاء غيره أوْلَى .ودلي التالي ، في هذه القضية الشرطية ، هو المشاهدة من فوات خيرات دنيوية لم يتهيأ لتحصيلها وحصول أسواء دنيوية ، وفيه تعريض لهم إذ كانوا يتعرضون له السوء .وجملة : { إن أنا إلاّ نذير وبشير } من تمام القول المأمور به وهي مستأنفة ستينافاً بيانياً ، ناشئاً عن التبرُّؤِ من أن يملك لنفسه نفعاً أو ضراً لأن السامعين يتوهمون ما نفاه عن نفسه أخص صفات النبي فمن شأنهم أن يتعجبوا من نفيه ذلك عن نفسه وهو يقول إنه رسول الله إليهم ، ويسألوا عن عمله ما هو بعد أن نفي عنه ما نفي ، فبين لهم أن الرسالة منحصرة في النذارة على المفاسد وعواقبها والبشارة بعواقب الانتهاء عنها واكتساب الخيرات .وإنما قدم وصف النذير على وصف البشير ، هنا : لأن المقام خطاب المكذبين المشركين ، فالنذارة أعلق بهم من البشارة .وتقدم الكلام على النذير البشير عند قوله تعالى : { إنّا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً } في سورة البقرة ( 119 ).وقوله : { لقوم يؤمنون } يتنازعُ تعلُّقَه كل من { نذير } و { بشير } : لأن الانتفاع بالأمرين يختص بالذين تهيئوا إلى الإيمان بأن يتأملوا في الآيات وينهوا من أنفسهم ويقولوا الحق على آبائهم ، دون الذين جعلوا دَيدنهم التكذيبَ والإعراضَ والمكابرة ، فالمضارع مراد به الحال والاستقبال كما هو شأنه ، ليشمل من تَهيأ للإيمان حالاً ومآلاً ، وأما شموله لمن آمنوا فيما مضى فهو بدلالة فحوى الخطاب إذ هم أولى ، وهذا على حد قوله تعالى : { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ].وفي نظم الكلام على هذا الأسلوب من التنازع ، وإيلاء وصف ( البشير ) ب ( قوم يؤمنون ) ، إيهام أن البشارة خاصة بالمؤمنين ، وأن متعلق النذارة المتروك ذكره في النظم هو لأضداد المؤمنين ، أي المشركين ، وهذا المعنى مقصود على نحو قوله تعالى : { لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين } [ الأحقاف : 12 ].وهذه المعاني المستتبعات مقصودة من القرآن ، وهي من وجوه إعجازه لأن فيها استفادة معان وافرة من ألفاظ وجيزة .
۞ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
📘 جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، عاد بها الكلام إلى تقرير دليل التوحيد وإبطال الشرك من الذي سلف ذكره في قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظُهورهم ذرياتهم } [ الأعراف : 172 ] الآية ، وليست من القول المأمور به في قوله : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً } [ الأعراف : 188 ] لأن ذلك المقول قصد منه إبطال الملازمة بين وصف الرسالة وعلْم الرسول بالغيب ، وقد تم ذلك ، فالمناسب أن يكون الغرض الآخر كلاماً موجهاً من الله تعالى إلى المشركين لإقامة الحجة عليهم بفساد عقولهم في إشراكهم وإشراك آبائهم .ومناسبة الانتقالَ جريان ذكر اسم الله في قوله : { إلاّ ما شاء الله } [ الأعراف : 188 ] وضمير الخطاب في { خلقكم } للمشركين من العرب ، لأنهم المقصود من هذه الحجج والتذكير ، وإن كان حكم هذا الكلام يشمل جميع البشر ، وقد صدر ذلك بالتذكير بنعمة خلق النوع المبتدأ بخلق أصله وهو ءادم وزوجه حواء تمهيداً للمقصود .وتعليق الفعل باسم الجمع ، في مثله ، في الاستعمال يقع على وجهين : أحدهما : أن يكون المراد الكل المجموعي ، أي جملة ما يصدق عليه الضمير ، أي خلق مجموع البشر من نفس واحدة فتكون النفس هي نفسَ آدم الذي تولد منه جميع البشر .وثانيهما : أن يكون المراد الكل الجميعي أي خَلق كل أحد منكم من نفس واحدة ، فتكون النفس هي الأب ، أي أبو كل واحد من المخاطبين على نحو قوله تعالى : { يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } [ الحجرات : 13 ] وقوله : { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ].ولفظ { نفس واحدة } وحْدَه يحتمل المعنيين ، لأن في كلا الخلقين امتناناً ، وفي كليهما اعتباراً واتعاضاً .وقد جعل كثير من المفسرين النفسَ الواحدة آدم وبعض المحققين منهم جعلوا الأب لكل أحد ، وهو المأثور عن الحسن ، وقتادة ، ومشى عليه الفخر ، والبيضاوي وابنُ كثير ، والأصم ، وابن المنير ، والجبائي .ووصفت النفس بواحدة على أسلوب الإدماج بين العبرة والموعظة ، لأن كونها واحدة أدعى للاعتبار إذ ينسل من الواحدة أبناء كثيرون حتى ربما صارت النفس الواحدة قبيلة أو أمّة ، ففي هذا الوصف تذكير بهذه الحالة العجيبة الدالة على عظم القدرة وسعة العلم حيث بثه من نفس واحدة رجالاً كثيراً ونساء ، وقد تقدم القول في ذلك في طالعة سورة النساء .والذي يظهر لي أن في الكلام استخداماً في ضميري { تغشاها } وما بعده إلى قوله : { فيما آتاهما } وبهذا يجمع تفسير الآية بين كلا الرأيين .و ( من ) في قوله : { من نفس واحدة } ابتدائية .وعبر في جانب الأنثى بفعل جعل ، لأن المقصود جعل الأنثى زوجاً للذكر ، لا الإخبارُ عن كون الله خلقها ، لأن ذلك قد علم من قوله : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة }.و ( من ) في قوله : { وجعل منها } للتبعيض ، والمراد : من نوعها ، وقوله : { منها } صفة ل { زوجها } قدمت على الموصوف للاهتمام بالامتنان بأن جعل الزوج وهو الأنثى من نوع ذكرها وهذه الحكمة مطردة في كل زوجين من الحيوان .وقوله : { ليسكن إليها } تعليل لما أفادته ( من ) التبعيضية .والسكون مجاز في الاطمئنان والتأنس أي : جعل من نوع الرجل زوجه ليألفها ولا يجفو قربها ، ففي ذلك منة الإيناس بها ، وكثرة ممارستها لينساق إلى غشيانها ، فلو جعل الله التناسل حاصلاً بغير داعي الشهوة لكانت نفس الرجل غير حريصة على الاستكثار من نسله ، ولو جعله حاصلاً بحالة ألم لكانت نفس الرجل مقلة منه ، بحيث لا تنصرف إليه إلاّ للاضطرار بعد التأمل والتردد ، كما ينصرف إلى شرب الدواء ونحوه المعقبة منافع ، وفُرع عنه بفاء التعقيب ما يحدث عن بعض سكون الزوج إلى زوجه وهو الغشيان .وصيغت هذه الكنابة بالفعل الدال على التكلف لإفادة قوة التمكن من ذلك لأن التكلف يقتضي الرغبة .وذُكِّر الضمير المرفوع في فعلي { يَسْكُنَ } و ( تغشى) : باعتبار كون ما صْدق المعاد ، وهو النفس الواحدة ، ذكراً ، وأنّث الضمير المنصوب في { تغشاها } ، والمرفوع في { حَملتْ }. و ( مرتْ) : باعتبار كون ما صْدق المعاد وهو زوجها أنثى ، وهو عكس بديع في نقل ترتيب الضمائر .ووُصف الحمل ب { خفيفاً } إدماج ثان ، وهو حكاية للواقع ، فإن الحمل في مبدئه لا تجد منه الحامل ألماً ، وليس المراد هنا حملاً خاصّاً ، ولكنه الخبر عن كل حمل في أوله ، لأن المراد بالزوجين جنسهما ، فهذه حكاية حالة تحصل منها عبرة أخرى ، وهي عبرة تطور الحمل كيف يبتدىء خفيفاً كالعدم ، ثم يتزايد رويداً رويداً حتى يثقل ، وفي «الموطأ» «قال : مالك وكذلك ( أي كالمريض غير المخوف والمريض المخوف») : الحامل في أول حملها بشر وسرور وليس بمرض ولا خوف ، لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه { فبشرّناها بإسحاق } [ هود : 71 ] وقال : { حَملت حمْلاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتينا صالحاً لنكونن من الشاكرين }.وحقيقة المرور : الاجتياز ، ويستعار للتغافل وعدم الاكتراث للشيء كقوله تعالى : { فلما كشفْنا عنه ضُره مر كأنْ لم يَدْعُنا إلى ضرَ مسّه } [ يونس : 72 ] أي : نسى دعاءنا ، وأعرض عن شكرنا لأن المار بالشيء لا يقف عنده ولا يسائله ، وقوله : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } [ الفرقان : 72 ].وقال تعالى : { وكأيّنْ من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها مُعرضون } [ يوسف : 105 ].فمعنى { فمرت به } لم تتفطن له ، ولم تفكر في شأنه ، وكل هذا حكاية للواقع ، وهو إدماج .والإثْقاللِ ثَقل الحمل وكلفته ، يقال أثقلت الحامل فهي مُثقل وأثقل المريض فهو مُثقل ، والهمزة للصيرورة مثل أوْرَقَ الشجر ، فهو كما يقال أقْرَبت الحامل فهي مُقْرب إذا أقرب أبان وضعها .وقد سلك في وصف تكوين النسل مسلك الإطناب : لما فيه من التذكير بتلك الأطوار ، الدالة على دقيق حكمة الله وقدرته ، وبلطفه بالإنسان .وظاهر قوله : { دَعَوَا الله ربهما } أن كل أبوين يَدعوان بذلك ، فإن حمل على ظاهره قلنا لا يخلو أبواب مشركان من أن يتمنيا أن يكون لهما من الحمل مولود صالح ، سواء نطقاً بذلك أم أضمراه في نفوسهما ، فإن مدة الحمل طويلة ، لا تخلو أن يحدث هذا التمني في خلالها ، وإنما يكون التمني منهم على الله ، فإن المشركين يعترفون لله بالربوبية ، وبأنه هو خالق المخلوقات ومُكونها ، ولا حظ للآلهة إلاّ في التصرفات في أحوال المخلوقات ، كما دلت علبه محاجات القرآن لهم نحو قوله تعالى :{ قل هل من شركائكم من يَبْدَؤا الخلق ثم يعيده } [ يونس : 34 ] وقد تقدم القول في هذا عند قوله تعالى : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون في الأنعام ( 1 ).وإن حمل دَعوا } على غير ظاهره فتأويله أنه مخصوص ببعض الأزواج الذين يخطر بيبالهم الدعاء .وإجراء صفة { ربهما } المؤذنة بالرفق والإيجاد : للإشارة إلى استحضار الأبوين هذا الوصف عند دعائهما الله ، أي يَذكرَ أنه باللفظ أو ما يفيد مفاده ، ولعل العرب كانوا إذا دعوا بصلاح الحمل قالوا : ربنا آتنا صالحاً .وجملة : { لئن آتيتنا صالحاً } مبيّنة لجملة { دَعَوَا الله }.و { صالحاً } وصف جرى على موصوف محذوف ، وظاهر التذكير أن المحذوف تقديره : ( ذكراً ) وكان العرب يرغبون في ولادة الذكور وقال تعالى : { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } [ النحل : 57 ] أي الذكور .فالدعاء بأن يؤتَيا ذكراً ، وأن يكون صالحاً ، أي نافعاً : لأنهم لا يعرفون الصلاح الحق ، ويَنذران : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين .
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
📘 الواو من قوله : { ويا آدم } عاطفة على جملة : { أخرج منها مذءوماً مدحوراً } [ الأعراف : 18 ] الآية ، فهذه الواوُ من المحكي لا من الحكاية ، فالنّداء والأمرُ من جملة المقول المحكي يقال : أي قال الله لإبليس اخرج منها وقال لآدم { ويا آدم اسكن } ، وهذا من عطف المتكلِّم بعض كلامه على بعض ، إذا كان لبعض كلامه اتّصال وتناسب مع بعضه الآخر ، ولم يكن أحدُ الكلامين موجّهاً إلى الذي وجّه إليه الكلام الآخَر ، مع اتّحاد مقام الكلام ، كما يفعل المتكلّم مع متعدِّدين في مجلس واحد فيُقبل على كل مخاطب منهم بكلام يخصه ومنه قول النبيّء صلى الله عليه وسلم في قضيّة الرّجل والأنصاري الذي كان ابنُ الرّجل عسيفاً عليه : « والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عزّ وجلّ أما الغنم والجارية فرَدٌ عليك وعلى ابنك جلدُ مائة وتغريب عام ، واغْدُ يا أنَيْسُ على زوجة هذا فإن اعترفت فارْجُمْها » ومن أسلوب هذه الآية ما في قوله تعالى : { قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعْرِض عن هذا واستغفري لذنبك } [ يوسف : 28 ، 29 ] حكاية لكلام العزيز ، أي العزيز عطفَ خطابّ امرأته على خطابه ليوسف .فليست الواو في قوله : { ويا آدم اسكن } بعاطفة على أفعال القَوْل التي قبلها حتّى يَكون تقدير الكلام : وقُلنا يا آدم اسكن ، لأنّ ذلك يفيت النّكت التي ذكرناها ، وذلك في حضرة واحدة كان فيها آدم والملائكة وإبليس حضوراً .وفي توجيه الخطاب لآدم بهذه الفضيلة بحضور إبليس بعد طرده زيادة إهانة ، لأنّ إعطاء النّعم لمرضي عليه في حين عقاب من استأهل العقاب زيادة حسرة على المعاقَب ، وإظهاراً للتّفاوت بين مستحقّ الإنعام ومستحقّ العقوبة فلا يفيد الكلام من المعاني ما أفاده العطف على المقول المحكي ، ولأنّه لو أريد ذلك لأعيد فعل القول . ثمّ إن كان آدم خُلق في الجنّة ، فكان مستقراً بها من قبل ، فالأمر في قوله : { اسكن } إنّما هو أمر تقرير : أي أبق في الحنّة ، وإن كان آدم قد خُلق خارج الجنّة فالأمر للإذن تكريماً له ، وأيّاً مّا كان ففي هذا الأمر ، بمسمع من إبليس ، مقمعة لإبليس ، لأنّه إن كان إبليس مستْقراً في الجنّة من قبل فالقمع ظاهر إذ أطرده الله وأسكن الذي تكبَّر هو عن السّجود إليه في المكان المشرّف الذي كان له قبل تكبّره ، وإن لم يكن إبليس ساكناً في الجنّة قبلُ فإكرام الذي احتقره وترفع عليه قمع له ، فقد دلّ موقع هذا الكلام ، في هذه السّورة ، على معنى عظيم من قمع إبليس ، زائد على ما في آية سورة البقرة ، وإن كانتا متماثلتين في اللّفظ ، ولكن هذا المعنى البديع استفيد من الموقع وهذا من بدائع إعجاز القرآن .ووجد إيثار هذه الآية بهذه الخصوصية إنّ هذا الكلام مسوق إلى المشركين الذين اتخذوا الشّيطان ولياً من دون الله ، فأمّا ما في سورة البقرة فإنّه لموعظة بني إسرائيل ، وهم ممّن يحذر الشّيطان ولا يتّبع خطواته .والنّداء للإقبال على آدم والتّنويهِ بذكره في ذلك الملا . والإتيانُ بالضّمير المنفصل بعد الأمر ، لقصد زيادة التّنكيل بإبليس لأن ذكر ضميره في مقام العطف يذكر غيره بأنّه ليس مثله ، إذ الضّمير وإن كان من قبيل اللقب وليس له مفهومُ مخالفةٍ فإنّه قد يفيد الاحتراز عن غير صاحب الضّمير بالقرينة على طريقة التعريض ولا يمنع من هذا الاعتبار في الضمير كون إظهاره لأجل تحسيننِ أو تصحيح العطف على الضّمير المرفوع المستتر ، لأن تصحيحَ أو تحسين العطف يحصل بكلّ فاصل بين الفعل الرافع للمستتر وبين المعطوف ، لا خصوص الضّمير ، كأن يقال : ويا آدم اسكن الجنّةَ وزوجُك ، فما اختير الفصل بالضّمير المنفصل إلاّ لما يفيد من التّعريض بغيره . وهذه نكتة فاتني العلم بها في آية سورة البقرة فضُمّها إليها أيضاً .والكلام على قوله : { اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } يعلم ممّا مضى من الكلام على نظيره من سورة البقرة .سوى أن الذي وقع في سورة البقرة ( 35 ) { وكلا } بالواو وهنا بالفاء ، والعطف بالواو أعم ، فالآية هنا أفادت أنّ الله تعالى أذن آدم بأن يتمتّع بثمار الجنّة عقب أمره بسكنى الجنّة . وتلك منّة عاجلة تؤذن بتمام الإكرام ، ولما كان ذلك حاصلاً في تلك الحضرة ، وكان فيه زيادة تنغيص لإبليس ، الذي تكبّر وفضل نفسه عليه ، كان الحال مقتضياً إعلام السّامعين به في المقام الذي حُكي فيه الغضب على إبليس وطردُه ، وأما آية البقرة فإنّما أفادت السّامعين أنّ الله امتن على آدم بمنّة سكنى الجنّة والتّمتّع بثمارها ، لأنّ المقام هنالك لتذكير بني إسرائيل بفضل آدم وبذنبه وتوبته ، والتّحذير من كيد الشّيطان ذلك الكيد الذي هم واقعون في شيء منه عظيم .على أنّ آية البقرة ( 35 ) لم تخل عن ذكر ما فيه تكرمة له وهو قوله : { رغداً } لأنه مدح للمُمْتن به أو دعاء لآدم ، فحصل من مجموع الآيتين عدة مكارم لآدم ، وقد وزعت على عادة القرآن في توزيع أغراض القصص على مواقعها ، ليحصل تجديد الفائدة ، تنشيطاً للسّامع ، وتفنّناً في أساليب الحكاية ، لأنّ الغرض الأهمّ من القصص في القرآن إنّما هو العبرة والموعظة والتأسي .وقوله : { ولا تقربا هذه الشجرة } أشدّ في التّحذير من أن يُنهى عن الأكل منها ، لأنّ النّهي عن قربانها سد لذريعة الأكل منها وقد تقدّم نظيره في سورة البقرة .والنّهي عن قربان شجرة خاصة من شجر الجنّة : يحتمل أن يكون نهي ابتلاء . جعل الله شجرة مستثناة من شجر الجنّة من الإذن بالأكل منها تهيئة للتكليف بمقاومة الشّهوة لامتثال النّهي .فلذلك جعل النّهي عن تناولها محفوفة بالأشجار المأذون فيها ليلتفت إليها ذهنهما بتركها ، وهذا هو الظّاهر ليتكّون مختلف القوى العقليّة في عقل النّوع بتأسيسها في أصل النّوع ، فتنتقل بعده إلى نسله ، وذلك من اللّطف الإلهي في تكوين النّوع ومن مظاهر حقيقة الربوبيّة والمربوبيّة ، حتى تحصل جميع القوى بالتدريج فلا يشقّ وضعها دفعة على قابليّة العقل ، وقد دلّت الآيات على أن آدم لمّا ظهر منه خاطر المخالفة أكل من الشّجرة المنهي عنها ، فأعقبه الأكلُ حدوث خاطر الشّعور بما فيه من نقايصَ أدركها بالفطرة ، فمعناه أنّه زالت منه البساطة والسّذاجة . ويحتمل أن يكون ذلك لِخصوصيّة في طبع تلك الشّجرة أن تثير في النّفس علم الخير والشرّ كما جاء في التّوراة أنّ الله نهاه عن أكل شجرة معرفة الخير والشرّ ، وهذا عندي بعيد ، وإنّما حكى الله لنا هيئة تطوّر العقل البشري في خلقة أصل النّوع البشري نظيرَ صنعه في قوله : { وعلّم آدم الأسماء كلّها } [ البقرة : 31 ].والإشارة إلى شجرة مشاهدة وقد رويت روايات ضعيفة في تعيين نوعها وذلك ممّا تقدّم في سورة البقرة .وانتصب : { فتكونا } على جواب النّهي ، والكون من الظّالمين متسبّب على القرب المنهي عنه ، لا على النّهي ، وذلك هو الأصل في النّصب في جواب النّهي كجواب النّفي ، أن يعتبر التّسبّب على الفعل المنفي أو المنهي ، بخلاف الجزم في جواب النّهي فإنّه إنّما يجزم المسبَّب على إنشاء النّهي لا على الفعل المنهي ، والفرق بينهما : أنّ النّصب على اعتبار التسبب ، والتسبب ينشأ عن الفعل لا عن الإخبار والإنشاء بخلاف الجزم فإنه على اعتبار الجواب ، تشبيهاً بالشّرط ، فاعتبر فيه معنى إنشاء النّهي تشبيهاً للإنشاء بالاشتراط .والمراد ب { الظّالمين } الذين يحقّ عليهم وصف الظلم : إما لظلمهم أنفسهم وإلقائها في العواقب السيّئة ، وإمّا لاعتدائهم على حقّ غيرهم فإنّ العصيان ظلم لحقّ الربّ الواجب طاعته .
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ۚ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
📘 ومعنى { فلما آتاهما صالحاً لما أتى من أتاه منهم ولداً صالحاً وضمير جعلا } للنفس الواحدة وزوجها ، أي جعل الأبوان المشركان .و«الشِّرْك» مصدر شَرَكه في كذا ، أي جعلا لله شركة ، والشركة تقتضي شريكاً أي جعلا لله شريكاً فيما آتاهما الله ، والخبر مراد منه مع الإخبار التعجيب من سفه آرائهم ، إذ لا يجعل رشيدُ الرأي شريكاً لأحد في ملكه وصنعه بدون حق ، فلذلك عُرف المشروك فيه بالموصولية فقيل { فيما آتاهما } دون الإضمار بأن يقال : جعلا له شركاً فيه : لما تؤذن به الصلة من فساد ذلك الجعْل ، وظُلم جاعله ، وعدم استحقاق المجعول شريكاً لما جعل له ، وكفران نعمة ذلك الجاعل ، إذ شَكَر لمن لم يُعطه ، وكفر من أعطاه ، وإخلاف الوعد المؤكد .وجُعل الموصول ( ما ) دون ( منَ ) باعتبار أنه عطية ، أو لأن حالة الطفولة أشبه بغير العاقل .وهذا الشرك لا يخلو عنه أحد من الكفار في العرب ، وبخاصة أهل مكة ، فإن بعض المشركين يجعل ابنه سادنا لبيوت الأصنام ، وبعضهم يحْجُر ابنه إلى صنم ليحفظه ويرعاه ، وخاصة في وقت الصبا ، وكل قبيلة تنتسب إلى صنمها الذي تعبده ، وبعضهم يسمى ابنه : عبد كذا ، مضافاً إلى اسم صنم كما سَمُّوا عبدَ العُزى ، وعبدَ شمس ، وعبدَ مناة ، وعبدَ يا ليل ، وعبدَ ضخم ، وكذلك امرؤ القيس ، وزيد مناءة ، لأن الإضافة على معنى التمليك والتعبيد ، وقد قال أبو سفيان ، يومَ أحد : «اعْلُ هُبل» وقالت امرأة الطفيل لزوجها الطفيل بن عَمرو الدوسي حين أسلم وأمرها بأن تسلم «لا نخشى على الصبية من ( ذي الشّرَى ) شيئاً» ذو الشرى صنم .وجملة : { فتعالى الله عما يشركون } أي : تنزه الله عن إشراكهم كله : ما ذُكر منه آنفاً من إشراك الوالدين مع الله فيما آتاهما ، وما لم يذكر من أصناف إشراكهم .وموقع فاء التفريع في قوله : { فتعالى الله } موقع بديع ، لأن التنزيه عما أحدثوه من الشرك يترتب على ما قبله من انفراده بالخلْق العجيب ، والمنن العظيمة ، فهو متعال عن إشراكهم لا يليق به ذلك ، وليس له شريك بحق ، وهو إنشاء تنزيه غيرُ مقصود به مخاطب .وضمير الجمع في قوله : { يُشركون } عائد إلى المشركين الموجودين لأن الجملة كالنتيجة لما سبقها من دليل خَلْق الله إياهم .وقد روَى الترمذي وأحمد : حديثاً عن سُمرة بن جندب ، في تسويل الشيطان لحواء أن تسمي ولدها عبد الحارث ، والحارث اسم إبليس ، قال الترمذي حديث حسن غريب ، ووسمه ابن العربي في «أحكام القرآن» ، بالضعف ، وتبعه تلميذه القرطبي وبيّن ابنُ كثير ما في سنده من العلل ، على أن المفسرين ألصقوه بالآية وجعلوه تفسيراً لها ، وليس فيه على ضعفه أنه فسّر به الآية ولكن الترمذي جعله في باب تفسير سورة الأعراف من «سنُنه» .وقال بعض المفسرين : الخطاب في { خلقكم من نفس واحدة } لقريش خاصة ، والنفس الواحدة هو قُصي بنُ كلاب تزوج امرأة من خُزاعة فلما آتاهما الله أولاداً أربعة ذكوراً سمى ثلاثة منهم عبد مناف ، وعبد العُزى ، وعبد الدار ، وسمى الرابع «عبداً» بدون إضافة وهو الذي يُدعى بعبْد قُصي .وقرأ نافع ، وعاصم في رواية أبي بكر عنه ، وأبو جعفر : شِرْكاً بكسر الشين وسكون الراء أي اشْتراكاً مع الله ، والمفعول الثاني لفعل جعلا محذوف للعلم به ، أي جعلا له الأصنام شركاً ، وقرأ بقية العشرة شُركاء بضم الشين جمع شريك ، والقراءتان متحدتان معنى .وفي جملة : { فتعالى الله عما يشركون } محسن من البديع وهو مجيء الكلام متزناً على ميزان الشعر ، من غير أن يكون قصيدة ، فإن هذه الجملة تدخل في ميزان الرَمل .وفيها الالتفات من الخطاب الذي سبق في قوله : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } وليس عائد إلى ما قبله ، لأن ما قبله كان بصيغة المثنى خمس مرات من قوله : { دَعوا الله ربهما } إلى قوله { فيما آتاهما }.
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
📘 هذه الآيات الثلاث كلام «معترض بين الكلامين المسوقين لتوبيخ المشركين وإقامة الحجة عليهم ، مُخاطب بها النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمون ، للتعجيب من عقول المشركين ، وفيه تعريض بالرد عليهم لأنه يبلُغ مسامعهم .والاستفهام مستعمل في التعجيب والإنكار .وصيغة المضارع في يشركون دالة على تجدد هذا الإشراك منهم . ونفي المضارع في قوله : { ما لا يَخلق } للدلالة على تجدد نفي الخالقية عنهم .وأصل معنى التجدد ، الذي يدل عليه المسند الفِعلي ، هو حدوث معنى المسند للمسند إليه ، وأنه ليس مجرد ثبوت وتقرر ، فيعلم منه : أنهم لا يخلُقون في الاستقبال ، وأنهم ما خَلقوا شيئاً في الماضي ، لأنه لو كان الخلق صفة ثابتة لهم لكان متقرراً في الماضي والحال والاستقبال .وضمير الغيبة في { وهم يخلقون } يجوز عندي : أن يكون عائداً إلى ما عاد إليه ضمير { يشركون } [ الأعراف : 190 ] ، أي : والمشركون يُخلقون ، ومعنى الحال زيادة تفظيع التعجيب من حالهم لإشراكهم بالله أصنافاً لا تخلق شيئاً في حال أن المشركين يُخلقون يوماً فيوماً ، أي يتجدد خلقهم ، والمشركون يشاهدون الأصنامَ جاثمة في بيوتها ومواضعها لا تصنع شيئاً فصيغة المضارع دالة على الاستمرار بقرينة المقام .ودلالة المضارع على الاستمرار والتكرر دلالة ناشئة عن معنى التجدد الذي في أصل المسند الفعلي ، وهي دلالة من مستتبعات التركيب بحسب القرائن المعيّنة لها ولا توصف بحقيقة ولا مجاز لذلك ، ومعنى تجدد مخلوقيتهم : هو أن الضمير صادق بأمة وجماعة ، فالمخلوقية لا تفارقهم لأنها تتجدد آنا فآنا بازدياد المواليد ، وتغير أحوال المواجيد ، كما قال تعالى { خلقاً من بعد خَلْقٍ } [ الزمر : 6 ] فتكون جملة : { وهم يخلقون } حالاً من ضمير { أيشركون }.والمفسرون أعادوا ضمير و { هم يخلقون } على مَا لاَ يَخْلُق ، أي الأصنام ، ولم يبينوا معنى كون الأصنامَ مخلوقة وهي صُورٌ نحتها الناس ، وليست صُورها مخلوقة لله ، فيتعين أن المراد أن مادتها مخلوقة وهي الحجارة .وجعلوا إجراء ضمائر العقلاء في قوله { وهم } وقوله { يُخلقون } وما بعده على الأصنام وهي جمادات لأنهم نُزلوا منزلة العقلاء ، بناء على اعتقاد المحجوجين فيهم ، ولا يظهر على لهذا التقدير وجهُ الاتيان بفعل يخلقون بصيغة المضارع لأن هذا الخلق غير متجدد .
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ
📘 والضمير المجررو باللام في { لهم نَصراً } عائد إلى المشركين ، لأن المجرور باللام بعد فعل الاستطاعة ونحوه هو الذي لأجله يقع الفعل مثل { لا يَمْلكون لكم رزقاً } [ العنكبوت : 17 ].وجملة : { ولا يستطيعون لهم نصراً } عطف على جملة : { مالا يخلق شيئاً } فتكون صلة ثانية .والقول في الفعلين من { لا يستطيعون ولا أنفسهم ينصرون } كالقول في { ما لاَ يَخلق شيئاً }.وتقديم المفعول في { ولا أنفسهم ينصرون } للاهتمام بنفي هذا النصر عنهم ، لأنه أدل على عجز تلك الآلهة لأن من يقصّر في نصر غيره لا يقصِّر في نصر نفسه لو قدر .والمعنى : أن الأصنام لا ينصرون من يعبدونهم إذا احتاجوا لنصرهم ولا ينصرون أنفسهم إن رام أحد الاعتداء عليها .والظاهر أن تخصيص النصر من بين الأعمال التي يتخيلون أن تقوم بها الأصنام مقصود منه تنبيه المشركين على انتفاء مقدرة الأصنام على نفعهم ، إذ كان النصر أشد مرغوب لهم ، لأن العرب كانوا أهل غارات وقتال وتراث ، فالانتصار من أهم الأمور لديهم قال تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهةً لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم } [ يس : 74 ، 75 ] وقال تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزاً كلا سيكفرون بعبادتهم } [ مريم : 81 ، 82 ] ، قال أبو سفيان يوم أُحد «أعْلُ هبل» وقال أيضاً « { لنا العُزى ولا عُزى لكم وأن الله أعلم المسلمين بذلك تعريضاً بالبشارة بأن المشركين سيُغلبون قال { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [ آل عمران : 12 ] وأنهم سيمحقون الأصنام ولا يستطيع أحد الذب عنها .
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَتَّبِعُوكُمْ ۚ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ
📘 يجوز أن يكون عطفاً على جملة { أيشركون ما لا يخلق شيئاً } [ الأعراف : 191 ] زيادة في التعجيب من حال المشركين بذكر تصميمهم على الشرك على ما فيه من سخافة العقول ووهن الدليل ، بعد ذكر ما هو كاف لتزييفه .فضمير الخطاب المرفوع في { وإن تدعوهم } موجه إلى المسلمين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وضمير جمع الغائب المنصوب عائد إلى المشركين كما عاد ضمير { أيشركون } [ الأعراف : 191 ] فبعد أن عجّب الله المسلمين من حال أهل الشرك أنبأهم بأنهم لا يقبلون الدعوة إلى الهدى .ومعنى ذلك أنه بالنظر إلى الغالب منهم ، وإلا فقد آمن بعضهم بعد حين وتلاحقوا بالإيمان ، عَدا من ماتوا على الشرك .وهذا الوجه هو الأليق بقوله تعالى بعد ذلك { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا } [ الأعراف : 198 ] الآية ليكون المخبر عنهم في هذه الآية غير المخبر عنهم في الآية الآتية ، لظهر تفاوت الموقع بين { لا يتبعوكم } وبين { لا يسمعوا } [ الأعراف : 198 ].ويجوز أن تكون جملة { وإن تدعوهم إلى الهدى } إلخ معطوفة على جملة الصلة في قوله : { لا يخلق شيئاً وهم يخلقون } [ الأعراف : 191 ] فيكون ضمير الخطاب في { تدعوهم } خطابا للمشركين الذين كان الحديث عنهم بضمائر الغيبة من قوله : { فتعالى الله عما يشركون } [ الأعراف : 190 ] إلى هنا ، فمُقتضى الظاهر أن يقال : وإن يدعوهم إلى الهدى لا يتبعوهم ، فيكون العدول عن طريق الغيبه إلى طريق الخطاب التفاتا من الغيبة إلى الخطاب توجهاً إليهم بالخطاب ، لأن الخطاب أوقع في الدمغ بالحجة .و { الهدى } على هذا الوجه ما يُهتدى إليه ، والمقصود من ذكره أنهم لا يستجيبون إذا دعوتموهم إلى ما فيه خيرهم فيُعلم أنهم لو دعوهم إلى غير ذلك لكان عدم اتباعهم دعوتهم أولى .وجملة : { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } مؤكدة لجملة { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم } فلذلك فُصلت .و { سواء } اسم للشيء المساوي غيره أي ليس أولى منه في المعنى المسوق له الكلام والهمزة التي بعد { سواء } يقال لها همزة التسوية ، وأصلها همزة الاستفهام استعملت في التسوية ، كما تقدم عند قوله تعالى : { سواءً عليهم آنذرتهم أم لم تنذرهم } في سورة البقرة ( 6 ) ، أي سواء دعوتُكُم إياهم وصُمتكم عن الدعوة .و ( على ) فيها للاستعلاء المجازي وهي بمعنى العندية أي : سواء عندهم . وإنما جعل الأمران سواء على المخاطبين ولم يجعلا سواء على المدعوين فلم يقل سواء عليهم ، وإن كان ذلك أيضاً سواء عليهم ، لأن المقصود من الكلام هو تأييس المخاطبين من استجابة المدعوين إلى ما يدعونهم إليه لا الإخبار ، وإن كان المعنيان متلازمين كما أنهما في قوله { سواء عليهم آنذرتهم أم لم تنذرهم } [ البقرة : 6 ] متلازمان فإن الإنذار وعدمه سواء : على المشركين ، وعلى المؤمنين ، ولكن الغرض هنالك بيان انعدام انتفاعهم بالهدى .وهذا هو القانون للتفرقة بين ما يصح أن يسند فيه فعل التسويه إلى جانبين وبين ما يتعين أن يسند فيه إلى جانب واحد إذا كانت التسوية لا تهُم إلا جانباً واحداً ، كما في قوله تعالى :{ اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواءً عليكم } [ الطور : 16 ] فإنه يتعين أن تجعل التسوية بالنسبة للمخاطبين ، ولا يحسن أن يقال سواء علينا وكقوله : { سواءً علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيصٍ } [ إبراهيم : 21 ] فإنه يتعين أن تكون التسوية بالنسبة إلى المتكلمين .ووقع قوله : { أم أنتم صامتون } مُعادل أدعوتموهم مع اختلاف الاسلوب بين الجملتين بالفعلية والاسمية ، فلم يقل : أم صمتم ، ففي «تفسير القرطبي» ، عن ثعلب : أن ذلك لأنه رأس آية ( أي لمجرد الرعاية على الفاصلة ) قال : وصامتون وصمتم عند سيبويه واحد ، ( أي الفعل والوصف المشتق منه سواء ) يريد لا تفاوت بينهما في أصل المعنى ، لأن ما بعد همزة التسوية لما كان في قوة المصدر لم يكن فيه أثر للفرق بين الفعل والاسم إذ التقدير : سواء عليكم دعوتُكم إياهم وصمتكم عنهم ، فيكون العدول إلى الجملة الاسمية ليس له مقتض من البلاغة بل هما عند البليغ سيان ، ولكن العدول إلى الاسمية من مقتضى الفصاحة ، لأن الفواصل والأسجاع من أفانين الفصاحة ، وفيهما تظهر براعة الكلام إذْ يكون فيه إيفاء بحق الفاصلة مع السلامة من التكلف ، كما تظهر براعة الشاعر في توفيته بحق القافية إذا سلم مع ذلك من التكلف ، قال المرزوقي في ديباجة «شرحه على الحماسة» «والقافية يجب أن تكون كالموعود به المنتظر يتشوقها المعنى بحقه ، واللفظ بقسطه ، وإلا كانت قلقة في مقرها مجتلبة لمستغن عنها» .والتحقيق أن الجملة الاسمية دلت على ثبوت الوصف المتضمنة ، مع عدم تقييد بزمان ولا إفادة تجدد ، بخلاف الفعلية ، وهو صريح كلام الشيخ في «دلائل الاعجاز» ، والسكاكي في «المفتاح» ، لكن كلام الزمخشري في هذه الآية ينادي على أن جملة : { أم أنتم صامتون } دالة على استمرار صمتهم ، وكذلك كلام السكاكي في إبداء الفرق بين الجملتين في قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } [ البقرة : 8 ] وفي قوله تعالى : { قالوا آمنا } [ البقرة : 14 ] مع قوله عقبه : { قالوا إنا معكم } [ البقرة : 14 ] ، وظاهر كلام الشيرازي في «شرح المفتاح» أن الثبوت يستلزم الاستمرار ، وقال الشارح التفتازاني ، في «شرح المفتاح» : الحق أن الجملة الاسمية التي تكون عُدولاً عن الفعلية تفيد الدوام الذي هو كالثبوت ، وفسر في «شرح تلخيص المفتاح» الثبوتَ بمقارنة الدوام ، وأما السيد في «شرح المفتاح» ، و«حاشيته على المطول» ، فقد جعل الجملة الاسمية قد يقصد بها الدوام إثباتاً ونفيا بحسب المقامات .وعندي أن الجملة الاسمية لا تفيد أكثر من الثبوت المقابل للتجدد ، وأما الاستمرار والدوام فهو معنى كنائي لها يُحتاج في استفادته إلى القرينة المعيّنة وهي منفية هنا ، فالمعنى : سواء عليكم أدعوتموهم دعوة متجددة أم لازمتم الصمت ، وليس المعنى على الدوام ، وقد احتاج صاحب «الكشاف» إلى بيانه بطريقة الدقة بإيراد السؤال والجواب على عادته ، وأيَّاً ما كان فالعدول عن الجملة الفعلية في معادل التسوية اقتضاه الحال البلاغي خلافاً لثعلب .
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ۖ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
📘 هذه الجملة على الوجه الأول في كون المخاطب ، بقوله : { وإن تَدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم } [ الأعراف : 193 ] الآية ، النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين أن تكون استئنافاً ابتدائياً انتُقل به إلى مخاطبة المشركين ، ولذلك صدر بحرف التوكيد لأن المشركين ينكرون مساواة الأصنام إياهم في العبودية ، وفيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب .والمراد بالذين تدعون من دون الله : الأصنام ، فتعريفها بالموصول لتنبيه المخاطبين على خطأ رأيهم في دعائهم إياها من دون الله ، في حين هي ليست أهلا لذلك ، فهذا الموصول كالموصول في قول عبدة بن الطبيب :إن الذين تُرْوَنُهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تُصرعواويجيء على الوجه الثاني في الخطاب السابق : أن تكون هذه الجملة بياناً وتعليلاً لجملة { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم } [ الأعراف : 193 ] أي لأنهم عباد أي مخلوقون .و ( العبد ) أصله المملوك ، ضد الحر ، كما في قوله تعالى : { الحر بالحر والعبد بالعبد } [ البقرة : 178 ] وقد أطلق في اللسان على المخلوق : كما في قوله تعالى : { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً } [ مريم : 93 ] ولذلك يطلق العبد على الناس ، والمشهور أنه لا يطلق إلا على المخلوقات من الآدميين فيكون إطلاقُ العباد على الأصنام كإطلاق ضمير جمع العقلاء عليها بناء على الشائع في استعمال العرب يومئذ من الإطلاق ، وجعله صاحب «الكشاف» اطلاقَ تهكم واستهزاء بالمشركين ، يعني أن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فلو بلغوا تلك الحالة لما كانوا إلا مخلوقين مثلكم ، قال ولذلك أبطل أن يكونوا عباداً بفوله { ألهم أرجل } [ الأعراف : 195 ] إلى آخره .والأحسن عندي أن يكون إطلاق العباد عليهم مجازاً بعلاقة الإطلاق عن التقييد روعي في حسنة المشاكلة التقديرية لأنه لما ماثلهم بالمخاطبين في المخلوقية وكان المخاطبون عباد الله أطلق العباد على مماثليهم مشاكلة .وفرع على المماثلة أمر التعجيز بقوله { فادعوهم } فإنه مستعمل في التعجيز باعتبار ما تفرع عليه من قوله { فليستجيبوا لكم } المضمن إجابة الأصنام إياهم ، لأن نفس الدعاء ممكن ولكن استجابته لهم ليست ممكنة ، فإذا دعوهم فلم يستجيبوا لهم تبين عجز الآلهة عن الاستجابة لهم ، وعجز المشركين عن تحصيلها مع حرصهم على تحصيلها لانهاض حجتهم ، فئال ظهور عجز الأصنام عن الاستجابة لعبادها إلى إثبات عجز المشركين عن نهوض حجتهم لتلازم العجزين ، قال تعالى : { أن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم } [ فاطر : 14 ].والأظهر أن المراد بالدعوة المأمور بها الدعوة للنصر والنجدة كما قال وذاك المازني إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم لأيّة حرب أم بأي مكان .وبهذا يظهر أن أمر التعجيز كناية عن ثبوت عجز الأصنام عن إجابتهم ، وعجز المشركين عن إظهار دعاء للأصنام تعقبة الاستجابة .والأمر باللام في قوله : { فليستجيبوا } أمرُ تعجيز للأصنام ، وهو أمر الغائب فإن طريق أمر الغائب هو الأمر .ومعنى توجيه أمر الغائب السامع أنه مأمور بأن يبلِّغ الأمر للغائب .وهذا أيضاً كناية عن عجز الأصنام عن الاستجابه لعجزها عن تلقي التبليغ من عبدتها .
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۗ قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ
📘 تأكيد لما تضمنته الجملة قبلها من أمر التعجيز وثبوت العجز ، لأنه إذا انتفت عن الأصنام أسباب الاستجابة تحقق عجزها عن الإجابة ، وتأكد معنى أمر التعجيز المكنى به عن عجز الأصنام وعجز عبدتها ، والاستفهام إنكاري وتقديم المسند على المسند إليه للاهتمام بانتفاء الملك الذي دلت عليه اللام كالتقديم في قول حسان :له همم لا منتهى لكبارها ... ووصف الأرجل ب { يمشون } والأيدي ب { يبطشون } والأعين ب { يبصرون } والآذان ب { يسمعون } إما لزيادة تسجيل العجز عليهم فيما يحتاج إليه الناصر ، وإما لأن بعض تلك الأصنام كانت مجعولة على صور الآدميين مثل هبل ، وذي الكفين ، وكعيب في صور الرجال ، ومثل سواع كان على صورة امرأة ، فإذا كان لأمثال أولئك صور أرجل وأيد وأعين وآذان ، فإنها عديمة العمل الذي تختص به الجوارح ، فلا يطمع طامع في نصرها ، وخص الأرجل والأيدي والأعين والآذان ، لأنها آلات العلم والسعي والدفع للنصر ، ولهذا لم يذكر الألسن لما علمت من أن الاستجابة مراد بها النجدة والنصرة ، ولم يكونوا يسألون عن سبب الاستنجاد ، ولكنهم يسرعون إلى الإلتحاق بالمستنجد .والمشي انتقال الرجلين من موضع انتقالاً متوالياً .والبطش الأخذ باليد بقوة ، والإضرار باليد بقوة ، وقد جاء مضارعه بالكسر والضم على الغالب . وقراءة الجمهور بالكسر ، وقرأ أبو جعفر : بضم الطاء ، وهما لغتان .و { أم } حرف بمعنى ( أو ) يختص بعطف الاستفهام ، وهي تكون مثل ( أو ) لأحد الشيئين أو الأشياء ، وللتمييز بين الأشياء ، أو الإباحة أي الجمع بينها ، فإذا وقعت بعد همزة الاستفهام المطلوب بها التعيين كانت مثل ( أو ) التي للتخيير ، كقوله تعالى { قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون } [ يونس : 59 ] أي عينوا أحدهما ، وإن وقعت بعد استفهام غير حقيقي كانت بمعنى ( أو ) التي للإباحة ، وتسمى ، حينئذ منقطعة ولذلك يقولون إنها بمعنى ( بل ) الانتقالية وعلى كل حال فهي ملازمة لمعنى الاستفهام فكلما وقعت في الكلام قُدر بعدها استفهام ، فالتقدير هنا ، بل ألهم أيد يبطشون بها ، بل ألهم أعين يبصرون بها ، بل ألهم آذان يسمعون بها .وترتيب هذه الجوارح الأربع على حسب ما في الآية ملحوظ فيه أهميتها بحسب الغرض ، الذي هو النصر والنجدة ، فإن الرجلين تسرعان إلى الصريخ قبل التأمل ، واليدين تعملان عمل النصر وهو الطعن والضرب ، وأما الأعين والآذان فإنهما وسيلتان لذلك كله فأخرا ، وإنما قدم ذكر الأعين هنا على خلاف معتاد القرءان في تقديم السمع على البصر كما سبق في أول سورة البقرة لأن الترتيب هنا كان بطريق الترقي .إذن من الله لرسوله بأن يتحداهم بأنهم إن استطاعوا استصرخوا أصنامهم لتتألب على الكيد للرسول عليه السلام ، والمعنى ادعوا شركاءكم لينصروكم علي فتستريحوا مني .والكيد الإضرار الواقع في صورة عدم الإضرار ، كما تقدم عند قوله تعالى آنفاً { وأملي لهم إن كيدي متين } [ الأعراف : 183 ].والأمر والنهي في قوله : { كيدون فلا تنظرون } للتعجيز .وقوله : { فلا تنظرون } تفريع على الأمر بالكيد ، أي فإذا تمكنتم من اضراري فأعجلوا ولا تؤجلوني .وفي هذا التحدي تعريض بأنه سيبلغهم وينتصر عليهم ويستأصل آلهتهم وقد تحداهم بأتم أحوال النصر وهي الاستنصار بأقدر الموجودات في اعتقادهم ، وأن يكون الاضرار به خفياً ، وأن لا يتلوم له ولا ينتظر ، فإذا لم يتمكنوا من ذلك كان انتفاؤه أدل على عجزهم وعجز آلهتهم .وحذفت ياء المتكلم من { كيدون } في حالتي الوقف والوصل ، في قراءة الجمهور غير أبي عمرو ، وأما { تنظرون } فقرأه الجميع : بحذف الياء إلا يعقوب أثبتها وصلاً ووقفاً ، وحذف ياء المتكلم بعد نون الوقاية جِدُّ فصيححٍ .
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ
📘 هذا من المأمور بقوله ، وفصلت هذه الجملة عن جملة { ادعوا شركاءكم } [ الأعراف : 195 ] لوقوعها موقع العلة لمضمون التحدي في قوله { ادعوا شركاءكم } [ الأعراف : 195 ] الآية الذي هو تحقق عجزهم عن كيده ، فهذا تعليل لعدم الاكتراث بتألبهم عليه واستنصارهم بشركائهم ، ولثقته بأنه منتصر عليهم بما دل عليه الأمر والنهي التعجيزيان . والتأكيد لرد الإنكار .والولي الناصر والكافي ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { قل أغير الله أتخذ ولياً } [ الأنعام : 14 ].وإجراء الصفة لاسم الله بالموصولية لما تدل عليه الصلة من علاقات الولاية ، فإن إنزال الكتاب عليه وهو أميٌّ دليل اصطفائه وتوليه .والتعريف في الكتاب للعهد ، أي الكتاب الذي عهدتموه وسمعتموه وعجزتم عن معارضته وهو القرآن ، أي المقدار الذي نزل منه إلى حد نزول هذه الآية .وجملة : { وهو يتولى الصالحين } معترضة والواو اعتراضيه .ومجيء المسند فعلاً مضارعاً لقصد الدلالة على استمرار هذا التولي وتجدده وأنه سنّة إلهية ، فكما تولى النبي يتولى المؤمنين أيضاً ، وهذه بشارة للمسلمين المستقيمين على صراط نبيهم صلى الله عليه وسلم بأن ينصرهم الله كما نصر نبيه وأولياءهُ .والصالحون هم الذين صلحت أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح .
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ
📘 وجملة : { والذين تدعون من دونه } عطف على جملة : { إن وليي الله } ، وسلوك طريق الموصوليه في التعبير عن الأصنام للتنبيه على خطأ المخاطبين في دعائهم إياها من دون الله مع ظهور عدم استحقاقها للعبادة ، بعجزها عن نصر أتباعها وعن نصر أنفسها والقول في { لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } كالقول في نظيره السابق آنفاً .وأعيد لأنه هنا خطاب للمشركين وهنالك حكاية عنهم للنبيء والمسلمين ولإبانة المضادة بين شأن ولي المؤمنين وحَال أولياء المشركين وليكون الدليل مستقلاً في الموضعين مع ما يحصل في تكريره من تأكيد مضمونه .
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ
📘 عطف على جملة { والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم } [ الأعراف : 197 ] الآية أي قُل للمشركين : وإن تدعوا الذين تدعون من دون الله إلى الهدى لا يسمعوا .والضمير المرفوع للمشركين ، والضمير المنصوب عائِد إلى الذين تدعون من دونه ، أي الأصنام .والهدى على هذا الوجه ما فيه رشد ونفع للمدعو . وذكر { إلى الهدى } لتحقيق عدم سماع الأصنام ، وعدم إدراكها ، لأن عدم سماع دعوة ما ينفع لا يكون إلا لعدم الإدراك .ولهذا خولف بين قوله هنا { لا يسمعوا } وقوله في الآية السابقة { لا يتبعوكم } [ الأعراف : 193 ] لأن الأصنام لا يتأتى منها الاتباع ، إذ لا يتأتى منها المشي الحقيقي ولا المجازي أي الامتثال .والخطاب في قوله { وتراهم } لمن يصلح أن يخاطب فهو من خطاب غير المعين .ومعنى ينظرون إليك على التشبيه البليغ ، أي تراهم كأنهم ينظرون إليك ، لأن صور كثير من الأصنام كان على صور الأناسي وقد نحتوا لها أمثال الحدَق الناظرة إلى الواقف أمامها قال في «الكشاف» «لأنهم صوروا أصنامهم بصورة من قلّب حدقته إلى الشيء ينظر إليه» .
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
📘 أشبعت هذه السورة من أفانين قوارع المشركين وعظتهم وإقامة الحجة عليهم وبعثتهم على التأمل والنظر في دلائل وحدانية الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي دينه وكتابه وفضح ضلال المشركين وفساد معتقدهم والتشويه بشركائهم ، وقد تخلل ذلك كلّه التسجيل بمكابرتهم ، والتعجيبُ منهم كيف يركبون رؤوسهم ، وكيف يَنأون بجانبهم ، وكيف يصمون أسماعهم ، ويغْمضون أبصارهم عما دعوا إلى سماعه وإلى النظر فيه ، ونُظرت أحوالهم بأحوال الأمم الذين كذبوا من قبلهم ، وكفروا نعمة الله فحل بهم ما حل من أصناف العذاب ، وأنذر هؤلاء بأن يحل بهم ما حل بأولئك ، ثم أعلن باليأس من ارعوائهم ، وبانتظار ما سيحل بهم من العذاب بأيدي المؤمنين ، وبتثبيت الرسول والمؤمنين وتبشيرهم والثناء على ما هم عليه من الهدى ، فكان من ذلك كله عبرة للمتبصرين ، ومسلاة للنبيء وللمسلمين ، وتنويه بفضلهم وإذ قد كان من شأن ذلك أن يثير في أنفس المسلمين كراهية أهل الشرك وتحفزُهم للانتقام منهم ومجافاتهم والإعراض عن دعائِهم إلى الخير ، لا جرم شُرع في استيناف غرض جديد ، يكون ختاماً لهذا الخوض البديع ، وهو غَرض أمْرِ الرسول والمؤمنين بقلة المبالاة بجفاء المشركين وصلابتهم ، وبأن يَسعوهم من عفوهم والدَأب على محاولة هديهم والتبليغ إليهم بقوله : { خُذ العفو وأمر بالعرف } الآيات .والأخذ حقيقته تناول شيء للانتفاع به أو لإضراره ، كما يقال : أخذت العدو من تلابيبه ، ولذلك يقال في الأسير أخيذ ، ويقال للقوم إذا أسروا أخذوا واستعمل هنا مجازاً فاستعير للتلبس بالوصف والفعل من بين أفعال لو شاء لتلبس بها ، فيُشبّه ذلك التلبسُ واختيارهُ على تلبس آخر بأخذ شيء من بين عدة أشياء ، فمعنى ( خذ العفو) : عَامِل به واجْعله وصفاً ولا تتلبس بضده . وأحسب استعارة الأخذ للعرف من مبتكرات القرآن ولذلك ارجع أن البيت المشهور وهو :خُذي العفوَ مني تَستديمي مَوَدتي ... ولا تَنْطِقي في سَوْرَتي حين أغْضَبُهو لأبي الأسود الدؤلي ، وأنه اتبع استعمال القرآن ، وأن نسبته إلى أسماء بن خارجة الفزاري أو إلى حاتم الطائي غير صحيحة .والعفو الصفح عن ذنب المذنب وعدم مؤاخذته بذَنبه وقد تقدم عند قوله تعالى : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } [ البقرة : 219 ] وقوله : { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } في سورة البقرة ( 109 ) ، والمراد به هنا ما يعم العفو عن المشركين وعدم مؤاخذتهم بجفائهم ومساءتهم الرسول والمؤمنين .وقد عمت الآية صور العفو كلها : لأن التعريف في العفو تعريف الجنس فهو مفيد للاستغراق إذا لم يصلح غيرُه من معنى الحقيقة والعهد ، فأمر الرسول بأن يعفو ويصفح وذلك بعدم المؤاخذة بجفائهم وسوء خلقهم ، فلا يعاقبهم ولا يقابلهم بمثل صنيعهم كما قال تعالى : { فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم }[ آل عمران : 159 ] ، ولا يخرج عن هذا العموم من أنواع العفو أزمانه وأحواله إلا ما أخرجته الأدلة الشرعية مثل العفو عن القاتل غيلة ، ومثل العفو عن انتهاك حرمات الله ، والرسولُ أعلم بمقدار ما يُخص من هذا العموم ، وقد يبينه الكتاب والسنة وألحق به ما يقاس على ذلك المبين ، وفي قوله : { وأمُر بالعُرف } ضابط عظيم لمقدَار تخصيص الأمر بالعفو .ثم العفو عن المشركين المقصود هنا أسبقُ أفراد هذا العموم إلى الذهن من بقيتها ولم يَفهم السلف من الآية غير العموم ففي «صحيح البخاري» عن ابن عباس قال «قدِم عُيينة بن حصن المدينة فنزل على ابن أخيه الحُر بن قَيس ، وكان الحُرُ بن قيس من النفر الذين يُدنيهم عمر ، وكان القراءُ أصحاب مجالس عمر ومشاورته ، فقال عُيينةُ لابن أخيه لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه فأستأذن الحُر لعُيينة فأذِن له عمر ، فلما دخل عليه قال «هِيهْ يابنَ الخطاب ما تُعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل» فغضب عمر حتى همّ أن يُوقِع به فقال له الحُر : «يا أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه : { خذ العفو وأمُر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وإن هذا من الجاهلين ، واللَّهِ ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقّافاً عند كتاب الله» وفيه عن عبد الله بن الزبير قال «ما أنزل الله ذلك إلا في أخلاق الناس» ومن قال إن هذه الآية نسختها آيات القتال فقد وهم : لأن العفو باب آخر ، وأما القتال فله أسبابه ولعله أراد من النسخ ما يشمل معنى البيان أو التخصيص في اصطلاح أصول الفقه .و { العُرف } اسم مرادف للمعروف من الأعمال وهو الفعل الذي تعرفه النفوس أي لا تنكره إذا خليت وشأنها بدون غرض لها في ضده ، وقد دل على مرادفته للمعروف قول النابغة :فلا النُّكْر معروفٌ ولا العُرف ضايعُ ... فقابل النكر بالعُرف ، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } في سورة آل عمران ( 110 ).والأمر يشمل النهي عن الضد ، فإن النهي عن المنكر أمر بالمعروف ، والأمر بالمعروف نهي عن المنكر ، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، فالاجتزاء بالأمر بالعرف عن النهي عن المنكر من الايجاز ، وإنما اقتصر على الأمر بالعرف هنا : لأنه الأهم في دعوة المشركين لأنه يدعوهم إلى أصول المعروف واحداً بعد واحد ، كما ورد في حديث معاذ بن جبل حين أرسله إلى أهل اليمن فإنه أمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ثم قال : «فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات» ولو كانت دعوة المشركين مبتدأة بالنهي عن المنكر لنفروا ولملّ الداعي ، لأن المناكير غالبة عليهم ومحدقة بهم ، ويدخل في الأمر بالعرف الاتسام به والتخلق بخلقه : لأن شأن الآمر بشيء أن يكون متصفاً بمثله .وإلا فقد تعرض للاستخفاف على أن الآمر يبدأ بنفسه فيأمرها كما قال أبو الأسود :يأيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليمعلى أن خطاب القرآن الناس بأن يأمروا بشيء يعتبر أمراً للمخاطب بذلك الشيء وهي المسألة المترجمة في أصول الفقه بأن الأمر بالأمر بالشيء هو أمر بذلك الشيء .والتعريف في { العرف } كالتعريف في { العفو } يفيد الاستغراق .وحُذف مفعول الأمر لافادة عموم المأمورين { واللَّهُ يَدعُو إلى دار السلام } [ يونس : 25 ] ، أمر الله رسوله بأن يأمر الناس كلهم بكل خير وصلاح فيدخل في هذا العموم المشركون دخولاً أولياً لأنهم سبب الأمر بهذا العموم أي لا يصدنك إعراضهم عن إعادة إرشادهم وهذا كقوله تعالى : { فأعرض عنهم وعظهُم } [ النساء : 63 ].والإعراض : إدارة الوجه عن النظر للشيء . مشتق من العارض وهو الخَد ، فإن الذي يلتفت لا ينظر إلى الشيء وقد فسر ذلك في قوله تعالى : { أعْرَضَ ونأى بجانبه } [ الإسراء : 83 ] وهو هنا ، مستعار لعدم المؤاخذة بما يسوء من أحد ، شبه عدم المؤاخذة على العمل بعدم الالتفات إليه في كونه لا يترتب عليه أثر العلم به لأن شأن العلم به أن تترتب عليه المؤاخذة .و«الجهل» هنا ضد الحلم والرشد ، وهو أشهر إطلاق الجهل في كلام العرب قبل الإسلام ، فالمراد بالجاهلين السفهاء كلهم لأن التعريف فيه للاستغراق ، وأعظم الجهل هو الإشراك ، إذ اتخاذ الحجر إلهاً سفاهة لا تَعْدِلها سفاهة ، ثم يشمل كل سفيه رأي . وكذلك فَهم منها الحر بن قيس في الخبر المتقدم آنفاً ، وأقره عمر بن الخطاب على ذلك الفهم .وقد جمعتْ هذه الآية مكارم الأخلاق لأن فضائِل الأخلاق لا تعدُو أن تكون عفواً عن اعتداء فتدخل في { خذ العفو } ، أو إغضاءً عما لا يلائم فتدخل في { وأعرض عن الجاهلين } ، أو فعلَ خير واتساماً بفضيلة فتدخل في { وأمر بالعرف } كما تقدم من الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء ، وهذا معنى قول جعفر بن محمد : «في هذه الآية أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها وهي صالحة لأن يبين بعضها بعضاً ، فإن الأمر يأخذ العفو يتقيد بوجوب الأمر بالعرف ، وذلك في كل ما لا يقبل العفو والمسامَحة من الحقوق ، وكذلك الأمر بالعرف يتقيد بأخذ العفو وذلك بأن يدعو الناس إلى الخير بلين ورفق .
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ
📘 ذكرنا في طالعة سورة البقرة أنّ الحروف المقطّعة في أوائل السّور أعقبت بذكر القرآن أو الوحي أو ما في معنى ذلك ، وذلك يرجح أن المقصود من هذه الحروف التّهجي ، إبلاغاً في التّحدي للعرب بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن وتخفيفاً للعبء عن النّبيء صلى الله عليه وسلم فتلك جملة مستقلّة وهي هنا معدودة آية ولم تعدّ في بعض السّور .فقوله : { كتب } مبتدأ ووقع الابتداء ، بالنّكرة إمّا لأنّها أريد بها النّوع لا الفرد فلم يكن في الحكم عليها إبهام وذلك كقولهم : رجلٌ جاءني ، أي لا امرأة ، وتمرة خيرٌ من جرادة ، وفائدة إرادة النّوع الردّ على المشركين إنكارهم أن يكون القرآن من عند الله ، واستبعادهم ذلك ، فذكّرهم الله بأنّه كتاب من نوع الكُتب المنزّلة على الأنبياء ، فكما نزلت صحف إبراهيم وكتاب موسى كذلك نَزَل هذا القرآن ، فيكون تنكير النّوعية لدفع الاستبعاد ، ونظيره قوله تعالى : { قالوا لا تخف خَصْمَان بغى بعضنا على بعض } [ ص : 22 ] فالتّنكير للنّوعيّة .وإما لأن التّنكير أريد به التّعظيم كقولهم : «شرّ أهَرّ ذَا نَاب» أي شرٌ عظيم . وقول عُوَيْف القوافي :خَبَرٌ أتَانِي عن عُيَيْنَةَ موجِع ... كادَت عليه تَصَدعّ الأكْبَادُأي هو كتاب عظيم تنويهاً بشأنه فصار التنكير في معنى التوصيف .وإمّا لأنّه أريد بالتّنكير التعجيب من شأن هذا الكتاب في جميع ما حفّ به من البلاغة والفصاحة والإعجاز والإرشاد ، وكونه نازلاً على رجل أمّيّ .وقوله : { أنزل إليك } يجوز أن يكون صفة ل { كتاب } فيكون مسوغاً ثانياً للابتداء بالنّكرة ويجوز أن يكون هو الخبر فيجُوز أن يكون المقصود من الأخبار تذكير المنكرين والمكابرين ، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يعلمون أنّه أنزل من عند الله ، فلا يحتاجون إلى الإخبار به ، فالخبر مستعمل في التّعريض بتغليط المشركين والمكابرين والقاصدين إغاظة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بالإعراض ، ويجوز أن يكون المقصود من الخبر الامتنان والتّذكير بالنّعمة ، فيكون الخبر مستعملاً في الامتنان على طريقة المجاز المرسل المركب .ويجوز أن يجعل الخبر هو قوله : { أنزل إليك } مع ما انضمّ إليه من التّفريع والتّعليل ، أي هو كتاب أنزل إليك فكن منشرح الصّدر به ، فإنّه أنزل إليك لتنذر به الكافرين وتذكِّر المؤمنين ، والمقصود : تسكين نفس النّبي صلى الله عليه وسلم وإغاظة الكافرين ، وتأنيس المؤمنين ، أي : هو كتاب أنزل لفائدة ، وقد حصلت الفائدة فلا يكن في صرك حرج إن كذّبوا . وبهذه الاعتبارات وبعدم منافاة بعضها لبعض يحمل الكلام على إرادة جميعها وذلك من مطالع السّور العجيبة البيان .ومن المفسّرين من قدّروا مبتدأ محذوفاً ، وجعلوا { كتب } خبراً عنه ، أي هذا كتاب ، أي أنّ المشار إليه القرآن الحاضر في الذّهن ، أو المشار إليه السّورة أطلق عليها كتاب ، ومنهم من جعل { كتاب } خبراً عن كلمة{ آلمص } [ الأعراف : 1 ] وكلّ ذلك بمعزل عن متانة المعنى .وصِيغ فعل : { أنزل } بصيغة النائب عن الفاعل اختصاراً ، للعِلم بفاعل الإنزال ، لأنّ الذي يُنزل الكتب على الرّسل هو الله تعالى ، ولما في مادة الإنزال من الإشعار بأنّه من الوحي لملائكة العوالم السّماوية .والفاء في قوله : { فلا يكن في صدرك } اعتراضية إذ الجملة معترضة بين فعل { أنزل } ومتعلّقة وهو { لتنذر به } ، فإنّ الاعتراض يكون مقترناً بالفاء كما يكون مقترناً بالواو كما في قوله تعالى : { هذا فليذوقوه حميم وغساف } [ ص : 57 ] وقوله : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى } [ النساء : 135 ]. وقول الشّاعر وهو من الشّواهد :اعْلَمْ فعِلْمُ المرء يَنْفَعُه ... أنْ سَوف يأتي كُلّ ما قُدّراوقول بشّار بن برد :كقائلة إنّ الحمار فَنَحِّه ... عن القتّ أهلُ السّمسم المُتهذّبِوليست الفاء زائدة للاعتراض ولكنّها ترجع إلى معنى التّسبّب ، وإنّما الاعتراض حصل بتقديم جملتها بين شيئين متّصلين مبادرة من المتكلّم بإفادته لأهمّيته ، وأصل ترتيب الكلام هنا : كتاب أنزل إليك لتنذر به وذِكْرَى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه ، وقد ذكَر في «مغني اللّبيب» دخول الفاء في الجملة المعترضة ولم يذكر ذلك في معاني الفاء فتوهّم متوهّمون أنّ الفاء لا تقع في الجملة المعترضة .والمعنى أنّ الله أنزله إليك لا ليكون في صدرك حرج ، بل لينشرح صدرك به . ولذلك جاء في نفي الحرج بصيغة نَهْي الحرج عن أن يحصل في صدر النّبيء صلى الله عليه وسلم ليكون النّهي نهي تكوين ، بمعنى تكوين النّفي ، عكس أمر التّكوين الذي هو بمعنى تكوين الإثبات . مُثِّلَ تكوين نفي الحرج عن صدره بحالة نهي العاقل المدرِك للخطاب ، عن الحصول في المكان . وجَعَل صاحب «الكشاف» النّهي متوجّهاً في الحقيقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي نهيه عن المبالاة بالمكذّبين بالقرآن ، والغمّ من صنيعهم ، وجعل النّهي في ظاهر اللّفظ متوجّهاً إلى الحرج للمبالغة في التّكليف ، باقتلاعه من أصله على طريقة قول العرب : «لاَ أرَيَنَّكَ ههنا» أي لا تحضر فأراك ، وقولهم : «لا أعْرِفَنَّك تفعل كذا» أي لا تفعلْه فأعرّفَك به ، نهياً بطريق الكناية ، وأيّاً ما كان فالتّفريع مناسب لمعاني التّنكير المفروض في قوله : { كتاب } ، أي فلا يكن في صدرك حرج منه من جهة ما جَرّه نزوله إليك من تكذيب قومك وإنكارهم نزوله ، فلا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالتِه ، ولا يكن في صدرك حرج منه فإنّه سبب شرح صدرك بمعانيه وبلاغته .و ( مِنْ ) ابتدائيّة ، أي حرج ينشأ ويسري من جرّاء المذكور ، أي من تكذيب المكذّبين به ، فلمّا كان التّكذيب به من جملة شؤونه ، وهو سبب الحرج ، صح أن يجعل الحرج مسبّباً عن الكتاب بواسطة . والمعنى على تقدير مضاف أي حرج من إنكاره أي إنكار إنزاله من الله .والحرج حقيقته المكان الضيّق من الغَابات الكثيرة الأشجار ، بحيث يعسر السلوك فيه ، ويستعار لِحالة النّفس عند الحزن والغضب والأسف ، لأنّهم تخيّلوا للغاضب والآسِف ضيقاً في صدره لما وجدوه يعسر منه التّنفّس من انقباض أعْصاب مجاري النفَس ، وفي معنى الآية قوله تعالى :{ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير } [ هود : 12 ].و { لتنذر } متعلّق ب { أنزل } على معنى المفعول لأجله ، واقترانه بلام التعليل دون الإتيان بمصدر منصوب لاختلاف فاعل العامل وفاعِل الإنذار . وجعل الإنذار به مقدّماً في التّعليل لأنّه الغرض الأهم لإبطال ما عليه المشركون من الباطل وما يخلفونه في النّاس من العوائد الباطلة التي تُعاني أزالتها من النّاس بعدَ إسلامهم .{ ذكرى } يجوز أن يكون معطوفاً على { لتنذر به } ، باعتبار انسباكه بمصدر فيكون في محلّ جرّ ، ويجوز أن يكون العطف عطف جملة ، ويكون { ذكرى } مصدراً بدلاً من فعله ، والتّقدير : وذَكِّرْ ذكرى للمؤمنين ، فيكون في محلّ نصب فيكون اعتراضاً .وحذف متعلّق { تنذر } ، وصرح بمتعلّق { ذكرى } لظهور تقدير المحذوف من ذكر مقابله المذكور ، والتّقدير : لتنذر به الكافرين ، وصرح بمتعلّق الذّكرى دون متعلّق { تنذر } تنويها بشأن المؤمنين وتعريضاً بتحقِير الكافرين تجاه ذكر المؤمنين .
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
📘 كانت وسوسة الشّيطان بقرب نهي آدم عن الأكل من الشّجرة ، فعبّر عن القرب بحرف التّعقيب إشارة إلى أنّه قرب قريب ، لأنّ تعقيب كلّ شيء بحسبه .والوسوسة الكلام الخفي الذي لا يسمعه إلاّ المُداني للمتكلّم ، قال رؤبة يصف صائداً :وَسْوَسَ يَدعُو جاهداً ربّ الفلق ... سِرّاً وقد أوّنَ تَأوِينُ العُققوسمي إلقاء الشيطان وسوسة : لأنّه ألقَى إليهما تسويلاً خفياً من كلاممٍ كلمهما أو انفعاللٍ في أنفسهما . كهيئة الغاش الماكر إذْ يُخفِي كلاماً عَن الحاضرين كيلا يفسدوا عليه غشّه بفضح مضاره فألقى لهما كلاماً في صورة التّخافت ليوهمهما أنّه ناصح لهما وأنّه يخافت الكلام ، وقد وقع في الآية الأخرى التّعبير عن تسويل الشّيطان بالقول : { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلّك على شجرة الخُلْد وملك لا يبلى } [ طه : 120 ] ثمّ درج اصطلاح القرآن وكلام الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على تسمية إلقاء الشّيطان في نفوس النّاس خواطرَ فاسدة ، وسوسة تقريباً لمعنى ذلك الإلقاء للأفهام كما في قوله : { من شر الوسواس الخنّاس } [ الناس : 4 ] وهذا التّفصيل لإلقاء الشّيطان كيده انفردت به هذه الآية عن آية سورة البقرة لأنّ هذه خطاب شامل للمشركين وهم أخلياء عن العلم بذلك فناسب تفظيع أعمال الشّيطان بمسمع منهم .واللاّم في : { ليبدي } لام العاقبة إذا كان الشّيطان لا يعلم أنّ العصيان يفضي بهما إلى حدوث خاطر الشرّ في النّفوس وظهور السوآت ، فشبّه حصول الأثر عقب الفعل بحصول المعلول بعد العلّة كقوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] وإنّما التقطوه ليكون لهم قرّة عين ، وحسن ذلك أن بدوّ سوآتهما ممّا يرضي الشّيطان . ويجوز أن تكون لام العلّة الباعثة إذا كان الشيطان يعلم ذلك بالإلهام أو بالنّظر ، فالشّيطان وسوس لآدم وزوجه لغرض إيقاعهما في المعصية ابتداء ، لأنّ ذلك طبعه الذي جبل على عمله ، ثم لغرض الإضرار بهما ، إذ كان يعلم أنّهما يعصيان الله بالأكل من الشّجرة ، ولمّا كان عدُوّاً لهما كان يسعى إلى مَا يؤذيهما ، ويحسدهما على رضَى الله عنهما ، ويعلم أنّ العصيان يُفضي بهما إلى سوء الحال على الإجمال ، فكان مظهر ذلك السوء إبداءَ السوْآت ، فجُعل مفصِّلُ العلّة المجملة عند الفاعل هو العلّةَ ، وإن لم تخطر بباله ، ويحتمل أن يكون الشّيطان قد علم ذلك بعلم حصل له من قبل . والحاصلُ أنّه أراد الإضْرار ، لأنّه قد استقرّ في طبعه عداوة البشر ، كما سيصرّح به فيما بعدُ ، وفي قوله تعالى : { إن الشّيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً } [ فاطر : 6 ].والإبداء ضدّ الإخفاء ، فالإبداء كشف الشّيء وإظهاره ، ويطلق مجازاً على معرفة الشّيء بعد جهله يقال : بدَا لي أنْ أفعل كذا .وأسند إبداءُ السوْآت إلى الشّيطان لأنّه المتسبّب فيه على طريقة المجاز العقلي والسوآت جمعُ سوْأة وهي اسم لما يسوء ويتعيّر به من النّقايص ، ومِن سَب العرب قولهم : سوأةً لك ، ومن تلهّفهم : يا سوْأتَا .ويكنّى بالسوأة عن العورة . ومعنى ووُري عنهما حجب عنهما وأخفي ، مشتقاً من المواراة وهي التّغطيّة والإخفاء وتطلق المواراة مجازاً على صرف المرء عن علم شيء بالكتمان أو التّلبيس .والسّوآت هنا يجوز أن تكون جمع السوأة للخصلة الذّميمة كما في قول أبي زبيد :لَم يَهْب حُرمة النّديم وحُقَّت ... يا لَقَوْمي للسوأةِ السوآءِفتكون صيغة الجمع على حقيقتها ، والسّوآت حينئذٍ مستعمل في صريحه ، ويجوز أن تكون جمع السوأة ، المكنى بها عن العورة ، وقد روي تفسيرها بذلك عن ابن عبّاس كقوله تعالى : { قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم } [ الأعراف : 26 ] وعلى هذا فصيغة الجمع مستعملة في الاثنين للتّخفيف كقوله تعالى : { فقد صَغَت قلوبكما } [ التحريم : 4 ]. وسيجيء تحقيق معنى هذا الإبداء عند قوله تعالى بعد هذا : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } [ الأعراف : 22 ].وعطفُ جملة : { وقال ما نهاكما ربكما } على جملة { فوسوس } يدلّ على أنّ الشّيطان وسوس لهما وسوسة غيرَ قوله : { ما نهاكما } إلخ ثمّ ثنى وسوسته بأن قال مَا نهاكما ، ولو كانت جملة : { ما نهاكما } إلى آخرها بياناً لجملة { فوسوس } لكانت جملة : { وقال ما نهاكما } بدون عاطف ، لأنّ البيان لا يعطف على المبيَّن . وفي هذا العطف إشعار بأنّ آدم وزوجه تردّدا في الأخذ بوسوسة الشّيطان فأخذ الشيطان يراودهما . ألا ترى أنّه لم يعطف قوله ، في سورة طه ( 120) : { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } فإنّ ذلك حكاية لابتداء وسوسته فابتدأ الوسوسة بالإجمال فلم يعيّن لآدم الشّجرة المنهي عن الأكل منها استنزالاً لطاعته ، واستزلالاً لقدمه ، ثمّ أخذ في تأويل نهي الله إياهما عن الأكل منها فقال ما حكي عنه في سورة الأعراف : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } الآية فأشار إلى الشّجرة بعد أن صارت معروفة لهما زيادة في إغرائِهما بالمعصية بالأكل من الشّجرة ، فقد وزّعت الوسوسة وتذييلها على السّورتين على عادة القرآن في الاختصار في سوْق القصص اكتفاء بالمقصود من مغزى القصّة لئلا يصير القصصُ مقصداً أصلياً للتنزيل .والإشارة بقوله : { عن هذه لشجرة } إلى شجرة معيّنة قد تبيّن لآدم بعد أن وسوس إليه الشّيطان أنّها الشّجرة التي نهاه الله عنها ، فأراد إبليس إقدامه على المعصية وإزالة خوفه بإساءة ظنّه في مراد الله تعالى من النّهي .والاستثناء في قوله : { إلا أن تكونا ملكين } استثناء من علل ، أي ما نهاكما لعلّة وغرض إلاّ لغرض أن تكونا مَلكين ، فتعين تقدير لام التّعليل قبل ( أنْ ) وحذف حروف الجرّ الدّاخلة على ( أنْ ) مطرد في كلام العرب عند أمن اللّبس .وكونُهما مَلكين أو خالدَيْن علّة للنّهي : أي كونكما ملَكين هو باعث النّهي ، إلاّ أنّه باعث باعتبار نفي حصوله لا باعتبار حصوله ، أي هو علّة في الجملة ، ولذلك تأوّله سيبويه والزمخشري بتقدير : كراهة أن تكونا .وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ، كما تقدّم في سورة الأنعام ، وقيل حذفت ( لا ) بعد ( أن ) وحذفها موجود ، وبذلك تأوّل الكوفيون وقد تقدم القول فيه . وقد أوهم إبليس آدم وزوجه أنّهما متمكّنان أن يصيرا ملكين من الملائكة ، إذا أكلا من الشّجرة ، وهذا من تدجيله وتلبيسه إذْ ألفى آدم وزوجه غير متبصّريْن في حقائق الأشياء ، ولا عالِمَيْن المقدار الممكن في انقلاب الأعيان وتطوّرِ الموجودات ، وكانا يشاهدان تفضيل الملائكة عند الله تعالى وزلفاهم وسعة مقدرتهم ، فأطمعهما إبليس أن يصيرا من الملائكة إذا أكلا من الشّجرة ، وقيل المراد التشبيهُ البليغ أي إلاّ أن تكونا في القرب والزلفى كالمَلكين ، وقد مثل لهما بما يعرفان من كمال الملائكة .وقوله : { أو تكونا من الخالدين } عطف على : { أن تكونا ملكين } وأصل ( أو ) الدّلالة على التّرْديد بين أحد الشّيئين أو الأشياء ، سواء كان مع تجويز حصول المتعاطفات كلّها فتكون للإباحة بعد الطّلب ، وللتّجويز بعد الخبر أو للشكّ؛ أم كان مع منع البعض عند تجويز البعض فتكون للتّخيير بعد الطّلب وللشكّ أو التّرْديد بعد الخبر ، والتّرديدُ لا ينافي الجزم بأن أحد الأمرين واقع لا محالة كما هنا ، فمعنى الكلام أن الآكل من هذه الشّجرة يكون مَلَكاً وخالداً ، كما قال عنه في سورة طه ( 120) : { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } فجعل نهي الله لهما عن الأكل لاَ يَعدو إرادة أحد الأمرين ، ويستفاد من المقام أنّه قد يريد حرمانهما من الأمرين جميعاً بدلالة الفحوى ، ولم يكن آدم قد علم حينئذ أنّ الخلود متعذر ، وأنّ الموت والحشر والبعث مكتوب على النّاس ، فإنّ ذلك يتلقّى من الوحي كما في قوله تعالى لهما في الآية الأخرى : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } [ البقرة : 36 ].
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
📘 وهذا الأمر مراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء وهو شامل لأمته .( إما ) هذه هي ( إنْ ) الشرطية اتصلت بها ( ما ) الزايدة التي تزاد على بعض الأسماء غير أدوات الشروط فتصيرها أدواتِها ، نحو ( مهما ) فإن أصلها مَاما ، ونحو ( إذما ) و ( أينما ) و ( أيانَما ) و ( حيثما ) و ( كيفما ) فلا جرم أن ( مَا ) إذا اقترنت بما يدل على الشرط أكتسبته قوةَ شرطية فلذلك كتبت ( إما ) هذه على صُورة النطق بها ولم تكتب مفصولة النون عن ( مَا ).والنزغ النخس والغرز ، كذا فسره في «الكشاف» وهو التحقيق ، وأما الراغب وابن عطية فقيداه بأنه دخول شيء في شيء لإفساده ، ( قلتَ : وقريبٌ منه الفسخ بالسين وهو الغرز بإبرة أو نحوها للوشْم ) قال ابن عطية «وقلّما يُستعمل في غير فعل الشيطان { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } [ يوسف : 100 ].وإطلاق النزغ هنا على وسوسة الشيطان استعارة : شبه حدوث الوسوسه الشيطانية في النفس بنزغ الإبرة ونحوها في الجسم بجامع التأثير الخفي ، وشاعت هذه الاستعارة بعد نزول القرءان حتى صارت كالحقيقة .والمعنى أن ألقى إليك الشيطان ما يخالف هذا الأمر بأن سوّل لك الأخذ بالمعاقبة أوْ سَوّل لك تركَ أمرهم بالمعروف غضباً عليهم أو يأساً من هداهم ، فاستعذ بالله منه ليدفع عنك حرجه ويشرح صدرك لمحبة العمل بما أمرت به .والاستعاذة مصدر طَلب العوذ ، فالسين والتاء فيها للطلب ، والعوذ : الإلتجاء إلى شيء يدفع مكروهاً عن الملتجيء ، يقال : عاذ بفلان ، وعاذ بالحرَم ، وأعاذه إذا منعه من الضر الذي عَاذ من أجله .فأمرَ الله بدفع وسوسة الشيطان بالعوذ بالله ، والعوذُ بالله هو الالتجاء إليه بالدعاء بالعصمة ، أو استحضار ما حدده الله له من حدود الشريعة ، وهذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الالتجاء إلى الله فيما عسر عليه ، فإن ذلك شكر على نعمة الرسالة والعصمة ، فإن العصمة من الذنوب حاصلة له ، ولكنه يشكر الله بإظهار الحاجة إليه لادامتها عليه ، وهذا مثل استغفار الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله في حديث «صحيح مسلم» " إنه ليُغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة " فالشيطان لا ييأس من إلقاء الوسوسة للأنبياء لأنها تنبعث عنه بطبعه ، وإنما يترصد لهم مواقع خفاء مقصده طمعاً في زلة تصدر عن أحدهم ، وإن كان قد علم أنه لا يستطيع إغواءهم ، ولكنه لا يفارقه رجاء حملهم على التقصير في مراتبهم ، ولكنه إذا ما هم بالوسوسة شعروا بها فدفعوها ، ولذلك علم الله رسوله عليه الصلاة والسلام الاستعانة على دفعها بالله تعالى . روى الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما منكم من أحد إلا وقد وُكل به قرينُه من الجن وقرينُه من الملائكة "قالوا وأنت يا رسول الله ، قال " وأنا ولكن الله أعانني عليه فأسلم " روي قوله : «فأسْلم» بفتح الميم بصيغة الماضي والهمزة أصلية ، صار الشيطان المقارن لهُ مُسلماً ، وهي خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم وروي بضم الميم بصيغة المضارع ، والهمزة للمتكلم : أي فأنا أسْلم من وسوسته وأحسب أن سبب الاختلاف في الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق به موقوفاً عليه . وهذا الأمر شامل للمؤمنين وحظ المؤمنين منه أقوى لأن نزغ الشيطان إياهم أكثر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة فليس للشيطان عليه سبيل .وجملة : { إنه سميع عليم } في موقع العلة للأمر بالاستعاذة من الشيطان بالله على ما هو شأن حرف ( إن ) إذا جاء في غير مقام دَفع الشك أو الإنكارِ ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك ولا يتردد فيه ، والمراد : التعليل بِلازم هذا الخبر ، وهو عوذه مما استعاذه منه ، أي : أمرناك بذلك لأن ذلك يعصمك من وسوسته لأن الله سميع عليم .و«السميع» : العالم بالمسموعات ، وهو مراد منه معناه الكنائي ، أي عليم بدعائك مستجيب قابِل للدعوة ، كقول أبي ذؤيب :دَعاني إليها القلب إني لامْرِه ... سَميع فما أدْري أرُشْدٌ طِلابُهاأي ممتثل ، فوصفُ { سميع } كناية عن وعد بالإجابة .وإتْباعه بوصف { عليم } زيادة في الإخبار بعموم علمه تعالى بالأحوال كلها ، لأن وصف { سميع } دل على أنه يعلم استعاذة الرسول عليه الصلاة والسلام ثم أتبعه بما يدل على عموم العلم ، وللإشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بمحل عنايه الله تعالى فهو يعلم ما يريد به الشيطان عدوُه ، وهذا كناية عن دفاع الله عن رسوله كقوله : { فإنك بأعْيُننا } [ الطور : 48 ] وأن أمره بالاستعاذة وقوف عند الأدب والشكرِ وإظهارِ الحاجة إلى الله تعالى .
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ
📘 هذا تأكيد وتقرير للأمر بالاستعاذة من الشيطان ، فتتنزل جملة : { إِنَّ الذين اتقوا } إلى آخرها منزلة التعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان إذا أحسّ بنزغ الشيطان ، ولذلك افتتحت ب { إن } التي هي لمجرد الاهتمام لا لرد تردد أو إنكار ، كما افتتحت بها سابقتها في قوله : { أنه سميع عليم } [ الأعراف : 200 ] فيكون الأمر بالاستعاذة حينئذ قد علل بعلتين أولاهما أن الاستعاذة بالله منجاة للرسول عليه الصلاة والسلام من نزغ الشيطان ، والثانية : أن في الاستعاذة بالله من الشيطان تذكراً الواجب مجاهدة الشيطان والتيقظِ لكيده ، وأن ذلك التيقظ سنة المتقين ، فالرسول عليه الصلاة والسلام مأمور بمجاهدة الشيطان : لأنه متق ، ولأنه يبتهج بمتابعه سيرة سلفه من المتقين كما قال تعالى : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده } [ الأنعام : 90 ].وقد جاءت العلة هنا أعم من المعلل : لأن التذكر أعم من الاستعاذة .ولعل الله ادخر خصوصية الاستعاذة لهذه الأمة ، فكثر في القرآن الأمر بالاستعاذة من الشيطان ، وكثر ذلك في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وجعل للذين قبلهم الأمر بالتذكر ، كما ادخر لنا يوم الجمعة .و ( التقوى ) تقدم بيانها عند قوله تعالى : { هدى للمتقين } في سورة البقرة ( 2 ) ، والمراد بهم : الرسل وصالحو أممهم ، لأنه أريد جعلهم قدوة وأسوة حسنة .و ( المس ) حقيقته وضع اليد على الجسم ، واستعير للإصابة أو لأدْنى الإصابة .والطائف هو الذي يمشي حول المكان ينتظر الإذن له ، فهو النازل بالمكان قبل دخوله المكان ، اطلق هنا على الخاطر الذي يخطر في النفس يبعث على فعل شيء نهى الله عن فعله شُبه ذلك الخاطر في مبدأ جولانه في النفس بحلول الطائف قبل أن يستقر .وكانت عادة العرب أن القادم إلى أهل البيت ، العائِذَ برب البيت ، المستأنسَ للقرى يستانس ، فيطوف بالبيت ، ويستأذن ، كما ورد في قصة النابغة مع النعمان بن المنذرِ حين أنشد أبياته التي أولها :أصم أمْ يسمعُ رب القُبّهْ ... وتقدمت في أول سورة الفاتحة ، ومن ذلك طواف القادمين إلى مكة بالكعبة تشبها بالوافدين على المملوك ، فلذلك قُدّم الطواف على جميع المناسك وختمت بالطواف أيضاً ، فلعل كلمة طائف تستعمل في معنى الملم الخفي قال الأعشى :وتُصبح عن غب السُّرَي وكأنّها ... ألمَّ بها من طائِف الجن أَوْلَقُوقال تعالى : { فطاف عليها طائفٌ من ربك وهم نائمون } [ القلم : 19 ].وقراءة الجمهور : { طائف } ، بألف بعد الطاء وهمزة بعد الألف ، وقراءة ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب : ( طيْف ) بدون ألف بعد الطاء وبياء تحتية ساكنة بعد الطاء ، والطيْف خيال يراك في النوم وهو شائع الذكر في الشعر .وفي كلمة ( إذا ) من قوله : { إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا } مع التعبير بفعل { مَسهم } الدال على إصابة غير مكينة ، إشارة إلى أن الفزع إلى الله من الشيطان ، عند ابتداء إلمام الخواطر الشيطانية بالنفس ، لأن تلك الخواطر إذا أمهلت لم تلبث أن تصير عزماً ثم عملاً .والتعريف في { الشيطان } يجوز أن يكون تعريف الجنس : أي من الشياطين ويجوز أن يكون تعريف العهد والمراد به إبليس باعتبار أن ما يوسوس به جنده وأتباعُه ، هو صادر عن أمره وسلطانه .والتذكر استحضار المعلوم السابق ، والمراد : تذكروا أوامر الله ووصاياه ، كقوله : { ذَكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } [ آل عمران : 135 ] ويشمل التذكر تذكر الاستعاذة لمن أمر بها من الأمم الماضية ، إن كانت مشروعة لهم ، ومن هذه الأمة ، فالاقتداءُ بالذين اتقوا يعم سائر أحوال التذكر للمأمورات .والفاء لتفريع الإبصار على التذكر . وأكد معنى ( فاء ) التعقيب ب ( إذا ) الفجائية الدالة على حصول مضمون جملتها دَفعة بدون تريث ، أي تذكروا تذكر ذويَ عزم فلم تتريث نفوسهم أن تَبين لها الحقُ الوازع عن العمل بالخواطر الشيطانية فابتعدت عنها ، وتمسكت بالحق ، وعملت بما تذكرت ، فإذا هم ثابتون على هداهم وتقواهم .وقد استعير الإبصار للاهتداء كما يستعار ضده العمى للضلال ، أي : فإذا هم مهتدون ناجون من تضليل الشيطان ، لأن الشيطان أراد إضلالهم فسلموا من ذلك ووصفُهم باسم الفاعل دون الفعل للدلالة على أن الإبصار ثابت لهم من قبلُ ، وليس شيئاً متجدداً ، ولذلك أخبر عنهم بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات .
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ
📘 عطف على جملة { الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا } [ الأعراف : 201 ] عطفَ الضد على ضده ، فإن الضدية مناسبة يحسن بها عطف حال الضد على ضده ، فلما ذكر شان المتقين في دفعهم طائِف الشياطين ، ذُكر شان اضدادهم من أهل الشرك والضلال ، كما وقعت جملة : { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } [ البقرة : 6 ] من جملة { هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب } في سورة البقرة ( 2 ، 3 ).وجعلها الزّجاج عطفاً على جملة { ولا يستطيعون لهم نصراً ولا لأنفسهم ينصرون } [ الأعراف : 192 ] أي ويمدونهم في الغي ، يريد أن شركاءهم لا ينفعونهم بل يضرونهم بزيادة الغي . والإخوان جمع أخ على وزن فعلان مثل جمع خَرَب و وهو ذكر بزيادة الغي .والإخوان جمع أخ على وزن فعلان مثل جمع خَرَب وهو ذكر الحُبارَى على خربان .وحقيقة الأخ المشارك في بنوة الأم والأب أو في بنوة أحدهما ويطلق الأخ مجازاً على الصديق الودود ومنه ما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ، وقول أبي بكر للنبيء صلى الله عليه وسلم لما خطب النبي منه عائشة «إنما أنا أخوك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنت أخي وهي حلال لي» ويطلق الأخ على القرين كقولهم أخو الحرب ، وعلى التابع الملازم كقول عبد بني الحسحاس :أخُوكم ومولى خَيْركم وحليفُكم ... ومن قد ثَوى فيكم وعاشركم دَهْراًأراد أنه عبدهم ، وعلى النسب والقرب كقولهم : أخو العرب وأخو بني فلان .فضمير { وإخوانهم } عائِد إلى غير مذكور في الكلام ، إذ لا يصح أن يعود إلى المذكور قبله قريباً : لأن الذي ذكر قبله { الذين اتقوا } فلا يصح أن يكون الخبر ، وهو { يمدونهم في الغي } متعلقاً بضمير يعود إلى { المتقين } ، فتعين أن يتطلب السامع لضمير { وإخوانهم } معادا غير ما هو مذكور في الكلام بقربه ، فيحتمل أن يكون الضمير عائداً على معلوم من السياق وهم الجماعة المتحدث عنهم في هذه الآيات أعني المشركين المعنيين بقوله { فتعالى الله عما يشركون أيشركون ما لا يخلق شيئاً } إلى قوله { ولا يستطيعون لهم نصراً } [ الأعراف : 190 192 ] فيرد السامع الضمير إلى ما دل عليه السياق بقرينة تقدم نظيره في أصل الكلام ، ولهذا قال الزجاج : هذه الآية متصلة في المعنى بقوله : { ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون } [ الأعراف : 192 ] ، أي وإخوان المشركين ، أي أقاربهم ومن هو من قبيلتهم وجماعة دينهم ، كقوله تعالى : { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض } [ آل عمران : 156 ] أي يُمد المشركون بعضهم بعضاً في الغي ويتعاونون عليه فلا مخلص لهم من الغي .ويجوز أن يعود الضميران إلى الشيطان المذكور آنفاً باعتبار إرادة الجنس أو الأتباع ، كما تقدم ، فالمعنى وإخوان الشياطين أي أتباعهم كقوله :{ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } [ الإسراء : 27 ] أما الضميران المرفوعان في قوله : { يُمدونهم } وقوله : { لا يُقصرون } فهما عائدان إلى ما عاد إليه ضمير { إخوانهم } أي الشياطين ، وإلى هذا مال الجمهور من المفسرين ، والمعنى : وإخوان الشياطين يمدهم الشياطين في الغي ، فجملة يمدونهم خبر عن { إخوانهم } وقد جرى الخبر على غير من هو له ولم يُبرَز فيه ضميرُ من هو له حيث كان اللبس ما مونا وهذا كقول يزيد بن منقذ :وهُم إذا الخيلُ جالوا في كواثبهافَوارسُ الخيل لا مِيلٌ ولا قَزَمفجملة «جالوا» خبر عن الخيل وضمير «جالوا» عائد على ما عاد عليه ضمير «وهم» لا على الخيل . وقوله فوارس خبر ضمير الجمع .ويجوز أن يكون المراد من الإخوان الأولياء ويكون الضميران للمشركين أيضاً ، أي وإخوانُ المشركين وأولياؤُهم ، فيكون «الإخوان» صادقاً بالشياطين كما فسر قتادة ، لأنه إذا كان المشركون إخوان الشياطين ، كما هو معلوم ، كان الشياطين إخواناً للمشركين لأن نسبة الأخوة تقتضي جانبين ، وصادقاً بعظماء المشركين ، فالخبر جار على من هو له ، وقد كانت هذه المعاني مجتمعة في هذه الآيات بسبب هذا النظم البديع .وقرأ نافع ، وأبو جعفر : { يُمدونهم } بضم الياء وكسر الميم من الامداد وهو تقوية الشيء بالمدد والنجدة كقوله : { أمدكم بأنعام وبنين } [ الشعراء : 133 ] ، وقرأه البقية : { يَمُدونهم } بفتح الياء وضم الميم من مد الحبل يمده إذا طوله ، فيقال : مد له إذا أرخى له كقولهم : ( مد الله في عُمرك ) وقال أبو علي الفارسي في كتاب «الحجة» «عامة ما جاء في التنزيل مما يستحب أمددتُ على أفعلت كقوله : { أن ما نُمدهم به من ماللٍ وبنين } [ المؤمنون : 55 ] { وأمددناهم بفاكهة } [ الطور : 22 ] و { أتمدونن بمال } [ النمل : 36 ] ، ومَا كان بخلافه يجيء على مَدَدْت قال تعالى : { ويَمُدهم في طغيانهم يعمهون } [ البقرة : 15 ] فهذا يدل على أن الوجه فتح الياء كما ذهب إليه الأكثر من القراء والوجه في قراءة من قرأ يُمدونهم أي بضم الياء أنه مثل { فبشرهم بعذاب اليم } [ آل عمران : 21 ] ( أي هو استعارة تهكمية والقرينه قوله في الغي كما أن القرينة في الآية الأخرى قوله بعذاب ) وقد علمت أن وقوع أحد الفعلين أكثر في أحد المعنيين لا يقتضي قصر إطلاقه على ما غلب إطلاقه فيه عند البلغاء وقراءة الجمهور { يمدونهم } بفتح التحتية تقتضي أن يعدى فعل { يمدونهم } إلى المفعول باللام ، يقال مد له إلا أنه كثرت تعديته بنفسه على نزع الخافض كقوله تعالى : { ويَمدّهم في طغيانهم } وقد تقدم في سورة البقرة ( 15 )والغي الضلال وقد تقدم آنفاً .و ( في ) من قوله : { يمدونهم في الغي } على قراءة نافع وأبي جعفر استعارة تبعيه بتشبيه الغي بمكان المحاربة ، وأما على قراءة الجمهور فالمعنى : وإخوانهم يمدون لهم في الغي من مَد للبعير في الطول .أي يطيلون لهم الحبْل في الغي ، تشبيهاً لحال أهل الغواية وازديادهم فيها بحال النعم المطال لها الطول في المرعى وهو الغي ، وهو تمثيل صالح لاعتبار تفريق التشبيه في أجزاء الهيئة المركبة ، وهو أعلى أحوال التمثيل ويقرب من هذا التمثيل قول طرفة :لعمرك أن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطِوَل المُرْخَى وثنْياه باليدوعليه جرى قولهم : مد الله لفلان في عمره ، أو في أجله ، أو في حياته والإقصار الامساك عن الفعل مع قدره الممسك على أن يزيد .و { ثم } للترتيب الرتبي أي وأعظم من الإمداد لهم في الغي أنهم لا يألونهم جهداً في الازدياد من الإغواء ، فلذلك تجد إخوانهم أكبر الغاوين .
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ۚ هَٰذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
📘 معطوفة على جملة : { وأعرض عن الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] والمناسبة أن مقالتهم هذه من جهالتهم والآية يجوز أن يراد بها خارق العادة أي هم لا يقنعون بمعجزة القرآن فيسألون آيات كما يشاءون مثل قولهم ( فجر لنا من الأرض ينبوعاً ) وهذا المعنى هو الذي شرحناه عند قوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمنن بها } في سورة الأنعام ( 109 ). وروي هذا المعنى عن مجاهد ، والسُدي ، والكُلبي ويجوز أن يراد بآية ءاية من القرآن يقترحون فيها مدحاً لهُم ولأصنامهم ، كما قال الله عنهم : { قال الذين لا يرجون لقاءنا ائْتتِ بقرآن غير هذا أو بَدلْه } [ يونس : 15 ] روي عن جابر بن زيد وقتادة : كان المشركون إذا تأخر الوحي يقولون للنبيء هلا أتيت بقرآن من عندك يريدون التهكم .و { لولا } حرف تحْضيض مثل ( هلا ).والاجتباء الاختيار ، والمعنى : هلاّ اخترت آية وسألت ربك أن يعطيكها ، أي هلا أتيتنا بما سألناك غير آية القرآن فيجيبك الله إلى ما اجتبيتَ ، ومقصدهم من ذلك نصب الدليل على أنه بخلاف ما يقول لهم إنه رسول الله ، وهذا من الضلال الذي يعتري أهل العقول السخيفة في فهم الأشياء على خلاف حقائقها وبحسب من يتخيلون لها ويفرضون .والجواب الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به وهو قوله : { قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } صالح للمعنيين ، فالاتباع مستعمل في معنى الاقتصار والوقوف عند الحد ، أي لا أطلب آية غير ما أوحى الله إلي ، ويعضد هذا ما في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مَا من الأنبياء إلا أوتي من الآيات مَا مثلُه آمنَ عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة » ويكون المعنى : إنما انتظر ما يوحى إلى ولا أستعجل نزول القرآن إذا تأخر نزوله فيكون الاتباع متعلقاً بالزمان .مستأنفة لابتداء كلام في التنويه بشأن القرآن منقطعه عن المقول للانتقال من غرض إلى غرض بمنزلة التذييل لمجموع أغراض السورة ، والخطاب للمسلمين .ويجوز أن تكون من تمام القول المأمور بأن يجيبهم به ، فيكون الخطاب للمشركين ثم وقع التخلص لذكر المؤمنين بقوله : { وهدى ورحمة لقوم يؤمنون }.والإشارة ب { بهذا بصائر } إلى القرآن ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من السورة أو من المحاجة الأخيرة منها ، وإفراد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور .والبصائر جمع بصيرة وهي ما به اتضاح الحق وقد تقدم عند قوله تعالى : { قد جاءكم بصائر من ربكم } في سورة الأنعام ( 104 ) ، وهذا تنويه بشأن القرآن وأنه خير من الآيات التي يسألونها ، لأنه يجمع بين الدلالة على صدق الرسول بواسطة دلالة الإعجاز وصدوره عن الأمي ، وبين الهداية والتعليم والإرشاد ، والبقاء على العصور .وإنما جمع «البصائر» لأن القرآن أنواعاً من الهدى على حسب النواحي التي يهدي إليها ، من تنوير العقل في إصلاح الاعتقاد ، وتسديد الفهم في الدين ، ووضع القوانين للمعاملات والمعاشرة بين الناس ، والدلالة على طرق النجاح والنجاة في الدنيا ، والتحذير من مهاوي الخسران .وأفرد الهدى والرحمة؛ لأنهما جنسان عامان يشملان أنواع البصائِر فالهدى يقارن البصائِر والرحمة غاية للبصائر ، والمراد بالرحمة ما يشمل رحمة الدنيا وهي استقامة أحوال الجماعة وانتظام المدنية ورحمة الآخرة وهي الفوز بالنعيم الدائم كقوله تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فنلحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون } [ النحل : 97 ].وقولُه : { من ربكم } ترغيب للمؤمنين وتخويف للكافرين .و { لقوم يؤمنون } يتنازعه ( بصائر ) و ( هدى ) و ( رحمة ) لأنه إما ينتفع به المؤمنون ، فالمعنى هذا بصائر لكم وللمؤمنين ، و { هدى ورحمة لقوم يؤمنون } خاصة إذ لم يهتدوا ، وهو تعريض بأن غير المؤمنين ليسوا أهلاً للانتفاع به وأنهم لهواً عن هديه بطلب خوارق العادات .
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
📘 يؤذن العطف بأن الخطاب بالأمر في قوله : { فاستمعوا وأنصتوا } وفي قوله : { لعلكم } تابع للخطاب في قوله { هذا بصائر من ربكم } [ الأعراف : 203 ] إلخ ، فقوله : { وإذا قرىء القرآن } من جملة ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقوله لهم وذلك إعادة تذكير للمشركين تصريحاً أو تعريضاً بأن لا يعرضوا عن استماع القرآن وبأن يتأملوه ليعلموا أنه آية عظيمة ، وأنه بصائر وهدى ورحمة ، لمن يؤمن به ولا يعاند ، وقد علم من أحوال المشركين أنهم كانوا يتناهون عن الإنصات إلى القرآن { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ].وذكرُ اسم القرآن إظهارٌ في مقام الإضمار ، لأن القرآن تقدم ذكره بواسطة اسم الإشارة فنكتة هذا الإظهار : التنويه بهذا الأمر ، وجعل جملته مستقلة بالدلالة غير متوقفة على غيرها ، وهذا من وجوه الاهتمام بالكلام ومن دواعي الإظهارِ في مقام الإضمار استقريتة من كلام البلغاء .والاستماع الإصغاء وصيغة الافتعال دالة على المبالغة في الفعل ، والإنصات الاستماع مع ترك الكلام فهذا مؤكد ( لا تسمعوا ). مع زيادة معنى . وذلك مقابل قولهم : { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } [ فصلت : 26 ] ، ويجوز أن يكون الاستماع مستعملاً في معناه المجازي ، وهو الامتثال للعمل بما فيه كما تقدم آنفاً في قوله : { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا } [ الأعراف : 198 ] ويكون الإنصات جامعاً لمعنى الإصغاء وترك اللغو .وهذا الخطاب شامل للكفار على وجه التبليغ ، وللمسلمين على وجه الارشاد لأنهم أرجى للانتفاع بهديه لأن قبله قوله : { وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } [ الأعراف : 203 ].ولا شبهة في أن هذه الآية نزلت في جملة الآيات التي قبلها وعلى مناسبتها ، سواء أريد بضمير الخطاب بها المشركون والمسلمون معاً ، أم أريد المسلمون تصريحاً والمشركون تعريضاً ، أم أريد المشركون للاهتداء والمسلمون بالأحرى لزيادته .فالاستماع والإنصات المأمور بهما هما المؤديان بالسامع إلى النظر والاستدلال ، والاهتداء بما يحتوي عليه القرآن من الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المقضي إلى الإيمان به ، ولما جاء به من إصلاح النفوس ، فالأمر بالاستماع مقصود به التبليغ واستدعاء النظر والعملُ بما فيه ، فالاستماع والإنصاتُ مراتب بحسب مراتب المستمعين .فهذه الآية مجملة في معنى الاستماع والإنصات وفي مقتضى الأمر من قوله : { فاستمعوا له وأنصتوا } ، يُبين بعضَ إجمالها سياقُ الكلام والحملُ على ما يفسر سببها من قوله تعالى : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغو فيه } [ فصلت : 26 ] ، ويُحال بيان مجملها فيما زادَ على ذلك على أدلة أخرى . وقد اتفق علماء الأمة على أن ظاهر الآية بمجرده في صور كثيرة مؤول ، فلا يقول أحد منهم بأنه يجب على كل مسلم إذا سمع أحداً يقرأ القرآن أن يشتغل بالاستماع ويُنصت ، إذ قد يكون القارىء يقرأ بمحضر صانع في صنعته فلو وجب عليه الاستماع لأمر بترك عمله ، ولكنهم اختلفوا في محمل تأويلها : فمنهم من خصها بسبب رأوا أنه سبب نزولها ، فرووا عن أبي هريرة أنها نزلت في قراءة الإمام في الجهر ، وروى بعضهم أن رجلاً من الأنصار صلى وراء النبي صلى الله عليه وسلم صلاة جهرية فكان يقرأ في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فنزلت هذه الآية في أمر الناس بالاستماع لقراءة الإمام .وهؤلاء قصروا أمر الاستماع على قراءة خاصة دل عليها سبب النزول عندهم على نحو يقرب من تخصيص العام بخصوص سببه ، عند من يخصص به ، وهذا تأويل ضعيف ، لأن نزول الآية على هذا السبب لم يصح ، ولا هو مما يساعد عليه نظم الآية التي معها ، وما قالوه في ذلك إنما هو تفسير وتأويل وليس فيه شيء مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلمومنهم من أبقى أمر الاستماع على إطلاقه القريب من العموم ، ولكنهم تأولوه على أمرِ الندب ، وهذا الذي يؤخذ من كلام فقهاء المالكية ، ولو قالوا المراد من قوله قُرىء قراءة خاصة ، وهي أن يقرأه الرسول عليه الصلاة والسلام على الناس لعلْم ما فيه والعمل به للكافر والمسلم ، لكان أحسن تأويلاً .وفي «تفسير القرطبي» عن سعيد ( بن المسيب) : كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى فيقول بعضهم لبعض لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فأنزل الله تعالى جواباً لهم { وإذا قُرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا }.على أن ما تقدم من الاخبار في محمل سبب نزول هذه الآية لا يستقيم لأن الآية مكية وتلك الحوادث حدثت في المدينة . أما استدلال أصحاب أبي حنيفة على ترك قراءة المأموم إذا كان الإمام مُسراً بالقراءة ، فالآية بمعزل عنه إذ لا يتحقق في ذلك الترك معنى الإنصات .ويجب التنبه إلى أن ليس في الآية صيغة من صيغ العموم لأن الذي فيها فعلان هما ( قُرىء ) ( واستمعوا ) والفعل لا عموم له في الإثبات .ومعنى الشرط المستفاد من ( إذا ) يقتضي إلا عموم الأحوال أو الأزمان دون القراءات وعموم الأزمان أو الأحواللِ لا يستلزم عموم الأشخاص بخلاف العكس كما هو بين .
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ
📘 إقبال بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يختص به ، بعد أن أمر بما أمر بتبليغه من الآيات المتقدمة ، والمناسبة في هذا الانتقال أن أمر الناس باستماع القرآن يستلزم أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقراءة القرآن عليهم قراءة جهرية يسمعونها ، فلما فرغ الكلام من حظ الناس نحو قراءة الرسول عليه الصلاة والسلام ، أقبل على الكلام في حظ الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن وغيره ، وهو التذكر الخاص به ، فأمر بأن يذكر الله ما استطاع وكيفما تسنى له ، وفي أوقات النهار المختلفة ، فجملة { واذكر ربك } معطوفة على الجمل السابقة من قوله : { إن وليي الله } [ الأعراف : 196 ] إلى هنا .والنفس اسم للقوة التي بها الحياة ، فهي مرادفة الروح ، وتطلق على الذات المركبة من الجسد والروح ، ولكون مقر النفس في باطن الإنسان أطلقت على أمور باطن الإنسان من الإدراك والعقل كما في قوله تعالى حكاية عن عيسى { تعلم ما في نفسي } [ المائدة : 116 ] وقد مضى في سورة المائدة ، ومن ذلك يتطرق إلى إطلاقها على خويصة المرء ، ومنه قوله في الحديث القدسي في «صحيح البخاري» " وإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خيرِ منهم " فقابل قوله : في نفسه بقوله : في ملإ .والمعنى : اذكر ربك وأنت في خلوتك كما تذكره في مجامع الناس .والذكر حقيقة في ذكر اللسان ، وهو المراد هنا ، ويعضده قوله : { ودونَ الجهر من القول } وذلك يشمل قراءة القرآن وغيرَ القرآن من الكلام الذي فيه تمجيد الله وشكره ونحو ذلك ، مثل كلمة التوحيد والحوقلة والتسبيح والتكبير والدعاء ونحو ذلك .و«التضرع» التذلل ولما كان التذلل يستلزم الخطاب بالصوت المرتفع في عادة العرب كني بالتضرع عن رفع الصوت مراداً به معناه الأصلي والكنائي ، ولذلك قوبل بالخُفيه في قوله { ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً } في أوائل هذه السورة ( 55 ) وقد تقدم .وقوبل التضرع هنا بالخيفة وهي اسم مصدر الخوف ، فهو من المصادر التي جاءت على صيغة الهيئة وليس المراد بها الهيئة ، مثل الشدة ، ولما كانت الخيفة انفعالا نفسياً يجده الإنسان في خاصة نفسه كانت مستلزمة للتخافت بالكلام خشية أن يَشعُر بالمرء من يخافه . فلذلك كني بها هنا عن الإسرار بالقول مع الخوف من الله ، فمقابلتُها بالتضرع طباق في معنيي اللفظين الصريحين ومعنييهما الكناءين ، فكأنه قيل تضرعاً وإعلاناً وخيفة وإسراراً .وقوله : ودون الجهر من القول } هو مقابل لكل من التضرع والخيفة وهو الذكر المتوسط بين الجهر والإسرار ، والمقصود من ذلك استيعاب أحوال الذكر باللسان ، لأن بعضها قد تكون النفس أنشط إليه منها إلى البعض الآخر .و ( الغُدو ) اسم لزمن الصباح وهو النصف الأول من النهار .و ( الآصال ) جمع أصيل وهو العشي وهو النصف الثاني من النهار إلى الغروب .والمقصود استيعاب أجزاء النهار بحسب المتعارف ، فأما الليل فهو زمن النوم ، والأوقات التي تحصل فيها اليقظة خصت بأمر خاص مثل قوله تعالى : { قم الليل إلا قليلاً } [ المزمل : 2 ] على أنها تدخل في عموم قوله : { ولا تكن من الغافلين }.فدل قوله : { ولا تكن من الغافلين } على التحذير من الغفلة عن ذكر الله ولاحد للغفلة ، فإنها تحدد بحال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بنفسه . فإن له أوقاتاً يتلقى فيها الوحي وأوقات شؤون جِبِلّية كالطعام .وهذا الأمر خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام ، وكل ما خص به الرسول عليه الصلاة والسلام من الوجوب يستحسن للأمة اقتداؤهم به فيه إلا ما نهوا عنه مثل الوصال في الصوم .وقد تقدم أن نحو { ولا تكن من الغافلين } أشد في الانتفاء وفي النهي من نحو : ولا تغفل ، لأنه يفرض جماعة يحق عليهم وصف الغافلين فيحذر من أن يكون في زمرتهم وذلك أبْين للحالة المنهي عنها .
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ۩
📘 تتنزل منزلة العلة للأمر بالذكر ، ولذلك صُدرت ب { إن } التي هي لمجرد الاهتمام بالخبر ، لا لرد تردد أو إنكار ، لأن المخاطب منزه عن أن يتردد في خبر الله تعالى ، فحرف التوكيد في مثل هذا المقام يغني غناء فاء التفريع ، ويفيد التعليل كما تقدم غير مرة ، والمعنى : الحث على تكرر ذكر الله في مختلف الأحوال ، لأن المسلمين مأمورون بالاقتداء بأهل الكمال من الملإ الأعلى ، وفيها تعريض بالمشركين المستكبرين عن عبادة الله بأنهم منحطون عن تلك الدرجات .والمراد ب { الذين عند ربك } الملائكة ، ووجه جعل حال الملائكة علة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر : أن مرتبة الرسالةُ تلحق صاحبها من البشر برتبة الملائكة ، فهذا التعليل بمنزلة أن يقال : اذكر ربك لأن الذكر هو شان قبيلك ، كقول ابن دارة سالم بن مسافع :فإن تتقوا شراً فمثلُكم اتقى ... وإن تفعلوا خيراً فمثلكُمُ فعلفليس في هذا التعليل ما يقتضي أن يكون الملائكة أفضل من الرسل ، كما يتوهمه المعتزلة لأن التشبه بالملائكة من حيث كان الملائكة أسبقَ في هذا المعنى؛ لكونه حاصلاً منهم بالجِبِلّة فهم مثل فيه ، ولا شبهة في أن الفريق الذين لم يكونوا مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة ، إذا تخلقوا بمثل خلق الملائكة ، كان سُموهم إلى تلك المرتبة أعجب ، واستحقاقهم الشكر والفضل له أجدر .ووجه العدول عن لفظ الملائكة إلى الموصولية : ما تؤذن به الصلة من رفعة منزلتهم ، فيتذرع بذلك إلى إيجاد المنافسة في التخلق بأحوالهم .و { عند } مستعمل مجازاً في رفعة المقدار ، والحظوة الآلهية .وقوله : { لا يستكبرون عن عبادته } ليس المقصود به التنويه بشأن الملائكة لأن التنويه بهم يكون بأفضل من ذلك ، وإنما أريد به التعريض بالمشركين وأنهم على النقيض من أحوال الملائكة المقربين ، فخليق بهم أن يكونوا بعداء عن منازل الرفعة ، والمقصود هو قوله : { ويسبحونه } أي ينزهونه بالقول والاعتقاد عن صفات النقص ، وهذه الصلة هي المقصودة من التعليل للأمر بالذكر .واختيار صيغة المضارع لدلالتها على التجديد والاستمرار ، أو كما هو المقصود وتقديم المعمول من قوله : { وله يسجدون } للدلالة على الاختصاص أي ولا يسجدون لغيره ، وهذا أيضاً تعريض بالمشركين الذين يسجدون لغيره ، والمضارع يفيد الاستمرار أيضاً .وهنا موضع سجود من سجود القرآن ، وهو أولها في ترتيب الصحف ، وهو من المتفق على السجود فيه بين علماء الأمة ، ومقتضى السجدة هنا أن الآية جاءت للحض على التخلق بأخلاق الملائكة في الذكر ، فلما أخبرت عن حالة من أحوالهم في تعظيم الله وهو السجود لله ، أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبادر بالتشبه بهم تحقيقاً للمقصد الذي سبق هذا الخبر لأجله .وأيضاً جرى قبل ذلك ذكر اقتراح المشركين أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم بآية كما يقترحون فقال الله له : { قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } [ الأعراف : 203 ] وبأن يأمرهم بالاستماع للقرآن وذكر أن الملائكة يسجدون لله ، شرع الله عند هذه الآية سجوداً؛ ليظهر إيمان المؤمنين بالقرآن وجحود الكافرين به حين سجد المؤمنون ، ويمسك المشركون الذين يحضرون مجالس نزول القرآن ، وقد دل استقراء مواقع سجود القرآن أنها لا تعدو أن تكون إغاظة للمشركين أو اقتداء بالأنبياء أو المرسلين كما قال ابن عباس في سجدة ، { فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب } [ ص : 24 ] أن الله تعالى قال : { فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] فداود ممن أمر محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي به .
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ
📘 { وقاسمهما } أي حلف لهما بما يوهم صدقه ، والمقاسمة مفاعلة من أقسم إذا حلف ، حذفت منه الهمزة عند صوغ المفاعلة ، كما حذفت في المكارمة ، والمفاعلةُ هنا للمبالغة في الفعل ، وليست لحصول الفعل من الجانبين ، ونظيرها : عافاه الله ، وجعله في «الكشاف» : كأنّهما قالا له تُقسم بالله إنّك لمن النّاصحين فَأقْسم فجُعل طلبُهما القسمَ بمنزلة القسم ، أي فتكون المفاعلة مجازاً ، قال أو أقسم لهما بالنّصيحة وأقسما له بقبولها ، فتكون المفاعلة على بابها ، وتأكيد إخباره عن نفسه بالنّصح لهما بثلاث مؤكدَات دليل على مبلغ شكّ آدم وزوجه في نصحه لهما ، وما رأى عليهما من مخائل التّردّد في صدقه ، وإنّما شكّا في نصحه لأنّهما وَجدا ما يأمرهما مخالفاً لما أمرهما الله الذي يعلمان إرادتَه بهما الخير علماً حاصلاً بالفطرة .
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ
📘 تفريع على جملة : { فوسوس لهما الشّيطان } [ الأعراف : 20 ] وما عطف عليها .ومعنى { فدلاّهما } أقدمهما ففَعلا فِعلاً يطمعان به في نفع فخابَا فيه ، وأصل دلَّى ، تمثيل حال من يطلب شيئاً من مظنّته فلا يجده بحال من يُدَلِّي دَلوه أو رجليه في البئر ليسْتقي من مائها فلا يجد فيها ماء فيقال : دَلَّى فلانٌ ، يقال دلّى كما يقال أدلى .والباء للملابسة أي دلاهما ملابِساً للغُرور أي لاستيلاء الغرور عليه إذ الغرور هو اعتقاد الشيء نافعاً بحسب ظاهر حاله ولا نفع فيه عند تجربته ، وعلى هذا القياس يقال دَلاّه بغرور إذا أوقعه في الطّمع فيما لا نفع فيه ، كما في هذه الآية وقول أبي جُندب الهُذلي ( هو ابن مُرّة ولم أقف على تعريفه فإن كان إسلامياً كان قد أخذ قوله كمن يدلّى بالغرور من القرآن ، وإلاّ كان مثلاً مستعملاً من قبل) :أحُصّ فلا أجيرُ ومَنْ أجِرْه ... فليس كمَنْ يدلّى بالغروروعلى هذا الاستعمال ففعل دَلّى يستعمل قاصراً ، ويستعمل متعدّياً إذا جعل غيره مدَلِّيَاً ، هذا ما يؤخذ من كلام أهل اللّغة في هذا اللّفظ ، وفيه تفسيرات أخرى لا جدوى في ذكرها .ودلّ قوله : { فدلهما بغرور } على أنّهما فعلا ما وسوس لهما الشّيطان ، فأكلا من الشّجرة ، فقوله : { فلما ذاقا الشجرة } ترتيب على دَلاَهما بغرور فحذفت الجملة واستُغني عنها بإيراد الاسم الظّاهر في جملة شرط لَمَّا ، والتّقدير : فأكلا منها ، كما ورد مصرّحاً به في سورة البقرة ، فلمّا ذاقاها بدت لهما سوآتهما .والذّوق إدراك طعم المأكول أو المشروب باللّسان ، وهو يحصل عند ابتداء الأكل أو الشّرب ، ودلت هذه الآية على أن بُدُوّ سوآتهما حصل عند أوّل إدراك طعم الشّجرة ، دلالة على سرعة ترتّب الأمر المحذور عند أوّل المخالفة ، فزادت هذه الآية على آية البقرة .وهذه أوّلُ وسوسة صدرت عن الشّيطان . وأوّل تضليل منه للإنسان .وقد أفادت ( لما ) توقيت بدوّ سوآتهما بوقت ذوقهما الشّجرة ، لأنّ ( لما ) حرف يدل على وجود شيء عند وجود غيره ، فهي لمجرّد توقيت مضمون جوابها بزمان وجود شرطها ، وهذا مَعنى قولهم : حرف وُجودٍ لِوُجُودٍ ( فاللاّم في قولهم لوجود بمعنى ( عند ) ولذلك قال بعضهم هي ظرف بمعنى حين ، يريد باعتبار أصلها ، وإذ قد التزموا فيها تقديم ما يدل على الوقت لا على الموقت ، شابهت أدوات الشّرط فقالوا حرف وجود لوجود كما قالوا في ( لو ) حرف امتناععٍ لامْتناععٍ ، وفي ( لَولا ) حرف امتناع لوجود ، ولكن اللاّم في عبارة النّحاة في تفسير معنى لو ولولا ، هي لام التّعليل ، بخلافها في عبارتهم في ( لما ) لأنّ ( لما ) لا دلالة لها على سَبَب ، ألا ترى قوله تعالى :{ فلما نَجّاكم إلى البر أعرضتم } [ الإسراء : 67 ] إذ ليس الإنجاء بسبب للإعراض ، ولكن لَمَّا كان بين السّبب والمسبّب تقارن كثر في شرط ( لما ) وجوابها معنى السَّببية دون اطراد ، فقوله تعالى : { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } لا يدلّ على أكثر من حصول ظهور السوْآت عند ذوق الشّجرة ، أي أنّ الله جعل الأمرين مقترنين في الوقت ، ولكن هذا التّقارن هو لكون الأمرين مسبّبين عن سبب واحد ، وهو خاطر السوء الذي نفثه الشّيطان فيهما ، فسبب الإقدام على المخالفة للتّعاليم الصّالحة ، والشّعورَ بالنقيصة : فقد كان آدم وزوجه في طور سذاجة العلم ، وسلامة الفطرة ، شبيهين بالملائكة لا يُقدمان على مفسدة ولا مَضرة ، ولا يُعرضان عن نصح ناصح عَلِمَا صدقَه ، إلى خبر مخبر يشكّان في صدقه ، ويتوقّعان غروره ، ولا يشعران بالسوء في الأفعال ، ولا في ذَرائِعها ومقارناتها . لأنّ الله خلقهما في عالم ملَكي . ثمّ تطوّرت عقليَّتهما إلى طور التّصرّف في تغيير الوجدان . فتكّون فيهما فعل ما نُهيا عنه . ونشأ من ذلك التّطوّر الشّعورُ بالسّوء للغير ، وبالسوء للنّفس ، والشّعور بالأشياء التي تؤدي إلى السوء . وتقارن السوء وتلازمه .ثمّ إن كان «السَّوآت» بمعنى ما يسوء من النّقائص ، أو كان بمعنى العَورات كما تقدّم في قوله تعالى : { ليبدي لهما ما وُوري عنهما من سوآتهما } [ الأعراف : 20 ] فبُدوّ ذلك لهما مقارن ذوق الشّجرة الذي هو أثر الإقدام على المعصية ونبذِ النّصيحة إلى الاقتداء بالغَرور والاغترار بقَسَمه ، فإنَّهما لما نشأت فيهما فكرة السوء في العمل ، وإرادة الإقدام عليه ، قارنت تلك الكيفيةَ الباعثةَ على الفعل نَشْأةُ الانفعال بالأشياء السيّئة ، وهي الأشياء التي تظهر بها الأفعال السيّئة ، أو تكون ذريعة إليها ، كما تنشأ معرفة آلة القطع عند العزم على القتل ، ومن فكرة السّرقة معرفةُ المكان الذي يختفَى فيه ، وكذلك تنشأ معرفة الأشياء التي تلازم السوء وتقارنه ، وإن لم تكن سيّئة في ذاتها ، كما تنشأ معرفة اللّيل من فكرة السّرقة أو الفرارِ ، فتنشأ في نفوسسِ النّاسسِ كراهيته ونسبته إلى إصدار الشّرور ، فالسوآت إن كان معناه مطلق ما يسوء منهما ونقائصِهما فهي من قبيل القسمين ، وإن كان معناه العورة فهي من قبيل القسم الثّاني ، أعني الشّيء المقارن لما يسوء ، لأنّ العورة تقارن فعلا سيّئاً من النّقائص المحسوسة ، والله أوجدها سببَ مصالح ، فلم يَشعر آدمُ وزوجه بشيء ممّا خلقت لأجله ، وإنّما شعرا بمقارنة شيء مكروه لذلك وكلّ ذلك نشأ بإلْهام من الله تعالى ، وهذا التّطوّر ، الذي أشارت إليه الآية ، قد جعله الله تطوّراً فطرياً في ذرّية آدم ، فالطّفل في أوّل عمره يكون بريئاً من خواطر السّوء فلا يستاء من تلقاء نفسه إلاّ إذا لحق به مؤلم خارجي ، ثمّ إذا ترعرع أخذت خواطر السوء تنتابه في باطن نفسه فيفرضها ويولِّدها ، وينفعل بها أو يفعل بما تشير به عليه .وقوله : { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } حكاية لابتداء عمل الإنسان لستر نقائصه ، وتحيُّلِه على تجنّب ما يكرهه ، وعلى تحسين حاله بحسب ما يُخيِّل إليه خيالُه ، وهذا أوّل مظهر من مظاهر الحَضارة أنشأه الله في عقلي أصلَي البشر ، فإنّهما لما شعرا بسَوآتهما بكلا المعنيين ، عَرفا بعض جزئياتها ، وهي العورة وحدث في نفوسهما الشّعور بقبح بروزها ، فشرعا يخفيانها عن أنظارهما استبشاعاً وكراهيةً ، وإذ قد شعرا بذلك بالإلهام الفطري ، حيث لا ملقّن يلقنّهما ذلك ، ولا تعليم يعلمهما ، تَقرّر في نفوس النّاس أنّ كشف العورة قبيح في الفطرة ، وأنّ سترها متعيّن ، وهذا من حكم القوّة الواهمة الذي قارَن البشر في نشأته ، فدلّ على أنّه وَهْم فطري متأصّل ، فلذلك جاء دين الفطرة بتقرير ستر العورة ، مشايعة لما استقرّ في نفوس البشر ، وقد جعل الله للقوّة الواهمة سلطاناً على نفوس البشر في عصور طويلة ، لأنّ في اتّباعها عونا على تهذيب طباعه ، ونزْععِ الجلافة الحيوانية من النّوع ، لأنّ الواهمة لا توجد في الحيوان ، ثمّ أخذت الشّرائع ، ووصايا الحكماء ، وآداب المربِّينَ ، تزيل من عقول البشر متابعة الأوهام تدريجاً مع الزّمان ، ولا يُبقون منها إلاّ ما لا بد منه لاستبقاء الفضيلة في العادة بين البشر ، حتّى جاء الإسلام وهو الشّريعة الخاتمة فكان نوط الأحكام في دين الإسلام بالأمور الوهْميّة ملغى في غالب الأحكام ، كما فصّلتُه في كتاب «مقاصد الشّريعة» وكتاب «أصول نظام الاجتماع في الإسلام» .والخصف حقيقته تقوية الطّبقة من النّعل بطبقة أخرى لتشتدّ ، ويستعمل مجازاً مرسلاً في مطلق التّقوية للخِرقة والثّوب ، ومنه ثوب خَصيف أي مخصوف أي غليظ النّسج لا يَشف عمّا تحته ، فمعنى يخصفان يضعان على عوراتهما الورَق بعضه على بعض كفعل الخاصف ، وضعا مُلزقاً متمكّناً ، وهذا هو الظّاهر هنا إذ لم يقل يخصفان وَرَق الجنّة .و ( من ) في قوله : { من ورق الجنة } يجوز كونها اسماً بمعنى بعضَ في موضع مفعول { يخصفان } أي يخصفان بعض ورق الجنة ، كما في قوله : { من الذين هادوا يحرفون } ، ويجوز كونها بيانيّة لمفعول محذوف يقتضيه : « { يخصفان } والتقدير : يخصفان خِصْفاً من ورق الجنة .
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
📘 عطف على جواب ( لَمَّا ) ، فهو ممّا حصل عند ذَوق الشّجرة ، وقد رتب الإخبار عن الأمور الحاصلة عند ذوق الشّجرة على حسب ترتيب حصولها في الوجود . فإنّهما بدت لهما سوآتهما فطفقا يخصفان . وأعقب ذلك نداءُ الله إيّاهما .وهذا أصل في ترتيب الجمل في صناعة الإنشاء ، إلاّ إذا اقتضى المقام العدول عن ذلك ، ونظير هذا الترتيب ما في قوله تعالى : { ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب } [ هود : 77 ] وقد بيّنته في كتاب «أصول الإنشاء والخطابة» ولم أعلم أنّي سُبقت إلى الاهتداء إليه .وقد تأخّر نداء الربّ إياهما إلى أن بدت لهما سوآتهما ، وتحيَّلا لستر عوراتهما ليكون للتّوبيخ وقْعٌ مكين من نفوسهما ، حين يقع بعد أن تظهر لهما مفاسد عصيانهما ، فيعلما أنّ الخير في طاعة الله ، وأنّ في عصيانه ضرّاً .والنّداء حقيقته ارتفاع الصّوت وهو مشتق من النَّدى بفتح النّون والقصر وهو بُعد الصّوت ، قال مدثار بن شيبان النمري :فَقُلتُ ادعِي وأدْعُوا إنّ أندى ... لِصَوْتتٍ أن يُنادِيَ داعيانوهو مجاز مشهور في الكلام الذي يراد به طلب إقبال أحد إليك ، وله حروف معروفة في العربيّة : تدلّ على طلب الإقبال ، وقد شاع إطلاق النّداء على هذا حتّى صار من الحقيقة ، وتفرّع عنه طلب الإصغاء وإقبال الذّهن من القريب منك ، وهو إقبال مجازي .{ وناداهما ربهما } مستعملٌ في المعنى المشهور : وهو طلب الإقبال ، على أنّ الإقبال مجازي لا محالة فيكون كقوله تعالى : { وزكرياء إذا نادى ربه } [ الأنبياء : 89 ] وهو كثير في الكلام .ويجوز أن يكون مستعملاً في الكلام بصوت مرتفع كقوله تعالى : { كمَثَل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً } [ البقرة : 171 ] وقوله : { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } [ الأعراف : 43 ] وقول بشّار :نَادَيْت إنّ الحبّ أشْعَرني ... قَتْلاً وما أحدثتُ من ذَنْبورفع الصّوت يكون لأغراض ، ومحمله هنا على أنّه صوت غضب وتوبيخ .وظاهر إسناد النّداء إلى الله أنّ الله ناداهما بكلام بدون واسطة مَلك مرسل ، مثللِ الكلام الذي كلّم الله به موسى ، وهذا واقع قبل الهبوط إلى الأرض ، فلا ينافي ما ورد من أن موسى هو أوّل نبيء كلّمه الله تعالى بلا واسطة ، ويجوز أن يكون نداءُ آدم بواسطة أحد الملائكة .وجملة : { ألم أنهاكما } في موضع البيان لجملة ( ناداهما ) ، ولهذا فصلت الجملة عن التي قبلها .والاستفهام في { ألم أنهاكما } للتّقرير والتّوبيخ ، وأُولِيَ حرفَ النّفي زيادة في التّقرير ، لأنّ نهي الله إياهما واقع فانتفاؤه منتفا ، فإذا أدخلت أداة التّقرير وأقرّ المقرَّر بضد النّفي كان إقرارُه أقوى في المؤاخذة بموجَبه ، لأنّه قد هُييء له سبيل الإنكار ، لو كان يستطيع إنكاراً ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } الآية في سورة الأنعام ( 130 ) ، ولذلك اعترفا بأنّهما ظلما أنفسهما .وعطف جملة : وأقل لكما } على جملة : { أنهكما } للمبالغة في التّوبيخ ، لأنّ النّهي كان مشفوعاً بالتّحذير من الشّيطان الذي هو المغري لهما بالأكل من الشّجرة ، فهما قد أضاعا وصيتين . والمقصود من حكاية هذا القول هنا تذكير الأمّة بعداوة الشيطان لأصل نوع البشر ، فيعلموا أنّها عداوة بين النّوعين ، فيحذروا من كلّ ما هو منسوب إلى الشّيطان ومعدود من وسوسته ، فإنّه لما جُبل على الخبث والخري كان يدعو إلى ذلك بطبعه وكان لا يهنأ له بال ما دام عدوّهُ ومحسودُه في حالة حسنة .والمُبين أصله المظهر ، أي للعداوة بحيث لا تخفى على من يتتبّع آثار وسوسته وتغريره ، وما عامل به آدمَ من حين خلقه إلى حين غروره به ففي ذلك كلّه إبَانة عن عداوته ، ووجه تلك العداوة أن طبعه ينافي ما في الإنسان من الكمال الفطري المؤيَّد بالتّوفيق والإرشاد الإلهي ، فلا يحب أن يكون الإنسانُ إلاّ في حالة الضّلال والفساد . ويجوز أن يكون المبين مستعملاً مجازاً في القويّ الشّديد لأنّ شأن الوصف الشّديد أن يظهر للعيان .وقد قالا : { ربنا ظلمنا أنفسنا } اعترافاً بالعصيان ، وبأنّهما علما أن ضر المعصية عاد عليهما ، فكانا ظالمين لأنفسهما إذ جرّا على أنفسهما الدّخولَ في طور ظهور السوآت ، ومشقّة اتّخاذ ما يستر عوراتهما ، وبأنّهما جَرّا على أنفسهما غضب الله تعالى ، فهما في توقع حقوق العذاب ، وقد جزما بأنّهما يكونان من الخاسرين إن لم يغفر الله لهما ، إمّا بطريق الإلهام أو نوع من الوحي ، وإمّا بالاستدلال على العَواقب بالمبادىء ، فإنّهما رأيا من العصيان بوادِىء الضر والشّر ، فعلما أنّه من غضب الله ومن مخالفة وصايته ، وقد أكدا جملة جواب الشّرط بلام القسم ونون التّوكيد إظهاراً لتحقيق الخسران استرحاما واستغفاراً من الله تعالى .
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ
📘 طوَى القرآن هنا ذكر التّوبة على آدم : لأنّ المقصود من القصّة في هذه السّورة التّذكير بعداوة الشّيطان وتحذير النّاس من اتّباع وسوسته ، وإظهار ما يُعقبه اتّباعه من الخسران والفساد ، ومقام هذه الموعظة يقتضي الإعراض عن ذكر التّوبة للاقتصار على أسباب الخسارة ، وقد ذكرت التّوبة في آية البقرة المقصودِ منها بيان فضل آدم وكرامته عند ربّه ، ولكلّ مقامً مَقال . والخطابُ لآدم وزوجه وإبليسَ . والأمر تكويني ، وبه صار آدم وزوجه وإبليسُ من سكّان الأرض .وجملة : { بعضكم لبعض عدو } في موضع الحال من ضمير : { اهبطوا } المرفوععِ بالأمر التّكويني فهذه الحال أيضاً تفيد معنى تكوينياً وهو مقارنة العداوة بينهم لوجودهما في الأرض ، وهذا التّكوين تأكّدت به العداوة الجبلية السّابقة فرسخت وزادت ، والمراد بالبعض البعض المخالف في الجنس ، فأحد البعضين هو آدم وزوجه ، والبعض الآخر هو إبليس ، وإذ قد كانت هذه العداوة تكوينيّة بين أصلي الجنسين ، كانت موروثة في نسليهما ، والمقصود تذكير بني آدم بعداوة الشّيطان لهم ولأصلهم ليتّهموا كلّ وسوسة تأتيهم من قِبله ، وقد نشأت هذه العداوة عن حَسد إبليس ، ثمّ سَرت وتشجرت فصارت عداوة تامة في سائر نواحي الوجود ، فهي منبثّة في التّفكير والجسد ، ومقتضية تمام التّنافر بين النّوعين .وإذ قد كانت نفوس الشّياطين داعية إلى الشرّ بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير ، ولكنّه معرّض لوسوسة الشّياطين فيقع في شذوذ عن أصل فطرته ، وفي هذا ما يكون مفتاحاً لمعنى كون النّاس يولدون على الفطرة ، وكون الإسلام دين الفطرة ، وكون الأصل في النّاس الخير . أمَّا كون الأصل في النّاس العدالة أو الجرح فذلك منظور فيه إلى خشية الوقوع في الشّذوذ ، من حيث لا يدري الحاكم ولا الراوي ، لأنّ أحوال الوقوع في ذلك الشّذوذ مبهمة فوجب التّبصّر في جميع الأحوال .وعطفت جملة : { ولكم في الأرض مستقر } على جملة : { بعضكم لبعض عدو }.والمستقرّ مصدر ميمي والاستقرار هو المكث وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى : { لكل نبإ مستقر } [ الأنعام : 67 ] وقوله { فمستقر ومستودع } في سورة الأنعام ( 98 ).والمراد به الوجود أي وجود نوع الإنسان وبخصائصه وليس المراد به الدفن كما فسر به بعض المفسرين لأنّ قوله ومتاع يُصد عن ذلك ولأنّ الشّياطين والجنّ لا يُدفنون في الأرض .والمتاع والتّمتّع : نيل الملذّات والمرغوبات غير الدّائمة ، ويطلق المتاع على ما يُتمتّع به وينتفع به من الأشياء ، وتقدّم في قوله تعالى : { لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم } في سورة النّساء ( 102 ).والحِين المدّة من الزّمن ، طويلة أو قصيرة ، وقد نكر هنا ولم يحدّد لاختلاف مقداره باختلاف الأجناس والأفراد ، والمراد به زمن الحياة التي تخول صاحبها إدراك اللّذّات ، وفيه يحصل بقاء الذّات غير متفرّقة ولا متلاشية ولا معدومة ، وهذا الزّمن المقارن لحالة الحياة والإدراك هو المسمّى بالأجل ، أي المدّة التي يبلغ إليها الحيّ بحياته في علم الله تعالى وتكوينِه ، فإذا انتهى الأجل وانعدمت الحياة انقطع المستقَر والمتاع ، وهذا إعلام من الله بما قدّره للنّوعين ، وليس فيه امتنان ولا تنكيل بهم .
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
📘 أعيد فعل القول في هذه الجملة مستأنفاً غير مقترن بعاطف ، ولا مستغنى عن فعل القول بواو عطف ، مع كون القائل واحداً ، والغرضضِ متّحداً ، خروجاً عن مقتضى الظّاهر لأنّ مقتضى الظاهر في مثله هو العطف ، وقد أهمل توجيهَ ترك العطف جمهورُ الحذّاق من المفسّرين : الزمخشري وغيره ، ولعلّه رأى ذلك أسلوباً من أساليب الحكاية ، وأوّل من رأيتُه حاول توجيه ترك العطف هو الشّيخ محمّد بن عرفة التّونسي في «املاءات التّفسير» المروية عنه ، فإنّه قال في قوله تعالى الآتي في هذه السّورة ( 140) : { قال أغير الله أبغيكم إلهاً بعد قوله : قال إنكم قوم تجهلون } [ الأعراف : 138 ] إذ جعل وجه إعادة لفظ قال هو ما بين المقالين من البَوْن ، فالأوّل راجع إلى مجرد الإخبار ببطلان عبادة الأصنام في ذاته ، والثاني إلى الاستدلال على بطلانه ، وقد ذكر معناه الخفاجي عند الكلام على الآية الآتِيَة بعد هذه ، ولم ينسبه إلى ابن عرفة فلعلّه من توارد الخواطر؛ وقال أبو السّعود : إعادة القول إمّا لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده ، وهو قوله : { فيها تحيون } [ الأعراف : 25 ] وإما للإيذان بكلام محذوف بين القولين كما في قوله تعالى : { قال فما خطبكم } [ الحجر : 57 ] إثر قوله { قال ومن يقنط من رحمة ربه } [ الحجر : 56 ] فإن الخليل خاطب الملائكة أوّلاً بغير عنوان كونهم مرسلين ، ثمّ خاطبهم بعنوان كونهم مرسلين عند تبين أنّ مجيئهم ليس لمجرّد البشارة ، فلذلك قال : { فما خطبكم } ، وكما في قوله تعالى : { أرايتك هذا الذي كرمت علي } [ الإسراء : 62 ] بعد قوله { قال أأسجد لِمَنْ خلقت طيناً } [ الإسراء : 61 ] فإنّه قال قوله الثّاني بعد الإنظار المترتّب على استنظاره الذي لم يصرّح به اكتفاء بما ذكر في مواضع أخرى ، هذا حاصل كلامه في مواضع ، والتّوجيه الثّاني مردود إذ لا يلزم في حكاية الأقوال الإحاطة ولا الاتّصال .والذي أراه أنّ هذا ليس أسلوباً في حكاية القول يتخيّر فيه البليغ ، وأنّه مساو للعطف بثمّ ، وللجمع بين حرف العطف وإعادة فعل القول ، كما في قوله تعالى : { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } [ الأعراف : 39 ] بعد قوله { قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا } [ الأعراف : 38 ] ، فإذا لم يكن كذلك كان توجيه إعادة فعل القول ، وكونه مستأنفاً : أنّه استئناف ابتدائي للاهتمام بالخبَر ، إيذاناً بتغيّر الخطاب بأن يكون بين الخطابين تخالُفٌ مَّا ، فالمخاطب بالأوّل آدم وزوجه والشّيطان ، والمخاطب بالثّاني آدم وزوجه وأبناؤهما ، فإن كان هذا الخطاب قبل حدوث الذرّية لهما كما هو ظاهر السّياق فهو خطاب لهما بإشعارهما أنّهما أبوا خلق كثير : كلَّهم هذا حالهم ، وهو من تغليب الموجود على من لم يوجد ، وإن كان قد وقع بعدَ وجود الذرّية لهما فوجه الفصل أظهر وأجدر ، والقرينةُ على أنّ إبليس غير داخل في الخطاب هو قوله : { ومنها تخرجون } لأنّ الإخراج من الأرض يقتضي سبق الدّخول في باطنها ، وذلك هو الدّفن بعد الموت ، والشّياطين لا يُدفنون .وقد أمهل الله إبليس بالحياة إلى يوم البعث فهو يحشر حينئذٍ أو يموت ويبعث ، ولا يَعلم ذلك إلاّ الله تعالى .وقد جُعل تغيير الأسلوب وسيلة للتّخلّص إلى توجيه الخطاب إلى بني آدم عقب هذا .وقد دلّ جمع الضّمير على كلام مطوي بطريقة الإيجاز : وهو أنّ آدم وزوجه استقرا في الأرض ، وتَظهرُ لهما ذريّة ، وأنّ الله أعلمهم بطريق من طرق الإعلام الإلهي بأنّ الأرض قرارهم ، ومنها مبعثهم ، يشمَل هذا الحكم الموجودين منهم يوم الخطاب والذين سيوجدون من بعد .وقد يجعل سبب تغيير الأسلوب تخالف القولين بأنّ القول السابق قول مخاطبة ، والقول الذي بعده قول تقدير وقضاء أي قدّر الله تحيون فيها وتموتون فيها وتخرجون منها .وتقديم المجرورات الثّلاثة على متعلّقاتها للاهتمام بالأرض التي جعل فيها قرارهم ومتاعهم ، إذ كانت هي مقرّ جميع أحوالهم .وقد جعل هذا التّقديم وسيلة إلى مراعاة النّظير ، إذ جعلت الأرض جامعة لهاته الأحوال ، فالأرض واحدة وقد تداولت فيها أحوال سكّانها المتخالفة تخالفاً بعيداً .وقرأ الجمهور : تُخْرجون بضمّ الفوقية وفتح الرّاء على البناء للمفعول ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وابن ذكوان عن ابن عامر ، ويعقوبُ ، وخلف : بالبناء للفاعل .
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
📘 إذا جرينا على ظاهر التّفاسير كان قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } الآية استئنافاً ابتدائياً ، عاد به الخطاب إلى سائر النّاس الذين خوطبوا في أوّل السّورة بقوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } [ الأعراف : 3 ] الآيات ، وهم أمّة الدّعوة ، لأنّ الغرض من السّورة إبطال ما كان عليه مشركو العرب من الشّرك وتوابعه من أحوال دينهم الجاهلي ، وكان قوله : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } [ الأعراف : 11 ] استطراداً بذكر منّة الله عليهم وهم يكفرون به كما تقدّم عند قوله تعالى : { ولقد خلقناكم } فخاطبتْ هذه الآية جميع بني آدم بشيء من الأمور المقصودة من السّورة فهذه الآية كالمقدّمة للغرض الذي يأتي في قوله : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ] ووقوعها في أثناء آيات التّحذير من كيد الشّيطان جعلها بمنزلة الاستطراد بين تلك الآيات وإن كانت هي من الغرض الأصلي .ويجوز أن يكون قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } وما أشبهه ممّا افتتح بقوله : { يا بني آدم } أربعَ مرّات ، من جملة المقول المحكي بقوله : { قال فيها تحيون } [ الأعراف : 25 ] فيكون ممّا خاطب الله به بني آدم في ابتداء عهدهم بعمران الأرض على لسان أبيهم آدمَ ، أو بطريق من طرق الإعلام الإلهي ، ولو بالإلهام ، لما تَنشأ به في نفوسهم هذه الحقائق ، فابتدأ فأعلمهم بمنَّته عليهم أن أنزل لهم لباساً يواري سَوْآتهم ، ويتجمّلون به بمناسبة ما قصّ الله عليهم من تعري أبويهم حين بدت لهما سَوءاتُهما ، ثمّ بتحذيرهم من كيد الشّيطان وفتنته بقوله : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } [ الأعراف : 27 ] ثمّ بأن أمرهم بأخذ اللّباس وهو زينة الإنسان عند مواقع العبادة لله تعالى بقوله : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ] ، ثمّ بأن أخذ عليهم العهد بأن يُصدّقوا الرّسل وينتفعوا بهديهم بقوله : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم } [ الأعراف : 35 ] الآية ، واستطرد بين ذلك كلّه بمواعظ تنفع الذين قُصدوا من هذا القَصص ، وهم المشركون المكذّبون محمّداً صلى الله عليه وسلم فهم المقصود من هذا الكلام كيفما تفنّنت أساليبه وتناسقَ نظمُه ، وأيًّا ما كان فالمقصود الأوّل من هذه الخطابات أو من حكايتها هم مشركُو العرب ومكذّبو محمّد صلى الله عليه وسلم ولذلك تخللتْ هذه الخطاباتتِ مُستطرَدَاتٌ وتعريضاتٌ مناسبة لما وضعه المشركون من التّكاذيب في نقض أمر الفطرة .والجُمل الثّلاث من قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } وقوله { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } [ الأعراف : 27 ] وقوله { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ] متّصلة تمام الاتّصال بقصّة فتنة الشّيطان لآدم وزوجه ، أو متّصلة بالقول المحكي بجملة : { قال فيها تحيون } [ الأعراف : 25 ] على طريقة تعداد المقول تعداداً يشبه التّكرير .وهذا الخطاب يشمل المؤمنين والمشركين ، ولكن الحظّ الأوفر منه للمشركين : لأنّ حظّ المؤمنين منه هو الشّكر على يَقينهم بأنّهم موافقون في شؤونهم لمرضاة ربّهم ، وأمّا حظّ المشركين فهو الإنذار بأنّهم كافرون بنعمة ربّهم ، معرّضون لسخطه وعقابه .وابتُدىء الخطاب بالنّداء ليقع إقبالهم على ما بعده بشراشر قلوبهم ، وكان لاختيار استحضارهم عند الخطاب بعنوان بني آدم مرّتين وقْع عجيب ، بعد الفراغ من ذكر قصّة خلق آدم وما لقيه من وسوسة الشّيطان : وذلك أنّ شأن الذرّية أن تثأر لآبائها ، وتعادي عدوّهم ، وتحترس من الوقوع في شَرَكه .ولمّا كان إلهام الله آدمَ أن يَستر نفسه بوَرق الجنّة مِنَّةٌ عليه ، وقد تقلّدها بنوه ، خوطب النّاس بشمول هذه المنّة لهم بعنوان يدلّ على أنّها منّةٌ موروثة ، وهي أوقع وأدعى للشّكر ، ولذلك سمّى تيسير اللّباس لهم وإلهامهم إياه إنزالاً ، لقصد تشريف هذا المظهر ، وهو أوّل مظاهر الحَضارة ، بأنّه منزّل على النّاس من عند الله ، أو لأنّ الذي كان مِنْهُ على آدم نزل به من الجنّة إلى الأرض التي هو فيها ، فكان له في معنى الإنزال مزيد اختصاص ، على أنّ مجرّد الإلهام إلى استعماله بتسخير إلهي ، مع ما فيه من عظيم الجدوى على النّاس والنّفع لهم ، يحسِّن استعارة فعل الإنزال إليه ، تشريفاً لشأنه ، وشاركه في هذا المعنى ما يكون من الملهمات عظيم النّفع ، كما في قوله : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للنّاس } [ الحديد : 25 ] أي أنزلنا الإلهام إلى استعماله والدّفاععِ به ، وكذلك قوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] أي : خلَقها لكم في الأرض بتدبيره ، وعلَّمكم استخدامها والانتفاعَ بما فيها ، ولا يطرد في جميع ما أُلهم إليه البشر ممّا هو دون هذه في الجدوى ، وقد كان ذلك اللّباس الذي نزل به آدم هو أصل اللّباس الذي يستعمله البشر .وهذا تنبيه إلى أنّ اللّباس من أصل الفطرة الإنسانيّة ، والفطرة أوّل أصول الإسْلام ، وأنّه ممّا كرم الله به النّوع منذ ظهوره في الأرض ، وفي هذا تعريض بالمشركين إذ جعلوا من قرباتهم نزع لباسهم بأن يحجّوا عُراة كما سيأتي عند قوله : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } [ الأعراف : 32 ] فخالفوا الفطرة ، وقد كان الأمم يحْتفلون في أعياد أديانهم بأحسن اللّباس ، كما حكى الله عن موسى عليه السّلام وأهل مصر : { قال موعدكم يوم الزينة } [ طه : 59 ].واللّباس اسم لما يلبَسه الإنسان أي يستُر به جزءاً من جسده ، فالقميص لباس ، والإزار لباس ، والعمامة لباس ، ويقال لبس التّاج ولبس الخاتم قال تعالى : { وتستخرجون حلية تلبسونها } [ فاطر : 12 ] ومصدر لبس اللّبس بضمّ اللاّم .وجملة : { يواري سوآتكم } صفة ( للباساً ) وهو صنف اللّباس اللاّزم ، وهذه الصّفة صفة مَدح اللّباس أي من شأنه ذلك وإن كان كثير من اللّباس ليس لمواراة السوآت مثل العمامة والبرد والقباء وفي الآيه إشارة إلى وجوب ستر العورة المغلظة ، وهي السوأة ، وأمّا ستر ما عداها من الرّجل والمرأة فلا تدلّ الآية عليه ، وقد ثبت بعضه بالسنّة ، وبعضه بالقياس والخوض في تفاصيلها وعللها من مسائل الفقه .والرّيش لباس الزّينة الزائد على ما يستر العورة ، وهو مستعار من ريش الطّير لأنّه زينته ، ويقال للباس الزّينة رِياش .وعطف ( ريشاً ) على : { لباساً يزارى سوآتكم } عطفَ صنف على صنف ، والمعنى يَسَّرنا لكم لباساً يستركم ولباساً تتزيّنون به .وقوله : { ولباس التقوى } قرأه نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وأبُو جعفر : بالنّصب ، عطفاً على { لباساً } فيكون من اللّباس المُنْزَل أي الملهَم ، فيتعيّن أنّه لباس حقيقة أي شيء يلبس . والتّقوى ، على هذه القراءة ، مصدر بمعنى الوقاية ، فالمراد : لَبوس الحرب ، من الدّروع والجواشن والمغافر . فيكون كقوله تعالى : { وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم } [ النحل : 81 ]. والإشارة باسم الإشارة المفرد بتأويل المذكور ، وهو اللّباس بأصنافه الثّلاثة ، أي خير أعطاه الله بني آدم . فالجملة مستأنفة أو حال من { لباساً } وما عطف عليه .وقرأه ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وخَلف : برفع { لباس التقوى } على أنّ الجملة معطوفة على جملة { قد أنزلنا عليكم لباساً } ، فيجوز أن يكون المراد بلباس التّقوى مثل ما يرد به في قراءة النّصب ، ويجوز أن يكون المراد بالتّقوى تقوى الله وخشيته ، وأطلق عليها اللّباس إمّا بتخييل التّقوى بلباس يُلبس ، وإمّا بتشبيه ملازمة تقوى الله بملازمة اللاّبس لباسه ، كقوله تعالى : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } [ البقرة : 187 ] مع ما يحسِّن هذا الإطلاق من المشاكلة .وهذا المعنى الرّفعُ أليقُ به . ويكون استطراداً للتّحريض على تقوى الله ، فإنّها خير للنّاس من منافع الزّينة ، واسم الإشارة على هذه القراءة لتعظيم المشار إليه .وجملة : { ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون } استئناف ثان على قراءة : { ولباس التقوى } بالنّصب بأن استأنف . بعد الامتنان بأصناف اللبّاس ، استئنافين يؤذنان بعظيم النّعمة : الأوّل بأنّ اللّباس خير للنّاس ، والثّاني بأنّ اللّباس آية من آيات الله تدلّ على علمه ولطفه ، وتدلّ على وجوده ، وفيها آية أخرى وهي الدّلالة على علم الله تعالى بأن ستكون أمّة يَغلب عليها الضّلال فيكونون في حجّهم عُراةً ، فلذلك أكّد الوصاية به . والمشار إليه ، بالإشارة التي في الجملة الثّانية ، عين المشار إليه بالإشارة التي في الجملة الأولى وللاهتمام بكلتا الجملتين جعلت الثّانية مستقلّة غير معطوفة .وعلى قراءة رفع : { ولباس للتقوى } تكون جملة : ذلك من آيات الله استئناف واحداً والإشارة التي في الجملة الثّانية عائدة إلى المذكور قبلُ من أصناف اللّباس حتّى المجازي على تفسير لباس التّقوى بالمجازي .وضمير الغيبة في : { لعلهم يذكرون } التفات أي جعل الله ذلك آية لعلّكم تتذكّرون عظيم قدرة الله تعالى وانفراده بالخلق والتّقدير واللّطف ، وفي هذا الإلتفات تعريض بمن لم يتذكر من بني آدم فكأنّه غائب عن حضرة الخطاب ، على أنّ ضمائر الغيبة ، في مثل هذا المقام في القرآن ، كثيراً ما يقصد بها مشركو العرب .
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
📘 أعيد خطاب بني آدم ، فهذا النّداء تكملة للآي قبله ، بُني على التّحذير من متابعة الشّيطان إلى إظهار كيده للنّاس من ابتداء خلقهم ، إذ كاد لأصلهم .والنّداء بعنوان بني آدم : للوجه الذي ذكرتُه في الآية قبلها ، مع زيادة التّنويه بمنّة اللّباس توكيداً للتّعريض بحماقة الذين يحجّون عُراة . وقد نهوا عن أن يفتنهم الشّيطان ، وفتون الشّيطان حصول آثار وسوسته ، أي لا تمكّنوا الشّيطان من أن يفتنكم ، والمعنى النّهي عن طاعته ، وهذا من مبالغة النّهي ، ومنه قول العرب لاَ أعْرِفَنَّك تفعل كذا : أي لا تَفْعَلَن فأعْرِفَ فعلك ، لا أرَيَنَّكَ هنا : أي لا تحضرن هنا فأراك ، فالمعنى لا تطيعوا الشّيطان في فتْنِهِ فيفتنَكم ومثل هذا كناية عن النّهي عن فعل والنّهي عن التّعرّض لأسبابه .وشُبّه الفتون الصّادر من الشّيطان للنّاس بِفَتنِهِ آدمَ وزوجَه إذْ أقدمهما على الأكل من الشجّرة المنهي عنه ، فأخرجهما من نعيم كانا فيه ، تذكيراً للبشر بأعظم فتنة فتن الشّيطان بها نوعهم ، وشملتْ كلّ أحد من النّوع ، إذ حُرم من النّعيم الذي كان يتحقق له لو بقي أبواه في الجنّة وتناسلا فيها ، وفي ذلك أيضاً تذكير بأنّ عداوة البشر للشّيطان موروثة ، فيكون أبعث لهم على الحذر من كيده .و ( ما ) في قوله : { كما أخرج } مصدريّة ، والجار والمجرور في موضع الصّفة لمصدر محذوف هو مفعول مطلق ليفتننّكم ، والتّقدير : فُتوناً كإخراجه أبويكم من الجنّة ، فإنّ إخراجه إياهما من الجنّة فتون عظيم يشبه به فتون الشّيطان حين يراد تقريب معناه للبشر وتخويفهم منه .والأبوان تثنية الأب ، والمراد بهما الأبُ والأمّ على التّغليب ، وهو تغليب شائع في الكلام وتقدّم عند قوله تعالى : { ولأبويه } في سورة النّساء ( 11 ). وأطلق الأب هنا عن الجدّ لأنّه أب أعلى ، كما في قول النبي : أنا ابن عبدِ المطّلب .وجملة : ينزع عنهما لباسهما } في موضع الحال المقارنة من الضّمير المستتر في : { أخرج } أو من : { أبويكم } والمقصود من هذه الحال تفظيع هيئة الإخراج بكونها حاصلة في حال انكشاف سَوْآتهما لأنّ انكشاف السوءة من أعظم الفظائع في متعارف النّاس .والتّعبير عمّا مضى بالفعل المضارع لاستحضار الصّورة العجيبة من تمكّنه من أن يتركهما عريانين .واللّباسُ تقدّم قريباً ، ويجوز هنا أن يكون حقيقة وهو لباسٌ جلَّلهما الله به في تلك الجنّة يحجب سوآتهما ، كما روي أنّه حِجاب من نور ، وروي أنّه كقشر الأظفار وهي روايات غير صحيحة . والأظهر أنّ نزع اللّباس تمثيل لحال التّسبّب في ظهور السوءة .وكرّر التّنويه باللّباس تمكيناً للتّمهيد لقوله تعالى بعده : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ].وإسناد الإخراج والنّزع والإراءة إلى الشّيطان مجاز عقلي ، مبني على التّسامح في الإسناد بتنزيل السّبب منزلة الفاعل ، سواء اعتبر النّزع حقيقة أم تمثيلاً ، فإنّ أطراف الإسناد المجازي العقلي تكون حقائق ، وتكون مجازات ، وتكون مختلفة ، كما تقرّر في علم المعاني .واللاّم في قوله : { ليريهما سوآتهما } لام التّعليل الادّعائي ، تبعاً للمجاز العقلي ، لأنّه لمّا أسند الإخراج والنّزع والإراءة إليه على وجه المجاز العقلي ، فجعل كأنّه فاعل الإخراججِ ونزععِ لباسهِما وإراءتِهما سوآتِهما ، ناسب أن يجعل له غرض من تلك الأفعال وهو أن يُريهما سَوآتهما ليَتِم ادّعاء كونه فاعلَ تلك الأفعال المضرّة ، وكونِه قاصداً من ذلك الشّناعة والفظاعة ، كشأن الفاعلين أن تكون لهم علل غائية من أفعالهم إتماماً للكيد ، وإنّما الشّيطان في الواقع سبب لرؤيتهما سوآتهما ، فانتظم الإسناد الادّعائي مع التّعليل الادّعائي ، فكانت لام العلّة تقوية للإسناد المجازي ، وترشيحاً له ، ولأجل هذه النّكتة لم نجعل اللاّم هنا للعاقبة كما جعلناها في قوله : { فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووُري عنهما من سوآتهما } [ الأعراف : 20 ] إذ لم تقارن اللاّم هنالك إسناداً مجازياً .وفي الآية إشارة إلى أنّ الشّيطان يهتم بكشف سوأة ابن آدم لأنّه يسرّه أن يراه في حالة سوء وفظاعة .وجملة : { إنه يريكم هو وقبيله } واقعة موقع التّعليل للنّهي عن الافتتان بفتنة الشّيطان ، والتّحذير من كيده ، لأنّ شأن الحَذِرِ أن يَرصد الشّيء المخوف بنظره ليحترس منه إذا رأى بَوادره ، فأخبر الله النّاس بأنّ الشّياطين تَرى البشر ، وأنّ البشر لا يرونها ، إظهاراً للتّفاوت بين جانب كيدهم وجانب حذر النّاس منهم ، فإنّ جانب كيدهم قويّ متمكّن وجانب حذر النّاس منهم ضعيف ، لأنّهم يأتون المكيد من حيث لا يدري .فليس المقصود من قوله : { إنه يركم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } تعليم حقيقة من حقائق الأجسام الخفيّة عن الحواس وهي المسمّاة بالمجرّدات في اصطلاح الحكماء ويسمّيها علماؤنا الأرواح السفليّة إذ ليس من أغراض القرآن التّصدّي لتعليم مثل هذا إلاّ ما له أثر في التّزكية النّفسية والموعظة .والضّمير الذي اتّصلت به ( إنّ ) عائد إلى الشّيطان وعُطف : { وقبيله } على الضّمير المستتر في قوله : { يريكم } ولذلك فصل بالضّمير المنفصل . وذُكر القبيل ، وهو بمعنى القبيلة ، للدّلالة على أنّ له أنصاراً ينصرونه على حين غفلة من النّاس ، وفي هذا المعنى تقريب حال عداوةِ الشّياطين بما يعهده العرب من شدّة أخذِ العدوّ عدوّه على غرّة من المأخوذ ، تقول العرب : أتَاهم العَدوّ وهم غَارّون .وتأكيد الخبر بحرف التّوكيد لتنزيل المخاطبين في إعراضهم عن الحذر من الشّيطان وفتنته منزلة من يتردّدون في أنّ الشيطان يراهم وفي أنّهم لا يرونه .و { من حيث لا ترونهم } ابتداء مكان مبهم تنتفي فيه رؤية البشر ، أي من كلّ مكان لا ترونهم فيه ، فيفيد : إنّه يراكم وقبيلهُ وأنتم لا ترونه قريباً كانوا أو بعيداً ، فكانت الشّياطين محجوبين عن أبصار البشر ، فكان ذلك هو المعتاد من الجنسين ، فرؤية ذوات الشّياطين منتفية لا محالة ، وقد يخول الله رؤية الشّياطين أو الجنّ متشكّلة في أشكال الجسمانيات ، معجزةً للأنبياء كما ورد في الصّحيح :" إنّ عفريتاً من الجنّ تَفَلَّت عليّ اللّيلةَ في صلاتي فَهَمَمْت أن أوثقه في سارِية من المسجد " الحديث ، أو كرامةً للصّالحين من الأمم كما في حديث الذي جاء يسرق من زكاة الفطر عند أبي هريرة ، وقول النّبيء صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة : " ذلك شيطان " كما في «الصّحيحين» ، ولا يكون ذلك إلاّ على تشكل الشّيطاننِ أو الجنّ في صورة غير صورته الحقيقيّة ، بتسخير الله لتتمكّن منه الرّؤية البشريّة ، فالمرئيّ في الحقيقة الشّكل الذي ماهيةُ الشّيطان من ورائه ، وذلك بمنزلة رؤية مكاننٍ يُعلم أنّ فيه شيطاناً ، وطريق العلم بذلك هو الخبر الصّادق ، فلولا الخبر لما عُلم ذلك .وجملة : { إنا جعلنا الشيطان أولياء للذين لا يؤمنون } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً قصد منه الانتقال إلى أحوال المشركين في ائتمارهم بأمر الشّيطان ، تحذيراً للمؤمنين من الانتظام في سلكهم ، وتنفيراً من أحوالهم ، والمناسبة هي التّحذير وليس لهذه الجملة تعلّق بجملةِ : { إنه يريكم هو وقبيله }.وتأكيد الخبر بحرف التّأكيد للاهتمام بالخبر بالنّسبة لمن يسمعه من المؤمنين . والجعل هنا جعل التّكوين ، كما يعلم من قوله تعالى : { بعضكم لبعض عدو } [ الأعراف : 24 ] بمعنى خلقنا الشّياطين .و { أولياءَ } حال من { الشياطين } وهي حال مقدرة أي خلقناهم مُقدرة وَلايتُهم للّذين لا يؤمنون ، وذلك أنّ الله جبل أنواع المخلوقات وأجناسَها على طبائِع لا تنتقل عنها ، ولا تقدر على التّصرّف بتغييرها : كالافتراس في الأسد ، واللّسع في العقرب ، وخلق للإنسان العقلَ والفكر فجعله قادراً على اكتساب ما يختار ، ولما كان من جبلة الشّياطين حبّ ما هو فساد ، وكان من قدرة الإنسان وكسبه أنّه قد يتطلّب الأمر العائد بالفساد ، إذا كان له فيه عاجلُ شهوة أو كان يشبه الأشياء الصّالحة في بادىء النّظرة الحمقاء ، كان الإنسان في هذه الحالة موافقاً لطبع الشّياطين ، ومؤتمراً بما تسوله إليه ، ثمّ يغلِب كسب الفساد والشرّ على الذين توغّلوا فيه وتدرّجوا إليه ، حتّى صار المالكَ لإراداتهم ، وتلك مَرتبَة المشركين ، وتتفاوت مراتب هذه الولاية ، فلا جرم نشأت بينهم وبين الشّياطين ولاية ووفاق لتقارب الدّواعي ، فبذلك انقلبت العداوة التي في الجبلة التي أثبتها قوله : { إنّ الشيطان لكما عدو مبين } [ الأعراف : 22 ] وقوله { بعضكم لبعض عدو } [ الأعراف : 24 ] فصارت ولاية ومحبّة عند بلوغ ابن آدم آخرَ دركات الفساد ، وهو الشّرك وما فيه ، فصار هذا جعلا جديداً ناسخاً للجعل الذي في قوله : { بعضكم لبعض عدو } كما تقدّمت الإشارة إليه هنالك ، فما في هذه الآية مقيّد للإطلاق الذي في الآية الأخرى تنبيها على أن من حقّ المؤمن أن لا يوالي الشّيطان .والمراد بالذين لا يؤمنون المشركون ، لأنّهم المضادون للمؤمنين في مكّة ، وستجيء زيادة بيان لهذه الآية عند قوله تعالى : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم } في هذه السورة ( 35 ).
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
📘 { وإذا فعلوا فاحشة } معطوف على { للذين لا يؤمنون } [ الأعراف : 27 ] فهو من جملة الصّلة ، وفيه إدماج لكشف باطلهم في تعلّلاتهم ومعاذيرهم الفاسدة ، أي للذين لا يقبلون الإيمان ويفعلون الفواحش ويعتذرون عن فعلها بأنّهم اتّبعوا آباءهم وأنّ الله أمرهم بذلك ، وهذا خاص بأحوال المشركين المكذّبين ، بقرينة قوله : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } والمقصود من جملتي الصّلة : تفظيع حال دينهم بأنّه ارتكاب فواحش ، وتفظيع حال استدلالهم لها بما لا ينتهض عند أهل العقول . وجاء الشّرط بحرف { إذا } الذي من شأنه إفادة اليقين بوقوع الشّرط ليشير إلى أنّ هذا حاصل منهم لا محالة .والفاحشة في الأصل صفة لموصوف محذوف أي : فَعْلَة فاحشة ثمّ نزل الوصف منزلة الاسم لكثرة دورانه ، فصارت الفاحشة اسماً للعمل الذّميم ، وهي مشتقّة من الفُحْش بضمّ الفاء وهو الكثرة والقوّة في الشّيء المذموم والمكروه ، وغلبت الفاحشة في الأفعال الشّديدة القبح وهي التي تنفر منها الفطرة السّليمة ، أو ينشأ عنها ضرّ وفساد بحيث يأباها أهل العقول الرّاجحة ، وينكرها أولو الأحلام ، ويستحيي فاعلها من النّاس ، ويتستر من فعلها مثل البغاء والزّنى والوأد والسّرقة ، ثمّ تنهى عنها الشّرائع الحقّة ، فالفعل يوصف بأنّه فاحشة قبل ورود الشّرع ، كأفعال أهل الجاهليّة ، مثل السّجود للتّماثيل والحجارة وطلب الشّفاعة منها وهي جماد ، ومثل العراء في الحجّ ، وترك تسمية الله على الذّبائح ، وهي من خَلق الله وتسخيره ، والبغاء ، واستحلال أموال اليتامى والضّعفاء ، وحرمان الأقارب من الميراث ، واستشارة الأزلام في الإقدام على العمل أو تركه ، وقتل غير القاتل لأنّه من قبيلة القاتل ، وتحريمهم على أنفسهم كثيراً من الطيّبات التي أحلّها الله وتحليلهم الخبائث مثل الميتة والدّم . وقد روي عن ابن عبّاس أنّ المراد بالفاحشة في الآية التّعري في الحجّ ، وإنّما محمل كلامه على أنّ التّعرّي في الحجّ من أوّل ما أريد بالفاحشة لاقصرها عليه فكأن أيمّة الشّرك قد أعدوا لأتباعهم معاذير عن تلك الأعمال ولقنوها إياهم ، وجِماعها أن ينسبوها إلى آبائهم السالِفين الذين هم قدوة لخلفهم ، واعتقدوا أنّ آباءهم أعلم بما في طي تلك الأعمال من مصالح لو اطّلع عليها المنكرون لعرفوا ما أنكروا ، ثمّ عطفوا على ذلك أنّ الله أمر بذلك يعنون أنّ آباءهم ما رسموها من تلقاء أنفسهم ، ولكنّهم رسموها بأمر من الله تعالى ، ففهم منه أنّهم اعتذروا لأنفسهم واعتذروا لآبائهم ، فمعنى قولهم : { والله أمرنا بها } ليسَ ادّعاءَ بلوغ أمر من الله إليهم ولكنّهم أرادوا أنّ الله أمر آباءهم الذين رسموا تلك الرّسوم وسنّوها فكان أمرُ الله آباءَهم أمراً لهم ، لأنّه أراد بقاء ذلك في ذريّاتهم ، فهذا معنى استدلالهم ، وقد أجمله إيجاز القرآن اعتماداً على فطنة المخاطبين .وأسند الفعل والقول إلى ضمير الذين لا يؤمنون في قوله : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا } : على معنى الإسناد إلى ضمير المجموع ، وقد يكون القائل غير الفاعل ، والفاعل غير قائل ، اعتداداً بأنّهم لما صَدّق بعضهم بعضاً في ذلك فكأنّهم فعلوه كلّهم واعتذروا عنه كلّهم .وأفاد الشّرط رَبْطاً بين فعلهم الفاحشة وقولهم : { وجدنا عليها آباءنا } باعتبا إيجاز في الكلام يدلّ عليه السّياق ، إذ المفهوم أنّهم إذا فعلوا فاحشة فأنكِرَتْ عليهم أو نُهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا ، وليس المراد بالإنكار والنّهي خصوص نهي الإسلام إياهم عن ضلالهم ، ولكن المراد نهيُ أيّ ناه وإنكارُ أيّ منكر ، فقد كان ينكر عليهم الفواحش من لا يوافقونهم عليها من القبائل ، فإنّ دين المشركين كان أشتاتاً مختلفاً ، وكان ينكر عليهم ذلك من خلعوا الشّرك من العرب مثل زيد بن عمرو بن نفيل ، وأمّيةَ ابن أبي الصَّلْت ، وقد قال لهم زيد بن عمرو : «إنّ الله خلق الشّاة وأنزل لها الماء من السّماء وأنبت لها العشب ثمّ أنتم تذبحونها لغيره» وكان ينكر عليهم من يتحَرج من أفعالهم ثمّ لا يسعه إلاّ اتّباعهم فيها إكراهاً .وكان ينكر عليهم من لا توافق أعمالُهم هواه : كما وقع لامرىء القيس ، حيث عزم على قتال بني أسد بعد قتلهم أباه حُجْراً ، فقصد ذا الخَلَصة صنمَ خَثْعَمَ واستقسم عنده بالأزلام فخرج له النّاهي فكسر الأزلام وقال :لو كنتَ يا ذا الخَلَص الموتورا ... مِثْلي وكان شيخُك المقبورالَمْ تنهَ عن قتل العُداة زُوراً ... ثمّ جاء الإسلام فنعى عليهم أعمالهم الفاسدة ، وأسمعهم قوارع القرآن فحينئذ تصدّوا للاعتذار . وقد علم من السّياق تشنيع معذرتهم وفساد حجّتهم .ودلّت الآية على إنكار ما كان مماثلاً لهذا الاستدلال وهو كلّ دليل توكأ على اتّباع الآباء في الأمور الظّاهر فسادها وفحشها ، وكلّ دليل استند إلى ما لا قبل للمستدل بعلمه ، فإنّ قولهم : { والله أمرنا بها } دعوى باطلة إذ لم يبلغهم أمر الله بذلك بواسطة مبلّغ ، فإنّهم كانوا ينكرون النّبوءة ، فمن أين لهم تلقي مراد الله تعالى .وقد ردّ الله ذلك عليهم بقوله لرسوله : { قل إن الله لا يأمرنا بالفحشاء } فَأعْرَضَ عن ردّ قولهم : { وجدنا عليها آباءنا } لأنّه إن كان يراد ردّه من جهة التّكذيب فهم غير كاذبين في قولهم ، لأنّ آباءهم كانوا يأتون تلك الفواحش ، وإن كان يراد ردّه من جهة عدم صلاحيته للحجّة فإنّ ذلك ظاهر ، لأنّ الإنكار والنّهي ظاهر انتقالهما إلى آبائهم ، إذ ما جاز على المثل يجوز على المماثل ، فصار ردّ هذه المقدّمة من دليلهم بديهياً وكان أهمّ منه ردّ المقدّمة الكبرى ، وهي مناط الاستدلال ، أعني قولهم : { والله أمرنا بها }.فقوله : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } نقض لدعواهم أنّ الله أمَرهم بها أي بتلك الفواحش ، وهو ردّ عليهم ، وتعليم لهم ، وإفاقة لهم من غرورهم ، لأنّ الله متّصف بالكمَال فلا يأمر بما هو نقص لم يرضه العقلاء وأنكروه ، فكون الفعل فاحشة كاف في الدّلالة على أنّ الله لا يأمر به لأنّ الله له الكمال الأعلى ، وما كان اعتذارهم بأنّ الله أمر بذلك إلاّ عن جهل ، ولذلك وبَّخهم الله بالاستفهام التّوبيخي بقوله : { أتقولون على الله ما لا تعلمون } أي ما لا تعلمون أنّ اللهأمر به ، فحُذف المفعول لدلالة ما تقدّم عليه ، لأنّهم لم يعلموا أنّ الله أمرهم بذلك إذ لا مستند لهم فيه ، وإنّما قالوه عن مجرّد التّوهّم ، ولأنّهم لم يعلموا أنّ الله لا يليق بجلاله وكماله أن يأمر بمثل تلك الرّذائل .وضمن : { تقولون } معنى تكذيون أو معنى تتقَوّلون ، فلذلك عُدّي بعَلى ، وكان حقّه أن يعدى بعَنْ لو كان قولاً صحيح النّسبة ، وإذ كان التّوبيخ وارداً على أن يقولوا على الله ما لا يعلمون كان القول على الله بما يُتحقّق عدمُ وروده من الله أحرى .وبهذا الرد تمحض عملهم تلك الفواحش للضّلال والغرور واتّباع وحي الشّياطين إلى أوليائهم أيمّة الكفر ، وقادة الشّرك : مثل عَمْرو بن لُحَي ، الذي وَضَعَ عبادة الأصنام ، ومثل أبي كَبشة ، الذي سنّ عبادة الشّعري من الكواكب ، ومثل ظالم بن أسْعد ، الذي وضع عبادة العُزى ، ومثل القلَمَّسسِ ، الذي سنّ النَّسيء إلى ما اتّصل بذلك من موضوعات سدنة الأصنام وبيوتتِ الشّرك .واعلم أن ليس في الآية مستند لإبطال التّقليد في الأمور الفرعيّة أو الأصول الدّينيّة لأنّ التّقليد الذي نعاه الله على المشركين هو تقليدهم مَن ليسوا أهلاً لأنّ يقلَّدوا ، لأنّهم لا يرتفعون عن رتبة مقلِّديهم ، إلاّ بأنّهم أقدم جيلاً ، وأنّهم آباؤهم ، فإنّ المشركين لم يعتذروا بأنّهم وجدوا عليه الصّالحين وهداة الأمّة ، ولا بأنّه ممّا كان عليه إبراهيم وأبناؤه ، ولأنّ التّقليد الذي نعاه الله عليهم تقليد في أعمال بديهيّة الفساد ، والتّقليد في الفساد يستوي ، هو وتسنينه ، في الذّم ، على أنّ تسنين الفساد أشدّ مذمّة من التّقليد فيه كما أنبأ عنه الحديث الصّحيح : « مَا من نفس تُقتل ظُلماً إلاّ كان على ابنِ آدم الأولِ كِفْل من دمها ذلك لأنّه أوّلُ من سَنّ القتل » وحديث : « مَن سَنّ سُنّة سَيِّئة فعليه وزرها ووزر من عَمِل بها إلى يوم القيامة » . فما فرضه الذين ينزعون إلى علم الكلام من المفسّرين في هذه الآية من القول في ذمّ التّقليد ناظر إلى اعتبار الإشراك داخلاً في فعل الفواحش .
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ
📘 بعد أن أبطل زعمهم أنّ الله أمرهم بما يفعلونه من الفواحش إبطالاً عاماً بقوله : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } [ الأعراف : 28 ] استأنف استئنافاً استطرادياً بما فيه جماع مقوّمات الدّين الحق الذي يجمعه معنى القِسْط أي العدل تعليماً لهم بنقيض جهلهم ، وتنويهاً بجلال الله تعالى ، بأنّ يعلموا ما شأنه أن يأمر الله به . ولأهميّة هذا الغرض ، ولمضادته لمدّعاهم المنفي في جملة : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } [ الأعراف : 28 ] فُصلت هذه الجملة عن التي قبلها ، ولم يُعطف القولُ على القول ولا المقول على المقول : لأنّ في إعادة فعل القَول وفي ترك عطفه على نظيره لَفْتاً للأذهان إليه .والقسط : العَدل وهو هنا العدل بمعناه الأعمّ ، أي الفعل الذي هو وسط بين الإفراط والتّفريط في الأشياء ، وهو الفضيلة من كلّ فعل ، فالله أمر بالفضائل وبما تشهد العقول السّليمة أنّه صلاح محض وأنّه حسن مستقيم ، نظير قوله : { وكان بين ذلك قَواماً } [ الفرقان : 67 ] فالتّوحيد عدل بين الإشراك والتّعطيل ، والقصاص من القاتل عدل بين إطلال الدّماء وبين قتل الجماعة من قبيلة القاتل لأجل جناية واحد من القبيلة لم يُقدَر عليه . وأمَر الله بالإحسان ، وهو عدل بين الشحّ والإسراف ، فالقسط صفة للفعل في ذاته بأن يكون ملائماً للصّلاح عاجلاً وآجلاً ، أي سالماً من عواقب الفساد ، وقد نقل عن ابن عبّاس أنّ القسط قول لا إله إلاّ هو ، وإنّما يعني بذلك أنّ التّوحيد من أعظم القسط ، وهذا إبطال للفواحش التي زعموا أنّ الله أمرهم بها لأنّ شيئاً من تلك الفواحش ليس بقسط ، وكذلك اللّباس فإنّ التّعري تفريط ، والمبالغة في وضع اللباس إفراطٌ ، والعدل هو اللّباس الذي يستر العورة ويدفع أذى القرّ أو الحَرّ ، وكذلك الطّعام فتحريم بعضه غلو ، والاسترسال فيه نهامة ، والوسط هو الاعتدال ، فقوله : { أمر ربي بالقسط } كلام جامع لإبطال كلّ ما يزعمون أنّ الله أمرهم به ممّا ليس من قبيل القسط .ثمّ أعقبه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم عن الله : { أقيموا وجوهكم عند كل مسجد } فجملة : { وأقيموا } عطف على جملة : { أمر ربي بالقسط } أي قُلْ لأولئك المخاطبين أقيموا وجوهكم . والقصد الأوّل منه إبطال بعض ممّا زعموا أنّ الله أمرهم به بطريق أمرهم بضدّ ما زعموه ليحصل أمرهم بما يرضي الله بالتّصريح . وإبطالُ شيء زعموا أنّ الله أمرهم به بالالتزام ، لأنّ الأمر بالشّيء نهي عن ضدّه ، وإن شئت قلت لأنّ من يريد النّهي عن شيءٍ وفعلَ ضدّه يأمر بضدّه فيحصل الغرضان من أمره .وإقامة الوجوه تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله تعالى ، في مواضع عبادته ، بحال المتهيّىء لمشاهدة أمر مهم حين يُوجه وجهه إلى صَوْبه ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فذلك التّوجّه المحض يطلق عليه إقامة لأنّه جعل الوَجه قائماً ، أي غير متغاضضٍ ولا متوان في التّوجّه ، وهو في إطلاق القيام على القوّة في الفعل كما يقال : قامت السّوق ، وقامت الصّلاة ، وقد تقدّم في أوّل سورة البقرة ( 3 ) عند قوله :{ ويقيمون الصلاة ومنه قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفاً } [ الروم : 30 ] فالمعنى أنّ الله أمر بإقامة الوجوه عند المساجد ، لأنّ ذلك هو تعظيم المعبود ومكان العبادة ، ولم يأمر بتعظيمه ولا تعظيم مساجده بما سوى ذلك مثل التّعرّي ، وإشراك الله بغيره في العبادة مناف لها أيضاً ، وهذا كما ورد في الحديث : « المصلّي يناجي ربّه فلا يَبْصُقَنّ قِبل وجهه » فالنّهي عن التّعرّي مقصود هنا لشمول اللّفظ إياه ، ولدلالة السّياق عليه بتكرير الامتنان والأمرِ باللّباس : ابتداء من قوله : { ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما } [ الأعراف : 20 ] إلى هنا .ومعنى : { عند كل مسجد } عند كلّ مكان متخَذ لعبادة الله تعالى ، واسم المسجد منقول في الإسلام للمكان المعيَّن المحدود المتّخذ للصّلاة وتقدّم عند قوله تعالى : { ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام } في سورة العقود ( 2 ) ، فالشّعائر التي يوقعون فيها أعمالاً من الحجّ كلّها مساجد ، ولم يكن لهم مساجد غير شعائر الحجّ ، فذِكر المساجد في الآية يعيّن أنّ المراد إقامة الوجوه عند التّوجّه إلى الله في الحجّ بأن لا يشركوا مع الله في ذلك غيرَه من أصنامهم بالنّية ، كما كانوا وضعوا ( هُبَلَ ) على سطح الكعبة ليكون الطّواف بالكعبة لله ولهُبل ، ووضعوا ( إسافاً ونائلة ) على الصّفا والمروة ليكون السّعي لله ولهما . وكان فريق منهم يهلّون إلى ( منَاة ) عند ( المشلل ) ، فالأمر بإقامة الوجوه عند المساجد كلّها أمر بالتزام التّوحيد وكمال الحال في شعائر الحجّ كلّها ، فهذه مناسبة عطف قوله : وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } عقب إنكار أن يأمر الله بالفحشاء من أحوالهم ، وإثبات أنّه أمر بالقسط ممّا يضادها . وهذا الأمر وإن كان المقصود به المشركين لأنّهم المتّصفون بضدّه ، فللمؤمنين منه حظّ الدّوام عليه ، كما كان للمشركين حظّ الإعراض عنه والتّفريط فيه .والدّعاء في قوله : { وادعوه مخلصين له الدين } بمعنى العبادة أي اعبدوه كقوله : { إن الذين تدعون من دون الله } [ الأعراف : 194 ]. والإخلاص تمحيض الشّيء من مخالطة غيره . والدّين بمعنى الطّاعة من قولهم دنت لفلان أي أطعته .ومنه سمّي الله تعالى : الديَّان ، أي القهّار المذلّل المطوع لسائر الموجودات ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } [ البينة : 5 ] ، والمقصد منها إبطال الشّرك في عبادة الله تعالى ، وفي إبطاله تحقيق لمعنى القِسط الذي في قوله : { قل أمر ربي بالقسط } كما قدمناه هنالك ، و { مخلصين } حال من الضّمير في ادعوه .وجملة : { كما بدأكم تعودون } في موضع الحال من الضّمير المستتر في قوله : { مخلصين } وهي حال مقدرة أي : مقدّرين عَودكم إليه وأنّ عودكم كبدئكم ، وهذا إنذار بأنّهم مُؤاخدون على عدم الإخلاص في العبادة ، فالمقصود منه هو قوله : { تعودون } أي إليه ، وأدمج فيه قوله : { كما بدأكم } تذكيراً بإمكان البعث الذي أحالوه؛ فكان هذا إنذاراً لهم بأنّهم عائدون إليه فمُجَازَوْن عن إشراكهم في عبادته ، وهو أيضاً احْتجاج عليهم على عدم جدوى عبادتهم غيرَ الله ، وإثبات للبعث الذي أنكروه بدَفع موجب استبعادهم إياه ، حين يقولون :{ أإذا مِتنَا وكنّا تراباً وعظاماً ءإنّا لمبعوثون } [ الواقعة : 47 ] ويقولون { أينا لمردودون في الحافرة أإذا كنّا عظاماً نَخِرة } [ النازعان : 10 ، 11 ] ونحو ذلك ، بأنّ ذلك الخلق ليس بأعجبَ من خلقهم الأوّل كما قال تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] وكما قال : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] أي بنقيض تقدير استبعادهم الخلق الثّاني ، وتذكير لهم بأنّ الله منفرد بخلقهم الثّاني ، كما انفرد بخلقهم الأوّل ، فهو منفرد بالجزاء فلا يغني عنهم آلهتهم شيئاً .فالكاف في قوله : { كما بدأكم تعودون } لتشبيه عود خلقهم ببدئه و ( ما ) مصدريّة والتّقدير : تعودون عوداً جديداً كبدئه إيَّاكم ، فقدم المتعلِّق ، الدّال على التّشبيه ، على فعلِه ، وهو تعودون ، للاهتمام به ، وقد فسّرت الآية في بعض الأقوال بمعان هي بعِيدة عن سياقها ونظمها .
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ
📘 بيان لجملة : { لتنذر به } [ الأعراف : 2 ] بقرينة تذييلها بقوله : قليلاً ما تذكرون . فالخطاب موجّه للمشركين ويندرج فيه المسلمون بالأولى ، فبعد أن نوّه الله بالكتاب المنزّل إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم وبيّن أن حكمة إنزاله للإنذار والذّكرى ، أمر النّاس أن يتّبعوا ما أنزل إليهم ، كلٌ يتبع ما هو به أعلق ، والمشركون أنزل إليهم الزّجر عن الشّرك والاحتجاج على ضلالهم ، والمسلمون أنزل إليهم الأمر والنّهي والتّكليف ، فكلٌ مأمور باتّباع ما أنزل إليه ، والمقصود الأجْدَر هم المشركون تعريضاً بأنّهم كفروا بنعمة ربّهم ، فوصْفُ ( الرب ) هنا دون اسم الجلالة : للتّذكير بوجوب اتّباع أمره ، لأنّ وصف الربوبيّة يقتضي الامتثال لأوامره ، ونهاهم عن اتّباع أوليائهم الذين جعلوهم آلهة دونه ، والموجه إليهم النّهي هم المشركون بقرينة قوله : { قليلاً ما تذكرون }.والاتِّباع حقيقته المشي وراء ماششٍ ، فمعناه يقتضي ذاتين : تابعاً ومتوبعاً ، يقال : اتَّبع وتَبِع ، ويستعار للعمل بأمر الآمر نحو : { ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري } [ طه : 92 ، 93 ] وهو استعارة تمثيليّة مبنيّة على تشبيه حالتين ، ويستعار للاقتداء بسيرة أو قَوْل نحو : { ولا تَتّبعوا خطوات الشيطان } [ البقرة : 168 ] وهو استعارة مصرّحة تنبني على تشبيه المحسوس بالمعقول مثل قوله تعالى : { إن أتَّبِع إلاّ مَا يُوحى إليّ } [ الأنعام : 50 ] ، ومنه قوله هنا : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم }.والمراد بما أنزل هو الكتاب المذكور بقوله : { كتاب أنزل إليك } [ الأعراف : 2 ].وقوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } تصريح بما تضمّنه : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } لأنّ فيما أنزل إليهم من ربّهم أنّ الله إلهٌ واحد لا شريك له ، وأنّه الولي ، وأنّ الذين اتَّخذوا من دونه أولياء اللَّهُ حفيظ عليهم ، أي مجازيهم لا يخفى عليه فعلَهم ، وغيرَ ذلك من آي القرآن؛ والمقصود من هذا النّهي تأكيد مقتضى الأمر باتّباع ما أنزل إليهم اهتماماً بهذا الجانب ممّا أنزل إليهم ، وتسجيلاً على المشركين ، وقطعاً لمعاذيرهم أن يقولوا إنّنا اتَّبعنا ما أنزل إلينا ، وما نرى أولياءنا إلاّ شفعاءَ لنا عند الله فما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فإنّهم كانوا يموهون بمثل ذلك ، ألا ترى أنّهم كانوا يقولون في تلبيتهم : «لبّيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك» فموقع قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم } موقع الفَصل الجامع من الحد ، وموقع { ولا تتبعوا } موقع الفصل المانع في الحَدّ .والأولياء جمع ولي ، وهو المُوالي ، أي الملازم والمعاون ، فيطلق على النّاصر ، والحليف ، والصاحب الصّادق المودّة ، واستعير هنا للمعبود وللإله : لأنّ العبادة أقوى أحوال الموالاة ، قال تعالى : { أم اتّخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي } [ الشورى : 9 ] وقد تقدّم عند قوله تعالى : { قل أغير الله أتّخذ ولياً } في سورة الأنعام ( 14 ) ، وهذا هو المراد هنا .والاتّباع في قوله : ولا تتبعوا من دونه أولياء } يجوز أن يكون مستعملاً في المعنى الذي استعمل فيه الاتّباع في قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } وذلك على تقدير : لا تتّبعوا ما يأتيكم من أولياء دون الله ، فإن المشركين ينسبون ما هم عليه من الدّيانة الضّالة إلى الآلهة الباطلة ، أو إلى سدنة الآلهة وكُهّانها ، كما تقدّم عند قوله تعالى :{ وكذلك زَيّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم } [ الأنعام : 137 ] ، وقوله : { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } كما في سورة الأنعام ( 136 ) ، وعلى تلك الاعتبارات يجري التّقدير في قوله : أولياء } أي لا تمتثلوا للأولياء أو أمرهم أو لدعاة الأولياء وسدنتهم .ويجوز أن يكون الاتّباع مستعاراً للطّلب والاتّخاذ ، أي ولا تتّخذوا أولياء غيره نحو قولهم : هو يتّبع زلة فلان . وفي الحديث : « يتّبع بها شَعَف الجبال ومواقعَ القطر » أي يتطلبها .و ( مِنْ ) في قوله : { من دونه } ابتدائيّة ، و ( دون ) ظرف للمكان المجاوز المنفصل ، وقد جرّ بمن الجارة للظروف ، وهو استعارة للترك والإعراض . والمجرور في موضع الحال من فاعل { تتّبعوا } ، أي لا تتّبعوا أولياء متّخذينَها دونه ، فإنّ المشركين وإن كانوا قد اعترفوا لله بالإلهيّة واتبعوا أمره بزعمهم في كثير من أعمالهم : كالحج ومناسكه ، والحَلِف باسمه ، فهم أيضاً اتّبعوا الأصنام بعبادتها أو نسبةِ الدّين إليها ، فكلّ عمل تقرّبوا به إلى الأصنام ، وكلّ عمل عملوه امتثالا لأمر ينسب إلى الأصنام ، فهم عند عمله يكونون متّبعين اتِّباعاً فيه اعراض عن الله وترك للتّقرب إليه ، فيكون اتّباعاً من دون الله ، فيدخل في النّهي ، وبهذا النّهي قد سُدت عليهم أبواب الشّرك وتأويلاته كقولهم : { ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] فقد جاء قوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } في أعلى درجة من الايجاز واستيعاب المقصود .وأفاد مجموع قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } مفاد صيغة قصر ، كأنّه قال : لا تتّبعوا إلاّ ما أمر به ربّكم ، أي دون ما يأمركم به أولياؤكم ، فعُدل عن طريق القصر لتكون جملة : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } مستقلّة صريحة الدّلالة اهتماماً بمضمونها على نحو قول السَّمَوْأل أوْ الحَارثي :تَسيِلُ على حد الظُّبات نفوسنا ... وليست على غير الظبَات تسيلوجملة : { قليلاً ما تذكرون } هي في موضع الحال من { لا تَتَّبعوا } ، وهي حال سببيّة وكاشفة لصاحبها ، وليست مقيِّدَة للنّهي : لظهور أنّ المتّبعين أولياءَ من دون الله ليسوا إلاّ قليلي التذكر . ويجوز جعل الجملة اعتراضاً تذييلياً . ولفظ ( قليلاً ) يجوز أن يحمل على حقيقته لأنّهم قد يتذكّرون ثمّ يعرضون عن التّذكّر في أكثر أحوالهم فهم في غفلة معرضون ، ويجوز أن يكون ( قليلاً ) مستعاراً لمعنى النّفي والعدم على وجه التّلميح كقوله تعالى : { فقليلاً ما يؤمنون } [ البقرة : 88 ] ( فإنّ الإيمان لا يوصف بالقلّة والكثرة ).والتّذكّر مصدر الذّكر بضمّ الذال وهو حضور الصورة في الذّهن .وقليل مستعمل في العدم على طريقة التّهكّم بالمضيع للأمر النّافع يقال له : إنّك قليل الإتيان بالأمر النّافع ، تنبيهاً له على خطئه ، وإنّه إن كان في ذلك تفريط فلا ينبغي أن يتجاوز حدّ التّقليل دون التّضييع له كلّه .و ( ما ) مصدريّة والتّقدير : قليلاً تَذَكُّركم ، ويجوز أن يكون { قليلاً } صفة مصدر محذوف دلّ عليه { تذكرون } و ( ما ) مزيدة لتوكيد القلّة ، أي نوع قلّة ضعيف ، نحو قوله تعالى : { أنْ يضرِبَ مثلا مَّا } [ البقرة : 26 ]. وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : { فقليلاً ما يؤمنون } في سورة البقرة ( 88 ). والمعنى : لو تذكّرتم لما اتّبعتم من دونه أولياء ولما احتجتم إلى النّهي عن أن تتّبعوا من دونه أولياء ، وهذا نداء على إضاعتهم النّظر والاستدلال في صفات الله وفي نقائص أوليائهم المزعومين .وقرأ الجمهور : { ما تذّكرون } بفوقية واحدة وتشديد الذال على أنّ أصله تَتَذكّرون بتاءين فوقيتين فقلبت ثانيتُهما ذالاً لتقارب مخرجيهما ليتأتى تخفيفه بالإدغام .وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين اختصاراً . وقرأه ابن عامر : { يتذكّرون } بتحتيّة في أوّله ثمّ فوقيّة ، والضّمير عائد إلى المشركين على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، أعرض عنهم ووجَّه الكلام على غيرهم من السّامعين : إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين .
فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ۗ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ
📘 و { فريقاً } الأوّلُ والثّاني منصوبان على الحال : إمَّا من الضّمير المرفوع في { تعودون } ، أي ترجعون إلى الله فريقين ، فاكتُفي عن إجمال الفريقين ثم تفصيلِهما بالتّفصيل الدّال على الإجمال تعجيلاً بذكر التّفصيل لأنّ المقام مقام ترغيب وترهيب ، ومعنى { فريقاً هدى } : أنّ فريقاً هداهم الله في الدّنيا وفريقاً حقّ عليهم الضّلالة ، أي في الدّنيا ، كما دلّ عليه التّعليل بقوله : { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله } ، وإمّا من الضّمير المستتر في قوله : { مخلصين } أي ادْعُوه مخلصين حال كونكم فريقين : فريقاً هداه الله للإخلاص ونبذِ الشّرك ، وفريقاً دام على الضّلال ولازم الشّرك .وجملة : { هدى } في موضع الصّفة لفريقاً الأوّل ، وقد حذف الرّابط المنصوب : أي هداكم الله ، وجملة : { حق عليهم الضلالة } صفة { فريقاً } الثّاني .وهذا كلّه إنذار من الوقوع في الضّلالة ، وتحذير من اتّباع الشّيطان ، وتحريض على توخي الاهتداء الذي هو من الله تعالى ، كما دلّ عليه إسناده إلى ضمير الجلالة في قوله : { هدى } فيعلم السّامعون أنّهم إذا رجعوا إليه فريقين كان الفريق المفلح هو الفريق الذين هداهم الله تعالى كما قال : { أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } [ المجادلة : 22 ] وأنّ الفريق الخاسر هم الذين حَقّت عليه الضّلالة واتّخذوا الشّياطين أولياء من دون الله كما قال : { أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } [ المجادلة : 19 ]. وتقديم { فريقاً الأوّل والثّاني على عامليهما للاهتمام بالتّفصيل .ومعنى : حق عليهم الضلالة } ثبتت لهم الضّلالة ولزموها . ولم يقلعوا عنها ، وذلك أنّ المخاطبين كانوا مشركين كلّهم ، فلمّا أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين افترقوا فريقين : فريقاً هداه الله إلى التّوحيد ، وفريقاً لازم الشّرك والضّلالة ، فلم يطرأ عليهم حال جديد .وبذلك يظهر حسن موقع لفظ : { حق } هنا دون أن يقال أضلّه الله ، لأنّ ضلالهم قديم مستمر اكتسبوه لأنفسهم ، كما قال تعالى في نظيره : { فمنهم من هدى اللَّه ومنهم من حقت عيله الضلالة } [ النحل : 36 ] ثمّ قال { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } [ النحل : 37 ] ، فليس تغيير الأسلوب بين : { فريقاً هدى } وبين { وفريقاً حق عليهم الضلالة } تحاشيا عن إسناد الإضلال إلى الله ، كما توهمه صاحب «الكشاف» ، لأنّه قد أسند الإضلال إلى الله في نظير هذه الآية كما علمت وفي آيات كثيرة ، ولكنّ اختلاف الأسلوب لاختلاف الأحوال .وجُرد فعل حقّ عن علامة التّأنيث لأنّ فاعله غير حقيقي التّأنيث ، وقد أظهرت علامة التّأنيث في نظيره في قوله تعالى : { ومنهم من حقت عليه الضلالة } [ النحل : 36 ].وقوله : { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله } استئناف مراد به التّعليل لجملة { حقت عليه الضلالة } [ النحل : 36 ] ، وهذا شأن ( إنّ ) إذا وقعت في صدر جملة عقب جملة أخرى أن تكون للرّبط والتّعليل وتغني غَنَاء الفاء ، كما تقدّم غيرَ مرّة .والمعنى أنّ هذا الفريق ، الذي حَقت عليهم الضّلالة ، لمّا سمعوا الدّعوة إلى التّوحيد والإسلام ، لم يطلبوا النّجاة ولم يتفكّروا في ضلال الشّرك البيِّن ، ولكنّهم استوحوا شياطينهم ، وطابت نفوسهم بوسوستهم ، وائتمروا بأمرهم ، واتّخذوهم أولياء ، فلا جرم أن يدوموا على ضلالهم لأجل اتّخاذهم الشّياطين أولياء من دون الله .وعطف جملة : { ويحسبون } على جملة : { اتخذوا } فكان ضلالهم ضلالاً مركباً ، إذ هم قد ضلّوا في الائتمار بأمر أيمّة الكفر وألياء الشّياطين ، ولمّا سمعوا داعي الهُدى لم يتفكّروا ، وأهملوا النّظر ، لأنّهم يحسبون أنّهم مهتدون لا يتطرق إليهم شكّ في أنّهم مهتدون ، فلذلك لم تخطر ببَالهم الحاجة إلى النّظر في صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم والحسبان الظنّ ، وهو هنا ظن مجرّد عن دليل ، وذلك أغلب ما يراد بالظنّ وما يرادفه في القرآن .وعطف هذه الجملة على التي قبلها ، واعتبارهما سواء في الإخبار عن الفريق الذين حقّت عليهم الضّلالة ، لقصد الدّلالة على أنّ ضلالهم حاصل في كلّ واحد من الخبرين ، فولاية الشّياطين ضلالة ، وحسبانهم ضلالهم هدى ضلالة أيضاً ، سواء كان ذلك كلّه عن خطأ أو عن عناد ، إذ لا عذر للضّال في ضلاله بالخطأ ، لأنّ الله نصب الأدلّة على الحقّ وعلى التّمييز بين الحقّ والباطل .
۞ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ
📘 إعادة النّداء في صدر هذه الجملة للاهتمام ، وتعريف المنادَى بطريق الإضافة بوصف كونهم بني آدم متابعة للخطاب المتقدّم في قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } [ الأعراف : 26 ].وهذه الجملة تتنزّل ، من التي بَعدها ، وهي قوله : { قل من حرم زينة الله } [ الأعراف : 32 ] منزلة النّتيجة من الجدل ، فقدمت على الجدل فصارت غرضاً بمنزلة دعوى وجعل الجدل حجّة على الدّعوى ، وذلك طريق من طرق الإنشاء في ترتيب المعاني ونتائجها .فالمقصد من قوله : { خذوا زينتكم } إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التّعرّي في الحجّ في أحوال خاصّة ، وعند مساجد معيّنة ، فقد أخرج مسلم عن ابن عبّاس ، قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول من يُعيرني تِطْوافاً تجعله على فرجها وتقول :اليومَ يبدو بعضُه أو كلُّه ... وما بَدا منه فلا أُحِلُّهوأخرج مسلم عن عروة بن الزبير ، قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلاّ الحُمْس ، والحُمْس قريشٌ وما ولدتْ فكان غيرهم يطوفون عراة إلاّ أن يعطيهم الحُمْس ثياباً فيعطِي الرّجالُ الرّجالَ والنّساءُ النّساءَ ، وعنه : أنّهم كانوا إذا وصلوا إلى منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عُراة . وروي أنّ الحُمْس كانوا يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلاّ في ثيابنا ولا يأكل إذا دَخل أرضنا إلاّ من طعامنا . فمن لم يكن له من العرب صديق بمكّة يعيره ثوباً ولا يجد من يستأجر به كان بين أحد أمرين إمّا أن يطوف بالبيت عُرياناً ، وإمّا أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسّه أحد وكان ذلك الثّوب يسمّى : اللَّقَى بفتح اللام قال شاعرهم :كفى حزناً كَري عليه كأنّه ... لقى بين أيدي الطائفين حَرامُوفي «الكشاف» ، عن طاووس : كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضُرِب وانتُزِعَت منه لأنّهم قالوا : لا نعبد الله في ثياببٍ أذنَبْنا فيها ، وقد أبطله النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمر أبا بكر رضي الله عنه ، عام حجّته سنة تسع ، أن ينادي في الموسم : " أنْ لا يحج بعد العام مُشرك ولا يطوفَ بالبيت عُريان " .وعن السدي وابن عبّاس كان أهل الجاهليّة التزموا تحريمَ اللّم والودك في أيام الموسم ، ولا يأكلون من الطّعام إلاّ قُوتاً ، ولا يأكلون دَسماً ، ونسب في «الكشاف» ذلك إلى بني عامر ، وكان الحُمْس يقولون : لا ينبغي لأحد إذا دخل أرضَنا أن يأكل إلاّ من طعامنا ، وفي «تفسير الطبري» عن جابر بن زيد كانوا إذا حجوا حرّموا الشاة ولبنها وسمْنها . وفيه عن قتادة : أنّ الآية أرادت ما حرّموه على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي .فالأمر في قوله : { خذوا زينتكم } للوجوب ، وفي قوله : { وكلوا واشربوا } للإباحه لبني آدم الماضين والحاضرين .والمقصود من توجيه الأمر أو من حكايته إبطالُ التّحريم الذي جعله أهل الجاهليّة بأنهم نقضوا به ما تقرّر في أصل الفطرة ممّا أمر الله به بني آدم كلّهم ، وامتن به عليهم ، إذ خلق لهم ما في الأرض جميعاً . وهو شبيه بالأمر الوارد بعد الحَظر . فإنّ أصله إبطال التّحريم وهو الإباحة كقوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] بعد قوله : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] وقد يعرض لما أبطل به التّحريم أن يكون واجباً . فقد ظهر من السّياق والسّباق في هذه الآيات أن كشف العورة من الفواحش ، فلا جرم يكون اللّباس في الحجّ منه واجبٌ ، وهو ما يستْر العورة ، وما زاد على ذلك مباح مأذون فيه إبطالاً لتحريمه ، وأمّا الأمر بالأكل والشّرب فهو للإباحة إبطالاً للتّحريم ، وليس يجب على أحد أكل اللّحم والدّسم .وقوله : { عند كل مسجد } تعميم أي لا تخصّوا بعض المساجد بالتّعري مثل المسجد الحرام ومسجد مِنَى ، وقد تقدّم نظيره في قوله : { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 29 ]. وقد ظهرت مناسبة عطف الأمر بالأكل والشّرب على الأمر بأخذ الزّينة ممّا مضى آنفاً .والإسراف تقدّم عند قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة النّساء ( 6 ) ، وهو تجاوز الحدّ المتعارف في الشّيء أي : ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللّحوم والدّسم لأنّ ذلك يعود بأضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة .وقد قيل إنّ هذه الآية جمعت أصول حفظ الصّحة من جانب الغذاء فالنّهي عن السرف نهيُ إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللاّحقة في قوله : { قل من حرم زينة الله } إلى قوله { والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ، ولأنّ مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلّق به التّكليف ، ولكن يوكل إلى تدبير النّاس مصالحهم ، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقاً : { قل أمر ربي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] فإن ترك السّرف من معنى العدل .وقوله : { إنه لا يحب المسرفين } تذييل ، وتقدّم القول في نظيره في سورة الأنعام .
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
📘 استئناف معتَرَض بين الخطابات المحكيّة والموجّهة ، وهو موضع إبطال مزاعم أهل الجاهليّة فيما حرّموه من اللّباس والطّعام وهي زيادة تأكيد لإباحة التستر في المساجد ، فابتدىء الكلام السابق بأنّ اللباس نعمة من لله . وثني بالأمر بإيجاب التستر عند كل مسجد ، وثلث بانكاران يوجد تحريم اللباس وافتتاح الجملة ب { قل } دلالة على أنّه كلام مسوق للردّ والإنكار والمحاورة .والاستفهام إنكاري قصد به التّهكّم إذ جعلهم بمنزلة أهل علم يطلب منهم البيان والإفادة نظير قوله : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } [ الأنعام : 148 ] وقوله { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } [ الأنعام : 143 ] وقرينة التّهكّم : إضافة الزّينة إلى اسم الله ، وتعريفها بأنّها أخرجها الله لعباده ، ووصفُ الرّزق بالطّيبات ، وذلك يقتضي عدم التّحريم ، فالاستفهام يؤول أيضاً إلى إنكار تحريمها .ولوضوح انتفاء تحريمها ، وأنّه لا يقوله عاقل ، وأنّ السؤال سؤال عالم لا سؤال طالب علم ، أُمر السّائل بأن يجيب بنفسه سؤَالَ نفسِه ، فعُقب ما هو في صورة السؤال بقوله : { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } على طريقة قوله : { قل لمن ما في السموات والأرض قل لله } في سورة الأنعام ( 12 ) ، وقوله { عم يتساءلون عن النبإ العظيم } [ النبأ : 1 ، 2 ] فآل السؤال وجوابه إلى خبرين .وضمير : { هي } عائد إلى الزينة والطّيبات بقطع النّظر عن وصْف تحريم من حرّمها ، أي : الزّينةُ والطّيبات من حيث هي هي حلال للذين آمنوا فمن حرّمها على أنفسهم فقد حَرَمُوا أنفسهم .واللاّم في : { للذين آمنوا } لام الاختصاص وهو يدلّ على الإباحة ، فالمعنى : ما هي بحرام ولكنّها مباحة للذين آمنوا ، وإنّما حَرَم المشركون أنفسهم من أصناف منها في الحياة الدّنيا كلّها مثل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وما في بطونها ، وحَرَم بعض المشركين أنفسهم من أشياء في أوقات من الحياة الدّنيا ممّا حرّموه على أنفسهم من اللّباس في الطّواف وفي منى ، ومن أكل اللّحوم والودَك والسّمن واللّبن ، فكان الفوز للمؤمنين إذ اتّبعوا أمر الله بتحليل ذلك كلّه في جميع أوقات الحياة الدّنيا .وقوله : { خالصة يوم القيامة } قرأه نافع ، وحده : برفع خالصة على أنّه خبر ثان عن قوله : { هي } أي : هي لهم في الدّنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة ، وقرأه باقي العشرة : بالنّصب على الحال من المبتدأ أي هي لهم الآن حال كونها خالصة في الآخرة ومعنى القراءتين واحد ، وهو أنّ الزّينة والطّيّبات تكون خالصة للمؤمنين يوم القيامة .والأظهر أنّ الضّمير المستتر في { خالصة } عائد إلى الزّينة والطّيبات الحاصلة في الحياة الدّنيا بعينها ، أي هي خالصة لهم في الآخرة ، ولا شكّ أنّ تلك الزّينة والطّيّبات قد انقرضت في الدّنيا ، فمعنى خلاصها صفاؤها ، وكونه في يوم القيامة : هو أنّ يوم القيامة مظهر صفائِها أي خلوصها من التّبعات المنجرّة منها ، وهي تبعات تحريمها ، وتبعات تناول بعضها مع الكفر بالمنعِم بها ، فالمؤمنون لمّا تناولوها في الدّنيا تناولوها بإذن ربّهم ، بخلاف المشركين فإنّهم يسألون عنها فيعاقبون على ما تناولوه منها في الدّنيا ، لأنّهم كفروا نعمة المنعِم بها ، فأشركوا به غيره كما قال تعالى فيهم :{ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ] وإلى هذا المعنى يشير تفسير سعيد بن جبير ، والأمر فيه على قراءة رفع : { خالصة } أنّه إخبار عن هذه الزّينة والطّيبات بأنّها لا تعقب المتمتّعين بها تبعات ولا أضراراً ، وعلى قراءة النّصب فهو نصب على الحال المقدرة .ويحتمل أن يكون الضّمير في { خالصة } عائداً إلى الزّينة والطّيبات ، باعتبار أنواعها لا باعتبار أعيانها ، فيكون المعنى : ولهم أمثالها يوم القيامة خالصة .ومعنى الخلاص التّمحض وهو هنا التّمحض عن مشاركة غيرهم من أهل يوم القيامة ، والمقصود أنّ المشركين وغيرهم من الكافرين لا زينة لهم ولا طيّبات من الرّزق يوم القيامة ، أي أنّها في الدّنيا كانت لهم مع مشاركة المشركين إياهم فيها ، وهذا المعنى مروي عن ابن عبّاس وأصحابه .ومعنى : { كذلك نفصّل الآيات } كهذا التّفصيل المتبَدِيء من قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } [ الأعراف : 26 ] الآيات أو من قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } [ الأعراف : 3 ]. وتقدّم نظير هذا التّركيب في سورة الأنعام .والمراد بالآيات الدّلائل الدّالة على عظيم قدرة الله تعالى ، وانفراده بالإلهيّة ، والدّالة على صدق رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم إذ بيَّن فساد دين أهل الجاهليّة ، وعلَّم أهل الإسلام علماً كاملاً لا يختلط معه الصّالح والفاسد من الأعمال ، إذ قال : خُذوا زينتكم ، وقال : { وكلوا واشربوا } [ الأعراف : 31 ] ، ثمّ قال : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [ الأعراف : 31 ] ، وإذ عاقب المشركين على شركهم وعنادهم وتكذيبهم بعقاب في الدّنيا ، فخذلهم حتّى وضعوا لأنفسهم شرعاً حَرَمَهم من طيّبات كثيرة وشوّه بهم بين الملإ في الحجّ بالعراء فكانوا مثَل سوءٍ ثمّ عاقبهم على ذلك في الآخرة ، وإذ وفق المؤمنين لَمَّا استعدّوا لقبول دعوة رسوله فاتّبعوه ، فمتّعهم بجميع الطّيبات في الدّنيا غير محرومين من شيء إلاّ أشياء فيها ضُر عَلِمه الله فحرّمها عليهم ، وسلَّمهم من العقاب عليها في الآخرة .واللاّم في قوله : { لقوم يعلمون } لام العلّة ، وهو متعلّق بفعل { نفصل } ، أي تفصيل الآيات لا يفهمه إلاّ قوم يعلمون ، فإنّ الله لمّا فصّل الآيات يَعلم أنّ تفصيلها لقوم يعلمون ، ويجوز أن يكون الجارُّ والمجرور ظرفاً مستقراً في موضع الحال من الآيات ، أي حال كونها دلائل لقوم يعلمون ، فإنّ غير الذين لا يعلمون لا تكون آيات لهم إذ لا يفقهونها كقوله تعالى : { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } في سورة الأنعام ( 99 ) ، أي كذلك التّفصيل الذي فَصلتُه لكم هنا نفصّل الآيات ويتجدّد تفصلينا إياها حرصا على نفع قوم يعلمون .والمراد بقوم يعلمون } الثّناءُ على المسلمين الذين فهموا الآيات وشكروا عليها ، والتّعريضُ بجهل وضلال عقول المشركين الذين استمرّوا على عنادهم وضلالهم ، رغم ما فصّل لهم من الآيات .
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
📘 لَمَّا أنبأ قوله : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } [ الأعراف : 32 ] إلى آخره ، بأنّ أهل الجاهليّة حُرِموا من الزّينة والطّيبات من الرّزق ، وأنبأ قوله تعالى قبل ذلك { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } [ الأعراف : 28 ] بأنّ أهل الجاهليّة يَعْزُون ضلالهم في الدّين إلى الله ، فأنتج ذلك أنّهم ادّعوا أنّ ما حَرّموه من الزّينة والطّيبات قد حرّمه الله عليهم ، أعقب مجادلتهم ببيان ما حرّمه الله حقّاً وهم ملتبسون به وعاكفون على فعله .فالقصر المفاد من { إنَّما } قصر إضافي مُفَادُهُ أنّ الله حرّم الفَواحش وما ذُكر معها لاَ ما حرّمتموه من الزّينة والطّيّبات ، فأفاد إبطال اعتقادهم ، ثمّ هو يفيد بطريق التّعريض أنّ ما عدّه الله من المحرّمات الثّابت تحريمها قد تلبّسوا بها ، لأنّه لمّا عدّ أشياء ، وقد علم النّاس أنّ المحرّمات ليست محصورة فيها ، عَلم السّامع أنّ ما عيّنه مقصود به تعيين ما تلبّسوا به فحصل بصيغة القصر ردّ عليهم من جانبي ما في صيغة ( إنّما ) من إثبات ونفي : إذ هي بمعنى ( مَا وإلاّ ) ، فأفاد تحليل ما زعموه حراماً وتحريم ما استبَاحوه من الفواحش وما معها .والفواحش جمع فاحشة وقد تقدّم ذكر معنى الفاحشة عند قوله تعالى : { إنه كان فاحشة ومقتاً } في سورة النّساء ( 22 ) وتقدّم آنفاً عند قوله تعالى : { وإذا فعلوا فاحشة } [ الأعراف : 28 ].و { ما ظهر منها } هو ما يظهره النّاس بين قرنائهم وخاصتهم مثل البغاء والمخادنة ، وما بطن هو ما لا يظهره النّاس مثل الوأد والسّرقة ، وقد تقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } في سورة الأنعام ( 151 ). وقد كانوا في الجاهليّة يستحلّون هذه الفواحش وهي مفاسد قبيحة لا يشكّ أولو الألباب ، لو سئلوا ، أنّ الله لا يرضى بها ، وقيل المراد بالفواحش : الزّنا ، وما ظهر منه وما بطن حالان من أحوال الزّناة ، وعلى هذا يتعيّن أن يكون الإتيان بصيغة الجمع لاعتبار تعدّد أفعاله وأحواله وهو بعيد .وأمّا الإثم فهو كلّ ذنب ، فهو أعمّ من الفواحش ، وتقدّم في قوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير } في سورة البقرة ( 219 ). وقوله : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } في سورة الأنعام ( 120 ) ، فيكون ذكر الفواحش قبلَه للاهتمام بالتّحذير منها قبل التّحذير من عموم الذّنوب ، فهو من ذكر الخاص قبل العام للاهتمام ، كذكر الخاص بعد العام ، إلاّ أنّ الاهتمام الحاصل بالتّخصيص مع التّقديم أقوى لأنّ فيه اهتماماً من جهتين .وأمّا البغي فهو الاعتداء على حقّ الغير بسلب أموالِهم أو بأذاهم ، والكبرُ على النّاس من البغي ، فما كان بوجه حقّ فلا يسمّى بَغياً ولكنّه أذىً ، قال الله تعالى : { والّذان يأتيانها منكم فآذوهما } [ النساء : 16 ] وقد كان البغي شائعاً في الجاهليّة فكان القوي يأكل الضّعيف ، وذو البأس يغير على أنعام النّاس ويقتل أعداءه منهم ، ومن البغي أن يضربوا من يطوف بالبيت بثيابه إذا كان من غير الحُمْس ، وأن يُلزموه بأن لا يأكل غير طعام الحُمْس ، ولا يطوف إلاّ في ثيابهم .وقوله : { بغير حق } صفة كاشفة للبغي مثل العشاء الآخرة لأنّ البغي لا يكون إلاّ بغير حقّ .وعطف { البغي } على { الإثم } من عطف الخاص على العام للاهتمام به ، لأنّ البغي كان دأبهم في الجاهليّة ، قال سوار بن المضرِّب السّعدي :وأنَّي لاَ أزَالُ أخَا حُروب ... إذا لم أجْننِ كنت مِجَنَّ جانوالإشراك معروف وقد حرّمَه الله تعالى على لسان جميع الأنبياء منذ خلَق البشر .و { ما لم ينزّل به سلطانا } موصول وصلته ، و ( مَا ) مفعول { تشركوا بالله } ، والسّلطان البرهان والحجّة ، والمجرور في قوله : { به } صفة ل { سلطانا } ، والباء للمصاحبة بمعنى معه أي لم ينزّل حجّة مصاحبة له ، وهي مصاحبة الحجّة للمدّعي وهي مصاحبة مجازية ويجوز أن يكون الباء بمعنى على للاستعلاء المجازي على حدّ قوله تعالى : { من إن تأمنه بقنطار } [ آل عمران : 75 ] أي سلطاناً عليه ، أي دليلاً . وضمير ( به ) عائد إلى ( ما ) وهو الرابط للصّلة . فمعنى نفي تنزيل الحجّة على الشّركاء : نفي الحجّة الدّالة على إثبات صفة الشّركة مع الله في الإلهيّة ، فهو من تعليق الحكم بالذّات والمرادُ وصفُها ، مثلُ حرّمت عليكم الميتة أي أكلها . وهذه الصّلة مؤذنة بتخطئة المشركين ، ونفيِ معذرتهم في الإشراك ، بأنّه لا دليل يشتبه على النّاس في عدم استحقاق الأصنام العبادة ، فَعَرّف الشّركاء المزعومين تعريفاً لطريق الرسم بأنّ خاصّتهم : أنّ لا سُلطان على شركتهم لله في الإلهية ، فكلّ صنم من أصنامهم واضحة فيه هذه الخاصّة ، فإنّ الموصول وصلته من طرق التّعريف ، وليس ذلك كالوصف ، وليس للموصول وصلته مفهوم مخالفة ، ولا الموصولاتُ معدودة في صِيَغ المفاهيم ، فلا يتّجه ما أورده الفخر من أن يقول قائل : هذا يوهم أن مِن بين الشّرك ما أنزل الله به سلطاناً واحتياجِه إلى دفع هذا الإيهام ، ولا ما قفاه عليه صاحب «الانتصاف» من تنظير نفي السّلطان في هذه الآية بنحو قول امرىء القيس :على لا حببٍ لا يُهتدَى بمنارهولا يتّجه ما نحاه صاحبُ «الكشاف» من إجراء هذه الصّلة على طريقة التّهكّم .وقولُه : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } تقدّم نظيره آنفاً عند قوله تعالى ، في هذه السّورة : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } [ الأعراف : 28 ].وقد جمعت هذه الآية أصول أحوال أهل الجاهليّة فيما تلبسوا به من الفواحش والآثام ، وهم يزعمون أنّهم يتورّعون عن الطّواف في الثّياب ، وعن أكل بعض الطّيّبات في الحجّ . وهذا من ناحية قوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عنه الله والفتنة أكبر من القتل } [ البقرة : 217 ].
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ
📘 اعتراض بين جملة : { يا بني آدم خذوا زينتكم } [ الأعراف : 31 ] وبين جملة : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم } [ الأعراف : 35 ] لمّا نعى الله على المشركين ضلالهم وتمرّدهم . بعد أن دعاهم إلى الإيمان ، وإعراضَهم عنه ، بالمجادلة والتّوبيخ وإظهارِ نقائصهم بالحجّة البيّنة ، وكان حالهم حال من لا يقلع عمّا هم فيه ، أعقَب ذلك بإنذارهم ووعيدهم إقامةً للحجّة عليهم وإعذاراً لهم قبل حلول العذاب بهم .وهذه الجملة تؤكّد الغرض من جملة : { وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف : 4 ] وتحتمل معنيين :أحدهما : أن يكون المقصود بهذا الخبر المشركين ، بأن أقبل الله على خطابهم أو أمر نبيئه بأن يخاطبهم ، لأنّ هذا الخطاب خطاب وعيد وإنذار .والمعنى الثّاني : أن يكون المقصود بالخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيكون وعداً له بالنّصر على مكذّبيه ، وإعلاماً له بأنّ سنّته سنّةُ غيره من الرّسل بطريقة جعل سنّة أمّته كسنّة غيرها من الأمم .وذكْرُ عموم الأمم في هذا الوعيد ، مع أنّ المقصود هم المشركون من العرب الذين لم يؤمنوا ، إنّما هو مبالغة في الإنذار والوعيد بتقريب حصوله كما حصل لغيرهم من الأمم على طريقة الاستشهاد بشواهد التّاريخ في قياس الحاضر على الماضي فيكون الوعيد خبراً معضوداً بالدّليل والحجّة ، كما قال تعالى في آيات كثيرة منها : { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [ آل عمران : 137 ] أي : ما أنتم إلاّ أمة من الأمم المكذّبين ولكلّ أمّة أجل فأنتم لكم أجل سيحين حينه .وذِكر الأجل هنا ، دون أن يقول لكلّ أمّة عذاب أو استئصال ، إيقاظاً لعقولهم من أن يغرّهم الإمهال فيحسبوا أنّ الله غيرُ مؤاخذهم على تكذيبهم ، كما قالوا : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] ، وطمأنةً للرسول عليه الصّلاة والسلام بأنّ تأخير العذاب عنهم إنّما هو جري على عادة الله تعالى في إمهال الظّالمين على حدّ قوله : { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذّبوا جاءهم نصرنا } [ يوسف : 110 ] وقوله { لا يغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ آل عمران : 196 ، 197 ].ومعنى : { لكل أمة أجل } لكلّ أمّة مكذّبة إمهال فحذف وصف أمّة أي : مكذّبة .وجعل لذلك الزّمان نهاية وهي الوقت المضروب لانقضاء الإمهال ، فالأجل يطلق على مدّة الإمهال ، ويُطلق على الوقت المحدّد به انتهاء الإمهال ، ولا شكّ أنّه وُضع لأحد الأمرين ثمّ استعمل في الآخرة على تأويل منتهى المدّة أو تأخير المنتهى وشاع الاستعمالان . فعلى الأوّل يقال قَضى الأجلَ أي المدّة كما قال تعالى : { أيَّما الأجلين قضيت } [ القصص : 28 ] وعلى الثّاني يقال : «دنا أجل فلان» وقوله تعالى : { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } [ الأنعام : 128 ] والواقع في هذه الآية يصحّ للاستعمالين بأن يكون المراد بالأجل الأوّل المدّة ، وبالثّاني الوقت المحدّد لفعللٍ مَّا .والمراد بالأمّة هنا الجماعة التي اشتركت في عقيدة الإشراك أو في تكذيب الرّسل ، كما يدلّ عليه السّياق من قوله تعالى : { وأن تشركوا بالله } [ الأعراف : 33 ] إلخ وليس المراد بالأمّة ، الجماعةَ التي يجمعها نسب أو لغة إذ لا يتصوّر انقراضها عن بكرة أبيها ، ولم يقع في التّاريخ انقراض إحداها ، وإنّما وقع في بعض الأمم أن انقرض غالب رجالها بحوادث عظيمة مثل ( طَسْمٍ ) و ( جَدِيس ) و ( عَدْوَان ) فتندمج بقاياها في أمم أخرى مجاورة لها فلا يقال لأمّة إنّ لها أجلا تنقرض فيه ، إلاّ بمعنى جماعة يجمعها أنّها مُرسل إليها رسول فكذّبته ، وكذلك كان ما صْدَق هذه الآية ، فإنّ العرب لمّا أرسل محمّد صلى الله عليه وسلم ابتدأ دعوته فيهم ولهم ، فآمن به من آمن ، وتَلاحق المؤمنون أفواجاً ، وكذّب به أهل مكّة وتبعهم مَن حولهم ، وأمهل الله العربَ بحكمته وبرحمة نبيّه صلى الله عليه وسلم إذ قال : « لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده » فلطف الله بهم إذ جعلهم مختلطين مؤمنهم ومشركهم ، ثمّ هاجر المؤمنون فبقيت مكّة دار شرك وتمحّض مَنْ عَلِم الله أنّهم لا يؤمنون فأرسل الله عليهم عبادَهُ المؤمنين فاستأصلوهم فوْجاً بعد فوح ، في يوم بدر وما بعده من أيّام الإسلام ، إلى أن تَم استئصال أهل الشّرك بقتل بقيّة من قتل منهم في غزوة الفتح ، مثل عبد الله بن خَطَل ومن قُتل معه ، فلمّا فتحت مكّة دان العرب للإسلام وانقرض أهل الشّرك ، ولم تقم للشّرك قائمة بعد ذلك ، وأظهر الله عنايته بالأمّة العربيّة إذ كانت من أوّللِ دعوة الرّسول غير متمحّضة للشّرك ، بل كان فيها مسلمون من أوّل يوم الدّعوة ، وما زالوا يتزايدون .وليس المراد في الآية ، بأجل الأمّة ، أجلَ أفرادها ، وهو مدّة حياة كلّ واحد منها ، لأنّه لا علاقة له بالسّياق ، ولأنّ إسناده إلى الأمّة يعيّن أنّه أجل مجموعها لا أفرادها ، ولو أريد آجال الأفراد لقال لكلّ أحد أو لكلّ حَيّ أجل .و { إذا } ظرف زمان للمستقبل في الغالب ، وتتضمّن معنى الشّرط غالباً ، لأنّ معاني الظّروف قريبَة من معاني الشّرط لما فيها من التّعليق ، وقد استُغني بفاء تفريع عامل الظرّف هنا عن الإتيان بالفاء في جواب ( إذا ) لظهور معنى الرّبط والتّعليق بمجموع الظّرفية والتّفريع ، والمفرعُ هو : { جاء أجلهم } وإنّما قدم الظّرف على عامله للاهتمام به ليتأكدّ بذلك التّقديممِ معنى التّعليق . والمجيء مجاز في الحلول المقدَّر له كقولهم جاء الشّتاء .وإفراد الأجل في قوله : { إذا جاء أجلهم } مراعى فيه الجنس ، الصّادق بالكثير ، بقرينة إضافته إلى ضمير الجمع .وأُظهر لفظ أجل في قوله : { إذا جاء أجلهم } ولم يُكتف بضميره لزيادة تقرير الحكم عليه ، ولتكون هذه الجملة مستقلّة بنفسها غير متوقّفة عن سماع غيرها لأنّها بحيث تَجْري مَجرى المثل ، وإرسالُ الكلام الصّالح لأن يكون مَثلا طريق مِن طُرق البلاغة .و { يستأخرون } : و { يستقدمون } بمعنى : يتأخّرون ويتقدّمون ، فالسّين والتّاء فيهما للتّأكيد مثل استجاب .والمعنى : إنّهم لا يتجاوزونه بتأخير ولا يتعجّلونه بتقديم . والمقصود أنّهم لا يؤخّرون عنه ، فَعَطْفُ { ولا يستقدمون } لبيان أن ما علمه الله وقدّره على وفق علمه لا يَقْدِر أحد على تغييره وصَرفه ، فكان قوله : { ولا يستقدمون } لا تعلّق له بغرض التّهديد . وقريب من هذا قول أبي الشيص :وقف الهوى بي حيثُ أنتتِ فليس لي ... مُتَأخَّرٌ عَنْهُ وَلاَ مُتَقَدَّموكلّ ذلك مبني على تمثيل حالة الذي لا يستطيع التّخلّص من وعيد أو نحوه بهيئة من احتُبس بمكان لا يستطيع تجاوزه إلى الأمام ولا إلى الوراء .
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ۙ فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
📘 يجيء في موقع هذه الجملة : من التّأويل ، ما تقدّم في القوللِ في نظيرتها وهي قوله تعالى : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم } [ الأعراف : 26 ].والتّأويل الذي استظهرنا به هنالك يبدو في هذه النظيرة الرّابعة أوضحَ . وصيغة الجمع في قوله : { رسل } وقوله { يقصون } تقتضي توقّع مجيءِ عدّةِ رسل ، وذلك منتف بعد بعثة الرّسول الخاتم للرّسل الحاشر العاقب عليه الصّلاة والسّلام ، فذلك يتأكّد أن يكون هذا الخطاب لبني آدم الحاضرين وقت نزول القرآن ، ويرجح أن تكون هذه النّداآت الأربعة حكاية لقوللٍ موجّه إلى بني آدم الأوّلين الذي أوّلُه : { قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } [ الأعراف : 25 ].قال ابن عطيّة : «وكأنّ هذا خطاب لجميع الأمم ، قديمها وحديثها ، هو متمكّن لهم ، ومتحصّل منه لحاضري محمّد صلى الله عليه وسلم أنّ هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه» يريد أنّ الله أبلغ النّاس هذا الخطابَ على لسان كلّ نبيء ، من آدم إلى هلم جرّا ، فما من نبيء أو رسول إلاّ وبلَّغه أمَّته ، وأمَرَهم بأن يبلغ الشّاهد منهم الغائبَ ، حتّى نزل في القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فعلمت أمّته أنّها مشمولة في عموم بني آدم .وإذا كان ذلك متعيّناً في هذه الآية أو كالمتعيّن تعيّن اعتبار مثله في نظائرها الثّلاث الماضية ، فشد به يدك . ولا تعبأْ بمن حَرَدك .فأمَا إذا جعل الخطاب في هذه الآية موجّهاً إلى المشركين في زمن النّزول ، بعنوان كونهم من بني آدم ، فهنالك يتعيّن صرف معنى الشّرط إلى ما يأتي من الزّمان بعد نزول الآية لأنّ الشّرط يقتضي الاستقبال غالباً . كأنّه قيل إنْ فاتكم اتّباع ما أنزل إليكم فيما مضى لا يَفْتُكم فيما بقي ، ويتعيّن تأويل يأتينّكم بمعنى يَدْعُونَّكم ، ويتعيَّن جعل جمع الرّسل على إرادة رسول واحد ، تعظيماً له ، كما في قوله تعالى : { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم } [ الفرقان : 37 ] أي كذّبوا رسوله نُوحا ، وقوله : { كذبت قوم نوح المرسلين } [ الشعراء : 105 ] وله نظائر كثيرة في القرآن .وهذه الآية ، والتي بعدها متّصلتا المعنى بمضمون قوله تعالى في أوّل السّورة : { وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف : 4 ] الآية اتّصال التّفصيل بإجماله .أكد به تحذيرهم من كيد الشّيطان وفتونه ، وأراهم به مناهج الرّشد التي تُعين على تجنّب كيده ، بدعوة الرّسل إياهم إلى التّقوى والإصلاح ، كما أشار إليه بقوله ، في الخطاب السّابق : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] وأنبأهم بأنّ الشّيطان توعَّد نوع الإنسان فيما حكى الله في قوله : { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] الآية فلذلك حذرّ الله بني آدم من كيد الشّيطان ، وأشعرهم بقوّة الشّيطان بقوله : { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم }[ الأعراف : 27 ] عسى أن يتّخذوا العُدّة للنّجاة من مخالب فتنته ، وأردف ذلك بالتّحذير من حزبه ودعاته الذين يفتنون المؤمنين ، ثمّ عزّز ذلك بإعلامه إياهم أنّه أعانهم على الاحتراز من الشّيطان ، بأن يبعث إليهم قوماً من حزب الله يبلّغونهم عن الله ما فيه منجاة لهم من كيد الشّياطين ، بقوله : { يا بني آدم إما يأتيكم رسل منكم } الآية فأوصاهم بتصديقهم والامتثال لهم .و { إمَّا } مركّبة من ( إن ) الشّرطيّة و ( ما ) الزائدة المؤكّدة لمعنى الشّرطية ، واصطلح أيمّة رسم الخطّ على كتابتها في صورة كلمة واحدَة ، رعْياً لحالة النّطق بها بإدغام النّون في الميم ، والأظهر أنّها تفيد مع التّأكيد عموم الشّرط مثل أخواتها ( مهما ) و ( أينما ) ، فإذا اقترنت بإن الشّرطية اقترنت نون التّوكيد بفعل الشّرط كقوله تعالى : { فإما ترين من البشر أحداً فقولي } سورة مريم ( 26 ) لأنّ التّوكيد الشّرطي يشبه القسم ، وهذا الاقتران بالنّون غالب ، ولأنّها لما وقعت توكيداً للشّرط تنزّلت من أداة الشّرط منزلة جزء الكلمة .وقوله : { منكم } أي من بني آدم ، وهذا تنبيه لبَني آدم بأنّهم لا يترقّبون أن تجيئهم رسل الله من الملائكة لأنّ المرسَل يكون من جنس من أرسل إليهم ، وفي هذا تعريض بالجهلة من الأمم الذين أنكروا رسالة الرّسل لأنّهم من جنسهم ، مثل قوم نوح ، إذ قالوا : { ما نراك إلا بشراً مثلنا } [ هود : 27 ] ومثل المشركين من أهل مكّة إذ كذّبوا رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم بأنّه بَشر قال تعالى : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أَبَعثَ الله بشراً رسولاً قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } [ الإسراء : 94 ، 95 ].ومعنى { يقصون عليكم آياتي } يتلونها ويحكونها ويجوز أن يكون بمعنى يُتبعون الآية بأخرى ويجوز أن يكون بمعنى يظهرون وكلّها معان مجازيّة للقص لأنّ حقيقة القص هي أنّ أصل القصص إتْباع الحديث من اقتصاص أثر الأرجل واتّباعه لتعرف جهة الماشي ، فعلى المعنى الأوّل فهو كقوله في الآية الأخرى : { ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم } [ الزمر : 71 ] وأيّاً مّا كان فهو محتمل للحمل على جميعها من استعمال اللّفظ في مجازيْه .الآية أصلها العلامة الدّالة على شيء ، من قول أو فعل ، وآيات الله الدّلائل التي جعلها دالة على وجوده ، أو على صفاته ، أو على صدق رسله ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } في سورة البقرة ( 39 ) ، وقوله تعالى : { وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه } في سورة الأنعام ( 37 ) ، ومنه آيات القرآن التي جعلها الله دلالة على مراده للنّاس ، للتّعريض بالمشركين من العرب ، الذين أنكروا رسالة محمّد . ووجه دلالة الآيات على ذلك إمّا لأنّها جاءت على نظم يَعجز البشر عن تأليف مثله ، وذلك من خصائص القرآن ، وإمّا لأنّها تشتمل على أحكام ومعان لا قِبَل لغير الله ورسوله بإدراك مثلها ، أو لأنّها تدعو إلى صلاح لم يعهَدْه النّاس .فيَدل ما اشتملت عليه على أنّه ممّا أراده الله للنّاس ، مثل بقيّة الكتب التي جاءت بها الرّسل ، وإمّا لأنّها قارنتها أمور خارقة للعادة تحدّى بها الرّسولُ المرسلُ بتلك الأقوال أمَّتَه ، فهذا معنى تسميتها آيات ، ومعنَى إضافتها إلى الله تعالى ، ويجوز أن يكون المراد بالآيات ما يشمل المعجزاتتِ غيرَ القولية ، مثل نبع الماء من بين أصابع محمّد ومثل قلب العصا حيّة لموسى عليه السلام . وابراء الأكمه لعيسى عليه السّلام ، ومعنى التّكذيب بها العناد بإنكارها وجحدها .وجملة : فمن اتقى وأصلح } جواب الشّرط وبينها وبين جملة : { إما يأتينكم } محذوف تقديره : فاتقى منكم فريق وكذب فريق { فمن اتقى } إلخ ، وهذه الجملة شرطيّة أيضاً ، وجوابها { فلا خوف عليهم } ، أي فمن اتّبع رسلي فاتّقاني وأصلح نفسه وعمله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ولمّا كان إتيان الرّسل فائدته لإصلاح النّاس ، لا لنفع الرّسل ، عُدل عن جعل الجواب اتّباعّ الرّسل إلى جعله التّقوى والصّلاح . إيماء إلى حكمة إرسال الرّسل ، وتحريضا على اتّباعهم بأن فائدتُه للأمم لا للرّسل ، كما قال شعيب : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت } [ هود : 88 ] ، أي لا خوف عليهم من عقوبة الله في الدّنيا والآخرة ولا هم يحزنون من شيء من ذلك ، فالخوف والحزن المنفيان هما ما يوجبه العقاب ، وقد ينتفي عنهم الخوف والحزن مطلقاً بمقدار قوّة التّقوى والصّلاح ، وهذا من الأسرار التي بين الله وعباده الصّالحين ، ومثلُه قوله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [ يونس : 62 64 ].وقد نُفي الخوف نفي الجنس بلا النّافية له ، وجيء باسمها مرفوعاً لأنّ الرّفع يساوي البناء على الفتح في مثل هذا ، لأنّ الخوف من الأجناس المعنوية التي لا يتوهّم في نفيها أن يكون المراد نفي الفرد الواحدِ ، ولو فتح مثله لصحّ ، ومنه قول الرابّعة من نساء حديث أمّ زرع : «زوجي كَلَيْللِ تِهامَه ، لا حَرّ ولا قَرّ ولا مخافة ولا سئامَه» فقد روي بالرّفع وبالفتح .و ( على ) في قوله : { فلا خوف عليهم } للاستعلاء المجازي ، وهو المقارنة والملازمة ، أي لا خوف ينالهم .وقوله : { ولا هم يحزنون } جملة عطفت على جملة : { فلا خوف عليهم } ، وعُدل عن عطف المفرد ، بأن يقال ولا حَزَنٌ ، إلى الجملة : ليتأتى بذلك بناء المسند الفعلي على ضميرهم ، فيدلّ على أنّ الحَزَن واقع بغيرهم ، وهم الذين كفروا . فإنّ بناء الخبر الفعلي على المسند إليه المتقدّم عليه يفيد تخصيص المسند إليه بذلك الخبر ، نحو : ما أنا قُلْتُ هذا ، فإنّه نفيُ صدور القول من المتكلّم مع كون القول واقعاً من غيره ، وعليه بيت «دلائل الإعجاز» ، ( وهو للمتنبّي) :وما أنا أسقمت جسمي به ... ولا أنا أضرَمْتُ في القلب ناراًفيفيد أنّ الذين كفروا يَحزنون إفادة بطريق المفهوم ، ليكون كالمقدّمة للخبر عنهم بعد ذلك بأنّهم أصحاب النّار هم فيها خالدون .
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
📘 وجملة : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار } معطوفة على جملة { فمن اتَّقى وأصلح }. والرَابط محذوف تقديره : والذين كفروا منكم وكذّبوا .والاستكبار مبالغة في التّكبّر ، فالسين والتّاء للمبالغة . وهو أن يعُد المرء نفسه كبيراً أي عظيماً وما هو به ، فالسّين والتاء لعد والحسبان ، وكلا الأمرين يؤذن بإفراطهم في ذلك وأنّهم عَدَوْا قدرهم .وضمن الاستكبار معنى الإعراض . فعلّق به ضمير الآيات . والمعنى : واستكبروا فأعرضوا عنها .وأفاد تحقيق أنّهم صائرون إلى النّار بطريق قصر ملازمة النّار عليهم في قوله : { أولئك أصحاب النار } لأنّ لفظ أصحاب مؤذن بالملازمة . وبما تدلّ عليه الجملة الاسميّة من الدّوام والثّبات في قوله : { هم فيها خالدون }.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ أُولَٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ
📘 الفاء للتّفريع على جملة الكلام السّابق ، وهذه كالفذلكة لما تقدّم لتُبيِّن أنّ صفات الضّلال ، التي أُبهم أصحابُها ، هي جافة بالمشركين المكذّبين برسالة محمّد عليه الصّلاة والسّلام فإنّ الله ذكر أولياء الشّياطين وبعض صفاتهم بقوله : { إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } [ الأعراف : 27 ] وذكر أنّ الله عهد لبني آدم منذ القدم بأن يتّبعوا من يجيئهم من الرّسل عن الله تعالى بآياته ليتّقوا ويصلحوا ، ووعدهم على اتباع ما جاءهم بيني الخوف والحزن وأوعدهم على التّكذيب والاستكبار بأن يكونوا أصحاب النّار ، فقد أعذر إليهم وبصّرهم بالعواقب ، فتفرّع على ذلك : أن من كَذَب على الله فزعم أنّ الله أمره بالفواحش ، أوْ كَذب بآيات الله التي جاء بها رسوله ، فقد ظلم نفسه ظُلماً عظيماً حتّى يُسْأل عمن هو أظلم منه .ولك أن تجعل جملة : { فمن أظلم ممن افترى } [ الأنعام : 144 ] إلخ معترضة بين جملة : { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ الأعراف : 36 ] وجملة : { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } كما سيأتي في موقع هذه الأخيرة ، وقد تقدّم الكلام على تركيب : { من أظلم ممن } عند قوله تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه في سورة البقرة ( 114 ) ، وأنّ الاستفهام للإنكار ، أي لا أحد أظلم .والافتراء والكذب تقدّم القول فيهما عند قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة العقود ( 103 ). ولهذه الآية اتّصال بآية : { وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف : 4 ] من حيث ما فيها من التّهديد بوعيد عذاب الآخرة وتفظيع أهواله .و ( من ) استفهام إنكاري مستعمل في تهويل ظلم هذا الفريق ، المعبّر عنه بمَن افترى على الله كذباً . و ( مَنْ ) الثّانية موصولة ، وهي عامة لكلّ من تتحقّق فيه الصّلة ، وإنّما كانوا أظلم النّاس ولم يكن أظلمُ منهم ، لأنّ الظلم اعتداء على حقّ ، وأعظم الحقوق هي حقوق الله تعالى ، وأعظم الاعتداء على حقّ الله الاعتداءُ عليه بالاستخفاف بصاحبه العظيم ، وذلك بأن يكذّب بما جاءه من قِبله ، أو بأن يَكْذِب عليه قيبلِّغ عنه ما لم يأمر به فإنْ جَمَع بين الأمرين فقد عطّل مراد الله تعالى من جهتين : جهة إبطال ما يدلّ على مراده ، وجهة إيهام النّاس بأنّ الله أراد منهم ما لا يريده الله .والمراد بهذا الفريق : هم المشركون من العرب ، فإنّهم كذّبوا بآيات الله التي جاء بها محمّد صلى الله عليه وسلم وافتروا على الله الكذب فيما زعموا أنّ الله أمرهم به من الفواحش ، كما تقدّم آنفاً عند قوله تعالى :{ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } [ الأعراف : 28 ].و ( أو ) ظاهرها التّقسيم فيكون الأظلمُ وهم المشركون فريقين : فريق افتروا على الله الكذب ، وهم سادة أهل الشّرك وكبراؤهم ، الذين شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، ونسبوه إلى الله وهم يعلمون ، مثل عَمْرو بن لُحَيّ ، وأبي كَبْشة ، ومن جاء بعدهما ، وأكثر هذا الفريق قد انقرضوا في وقت نزول الآية ، وفريق كذّبوا بآياتتٍ ولم يفتروا على الله وهم عامة المشركين ، من أهل مكّة وما حولها ، وعلى هذا فكلّ واحد من الفريقين لا أظلمَ منه ، لأنّ الفريق الآخر مساوٍ له في الظلم وليس أظلَم منه ، فأمَّا من جمع بين الأمرين ممّن لعلّهم أن يكونوا قد شرعوا للمشركين أموراً من الضّلالات ، وكذّبوا محمّداً صلى الله عليه وسلم فهم أشدّ ظلماً ، ولكنّهم لمّا كانوا لا يخلون عن الانتساب إلى كلا الفريقين وجامعين للخصلتين لم يخرجوا من كونهم من الفريق الذين هم أظلم النّاس ، وهذا كقوله : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثلما أنزل الله } [ الأنعام : 93 ] ، فلا شكّ أنّ الجامع بين الخصال الثّلاث هو أظلم من كلّ من انفرد بخصلة منها ، وذلك يوجب له زيادة في الأظلميّة ، لأنّ كلّ شدّة وصف قابلة للزّيادة .ولك أن تجعل ( أو ) بمعنى الواو ، فيكون الموصوف بأنّه أظلم النّاس هو من اتّصف بالأمرين الكذب والتّكذيب ، ويكون صادقاً على المشركين لأنّ جماعتهم لا تخلو عن ذلك .شيء باسم الإشارة في قوله : { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } ليدلّ على أنّ المشار إليهم أحرياء بأن يصيبهم العذاب بناءً على ما دلّ عليه التّفريع بالفاء .وجملة { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } يجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الاستفهام في قوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } الآية ، لأنّ التّهويل المستفاد من الاستفهام يسترعي السّامع أن يَسأل عمّا سيلاقُونه من الله الذي افتروا عليه وكذّبوا بآياته .ويجوز أن تكون جملة : { أولئك ينالهم نصيبهم } عطف بيان لجملة : { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ الأعراف : 36 ] أي خالدون الخلود الذي هو نصيبهم من الكتاب .وتكملة هذه الجملة هي جملة : { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } الآية كما سيأتي .ومادة النّيل والنّوال وردت واوية العين ويائية العين مختلطتين في دواوين اللّغة ، غير مفصحةً عن توزيع مواقع استعمالها بين الواوي واليائيّ ، ويظهر أن أكثر معاني المادتين مترادفة وأنّ ذلك نشأ من القلب في بعض التّصاريف أو من تداخل اللّغات ، وتقول نُلْتُ بضمّ النّون من نال يُنول ، وتقول نِلْت بكسر النّون من نال يَنِيل ، وأصل النّيْل إصابة الإنسان شيئاً لنفسه بيَده ، ونوّله أعطاهُ فنال ، فالأصل أن تقول نَال فلان كسباً ، وقد جاء هنا بعكس ذلك لأنّ النّصيب من الكتاب هو أمر معنوي ، فمقتضى الظّاهر أن يكون النّصيب مَنُولا لا نَائلاً ، لأنّ النّصيب لا يُحصِّل الذين افتروا على الله كذباً ، بل بالعكس : الذين افتروا يحصلونه ، وقد جاء ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى :{ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } [ الحج : 37 ] وقوله { سينالهم غضب من ربهم } [ الأعراف : 152 ] ، فتعيّن أن يكون هذا إمّا مجازاً مرسلاً في معنى مطلق الإصابة ، وإمّا أن يكون استعارة مبنيّة على عكس التّشبيه بأن شبّه النّصيب بشخص طالب طِلبة فنالها ، وإنّما يصار إلى هذا للتّنبيه على أنّ الذي ينالهم شيءٌ يكرهونه ، وهو يطلبهم وهم يفرّون منه ، كما يطلب العدوّ عدوّه ، فقد صار النّصيب من الكتاب كأنَّه يطلب أن يحصِّل الفريق الذين حقّ عليهم ويصادِفهم ، وهو قريب من القلب المبني على عكس التّشبيه في قول رؤبة :وَمَهْمَهٍ مُغْبَرّةٍ أرجاؤُه ... كأنّ لَوْنَ أرْضِهِ سَمَاؤُهوقولهم : «عرضتُ النّاقة على الحوض» .والنّصيب الحظّ الصّائر لأحد المتقاسمين من الشّيء المقسوم ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } في سورة البقرة ( 202 ) ، وقوله : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } في سورة النساء ( 7 ).والمراد بالكتاب ما تضمَّنه الكتاب ، فإن كان الكتاب مستعملاً حقيقة فهو القرآن ، ونصيبهم منه هو نصيبهم من وعيده ، مثل قوله تعالى آنفاً : { والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ الأعراف : 36 ] ، وإن كان الكتاب مجازاً في الأمر الذي قضَاه الله وقدّره ، على حدّ قوله : { لكل أجل كتاب } [ الرعد : 38 ] أي الكتاب الثّابت في عِلم الله من إحقاق كلمة العذاب عليهم ، فنصيبهم منه هو ما أخبر الله بأنّه قدّره لهم من الخلود في العذاب ، وأنّه لا يغفر لهم ، ويَشْمل ذلك ما سبق تقديره لهم من الإمهال وذلك هو تأجيلهم إلى أجل أراده ثمّ استئصالهم بعده كما أخبر عن ذلك آنفاً بقوله : { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [ الأعراف : 34 ]. وحمل كثير من المفسّرين النّصيب على ما ينالهم من الرّزق والإمهال في الدّنيا قبل نزول العذاب بهم وهو بعيد من معنى الفاء في قوله : { فمن أظلم } ولا أحسب الحادي لهم على ذلك إلاّ ليكون نوال النّصيب حاصلاً في مدّةٍ ممتدّة ليَكون مجيء الملائكة لتَوَفِّيهم غاية لانتهاء ذلك النّصيب ، استبقاء لمعنى الغاية الحقيقيّة في ( حتّى ). وذلك غير ملتزَم ، فإنّ حتّى الابتدائيّة لا تفيد من الغاية ما تفيده العاطفة كما سنذكره .والمعنى : إمّا أنّ كل واحد من المشركين سيصيبه ما توعدهم الله به من الوعيد على قدر عتوه في تكذيبه وإعراضه ، فنصيبه هو ما يناسب حاله عند الله من مقدار عذابه ، وإمّا أن مجموع المشركين سيصيبهم ما قُدر لأمثالهم من الأمم المكذّبين للرّسل المعرضين عن الآيات من عذاب الدّنيا ، فلا يغرنّهم تأخير ذلك لأنّه مُصيبهم لا محالة عند حلول أجله ، فنصيبهم هو صفة عذابهم من بين صفات العذاب التي عذّبت بها الأمم .وجملة : { حتى إذا جاءتهم رسلنا } تفصيل لمضمون جملة { ينالهم نصيبهم من الكتاب } فالوقت الذي أفاده قوله : { إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } هو مبدأ وصف نصيبهم من الكتاب حين ينقطع عنهم الإمهال الذي لَقُوه في الدّنيا .و { حتى } ابتدائيّة لأنّ الواقع بعدها جملة فتفيد السّببيّة ، فالمعنى : ف { إذا جاءتهم رسلنا } إلخ ، و ( حَتّى ) الابتدائيه لها صدر الكلام فالغاية التي تدلّ عليها هي غاية مَا يُخبر به المخبر ، وليست غايةَ ما يبلغ إليه المعطوف عليه بحتّى ، لأنّ ذلك إنّما يُلتزم إذا كانت حتّى عاطفة ، ولا تفيد إلاّ السّببيّة كما قال ابن الحاجب فهي لا تفيد أكثر من تسبّب ما قبلها فيما بعدها ، قال الرضي؛ قال المصنف : وإنّما وجب مع الرّفع السّببيّة لأنّ الاتّصال اللّفظي لمَّا زال بسبب الاستئناف شُرِط السّببيّة التي هي موجبة للاتّصال المعنوي ، جبراً لما فات من الاتّصال اللّفظي ، قال عَمرو بن شَأس :نذود الملوك عنكُمُ وتذودُنا ... ولا صُلْحَ حتّى تَضبَعُونَ ونَضْبَعاوقد تقدّم بعض هذا عند قوله تعالى : { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة } في سورة الأنعام ( 31 ) و ( حتّى ) الابتدائيّة تدلّ على أنّ مضمون الكلام الّذي بعدها أهمّ بالاعتناء للإلقاء عند المتكلّم لأنّه أجدى في الغرض المسوق له الكلام ، وهذا الكلام الواقع هنا بعد ( حتّى ) فيه تهويلُ ما يصيبهم عند قبض أرواحهم ، وهو أدخل في تهديدهم وترويعهم وموعظتهم ، من الوعيد المتعارف ، وقد هدّد القرآن المشركين بشدائد الموْت عليهم في آيات كثيرة لأنهم كانوا يرهبونه . والرّسُل هم الملائكة قال تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت } [ السجدة : 11 ] وقال { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } [ الأنفال : 50 ].وجملة : { يتوفونهم } في موضع الحال من { رُسلنا } وهي حال معلِّلة لعاملها ، كقوله : { ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم } [ الأعراف : 61 ، 62 ] أي رسول لأبلّغكم ولأنْصحَ لكم .والتّوفي نزع الرّوح من الجسد ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك } في سورة آل عمران ( 55 ) وهو المراد هنا ، ولا جدوى في حمْلهِ على غير هذا المعنى ، ممّا تردّد فيه المفسّرون ، إلاّ أن المحافظة على معنى الغاية لحرف ( حتى ) فتوفي الرسل يجوز أن يكون المراد منه وقت أن يتوفوهم جميعاً ، إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب الاستئصال ، أي حين تبعث طوائف الملائكة لإهلاك جميع أمّة الشّرك .ويجوز أن يكون المراد حتى يتوفَّون آحادهم في أوقات متفرّقه إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب وعيد العذاب ، وعلى الوجهين فالقول محكي على وجه الجمععِ والمراد منه التّوزيع أي قال كلّ ملَك لمن وُكِّل بتوفّيهِ ، على طريقة : رَكِبَ القومُ دَوَابَّهم . وقد حكي كلام الرّسل معهم وجوابهم إياهم بصيغة الماضي على طريقة المحاورة ، لأنّ وجود ظرف المستقبل قرينة على المراد .والاستفهام في قوله : أين ما كنتم تدعون من دون الله } مستعمل في التّهكّم والتّأييس .و ( مَا ) الواقعة بعد أين موصولة ، يعني : أين آلهتكم التي كنتم تزعمون أنّهم ينفعونكم عند الشّدائد ويردّون عنكم العذاب فإنّهم لم يَحْضُروكم ، وذلك حين يشهدون العذاب عند قبض أوراحهم ، فقد جاء في حديث «الموطّأ» : أنّ الميّت يرى مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنّة فمِنْ أهل الجنّة وإن كان من أهل النّار يقال له هذا مقعدك حتّى يبعثك الله . وهذا خطاب للأرواح التي بها الإدراك وهو قبل فتنة القبر .وقولهم : { ضلّوا عنّا } أي أتلفوا مواقعنا وأضاعونا فلم يحضروا ، وهذا يقتضي أنّهم لَمَّا يعلمُوا أنّهم لا يُغنون عنهم شيئاً من النّفع ، فظنّوا أنّهم أذهبهم ما أذهبهم وأبعدهم عنهم ما أبعدهم ، ولم يعلموا سببه ، لأنّ ذلك إنّما يتبيّن لهم يوم الحشر حين يرون إهانة أصنامهم وتعذيب كبرائهم ، ولذلك لم ينكروا في جوابهم أنّهم كانوا يدعونهم من دون الله بخلاف ما حُكي عنهم في يوم الحشر من قولهم : { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] ولذلك قال هنا : { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } ، وقال في الآخرى : { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } [ الأنعام : 24 ].والشّهادة هنا شهادة ضِمنية لأنّهم لما لم ينفُوا أن يكونوا يدْعُون من دون الله وأجابوا بأنّهم ضلّوا عنهم قد اعترفوا بأنّهم عبدوهم .
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِنْ لَا تَعْلَمُونَ
📘 فأمّا قوله : { قال ادخلوا في أمم } فهذا قول آخر ، ليس هو من المحاورة السّابقة ، لأنّه جاء بصيغة الإفراد ، والأقوالُ قبله مسندة إلى ضمائر الجمع ، فتعيّن أنّ ضمير ( قال ) عائد إلى الله تعالى بقرينة المقام ، لأنّ مثل هذا القول لا يصدر من أحد غير الله تعالى ، فهو استيناف كلام نشأ بمناسبة حكاية حال المشركين حينَ أوّل قدومهم على الحياة الآخرة ، وهي حالة وفاة الواحد منهم فيَكون خطاباً صدر من الله إليهم بواسطة أحد ملائكته ، أو بكلام سمعوه وعلموا أنّه من قِبَل الله تعالى بحيث يوقنون منه أنّهم داخلون إلى النار ، فيكون هذا من أشدّ ما يرون فيه مقعدهم من النّار عقوبة خاصّة بهم . والأمر مستعمل للوعيد فيتأخّر تنجيزه إلى يوم القيامة .ويجوز أن يكون المحكي به ما يصدر من الله تعالى يوم القيامة من حكم عليهم بدخول النّار مع الأمم السّابقة ، فذُكر عقب حكاية حال قبض أرواحهم إكمالاً لذكر حال مصيرهم ، وتخلّصاً إلى وصف ما ينتظرهم من العذاب ولذكر أحوال غيرهم . وأيَّاً مّا كان فالإتيان بفعل القول ، بصيغه الماضي : للتنبيه على تحقيق وقوعه على خلاف مقتضى الظاهر .ويجوز أن تكون جملة : { قال ادخلوا في أمم } في موضع عطف البيان لجملة { ينالهم نصيبهم من الكتاب } أي : قال الله فيما كتبه لهم { ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم }[ الأعراف : 34 ] أي أمثالكم ، والتّعبير بفعل المضي جرَى على مقتضى الظّاهر .والأمم جمع الأمّة بالمعنى الذي تقدّم في قوله : { ولكل أمة أجل }.و ( في ) من قوله : { في أمم } للظّرفية المجازيّة ، وهي كونهم في حالة واحدة وحكممٍ واحد ، سواء دخلوا النّار في وسطهم أم دخلوا قبلهم أو بَعدهم ، وهي بمعنى ( مع ) في تفسير المعنى ، ونقل عن صاحب «الكشاف» أنه نظَّر ( في ) التي في هذه الآية بفي التي في قول عروة بن أذينة :إنْ تَكُنْ عن حسن الصّنيعة مأفُو ... كاً ففي آخرينَ قد أُفِكُواومعنى : { قد خلت } قد مضت وانقرضت قبلكم ، كما في قوله تعالى : { تلك أمة قد خلت } في سورة البقرة ( 134 ) ، يعني : أنّ حالهم كحال الأمم المكذّبين قبلَهم ، وهذا تذكير لهم بما حاق بأولئك الأمم من عذاب الدّنيا كقوله : { وتبين لكم كيف فعلنا بهم } [ إبراهيم : 45 ] وتعريض بالوعيد بأن يحل بهم مثل ذلك ، وتصريح بأنّهم في عذاب النّار سواء .جملة : { كلما دخلت أمة لعنت أختها } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، لوصف أحوالهم في النّار ، وتفظيعها للسّامع ، ليتّعظ أمثالهم ويستبشر المؤمنين بالسّلامة ممّا أصابهم فتكون جملة { حتى إذا اداركوا } داخلة في حيز الاستيناف .ويجوز أن تكون جملة : { كلما دخلت أمة } معترضة بين جملة : { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } وبين جملة : { حتى إذا أداركوا فيها } إلخ . على أن تكون جملة { حتى إذا اداركوا } مرتبطة بجملة { ادخلوا في أمم } بتقدير محذوف تقديره : فيدخلون حتّى إذا اداركوا .و ( ما ) في قوله : { كلّما } ظرفية مصدريّة ، أي كلّ وقت دخول أمّة لعنت أختها . والتّقدير : لعنت كلّ أمّة منهم أختها في كلّ أوقات دخول الأمّة منهم ، فتفيد عموم الأزمنة .و { أمّة } نكرة وقعت في حيز عموم الأزمنة ، فتفيد العموم ، أي كلّ أمة دخلت ، وكذلك : { أختَها } نكرة لأنّه مضاف إلى ضمير نكرة فلا يتعرّف فتفيد العموم أيضاً ، أي كل أمة تدخل تلعن كل أخت لها ، والمراد بأختها المماثِلة لها في الدّين الذي أوجب لها الدّخول في النّار ، كما يقال : هذه الأمّة أخت تلك الأمّة إذا اشتركتا في النّسب ، فيقال : بَكْر وأختها تغلب ، ومنه قول أبي الطبيّب :وكطَسْم وأُخْتِها في البعاد ... يريد : كَطَسم وجَدِيس .والمقام يعيّن جهة الأخوّة ، وسبَبُ اللّعن أنّ كل أمّة إنّما تدخل النّار بعد مناقشة الحساب ، والأمر بإدخالهم النّار ، وإنّما يقع ذلك بعد أن يتبيّن لهم أنّ ما كانوا عليه من الدّين هو ضلال وباطل ، وبذلك تقع في نفوسهم كراهية ما كانوا عليه ، لأنّ النّفوس تكره الضّلال والباطل بعد تبيُّنه ، ولأنّهم رأوا أن عاقبة ذلك كانت مجلبة العقاب لهم فيزدادون بذلك كراهيّة لدينهم ، فإذا دخلوا النّار فرأوا الأمم التي أدخلت النّار قبلهم علموا ، بوجه من وجوه العلم ، أنّهم أُدخلوا النّار بذلك السّبب فلعنوهم لكراهيّة دينهم ومن اتّبعوه .وقيل : المراد بأختها أسلافها الذين أضلّوها .وأفادت { كلّما } لما فيها من معنى التّوقيت : أنّ ذلك اللّعن يقع عند دخول الأمّة النّار ، فيتعيّن إذن أن يكون التّقدير : لعنت أختها السّابقة إياها في الدّخول في النّار ، فالأمّة التي تدخل النّار أوّل مرّة قبل غيرها من الأمم لا تَلْعن أختها ، ويعلم أنّها تلعن من يدخل بعدَها الثّانيةَ ، ومن بعدها بطريق الأوْلى ، أو ترُدّ اللّعن على كلّ أخت لاعنة . والمعنى : كلّما دخلت أمّة منهم بقرينة قوله : { لعنت أختها }.و ( حتّى ) في قوله : { حتى إذا اداركوا } ابتدائيّة ، فهي جملة مستأنفة وقد تقدّم في الآية قبل هذه أن ( حتّى ) الابتدائيّة تفيد معنى التّسبّب ، أي تسبّب مضمون ما قبلها في مضمون ما بعدها ، فيجوز أن تكون مترتِبَة في المعنى على مضمون قوله : { قال أدخلوا في أمم قد خلت } إلخ ، ويجوز أن تكون مترتّبة على مضمون قوله : { كلما دخلت أمة لعنت أختها }.و { اداركوا } أصله تَداركوا فقلبت التّاء دَالا ليتأتى إدغامها في الدّال للتّخفيف ، وسُكنت ليتحقّق معنى الإدغام المتحركين ، لثقل واجتلبت همزة الوصل لأجل الابتداء بالسّاكن ، وهذا قلْب ليس بمتعيّن ، وإنّما هو مستحسن ، وليس هو مثل قلب التّاء في ادّان وازْداد وادّكر : ومعناه : أدرك بعضهم بعضاً ، فصيغ من الإدراك وزن التّفاعل ، والمعنى : تلاحقوا واجتمعوا في النّار . وقوله : { جميعاً } حال من ضمير { اداركوا } لتحقيق استيعاب الاجتماع ، أي حتى إذا اجتمعت أمم الضّلال كلّها .والمراد : ب { أخراهم } : الآخِرة في الرّتبة ، وهم الأتباع والرّعيّة من كلّ أمّة من تلك الأمم ، لأنّ كلّ أمّة في عصر لا تخلو من قادة ورَعاع ، والمراد بالأولى : الأولى في المرتبة والاعتبار ، وهم القادة والمتبوعون من كلّ أمّة أيضاً ، فالأخرى والأولى هنا صفتان جرتا على موصوفَين محذوفين ، أي أخرى الطّوائف لأولاهم ، وقيل : أريد بالأخرى المتأخّرة في الزّمان ، وبالأولى أسلافهم ، لأنّهم يقولون : { إنّا وجدنا آباءنا على أمة } [ الزخرف : 23 ]. وهذا لا يلائم ما يأتي بعده .واللاّم في : { لأولاَهم } لام العلّة ، وليست اللاّم التي يتعدّى بها فعل القَول ، لأنّ قول الطائفة الأخيرة موجَّه إلى الله تعالى ، بصريح قولهم : { ربنا هؤلاء أضلونا } إلخ ، لا إلى الطّائفة الأولى ، فهي كاللاّم في قوله تعالى : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه } [ الأحقاف : 11 ].والضعف بكسر الضّاد المِثْل لمقدار الشّيء ، وهو من الألفاظ الدّالة على معنى نسبي يقتضي وجودَ معنى آخر ، كالزّوج والنِّصف ، ويختص بالمقدار والعدد ، هذا قول أبي عبيدة والزّجاج وأيمّة اللّغة ، وقد يستعمل فعله في مطلق التّكثير وذلك إذا أسند إلى ما لا يدخل تحت المقدار ، مثل العذاب في قوله تعالى : { يُضَاعَفْ له العذاب يوم القيامة } [ الفرقان : 69 ] وقوله { يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ] أراد الكثرة القويّة فقولهم هنا { فآتهم عذاباً ضعفا } أي أعطهم عذاباً هو ضِعف عذاببٍ آخر ، فعُلم أنّه ، آتاهم عذاباً ، وهم سألوا زيادة قوّة فيه تبلغ ما يعادل قوّته ، ولذلك لما وصف بضعف علم أنّه مِثْلٌ لعذاببٍ حصل قبله إذ لا تقول : أكرمت فلان ضِعفاً ، إلاّ إذا كان إكرامك في مقابلة إكراممٍ آخر ، فأنت تزيده ، فهم سألوا لهم مضاعفة العذاب لأنّهم علموا أنّ الضّلال سبب العذاب ، فعلموا أنّ الذين شرعوا الضّلال هم أولى بعقوبة أشدّ من عقوبة الذين تقلّدوه واتبعوهم ، كما قال تعالى في الآية الآخرى :{ يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين } [ سبأ : 31 ].وفعل : { قال } حكاية لجواب الله إياهم عن سُؤالهم مضاعفةَ العذاب لقادتهم ، فلذلك فصل ولم يعطف جريا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات ، والتّنوينُ في قوله : { لكلّ } عوض عن المضاف إليه المحذوف ، والتّقدير : لكلّ أمّة ، أو لكلّ طائفة ضعف ، أي زيادة عذاب مثل العذاب الذي هي معذّبه أولَ الأمر ، فأمّا مضاعفة العذاب للقادة فلأنّهم سنّوا الضّلال أو أيّدوه ونصروه وذبّوا عنه بالتّمويه والمغالطات فأضلوا ، وأمّا مضاعفته للأتباع فلأنَهم ضلّوا بإضلال قادتهم ، ولأنّهم بطاعتهم العمياء لقادتهم ، وشكرهم إياهم على ما يرسمون لهم ، وإعطائِهم إياهم الأموال والرّشى ، يزيدونهم طغياناً وجراءة على الإضلال ويغرّونهم بالازدياد منه .والاستدراك في قوله : { ولكن لا تعلمون } لرفع ما تُوهِمه التّسوية بين القادة والأتباع في مضاعفة العذاب : أنّ التّغليظ على الأتباع بلا موجب ، لأنّهم لولا القادة لما ضلّوا ، والمعنى : أنّكم لا تعلمون الحقائق ولا تشعرون بخفايا المعاني ، فلذلك ظننتم أنّ موجب مضاعفة العذاب لهم دونكم هو أنّهم علّموكم الضّلال ، ولو علمتم حقّ العلم لاطّلعتم على ما كان لطاعتكم إياهم من الأثر في إغرائهم بالازدياد من الإضلال . ومفعول { تعلمون } محذوف دلّ عليه قوله : { لكلٍ ضِعف } ، والتّقدير : لا تعلمون سبب تضعيف العذاب لكلّ من الطّائفتين ، يعني لا تعلمون سبب تضعيفه لكم لظهور أنّهم علموا سبب تضعيفه للذين أضلّوهم .وقرأ الجمهور : { لا تَعلمون } بتاء الخطاب على أنّه من تمام ما خاطب الله به الأمّة الأخرى ، وقرأه أبو بكر عن عاصم بياء الغيبة فيكون بمنزلة التّذييل خطاباً لسامعي القرآن ، أي قال الله لهم ذلك وهم لا يَعلمون أنّ لكلّ ضعفاً فلذلك سألوا التّغليظ على القادة فأجيبوا بأنّ التّغليظ قد سُلّط على الفريقين .
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ
📘 وعُطفتْ جملة : { وقالت أولاهم لأخراهم } على جملة : { قالت آخراهم لأولاهم } لأنّهم لم يَدخلوا في المحاورة ابتداء فلذلك لم تفصل الجملة .والفاء في قولهم : { فما كان لكم علينا من فضل } فاء فصيحة ، مرتبة على قول الله تعالى { لكل ضعف } حيث سوّى بين الطّائفتين في مضاعفة العذاب . و ( مَا ) نافية . و ( مِنْ ) زائدة لتأكيد نفي الفضل ، لأنّ إخبار الله تعالى بقوله : { لكل ضعف } لاوقوله : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } يجوز أن يكون من كلام أولاهم : عَطَفوا قولهم : { ذوقوا العذاب } على قولهم : { فما كان لكم علينا من فضل } بفاء العطف الدّالة على التّرتب .فالتشفي منهم فيما نالهم من عذاب الضّعف ترتَّب على تحقّق انتفاء الفضل بينهم في تضعيف العذاب الذي أفصح عنه إخبار الله بأنّ لهم عذاباً ضعفاً .وصيغة الأمر في قولهم : { فذوقوا } مستعملة في الإهانة والتشفّي .والذّوق استُعمل مجازاً مرسلاً في الإحساس بحاسّة اللّمس ، وقد تقدّم نظائره غير مرّة .والباء سببيّة ، أي بسبب ما كنتم تكسبون ممّا أوجب لكم مضاعفة العذاب ، وعبّر بالكسب دون الكفر لأنّه أشمل لأحوالهم ، لأنّ إضلالهم لأعقابهم كان بالكفر وبحبّ الفخر والاغرَاب بما علّموهم وَمَا سَنْوا لهم ، فشمل ذلك كلَّه أنّه كسب .يجوز أن يكون قوله : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } من كلام الله تعالى ، مخاطباً به كلا الفريقين ، فيكون عطفاً على قوله : { لكل ضعف ولكن لا تعلمون } ويكون قوله : { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين ، وعلى اعتباره يكون الأمر في قوله : { فذوقوا } للتكوين والإهانة .وفيما قصّ الله من محاورة قادة الأمم وأتباعهم ما فيه موعظة وتحذير لقادة المسلمين من الإيقاع بأتباعهم فيما يَزِجّ بهم في الضّلالة ، ويحسِّن لهم هواهم ، وموعظة لعامتهم من الاسترسال في تأييد من يشايع هواهم ، ولا يبلغهم النّصيحة ، وفي الحديث : « كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته » .
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ
📘 عطف على جملة : { ولا تتّبعوا } [ الأعراف : 3 ] وهذا الخبر مستعمل في التّهديد للمشركين الذين وجه إليهم التّعريض في الآية الأولى والذين قصدوا من العموم . وقد ثلث هنا بتمحيض التّوجيه إليهم .وإنّما خُصّ بالذّكر إهلاك القرى ، دون ذكر الأمم كما في قوله : { فأمّا ثمود فأهلكوا بالطّاغية وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية } [ الحاقة : 5 ، 6 ] ، لأنّ المواجهين بالتّعريض هم أهل مكّة وهي أمّ القرى ، فناسب أن يكون تهديد أهلها بما أصاب القرى وأهلها ولأنّ تعليق فعل { أهلكنا } بالقرية دون أهلها لقصد الإحاطة والشّمول ، فهو مغن عن أدوات الشّمول ، فالسّامع يعلم أنّ المراد من القرية أهلها لأنّ العبرة والموعظة إنّما هي بما حصل لأهل القرية ، ونظيرها قوله تعالى : { واسأل القرية التي كنا فيها } [ يوسف : 82 ] ونظيرهما معاً قوله : { ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون } [ الأنبياء : 6 ] ، فكلّ هذا من الإيجاز البديع ، والمعنى على تقدير المضاف ، وهو تقدير معنى .وأجرى الضّميران في قوله : { أهلكناها فجاءها بأسنا } على الإفراد والتّأنيث مراعاة للفظ قرية ، ليحصل التماثل بين لفظ المعاد ولفظ ضميره في كلام متّصللِ القرب ، ثمّ أجريت ضمائر القرية على صيغة الجمع في الجملة المفرعة عن الأولى في قوله : { أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم } إلخ لحصول الفصل بين الضّمير ولفظ معاده بجملة فيها ضمير معاده غير لفظ القرية ، وهو { بأسنا بياتاً } لأنّ ( بياتاً ) متحمّل لضمير البأس ، أي مبيِّتاً لهم ، وانتقل منه إلى ضمير القرية باعتبار أهلها فقال : { أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم }. و ( كم ) اسم حال على عدد كثير وهو هنا خبر عن الكثرة وتقدّم في أوّل سورة الأنعام .والإهلاك : الإفناء والاستئصال . وفعل { أهلكناها } يجوز أن يكون مستعملاً في معنى الإرادة بحصول مدلوله ويجوز أن يكون مستعملاً في ظاهر معناه .والفاء في قوله : { فجاءها بأسنا } عاطفة جملة : { فجاءها بأسنا } على جملة : { أهلكناها } ، وأصل العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه ، ولما كان مجيء البأس حاصلاً مع حصول الإهلاك أو قبلَه ، إذ هو سبب الإهلاك ، عسر على جمع من المسفّرين معنى موقع الفاء هنا ، حتّى قال الفرّاء إنّ الفاء لا تفيد التّرتيب مطلقاً ، وعنه أيضاً إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدّمت أيّهما شئت مثل شتمني فأساء وأساء فشتمني . وعن بعضهم أنّ الكلام جرى على طريقة القلب ، والأصل : جاءها بأسنا فأهلكناها ، وهو قلب خلي عن النّكتة فهو مردود ، والذي فسّر به الجمهور : أنّ فعل ( أهلكناها ) مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشّيطان الرّجيم } [ النحل : 98 ] وقوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية أي فإذا أردت القراءة ، وإذا أردتم القيام إلى الصّلاة ، واستعمال الفعل في معنى إرادة وقوع معناه من المجاز المرسل عند السكاكي قال : ومن أمثلة المجاز قوله تعالى :{ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] استعمل { قرأت } مكان أردت القراءة لكون القراءة مسبّبة عن إرادتها استعمالاً مجازياً بقرينة الفاء في { فاستعذ بالله } ، وقولُه : { وكم من قرية أهلكناها } في موضع أردنا إهلاكها بقرينة { فجاءها بأسنا } والبأس الإهلاك .والتّعبير عن إرادة الفعل بذكر الصّيغة التي تدلّ على وقوع الفعل يكون لإفادة عزم الفاعل على الفعل ، عزماً لا يتأخّر عنه العمل ، بحيث يستعار اللّفظ الدّال على حصول المراد ، للإرادة لتشابههما ، وإمّا الإتيان بحرف التّعقيب بعد ذلك فللدّلالة على عدم التّريّث ، فدلّ الكلام كلّه : على أنّه تعالى يريد فيخلق أسباب الفعل المراد فيحصل الفعل ، كلّ ذلك يحصل كالأشياء المتقارنة ، وقد استفيد هذا التّقارن بالتّعبير عن الإرادة بصيغة تقتضي وقوع الفعل ، والتّعبير عن حصول السّبب بحرف التّعقيب ، والغرض من ذلك تهديد السّامعين المعاندين وتحذيرهم من أن يحلّ غضب الله عليهم فيريد إهلاكهم ، فضيَّقَ عليهم المهلّة لئلا يتباطأوا في تدارك أمرهم والتّعجيل بالتّوبة . والذي عليه المحققون أنّ التّرتيب في فاء العطف قد يكون التّرتيبَ الذكريّ ، أي ترتيب الإخبار بشيء عن الإخبار بالمعطوف عليه . ففي الآية أخبر عن كيفيّة إهلاكهم بعد الخبر بالإهلاك ، وهذا التّرتيب هو في الغالب تفصيل بعد إجمال ، فيكون من عطف المفصّل على المجمل ، وبذلك سمّاه ابن مالك في «التّسهيل» ، ومثَّل له بقوله تعالى : { إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عُرباً } [ الواقعة : 35 ، 37 ] الآية . ومنه قوله تعالى : { ادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين } [ الزمر : 72 ] أو قوله { فأزلهما الشّيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه } [ البقرة : 36 ] لأنّ الإزلال عن الجنّة فُصل بأنّه الإخراج ، وقوله تعالى : { كذّبت قبلهم قوم نوح فكذّبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر } [ القمر : 54 ] وهذا من أساليب الإطناب وقَد يغفل عنه .والبأس ما يحصل به الألم ، وأكثر إطلاقه على شدّة الحساب ولذلك سمّيت الحرب البأساء ، وقد مضى عند قوله تعالى : { والصّابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس } في سورة البقرة ( 177 ) ، والمراد به هنا عذاب الدّنيا .واستعير المجيء لحدوث الشّيء وحصوله بعد أن لم يكن تشبيهاً لحُلول الشّيء بوصول القادم من مكان إلى مكان بتنقُّل خطواته ، وقد تقدّم نظير هذا في قوله تعالى : فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا في سورة الأنعام ( 43 ).والبيات مصدر بَات ، وهو هنا منصوب على الحال من البأس ، أي جاءهم البأس مبَيِّتا لهم ، أي جاءهم ليلاً ، ويطلق البيات على ضرب من الغارة تقع ليلاً ، فإذا كان المراد من البأس الاستعارة لشدّة الحرب كما المراد من البيات حالة من حال الحرب ، هي أشدّ على المغزوّ ، فكان ترشيحاً للاستعارة التّمثيليّة ، ويجوز أن يكون بياتاً } منصوباً على النّيابة عن ظرف الزّمان أي في وقت البيات .وجملة { هم قائلون } حال أيضاً لعطفها على { بياتاً } بأو ، وقد كفى هذا الحرفُ العاطف عن ربط جملة الحال بواو الحال ، ولولا العطف لكان تجرد مثل هذه الجملة عن الواو غير حسَن ، كما قال في «الكشاف» ، وهو متابع لعبد القاهر .وأقول : إنّ جملة الحال ، إذا كانت جملة اسميّة ، فإمّا أن تكون منحلّة إلى مفردين : أحدهما وصف صاحب الحال ، فهذه تَجَرّدُها عن الواو قبيح ، كما صرّح به عبد القاهر وحقّقه التفتزاني في «المطوّل» ، لأنّ فصيح الكلام أن يجاء بالحال مفردة إذ لا داعي للجملة ، نحو جاءني زيد هو فارس ، إذ يغني أن تقول : فارساً .وأمّا إذا كانت الجملة اسميّة فيها زيادة على وصف صاحب الحال ، وفيها ضمير صاحب الحال ، فخلوها عن الواو حسن نحو قوله تعالى : { قلنا اهبطوا منها جميعاً بعضكم لبعض عدوّ } [ طه : 123 ] فإنّ هذه حالة لكلا الفريقين ، وهذا التّحقيق هو الذي يظهر به الفرق بين قوله : { بعضكم لبعض عدوّ } [ طه : 123 ] وقولهم ، في المثال : جاءني زيد هو فارس ، وهو خير ممّا أجاب به الطيبي وما ساقه من عبارة «المفتاح» وعبارة ابن الحاجب فتأمّله . وعُلّل حذف واو الحال بدفع استثقال توالي حرفين من نوع واحد .و ( أو ) لِتقسيم القُرى المهلَكة : إلى مهلكة في اللّيل ، ومهلّكة في النّهار ، والمقصود من هذا التّقسيم تهديد أهل مكّة حتّى يكونوا على وجل في كلّ وقت لا يدرون متى يحلّ بهم العذاب ، بحيث لا يأمنون في وقت مَّا .ومعنى : { قائلون } كائنون في وقت القيلولة ، وهي القائلة ، وهي اسم للوقت المبتدىء من نصف النّهار المنتهي بالعصر ، وفعله : قال يقيل فهو قائل ، والمقيل الرّاحة في ذلك الوقت ، ويطلق المقيل على القائلة أيضاً .وخصّ هذان الوقتان من بين أوقات اللّيل والنّهار : لأنّهما اللّذان يطلب فيهما النّاس الرّاحة والدعة ، فوقوع العذاب فيهما أشدّ على النّاس ، ولأنّ التّذكير بالعذاب فيهما ينغص على المكذّبين تخيَّل نعيمَ الوقتين .والمعنى : وكم من أهللِ قرية مشركين أهلكناهم جزاء على شركهم ، فكونوا يا معشر أهل مكّة على حذر أن نصيبكم مثل ما أصابهم فإنّكم وإياهم سواء .
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ
📘 استئناف ابتدائي مسوق لتحقيق خلود الفريقين في النّار ، الواقععِ في قوله : { والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ الأعراف : 36 ] فأخبر الله بأنّه حرمهم أسباب النّجاة ، فَسَدّ عليهم أبواب الخير والصّلاح ، وبأنّه حرّمهم من دخول الجنّة .وأكّد الخبر ب { إنّ } لتأييسهم من دخول الجنّة ، لدفع توهّم أن يكون المراد من الخلود المتقدّم ذكرُه الكنايةَ عن طول مدّة البقاء في النّار فإنّه ورد في مواضع كثيرة مراداً به هذا المعنى .ووقع الإظهار في مقام الإضمار لدفع احتمال أن يكون الضّمير عائداً إلى إحدى الطّائفتين المتحاورتين في النّار ، واختير من طرق الإظهار طريق التّعريف بالموصول إيذاناً بما تومىء إليه الصّلة من وجه بناءِ الخبر ، أي : إنّ ذلك لأجل تكذيبهم بآيات الله واستكبارهم عنها ، كما تقدّم في نظيرها السّابق آنفاً .والسّماءُ أطلقت في القرآن على معاننٍ ، والأكثر أن يراد بها العوالم العليا غير الأرضيّة ، فالسّماء مجموع العوالم العليا وهي مَراتب وفيها عوالم القُدس الإلهيّةُ من الملائكة والرّوحانيات الصّالحة النّافعة ، ومصدرُ إفاضة الخيرات الرّوحيّة والجثمانيّة على العالم الأرضي ، ومصدَرُ المقادير المقدّرة قال تعالى : { وفي السماء رزقكم وما توعدون } [ الذاريات : 22 ] ، فالسّماء هنا مراد بها عالم القدس .وأبوابُ السّماء أسبابُ أمور عظيمة أطلق عليها اسم الأبواب لتقريب حقائقها إلى الأذهان فمنها قبول الأعمال ، ومسالكُ وصول الأمور الخيّريّة الصّادرة من أهل الأرض ، وطرق قبولها ، وهو تمثيل لأسباب التّزكية ، قال تعالى : { والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر : 10 ] ، وما يعلم حقائقها بالتّفصيل إلاّ الله تعالى ، لأنّها محجوبة عنّا ، فكما أنّ العفاة والشّفعاء إذا وَرَدُوا المكان قد يُقبلون ويُرضى عنهم فتُفْتَح لهم أبواب القصور والقباب ويُدخلون مُكرّمين ، وقد يردّون ويُسخطون فتوصد في وجوههم الأبوابُ ، مُثِّل إقصاء المكذّبين المستكبرين وعدمُ الرّضا عنهم في سائر الأحوال ، بحال من لا تفتَح له أبواب المنازل ، وأضيفت الأبواب إلى السّماء ليظهر أنّ هذا تمثيل لحرمانهم من وسائل الخيرات الإلهيّة الروحية ، فيشمل ذلك عدم استجابة الدّعاء ، وعدم قبول الأعمال والعبادات ، وحرمان أرواحهم بعد الموت مشاهدة مناظر الجنّة ومقاعد المؤمنين منها ، فقوله : { لا نفتح لهم أبواب السماء } كلمة جامعة لمعنى الحرمان من الخيرات الإلهيّة المحضة ، وإن كانوا ينالون من نِعم الله الجثمانية ما يناله غيرهم ، فيغاثون بالمَطَر ، ويأتيهم الرّزق من الله ، وهذا بيان لحال خذلانهم في الدّنيا الحائل بينهم وبين وسائل دخول الجنّة . كما قال النّبي صلى الله عليه وسلم « كلّ ميسَّر لِمّا خُلِق له » وقال تعالى : { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } [ الليل : 5 10 ].وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوبُ : { لا تُفَتَّح } بضمّ التّاء الأولى وفتح الفاء والتّاءِ الثّانية مشدّدة وهو مبالغة في فَتح ، فيفيد تحقيق نفي الفتح لهم ، أو أشير بتلك المبالغة إلى أن المنفي فتح مخصوص وهو الفتح الذي يفتح للمؤمنين ، وهو فتح قوي ، فتكون تلك الإشارة زيادة في نكايتهم .وقرأ أبو عَمرو بضمّ التّاء الأولى وسكون الفاء وفتح التّاء الثّانية مخفّفة . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلَف { لا يُفتَحُ } بمثنّاة تحتيّة في أوّله مع تخفيف المثنّاة الفوقيه مفتوحة على اعتبار تذكير الفعل لأجل كون الفاعل جمعاً لمذكّر .وقوله : { ولا يدخلون الجنّة } اخبار عن حالهم في الآخرة وتحقيق لخلودهم في النّار .وبعد أن حُقّق ذلك بتأكيد الخبر كلّه بحرف التّوكيد ، زيد تأكيداً بطريق تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه ، المشتهرِ عند أهل البيان بتأكيد المدح بما يُشْبه الذّم ، وذلك بقوله تعالى : { حتى يلج الجمل في سم الخياط } فقد جعل لانتفاء دخولهم الجنّة امتداداً مستمراً ، إذْ جعل غايته شيئاً مستحيلاً ، وهو أن يَلج الجمل في سَمّ الخياط ، أي لو كانت لانتفاء دخولهم الجنّة غايةٌ لكانت غايتُه ولوجَ الجْمل وهو البعير في سَمّ الخِياط ، وهو أمر لا يكون أبداً .والجَمَل : البعير المعروف للعرب ، ضُرب به المثل لأنّه أشهر الأجسام في الضّخامة في عرف العرب . والخِياط هو المِخْيَط بكسر الميم وهو آلة الخياطة المسمّى بالإبْرَة ، والفِعال وَرَدَ اسماً مرادفاً للمِفعَل في الدّلالة على آلةِ الشّيء كقولهم حِزَام ومِحْزم ، وإزار ومِئْزر ، ولِحاف ومِلحَف ، وقِناع ومِقنع .والسَمّ : الخَرْت الذي في الإبرة يُدخل فيه خيط الخائط ، وهو ثقب ضيّق ، وهو بفتح السّين في الآية بلغة قريش وتضمّ السّين في لغة أهل العالية . وهي ما بين نجد وبين حدود أرض مكّة .والقرآن أحال على ما هو معروف عند النّاس من حقيقة الجَمل وحقيقة الخِياط ، ليعلم أنّ دخول الجمل في خَرْت الإبرة محال متعذّر ما داما على حاليهما المتعارفين .والإشارة في قوله : { وكذلك } إشارة إلى عدم تفتّح أبواب السّماء الذي تضمّنه قوله : { لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة } أي ، ومثل ذلك الانتفاء ، أي الحرمان نجزي المجرمين لأنّهم بإجرامهم ، الذي هو التّكذيب والإعراض ، جعلوا أنفسهم غير مكترثين بوسائل الخير والنّجاة ، فلم يتوخّوها ولا تطلبوها ، فلذلك جزاهم الله عن استكبارهم أن أعرض عنهم ، وسدّ عليهم أبواب الخيرات .وجملة { وكذلك نجزي المجرمين } تذييل يؤذن بأنّ الإجرام هو الذي أوقعهم في ذلك الجزاء ، فهم قد دخلوا في عموم المجرمين الذين يجْزون بمثل ذلك الجزاء ، وهم المقصود الأوّل منهم ، لأنّ عقاب المجرمين قد شُبّه بعقاب هؤلاء ، فعلم أنّهم مجرمون ، وأنّهم في الرّعيل الأوّل من المجرمين ، حتّى شُبِّه عقاب عموم المجرمين بعقاب هؤلاء وكانوا مثَلا لذلك العموم .والإجرام : فعل الجُرْم بضمّ الجيم وهو الذنْب ، وأصل : أجرم صار ذا جُرم ، كما يقال : ألْبَنَ وأتمر وأخْصَب .
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ
📘 والمِهاد بكسر الميم ما يُمْهَد أي يفرش ، و«غواش» جمع غاشية وهي مَا يغشى الإنسانَ ، أي يغطّيه كاللّحاف ، شبّه ما هو تحتهم من النّار بالمِهاد ، وما هو فوقهم منها بالغواشي ، وذلك كناية عن انتفاء الرّاحة لهم في جهنّم ، فإنّ المرء يحتاج إلى المهاد والغاشية عند اضطجاعه للرّاحة ، فإذا كان مهادهم وغاشيتهم النّار . فقد انتفت راحتهم ، وهذا ذِكر لعذابهم السّوء بعد أن ذكر حِرمانهم من الخير .وقوله : { غَواش } وصف لمقدّر دلّ عليه قوله : { من جهنّم } ، أي ومن فوقهم نيران كالغواشي . وذّيله بقوله : { وكذلك نَجزي الظالمين } ليدلّ على أن سبب ذلك الجزاء بالعقاب : هو الظلمُ . وهو الشّرك . ولمّا كان جزاء الظّالمين قد شبّه بجزاء الذين كذّبوا بالآيات واستكبروا عنها ، علم أنّ هؤلاء المكذّبين من جملة الظّالمين . وهم المقصود الأوّل من هذا التّشبيه ، بحيث صاروا مثلاً لعموم الظالمين ، وبهذين العمومين كان الجملتان تذييلين .وليس في هذه الجملة الثّانية وضع الظّاهر موضع المضمر : لأنّ الوصفين ، وإن كانا صادقين معاً على المكذّبين المشبَّهِ عقابُ أصحاب الوصفين بعقابهم . فوصف المجرمين أعمّ مفهوماً من وصف الظّالمين ، لأنّ الإجرام يشمل التّعطيل والمجوسيّة بخلاف الإشراك . وحقيقة وضع المظهر موقع المضمر إنّما تتقوّم حيث لا يكون للاسم الظّاهر المذكور معنى زائد على معنى الضّمير .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
📘 أُعقب الإنذار والوعيد للمكذّبين ، بالبشارة والوعد للمؤمنين المصدّقين على عادة القرآن في تعقيب أحد الغرضين بالآخر .وعُطف على : { الذين كذبوا بآياتنا } [ الأعراف : 40 ] أي : وإنّ الذين آمنوا وعملوا الصّالحات إلخ ، لأنّ بين مضمون الجملتين مناسبة متوسّطة بين كمال الاتّصال وكمال الانقطاع ، وهو التّضاد بين وصف المسندِ إليهما في الجملتين ، وهو التّكذيب بالآيات والإيمانُ بها ، وبين حكم المسنَدَيْن وهو العذابُ والنّعيم ، وهذا من قبيل الجامع الوهمي المذكور في أحكام الفصل والوصل من عِلم المعاني .ولم يذكر متعلِّقٌ ل { آمنوا } لأنّ الإيمان صار كاللّقب للإيمان الخاص الذي جاء به دين الإسلام وهو الإيمان بالله وحده .واسم الإشارة مبتدأ ثان ، و { أصحاب الجنّة } خبره والجملة خبر عن { الذين آمنوا }. وجملة { لا نكلف نفساً إلا وسعها } معترضة بين المسند إليه والمسند على طريقة الإدماج . وفائدة هذا الإدماج الارتفاق بالمؤمنين ، لأنّه لمّا بشّرهم بالجنّة على فعل الصّالحات أطْمن قلوبهم بأن لا يُطلبوا من الأعمال الصّالحة بما يخرج عن الطّاقة ، حتّى إذا لم يبلغوا إليه أيسوا من الجنّة ، بل إنّما يُطلبون منها بما في وسعهم ، فإنّ ذلك يرضي ربّهم .وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، أنّه قال ، في هذه الآية ، إلاّ يُسرها لا عُسْرها أي قاله على وجه التّفسير لا أنّه قراءة .والوُسْع تقدّم في قوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } في سورة البقرة ( 286 ).ودلّ قوله : أولئك أصحاب الجنة } على قصر ملازمة الجنّة عليهم ، دون غيرهم ، ففيه تأييس آخر للمشركين بحيث قويت نصيّة حرمانهم من الجنّة ونعيمها ، وجملة : { هم فيها خالدون } حال من اسم الإشارة في قوله : { أولئك أصحاب الجنة }.
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
📘 انتساق النّظم يقتضي أن تكون جملة : { تجري من تحتهم الأنهار } حالاً من الضّمير في قوله : { هم فيها خالدون } [ الأعراف : 42 ] ، وتكونَ جملة : { ونزعنا } مُعترضة بين جملة : { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } [ الأعراف : 42 ] ، وجملة : { وقالوا الحمد لله } إلخ ، اعترضاً بُيِّنَ به حال نفوسهم في المعاملة في الجنّة ، ليقابِل الاعتراض الذي أُدمِج في أثناءِ وصف عذاب أهل النّار ، والمبيّن به حال نفوسهم في المعاملة بقوله : { كلما دخلت أمة لعنت أختها } [ الأعراف : 38 ].والتّعبير عن المستقبل بلفظ الماضي للتّنبيه على تحقّق وقوعه ، أي : وننزع ما في صدورهم من غِل ، وهو تعبير معروف في القرآن كقوله تعالى : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ].والنّزْع حقيقته قلع الشّيء من موضعه وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وتنزع الملك ممن تشاء } في آل عمران ( 26 ) ، ونَزْع الغِل من قلوب أهل الجنّة : هو إزالة ما كان في قلوبهم في الدّنيا من الغِلّ عند تلقي ما يسوء من الغَيْر ، بحيث طَهّر الله نفوسهم في حياتها الثّانية عن الانفعال بالخواطر الشرّية التي منها الغِلّ ، فزال ما كان في قلوبهم من غِلّ بعضهم من بعض في الدّنيا ، أي أزال ما كان حاصلاً من غلّ وأزال طباع الغلّ التي في النّفوس البشريّة بحيث لا يخطر في نفوسهم .والغِلّ : الحقد والإحْنَة والضِغْن ، التي تحصل في النّفس عند إدراك ما يسوؤها من عمل غيرها ، وليس الحسد من الغِلّ بل هو إحساس باطني آخر .وجملة : تجري من تحتهم الأنهار } في موضع الحال ، أي هم في أمكنة عالية تشرف على أنهار الجنّة .وجملة : { وقالوا الحمد لله } معطوفة على جملة : { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } [ الأعراف : 42 ].والتّعبير بالماضي مراد به المستقبل أيضاً كما في قوله : { ونزعنا } وهذا القول يحتمل أن يكونوا يقولونه في خاصتهم ونفوسهم ، على معنى التّقرب إلى الله بحمده ، ويحتمل أن يكونوا يقولونه بينهم في مجامعهم .والإشارة في قولهم : { لهذا } إلى جميع ما هو حاضر من النّعيم في وقت ذلك الحمد ، والهداية له هي الإرشاد إلى أسبابه ، وهي الإيمان والعمل الصّالح ، كما دلّ عليه قوله : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الأعراف : 42 ] ، وقال تعالى : { يهديهم ربهم بإيمانهم } [ يونس : 9 ] الآية ، وجعل الهداية لنفس النّعيم لأنّ الدّلالة على ما يوصل إلى الشّيء إنّما هي هداية لأجل ذلك الشّيء ، وتقدّم الكلام على فعل الهداية وتعديته في سورة الفاتحة ( 6 ).والمراد بهَدْي الله تعالى إياهم إرساله محمّداً صلى الله عليه وسلم إليهم فأيقظهم من غفلتهم فاتَّبعوه ، ولم يعاندوا ، ولم يستكبروا ، ودلّ عليه قولهم : { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } مع ما يسّر الله لهم من قبولهم الدّعوة وامتثالهم الأمر ، فإنّه من تمام المنّة المحمود عليها ، وهذا التّيسير هو الذي حُرّمه المكذّبون المستكبرون لأجل ابتدائهم بالتّكذيب والاستكبار ، دون النّر والاعتبار .وجملة { وما كنا لنهتدي } في موضع الحال من الضّمير المنصوب ، أي هدانا في هذه الحال حال بعدنا عن الاهتداء ، وذلك ممّا يؤذن بكبر منّة الله تعالى عليهم ، وبتعظيم حمدهم وتجزيله ، ولذلك جاءوا بجملة الحمد مشتملة على أقصى ما تشتمل عليه من الخصائص التي تقدّم بيانها في سورة الفاتحة ( 6 ).ودلّ قوله : { وما كنا لنهتدي } على بعد حالهم السّالفة عن الاهتداء ، كما أفاده نفي الكَون مع لام الجحود ، حسبما تقدّم عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة } الآية في سورة آل عمران ( 79 ) ، فإنّهم كانوا منغمسين في ضلالات قديمة قد رسخت في أنفسهم ، فأمّا قادتهم فقد زيّنها الشّيطان لهم حتى اعتقدوها وسنّوها لمن بعدهم ، وأمّا دَهْمَاؤُهم وأخلافهم فقد رأوا قدوتهم على تلك الضّلالات . وتأصّلت فيهم ، فما كان من السّهل اهتداؤُهم ، لولا أنْ هداهم الله ببعثة الرّسل وسياستهم في دعوتهم ، وأن قذف في قلوبهم قبول الدّعوة .ولذلك عقبوا تحميدهم وثناءهم على الله بقولهم : لقد جاءت رسل ربنا بالحقّ } فتلك جملة مستأنفة ، استئنافاً ابتدائياً ، لصدورها عن ابتهاج نفوسهم واغتباطهم بما جاءتهم به الرّسل ، فجعلوا يتذكّرون أسباب هدايتهم ويعتبرون بذلك ويغتبطون . تلذذاً بالتّكلّم به ، لأن تذكّر الأمر المحبوب والحديثَ عنه ممّا تلذّ به النّفوس ، مع قصد الثّناء على الرّسل .وتأكيد الفعل بلام القسم وبقَدْ ، مع أنهم غير منكرين لمجيء الرسل : إما لأنّه كناية عن الإعجاب بمطابقة ما وعدهم به الرّسل من النّعيم لما وجدوه مثل قوله تعالى : { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } [ الزخرف : 71 ] وقول النّبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : « أعددت » . وإمّا لأنّهم أرادوا بقولهم هذا الثّناء على الرّسل والشّهادة بصدقهم جمعاً مع الثّناء على الله ، فأتَوا بالخبر في صورة الشّهادة المؤكّدة التي لا تردّد فيها .وقرأ ابن عامر : { ما كنّا لنهتدي } بدون واو قبل ( ما ) وكذلك كتبت في المصحف الإمام الموجّه إلى الشّام ، وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملة مفصولة عن التي قبلها ، على اعتبار كونها كالتّعليل للحمد ، والتّنويه بأنّه حمد عظيم على نعمة عظيمة ، كما تقدّم بيانه .وجملة : { ونودوا } معطوفة على جملة : { وقالوا } فتكون حالاً أيضاً ، لأنّ هذا النّداء جواب لثنائهم ، يدلّ على قبول ما أثْنَوا به ، وعلى رضى الله عنهم ، والنّداء من قبل الله ، ولذلك بُني فعله إلى المجهول لظهور المقصود . والنّداء إعلان الخطاب ، وهو أصل حقيقته في اللّغة ، ويطلق النّداء غالباً على دعاء أحد ليقبل بذاته أو بفهمه لسماع كلام ، ولو لم يكن برفع صوت : { إذ نادى ربَّه نداء خفياً } [ مريم : 3 ] ولهذا المعنى حروف خاصة تدلّ عليه في العربيّه ، وتقدّم عند قوله تعالى : { وناداهما ربهما } في هذه السّورة ( 22 ).و ( أنْ ) تفسير { لنودوا } ، لأنّ النّداء فيه معنى القول . والإشارة إلى الجنّة ب { تلكم } ، الذي حقّه أن يستعمل في المشار إليه البعيد ، مع أنّ الجنّة حاضرة بين يديهم ، لقصد رفعة شأنها وتعظيم المنّة بها .والإرث حقيقته مصير مال الميت إلى أقرب النّاس إليه ، ويقال : أورثَ الميّت أقرباءه ماله ، بمعنى جعلهم يرثونه عنه ، لأنّه لما لم يصرفه عنهم بالوصيّة لغيره فقد تركه لهم ، ويطلق مجازاً على مصير شيء إلى حد بدون عوض ولا غصب تشبيهاً بإرث الميّت ، فمعنى قوله : { أورثتموها } أعطيتموها عطيّة هنيئة لا تعب فيها ولا منازعة .والباء في قوله : { بما كنتم تعملون } سببيّة أي بسبب أعمالكم ، وهي الإيمان والعمل الصّالح ، وهذا الكلام ثناء عليهم بأنّ الله شكر لهم أعمالهم ، فأعطاهم هذا النّعيم الخالد لأجل أعمالهم ، وأنّهم لما عملوا ما عملوه من العمل ما كانوا ينوون بعملهم إلا السّلامة من غضب ربّهم وتطلبَ مرضاته شكراً له على نعمائه ، وما كانوا يمُتون بأن توصلهم أعمالهم إلى ما نالوه ، وذلك لا ينافي الطّمع في ثوابه والنّجاة من عقابه ، وقد دلّ على ذلك الجمعُ بين { أورثتموها } وبين باء السّببيّة .فالإيراث دلّ على أنّها عطيّة بدون قصد تعاوُضضٍ ولا تعاقُد ، وأنّها فضلٌ محض من الله تعالى ، لأنّ إيمان العبد بربّه وطاعته إياه لا يوجب عقلاً ولا عدْلاً إلاّ نجاتَه من العقاب الذي من شأنه أن يترتّب على الكفران والعصيان ، وإلاّ حُصولَ رضى ربّه عنه ، ولا يوجب جزاء ولا عطاء ، لأنّ شكر المنعم واجب ، فهذا الجزاء وعظمته مجرّد فضل من الرّب على عبده شكراً لإيمانه به وطاعته ، ولكن لما كان سبب هذا الشّكر عند الرّب الشّاكر هو عمل عبده بما أمره به ، وقد تفضّل الله به فوعد به من قبللِ حصوله . فمن العجب قول المعتزلة بوجوب الثّواب عقلاً ، ولعلّهم أوقعهم فيه اشتباه حصول الثّواب بالسّلامة من العقاب ، مع أنّ الواسطة بين الحالين بيّنة لأولي الألباب . وهذا أحسن ممّا يطيل به أصحابنا معهم في الجواب .وباء السّببيّة اقتضت الذي أعطاهم منازل الجنّة أراد به شكر أعمالهم وثوابها من غير قصد تعاوض ولا تقابل فجعلها كالشيء الذي استحقّه العامل عوضاً عن عمله فاستعار لها باء السّببيّة .
وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ۖ قَالُوا نَعَمْ ۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
📘 جملة : { ونادى أصحاب الجنّة } يجوز أن تكون معطوفة على جملة { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } [ الأعراف : 43 ] إلخ ، عطفَ القول على القول ، إذْ حكي قولهم المنبيءُ عن بهجتهم بما هم فيه من النّعيم ، ثمّ حكي ما يقولونه لأهل النّار حينما يشاهدونهم .ويجوز أن تكون معطوفة على جملة { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } [ الأعراف : 43 ] عطف القصّة على القصّة بمناسبة الانتقال من ذكر نداء من قبل الله إلى ذكر مناداة أهل الآخرة بعضِهم بعضاً ، فعلى الوجهين يكون التعبير عنهم بأصحاب الجنّة دون ضميرهم توطئة لذكر نداء أصحاب الأعراف ونداء أصحاب النّار ، ليعبَّر عن كلّ فريق بعنوانه وليكون منه محسن الطباق في مقابلته بقوله : { أصحاب النار }.وهذا النّداء خطاب من أصحاب الجنّة ، عبّر عنه بالنّداء كناية عن بلوغه إلى أسماع أصحاب النّار من مسافة سحيقة البُعد ، فإن سعة الجنّة وسعة النّار تقتضيان ذلك لا سيما قوله : { وبينهما حجاب } [ الأعراف : 46 ] ، ووسيلة بلوغ هذا الخطاب من الجنّة إلى أصحاب النّار وسيلة عجيبة غير متعارفة . وعلم الله وقدرتُه لا حدّ لمتعلّقاتهما .و ( أنّ ) في قوله : { أن قد وجدنا } تفسيرية للنّداء . والخبر الذي هو قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } مستعمل في لازم معناه وهو الاغتباط بحالهم ، وتنغيص أعدائهم بعلمهم برفاهيّة حالهم ، والتوركُ على الأعداء إذ كانوا يحسبونهم قد ضلّوا حين فارقوا دين آبائهم ، وأنّهم حَرموا أنفسهم طيّبات الدّنيا بالانكفاف عن المعاصي ، وهذه معاننٍ متعدّدة كلّها من لوازم الإخبار ، والمعاني الكنائيّة لا يمتنع تعدّدها لأنّها تبع للّوازممِ العقليّة ، وهذه الكناية جمع فيها بين المعنى الصّريح والمعاني الكنائيّة ، ولكنّ المعاني الكنائيّة هي المقصودة إذ ليس القصد أن يَعلم أهل النّار بما حصل لأهل الجنّة ولكن القصد ما يلزم عن ذلك . وأمّا المعاني الصّريحة فمدلولة بالأصالة عند عدم القرينة المانعة .والاستفهام في جملة : { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } مستعمل مجازاً مرسلاً بعلاقة اللّزوم في توقيف المخاطبين على غلطهم ، واثارة ندامتهم وغمّهم على ما فرط منهم ، والشّماتة بهم في عواقب عنادهم . والمعاني المجازيّة التي علاقتها اللّزوم يجوز تعدّدها مثل الكناية ، وقرينة المجاز هي : ظهور أنّ أصحاب الجنّة يعلمون أنّ أصحاب النّار وجدوا وعده حقاً .والوجدان : إلفاء الشّيء ولقيّه ، قال تعالى : { فوجد فيها رجلين يقتتلان } [ القصص : 15 ] وفِعله يتعدّى إلى مفعول واحد ، قال تعالى : { ووجد الله عنده } [ النور : 39 ] ويغلب أن يذكر مع المفعول حالُه ، فقوله : { وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } معناه ألفيناه حالَ كونه حقاً لا تخلّف في شيء منه ، فلا يدلّ قوله : { وجدنا } على سبق بحث أو تطلب للمطابقة كما قد يتوهّم ، وقد يستعمل الوجدان في الإدراك والظنّ مجازاً ، وهو مجاز شائع .و ( ما ) موصولة في قوله : { مَا وعدنا ربّنا } و { مَا وعد ربّكم } ودَلت على أنّ الصّلة معلومة عند المخاطبين ، على تفاوت في الإجمال والتّفصيل ، فقد كانوا يعلمون أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وعد المؤمنين بنعيم عظيم ، وتوعّد الكافرين بعذاب أليم ، سمع بعضهم تفاصيل ذلك كلَّها أو بعضها ، وسمع بعضهم إجمالها : مباشرة أو بالتّناقل عن إخوانهم ، فكان للموصولية في قوله : { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } إيجازٌ بديع ، والجواب بنَعَم تحقيق للمسؤول عنه بهل : لأنّ السؤال بهَل يتضمّن ترجيح السّائل وقوع المسؤول عنه ، فهو جوابُ المقرّ المتحسّر المعترف ، وقد جاء الجواب صالحاً لظاهر السّؤال وخفيِّه ، فالمقصود من الجواب بها تحقيق ما أريد بالسؤال من المعاني حقيقة أو مجازاً ، إذ ليست نعَم خاصة بتحقيق المعاني الحقيقيّة .وحذف مفعول ( وعَدَ ) الثّاني في قوله : { ما وعد ربكم } لمجرّد الإيجاز لدلالة مقابله عليه في قوله : { ما وعدنا ربنا } لأنّ المقصود من السّؤال سؤالهم عمّا يخصّهم . فالتّقدير : فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم ، أي من العذاب لأنّ الوعد يستعمل في الخير والشرّ .ودلّت الفاء في قوله : { فأذّن مؤذن } على أنّ التّأذين مسبّب على المحاورة تحقيقاً لمقصد أهل الجنّة من سؤال أهل النّار من إظهار غلطهم وفساد معتقدهم .والتّأذينُ : رفع الصّوت بالكلام رفعاً يُسمع البعيد بقدر الإمكان وهو مشتقّ من الأذن بضمّ الهمزة جارحةِ السمع المعروفة ، وهذا التّأذين إخبار باللّعن وهو الإبعاد عن الخير ، أي إعلام بأنّ أهل النّار مبعدون عن رحمة الله ، زيادة في التّأييس لهم ، أو دعاء عليهم بِزيادة البعد عن الرّحمة ، بتضعيف العذاب أو تحقيق الخلود ، ووقُوع هذا التأذين عقب المحاورة يعلَم منه أنّ المراد بالظّالمين ، وما تبعه من الصّفات والأفعال ، هم أصحاب النّار ، والمقصود من تلك الصّفات تفظيع حالهم ، والنّداء على خبْثثِ نفوسهم ، وفساد معتقدهم .وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وقُنبل عن ابن كثير : { أنْ لعنة الله } بتخفيف نون ( أن ) على أنّها تفسيريّة لفعل ( أذّنَ ) ورفععِ ( لعنة ) على الابتداء والجملة تفسيرية ، وقرأه الباقون بتشديد النّون وبنصب ( لعنة ) على ( أنّ ) الجملة مفعول ( أذّن ) لتضمنه معنى القَول ، والتّقدير : قائلاً أنّ لعنة الله على الظّالمين .والتّعبير عنهم بالظّالمين تعريف لهم بوصف جرى مجرى اللّقب تعرف به جماعتهم ، كما يقال : المؤمنين ، لأهل الإسلام ، فلا ينافي أنّهم حين وُصِفوا به لم يكونوا ظالمين ، لأنّهم قد علّموا بطلان الشّرك حقّ العلم وشأن اسم الفاعل أن يكون حقيقة في الحال مجازاً في الاستقبال ، ولا يكون للماضي.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ
📘 وأمّا إجراء الصّلة عليهم بالفعلين المضارعين في قوله : { يَصدّون } وقوله : { ويَبغونها } وشأنُ المضارع الدّلالة على حدث حاصل في زمن الحال ، وهم في زمن التّأذين لم يكونوا متّصفين بالصدّ عن سبيل الله ، ولا ببغي عوج السّبيل ، فذلك لقصد ما يفيده المضارع من تكرّر حصول الفعل تبعاً لمعنى التّجدّد ، والمعنى وصفهم بتكرّر ذلك منهم في الزّمن الماضي ، وهو معنى قول علماء المعاني استحضار الحالة ، كقوله تعالى في الحكاية عن نوح :{ ويصنع الفلك } [ هود : 38 ] مع أنّ زمن صنع الفلك مضى ، وإنّما قصد استحضار حالة التّجدّد ، وكذلك وصفهم باسم الفاعل في قوله : { وهم بالآخرة كافرون } فإن حقه الدلالة على زمن الحال ، وقد استعمل هنا في الماضي : أي كافرون بالآخرة فيما مضى من حياتهم الدّنيا ، وكلّ ذلك اعتماد على قرينة حال السّامعين المانعة من إرادة المعنى الحقيقي من صيغة المضارع وصيغة اسم الفاعل ، إذ قد عَلِم كلّ سامع أنّ المقصودين صاروا غير متلبّسين بتلك الأحداث في وقت التّأذين ، بل تلبّسوا بنقائضها ، فإنّهم حينئذ قد علموا الحقّ وشاهدوه كما دلّ عليه قولهم : { نَعَم }. وإنَّما عُرّفوا بتلك الأحوال الماضية لأنّ النّفوس البشريّة تعرّف بالأحوال التي كانت متلبسة بها في مدّة الحياة الأولى . فبالموت تنتهي أحوال الإنسان فيستقر اتّصاف نفسه بما عاشت عليه ، وفي الحديث : " يبعث كلّ عبد على ما مات عليه " رواه مسلم ، ويجوز أن تكون هذه اللّعنة كانت الملائكة يَلعنونهم بها في الدّنيا . فجهروا بها في الآخرة ، لأنّها صارت كالشّعار للكفرة ينادَون بها ، وهذا كما جاء في الحديث : " يؤتى بالمؤذّنين يوم القيامة يصرخون بالأذان " مع أنّ في ألفاظ الأذان ما لا يقصد معناه يومئذ وهو : «حيّ على الصّلاة حيّ على الفلاح» . وفي حكاية ذلك هنا إعلام لأصحاب هذه الصّفات في الدّنيا بأنّهم محقوقون بلعنة الله تعالى .والمراد بالظّالمين : المشركون ، وبالصدّ عن سبيل الله : إمّا تعرّض المشركين للراغبين في الإسلام بالأذى والصّرف عن الدّخول في الدّين بوجوه مختلفة ، وسبيل الله ما به الوصول إلى مرضاته وهو الإسلام ، فيكون الصدّ مراداً به المتعدي إلى المفعول . وإما إعراضهم عن سماع دعوة الإسلام وسماع القرآن ، فيكون الصدّ مراداً به القاصر ، الذي قيل : إنّ مضارعه بكسر الصّاد ، أو إن حق مضارعه كسر الصّاد ، إذ قيل لم يسمع مكسور الصّاد ، وإن كان القياس كَسْر الصّاد في اللاّزم وضمَها في المتعدي .والضّمير المؤنّث في قوله : { ويبغونها } عائد إلى { سبيل الله }. لأنّ السّبيل يذكّر ويؤنّث قال تعالى : { قل هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] وقال : { وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً } [ الأعراف : 146 ].والعِوَج : ضدّ الاستقامة ، وهو بفتح العين في الأجسام : وبكسر العين في المعاني . وأصله أن يجوز فيه الفتح والكسر . ولكن الاستعمال خصّص الحقيقة بأحد الوجهين والمجازَ بالوجه الآخر ، وذلك من محاسن الاستعمال ، فالإخبار عن السبيل ( عِوج ) إخبار بالمصدر للمبالغة ، أي ويرومون ويحاولون إظهار هذه السّبيل عوجاء ، أي يختلقون لها نقائص يموّهونها على النّاس تنفيراً عن الإسلام كقولهم : { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل مُمَزّق إنّكم لفي خَلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة } [ سبأ : 7 ، 8 ] ، وتقدّم تفسيره عند قوله تعالى : { يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً } في سورة آل عمران ( 99 ).وورد وصفهم بالكفر بطريق الجملة الاسميّة في قوله : وهم بالآخرة كافرون } للدّلالة على ثبات الكفر فيهم وتمكّنه منهم ، لأنّ الكفر من الاعتقادات العقليّة التي لا يناسبها التّكرّر ، فلذلك خولف بينه وبين وصفهم بالصدّ عن سبيل الله وبغي إظهار العِوَج فيها ، لأنّ ذَيْنك من الأفعال القابلة للتّكرير ، بخلاف الكفر فإنّه ليس من الأفعال ، ولكنّه من الانفعالات ، ونظير ذلك قوله تعالى : { يرزق من يشاء وهو القوي العزيز } [ الشورى : 19 ].
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ۚ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ۚ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۚ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ
📘 تقديم { وبينهما } وهو خبر على المبتدأ للاهتمام بالمكان المتوسّط بين الجنّة والنّار وما ذكر من شأنه . وبهذا التّقديم صحّ تصحيح الابتداء بالنّكرة ، والتّنكير للتّعظيم .وضمير { بينهما } يعود إلى لفظي الجنّة والنّار الواقعين في قوله { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } [ الأعراف : 44 ] وهما اسما مكان ، فيصلح اعتبار التّوسّط بينهما . وجُعل الحجاب فصلاً بينهما . وتثنية الضّمير تُعيِّن هذا المعنى ، ولو أريد من الضّمير فريقَا أهللِ الجنّة وأهل النّار ، لقال : بينهم ، كما قال في سورة الحديد ( 13 ) { فضرب بينهم بسور } الآية .والحجاب : سور ضُرب فاصلاً بين مكان الجنّة ومكان جهنّم ، وقد سمّاه القرآن سوراً في قوله : { فضرب بينهم بسور له باب } في سورة الحديد ( 13 ) ، وسمّي السور حجاباً لأنّه يقصد منه الحجب والمنع كما سمّي سوراً باعتبار الإحاطة .والأعراف : جمع عُرْف بِضّم العين وسكون الرّاء ، وقد تضمّ الرّاء أيضاً وهو أعلى الشّيء ومنه سمّي عُرف الفرس ، الشّعر الذي في أعلى رقبته ، وسمّي عُرف الدّيك . الرّيش الذي في أعلى رأسه .و ( أل ) في الأعراف } للعهد . وهي الأعراف المعهودة التي تكون بارزة في أعالي السّور . ليرقب منها النظَّارة حركات العد وليشعروا به إذا داهمهم . ولم يسبق ذكر للأعراف هنا حتّى تعرّف بلام العهد ، فتعيّن أنّها ما يعهده النّاس في الأسوار . أو يجعل ( ألْ ) عوضاً عن المضاف إليه : أي وعلى أعراف السّور . وهما وجهان في نظائر هذا التّعريف كقوله تعالى : { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] وأيّاً مّا كان فنظم الآية يأبى أن يكون المراد من الأعراف مكاناً مخصوصاً يتعرّف منه أهل الجنّة وأهل النّار ، إذ لا وجه حينئذٍ لتعريفه مع عدم سبق الحديث عنه .وتقديم الجار والمجرور لتصحيح الابتداء بالنّكرة ، إذ اقتضى المقام الحديث عن رجال مجهولين يكونون على أعراف هذا الحجاب ، قبل أن يدخلوا الجنّة ، فيشهدون هنالك أحوال أهل الجنّة وأحوال أهل النّار ، ويعرِفون رجالاً من أهل النّار كانوا من أهل العزّة والكبرياء في الدّنيا ، وكانوا يكذّبون وعد الله المؤمنين بالجنّة ، وليس تخصيص الرّجال بالذّكر بمقتض أن ليس في أهل الأعراف نساء ، ولا اختصاص هؤلاء الرّجال المتحدّث عنهم بذلك المكان دون سواهم من الرّجال ، ولكن هؤلاء رجال يقع لهم هذا الخبر ، فذكروا هنا للاعتبار على وجه المصادفة ، لا لقصد تقسيم أهل الآخرة وأمكنتهم ، ولعلّ توهّم أنّ تخصيص الرّجال بالذّكر لقصد التّقسيم قد أوقع بعض المفسّرين في حيرة لتطلّب المعنى لأنّ ذلك يقتضي أن يكون أهل الأعراف قد استحقّوا ذلك المكان لأجل حالة لاحظّ للنّساء فيها ، فبعضهم حمل الرّجال على الحقيقة فتطلب عملاً يعمله الرّجال لاحظ للنّساء فيه في الإسلام ، وليس إلاّ الجهاد ، فقال بعض المفسرين : هؤلاء قوم جاهدوا وكانوا عاصين لآبائهم ، وبعض المفسّرين حمل الرّجال على المجاز بمعنى الأشخاص من الملائكة ، أطلق عليهم الرّجال لأنّهم ليسوا إناثاً كما أطلق على أشخاص الجنّ في قوله تعالى :{ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } [ الجن : 6 ] فيظهر وجه لتخصيص الرّجال بالذّكر تبعاً لما في بعض تلك الأحاديث التي أشرنا إليها .وأمّا ما نقل عن بعض السّلف أنّ أهل الأعراف هم قوم اسْتوت موازين حسناتهم مع موازين سيّئاتهم ، ويكون إطلاق الرّجال عليهم تغليباً ، لأنّه لا بدّ أن يكون فيهم نساء ، ويروى فيه أخبار مسندة إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم لم تبلغ مبلغ الصّحيح ولم تنزل إلى رتبة الضّعيف : روى بعضَها ابنُ ماجة ، وبعضَها ابنُ مردويه ، وبعضَها الطّبري ، فإذا صحت فإنّ المراد منها أن من كانت تلك حالتهم يكونون من جملة أهل الأعراف المخبر عنهم في القرآن بأنّهم لم يدخلوا الجنّة وهم يطمعون . وليس المراد منها أنّهم المقصودُ من هذه الآية كما لا يخفى على المتأمّل فيها .والذي ينبغي تفسير الآية به : أنّ هذه الأعراف جعلها الله مكاناً يوقف به من جعله الله من أهل الجنّة قبل دخوله إياها ، وذلك ضرب من العقاب خفيف ، فجعل الدّاخلين إلى الجنّة متفاوتين في السبق تفاوتاً يعلم الله أسبابه ومقاديره ، وقد قال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى } [ الحديد : 10 ] وخصّ الله بالحديث في هذه الآيات رجالاً من أصحاب الأعراف . ثمّ يحتمل أن يكون أصحاب الأعراف من الأمّة الإسلاميّة خاصّة . ويحتمل أن يكونوا من سائر الأمم المؤمنين برسلهم ، وأيّاما كان فالمقصود من هذه الآيات هم من كان من الأمّة المحمّديّة .وتنوين { كلاً } عوضٌ عن المضاف إليه المعروف من الكلام المتقدّم . أي كلّ أهل الجنّة وأهل النّار .والسيما بالقصر السمة أي العلامة ، أي بعلامة ميَّز الله بها أهل الجنّة وأهل النّار ، وقد تقدّم بيانها واشتقاقها عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهُم } في سورة البقرة ( 273 ).ونداؤهم أهلَ الجنّة بالسّلام يؤذن بأنّهم في اتّصال بعيد من أهل الجنّة ، فجعل الله ذلك أمارة لهم بحسن عاقبتهم ترتاح لها نفوسهم . ويعلمون أنّهم صائرون إلى الجنّة ، فلذلك حكى الله حالهم هذه للنّاس إيذاناً بذلك وبأن طمعهم في قوله : لم يدخلوها وهم يطمعون } هو طمع مستند إلى علامات وقوع المطموع فيه ، فهو من صنف الرّجاء كقوله : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } ( الشعراء 82 ).و { أن } تفسير للنّداء ، وهو القول { سلام عليكم }. و { سلام عليكم } دعاءُ تحيّة وإكرام .وجملة : { لم يدخلوها وهم يطمعون } مستأنفة للبيان ، لأنّ قوله { ونادوا أصحاب الجنّة } يثير سؤالاً يبحث عن كونهم صائرين إلى الجنّة أو إلى غيرها . وجملة : { وهم يطمعون } حال من ضمير { يدخلوها } والجملتان معاً معترضتان بين جملة : { ونادوا أصحاب الجنة } وجملة { وإذا صرفت أبصارهم }.
۞ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
📘 وجملة : { وإذا صرفت أبصارهم } معطوفة على جملة : { ونادوا أصحاب الجنة }.والصّرف : أمر الحالّ بمغادرة المكان . والصّرف هنا مجاز في الإلتفات أو استعارةٌ . وإسناده إلى المجهول هنا جار على المتعارف في أمثاله من الأفعال التي لا يُتطلّب لها فاعل ، وقد تكون لهذا الإسناد هنا فائدة زائدة وهي الإشارة إلى أنّهم لا ينظرون إلى أهل النّار إلاّ نظراً شبيهاً بفعل من يحمله على الفعل حَامِل ، وذلك أنّ النّفس وإن كانت تكره المناظر السيّئة فإنّ حبّ الاطّلاع يحملها على أن توجّه النّظر إليها آونة لتحصيل ما هو مجهول لديها .والتلقاء : مكان وجود الشّيء ، وهو منقول من المصدر الذي هو بمعنى اللّقاء ، لأنّ محلّ الوجود مُلاق للموجود فيه .
وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ
📘 التّعريف في قوله : { أصحاب الأعراف } للعهد بقرينة تقدّم ذكره في قوله : { وعلى الأعراف رجال } [ الأعراف : 46 ] وبقرينة قوله هنا { رجالاً يعرفونهم } إذ لا يستقيم أن يكون أولئك الرّجال يناديهم جميع من كان على الأعراف ، ولا أن يَعرفهم بسيماهم جميع الذين كانوا على الأعراف ، مع اختلاف العصور والأمم ، فالمقصود بأصحاب الأعراف هم الرّجال الذين ذكروا في الآية السابقة بقوله : { وعلى الأعراف رجال } [ الأعراف : 46 ] كأنّه قيل : ونادى أولئك الرّجالُ الذين على الأعراف رجالاً . والتّعبير عنهم هنا بأصحاب الأعراف إظهار في مقام الإضمار ، إذ كان مقتضى الظّاهر أن يقال . ونادوا رجالاً ، إلاّ أنّه لما تعدّد في الآية السّابقة ما يصلح لعود الضّمائر إليه وقع الإظهار في مقام الإضمار دفعاً للالتباس .والنّداء يؤذن ببعد المخاطب فيظهر أنّ أهل الأعراف لما تطلّعوا بأبصارهم إلى النّار عرفوا رجالاً ، أو قَبْلَ ذلك لمّا مُرّ عليهم بأهل النّار عرفوا رجالاً كانوا جبارين في الدّنيا . والسيما هنا يتعيّن أن يكون المراد بها المشخّصات الذاتية التي تتميّز بها الأشخاص ، وليست السيما التي يتميّز بها أهل النّار كلّهم كما هو في الآية السّابقة .فالمقصود بهذه الآية ذكر شيء من أمر الآخرة ، فيه نذارة وموعظة لجبابرة المشركين من العرب الذين كانوا يحقرون المستضعفين من المؤمنين ، وفيهم عبيد وفقراء فإذا سمعوا بشارات القرآن للمؤمنين بالجنّة سكتوا عمن كان من أحرار المسلمين وسادتهم . وأنكروا أن يكون أولئك الضّعاف والعبيد من أهل الجنّة ، وذلك على سبيل الفرض ، أي لو فرضوا صدق وجود جنّة ، فليس هؤلاء بأهل لسكنى الجنّة لأنّهم ما كانوا يؤمنون بالجنّة ، وقصدهم من هذا تكذيب النّبيء صلى الله عليه وسلم وإظهار ما يحسبونه خَطلا من أقواله ، وذلك مثل قولهم : { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد } [ سبأ : 7 ] فجعلوا تمزّق الأجساد وفناءها دليلا على إبطال الحشر ، وسكتوا عن حشر الأجساد التي لم تمزّق . وكلّ ذلك من سوء الفهم وضعف الإدراك والتّخليط بين العاديات والعقليات . قال ابن الكلبي : «ينادي أهل الأعراف وهم على السور يَا وليدُ بنَ المغيرة يا أبَا جهل بنَ هشام يا فلان ويا فلان» فهؤلاء من الرّجال الذين يعرفونهم بسيماهم وكانوا من أهل العزّة والكبرياء .ومعنى { جمعكم } يحتمل أن يكون جَمْع النّاس ، أي ما أغنت عنكم كثرتكم التي تعتزّون بها ، ويحتمل أن يراد من الجمع المصدر بمعنى اسم المفعول . أي ما جمعتموه من المال والثّروة كقوله تعالى : { ما أغنى عني ماليه } [ الحاقة : 28 ].و ( مَا ) الأولى نافية ، ومعنى { ما أَغْنَى } ما أَجْزَى مصدره الغَناء بفتح الغين وبالمدّ .والخبر مستعمل في الشّماتة والتّوقيف على الخطأ .و ( ما ) الثّانية مصدريّة ، أي واستكباركم الذي مضى في الدّنيا ، ووجه صوغه بصيغة الفعل دون المصدر إذ لم يقل استكباركم ليتوسّل بالفعل إلى كونه مضارِعا فيفيد أنّ الاستكبار كان دأبَهم لا يفترون عنه .
أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ
📘 وجملة { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } من كلام أصحاب الأعراف . والاستفهام في قوله { أهؤلاء الذين أقسمتم } مستعمل في التّقرير .والإشارة ب { أهؤلاء } إلى قوم من أهل الجنّة كانوا مستضعفين في الدّنيا ومحقرين عند المشركين بقرينة قوله : { الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } وقوله { ادخلوا الجنة } قال المفسّرون هؤلاء مثل سلمانَ ، وبلال ، وخبَّاب ، وصُهَيب من ضعفاء المؤمنين ، فإما أن يكونوا حينئذ قد استقرّوا في الجنّة فَجَلاَهم الله لأهل الأعراف وللرّجال الذين خاطبوهم ، وإمّا أن يكون ذلك الحِوار قد وقع قبل إدخالهم الجنّة . وقسمُهم عليهم لإظهار تصلّبهم في اعتقادهم وأنّهم لا يخامرهم شكّ في ذلك كقوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } [ النحل : 38 ].وقوله : { لا ينالهم الله برحمة } هو المقسم عليه ، وقد سلّطوا النّفي في كلامهم على مراعاة نفي كلام يقوله الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أو المؤْمنون ، وذلك أنّ بشارات القرآن أولئك الضّعفاءَ ، ووعدَه إياهم بالجنّة ، وثناءَه عليهم نُزل منزلة كلام يقول : إنّ الله ينالهم برحمة ، أي بأن جُعل إيواء الله إياهم بدار رحمته ، أي الجنّة ، بمنزلة النَّيْل وهو حصول الأمر المحبوب المبحُوث عنه كما تقدّم في قوله : { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } [ الأعراف : 37 ] آنفاً ، فأطلق على ذلك الإيواءِ فعل ( يَنال ) على سبيل الاستعارة . وجعلت الرّحمة بمنزلة الآلة للنَّيل كما يقال : نال الثّمرة بمحجن . فالباء للآلة . أو جعلت الرّحمة ملابسة للنَّيل فالباء للملابسة . والنّيل هنا استعارة ، وقد عمدوا إلى هذا الكلام المقدّر فنفوه فقالوا : { لا ينالهم الله برحمة }.وهذا النّظم الذين حكي به قسمهم يؤذن بتهكّمهم بضعفاء المُؤمنين في الدّنيا ، وقد أغفل المفسّرون تفسير هذه الآية بحسب نظمها .وجملة : { ادخلوا الجنة } قيل مقول قول محذوف اختصاراً لدلالة السّياق عليه ، وحذفُ القول في مثله كثير ولا سيما إذا كان المقول جملة إنشائيّة ، والتّقدير : قال لهم الله ادخلوا الجنّة فكذّب اللَّهُ قسمَكُم وخيّب ظنّكم ، وهذا كلّه من كلام أصحاب الأعراف ، والأظهر أن يكون الأمر في قوله : { ادخلوا الجنة } للدّعاء لأنّ المشار إليهم بهؤلاء هم أناس من أهل الجنّة ، لأنّ ذلك الحين قد استقرّ فيه أهل الجنّة في الجنّة وأهلُ النّار في النّار ، كما تقتضيه الآيات السّابقة من قوله : { ونادوا أصحابَ الجنّة أنْ سلام عليكم إلى قوله القوممِ الظالمين } [ الأعراف : 46 ، 47 ] فلذلك يتعيّن جعل الأمر للدّعاء كما في قول المعرّي :ابْقَ في نعمة بقاءَ الدّهور ... نافِذاً لحُكْم في جميع الأموروإذ قد كان الدّخول حاصلاً فالدّعاء به لإرادة الدّوام كما يقول الدّاعي على الخارج : أخرج غير مأْسوففٍ عليك ، ومنه قوله تعالى : { وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين }.ورفُع { خوف } مع ( لا ) لأنّ أسماء أجناس المعاني التي ليست لها أفراد في الخارج يستوي في نفيها بلا الرّفعُ والفتحُ ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ الأعراف : 35 ].
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
📘 وقوله : { فما كان دعواهم } يصحّ أن تكون الفاء فيه للترتيب الذّكري تبعاً للفاء في قوله : { فجاءها بأسنا } لأنّه من بقيّة المذكور ، ويصحّ أن يكون للتّرتيب المعنوي لأنّ دعواهم ترتّبت على مجيء البأس .والدعوى اسم بمعنى الدّعاء كقوله : [ يونس : 10 ] وهو كثير في القرآن ، والدّعاء هنا لرفع العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب ، وذلك أنّ شأن النّاس إذا حلّ بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة ، ومعنى الحصر أنّهم لم يستغيثوا الله ولا توجّهوا إليه بالدّعاء ولكنّهم وضعوا الاعتراف بالظّلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدّعوى .ويجوز أن تكون الدّعوى بمعنى الادّعاء أي : انقطعت كلّ الدّعاوي التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدّد الآلهة وأنّ دينهم حقّ ، فلم تبق لهم دعوى ، بل اعترفوا بأنّهم مبطلون ، فيكون الاستثناء منقطعاً لأنّ اعترافهم ليس بدعوى .واقتصارهم على قولهم : { إنا كنا ظالمين } إمَّا لأنّ ذلك القول مقدّمة التّوبة لأنّ التّوبة يتقدّمها الاعتراف بالذّنب ، فهم اعترفوا على نيّة أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو ، فعوجلوا بالعذاب ، فكان اعترافهم آخر قولهم في الدّنيا مقدّمة لشهادةِ ألسنتهم عليهم في الحشر ، وإمّا لأنّ الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدّعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب .وأيّاً ما كان فإنّ جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكّرهم في ظلمهم في مدّة سلامتهم ، ولكنّ العنادَ والكبرياء يصدّانهم عن الإقلاع عنه ، ومن شأن مَن تصيبه شدّة أن يَجري على لسانه كلام ، فمن اعتاد قول الخير نطق به ، ومن اعتاد ضدّه جرى على لسانه كلام التّسخّط ومُنكر القول ، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولانه في أفكارهم .والمراد بقولهم : { كنا ظالمين } أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد ، وتكذيب الرّسل ، والإعراض عن الآيات ، وصم الأذان عن الوعيد والوعظ ، وذلك يجمعه الإشراكُ بالله ، قال تعالى : { إنّ الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] ، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } [ الأعراف : 3 ] أي أنّ الله لم يظلمهم ، وهو يحتمل أنّهم عَلموا ذلك بمشاهدة العذاب وإلهامِهم أنّ مثل ذلك العذاب لا ينزل إلاّ بالظّالمين ، أو بوجدانهم إياه على الصّفة الموعود بها على ألْسنة رسلهم ، فيكون الكلام إقراراً محضاً أقرّوا به في أنفسهم ، فصيغة الخبرِ مستعملة في إنشاء الإقرار ، ويحتمل أنّهم كانوا يعلمون أنّهم ظالمُون ، من قبل نزول العذاب ، وكانوا مصرين عليه ومكابرين ، فلمّا رأوا العذاب ندموا وأنصفوا من أنفسهم ، فيكون الكلام ، إقراراً مشوباً بحسرة وندامة ، فالخبر مستعمل في معناه المجازي الصّريح ومعناه الكنائي ، والمعنى المجازي يجتمع مع الكناية باعتبار كونه مجازاً صريحاً .وهذا القول يقولونه لغير مخاطَب معيَّن ، كشأن الكلام الذي يجري على اللّسان عند الشّدائد ، مثل الويل والثّبور ، فيكون الكلام مستعملاً في معناه المجازي ، أو يقوله بعضهم لبعض ، بينهم ، على معنى التّوبيخ ، والتّوقيف على الخطأ ، وإنشاء النّدامة ، فيكون مستعملاً في المعنى المجازي الصّريح ، والمعنى الكنائي ، على نحو ما قرّرتُه آنفاً .والتّوكيد بإنّ لتحقيق للنّفس أو للمخاطبين على الوجهين المتقدّمين أو يكون قولهم ذلك في أنفسهم ، أو بين جماعتهم ، جارياً مجرى التّعليل لنزول البأس بهم والاعتراف بأنّهم جديرون به ، ولذلك أطلقوا على الشّرك حينئذ الاسم المشعر بمذمّته الذي لم يكونوا يطلقونه على دينهم من قبل .واسم كان هو : { أن قالوا } المفرغ له عمل كان ، و { دعواهم } خبر ( كان ) مقدّم ، لقرينة عدم اتّصال كان بتاء التّأنيث ، ولو كان : ( دعوى ) هو اسمها لكان اتّصالها بتاء التّأنيث أحسن ، وللجري على نظائره في القرآن وكلام العرب في كلّ موضع جاء فيه المصدر المؤول من أنْ والفعل محصوراً بعد كان ، نحو قوله تعالى :{ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } [ الأعراف : 82 ] { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } [ آل عمران : 147 ] وغير ذلك ، وهو استعمال ملتزم ، غريب ، مطّرد في كلّ ما وقع فيه جزء الإسناد ذاتين أريد حصر تحقّق أحدهما في تحقّق الآخر لأنّهما لمَّا اتّحدا في الماصْدق ، واستويا في التّعريف كان المحصور أولى باعتبار التّقدّم الرّتبي ، ويتعيّن تأخيره في اللّفظ ، لأنّ المحصور لا يكون إلاّ في آخر الجزأين ، ألا ترى إلى لزوم تأخير المبتدأ المحصورِ . واعلم أن كون أحد الجزأين محصوراً دون الآخر في مثل هذا ، ممّا الجزآن فيه متحدَا الماصْدق ، إنّما هو منوط باعتبار المتكلّم أحدهما هو الأصلَ والآخر الفرع ، ففي مثل هذه الآية اعتبر قولهم هو المترقّب من السّامع للقصّة ابتداء ، واعتبر الدّعاء هو المترقّب ثانياً ، كأنّ السّامع يسأل : ماذا قالوا لمَّا جاءهم البأس ، فقيل له : كان قولهم : { إنا كنا ظالمين } دعاءَهم ، فأفيد القول وزيد بأنّهم فرّطوا في الدّعاء ، وهذه نكتة دقيقة تنفعك في نظائر هذه الآية ، مثل قوله : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم } [ الأعراف : 82 ] ، على أنّه قد قيل : إنّه لاطِّراد هذا الاعتبار مع المصدر المؤول من ( أن ) والفعل عِلَّة لفْظيّة : وهي كون المصدر المؤول يشبه الضّمير في أنّه لا يوصف ، فكان أعرف من غيره ، فلذلك كان حقيقاً بأن يكون هو الاسم ، لأنّ الأصل أنّ الاعرف من الجُزأين وهو الذي يكون مسنداً إليه .
وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ
📘 القول في { نادى } وفي { أنْ } التّفسيريّة كالقول في : { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا } [ الأعراف : 44 ] الآية . وأصحاب النّار مراد بهم من كان من مشركي أمّة الدّعوة لأنّهم المقصود كما تقدّم ، وليوافق قوله بعدُ { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه } [ الأعراف : 52 ].فعل الفيض حقيقته سيلان الماء وانصبابه بقوّة ويستعمل مجازاً في الكثرة ، ومنه ما في الحديث : " ويَفيض المالُ حتّى لا يقبَله أحد " . ويجيء منه مجاز في السّخاء ووفرة العطاء ، ومنه ما في الحديث أنّه قال لطلحة : «أنت الفيَّاض» . فالفيض في الآية إذا حمل على حقيقته كان أصحاب النّار طالبين من أصحاب الجنّة أن يصبّوا عليهم ماء ليشربوا منه ، وعلى هذا المعنى حمله المفسّرون ، ولأجل ذلك جعل الزمخشري عطف { ما رزقكم الله } عطفاً على الجملة لا على المفرد . فيقدّر عامل بعد حرف العطف يناسب ما عدَا الماءَ تقديره : أو أعطونا ، ونظّره بقول الشّاعر ( أنشده الفراء) :عَلَفْتُها تِبْنا وماءً بارداً ... حتّى شَبَتْ هَمَّالَةً عيناهاتقديره : علفتها وسَقيتها ماء بارداً ، وعلى هذا الوجه تكون ( مِن ) بمعنى بعض ، أو صفة لموصوف محذوف تقديره : شيئاً من الماء ، لأنّ : { أفيضوا } يتعدّى بنفسه .ويجوز عندي أن يحمل الفيض على المعنى المجازي ، وهو سعة العطاء والسّخاء ، من الماء والرزق ، إذ ليس معنى الصبّ بمناسب بل المقصود الإرسال والتّفضل ، ويكون العطف عطف مفرد على مفرد وهو أصل العطف . ويكون سُؤلهم من الطّعام مماثلاً لسؤْلهم من الماء في الكثرة ، فيكون في هذا الحمل تعريض بأن أصحاب الجنّة أهل سخاء ، وتكون ( مِن ) على هذا الوجه بيانية لمعنى الإفاضة ، ويكون فعل { أفيضوا } مُنزلاً منزلة اللاّزم ، فتتعلّق مِنْ بفعل { أفيضوا }.والرّزق مراد به الطّعام كما في قوله تعالى : { كلما رزقوا منها من ثمرة } [ البقرة : 25 ] الآية .وضمير { قالوا } لأصحاب الجنّة ، وهو جوابهم عن سؤال أصحاب النّار ، ولذلك فصل على طريقة المحاورة .والتّحريم في قوله : { حرمهما على الكافرين } مستعمل في معناه اللّغوي وهو المنع كقول عنترة :حَرُمَتْ عليّ وليتَها لَمْ تَحْرُم ... وقولِه : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } [ الأنبياء : 95 ].والمراد بالكافرين المشركون ، لأنّهم قد عُرفوا في القرآن بأنّهم اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً ، وعُرفوا بإنكار لقاءِ يوم الحشر .
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ
📘 وقد تقدّم القول في معنى اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرّتهم الحياة الدّنيا عند قوله تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا } في سورة الأنعام ( 70 ).وظاهر النّظم أنّ قوله : الذين اتخذوا دينهم } إلى قوله الحياة الدنيا هو من حكاية كلام أهل الجنّة ، فيكون : { اتخذوا دينهم لهواً } إلخ صفة للكافرين .وجُوز أن يكون : { الذين اتخذوا دينهم لهواً } مبتدأً على أنّه من كلام الله تعالى ، وهو يفضي إلى جعل الفاء في قوله : { فاليوم ننساهم } داخلة على خبر المبتدأ لتشبيه اسم الموصول بأسماء الشّرط ، كقوله تعالى : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } [ النساء : 16 ] وقد جُعلَ قوله : { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } إلى قوله وماكانوا بآياتنا يجحدون آية واحدة في ترقيم أعداد آي المصاحف وليس بمتعيّن .{ فاليوم ننساهم كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ باياتنا يَجْحَدُونَ }.اعتراض حكي به كلام يُعْلَن به ، من جانب الله تعالى ، يَسمعه الفريقان . وتغيير أسلوب الكلام هو القرينة على اختلاف المتكلّم ، وهذا الأليق بما رجحناه من جعل قوله : { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } إلى آخره حكاية لكلام أصحاب الجنّة .والفاء للتّفريع على قول أصحاب الجنّة : { إنّ الله حرّمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } الآية ، وهذا العطف بالفاء من قبيل ما يسمّى بعطف التّلقين الممثَّل له غالباً بمعطوف بالواو فهو عطف كلام . متكلّم على كلام متكلّم آخَر ، وتقدير الكلام : قال الله { فاليوم ننساهم } ، فحذف فعل القول ، وهذا تصديق لأصحاب الجنّة ، ومَن جعلوا قوله : { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } كلاماً مستأنفاً من قِبل الله تعالى تكون الفاء عندهم تفريعاً في كلام واحد .والنّسيان في الموضعين مستعمل مجازاً في الإهمال والتّرك لأنّه من لوازم النّسيان ، فإنّهم لم يكونوا في الدّنيا ناسين لقاء يوم القيامة ، فقد كانوا يذكرونه ويتحدّثون عنه حديثَ من لا يصِدّق بوقوعه .وتعليق الظّرف بفعل : { ننساهم } لإظهار أنّ حرمانهم من الرّحمة كان في أشدّ أوقات احتياجهم إليها . فكان لذكر اليوم أثرٌ في إثارة تحسّرهم وندامتهم ، وذلك عذاب نفساني .ودلّ معنى كاف التّشبيه في قوله : { كما نسوا } على أنّ حرمانهم من رحمة الله كان مماثلاً لإهمالهم التّصديق باللّقاء ، وهي مماثلَة جزاءِ العمللِ للعمل ، وهي مماثلة اعتباريّة ، فلذلك يقال : إنّ الكاف في مثله للتّعليل ، كما في قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] وإنّما التّعليل معنى يتولّد من استعمال الكاف في التّشبيه الاعتباري ، وليس هذا التّشبيه بمجاز ، ولكنّه حقيقة خفيّة لخفاء وجه الشّبه .وقوله : { كما نسوا } ظرف مستقرّ في موضع الصّفة لموصوف محذوف دلّ عليه { ننساهُم } أي نسياناً كمَا نَسُوا .و ( مَا ) في : { كما نسوا } وفي { وما كانوا } مصدريّة أي كنسيانهم اللّقاء وكجَحْدهم بآيات الله . ومعنى جحد الآيات تقدّم عند قوله تعالى : { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } في سورة الأنعام ( 33 ).
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
📘 الواو في { ولقد جئناهم } عاطفة هذه الجملة على جملة { ونادى أصحاب النّار أصحابَ الجنّة } [ الأعراف : 50 ] ، عطف القصّة على القصّة ، والغرضضِ على الغرض ، فهو كلام أنف انتقل به من غرض الخبر عن حال المشركين في الآخرة إلى غرض وصف أحوالهم في الدّنيا ، المستوجبين بها لما سيلاقونه في الآخرة ، وليس هو من الكلام الذي عقب الله به كلام أصحاب الجنّة في قوله : { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } [ الأعراف : 51 ] لأنّ قوله هنا { هل ينظرون إلاّ تأويله } [ الأعراف : 53 ] إلخ ، يقتضي أنّه حديث عن إعراضهم عن القرآن في الدّنيا ، فضمير الغائبين في قوله : { جئناهم } عائد إلى الذين كذّبوا في قوله : { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء } [ الأعراف : 40 ] الآية .والمراد بالكتاب القرآن . والباء في قوله : { بكتاب } لتعدية فعل { جئناهم } ، مثل الباء في قوله : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] فمعناه : أجأناهم كتاباً ، أي جعلناه جاء يا إياهم ، فيؤول إلى معنى أبلغناهم إياه وأرسلناه إليهم .وتأكيد هذا الفعل بلام القسم و ( قَدْ ) إمّا باعتبار صفة ( كتاب ) ، وهي جملة { فصّلناه على علم هدى ورحمة } فيكون التّأكيد جارياً على مقتضى الظّاهر ، لأنّ المشركين ينكرون أن يكون القرآن موصوفاً بتلك الأوصاف ، وإمّا تأكيد لفعل { جئناهم بكتاب } وهو بلوغ الكتاب إليهم فيكون التأكيد خارجاً على خلاف مقتضى الظاهر ، بتنزيل المبلَّغ إليهم منزلة من ينكر بلوغ الكتاب إليهم ، لأنّهم في إعراضهم عن النّظر والتّدبر في شأنه بمنزلة من لم يبلغه الكتاب ، وقد يناسب هذا الاعتبار ظاهر قوله بعد : { يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } [ الأعراف : 53 ].وتنكير ( كتاب ) ، وهو معروف ، قصد به تعظيم الكتاب ، أو قصد به النّوعيّة ، أي ما هو إلاّ كتاب كالكتب التي أنزلت من قبل ، كما تقدّم في قوله تعالى : { كتاب أنزل إليك } في طالع هذه السّورة ( 2 ).{ وفصلناه } أي بيّناه أي بيّنّا ما فيه ، والتّفصيل تقدّم عند قوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } في سورة الأنعام ( 55 ).وعلى عِلْمٍ } ظرف مستقر في موضع الحال من فاعل { فصّلناه } أي حال كوننا على علم ، و ( على ) للاستعلاء المجازي ، تدلّ على التّمكّن من مجرورها ، كما في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] وقوله : { قل إني على بينة من ربي } في سورة الأنعام ( 57 ). ومعنى هذا التّمكننِ أن علم الله تعالى ذاتي لا يعْزُب عنه شيء من المعلومات .وتنكير { عِلْم } للتّعظيم ، أي عالمين أعظمَ العلم ، والعظمة هنا راجعة إلى كمال الجنس في حقيقته ، وأعظم العلم هو العلم الذي لا يحتمل الخطأ ولا الخفاء أي عالمين علماً ذاتياً لا يتخلّف عنّا ولا يخْتلف في ذَاته ، أي لا يحتمل الخطأ ولا التّردّد .و { هدى ورحمة } حال من { كتاب }. أو من ضميره في قوله : { فصّلناه }. ووصف الكتاب بالمصدرين { هدى ورحمة } إشارة إلى قوّة هديه النّاس وجلب الرّحمة لهم .وجملة { هدى ورحمة لقوم يؤمنون } إشارة إلى أنّ المؤمنين هم الذين توصّلوا للاهتداء به والرحمة . وأن من لم يؤمنوا قد حُرموا الاهتداء والرّحمة . وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة ( 2) : { هدى للمتقين } .
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
📘 جملة { هل ينظرون إلا تأويله } مستأنفة استينافاً بيانياً ، لأنّ قوله : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون } يثير سؤال من يسأل : فماذا يؤخّرهم عن التّصديق بهذا الكتاب الموصوف بتلك الصّفات؟ وهل أعظم منه آية على صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم فكان قوله : { هل ينظرون } كالجواب عن هذا السّؤال ، الذي يجيش في نفس السّامع . والاستفهام إنكاري ولذلك جاء بعده الاستثناء .ومعنى { ينظرون } ينتظرون من النّظرة بمعنى الانتظار ، والاستثناء من عموم الأشياء المنتظرات ، والمراد المنتَظرات من هذا النّوع وهو الآيات ، أي ما ينتظرون آية أعظم إلاّ تأويل الكتاب ، أي إلاّ ظهور ما تَوَعدَّهم به ، وإطلاق الانتظار هنا استعارة تهكميّة : شبه حال تمهّلهم إلى الوقت الذي سيحلّ عليهم فيه ما أوعدهم به القرآن بحال المنتظرين ، وهم ليسوا بمنتظرين ذلك إذ هم جاحدون وقوعه ، وهذا مثل قوله تعالى : { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة } [ محمد : 18 ] وقوله { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } [ يونس : 102 ] والاستثناء على حقيقته وليس من تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه لأنّ المجاز في فعل { ينظرون } فقط .والقصر إضافي ، أي بالنّسبة إلى غير ذلك من أغراض نسيانهم وجحودهم بالآيات ، وقد مضى القول في نظير هذا التّركيب عند قوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } في سورة الأنعام ( 158 ).والتّأويل توضيحُ وتفسير ما خفي ، من مقصد كلام أوْ فعل ، وتحقيقه ، قال تعالى : { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً } [ الكهف : 78 ] وقال : { هذا تأويل رؤياي من قبل } [ يوسف : 100 ] وقال : { ذلك خير وأحسن تأويلاً } [ النساء : 59 ] وقد تقدّم اشتقاقه ومعناه في المقدّمة الأولى من مقدّمات هذا التّفسير . وضمير { تأويله } عائد إلى ( كتابٍ ) من قوله : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم } [ الأعراف : 52 ].وتأويله وضوح معنى ما عَدّوه محالا وكذباً ، من البعث والجزاء ورسالة رسول من الله تعالى ووحدانية الإله والعقاب ، فذلك تأويل ما جاء به الكتاب أي تحقيقه ووضوحه بالمشاهدة ، وما بعد العّيان بيان .وقد بيّنتْه جملة { يوم يأتي تأويله يقول } إلخ ، فلذلك فصلت ، لأنّها تتنزل من التي قبلها منزّلة البيان للمراد من تأويله ، وهو التأويل الذي سيظهر يوم القيامة ، فالمراد باليوم يوم القيامة ، بدليل تعلّقه بقوله : { يقول الذين نسوه من قبل } الآية فإنّهم لا يعلمون ذلك ولا يقولونه إلاّ يوم القيامة . وإتيان تأويله مجازٌ في ظهوره وتبيّنِه بعلاقة لزوم ذلك للإتيان . والتّأويل مراد به ما به ظهور الأشياء الدّالة على صدق القرآن . فيما أخبرهم وما توعّدهم .و { الذين نسوه } هم المشركون ، وهم معاد ضمير { ينظرون } فكان مقتضى الظّاهر أن يقال : يقُولون ، إلاّ أنّه أظهر بالموصولية لقصد التّسجيل عليهم بأنّهم نسُوه وأعرضوا عنه وأنكروه ، تسجيلاً مراداً به التّنبيه على خطئِهم والنَّعي عليهم بأنّهم يجرّون بإعراضهم سوء العاقبه لأنفسهم .والنّسيان مستعمل في الإعراض والصدّ ، كما تقدّم في قوله : { كما نسوا لقاء يومهم هذا } [ الأعراف : 51 ]والمضاف إليه المقدّرُ المنبيء عنه بناءُ ( قبلُ ) على الضم : هو التّأويلُ ، أو اليوم ، أي من قبل تأويله ، أو من قبل ذلك اليوم ، أي في الدّنيا . والقول هنا كناية عن العلم والاعتقاد ، لأنّ الأصل في الأخبار مطابقتها لاعتقاد المخبر ، أي يتبيّن لهم الحقّ ويصرّحون به .وهذا القول يقوله بعضهم لبعض اعترافاً بخطئهم في تكذيبهم الرّسول صلى الله عليه وسلم وما أخبر به عن الرّسل من قبله ، ولذلك جمع الرّسل هنا ، مع أنّ الحديث عن المكذّبين محمّداً صلى الله عليه وسلم وذلك لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم الأمثال بالرّسل السابقين ، وهم لما كذّبوه جرَّأهم تكذيبه على إنكار بعثة الرّسل إذ قالوا { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] أو لأنّهم مشاهدون يومئذ ما هو عقاب الأمم السّابقة على تكذيب رسلهم ، فيصدر عنهم ذلك القول عن تأثّر بجميع ما شاهدوه من التّهديد الشّامل لهم ولمن عداهم من الأمم .وقولهم : { قد جاءت رسل ربنا بالحق } خبر مستعمل في الإقرار بخطَئهم في تكذيب الرّسل ، وإنشاء للحسرة على ذلك ، وإبداء الحيرة فيما ذا يَصْنعون . ولذلك رتّبوا عليه وفرعوا بالفاء قولهم : { فهل لنا من شفعاء } إلى آخره .والاستفهام يجوز أن يكون حقيقياً يقوله بعضهم لبعض ، لَعلّ أحدهم يرشدهم إلى مخلص لهم من تلك الورطة ، وهذا القول يقولونه في ابتداء رؤية ما يهدّدهم قبل أن يوقنوا بانتفاء الشّفعاء المحكي عنهم في قوله تعالى : { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } [ الشعراء : 100 ، 101 ] ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملاً في التّمني ، ويجوز أن يكون مستعملاً في النّفي . على معنى التّحسّر والتّندم . و { من } زائدة للتّوكيد . على جميع التّقادير . فتفيد توكيد العموم في المستفهم عنه ، ليفيد أنّهم لا يسألون عمن توهموهم شفعاء من أصنامهم ، إذ قد يئسوا منهم . كما قال تعالى : { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } [ الأعراف : 94 ] بل هم يتساءلون عن أي شفيع يشفع لهم . ولو يكون الرّسول عليه الصّلاة والسّلام الذي ناصبوه العَداء في الحياة الدّنيا . ونظيره قوله تعالى في سورة المؤمن ( 11 ) { فهل إلى خروج من سبيل . } وانتصب { فيشفعوا } على جواب الاستفهام ، أو التّمنّي ، أو النّفي .«والشفعاء» جمع شفيع وهو الذي يسعى بالشّفاعة ، وهم يُسمّون أصنامهم شفعاء قال تعالى : { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ].وتقدّم معنى الشّفاعة عند قوله تعالى : { ولا يقبل منها شفاعة } في سورة البقرة ( 48 ). وعند قوله : { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } في سورة البقرة ( 254 ) وعند قوله : { من يشفع شفاعة حسنة } في سورة النّساء ( 85 ).وعطف فعل نرد } ب ( أو ) على مدخول الاستفهام ، فيكون الاستفهام عن أحد الأمرين ، لأنّ أحدهما لا يجتمع مع الآخر ، فإذا حصلت الشّفاعة فلا حاجة إلى الردّ ، وإذا حصل الردّ استغني عن الشّفاعة .وإذ كانت جملة { لنا من شفعاء } واقعة في حيز الاستفهام ، فالتي عطفت عليها تكون واقعة في حيز الاستفهام ، فلذلك تعين رفع الفعل المضارع في القراءات المشهورة ، ورفعه بتجّرده عن عامل النّصب وعامل الجزم ، فوقع موقع الاسم كما قدّره الزمخشري تبعاً للفراء ، فهو مرفوع بنفسه من غير احتياج إلى تأويل الجملة التي قبله ، بردّها إلى جملة فعليّة ، بتقدير : هل يشفع لنا شفعاء كما قدّره الزّجاج ، لعدم المُلجىء إلى ذلك ، ولذلك انتصب : { فنعمل } في جواب { نرد } كما انتصب { فيشفعوا } في جواب { فهل لنا من شفعاء }.والمراد بالعمل في قولهم : { فنعمل } ما يشمل الاعتقاد ، وهو الأهم ، مثل اعتقاد الوحدانيّه والبعث وتصديق الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، لأنّ الاعتقاد عمل القلب ، ولأنّه تترتّب عليه آثار عمليّة ، من أقوال وأفعال وامتثال . والمراد بالصّلة في قوله : { الذي كنا نعمل } ما كانوا يعملونه من أمور الدين بقرينة سياق قولهم : { قد جاءت رسل ربنا بالحق أي فنعمل ما يغاير ما صممنا عليه بعد مجيء الرّسول عليه الصّلاة والسّلام .وجملة : قد خسروا أنفسهم } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تذييلاً وخلاصة لقصّتهم ، أي فكان حاصل أمرهم أنّهم خسروا أنفسهم من الآن وضلّ عنهم ما كانوا يفترون .والخسارة مستعارة لعدم الانتفاع بما يرجى منه النّفع ، وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } في سورة الأنعام ، ( 12 ) وقوله : { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } في أوّل هذه السّورة ( 9 ). والمعنى : أنّ ما أقحموا فيه نفوسهم من الشّرك والتّكذيب قد تبيّن أنّه مفض بهم إلى تحقّق الوعيد فيهم ، يوم يأتي تأويل ما توعّدهم به القرآن ، فبذلك تحقّق أنّهم خسروا أنفسهم من الآن ، وإن كانوا لا يشعرون .وأما قوله : وضل عنهم ما كانوا يفترون } فالضّلال مستعار للعدم طريقة التّهكّم شبه عدم شفعائهم المزعومين بضلال الإبل عن أربابها تهكّماً عليهم ، وهذا التّهكّم منظور فيه إلى محاكاة ظنّهم يوم القيامة المحكي عنهم في قوله قبل { قالوا ضلوا عنا } [ الأعراف : 37 ].و ( مَا ) من قوله : { ما كانوا يفترون } موصولة ، ما صْدَقها الشّفعاء الذين كانوا يدعونهم من دون الله . وحُذف عائد الصّلة المنصوب ، أي ما كانوا يفترونه ، أي يَكْذِبونه إذ يقولون { هؤلاء شفعاؤنا } [ يونس : 18 ] ، وهم جماد لاحظَّ لهم في شؤون العقلاء حتى يشفعوا ، فهم قد ضلوا عنهم من الآن ولذلك عبّر بالمضي لأنّ الضّلال المستعار للعدم متحقّق من ماضي الأزمنة .
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
📘 جاءت أغراض هذه السّورة متناسبة متماسكة ، فإنّها ابتدئت بذكر القرآن والأمرِ باتّباعه ونبذِ ما يصدّ عنه وهو اتّباع الشّرك؛ ثمّ التّذكيرِ بالأمم التي أعرضت عن طاعة رسل الله ، ثمّ الاستدلال على وحدانية الله ، والامتناننِ بخلق الأرض والتّمكين منها ، وبخلق أصل البشر وخَلقهم ، وخُلَل ذلك بالتّذكير بعداوة الشّيطان لأصل البشر وللبشر في قوله : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ]. وانتُقل من ذلك إلى التّنديد على المشركين فيما اتّبعوا فيه تسويل الشّيطان من قوله : { وإذا فعلوا فاحشة } [ الأعراف : 28 ] ، ثمّ بتذكيرهم بالعهد الذي أخذه الله على البشر في قوله : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم } [ الأعراف : 35 ] الآية . وبأن المشركين ظَلموا بنكث العهد بقوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته } [ الأعراف : 37 ] وتوعدهم وذكّرهم أحوال أهل الآخرة ، وعَقِب ذلك عاد إلى ذكر القرآن بقوله : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم } [ الأعراف : 52 ] وأنهاه بالتّذييل بقوله : { قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } [ الأعراف : 53 ].فلا جرم تهيأت الأسماع والقلوب لتلقي الحجّة على أنّ الله إله واحد ، وأنّ آلهة المشركين ضلال وباطل ، ثمّ لِبيان عظيم قدرته ومجده فلذلك استؤنف بجملة { إن ربكم الله } الآية ، استئنافاً ابتدائياً عاد به التّذكير إلى صدر السّورة في قوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } [ الأعراف : 3 ] ، فكان ما في صدر السّورة بمنزلة المطلوب المنطقي ، وكان ما بعده بمنزله البرهان ، وكان قوله : { إن ربكم الله } بمنزلة النّتيجة للبرهان ، والنتيجة مساوية للمطلوب إلاّ أنّها تؤخَذُ أوضحَ وأشد تفصيلاً .فالخطاب موجّه إلى المشركين ابتداء ، ولذلك كان للتّأكيد بحرف ( إنّ ) موقعه لرد إنكار المشركين انفراد الله بالرّبوبيه . وإذ كان ما اشتملت عليه هذه الآية يزيد المسلمين بصيرة بعظم مجد الله وسعة ملكه ، ويزيدهم ذكرى بدلائل قدرته ، كان الخطاب صالحاً لتناول المسلمين ، لصلاحية ضمير الخطاب لذلك ، ولا يكون حرف ( إن ) بالنّسبة إليهم سدى ، لأنّه يفيد الاهتمام بالخبر ، لأنّ فيه حظاً للفريقين ، ولأنّ بعض ما اشتمل عليه ( ما ) هو بالمؤمنين أعلق مثل { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } [ الأعراف : 55 ] وقوله : { إن رحمت الله قريب من المحسنين } [ الأعراف : 56 ] وبعضه بالكافرين أنسب مثل قوله : { كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } [ الأعراف : 57 ].وقد جعل المخبرُ عنه الرب ، والخبرُ اسمَ الجلالة : لأن المعنى أنّ الرب لكم المعلومَ عندكم هو الذي اسمه الدال على ذاته : اللَّهُ ، لا غيره ممَن ليس له هذا الاسم ، على ما هو الشّأن ، فهي تعريف المسند في نحو : أنا أخوك ، يقال لمن يعرف المتكلّم ويعرف أنّ له أخاً ولا يعرف أنّ المتكلم هو أخوه . فالمقصود من تعريف المسند إفادة ما يسمّى في المنطق بحمل المواطاة ، وهو حمل ( هُو هُو ) ولذلك يخيّر المتكلّم في جعل أحد الجزأين مسند إليه ، وجعل الآخر مسنداً ، لأنّ كليهما معروف عند المخاطب ، وإنّما الشّأن أن يجعل أقواهما معرفة عند المخاطب هو المسندَ إليه .ليكون الحمل أجدى إفادة ، ومن هذا القبيل قول المعرّي يصف فارساً في غارة :يخُوض بَحْراً نَقْعه ماؤُه ... يحُمله السّابح في لِبْدِهِإذ قد عَلِم السامع أنّ للفارس عند الغارة نقعاً . وعلم أنّ الشّاعر أثبت للفارس بَحراً وأنّ للبحر ماء ، فقد صار النّقع والبحر معلومين للسّامع ، فأفاده أنّ نقع الفارس هو ماء البحر المزعوم ، لأنّه أجدى لمناسبة استعارة البحر للنّقع ، وإلاّ فما كان يعوز المعرّي أن يقول : ماؤه نقعه فمن انتقد البيت فإنّه لم ينصفه .وأُكِّد هذا الخبر بحرف التّوكيد ، وإن كان المشركون يثبتون الربوبيّة لله ، والمسلمون لا يمترون في ذلك ، لتنزيل المشركين مِن المخاطبين منزلة من يتردّد في كون الله ربّاً لهم لكثرة إعراضهم عنه في عباداتهم وتوجهاتهم .وقولُه : { الذي خلق السموات والأرض } صفة لاسم الجلالة ، والصّلة مؤذنة بالإيماء إلى وجه بناء الخبر المتقدّم ، وهو { إن ربكم الله } لأنّ خلق السّماوات والأرض يكفيهم دليلاً على انفراده بالإلهية ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } بسورة الأنعام ( 1 ).وقوله : في ستة أيام ثم استوى على العرش } تعليم بعظيم قدرته ، ويحصل منه للمشركين زيادة شعور بضلالهم في تشريك غيره في الإلهية ، فلا يدلّ قوله : { في ستة أيام } على أنّ أهل مكّة كانوا يعلمون ذلك ، وفيه تحَدّ لأهل الكتاب كما في قوله تعالى : { أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } [ الشعراء : 197 ] وليس القصد من قوله : { في ستة أيام } الاستدلال على الواحدانية ، إذ لا دلالة فيه على ذلك .وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون خلق السّماوات والأرض مدّرجاً ، وأن لا يكون دفعة ، لأنّه جعل العوالم متولِّداً بعضُها من بعض ، لتكون أتقن صنعاً ممّا لو خُلقت دَفعة ، وليكون هذا الخلق مَظْهَراً لصفتي علممِ الله تعالى وقدرتِه ، فالقدرة صالحة لخلقها دفعة ، لكنّ العلم والحكمة اقتضيا هذا التّدرج ، وكانت تلك المدّة أقل زمن يحصل فيه المراد من التّولّد بعظيم القدرة . ولعلّ تكرّر ذكر هذه الأيّام في آيات كثيرة لقصد التّنبيه إلى هذه النّكتة البديعة ، من كونها مظهر سعة العلم وسعة القدرة .وظاهر الآيات أنّ الأيّام هي المعروفة للنّاس ، التي هي جمعُ اليوم الذي هو مدّة تقدّر من مبدأ ظهور الشّمس في المشرق إلى ظهُورها في ذلك المكان ثانية ، وعلى هذا التّفسير فالتّقدير في ما يماثل تلك المدّة ستّ مرّات ، لأنّ حقيقة اليوم بهذا المعنى لم تتحقّق إلاّ بعد تمام خلق السّماء والأرض ، ليمكن ظهور نور الشّمس على نصف الكرة الأرضية وظهور الظلمة على ذلك النّصف إلى ظهور الشّمس مرّة ثانية ، وقد قيل : إنّ الأيّام هنا جمع اليوم من أيّام الله تعالى الذي هو مدّة ألف سنة ، فستّة أيام عبارة عن ستّة آلاف من السّنين نظراً لقوله تعالى :{ وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } [ الحج : 47 ] وقوله : { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } [ السجدة : 5 ] ، ونقل ذلك عن زيد بن أرقم واختاره النّقاش ، وما هو ببعيد ، وإن كان مخالفاً لما في التّوراة ، وقيل المراد : في ستّة أوقات ، فإنّ اليوم يطلق على الوقت كما في قوله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره } [ الأنفال : 16 ] أي حين إذ يلقاهم زَحْفاً ، ومقصود هذا القائل أنّ السماوات والأرض خُلقت عالَماً بعد عالم ولم يشترك جميعُها في أوقات تكوينها ، وأيّاً مّا كان فالأيام مراد بها مقادير لا الأيام التي واحدها يوم الذي هو من طلوع الشّمس إلى غروبها إذ لم تكن شمس في بعض تلك المدّة ، والتّعمّق في البحث في هذا خروج عن غرض القرآن .والاستواء حقيقتهُ الاعتدال ، والذي يؤخذ من كلام المحقّقين من علماء اللّغة والمفسّرين أنّه حقيقة في الارتفاع والاعتلاء ، كما في قوله تعالى في صفة جبريل { فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى } [ النجم : 6 8 ].والاستواء له معان متفرّعة عن حقيقته ، أشهرها القصد والاعتلاء ، وقد التُزم هذا اللّفظ في القرآن مسنداً إلى ضمير الجلالة عند الإخبار عن أحوال سماوية ، كما في هذا الآية . ونظائرُها سبعُ آيات من القرآن : هنا . وفي يونس ، والرّعد ، وطه ، والفرقان ، وألم السجدة ، والحديد ، وفُصِّلت . فظهر لي أنّ لهذا الفعل خصوصيّة في كلام العرب كان بِسببها أجدرَ بالدّلالة على المعنى المرادِ تبليغُه مجملاً ممّا يليق بصفات الله ويقرّب إلى الأفهام من معنى عظمته ، ولذلك اختِير في هذه الآيات دون غيره من الأفعال التي فسّره بها المفسّرون .فالاستواء يعبِّر عن شأن عظيم من شؤون عظمة الخالق تعالى ، اختير التّعبير به على طريق الاستعارة والتّمثيلِ : لأنّ معناه أقرب معاني المواد العربيّة إلى المعنى المعبّر عنه من شؤونه تعالى ، فإنّ الله لمّا أراد تعليم معاننٍ من عالم الغيب لم يكن يتأتى ذلك في اللّغة إلاّ بأمثلة معلومة من عالم الشّهادة ، فلم يكن بد من التّعبير عن المعاني المغيّبة بعبارات تقرّبها ممّا يعبر به عن عالم الشّهادة ، ولذلك يكثر في القرآن ذكر الاستعارات التّمثيليّة والتّخييليّة في مثل هذا .وقد كان السّلف يتلقّون أمثالها بلا بحثثٍ ولا سؤال لأنّهم علموا المقصود الإجمالي منها فاقتنعوا بالمعنى مجملاً ، ويسمّون أمثالَها بالمتشابهات ، ثمّ لمّا ظهر عصر ابتداء البحث كانوا إذا سئلوا عن هذه الآية يقولون : استوى الله على العرش ولا نعرف لذلك كيفاً ، وقد بيّنتُ أنّ مثل هذا من القسم الثّاني من المتشابه عند قوله تعالى : { وأخر متشابهات } في سورة آل عمران ( 7 ) ، فكانوا يأبون تأويلها . وقد حكى عياض في المدارك } عن سفيان بن عيينة أنّه قال : سأل رجل مالكاً فقال : الرّحمانُ على العرش استوى .كيفَ استوى يا أبا عبد الله؛ فسكت مالكٌ مليّاً حتّى علاه الرّحَضاء ثمّ سُرّيَ عنه ، فقال : «الاستواء معلوم والكيف غير معقول والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب وإنّي لأظنّك ضالاً» واشتهر هذا عن مالك في روايات كثيرة ، وفي بعضها أنّه قال لمن سأله : «وأظنّك رجُلَ سوء أخْرِجُوه عنّي» وأنّه قال : «والسؤالُ عنه بدعة» . وعن سفيان الثّوري أنّه سئل عنها : «فقال : فَعَلَ الله فعلا في العرش سمّاه استواء» . قد تأوّله المتأخّرون من الأشاعرة تأويلات ، أحسنها : ما جنح إليه إمام الحرمين أنّ المراد بالاستواء الاستيلاء بقرينة تعديته بحرف على ، وأنشدوا على وجه الاستيناس لذلك قولَ الأخطل :قد استوى بِشْرٌ على العراق ... بغيرِ سيف ودم مُهْرَاقوأُراه بعيداً ، لأنّ العرش ما هو إلاّ من مخلوقاته فلا وجه للإخبار باستيلائه عليه ، مع احتمال أن يكون الأخطل قد انتزعه من هذه الآية ، وقد قال أهل اللّغة : إنّ معانيه تختلف باختلاف تعديته بعَلى أو بإلى ، قال البخاري ، عن مجاهد : استوى عَلا على العرش ، وعن أبي العالية : استوى إلى السّماء ارتفع فسَوى خلقهن .وأحسب أنّ استعارته تختلف بقرينة الحَرف الذي يُعدّى به فعله ، فإن عُدّي بحرف ( على ) كما في هذه الآية ونظائرها فهو مستعار من معنى الاعتلاء ، مستعمل في اعتلاء مجازي يدلّ على معنى التّمكّن ، فيحتمل أنّه أريد منه التّمثيل ، وهو تمثيل شأننِ تصرّفه تعالى بتدبير العوالم ، ولذلك نجده بهذا التّركيب في الآيات السّبع واقعاً عقب ذكر خلق السّماوات والأرض ، فالمعنى حينئذ : خلقَها ثمّ هو يدبّر أمورها تدبير المَلِك أمور مملكته مستوياً على عَرشه . وممّا يقرب هذا المعنى قول النّبيء صلى الله عليه وسلم " يَقْبِض الله الأرضَ ويطوي السّماوات يومَ القيامة ثمّ يقول : أنا المَلِك أيْنَ ملوك الأرض " . ولذلكَ أيضاً عُقب هذا التّركيب في مواقعه كلّها بما فيه معنى التّصرف كقوله هنا { يغشى الليل النهار الخ ، وقوله في سورة يونس ( 3) : { يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه } وقوله في سورة الرّعد ( 2) : { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات } وقوله في سورة ألم السجدة ( 4 ، 5) : { مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض } وكمال هذا التّمثيل يقتضي أن يكون كلّ جزءٍ من أجزاء الهيئة الممثّلة مشبهاً بجزء من أجزاء الهيئة الممثَّل بها ، فيقتضي أن يكون ثمة موجود من أجزاء الهيئة الممثّلة مشابهاً لعرش المَلك في العظمة ، وكونه مصدر التّدبير والتّصرف الإلهي يفيض على العوالم قوى تدبيرها . وقد دلّت الآثار الصّحيحة من أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على وجود هذا المخلوق العظيم المسمّى بالعرش كما سنبيّنه .فأمّا إذا عُدّي فعل الاستواء بحرف اللاّم فهو مستعار من معنى القصد والتّوجّه إلى معنى تعلّق الإرادة ، كما في قوله :{ ثم استوى إلى السماء } [ البقرة : 29 ]. وقد نحا صاحب «الكشاف» نحواً من هذا المعنى ، إلاّ أنّه سلك به طريقة الكناية عن المُلك : يقولون استوى فلان على العرش يريدون مُلك .والعرش حقيقته الكرسي المرتفع الذي يجلس عليْه المَلِك ، قال تعالى : { ولها عرش عظيم } [ النما : 23 ] وقال : { ورفع أبويه على العرش } [ يوسف : 100 ] ، وهو في هذه الآية ونظائرها مستعمل جزءا من التّشبيه المركّب ، ومن بداعة هذا التّشبيه أن كان كلّ جزء من أجزاءِ الهيئة المشبهة مماثلاً لجزءٍ من أجزاء الهيئة المشبَّه بها ، وذلك أكمل التّمثيل في البلاغة العربيّة ، كما قدّمتُه آنفاً . وإذ قد كان هذا التّمثيل مقصوداً لتقريب شأن من شؤون عظمة مُلك الله بحال هيئةٍ من الهيئات المتعارفة ، ناسب أن يشتمل على ما هو شعار أعظم المدبّرين للأمور المتعارفة أعني الملوك ، وذلك شعارُ العرش الذي من حَوْله تصدر تصرّفات الملك ، فإنّ تدبير الله لمخلوقاته بأمر التّكوين يكون صدوره بواسطة الملائكة ، وقد بيّن القرآن عَمَل بعضهم مثل جبريل عليه السّلام وملَككِ الموت ، وبيَّنت السنة بعضها : فذكرت ملك الجبال ، وملك الرّياح ، والملك الذي يباشر تكوين الجنين ، ويكتُب رزقَه وأجلَه وعاقبتَه ، وكذلك أشار القرآن إلى أن من الموجودات العلويّة موجوداً منوّها به سمّاه العرش ذكره القرآن في آيات كثيرة . ولمّا ذكر خلق السّماوات والأرض وذكر العرش ذكره بما يشعر بأنّه موجود قبل هذا الخلق . وبيّنت السنّة أنّ العرش أعظم من السماوات وما فيهن ، من ذلك حديث عمران بن حصين أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم قال : " كان الله ولم يكن شيء قبلَه وكان عرشه على الماء ثمّ خلق السّماوات والأرض " وحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال في حديث طويل : " فإذا سألتم الله فاسألُوه الفِردوس فإنّه أوسط الجنّة ، وأعلَى الجنّة وفوقَه عرش الرّحمان ومنه تفجَّر أنهار الجنّة " وقد قيل إنّ العرشِ هو الكرسي وأنّه المراد في قوله تعالى : { وسع كرسيه السماوات والأرض } كما تقدّم الكلام عليه في سورة البقرة ( 255 ).وقد دلّت ( ثُمّ ) في قوله : { ثم استوى على العرش } على التّراخي الرّتبي أي وأعظم من خلق السّماوات والأرض استواءه على العرش ، تنبيهاً على أنّ خلق السّماوات والأرض لم يحدث تغييراً في تصرّفات الله بزيادة ولا نقصان ، ولذلك ذكر الاستواء على العرش عقب ذكر خلق السّماوات والأرض في آيات كثيرة ، ولعلّ المقصد من ذلك إبطال ما يقوله اليهود : إنّ الله استراح في اليوم السّابع فهو كالمقصد من قوله تعالى : { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } [ ق : 38 ].وجملة { يغشى الليل النهار } في موضع الحال من اسم الجلالة ، ذكر به شيء من عموم تدبيره تعالى وتصرّفه المضمّن في الاستواء على العرش ، وتنبيه على المقصود من الاستواء ، ولذلك جاء به في صورة الحال لا في صورة الخبر ، كما ذكر بوجه العموم في آية سورة يونس ( 3 ) وسورة الرّعد ( 2 ) بقوله :{ يدبر الأمر } وخصّ هذا التّصرف بالذّكر لما يدلّ عليه من عظيم المقدرة ، وما فيه من عبرة التّغيّر ودليللِ الحدوث ، ولكونه متكرّراً حدوثه في مشاهدة النّاس كلّهم . والإغشاء والتّغشية : جعل الشّيء غاشياً ، والغَشْي والغشيان حقيقته التّغطيّة والغمّ .فمعنى : { يغشى الليل النهار } أنّ الله يجعل أحدهما غاشياً الآخر .والغشي مستعار للإخفاء ، لأنّ النّهار يزيل أثر اللّيل واللّيل يزيل أثر النّهار ، ومن بديع الإيجاز ورشاقة التّركيب : جعل الليل والنّهار مفعولين لفعل فاعل الإغشاء ، فهما مفعولان كلاهما صالح لأن يكون فاعل الغشي ، ولهذا استغنى بقوله : { يغشى الليل النهار } عن ذكر عكسه ولم يقل : والنّهار اللّيل ، كما في آية { يكور الليل على النهار } [ الزمر : 5 ] لكن الأصل في ترتيب المفاعيل في هذا الباب أن يكون الأوّلُ هو الفاعل في المعنى ، ويجوز العكس إذا أمِن اللّبس ، وبالأحرى إذا استوى الاحتمالان .وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم في رواية حفص { يُغْشِي } بضمّ الياء وسكون الغين وتخفيف الشّين . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية أبي بكر ، ويعقوب ، وخلَف بضمّ الياء وفتح الغين وتشديد الشّين وهما بمعنى واحد في التّعدية .وجملة : { يطلبه } إن جعلت استينافاً أو بدلَ اشتمال من جملة ( يغشي ) فأمرها واضح ، واحتمل الضّمير المنصوب في ( يطلبه ) أن يعود إلى اللّيل وإلى النّهار ، وإن جعلت حالا تعين أن تعتبر حالاً من أحد المفعولين على السَّواء فإنّ كلاً اللّيل والنّهار يعتبر طالباً ومطلوباً ، تبعاً لاعتبار أحدهما مفعولاً أوّل أو ثانياً .وشُبّه ظهور ظلام اللّيل في الأفق ممتداً من المشرق إلى المغرب عند الغروب واختفاء نور النّهار في الأفق ساقطاً من المشرق إلى المغرب حتّى يعمّ الظّلامُ الأفقَ بطلب اللّيل النّهارَ ، على طريقة التّمثيل ، وكذلك يفهم تشبيه امتداد ضوء الفجر في الأفق من المشرق إلى المغرب واختفاءُ ظلام اللّيل في الأفق ساقطاً في المغرب حتّى يعمّ الضياء الأفقَ : بطلب النّهار اللّيلَ على وجه التّمثيل ، ولا مانع من اعتبار التّنازع للمفعولين في جملة الحال كما في قوله تعالى : { فأتت به قومها تحمله } [ مريم : 27 ] وقوله : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره }.والحثيث : المسرع ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، من حثَه إذا أعجله وكَرّر إعجاله ليبادر بالعجلة ، وقريب من هذا قول سلامة من جَنْدَل يذكر انتهاء شبابه وابتداء عصر شيْبه :أوْدَى الشّبابُ الذي مَجْدٌ عواقِبه ... فيهِ نَلَذَّ ولا لَذّاتتِ للشّيبولَّى حثيثاً وهذا الشّيبُ يَتَبَعُه ... لو كان يُدْرِكه ركْضُ اليَعاقيبِفالمعنى يطلبه سريعاً مُجدّاً في السّرعة لأنّه لا يلبث أن يعفى أثره .{ والشمس والقمر والنجوم } بالنّصب في قراءة الجمهور معطوفات على السّماوات والأرض ، أي وخلق الشّمسَ والقمر والنّجوم ، وهي من أعظم المخلوقات التي اشتملت عليها السّماوات .و { مسخرات } حال من المذكورات .وقرأ ابن عامر برفع { الشمس } وما عطف عليه ورفْععِ { مسخرات } ، فتكون الجملة حالا من ضمير اسم الجلاله كقوله : { يغشى الليل النهار }.وتقدّم الكلام على اللّيل والنّهار عند قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } في سورة البقرة ( 164 ) ويأتي في سورة الشّمس .والتّسخير حقيقته تذلِيل ذي عمل شاققٍ أو شاغللٍ بقهر وتخويف أو بتعليم وسياسة بدون عوض ، فمنه تسخير العبيد والأسرى ، ومنه تسخير الأفراس والرّواحل ، ومنه تسخير البقر للحلب ، والغنم للجزّ . ويستعمل مجازاً في تصريف الشّيء غير ذي الإرادة في عمل عجيب أو عظيم من شأنه أن يصعب استعماله فيه ، بحيلة أو إلهام تصريفاً يصيّره من خصائصه وشؤونه ، كتسخير الفُلك للمخر في البحر بالرّيح أو بالجذف ، وتسخير السّحاب للأمطار ، وتسخير النّهار للعمل ، واللّيل للسّكون ، وتسخير اللّيل للسّير في الصّيف ، والشّمس للدّفء في الشّتاء ، والظلّ للتبرد في الصّيف ، وتسخير الشّجر للأكل من ثماره حيث خلق مجرّداً عن موانع تمنع من اجتنائه مثل الشّوك الشّديد ، فالأسد غير مسخّر بهذا المعنى ولكنّه بحيث يسخر إذا شاء الإنسان الانتفاع بلحمه أو جلده بحيلة لصيده بزُبية أو نحوها ، ولذلك قال الله تعالى : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه } [ الجاثية : 13 ] باعتبار هذا المجاز على تفاوت في قوّة العلاقة . فقوله : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } أطلق التّسخير فيه مجازاً على جعلها خاضعة للنّظام الذي خلقها الله عليه بدون تغيير ، مع أنّ شأن عظمها أن لا يستطيعَ غيره تعالى وضعها على نظام محدود منضبط .ولفظ الأمر في قوله : { بأمره } مستعمل مجازاً في التّصريف بحسب القدرة الجارية على وفق الإرادة . ومنه أمر التّكوين المعبّر عنه في القرآن بقوله : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [ يس : 82 ] لأن ( كن ) تقريب لنفاذ القدرة المسمّى بالتّعلّق التّسخيري عند تعلّق الإرادة التّنجيزي أيضاً فالأمر هنا من ذلك ، وهو تصريف نظام الموجودات كلّها .وجملة : { ألا له الخلق والأمر } مستأنفة استئناف التّذييل للكلام السّابق من قوله : { الذي خلق السموات والأرض } لإفادة تعميم الخَلْق . والتّقدير : لما ذُكر آنفاً ولِغيره . فالخلق : إيجاد الموجودات ، والأمر تسخيرها للعمل الذي خلقت لأجله .وافتتحت الجملة بحرف التّنبيه لتَعِي نفوسُ السّامعين هذا الكلام الجامع .واللام الجارة لضمير الجلالة لام المِلك . وتقديم المسند هنا لتخصيصه بالمسند إليه .والتّعريف في الخلق والأمر تعريف الجنس ، فتفيد الجملة قصر جنس الخلق وجنس الأمر على الكون في مِلك الله تعالى ، فليس لغيره شيء من هدا الجنس ، وهو قصر إضافي معناه : ليس لآلهتهم شيء من الخلق ولا من الأمر ، وأمّا قصر الجنس في الواقع على الكون في مِلك الله تعالى فذلك يرجع فيه إلى القرائن ، فالخلق مقصور حقيقة على الكون في ملكه تعالى ، وأمّا الأمر فهو مقصور على الكون في ملك الله قصراً ادعائياً لأنّ لكثيرٍ من الموجودات تدبيرَ أمور كثيرة ، ولكن لما كان المدبِّر مخلوقاً لله تعالى كان تدبيره راجعاً إلى تدبير الله كما قيل في قصر جنس الحمْد في قوله :{ الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ].وجملة { تبارك الله رب العالمين } تذييل معترضة بين جملة { إن ربكم الله } وجملة { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } [ الأعراف : 55 ] إذ قد تهيّأ المقام للتّذكير بفضل الله على النّاس ، وبنافع تصرّفاته ، عقب ما أجرى من إخبار عن عظيم قدرته وسعة علمه وإتقاننِ صنعه .وفعل { تبارك } في صورة اشتقاقه يؤذن بإظهار الوصف على صاحبه المتّصف به مثل : تثاقل ، أظهر الثّقل في العمل ، وتعالل ، أي أظهر العلّة ، وتعاظم : أظهر العظمة ، وقد يستعمل بمعنى ظهور الفعل على المتّصف به ظهوراً بيِّناً حتى كأنّ صاحبه يُظهره ، ومنه : { تعالى الله } [ النمل : 63 ] أي ظَهر علوّه ، أي شرفه على الموجودات كلّها ، ومنه { تبارك } أي ظَهرت بركته .والبركة : شدّة الخير ، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً } في سورة آل عمران ( 96 ) ، وقوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } في سورة الأنعام ( 92 ). فبركة الله الموصوفُ بها هي مجده ونزاهته وقدسه ، وذلك جامع صفات الكمال ، ومن ذلك أنّ له الخلق والأمر .وإتْباع اسم الجلالة بالوصف وهو رب العالمين في معنى البيان لاستحقاقه البركة والمجد ، لأنّه مفيض خيرات الإيجاد والإمداد ، ومدبّر أحوال الموجودات ، بوصف كونه ربّ أنواع المخلوقات ، ومضى الكلام على { العالمين } في سورة الفاتحة ( 2 ).
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
📘 استئناف جاء معترضاً بين ذكر دلائل وحدانية الله تعالى بذكر عظيم قدرته على تكوين أشياء لا يشاركه غيره في تكوينها . فالجملة معترضة بين جملة { يغشى الليل النهار } [ الأعراف : 54 ] وجملة : { وهو الذي يرسل الرياح } [ الأعراف : 57 ] جرى هذا الاعتراض على عادة القرآن في انتهاز فُرص تهنُّؤ القلوب للذّكرى . والخطاب ب { ادعوا } خاص بالمسلمين لأنّه تعليم لأدب دعاء الله تعالى وعبادته ، وليس المشركون بمتهيّئين لمثل هذا الخطاب ، وهو تقريب للؤمنين وإدناء لهم وتنبيه على رضى الله عنهم ومحبّته ، وشاهدُه قوله بعده : { إن رحمت الله قريب من المحسنين } [ الأعراف : 56 ]. والخطاب مُوَجَّه إلى المسلمين بقرينة السياق .و ( الدّعاء ) حقيقته النّداء ، ويطلق أيضاً على النّداء لطلب مهمّ ، واستعمل مجازاً في العبادة لاشتمالها على الدّعاء والطّلب بالقول أو بلسان الحال ، كما في الرّكوع والسّجود ، مع مقارنتها للأقوال وهو إطلاق كثير في القرآن .والظاهر أنّ المراد منه هنا الطّلب والتّوجه ، لأنّ المسلمين قد عبدوا الله وأفردوه بالعبادة ، وإنّما المهمّ إشعارهم بالقرب من رحمة ربّهم وإدناء مَقامهم منها .وجيء لتعريف الرّب بطريق الإضافة دون ضمير الغائب ، مع وجود معاد قريب في قوله : { تبارك الله } [ الأعراف : 54 ] ودون ضمير المتكلّم ، لأنّ في لفظ الرّب إشعاراً بتقريب المؤمنين بصلة المربوبية ، وليتوسّل بإضافة الرّب إلى ضمير المخاطبين إلى تشريف المؤمنين وعناية الرّب بهم كقوله : { بل الله مولاكم } [ آل عمران : 150 ].والتّضرّع : إظهار التّذلل بهيئة خاصة ، ويطلق التّضرع على الجهر بالدّعاء لأنّ الجهر من هيئة التّضرع ، لأنّه تذلّل جهري ، وقد فُسّر في هذه الآية وفي قوله في الأنعام ( 63) : { تدعونه تضرعاً وخفية } بالجهر بالدّعاء ، وهو الذي نختاره لأنّه أنسب بمقابلته بالخُفية ، فيكون أسلوبه وفقا لأسلوب نظيره في قوله { ادعوه خوفاً وطمعاً } [ الأعراف : 56 ] وتكون ، الواو للتقسيم بمنزلة ( أو ) وقد قالوا : إنّها فيه أجود من ( أوْ ). ومن المفسّرين من أبقى التّضرع على حقيقته وهو التّذلل ، فيكون مصدراً بمعنى الحال ، أي متذلّلين ، أو مفعولاً مطلقاً ل { ادعوا } ، لأنّ التّذلّل بعض أحوال الدّعاء فكأنّه نوع منه ، وجعلوا قوله : وخفية } مأموراً به مقصوداً بذاته ، أي ادعوه مُخفين دعاءكم ، حتّى أوهم كلام بعضهم أنّ الإعلان بالدّعاء منهي عنه أو غير مثوب عليه ، وهذا خطأ : فإنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم دعا علَناً غير مرّة . وعلى المنبر بمسمع من النّاس وقال : « اللّهمّ اسْقِنا » وقال : « اللّهمّ حَوالَيْنا ولا علينا » وقال : « اللّهمّ عليك بقريش » الحديث . وما رويت أدعيته إلاّ لأنّه جهر بها يسمعها من رَوَاها ، فالصّواب أنّ قوله : { تضرعاً } إذنٌ بالدّعاء بالجهر والإخفاء ، وأمّا ما ورد من النّهي عن الجهر فإنّما هو عن الجهر الشّديد الخارج عن حدّ الخشوع . وقرأ الجمهور { وخفية } بضمّ الخاء وقرأه أبو بكر بكسر الخاء وتقدّم في الأنعام .وجملة { إنه لا يحب المعتدين } واقعة موقع التّعليل للأمر بالّدعاء ، إشارة إلى أنّه أمر تكريم للمسلمين يتضمّن رضى الله عنهم ، ولكن سلك في التّعليل طريق إثبات الشّيء بإبطال ضدّه ، تنبيهاً على قصد الأمرين وإيجازاً في الكلام . ولكون الجملة واقعَة موقع التّعليل افتتحت ب ( إنّ ) المفيدة لمجرّد الاهتْمام ، بقرينة خلو المخاطبين عن التّردد في هذا الخبر ، ومن شأن ( إنّ ) إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التّعليل والرّبط ، وتقوم مقام الفاء ، كما نبّه عليه الشّيخ عبد القاهر .وإطلاق المحبّة وصفاً لله تعالى ، في هذه الآية ونحوها ، إطلاقٌ مجازي مراد بها لازم معنى المحبّة ، بناء على أنّ حقيقة المحبّة انفعال نفساني ، وعندي فيه احتمال ، فقالوا : أريد لازم المحبّة ، أي في المحبوب والمحِب ، فيلزمها اتّصاف المحبوب بما يرضي المحِب لتنشأ المحبّة التي أصلها الاستحسان ، ويلزمها رضى المحِب عن محبوبه وإيصال النّفع له . وهذان اللاّزِماننِ مُتَلازمان في أنفسهما . فإطلاق المحبّة وصفاً لله مجاز بهذا اللاّزم المركب .والمراد ب { المعتدين : المشركون ، لأنّ يرادف الظّالمين . 6والمعنى : ادعوا ربّكم لأنّه يحبّكم ولا يحبّ المعتدين ، كقوله : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [ غافر : 60 ] تعريض بالوعد بإجابة دعاء المؤمنين وأنّه لا يستجيب دعاءَ الكافرين ، قال تعالى : { وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال } [ الرعد : 14 ] على أحد تأويلين فيها . وحمل بعض المُفسّرين التّضرّع على الخضوع ، فجعلوا الآية مقصورة على طلب الدّعاء الخفي حتّى بَالغ بعضهم فجعل الجهر بالدّعاء منهياً عنه ، وتجاوز بعضهم فجعل قوله : { إنه لا يحب المعتدين } تأكيداً لمعنى الأمر بإخفاء الدّعاء ، وجعل الجهر بالدّعاء من الاعتداء والجاهرين به من المعتدين الذين لا يحبّهم الله . ونقل ذلك عن ابن جريج ، وأحسب أنّه نقلٌ عنه غير مضبوط العبارة ، كيف وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم جهراً ودعا أصحابه .
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
📘 عُطف النّهي عن الفساد في الأرض على جملة { إنه لا يحب المعتدين } [ الأعراف : 55 ] عَطْفاً على طريقة الاعتراض ، فإنّ الكلام لمّا أنبأ عن عناية الله بالمسلمين وتقريبه إياهم إذ أمرهم بأن يدعوه وشرّفهم بذلك العنوان العظيم في قوله : { ربكم } [ الأعراف : 55 ] ، وعرّض لهم بمحبّته إياهم دون أعدائهم المعتدين ، أعقبه بما يحول بينهم وبين الإدلال على الله بالاسترسال فيما تُمليه عليهم شهواتهم من ثوران القوتين الشّهوية والغَضبيّة ، فإنّهما تجنيان فساداً في الغالب ، فذكَّرهم بترك الإفساد ليكون صلاحهم منزّهاً عن أن يخالطه فساد ، فإنّهم إن أفسدوا في الأرض أفسدوا مخلوقات كثيرة وأفسدوا أنفسهم في ضمن ذلك الإفساد ، فأشبه موقعَ الاحتراس ، وكذلك دأب القرآن أن يعقِّب التّرغيب بالتّرهيب ، وبالعكس ، لئلاّ يقع النّاس في اليأس أو الأمْن .والاهتمامُ بدرء الفساد كان مَقَاماً هنا مقتضياً التّعجيل بهذا النّهي مُعترضاً بين جملتي الأمر بالدّعاء .وفي إيقاع هذا النّهي عقب قوله { إنه لا يحب المعتدين } [ الأعراف : 55 ] تعريض بأنّ المعتدين وهم المشركون مفسدون في الأرض ، وإرْباءُ للمسلمين عن مشابهتهم ، أي لا يليق بكم وأنتم المقرّبون من ربّكم ، المأذونُ لكم بدعائه ، أن تكونوا مثل المبعدين منه المبغضين .والإفساد في الأرض والإصلاح تقدّم الكلام عليهما عند قوله تعالى : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } في سورة البقرة ( 11 ) ، وبيّنّا هنالك أصول الفساد وحقائق الإصلاح ، ومر هنالك القول في حذف مفعول تفسدوا } ممّا هو نظير ما هنا .و { الأرض } هنا هي الجسم الكُروي المعبّر عنه بالدّنيا .والإفساد في كلّ جزء من الأرض هو إفساد لمجموع الأرض ، وقد يكون بعض الإفساد مؤدّياً إلى صلاح أعظم ممّا جرّه الإفساد من المضرّة ، فيترجّح الإفساد إذا لم يمكن تحصيل صلاح ضروري إلاّ به ، فقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير ، ونهى أبو بكر رضي الله عنه عن قطع شجر العدوّ ، لاختلاف الأحوال .والبعدية في قوله : { بعد إصلاحها } بعديةٌ حقيقيةٌ ، لأنّ الأرض خلقت من أوّل أمرها على صلاح قال الله تعالى : { وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها } [ فصلت : 10 ] على نظام صالح بما تحتوي عليه ، وبخاصة الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات التي جعلها الله على الأرض ، وخلق له ما في الأرض ، وعزّز ذلك النّظام بقوانين وضعها الله على ألْسِنَةِ المرسلين والصّالحين والحكماء من عباده ، الذين أيّدهم بالوحي والخطاب الإلهي ، أو بالإلهام والتّوفيق والحكمة ، فعلموا النّاس كيف يستعملون ما في الأرض على نظام يحصل به الانتفاع بنفع النّافع وإزالة ما في بعض النّافع من الضرّ وتجنّب ضرّ الضار ، فذلك النّظامُ الأصلي ، والقانُونُ المعزّزُ له ، كلاهما إصلاح في الأرض ، لأنّ الأوّل إيجاد الشّيء صالحاً ، والثّاني جعل الضّار صالحاً بالتّهذيب أو بالإزالة ، وقد مضَى في قوله تعالى :{ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } في سورة البقرة ( 11 ) ، أنّ الإصلاح موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشّيء صالحاً وبين جعل الفاسد صالحاً . فالإصلاح هنا مصدر في معنى الاسم الجامد ، وليس في معنى الفعل ، لأنّه أريد به إصلاح حاصل ثابت في الأرض لا إصلاح هو بصدد الحصول ، فإذا غُيّر ذلك النّظام فأفْسِد الصّالحُ ، واستُعمل الضّار على ضرّه ، أو استبقى مع إمكان إزالته ، كان إفساداً بعد إصلاح ، كما أشار إليه قوله تعالى : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } [ الأنفال : 73 ].والتّصريح بالبعدية هنا تسجيل لفظاعة الإفساد بأنّه إفساد لما هو حسن ونافع ، فلا معذرة لفاعله ولا مساغ لفعله عند أهل الأرض .عود إلى أمر الدّعاء لأنّ ما قبله من النّهي عن الإفساد أشبه الاحتراس المعترض بين أجزاء الكلام ، وأعيد الأمر بالدّعاء ليبنى عليه قوله : { خوفاً وطمعاً } قصداً لتعليم الباعث على الدّعاء بعد أن عُلّموا كيفيته ، وهذا الباعث تنطوي تحته أغراض الدّعاء وأنواعه ، فلا إشكال في عطف الأمر بالدّعاء على مِثله لأنّهما مختلفان باختلاف متعلّقاتهما .والخوف تقدّم عند قوله تعالى : { إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } [ البقرة : 229 ].والطّمع تقدّم في قوله : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } في سورة البقرة ( 75 ).وانتصاب خوفاً وطمعاً } هنا على المفعول لأجله ، أي أنّ الدّعاء يكون لأجل خوف منه وطمع فيه ، فحذف متعلِّق الخوف والطّمع لدلالة الضّمير المنصوب في { ادعوه }.والواو للتّقسيم للدّعاء بأنّه يكون على نوعين :فالخوف من غضبه وعقابه ، والطّمع في رضاه وثوابه ، والدّعاء لأجل الخوف نحو الدّعاء بالمغفرة ، والدّعاء لأجل الطّمع نحو الدّعاء بالتّوفيق وبالرّحمة . وليس المراد أنّ الدّعاء يشتمل على خوف وطمع في ذاته كما فسرّ به الفخر في السّؤال الثّالث لأنّ ذلك وإن صحّ في الطّمع لا يصحّ في الخوف إلاّ بسماجة . وفي الأمر بالدّعاء خوفاً وطمعاً دليل على أنّ من حظوظ المكلّفين في أعمالهم مراعاة جانب الخوف من عقاب اللَّه والطّمععِ في ثوابه ، وهذا ممّا طفحت به أدلّة الكتاب والسنّة ، وقد أتى الفخر في السّؤال الثّاني في تفسير الآية بكلام غيْر مُلاق للمعروف عند علماء الأمّة ، ونزع به نزعة المتصوّفة الغلاة . وتعقبّه يطول ، فدونك فانظره إن شئت .وقد شمل الخوف والطّمع جميع ما تتعلّق به أغراض المسلمين نحوّ ربّهم في عاجلهم وآجلهم ، ليدعُوا الله بأن ييسِر لهم أسباب حصول ما يطمعون ، وأن يجنبهم أسباب حصول ما يخافون . وهذا يقتضي توجّه همّتهم إلى اجتناب المنهيات لأجل خوفهم من العقاب ، وإلى امتثال المأمورات لأجل الطّمع في الثّواب ، فلا جرم أنّه اقتضى الأمرَ بالإحسان ، وهو أن يعبدُوا الله عبادة من هو حاضر بين يديه فيستحيي من أن يعصيه ، فالتّقدير : وادعوه خوفاً وطمعاً وأحسنوا بقرينة تعقيبه بقوله : { إن رحمة الله قريب من المحسنين }.وهذا إيجاز .وجملة : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } واقعة موقع التّفريع على جملة { وادعوه } ، فلذلك قرنت ب { إن } الدّالة على التّوكيد ، وهو لمجرّد الاهتمام بالخبر ، إذ ليس المخاطبون بمتردّدين في مضمون الخبر ، ومن شأن ( إن ) إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التّعليل وربط مضمون جملتها بمضمون الجملة التي قبلها ، فتغني عن فاء التّفريع ، ولذلك فُصلت الجملة عن التي قبلها فلم تعطف لإغناء ( إنّ ) عن العاطف .و { رحمة الله } : إحسانه وإيتاؤه الخبر .والقرب حقيقته دُنُّو المكان وتجاوره ، ويطلق على الرّجاء مجازاً يقال : هذا قريب ، أي ممكن مرجو ، ومنه قوله : { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } [ المعارج : 6 ، 7 ] فإنّهم كانوا ينكرون الحشر وهو عند الله واقع لا محالة ، فالقريب هنا بمعنى المرجو الحصول وليس بقرب مكان . ودلّ قوله { قريب من المحسنين } على مقدّر في الكلام ، أي وأحسنوا لأنّهم إذا دَعوا خوفاً وطعماً فقد تهيَّأوا لنبذ ما يوجب الخوف ، واكتساب ما يوجب الطّمع ، لئلا يكون الخوف والطّمع كاذبين ، لأنّ من خاف لا يُقدم على المخوف ، ومن طمع لا يَترك طلب المطموع ، ويتحقّق ذلك بالإحسان في العمل ويلزم من الإحسان ترك السَيِّئات ، فلا جرم تكون رحمة الله قريباً منهم ، وسكت عن ضد المحسنين رفقاً بالمؤمنين وتعريضاً بأنّهم لا يظن بهم أن يسيئوا فتبعد الرّحمة عنهم .وعدم لحاق علامة التّأنيث لوصففِ { قريب } مع أنّ موصوفه مؤنّث اللّفظ ، وجَّهه علماء العربيّة بوجوه كثيرة ، وأشار إليها في «الكشاف» .وجلّها يحوم حول تأويل الاسم المؤنّث بما يرادفه من اسممٍ مذكّر ، أو الاعتذارِ بأنّ بعض الموصوف به غيرُ حقيقي التّأنيث كما هنا ، وأحسنها عندي قول الفراء وأبي عبيدة : أنّ قريباً أو بعيداً إذا أطلق على قرابة النّسب أو بُعد النّسب فهو مع المؤنّث بتاء ولا بُدّ ، وإذا أطلق على قُرب المسافة أو بُعدها جاز فيه مطابقة موصوفه وجاز فيه التّذكير على التّأويل بالمكان ، وهو الأكثر ، قال الله تعالى : { وما هي من الظالمين ببعيد } [ هود : 83 ] وقال : { وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } [ الأحزاب : 63 ]. ولمّا كان إطلاقه في هذه الآية على وجه الاستعارة من قرب المسافة جرى على الشّائع في استعماله في المعنى الحقيقي ، وهذا من لطيف الفروق العربيّة في استعمال المشترك إزالة للإبهام بقدر الإمكان .
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
📘 جملة : { وهو الذي يرسل الرياح } عطف على جملة : { يغشي الليل النهار } [ الأعراف : 54 ] وقد حصلت المناسبة بين آخر الجمل المعترضة وبين الجملة المعترض بينها وبين ما عُطفت عليه بأنّه لما ذكر قرب رحمته من المحسنين ذكَر بعضاً من رحمته العامة وهو المطر . فذِكر إرسال الرّياح هو المقصود الأهم لأنّه دليل على عظم القدرة والتّدبير ، ولذلك جعلناه معطوفاً على جملة : { يغشي الليل النهار } [ الأعراف : 54 ] أو على جملة : { ألا له الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ]. وذِكْر بعض الأحوال المقارنة لإرسال الرّياح يحصل منه إدماجُ الامتنان في الاستدلال وذلك لا يقتضي أنّ الرّياح لا ترسل إلاّ للتبشير بالمطر ، ولا أنّ المطر لا ينزل إلاّ عَقب إرسال الرّياح ، إذ ليس المقصود تعليم حوادث الجَو ، وإذ ليس في الكلام ما يقتضي انحصار الملازمة وفيه تعريض ببشارة المؤمنين بإغداق الغيث عليهم ونذارةِ المشركين بالقحط والجوع كقوله { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً } [ الجن : 16 ] وقوله { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } [ الدخان : 10 ].وأطلق الإرسال على الانتقال على وجه الاستعارة ، فإرسال الرّياح هبوبها من المكان الذي تهب فيه ووصولها ، وحَسَّن هذه الاستعارةَ أنّ الرّيح مسخّرة إلى المكان الذي يريد الله هبوبها فيه فشُبهت بالعاقل المرسَل إلى جهة مَّا ، ومن بدائع هذه الاستعارة أنّ الرّيح لا تفارق كُرَة الهواء كما تقدّم عند قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } الآية في سورة [ البقرة : 164 ]. فتصريفُ الرّياح من جهة إلى جهة أشبَهُ بالإرساللِ مِنْه بالإيجاد . والرّياح : جمع ريح ، وقد تقدّم في سورة البقرة .وقرأ الجمهور : الرّياح } بصيغة الجمع وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وخَلف : الرّيحَ بصيغة المفرد باعتبار الجنس ، فهو مساو لقراءة الجمع ، قال ابن عطيّة : من قرأ بصيغة الجمع فقراءته أسعد ، لأنّ الرّياح حيثما وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرّحمة ، كقوله : { وأرسلنا الرياح لواقح } [ الحجر : 22 ] وأكثر ذكر الرّيح المفردة أن تكون مقترنة بالعذاب كقوله { ريح فيها عذاب أليم } [ الأحقاف : 24 ] ونحو ذلك . ومن قرأ بالإفراد فتقييدها بالنّشر يزيل الاشتراك أي الإيهام . والتّحقيق أنّ التّعبير بصيغة الجمع قد يراد به تعدّد المهابّ أو حصول الفترات في الهُبوب ، وأنّ الإفراد قد يراد به أنّها مدفوعة دفعة واحدة قويَّة لا فترة بين هبَاتها .وقوله : { نشراً } قرأه نافع ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وأبو جعفر : نُشُراً بضمّ النّون والشّين على أنّه جمع نَشُور بفتح النّون كرَسُول ورُسُل ، وهو فعول بمعنى فاعل ، والنَّشور الرّياح الحيّة الطيّبة لأنّها تنثر السّحاب ، أي تبثُّه وتكثره في الجوّ ، كالشّيء المنشور ، ويجوز أن يكون فَعولاً بمعنى مفعول ، أي منشورة ، أي مبْثوثة في الجهات ، متفرّقة فيها ، لأنّ النّشر هو التّفريق في جهات كثيرة .ومعنى ذلك أنّ ريح المَطر تكون ليّنة ، تجيء مرّة من الجنوب ومرّة من الشّمال ، وتتفرّق في الجهات حتّى ينشأ بها السّحاب ويتعدّد سحابات مبثوثة ، كما قال الكميت في السّحاب :مَرَتْهُ الجَنُوبُ بِأنْفَاسِهَا ... وحَلَّتْ عَزَالِيَه الشَّمْألومن أجل ذلك عبّر عنها بصيغة الجمع لتعدّد مهابِّها ، ولذلك لم تجمع فيما لا يحمد فيه تعود المهاب كقوله { وجرين بهم بريح طيبة } [ يونس : 22 ] من حيث جريُ السّفن إنّما جيّدُهُ بريح متّصلة .وقرأه ابن عامر { نُشْراً } بضم النّون وسكون الشّين وهو تخفيف نُشُر الذي هو بضمّتين كما يقال : رُسْل في رُسُل . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف بفتح النّون ، وسكون الشّين على أنّه مصدر ، وانتصب إمّا على المفعولِية المطلقة لأنّه مرادف ل ( أرْسل ) بمعناه المجازي ، أي أرسلها إرسالاً أو نَشَرها نَشْراً ، وإمّا على الحال من الرّيح ، أي ناشرة أي السّحاب ، أو من الضّمير في ( أرسل ) أي أرسلها ناشِراً أي محيياً بها الأرض الميّتة ، أي محيياً بآثارها وهي الأمطار .وقرأه عاصم بالباء الموحّدة في موضع النّون مضمومة وبسكون الشّين وبالتّنوين وهو تخفيف ( بُشراً ) بضمّهما على أنّه جمع بشير مثل نُذُر ونذير ، أي مبشّرة للنّاس باقتراب الغيث .فحصل من مجموع هذه القراءات أنّ الرّياح تنشر السّحاب ، وأنّها تأتي من جهات مختلفة تتعاقب فيكون ذلك سبب امتلاء الأسحبة بالماء وأنّها تحيي الأرض بعد موتها ، وأنّها تبشّر النّاس بهبوبها ، فيدخل عليهم بها سرور .وأصل معنى قولهم : بين يدي فلان ، أنّه يكون أمامه بقرب منه ( ولذلك قوبل بالخَلْف في قوله تعالى : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } [ البقرة : 255 ] فقصد قائله الكناية عن الأمام ، وليس صريحاً ، حيث إنّ الأمام القريب أوسع من الكون بين اليدين ، ثمّ لِشُهْرة هذه الكناية وأغلبيَّة موافقتها للمعنى الصريح جُعلت كالصّريح ، وساغ أن تستعمل مجازاً في التّقدّم والسّبق القريب ، كقوله تعالى : { إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } [ سبأ : 46 ] ، وفي تقدّم شيء على شيء مع قربه منه من غير أن يكون أمامه ومن غير أن يكون للمتقدّم عليه يَدَان . وهكذا استعماله في هذه الآية ، أي يرسل الرّياح سابقة رحمته .والرّحمة هذه أريد بها المطر ، فهو من إطلاق المصدر على المفعول ، لأنّ الله يرحم به . والقرينة على المراد بقيّة الكلام ، وليست الرّحمة من أسماء المطر في كلام العرب فإنّ ذلك لم يثبت ، وإضافة الرّحمة إلى اسم الجلالة في هذه الآية تبعد دعوى من ادعاها من أسماء المطر . والمقصد الأوّل من قوله : { وهو الذي يرسل الرياح } تقريع المشركين وتفنِيد إشراكهم ، ويتبعه تذكير المؤمنين وإثارة اعتبارهم ، لأنّ الموصول دلّ على أنّ الصّلة معلومة الانتساب للموصول ، لأنّ المشركين يعلمون أنّ للرّياح مُصرّفاً وأنّ للمطر مُنْزلاً ، غير أنّهم يذهلون أو يتذاهلون عن تعيين ذلك الفاعل ، ولذلك يجيئون في الكلام بأفعال نزول المطر مبنيّة إلى المجهول غالباً ، فيقولون : مُطرنا بنَوْء الثّريا ويقولون : غِثْنَا مَا شِئْنَا .مبنياً للمجهول أي أُغثنا ، فأخبر الله تعالى بأنّ فاعل تلك الأفعال هو الله ، وذلك بإسناد هذا الموصول إلى ضمير الجلالة في قوله : { وهو الذي يرسل الرياح } أي الذي علمتم أنّه يرسل الرّياح وينزل الماء ، هو اللَّهُ تعالى كقوله { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] ، فالخبر مسوق لتعيين صاحب هذه الصّلة . فهو بمنزلة الجواب عن استفهام مقصود منه طلب التّعيين في نحو قولهم : أرَاحل أنت أم ثاوٍ ، ولذلك لم يكن في هذا الإسناد قصر لأنّه لم يقصد به رد اعتقاد ، فإنّهم لم يكونوا يزعمون أنّ غير الله يرسل الرّياح ، ولكنّهم كانوا كمن يجهل ذلك من جهة إشراكهم معه غيرَه ، فروعي في هذا الإسناد حالُهم ابتداء ، ويَحصل رعي حال المؤمنين تبعاً ، لأنّ السّياق مناسب لمخاطبة الفريقين كما تقدّم في الآية السّابقة .و { حتّى } ابتدائية وهي غاية لمضمون قوله : { بشرا بين يدي رحمته } ، الذي هو في معنى متقدّمة رحمتَه ، أي تتقدّمها مدّة وتنشر أسحبتها حتّى إذا أقلَّت سحاباً أنزلنا به الماء ، فإنزال الماء هو غاية تقدّم الرّياح وسبقها المطرَ ، وكانت الغاية مجزأة أجزاء فأوّلها مضمون قوله : { أقلت } أي الرّياحُ السّحابَ ، ثمّ مضمون قوله : { ثقالاً } ، ثم مضمون { سقناه } أي إلى البلد الذي أراد الله غيثه ، ثمّ أن يَنزل منه الماء . وكلّ ذلك غاية لتقدّم الرياح ، لأنّ المفرّع عن الغاية هو غاية .الثّقال : البطيئة التّنقّل لما فيها من رطوبة الماء ، وهو البخار ، وهو السّحاب المرجوّ منه المطر ، ومن أحسن معاني أبي الطّيب قوله في : «حسن الاعتذار» :ومِنَ الخَيْرِ بُطْءُ سَيْبِكَ عَنِّي ... أسْرَعُ السُّحْب في المَسير الجهَاموطُوي بعضُ المغيَّا : وذلك أنّ الرّياح تُحرّك الأبْخِرَة التي على سطح الأرض ، وتُمِدّها برطوبات تسوقها إليها من الجهات الندِيَّة التي تمرّ عليها كالبحار والأنهار ، والبُحيرات والأراضين الندِيَّة ، ويجتمع بعض ذلك إلى بعض وهو المعبّر عنه بالإثارة في قوله تعالى : { فتثير سحاباً } [ الروم : 48 ] فإذا بلغ حدّ البُخارِيَّة رفعته الرّياح من سطح الأرض إلى الجوّ .ومعنى { أقلت } ، حملت مشتق من القلّة لأنّ الحامل يَعُد محموله قليلاً فالهمزة فيه للجعل .وإقلال الرّيح السّحاب هو أنّ الرّياح تمرّ على سطح الأرض فيتجمّع بها ما على السّطح من البخار ، وترفعه الرّياح إلى العلوّ في الجوّ ، حتّى يبلغ نقطة باردة في أعلى الجوّ ، فهنالك ينقبض البخار وتتجمّع أجزاؤه فيصير سحابات ، وكلّما انضمّت سحابة إلى أخرى حصلت منهما سحابة أثقلُ من إحداهما حينَ كانت منفصلة عن الأخرى ، فيقلّ انتشارها إلى أن تصير سحاباً عظيماً فيثقل ، فينماع ، ثمّ ينزل مطراً . وقد تبيّن أنّ المراد من قوله : { أقلت } غير المراد من قوله في الآية الأخرى { فتثير سحاباً } [ الروم : 48 ].والسّحاب اسم جمع لسحابة فلذلك جاز اجراؤه على اعتبار التّذكير نظراً لتجرّد لفظه عن علامة التّأنيث ، وجاز اعتبار التّأنيث فيه نظراً لكونه في معنى الجمع ولهذه النّكتة وصف السّحاب في ابتداء إرساله بأنّها تثير ، ووصف بعد الغاية بأنّها ثقال ، وهذا من إعجاز القرآن العلمي ، وقد ورد الاعتبارَاننِ في هذه الآية فوُصِفَ السّحاب بقوله : { ثقالاً } اعتباراً بالجمع كما قال صلى الله عليه وسلم و« رأيت بَقَراً تُذْبَح » وأعيد الضّمير إليه بالإفراد في قوله : { سقناه }.وحقيقة السَّوْق أنّه تسيير مَا يمشي ومُسَيِّرُه وراءه يُزجيه ويَحثُّه ، وهو هنا مستعار لتسير السّحاب بأسبابه التي جعلها الله ، وقد يجعل تمثيلاً إذا رُوعي قوله : { أقلت سحاباً } أي : سقناه بتلك الرّيح إلى بلد ، فيكون تمثيلاً لحالة دفع الرّيح السّحاب بحالة سوق السّائق الدّابة .واللاّم في قوله : { لبلد } لام العلّة ، أي لأجل بلد ميّت ، وفي هذه اللاّم دلالة على العناية الرّبانية بذلك البلد فلذلك عدل عن تعدية ( سقناه ) بحرف ( إلى ).والبلد : السّاحة الواسعة من الأرض .والميّت : مجاز أطلق على الجانب الذي انعدم منه النّبات ، وإسناد الموت المجازي إلى البلد هو أيضاً مجاز عقلي ، لأنّ الميّت إنّما هو نباتُه وثَمره ، كما دلّ عليه التّشبيه في قوله : { كذلك نخرج الموتى }.والضّمير المجرور بالباء في قوله : فأخرجنا به يجوز أن يعود إلى البلد ، فيكون الباء بمعنى ( في ) ويجوز أن يعود إلى المَاء فيكون الباء للآلة .والاستغراق في { كل الثمرات } استغراق حقيقي ، لأنّ البلد الميّت ليس معيّناً بل يشمل كلّ بلد ميّت ينزل عليه المطر ، فيحصل من جميع أفراد البلد الميّت جميع الثّمرات قد أخرجها الله بواسطة الماء ، والبلدُ الواحد يُخرج ثمراته المعتادة فيه ، فإذا نظرت إلى ذلك البلد خاصة فاجعل استغراق كلّ الثّمرات استغراقاً عرفياً ، أي من كلّ الثّمرات المعروفة في ذلك البلد وحرف ( من ) للتبعيض .وجملة : { كذلك نخرج الموتى } معترضة استطراداً للموعظة والاستدلال على تقريب البعث الذي يستبعدونه ، والإشارة ب ( كذلك ) إلى الإخراج المتضمّن له فعل { فأخرجنا } باعتبار ما قبله من كون البلد ميّتاً ، ثمّ إحيائه أي إحياء ما فيه من أثر الزّرع والثّمر ، فوجه الشّبه هو إحياء بعد موت ، ولا شكّ أنّ لذلك الإحياء كيفيّة قدّرها الله وأجمل ذكرها لقصور الإفهام عن تصوّرها .وجملة : { لعلكم تذكرون } مستأنفة ، والرّجاء ناشىء عن الجمل المتقدّمة من قوله : { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } لأنّ المراد التذكّر الشّامل الذي يزيد المؤمن عبرة وإيماناً ، والذي من شأنه أن يقلع من المشرك اعتقادَ الشّرك ومن مُنكِرِ البعث إنكارَه .وقرأ الجمهور { تذّكّرون } بتشديد الذال على إدغام التّاء الثّانية في الذّال بعد قلبها ذالاً ، وقرأ عاصم في رواية حفص { تَذَكَّرون } بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين .
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
📘 جملة معترضة بين جملة : { كذلك نخرج الموتى } [ الأعراف : 57 ] وبين جملة : { لقد أرسلنا نوحاً } [ الأعراف : 59 ] تتضمّن تفصيلاً لمضمون جملة : { فأخرجنا به من كل الثمرات } [ الأعراف : 57 ] إذ قد بيّن فيها اختلاف حال البلد الذي يصيبه ماء السّحاب ، دعا إلى هذا التّفصيل أنّه لما مُثِّل إخراج ثمرات الأرض بإخراج المَوتى منها يوم البعث تذكيراً بذلك للمؤمنين ، وإبطالاً لإحالة البعث عند المشركين ، مُثل هنا باختلاف حال إخراج النّبات من الأرض اختلافُ حال النّاس الأحياءِ في الانتفاع برحمة هُدى الله ، فموقع قوله : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } كموقع قوله : { كذلك نخرج الموتى } [ الأعراف : 57 ] ولذلك ذُيل هذا بقوله : { كذلك نصرف الأيات لقوم يشكرون } كما ذيل ما قبله بقوله : { كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } [ الأعراف : 57 ].والمعنى : كذلك نخرج الموتى وكذلك ينتفع برحمة الهَدْي من خُلقت فطرته طيّبة قابلة للهُدى كالبلد الطّيّب ينتفع بالمطر ، ويحرم من الانتفاع بالهدى من خلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنتفع بالمطر فلا تنبت نباتاً نافعاً ، فالمقصود من هذه الآية التّمثيل ، وليسَ المقصود مجرّد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر ، لأنّ الغرض المسوق له الكلام يجمع أمرين : العبرةَ بصنع الله ، والموعظَة بما يماثل أحواله . فالمعنى : كما أنّ البلد الطّيّب يَخرج نباته سريعاً بَهِجاً عند نزول المطر ، والبلد الخبيثَ لا يكاد ينبت فإن أنبت أخرج نبْتاً خبيثاً لا خير فيه .والطيب وصف على وزن فَيْعِل وهي صيغة تدلّ على قوّة الوصف في الموصوف مثل : قيّم ، وهو المتّصف بالطِّيببِ ، وقد تقدّم تفسير الطيب عند قوله تعالى : { قل أحلّ لكم الطّيّباتُ } في سورة المائدة ( 4 ) ، وعند قوله : { يأيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيِّباً } في سورة البقرة ( 168 ).والبلد الطّيب الأرضُ الموصوفة بالطِّيببِ ، وطيبها زكاء تربتها وملاءمتها لإخراج النّبات الصّالح وللزّرع والغرس النّافع وهي الأرض النّقيّه .والذي خبث ضدّ الطَّيب .وقوله : { بإذن ربه } في موضع الحال من { نباته } والإذن : الأمر ، والمراد به أمر العناية به كقوله : { لِمَا خلقتُ بيَدَيّ } [ ص : 75 ] ليدلّ على تشريف ذلك النّبات ، فهو في معنى الوصف بالزّكاء ، والمعنى : البلد الطَّيب يخرج نباته طيّباً زكياً مثلَه ، وقد أشار إلى طيب نباته بأنّ خروجه بإذن ربّه ، فأريد بهذا الإذن إذنٌ خاص هو إذن عناية وتكريم ، وليس المراد إذن التّقدير والتّكوين فإنّ ذلك إذن معروف لا يتعلّق الغرض ببَيانه في مثل هذا المقام .{ والذي خبث } حملهُ جميع المفسّرين على أنّه وصف للبلد ، أي البلد الذي خبث وهو مقابل البلد الطّيب ، وفسّروه بالأرض التي لا تنبت إلاّ نباتاً لا ينفع ، ولا يسرع إنباتها ، مثل السّباخ ، وحملوا ضمير يَخْرج على أنّه عائد للنّبات ، وجعلوا تقدير الكلام : والذي خبث لا ( يخرج ) نباتُه إلاّ نَكِداً ، فحُذف المضاف في التّقدير ، وهو نبات ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو ضمير البلد الذي خبث ، المستترُ في فعل يخرج .والذي يظهر لي : أن يكون { الذي } صادقاً على نبات الأرض ، والمعنى : والنّبت الذي خبث لا يخرج إلاّ نَكِداً ، ويكون في الكلام احتباك إذ لم يذكر وصف الطّيب بعد نبات البلد الطّيب ، ولم تذكر الأرض الخبيثة قبل ذكر النّبات الخبيث ، لدلالة كِلا الضدّين على الآخر . والتّقدير : والبلد الطّيب يخرج نباته طيّباً بإذْن ربّه ، والنّبات الذي خبث يخرج نكداً من البلد الخبيث ، وهذا صنع دقيق لا يهمل في الكلام البليغ .وقرأ الجميع { لا يَخْرُج } بفتح التّحتيّة وضمّ الراء إلاّ ابنَ وردان عن أبي جعفر قرأ بضمّ التّحتيّة وكسر الرّاء على خلاف المشهور عنه ، وقيل إنّ نسبة هذا لابن وردان توهم .والنّكد وصف من النكَد بفتح الكاف وهو مصدر نَكِدَ الشّيءُ إذا كان غير صالح يَجُرّ على مستعمله شراً . وقرأ أبو جعفر { إلا نكداً } ، بفتح الكاف .وفي تفصيل معنى الآية جاء الحديث الصّحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « مثَلُ ما بَعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقِيَّةٌ قبِلَتْ الماءَ فأنبتت الكلأ والعُشْب الكثيرَ ، وكانت منها أجَادِبُ أمسكت الماء فنفع بها الله النّاسَ فشربوا وسَقَوا وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى إنّما هي قِيعَانٌ لا تُمْسك ماء ولا تنبتُ كَلأ فذلك مثَل مَن فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني اللَّهُ به فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، ومَثَل من لم يَرْفَعْ لِذلك رأساً ولم يَقْبَل هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ به » . والإشارة بقوله : { كذلك نصرف الأيات } إلى تفنّن الاستدلال بالدّلائل الدّالة على عظيم القدرة المقتضية الوحدانيّة ، والدّالة أيضاً على وقوع البعث بعد الموت ، والدّالة على اختلاف قابليّة النّاس للهدى والانتفاع به بالاستدلال الواضححِ البيّن المقِرّب في جميع ذلك ، فذلك تصريف أي تنويع وتفنين للآيات أي الدّلائل .والمراد بالقوم الذين يشكرون : المؤمنون : تنبيهاً على أنّهم مورد التّمثيل بالبلد الطّيب ، وأنّ غيرهم مورد التّمثيل بالبلد الخبيث ، وهذا كقوله تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلاّ العالِمُون } [ العنكبوت : 43 ].
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
📘 استئناف انتقل به الغرض من إقامة الحجّة والمنّةِ ( المبتدئة بقوله تعالى : { ولقد مكناكم في الأرض } [ الأعراف : 10 ] ، وتنبيه أهل الضّلالة أنّهم غارقون في كيد الشّيطان ، الذي هو عدوّ نوعهم ، من قوله : { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صِراطك المستقيم إلى قوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [ الأعراف : 16 33 ] ، ثمّ بالتّهديد بوصف عذاب الآخرة وأحوال النّاس فيه ، وما تخلّل ذلك من الأمثال والتّعريض ) ؛ إلى غرض الاعتبار والموعظة بما حلّ بالأمم الماضية . فهذا الاستئناف له مزيد اتّصال بقوله في أوائل السّورة [ 4 ] : { وكم من قرية أهلكناها } الآية ، وقد أفيض القول فيه في معظم السّورة وتَتْبَعُ هذا الاعتبار أغراضٌ أخرى : وهي تسلية الرّسول ، وتعليم أمّته بتاريخ الأمم التي قبلها من الأمم المرسل إليهم ، ليعلم المكذّبون من العرب أنّ لا غضاضة على محمّد ولا على رسالته من تكذيبهم ، ولا يجعله ذلك دون غيره من الرّسل ، بله أن يؤيّد زعمهم أنّه لو كان صادقاً في رسالته لأيَّده الله بعقاب مكذّيبه ( لما قالوا على سبيل التّهكّم أو الحجاج : اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم ). وليعلَمَ أهل الكتاب وغيرهم أنّ ما لقيه محمّد من قومه هو شنشنة أهل الشّقاوة تلقاء دعوة رسل الله . وأكّد هذا الخبر بلام القسم وحرف التّحقيق لأنّ الغرض من هذه الأخبار تنظير أحوال الأمم المكذّبة رسلَها بحال مشركي العرب في تكذيبهم رسالة محمّد .وكثُر في الكلام اقترانُ جملة جواب القسم : بقَدْ } لأنّ القسم يُهيىء نفس السّامع لتوقع خبر مهم فيؤتى بقَد لأنّها تدلّ على تحقيق أمر متوقّع ، كما أثبته الخليل والزّمخشري ، والتّوقّع قد يكون توقعاً للمخبَر به ، وقد يكون توقعاً للخبر كما هنا .وتقدّم التّعريف بنوح عند قوله تعالى { إنّ الله اصطفى آدم ونوحا } في سورة [ آل عمران : 33 ]. وكان قوم نوح يسكنون الجزيرة والعراق ، حسب ظن المؤرّخين . وعبر عنهم القرآن بطريق القومية المضافة إلى نوح إذ لم يكن لهم اسْم خاص من أسماء الأمم يعرفون به ، فالتّعريف بالإضافة هنا لأنّها أخصر طريق .وعطف جملة فقال يا قوم } على جملة { أرسلنا } بالفاء إشعاراً بأنّ ذلك القول صدر منه بفور إرساله ، فهي مضمون ما أرسل به .وخاطب نوح قومه كلّهم لأنّ الدّعوة لا تكون إلاّ عامة لهم ، وعبّر في ندائهم بوصف القوم لتذكيرهم بآصرة القرابة ، ليتحقّقوا أنّه ناصح ومريد خيرهم ومشفق عليهم ، وأضاف ( القوم ) إلى ضميره للتحبيب والتّرقيق لاستجلاب اهتدائهم .وقوله لهم : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } إبطال للحالة التي كانوا عليها ، وهي تحتمل أن تكون حالة شرك كحالة العرب ، وتحتمل أن تكون حالة وثنيّة باقتصارهم على عبادة لأصنام دون الله تعالى ، كحالة الصّابئه وقدماء اليونان ، وآيات القرآن صالحة للحالين ، والمنقول في القصص : أنّ قوم نوح كانوا مشركين ، وهو الذي يقتضيه ما في «صحيح البخاري» عن ابن عبّاس أنّ آلهة قوم نوح أسماء جماعة من صالحيهم فلمّا ماتُوا قال قومهم : لو اتَّخذنا في مجالسهم أنصاباً فاتّخَذوها وسمَّوْها بأسمائهم حتّى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت .وظاهر ما في سورة نوح أنّهم كانوا لا يعبدون الله لقوله : { أن اعبدوا الله واتَّقُوه } [ نوح : 3 ] وظاهر ما في سورة فُصِّلت أنّهم يعترفون بالله لقولهم : { لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة } [ فصلت : 14 ] مع احتمال أنّه خرج مخرج التّسليم الجدلي فإن كانوا مشركين كان أمرُه إياهم بعبادة الله مقيَّداً بمدلول قوله : { ما لكم من إله غيره } أي أفردوه بالعبادة ولا تشركوا معه الأصنام ، وإن كانوا مقتصرين على عبادة الأوثان كان قوله : { ما لكم من إله غيره } تعليلاً للاقبال على عبادة الله ، أي هو الإله لا أوثانُكم .وجملة : { ما لكم من إله غيره } على الوجه الأوّل بيان للعبادة التي أمَرَهم بها ، أي أفردوه بالعبادة دون غيره ، إذ ليس غيره لكم بالإله .وعلى الوجه الثّاني يكون استئنافاً بيانياً للأمر بالإقلاع عن عبادة غيره .وقرأ الجمهور { غيرهُ } بالرّفع على الصّفة ( لإله ) باعتبار محلّه لأنّه في محلّ رفع إذ هو مبتدأ وإنّما جرّ لدخول حرف الجرّ الزائد ولا يُعتد بجرّه ، وقرأه الكسائي ، وأبو جعفر : بجرّ { غير } على النّعت للّفظ ( إلاه ) نظراً لحرف الجر الزّائد .وجملة : { إني أخاف عليكم عذاب يوم } يجوز أن تكون في موقع التّعليل ، كما في «الكشاف» : أي لمضمون قوله : { ما لكم من إله غيره } كأنّه قيل : اتركوا عبادة غير الله خوفاً من عذاب يوم عظيم ، وبُني نظم الكلام على خوففِ المتكلّم عليهم ، دلالة على إمحاضه النّصح لهم وحرصه على سلامتهم ، حتّى جعل ما يُضر بهم كأنّه يُضِرّ به ، فهو يخافه كما يخافون على أنفسهم ، وذلك لأنّ قوله هذا كان في مبدأ خطابهم بما أرسل به ، ويحتمل أنّه قاله بعد أن ظَهر منهم التّكذيب : أي إن كنتم لا تخافون عذاباً فإنّي أخافه عليكم ، وهذا من رحمة الرّسل بقومهم .وفعل الخوف يتعدّى بنفسه إلى الشّيء المخوف منه ، ويتعدّى إلى مفعول ثان بحرف ( على ) إذا كان الخوف من ضر يلحقُ غيرَ الخائف ، كما قال الأحوص :فإذا تزول تزول على مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بوادِرُهُ على الأقرانويجوز أن تكون مستأنفة ثانية بعد جملة { اعبدوا الله } لقصد الإرهاب والإنذار ، ونكتة بناءِ نظم الكلام على خوف المتكلّم عليهم هي هي .والعذاب المخوف ويومه يحتمل أنّهما في الآخرة أو في الدّنيا ، والأظهر الأوّل لأنّ جوابهم بأنّه في ضلال مبين يشعر بأنّهم أحالوا الوحدانية وأحالوا البعث كما يدلّ عليه قوله في سورة [ نوح : 17 ، 18 ] : { والله أنبتكم من الأرض نباتا ثمّ يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً } فحالهم كحال مشركي العرب لأنّ عبادة الأصنام تمحّض أهلها للاقتصار على أغراض الدّنيا .
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ
📘 الفاء في قوله : { فلنسألن } عاطفة ، لِترتيب الأخبار لأنّ وجود لام القسم علامة على أنّه كلام أنُفٌ انتقال من خبر إلى خبر ، ومن قصة إلى قصة وهو انتقالٌ من الخبر عن حَالتهم الدنيوية إلى الخبر عن أحوالهم في الآخرة .وأكّد الخبر بلام القسم ونون التّوكيد لإزالة الشكّ في ذلك .وسؤال الذين أرسل إليهم سُؤال عن بلوغ الرّسالة . وهو سؤال تقريع في ذلك المحشر ، قال تعالى : { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } [ القصص : 65 ].وسؤال المرسلين عن تبليغهم الرّسالة سؤال إرهاب لأمُمِهم ، لأنّهم إذا سمعوا شهادة رسلهم عليهم أيقنوا بأنّهم مسوقون إلى العذاب ، وقد تقدّم ذلك في قوله : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } [ النساء : 41 ] وقوله { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم } [ المائدة : 109 ].و { الذين أرسل إليهم } ، هم أمم الرّسل ، وعبّر عنهم بالموصول لما تدُلّ عليه الصّلة من التّعليل ، فإن فائدة الإرسال هي إجابة الرّسل ، فلا جرم أن يسأل عن ذلك المُرسَل إليهم ، ولمّا كان المقصود الأهمّ من السّؤال هو الأمم ، لإقامة الحجّة عليهم في استحقاق العقاب ، قُدّم ذكرهم على ذكر الرّسل ، ولما تدُلّ عليه صلة ( الذي ) وصلة ( ال ) من أنّ المسؤول عنه هو ما يتعلّق بأمر الرّسالةِ ، وهو سؤال الفريقين عن وقوع التّبليغ .ولَمَّا دلّ على هذا المعنى التّعبيرُ : ب { الذين أرسل إليهم } والتّعبيرُ : ب { المرسلين } لم يحتجّ إلى ذكر جواب المسؤولين لظهور أنّه إثبات التّبليغ والبلاغ .
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
📘 فُصلت جملة { قال } على طريقة الفصل في المحاورات ، واقترن جوابهم بحرف التّأكيد للدّلالة على أنّهم حقّقوا وأكّدوا اعتقادهم أنّ نوحاً منغمس في الضّلالة . { الملأ } مهموز بغير مدّ : الجماعةُ الذين أمْرُهم واحد ورأيهم واحد لأنّهم يُمالىء بعضهم بعضاً ، أي يعاونه ويوافقه ، ويطلق الملأ على أشراف القوم وقَادتهم لأنّ شأنهم أن يكون رأيهم واحداً عن تشاور ، وهذا المعنى هو المناسب في هذه الآية بقرينة ( مِن ) الدّالة على التّبعيض أي أنّ قادة القوم هم الذين تَصدّوا لمجادلة نوح والمناضلةِ عن دينهم بمسمع من القوم الذين خاطبَ جميعَهم ، والرّؤية قلبيّة بمعنى العلم ، أي أنّا لنوقن أنّك في ضلال مبين ولم يوصف الملأ هنا بالذين كفروا ، أو بالذين استكبروا كما وصف الملأ في قصّة هود بالذين كفروا استغناء بدلالة المقام على أنّهم كذّبوا وكفروا .وظرفية { في ضلال } مجازية تعبيراً عن تمكّن وصف الضّلال منه حتّى كأنّه محيط به من جوانبه إحاطة الظرف بالمظروف .«والضّلال» اسم مصدر ضَلّ إذا أخطأ الطّريق الموصّل ، «والمبين» اسم فاعل من أبان المرادففِ بَان ، وذلك هو الضّلال البالغ الغاية في البعد عن طريق الحقّ ، وهذه شبهة منهم فإنّهم توهّموا أنّ الحقّ هو ما هم عليه ، فلا عجب إذا جعلوا ما بَعُد عنه بعدا عظيماً ضلالاً بيّناً لأنّه خالفهم ، وجاء بما يعُدّونه من المحال ، إذْ نفَى الإلهيةَ عن آلهتهم ، فهذه مخالفة ، وأثبتها لله وحده ، فإن كانوا وثنيين فهذه مخالفة أخرى ، وتوعدهم بعذاب على ذلك وهذه مخالفة أيضاً ، وإن كان العذاب الذي توعدهم به عذاب الآخرة فقد أخبرهم بأمر محال عندهم وهو البعث ، فهي مخالفة أخرى ، فضلاله عندهم مبينٌ ، وقد يتفاوت ظهوره ، وادّعى أنّ الله أرسله وهذا في زعمهم تعمد كذب وسفاهةُ عقل وادعاءُ محال كما حكي عنهم في قوله تعالى : { قال الملأ الذين كفروا من قومه إنّا لنراك في سفاهة وإنّا لنظنّك من الكاذبين } [ الأعراف : 66 ] وقوله هنا { أَوَ عجبتم أن جاءكم ذكر من ربّكم } [ الأعراف : 63 ] الآية .
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
📘 فصلت جملة : { قال } على طريقة فَصْل المحاورات . والنّداء في جوابه إياهم للاهتمام بالخبر ، ولم يخصّ خطابَه بالذين جاوبوه ، بل أعاد الخطاب إلى القوم كلّهم ، لأنّ جوابه مع كونه مجادلة للملأ من قومه هو أيضاً يتضمّن دعوة عامة ، كما هو بيِّن ، وتقدّم آنفاً نكتة التّعبير في ندائهم بوصف القوم المضاف إلى ضميره ، فأعاد ذلك مرّة ثانية استنزالاً لطائر نفوسهم ممّا سيَعقُب النّداء من الرد عليهم وإبطال قولهم { إنّا لنراك في ضلال مبين } [ الأعراف : 60 ].والضّلالة مصدر مثل الضّلال ، فتأنيثه لَفْظي محض ، والعرب يستشعرون التّأنيث غالباً في أسماء أجناس المعاني ، مثل الغواية والسّفاهة ، فالتّاء لمجرّد تأنيث اللّفظ وليس في هذه التّاء معنى الوحدة لأنّ أسماء أجناس المعاني لا تراعَى فيها المُشخّصات ، فليس الضّلال بمنزلة اسم الجمع للضّلالة ، خلافاً لِما في «الكشاف» ، وكأنَّه حاول إثبات الفرق بين قول قومه له { إنّا لنراك في ضلال } [ الأعراف : 60 ] ، وقوله هُو : { ليس بي ضلالة } وتبعه فيه الفخر ، وابن الأثير في «المثل السّائر» ، وقد تكلّف لتصحيحه التفتزاني ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنّ التّخالف بين كلمتي ضلال وضلالة اقتضاه التّفنّن حيث سبق لفظ ضلال ، وموجب سبقه إرادة وصفه ب { مبين } [ الأعراف : 60 ] ، فلو عبّر هنالك بلفظ ضلالة لكان وصفها بمبيّنة غير مألوف الاستعمال ، ولما تقدّم لفظ { ضلال } [ الأعراف : 60 ] استحسن أن يعاد بلفظ يغايره في السّورة دفعاً لثقل الإعادة؛ فقوله : { ليس بي ضلالة } ردّ لقولهم : { إنا لنراك في ضلال مبين } [ الأعراف : 60 ] بمساويه لا بأبلغ منه .والباء في قوله : { بي } للمصاحبة أو الملابسة ، وهي تناقض معنى الظرفية المجازية من قولهم { في ضلال } [ الأعراف : 60 ] فإنّهم جعلوا الضّلال متمكّنا منه ، فنفى هو أن يكون للضّلال متلبّس به .وتجريد { ليس } من تاء التّأنيث مع كون اسمها مؤنّث اللّفظ جرى على الجواز في تجريد الفعل من علامة التّأنيث ، إذا كان مرفوعه غير حقيقي التّأنيث ، ولمكان الفصل بالمجرور .والاستدراك الذي في قوله { ولكني رسول } لرفع ما توهّموه من أنّه في ضلال حيث خالف دينهم ، أي هو في حال رسالة عن الله ، مع ما تقتضي الرّسالة من التّبليغ والنّصح والإخبارِ بما لا يعلمونه ، وذلك ما حسبوه ضلالاً ، وشأن ( لكن ) أن تكون جملتها مفيدة معنى يغاير معنى الجملة الواقعة قبلها ، ولا تدلّ عليه الجملة السّابقة وذلك هو حقيقة الاستدراك الموضوعةُ له ( لكِنّ ) فلا بد من مناسبة بين مضموني الجملتين : إما في المسند نحو { ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكنّ الله سَلَّم } [ الأنفال : 43 ] أو في المسند إليه نحو { وما رميتَ إذ رميت ولكنّ الله رمى } [ الأنفال : 17 ] فلا يحسن أن تقول : ما سافرت ولكنّي مقيم ، وأكثر وقوعها بعد جملة منفية ، لأنّ النّفي معنى واسع ، فيكثر أن يحتاج المتكلّم بعده إلى زيادة بيان ، فيأتي بالاستدراك ، ومن قال : إنّ حقيقة الاستدراك هو رفْعُ ما يتوَهَّم السّامع ثبوتَه أو نفيه فإنّما نظر إلى بعض أحوال الاستدراك أو إلى بعض أغراض وقوعه في الكلام البليغ ، وليس مرادُهم أنّ حقيقة الاستدراك لا تتقوم إلاّ بذلك .واختيار طريق الإضافة في تعريف المرسِل : لما تؤذن به من تفخيم المُضاف ومن وجوب طاعته على جميع النّاس ، تعريضاً بقومه إذ عصوه .
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
📘 وجملة : { أبلغكم رسالات ربي } صفة لرسول ، أو مستأنفة ، والمقصود منها إفادة التّجدّد ، وأنّه غير تارككٍ التّبليغَ من أجل تكذيبهم تأييساً لهم من متابعته إياهم ، ولولا هذا المقصد لكان معنى هذه الجملة حاصلاً من معنى قوله : { ولكني رسول } ، ولذلك جمع الرّسالات لأنّ كلّ تبليغ يتضمّن رسالة بما بلَّغَه ، ثمّ إن اعتُبرت جملة : { أبلغكم } صفة ، يكُن العدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير التّكلّم في قوله : { أبلغكم } وقولِه : { ربي } التفاتاً ، باعتبار كون الموصوف خبراً عن ضمير المتكلّم ، وإن اعتُبرت استينافاً ، فلا التفات .والتّبليغ والإبلاغ : جعل الشّيء بالغاً ، أي واصلاً إلى المكان المقصود ، وهو هنا استعارة للإعلام بالأمر المقصود علمُه ، فكأنّه ينقله من مكان إلى مكان .وقرأ الجمهور : { أُبَلِّغكم } بفتح الموحّدة وتشديد اللاّم وقرأه أبو عَمرو ، ويعقوب : بسكون الموحدة وتخفيف اللاّم من الإبلاغ والمعنى واحد .ووجه العدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : { رسالات ربي } هو ما تؤذن به إضافة الرّب إلى ضمير المتكلّم من لزوم طاعته ، وأنّه لا يسعه إلاّ تبليغُ ما أمره بتبليغه ، وإن كَرِه قومه .والنّصح والنّصيحة كلمة جامعة ، يعبّر بها عن حسن النّيّة وإرادة الخير من قوللٍ أو عمللٍ ، وفي الحديث : « الدّين النّصحية » وأن تُناصحوا من ولاّه الله أمركم . ويكثر إطلاق النّصح على القول الذي فيه تنبيه للمخاطب إلى ما ينفعه ويدفع عنه الضّر .وضدّه الغشّ . وأصل معناه أن يتعدّى إلى المفعول بنفسه ، ويكثر أن يُعدّى إلى المفعول بلام زائدة دالة على معنى الاختصاص للدّلالة على أنّ النّاصح أراد من نصحه ذات المنصوح ، لا جلب خير لنفس النّاصح ، ففي ذلك مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة ، وأنّها وقعت خالصة للمنصوح ، مقصوداً بها جانبه لا غير ، فربّ نصيحة ينتَفع بها النّاصح فيقصد النّفعين جميعاً ، وربّما يقع تفاوت بين النّفعين فيكون ترجيح نفع النّاصح تقصيراً أو إجحافاً بنفع المنصوح .وفي الإتيان بالمضارع دلالة على تجديد النّصح لهم ، وإنّه غير تاركه من أجل كراهيتهم أو بذاءتهم .وعقب ذلك بقوله : { وأعلم من الله ما لا تعلمون } جمعاً لمعان كثيرة ممّا تتضمّنه الرّسالة وتأييداً لثباته على دوام التّبليغ والنّصح لهم ، والاستخفاف بكراهيتهم وأذاهم ، لأنّه يعلم ما لا يعلمونه ممّا يحمله على الاسترسال في عمله ذلك ، فجاء بهذا الكلام الجامع ، ويتضمّن هذا الإجمالُ البديعُ تهديداً لهم بحلول عذاب بهم في العاجل والآجل ، وتنبيهاً للتّأمّل فيما أتاهم به ، وفتحاً لبصائرهم أن تتطلب العلم بما لم يكونوا يعلمونه ، وكل ذلك شأنه أن يبعثهم على تصديقه وقبوللِ ما جاءهم به .و { من } ابتدائية أي : صار لي علم وارد من الله تعالى ، وهذه المعاني التي تضمّنها هذا الاستدراك هي ما يُسلِّم كلّ عاقل أنّها من الهدى والصّلاح ، وتلك هي أحواله ، وهم وصفوا حاله بأنّه في ضلال مبين ، ففي هذا الاستدراك نعي على كمال سفاهة عقولهم .
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
📘 وانتقَل إلى كشف الخطأ في شبهتهم فعطف على كلامه قولَه : { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم } مفتتحاً الجملةَ بالاستفهام الإنكاري بعد واو العطف ، وهذا مشعر بأنّهم أحالوا أن يكون رسولاً ، مستدلّين بأنّه بشر مثلهم ، كما وقعت حكايته في آية أخرى { ما هذا إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم } [ المؤمنون : 24 ].واختير الاستفهام دون أن يقول : لا عَجب ، إشارة إلى أنّ احتمال وقوع ذلك منهم ممّا يتردّد فيه ظن العاقل بالعقلاء . فقولهّ : { أو عجبتم } بمنزلة المنع لقضية قولهم : { إنا لَنَراك في ضلاللٍ مبين } [ الأعراف : 60 ] لأنّ قولهم ذلك بمنزلة مقدمةِ دليل على بطلان ما يدعوهم إليه .وحقيقة العَجَب أنّه انفعال نفساني يحصل عند إدراك شيء غير مألوففٍ ، وقد يكون العجب مشوباً بإنكار الشّيء المتعجب منه واستبعاده واحالته ، كما في قوله تعالى : { بل عَجِبُوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا مِتْنَا وكُنَّا تراباً ذلك رَجْع بعيد } [ ق : 2 ، 3 ] وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى : { وإنْ تَعْجَب فَعَجَبٌ قولهم أإذا كنا تراباً إنَّا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربّهم } [ الرعد : 5 ] والذي في هذه الآية كناية عن الإنكار كما في قوله تعالى : { قالوا أتَعْجَبين من أمر الله } [ هود : 73 ] أنكروا عليها أنّها عدت ولادتها ولَدا ، وهي عَجوز ، مُحالاً .وتنكير { ذِكْرٌ } و { رَجُلٍ } للنّوعية إذ لا خصوصية لذِكْر دون ذِكْر ولا لِرَجُل دون رَجل ، فإنّ النّاس سواء ، والذّكْر سواء في قبوله لمن وفقه الله ورده لمن حُرم التّوفيقَ ، أي هذا الحدث الذي عظمتموه وضجِجتم له ما هو إلاّ ذِكْر من ربّكم على رَجُل منكم . ووصْفُ { رجل } بأنّه منهم ، أي من جنسهم البشري فضحٌ لشبهتهم ، ومع ما في هذا الكلام من فضح شبهتهم فيه أيضاً ردّ لها بأنّهم أحقاء بأن يكون ما جعلوه موجب استِبْعاد واستحالة هو موجب القبول والإيمان ، إذ الشأن أن ينظروا في الذّكر الذي جاءهم من ربّهم وأن لا يسرعوا إلى تكذيب الجائي به ، وأن يعلموا أن كونَ المُذَكِّر رجلاً منهم أقربُ إلى التّعقّل من كون مُذكِّرِهم من جنس آخر من مَلَك أو جِنِّي ، فكان هذا الكلام من جوامع الكلم في إبطال دعوى الخصم والاستدلال لصدق دعوى المجادل ، وهو يتنزّل منزلة سَنَد المنع في علم الجدل .ومعنى ( على ) من قوله { على رجل منكم } يشعر بأنّ { جاءكم } ضُمّن معنى نَزل : أي نزل ذكر من ربّكم على رجل منكم ، وهذا مختار ابن عطيّة ، وعن الفرّاء أنّ ( على ) بمعنى مع .والمجرور في قوله : { لينذركم } ظرف مستقر في موضع الحال من رجل ، أو هو ظرف لَغو متعلّق بقوله : { جاءكم } وهو زيادة في تشويه خَطَئهم إذ جعلوا ذلك ضلالاً مبيناً ، وإنّما هو هدى واضح لفائدتكم بتحذيركم من العقوبة ، وإرشادكم إلى تقوى الله ، وتقريبكم من رحمته .وقد رُتّبت الجمل على ترتيب حصول مضمونها في الوجود ، فإنّ الإنذار مقدّم لأنّه حَمْلٌ على الإقلاع عمّا هم عليه من الشّرك أو الوثنية ، ثمّ يحصل بعده العمل الصّالح فتُرجى منه الرّحمة .والإنذار تقدّم عند قوله تعالى : { إنَّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونَذيراً } في سورة البقرة ( 119 ).والتّقوى تقدّم عند قوله تعالى : { هدى للمتّقين } في أوّل سورة البقرة ( 2 ).ومعنى ( لعلّ ) تقدّم في قوله تعالى : { لعلّكم تتّقون } في سورة البقرة ( 21 ).والرّحمة تقدّمت عند قوله تعالى : { الرحمن الرّحيم } في سورة الفاتحة ( 3 ).
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ
📘 وقع التّكذيب من جميع قومه : من قادتهم ، ودهمائهم ، عدا بعضَ أهل بيته ومن آمَن به عقب سماع قول نوح ، فعُطف على كلامه بالفاء أي صدر منهم قول يقتضي تكذيب دعوى أنّه رسول من ربّ العالمين يبلِّغ وينصَح ويعلَم ما لا يعلمون ، فصار تكذيباً أعم من التّكذيب الأوّل ، فهو بالنّسبة للملأ يَؤول إلى معنى الاستمرار على التّكذيب ، وبالنّسبة للعامة تكذيب أنُف ، بعد سماع قول قَادتهم وانتهاء المجادلة بينهم وبين نوح ، فليس الفعل مستعملاً في الاستِمرار كما في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله } [ النساء : 136 ] إذ لا داعي إليه هنا ، وضمير الجمع عائد إلى القوم ، والفاء في قوله : { فأنجيناه } للتّعقيب ، وهو تعقيب عُرفي : لأنّ التّكذيب حصل بعده الوَحْيُ إلى نوح بأنّه لن يؤمن من قومه إلاّ مَن قد آمن ، ولا يُرجى زيادة مؤمن آخر ، وأمرُه بأن يدخل الفلك ويحملَ معه مَن آمن إلى آخر ما قصّه الله في سورة هود .وقدم الإخبار بالإنجاء على الإخبار بالإغراق ، مع أنّ مقتضى مقام العبرة تقديم الإخبار بإغراق المنكرين ، فقدم الإنجاء للاهتمام بإنجاء المؤمنين وتعجيلاً لمسرة السّامعين من المؤمنين بأنّ عادة الله إذا أهلك المشركين أن ينجي الرّسول والمؤمنين ، فذلك التّقديم يفيد التّعريض بالنّذارة ، وإلاّ فإنّ الإغراق وقع قبل الإنجاء ، إذ لا يظهر تحقّق إنجاء نوح ومن معه إلاّ بعد حصول العذاب لمن لم يؤمنوا به ، فالمعقّب به التّكذيب ابتداءً هو الإغراق ، والإنجاء واقع بعده ، وليتأتى هذا التّقديم عطف فعل الإنجاء بالواو المفيدة لمطلق الجمع ، دون الفاء .وقوله : { في الفلك } متعلّق بمعنى قوله : { معه } لأنّ تقديره : استقرّوا معه في الفلك ، وبهذا التّعليق عُلم أنّ الله أمره أن يحمل في الفلك معشراً ، وأنّهم كانوا مصدّقين له ، فكان هذا التّعليق إيجازاً بديعاً .والفُلك تقدّم في قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض } في سورة البقرة ( 164 ).{ والذين معه } هم الذين آمنوا به ، وسنذكر تعيينهم عند الكلام على قصّته في سورة هود .والإتيان بالموصول في قوله : { وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } دون أن يقال : وأغرقنا سائرهم ، أو بقيتهم ، لما تؤذن به الصّلة من وجه تعليل الخبر في قوله : { وأغرقنا } أي أغرقناهم لأجل تكذيبهم .وجملة : { إنهم كانوا قوماً عمين } تتنزل منزلة العلّة لجملة { أغرقنا } كما دلّ عليه حرف ( إن ) لأنّ حرف ( إن ) هنا لا يقصد به ردّ الشكّ والتَّرَدّد ، إذ لا شكّ فيه ، وإنّما المقصود من الحرف الدّلالة على الاهتمام بالخبر ، ومن شأن ( إن ) إذا جاءت للاهتمام أن تقوم مقام فَاء التّفريع ، وتفيدَ التّعليل وربط الجملة بالتي قبلها . ففصل هذه الجملة كَلاَ فَصْل .و { عَمِين } جمع عَممٍ جمع سلامة بواو ونون . وهو صفة على وزن فَعِل مثل أشِر ، مشتق من العمَى ، وأصله فقدان البصر ، ويطلق مجازاً على فقدان الرأي النّافع ، ويقال : عَمَى القَلْببِ ، وقد غلب في الكلام تخصيص الموصوف بالمعنى المجازي بالصّفة المشبَّهة لدلالتها على ثبوت الصّفة ، وتمكّنها بأن تكون سجية وإنّما يصدّق ذلك في فقد الرّأي ، لأنّ المرء يخلق عليه غالباً ، بخلاف فقد البصر ، ولذلك قال تعالى هنا { عَمِين } ولم يقل عُمْياً كما قال في الآية الأخرى{ عُمْياً وبكماً وصُمّاً } [ الإسراء : 97 ] ومثله قول زهير :ولكنّني عن عِلْممِ مَا فِي غدٍ عَمِ ... والذين كذّبوا كانوا عمين لأنّ قادتهم دَاعون إلى الضّلالة مؤيّدونها ، ودهماؤهم متقبّلون تلك الدّعوة سمَّاعون لها .وقد دلّت هذه القصّة على معنى عظيم في إرادة الله تعالى تطوّرَ الخلق الإنساني : فإنّ الله خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وخلق له الحسّ الظاهر والحِسّ الباطن ، فانتفع باستعمال بعض قواه الحسيَّة في إدراك أوائل العلوم ، ولكنّه استعمل بعض ذلك فيما جلَب إليه الضرّ والضّلال ، وذلك باستعمال القواعد الحِسّية فيما غاب عن حسِّه وإعانتها بالقوى الوهميّة والمخيَّلة ، ففكّر في خالقه وصفاته فتوهّم له أنداداً وأعواناً وعشيرة وأبناء وشركاءَ في مُلكه ، وتفاقم ذلك في الإنسان مع مرور الأزمان حتّى عاد عليه بنسيان خالقه ، إذ لم يَدخل العلمُ به تحت حواسه الظّاهرة ، وأقبل على عبادة الآلهة الموهومة حيث اتّخذ لها صُوراً محسوسة ، فأراد الله إصلاح البشر وتهذيبَ إدراكهم ، فأرسل إليهم نوحاً فآمن به قليل من قومه وكفر به جمهورهم ، فأراد الله انتخاب الصّالحين من البشر الذين قبلت عقولهم الهدى ، وهم نوح ومن آمن به ، واستيصال الذين تمكّنت الضّلالة من عقولهم ليُنشىء من الصّالحين ذرّية صالحة ويَكْفِيَ الإنسانيّة فساد الضّالين ، كما قال نوح : { إنَّك إنْ تَذَرْهُمْ يُضِلوا عبادَك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفَّارا } [ نوح : 27 ] ، فكانت بعثة نوح وما طرأ عليها تجديداً لصلاح البشر وانتخاباً للأصْلَح .
۞ وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ
📘 يجوز أن يكون العطف من عطف الجمل بأن يقدّر بعد واو العطف «أرسلنا» لدلالة حرف ( إلى ) عليه ، مع دلالة سبق نظيره في الجملة المعطوف عليها ، والتّقدير وأرسلنا إلى عادٍ ، فتكون الواو لمجرّد الجمع اللّفظي من عطف القصّة على القصّة وليس من عطف المفردات ، ويجوز أن يكون من عطف المفردات : عَطَفت الواو { هوداً } على { نوحاً } [ الأعراف : 59 ] ، فتكون الواو نائية عن العامل وهو { أرسلنا } [ الأعراف : 59 ] ، والتّقدير : «لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه وهوداً أخا عاد إليهم وقدمت ( إلى ) فهو من العطف على معمولي عامل واحدٍ ، وتقديم ( إلى ) اقتضاه حسن نظم الكلام في عود الضّمائر ، والوجه الأوّل أحسن .وقدّم المجرور على المفعول الأصلي ليتأتى الإيجاز بالإضمار حيث أريد وصف هود بأنّه من إخوة عاد ومن صميمهم ، من غير احتياج إلى إعادة لفظ عاد ، ومع تجنّب عود الضّمير على متأخر لفظاً ورتبةً ، فقيل وإلى عاد أخاهم هوداً و { هوداً } بدل أو بيان من { أخاهم }.وعادٌ أمّة عظيمة من العرب العاربة البائدة ، وكانوا عشر قبائل ، وقيل ثلاث عشرة قبيلة وهم أبناء عاد بن عُوص ، وعوص هو ابن إرَمَ بن سَام بننِ نوح ، كذا اصطلح المؤرّخون .وهود اختلف في نسبه ، فقيل : هو من ذرّية عاد ، فقال القائلون بهذا : هو ابن عبد الله بن رَبَاح بن الخلود بن عَاد ، وقيل : هو من ذرّية سام جدّ عادٍ ، وليس من ذرّية عاد ، والقائلون بهذا قالوا هو هُود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وذكر البغوي عن عَلي : أنّ قبر هُود بحضرَمَوتَ في كثيب أحمر ، وعن عبد الرحمن بن سابط : أنّ قبْرَ هود بين الرّكن والمَقام وزمزم .وعَادٌ أريد به القبيلة وساغ صرفه لأنه ثلاثي ساكن الوسط ، وكانت منازل عاد ببلاد العرب بالشِّحْر بكسر الشّين المعجمة وسكون الحاء المهملة من أرض اليمن وحَضر موت وعُمَان والأحقاففِ ، وهي الرّمال التي بين حضر موت وعُمَان .والأخُ هنا مستعمل في مطلق القريب ، على وجه المجاز المرسل ومنه قولهم يا أخَا العرب ، وقد كان هود من بني عادٍ ، وقيل : كان ابنَ عم إرَم ، ويطلق الأخ مجازاً أيضاً على المصاحب الملازم ، كقولهم : هو أخو الحَرْب ، ومنه { إنّ المبَذّرين كانُوا إخوانَ الشّياطين } [ الإسراء : 27 ] وقوله { وإخوانهمُ يمدّونهم في الغي } [ الأعراف : 202 ]. فالمراد أنّ هوداً كان من ذوي نسب قومه عاد ، وإنَّما وصف هود وغيره بذلك ، ولم يُوصف نوح بأنّه أخ لقومه : لأنّ النّاس في زمن نوح لم يكونوا قد انقسموا شعوباً وقبائل ، والعرب يقولون : للواحد من القبيلة : أخو بني فلان ، قصداً لعزوه ونسبته تمييزاً للنّاس إذ قد يشتركون في الأعلام ، ويؤخذ من هذه الآية ونظائرها أنّ نظام القبائل مَا حدث إلاّ بعد الطُّوفان .وفُصِلت جملة : { قال يا قوم } ولم تعطف بالفاء كما عطف نظيرها المتقدّم في قصّة نوح؛ لأنّ الحال اقتضى هنا أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّ قصّة هود لما وردت عقب قصّة نوح المذكور فيها دعوتُه قومه صار السّامع مترقباً معرفة ما خاطب به هود قومه حيث بعثه الله إليهم ، فكان ذلك مثار سؤال في نفس السّامع أن يقول : فماذا دَعا هُودٌ قومه وبماذا أجابوا؟ فيقع الجواب بأنّه قال : يا قوم اعبدوا الله إلخ مع ما في هذا الاختلاف من التّفنّن في أساليب الكلام ، ولأنّ الفعل المفرع عنه القولُ بالعطف لما كان محذوفاً لم يكن التّفريع حسناً في صورة النّظم .والرّبطُ بين الجمل حاصل في الحالتين لأنّ فاء العطف رابط لفظيٌ للمعطوف بالمعطوف عليه ، وجواب السؤال رابط جملة الجواب بجملة مثار السؤال ربطاً معنوياً .وجملة : { ما لكم من إله غيره } مستأنفة ابتدائيّة . وقد شابهت دعوةُ هود قومَه دعوةَ نوح قومَه في المهم من كلامها : لأنّ الرّسل مرسَلون من الله والحكمة من الإرسال واحدة ، فلا جرم أن تتشابه دعواتهم ، وفي الحديث : " الأنبياء أبناء عَلاّتٍ " وقال تعالى : { شَرع لكم من الدّين مَا وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى } [ الشورى : 13 ].وجملة : { أفلا تتقون } استفهامية إنكارية معطوفة بفاء التّفريع على جملة : { ما لكم من إله غيره }. والمراد بالتّقوى الحذر من عقاب الله تعالى على إشراكهم غيرَه في العبادة واعتقادِ الإلهيّة . وفيه تعريض بوعيدهم إن استمروا على ذلك . وإنَّما ابتدأ بالإنكار عليهم إغلاظاً في الدّعوة وتهويلاً لفظاعة الشّرك ، إن كان قال ذلك في ابتداء دعوته ، ويحتمل أنّ ذلك حكاية قوللٍ من أقواله في تكرير الدّعوة بعد أن دعاهم المرّة بعد المرة ووعظهم ، كما قال نوح { إني دعوتُ قومي ليلا ونهاراً } [ نوح : 5 ] كما اقتضاه بعض توجيهات تجريد حكاية كلامه عن فاء التّفريع المذكور آنفاً .
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
📘 ووصْفُ الملإ ب { الذين كفروا } هنا ، دون ما في قصّة نوح ، وصْفٌ كاشِف وليس للتّقييد تَفَنُّناً في أساليب الحكاية ألا ترى أنّه قد وُصف ملأُ قوم نوح ب { الذين كفروا } في آية سورة هود ، والتّوجيه الذي في «الكشاف» هنا غفلة عمّا في سورة هُود .والرّؤية قلبيّة ، أي أنّا لنعلم أنّك في سفاهة .والسّفاهة سخافة العقل ، وقد تقدّم القول في هذه المادة عند قوله تعالى : { قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء } [ البقرة : 13 ] وقوله { ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلاّ من سفَه نفسه } في سورة البقرة ( 130 ). جعلوا قوله : { ما لكم من إله غيره } كلاماً لا يصدر إلاّ عن مختل العقل لأنّه من قول المحال عندهم .وأطلقوا الظنّ على اليَقين في قولهم : { وإنَّا لنظنّك من الكاذبين } وهو استعمال كثير كما في قوله تعالى : { الذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم } وقد تقدّم في سورة البقرة ( 46 ) ، وأرادوا تكذيبه في قوله ما لكم من إله غيره } ، وفيما يتضمّنه قولُه ذلك من كونه رسولاً إليهم من الله .وقد تشابهت أقوال قوم هود وأقوالُ قوم نوح في تكذيب الرّسول لأنّ ضلالة المكذّبين متّحدة ، وشبهاتهم متّحدة ، كما قال تعالى : { تشابهت قلوبهم } [ البقرة : 118 ] فكأنّهم لَقَّن بعضُهم بعضاً كما قال تعالى : { أتوَاصَوْا به بل هم قوم طاغون } [ الذاريات : 53 ].
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
📘 فُصلت جملة : { قال } لأنّها على طريقة المحاورة ، وقد تقدّم القول فيها آنفاً وفيما مضى .
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ
📘 وتفسير الآية تقدّم في نظيرها آنفاً في قصّة نوح ، إلاّ أنّه قال في قصّة نوح { وأنْصح لكم } [ الأعراف : 62 ] وقال في هذه { وأنا لكم ناصح أمين } فنوحٌ قال ما يدلّ على أنّه غير مُقلع عن النّصح للوجه الذي تقدّم ، وهود قال ما يدلّ على أنّ نصحه لهم وصف ثابت فيه متمكّن منه ، وأن ما زعموه سفاهةً هو نصح .وأُتبع { ناصح } ب { آمين } وهو الموصوف بالأمانة لردّ قولهم له : { لنظنّك من الكاذبين } [ الأعراف : 66 ] لأنّ الأمين هو الموصوف بالأمانة ، والأمانة حالة في الإنسان تبعثه على حفظ ما يجب عليه من حقّ لغيره ، وتمنعه من إضاعته ، أو جعله لنفع نفسه ، وضدّها الخيانة .والأمانةُ من أعزّ أوصاف البشر ، وهي من أخلاق المسلمين ، وفي الحديث : « لاَ إيمَانَ لِمَنْ لاَ أمان له » وفي الحديث : « إنّ الأمانة نزلت في جذر قلوب الرّجال ثم عَلِمُوا من القرآن ثمّ عَلِمُوا من السُّنَّة ثمّ قال يَنام الرجل النّومة فتقبض الأمانة من قلبه إلى أن قال فيقال : إنّ في بني فلان رَجُلاً أميناً ويقال للرّجل ما أعْقَله وما أظرفه وما أجْلَده وما في قلبه مثقالُ حبّة من خَرْدَللٍ من إيمان » فذَكَر الإيمان في موضع الأمانة . والكذبُ من الخيانة ، والصّدق من الأمانة ، لأنّ الكذب الخبر بأمر غير واقع في صورة توهم السّامع واقع ، فذلك خيانة للسّامع ، والصّدق إبلاغ الأمر الواقع كما هو فهو أداء لأمانةِ ما علِمَه المخبرُ ، فقوله في الآية { أمين } وصف يجمع الصّفات التي تجعله بمحلّ الثّقة من قومه ، ومن ذلك إبطال كونه من الكاذبين .وتقديم { لكم } على عامله للإيذان باهتمامه بما ينفعهم .
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
📘 هذا مماثل قولَ نوح لقومه وقد تقدّم آنفاً سبب المماثلة . وتقدّم من قبل تفسير نظيره .{ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى الخلق بَسْطَةً فاذكروا ءَالآءَ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.يجوز أن يكون قوله : { لينذركم } عطفاً على قوله : { اعبدوا } [ الأعراف : 65 ] ويكونَ ما بينهما اعتراضاً حكي به ما جرى بينه وبين قومه من المحاورة التي قاطعوه بها عقب قوله لهم { اعبدوا الله } [ الأعراف : 65 ] ، فلمّا أتمّ جوابهم عمّا قاطعوا به كلامه عاد إلى دعوته ، فيكون رجوعاً إلى الدّعوى ، ويجوز أن يكون عطفاً على قوله : { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم } أي : لا تنكروا أن جاءكم ذكر من ربّكم واذكروا نعمته عليكم ، فيكون تكملة للاستدلال ، وإيّاً مّا كان فالمآل واحد ، وانتقل من أمرهم بالتّوحيد إلى تذكيرهم بنعمة الله عليهم التي لا ينكرون أنّها من نعم الله دون غيره ، لأنّ الخلق والأمر لله لا لغيره . تذكيراً من شأنه إيصالهم إلى إفراد الله تعالى بالعبادة . وإنّما أمرهم بالذّكر ( بضمّ الذّال ) لأنّ النّفس تنسى النّعم فتكفر المنعم ، فإذا تذكّرت النّعمة رأتْ حقاً عليها أن تشكر المُنعم ، ولذلك كانت مسألة شكر المنعم من أهمّ مسائل التّكليف ، والاكتفاء بحسنه عقلاً عند المتّكلمين سواء منهم من اكتفى بالحس العقلي ومن لم يكتف به واعتَبر التوقّفَ على الخطاب الشّرعي .و { إذْ } اسم زمان منصوب على المفعول به ، وليس ظرفاً لعدم استقامة المعنى على الظرفية ، والتّحقيق أن ( إذْ ) لا تلازم الظرفية بل هي ظرف متصرّف ، وهو مختار صاحب «الكشاف» ، والمعنى : اذكروا الوقت الذي ظهرت فيه خلافتكم عن قوم نوح في تعمير الأرض والهيمنة على الأمم ، فإنّ عادا كانوا ذوي قوّة ونعمة عظيمة { وقالوا من أشَدّ منّا قوّة } [ فصلت : 15 ].فالخلفاء جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شيء ، أي يتولى عمل ما كان يعمله الآخَر ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { إنّي جاعل في الأرض خليفة } في سورة البقرة ( 30 ) ، فالمراد : جعلكم خلفاء في تعمير الأرض ، ولما قال : من بعد قوم نوح } عُلم أنّ المقصود أنّهم خلفاء قوم نوح ، فعادٌ أوّل أمّة اضطلعت بالحضارة بعد الطّوفان ، وكان بنو نوح قد تكاثروا وانتشروا في الأرض ، في أرمينية والموصل والعراق وبلاد العرب ، وكانوا أمماً كثيرة ، أو كانت عاد عظم تلك الأمم وأصحاب السّيادة على سائر الأمم ، وليس المراد أنّهم خلفوا قوم نوح في ديارهم لأنّ منازل عاد غيرُ منازل قوم نوح عند المُؤرّخين ، وهذا التّذكير تصريح بالنّعمة ، وتعريض بالنّذارة والوعيدِ بأنّ قوم نوح إنّما استأصلهم وأبَادَهم عذابٌ من الله على شركهم ، فمن اتبعهم في صنعهم يوشك أن يحلّ به عذاب أيضاً .و { الخلق } يحتمل أن يكون مصدراً خالصاً ، ويحتمل أن يكون بمعنى اسم المفعول ، وهو يستعمل في المعنيين .وقوله : { بصطة } ثبت في المصاحف بصاد قبل الطاء وهو مرادف بسطة الذي هو بسين قبل الطاء . ووقع في آيات أخرى . وأهمل الراغب ( بصطة ) الذي بالصاد . وظاهر عبارة القرطبي أنه في هذه الآية بسين وليس كذلك .والبصطة : الوفرة والسعة في أمر من الآمور .فإن كان ( الخلق ) بمعنى المصدر فالبصطة الزّيادة في القُوى الجِبلية أي زادهم قوّة في عقولهم وأجسامهم فخلقهم عقلاء أصحاء ، وقد اشتهر عند العرب نسبة العقول الرّاجحة إلى عاد ، ونسبة كمال قوى الأجسام إليهم قال النّابغة :أحلامُ عاد وأجسام مطهَّرة ... من المعقة والآفات والإثِموقال وَدّاك بنُ ثُمَيْل المازتي في «الحماسة» :وأحلام عادٍ لا يخاف جليسهم ... ولو نَطَقَ العُوّار غَرْبَ لِسانوقال قيس بن عُبادة :وأنْ لا يَقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادّي نمته ثَمُودوعلى هذه الوجه يكون قوله : { في الخلق } متعلّقاً ب { بصطة } ، وإن كان الخلق بمعنى النّاس فالمعنى : وزادكم بصطة في النّاس بأن جعلكم أفضل منهم فيما تتفاضل به الأمم من الأمور كلّها ، فيشمل رجحان العقول وقوّة الأجسام وسلامتها من العاهات والآفات وقوّة البأس ، وقَد نُسبت الدّروع إلى عاد فيقال لها : العاديّة ، وكذلك السّيوف العاديّة ، وقد قال الله تعالى حكاية عنهم : { وقالوا مَن أشد منّا قوّة } [ فصلت : 15 ] وحكَى عن هود أنّه قال لهم : { وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبّارين فاتّقوا الله وأطيعون واتّقوا الذي أمدّكم بما تعلمون أمَدّكم بأنعام وبنين وجنّاتٍ وعيون } [ الشعراء : 129 134 ] وعلى هذا الوجه يكون قوله : { في الخلق } ظرفاً مستقراً في موضع الحال من ضمير المخاطبين .والفاء في قوله : { فاذكروا آلاء الله } فصيحة ، أي : إن ذكرتم وقت جَعَلَكَم اللَّهُ خلفاء في الأرض ووقتَ زادكم بصطة فاذكروا نعمه الكثيرة تفصيلاً ، فالكلام جاء على طريقه القيَاس من الاستدلال بالجزئي على إثبات حكم كلي ، فإنّه ذكرهم بنعمة واضحة وهي كونهم خلفاءَ ونِعَممٍ مُجملة وهي زيادة بصطتهم ، ثمّ ذكَّرهم بقية النّعم بلفظ العموم وهو الجمع المضاف .والآلاء جمع ( إلى ) ، والإلَى : النّعمة ، وهذا مثل جمع عِنَب على أعْنَاب ، ونظيره جمع إنى بالنّون ، وهو الوقت ، على آناء قال تعالى : { غير ناظرين إناهُ } [ الأحزاب : 53 ] أي وقته ، وقال { ومن آناء اللّيل فسبِّح } [ طه : 130 ].ورتب على ذكر نعم الله رجاء أن يفلحوا لأنّ ذكر النّعم يؤدّي إلى تكرير شكر المنعم ، فيحمِل المنعم عليه على مقابلة النّعم بالطّاعة .
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ ۖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ
📘 والفاء في قوله : { فلنقصن عليهم } للتفريع والتّرتيب على قوله : { فلنسألن } ، أي لنسألنّهم ثمّ نخبرهم بتفصيل ماأجمله جوابهم ، أي فلنقصّنّ عليهم تفاصيل أحوالهم ، أي فعِلْمُنا غَنِي عن جوابهم ولكن السّؤال لغرض آخر .وقد دلّ على إرادة التّفصيل تنكيرُ علم في قوله : { بعلم } أي علم عظيم ، فإنّ تنوين ( عِلم ) للتعظيم ، وكمالُ العلم إنّما يظهر في العلم بالأمور الكثيرة ، وزاد ذلك بياناً قولُه : { وما كنا غائبين } الذي هو بمعنى : لا يعزب عن علمنا شيء يغيب عنّا ونغيب عنه .والقَصّ : الاخبار ، يقال : قصّ عليه ، بمعنى أخبره ، وتقدّم في قوله تعالى : { يقص الحقّ } في سورة الأنعام ( 57 ).وجملة : { وما كنا غائبين } معطوف على { فلنقصن عليهم بعلم } ، وهي في موقع التّذييل .والغائب ضدّ الحاضر ، وهو هنا كناية عن الجاهل ، لأنّ الغيبة تستلزم الجهالة عرفاً ، أي الجهالة بأحوال المَغيب عنه ، فإنّها ولو بلغتْه بالأخبار لا تكون تامة عنده مثل المشاهد ، أي : وما كنّا جاهلين بشيء من أحوالهم ، لأنّنا مطّلعون عليهم ، وهذا النّفي للغيبة مثل إثبات المعيَّة في قوله تعالى : { وهو معكم أينما كنتم } [ الحديد : 4 ].وإثباتُ سؤال الأمم هنا لا ينافي نفيه في قوله تعالى : { ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون } [ القصص : 78 ] وقوله { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } [ الرحمن : 39 ] لأنّ المسؤول عنه هنا هو التّبليغ والمنفيَّ في الآيتين الآخريين هو السّؤال لمعرفة تفاصيل ذ
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ۖ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
📘 جاوبوا هوداً بما أنبأ عن ضياع حجّته في جنب ضلالة عقولهم ومكابرة نفوسهم ، ولذلك أعادوا تكذيبه بطريق الاستفهام الإنكاري على دعوته للتّوحيد ، وهذا الجواب أقلّ جفوة وغلِظة من جوابهم الأوّل ، إذ قالوا : { إنّا لنراك في سفاهة وإنّا لنظنّك من الكاذبين } [ الأعراف : 66 ] كأنّهم راموا استنزل نفس هود ومحاولة إرجاعه عمّا دعاهم إليه ، فلذلك اقتصروا على الإنكار وذكروه بأنّ الأمر الذي أنكرهُ هوَ دينُ آباء الجميع تعريضاً بأنّه سفّه آباءه ، وهذا المقصد هو الذي اقتضى التّعبير عن دينهم بطريق الموصولية في قولهم : { ما كان يعبد آباؤنا } إيماء إلى وجه الإنكار عليه وإلى أنه حقيق بمتابعة دين آبائه ، كما قال الملأُ من قريش لأبي طالب حين دعاه النّبيء صلى الله عليه وسلم أنْ يقول : " لا إله إلا الله " عند احتضاره فقالوا لأبي طالب : «أترغَبُ عن ملّة عبد المطّلب» .واجتلاب ( كانَ ) لتدلّ على أن عبادتهم أمر قديم مَضت عليه العصور .والتّعبير بالفعل وكونه مضارعاً في قوله : { يَعبد } ليدلّ على أنّ ذلك متكرّر من آبائهم ومتجدّد وأنّهم لا يَفتُرون عنه .ومعنى { أجئتنا } أقصدتَ واهتممت بنا لنعبد الله وحده فاستعير فعل المجيء لمعنى الاهتمام والتّحفّز والتّصلّب ، كقول العرب : ذَهب يفعل ، وفي القرآن : { يأيها المدّثّر قُمْ فأنْذِر } [ المدثر : 1 ، 2 ] وقال حكاية عن فرعون : { ثمّ أدْبَر يَسْعَى فحشر فنادى } [ النازعات : 22 ، 23 ] وفرعون لم يفارق مجلس ملكه وإنّما أريد أنّه أعرض واهتمّ ومثله قولهم ذهب يفعل كذا قال النّبهاني :فإن كنتَ سيّدَنّا سُدْتَنا ... وإن كُنْتَ لِلْخَال فاذْهب فَخلْفقصدوا ممّا دلّ عليه فعل المجيء زيادة الإنكار عليه وتسفيهَه على اهتمامه بأمر مثل ما دعاهم إليه .و { وحده } حال من اسم الجلالة وهو اسم مصدر أوْحَده : إذا اعتقده واحداً ، فقياس المصدر الإيجاد ، وانتصب هذا المصدر على الحال : إمّا من اسم الجلالة بتأويل المصدر باسم المفعول عند الجمهور أي مُوحَّداً أي محكوماً له بالوحدانيه ، وقال يونس : هو بمعنى اسم الفاعل أي موحِّدين له فهو حال من الضّمير في { لنعبد }.وتقدّم معنى : { ونذر } عند قوله تعالى : { وذر الذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً } في سورة الأنعام ( 70 ).والفاء في قوله : { فأتنا بما تعدنا } لتفريع طلب تحقيق ما توعدهم به ، وتحدّياً لهود ، وإشعاراً له بأنّهم موقنون بأنْ لا صِدْق للوعيد الذي يتوعّدهم فلا يخشون ما وعدهم به من العذاب . فالأمر في قولهم : { فأتنا } للتّعجيز .والإتيان بالشّيء حقيقته أن يجيء مصاحباً إيَّاه ، ويستعمل مجازاً في الإحضار والإثبات كما هنا . والمعنى فعجل لنا ما تعدنا به من العذاب ، أو فحقّق لنا ما زعمتَ من وعيدنا . ونظيرُه الفعلُ المشتقّ من المجيء مثل { ما جئتنَا ببيّنة } [ هود : 53 ] { الآن جئتَ بالحقّ } [ البقرة : 71 ].وأسندوا الفعل إلى ضميره تعريضاً بأن ما توعدهم به هو شيء من مختلقاته وليس من قِبَل الله تعالى ، لأنّهم يزعمون أنّ الله لا يحبّ منهم الإقلاع عن عبادة آلهتهم ، لأنّه لا تتعلّق إرادته بطلب الضّلال في زعمهم .والوعد الذي أرادوه وعْد بالشرّ ، وهو الوعيد ، ولم يتقدّم ما يفيد أنّه توعّدهم بسوء ، فيحتمل أن يكون وعيداً ضمنياً تضمّنه قوله : { أفلا تتّقون } [ الأعراف : 65 ] لأنّ إنكاره عليهم انتفاء الاتّقاء دليل على أنّ ثمّة ما يُحذر منه ، ولأجل ذلك لم يُعَيِّنوا وعيداً في كلامهم بل أبهموه بقولهم { بما تعدنا } ، ويحتمل أن يكون الوعيد تعريضاً من قوله : { إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] المؤذن بأنّ الله استأصل قوم نوح وأخلفهم بعاد ، فيوشك أن يستأصل عادا ويخلفهم بغيرهم .وعقّبوا كلامهم بالشّرط فقالوا : { إن كنتَ من الصّادقين } استقصاء لمقدرته قصداً منهم لإظهار عجزه عن الإتيان بالعذاب فلا يسعه إلاّ الاعتراف بأنّه كاذب ، وجواب الشّرط محذوف دلّ عليه ما قبله تقديره : أتيتَ به وإلاّ فلست بصادق .
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ۖ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ
📘 فأجابهم بأن أخبرهم بأنّ الله قد غضب عليهم ، وأنّهم وقع عليهم رجس من الله .والأظهر أنّ : { وقع } معناه حَق وثبت ، من قولهم للأمر المحقّق : هذا وَاقع ، وقولهم للأمر المكذوب : هذا غير واقع ، فالمعنى حَقّ وقُدر عليكم رجس وغضب . فالرّجس هو الشّيء الخبيث ، أطلق هنا مجازاً على خبث الباطن ، أي فساد النّفس كما في قوله تعالى : { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] وقوله { كذلك يجعل الله الرّجس على الذين لا يؤمنون } [ الأنعام : 125 ]. والمعنى أصاب الله نفوسهم بالفساد لكفرهم فلا يقبلون الخير ولا يصيرون إليه ، وعن ابن عبّاس أنّه فَسَّر الرّجس هنا باللّعنة ، والجمهور فسّروا الرّجس هنا بالعذاب ، فيكون فعل : { وقَعَ } من استعمال صيغة المضي في معنى الاستقبال ، إشعاراً بتحقيق وقوعه؟ ومنهم من فسّر الرّجس بالسّخط ، وفسّر الغضب بالعذاب ، على أنّه مجاز مرسَل لأنّ العذاب أثر الغضب ، وقد أخبَر هود بذلك عن علم بوحي في ذلك الوقت أو من حين أرسله الله ، إذْ أعلمه بأنّهم إن لم يرجعوا عن الشّرك بعد أن يُبَلِّغهم الحجّة فإنّ عدم رجوعهم علامة على أنّ خبث قلوبهم متمكّن لا يزول ، ولا يرجى منهم إيمان ، كما قال الله لنوح : { لن يُؤمن من قومك إلاّ مَن قد آمن } [ هود : 136 ].وغضب الله تقديره : الإبعاد والعقوبة والتّحقير ، وهي آثار الغضب في الحوادث ، لأنّ حقيقة الغضب : انفعال تنشأ عنه كراهيّة المغضوب عليه وإبعادُه وإضراره .وتأخير الغضب عن الرّجس لأنّ الرّجس ، وهو خبث نفوسهم ، قد دلّ على أنّ الله فطرهم على خبث بحيث كان استمرارهم على الضّلال أمراً جِبلّياً ، فدلّ ذلك على أنّ الله غضب عليهم . فوقوع الرجس والغضب عليهم حاصل في الزّمن الماضي بالنّسبة لوقت قول هود . واقترانُه ب { قد } للدّلالة على تقريب زمن الماضي من الحال : مثل قَد قامت الصّلاة .وتقديم : { عليكم من ربّكم } على فاعل الفعل للاهتمام بتعجيل ذكر المغضوب والغاضب ، إيقاظاً لبصائرهم لعلّهم يبادرون بالتّوبة ، ولأنّ المجرورين متعلّقان بالفعل فناسب إيلاؤهما إياه ، ولو ذُكرا بعد الفاعل لتُوهِّم أنّهما صفتان له ، وقدم المجرور الذي هو ضميرهم ، على الذي هو وصف ربّهم لأنّهم المقصود الأوّل بالفعل .ولمّا قَدّم إنذارهم بغضب الله عاد إلى الاحتجاج عليهم بفساد معتقدهم فأنكر عليهم أن يجادلوا في شأن أصنامهم . والمجادلة : المحاجة .وعبّر عن الأصنام بأنّها أسماء ، أي هي مجرّد أسماء ليست لها الحقائق التي اعتقدوها ووضعوا لها الأسماء لأجل استحضارها ، فبذلك كانت تلك الأسماء الموضوعة مجرّد ألفاظ ، لانتفاء الحقائق التي وضعوا الأسماء لأجلها . فإنّ الأسماء توضع للمسمّيات المقصودة من التّسمية ، وهم إنّما وضعوا لها الأسماء واهتمّوا بها باعتبار كون الإلهيّة جزءاً من المسمَّى الموضوع له الاسم ، وهو الدّاعي إلى التّسميّة ، فمعاني الإلهية وما يتبعها ملاحظةٌ لمن وَضَع تلك الأسماء ، فلمّا كانت المعاني المقصودة من تلك الأسماء منتفية كانت الأسماء لا مسمّياتتٍ لها بذلك الاعتبار ، سواء في ذلك ما كان منها له ذوات وأجسام كالتّماثيل والأنصاب ، وما لم تكن له ذات ، فلعلّ بعص آلهة عاد كان مجرّد اسم يذكرونه بالإلهيّة ولا يجعلون له تمثالاً ولا نُصباً ، مثل ما كانت العزى عند العرب ، فقد قيل : إنهم جعلوا لها بيتاً ولم يجعلوا لها نصباً وقد قال الله تعالى في ذلك : { إن هي إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } [ النجم : 23 ].وذكر أهل الأخبار أنّ عادا اتّخذوا أصناماً ثلاثة وهي ( صَمُود ) بفتح الصّاد المهملة بوزن زَبُور . و { صُداء } بضمّ الصّاد المهملة مضبوطاً بخط الهَمَذاني محشي «الكشاف» في نسخة من حاشيته المسمّاة «توضيح المشكلات» ومنسوخة بخطّه ، وبدال مهملة بعدها ألف ولم أقف على ضبط الدّال بالتّشديد أو بالتّخفيف : وقد رأيت في نسخة من «الكشاف» مخطوطة موضوعاً على الدّال علامة شدّ ، ولستُ على تمام الثّقة بصحّة النّسخة ، وبعد الألف همزة كما هو في نسخ «الكشاف» و«تفسير البغوي» ، وكذلك هو في أبيات موضوعة في قصّة قوم عاد في كتب القَصص . ووقع في نسخة «تفسير ابن عطيّة» وفي «مروج الذّهب» للمسعودي ، وفي نسخه من شرح ابن بدرون على قصيدة ابن عبدون الأندلسِي بدون همزة بعد الألف ). و ( الهباء ) بالمدّ في آخره مضبوطاً بخطّ الهمذاني في نسخة حاشيته على «الكشاف» ، وفي نسخة «الكشاف» المطبوعة ، وفي «تفسيري» البغوي والخازن ، وفي الأبيات المذكورة آنفاً . ووقع في نسخة قلمية من «الكشاف» بألف دون مدّ . ولم أقف على ضبط الهاء ، ولم أر ذكر صداء والهباء فيما رأيت من كتب اللّغة .وعطف على ضمير المخاطبين : { وآبَاؤكم } لأنّ من آبائهم من وضع لهم تلك الأسماء ، فالواضعون وضعوا وسَمَّوْا ، والمقلّدون سمَّوْا ولم يضَعوا ، واشترك الفريقان في أنّهم يذكرون أسماء لا مسمّيات لها .و { سمّيتموها } معناه : ذكرتموها بألسنتكم ، كما يقال : سمّ الله ، أي ذاكر اسمه ، فيكون سمّى بمعنى ذكر لفظ الاسم ، والألفاظ كلّها أسماء لمدلولاتها ، وأصل اللّغة أسماء قال تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلّها } [ البقرة : 31 ] ، وقال لبيد :إلى الحول ثمّ اسمُ السّلامُ عليكُما ... أي لفظه . وليس المراد من التّسمية في الآية وضع الاسم للمسمّى ، كما يقال : سمّيت ولدي كذا ، لأنّ المخاطبين وكثيراً من آبائهم لاحظّ لهم في تسميّة الأصنام ، وإنّما ذلك من فعل بعض الآباء وهم الذين انتحلوا الشّرك واتّخذوه ديناً وعلَّموه أبناءهم وقومهم ، ولأجل هذا المعنى المقصود من التّسمية لم يُذكر لفعل «سمّيتم» مفعول ثان ولا متعلِّق ، بل اقتصر على مفعول واحد .والسلطانُ : الحجّة التي يصدّق بها المخالفُ ، سمّيت سلطاناً لأنّها تتسلّط على نفس المعارض وتقنعه ، ونَفَى أن تكون الحجّة منزلة من الله لأنّ شأن الحجّة في مثل هذا أن يكون مخبَراً بها من جانب الله تعالى ، لأنّ أمور الغيب ممّا استأثر الله بعلمه . وأعظم المغيَّبات ثبوت الإلهيّة لأنّها قد يَقصر العمل عن إدراكها فمن شأنها أن تُتلقى من قبل الوحي الإلهي .والفاء في قوله : { فانتظروا } لتفريع هذا الإنذار والتّهديد السّابق ، لأنّ وقوع الغضب والرّجس عليهم ، ومكابرتهم واحتجاجهم لما لا حجّة له ، ينشأ عن ذلك التّهديد بانتظار العذاب .وصيغة الأمر للتّهديد مثل : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ]. والانتظار افتعال من النّظر بمعنى التّرقّب ، كأنّ المخاطب أمِر بالتّرقّب فارْتقبَ .ومفعول : { انتظروا } محذوف دلّ عليه قوله : { رجس وغضب } أي فانتظروا عقاباً .وقوله : { إني معكم من المنتظرين } استيناف بياني لأنّ تهديده إياهم يثير سؤالاً في نفوسهم أن يقولوا : إذا كنّا ننتظر العذاب فماذا يكون حالُك ، فبيّن أنّه ينتظر معهم ، وهذا مقام أدب مع الله تعالى كقوله تعالى تَلْقِيناً لرسوله محمّد صلى الله عليه وسلم «وما أدري ما يفعل بي ولا بكم» فهودٌ يخاف أن يشمله العذاب النّازل بقومه وذلك جائز كما في الحديث : أنّ أمّ سلمة قالت : «أنهلك وفينا الصّالحون» قال : " نعم إذا كثر الخبث " . وفي الحديث الآخر : " ثمّ يحشرون على نيّاتهم " ويجوز أن ينزّل بهم العذاب ويراه هود ولكنّه لا يصيبه ، وقد روي ذلك في قصّته ويجوز أن يبعده الله وقد روي أيضاً في قصته بأن يأمره بمبارحة ديار قومه قبل نزول العذاب :
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ
📘 الفاء للتّعقيب : أي فعجّل الله استيصال عاد ونجَّى هوداً والذين معه أي المؤمنين من قومه ، فالمعقّب به هو قطع دابر عاد ، وكان مقتضى الظّاهر أن يكون النّظم هكذا : فقطعْنا دابر الذين كذّبوا إلخ ونجينا هوداً إلخ ، ولكن جرى النّظم على خلاف مقتضى الظّاهر للاهتمام بتعجيل الإخبار بنجاة هود ومن آمَن معه ، على نحو ما قرّرتُه في قوله تعالى : { فكذّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } [ الأعراف : 64 ] في قصّة نوح المتقدّمة ، وكذلك القول في تعريف الموصوليّة في قوله : { والذين معه }. والّذين معه هم من آمن به من قومه ، فالمعيّة هي المصاحبة في الدّين ، وهي معيّة مجازيّة ، قيل إنّ الله تعالى أمر هوداً ومن معه بالهجرة إلى مكّة قبل أن يحلّ العذاب بعادٍ ، وإنّه توفي هنالك ودفن في الحِجْر ولا أحسب هذا ثابتاً لأنّ مكّة إنّما بناها إبراهيم وظاهر القرآن في سورة هود أنّ بين عاد وإبراهيم زمناً طويلاً لأنّه حكى عن شعيب قولَه لقومه : { أنْ يصيبكم مثلُ ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قومُ لوط منكم ببعيد } [ هود : 89 ] فهو ظاهر في أنّ عاداً وثموداً كانوا بعيدين من زمن شعيب وأنّ قوم لوط غير بعيدين ، والبعد مراد به بعد الزّمان ، لأنّ أمكنة الجميع متقاربة ، وكان لوط في زمن إبراهيم فالأولى أن لا نعين كيفية إنجاء هود ومن معه . والأظهر أنّها بالأمر بالهجرة إلى مكان بعيد عن العذاب ، وروي عن عليّ أنّ قَبْر هود بحضر موت وهذا أقرب .وقوله : { برحمة منا } الباء فيه للسّببيّة ، وتنكير { رحمة } للتّعظيم ، وكذلك وصفها بأنّها من الله للدّلالة على كمالها ، و ( من ) للابتداء ، ويجوز أن تكون الباءُ للمصاحبة ، أي : فأنجيناه ورحمناه ، فكانت الرّحمَة مصاحبة لهم إذ كانوا بمحلّ اللّطف والرّفق حيثما حَلّوا إلى انقضاء آجالهم ، وموقع ( مِنَّا ) على هذا الوجه موقع رشيق جدّا يؤذن بأن الرّحمة غير منقطعة عنهم كقوله { فإنّك بأعيننا } [ الطور : 48 ].وتفسير قوله : { وقطعنا دابر الذين كذبوا } نظير قوله تعالى : { فقُطع دابر القوم الذين ظلموا } في سورة الأنعام ( 45 ) ، وقد أرسل عليهم الرّيح الدّبُور فأفناهم جميعاً ولم يبق منهم أحد . والظّاهر أنّ الذين أنجاهم الله منهم لم يكن لهم نسل . وأمّا الآية فلا تقتضي إلاّ انقراض نسل الذين كذّبوا ونزل بهم العذاب والتّعريف بطريق الموصوليه تقدّم في قوله : { وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } [ الأعراف : 64 ] في قصّة نوح آنفاً ، فهو للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو قطع دابرهم .{ وما كانوا مؤمنين } عطف على { كذّبوا } فهو من الصّلة ، وفائدة عطفه الإشارة إلى أن كلتا الصّلتين موجب لقطع دابرهم : وهما التّكذيب والإشراك ، تعريضاً بمشركي قريش ، ولِموعظتهم ذكرت هذه القصص . وقد كان ما حَلّ بعاد من الاستيصال تطهيراً أوّل لبلاد العرب من الشّرك ، وقطعاً لدابر الضّلال منها في أوّل عصور عمرانها ، أعداداً لما أراد الله تعالى من انبثاق نور الدّعوة المحمّديّة فيها .
وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
📘 الواو في قوله : { وإلى ثمود } مثلها في قوله : { وإلى عاد أخاهم هوداً } [ الأعراف : 65 ] ، وكذلك القول في تفسيرها إلى قوله تعالى : { من إله غيره }.وثمود أمّة عظيمة من العرب البائدة وهم أبناء ثمود بن جَاثَر بجيم ومثلّثة كما في «القاموس» ابن إرَم بن سام بن نوح فيلتقون مع عاد في ( إرَم ) وكانت مساكنهم بالحِجْر بكسر الحاء وسكون الجيم بَين الحجاز والشّام ، وهو المكان المسمّى الآن مَدائِن صالح وسُمّي في حديث غزوة تبوك : حِجْرَ ثَمُودَ .وصالحٌ هو ابن عَبِيل بلام في آخره وبفتح العينْ ابن آسف بن ماشج أو شالخ بن عَبيل بن جاثر ويقال كاثرَ ابن ثمود . وفي بعض هذه الأسماء اختلاف في حروفها في كتب التاريخ وغيرها أحسبه من التّحريف وهي غير مضبوطة سوى عبيل فإنّه مضبوط في سَميه الذي هو جَد قبيلةٍ ، كما في «القاموس» .وثمودَ هنا ممنوع من الصّرف لأنّ المراد به القبيلة لا جدّها . وأسماء القبائل ممنوعة من الصّرف على اعتبار التّأنيث مع العلميّة وهو الغالب في القرآن ، وقد ورد في بعض آيات القرآن مصروفاً كما في قوله تعالى : { ألاَ إنّ ثموداً كفروا ربّهم } [ هود : 68 ] على اعتبار الحيّ فينتفي موجب منع الصّرف لأنّ الاسم عربي .وقوله : { ما لكم من إله غيره } يدلّ على أنّ ثمود كانوا مشركين ، وقد صُرح بذلك في آيات سورة هود وغيرها . والظّاهر أنّهم عبدوا الأصنام التي عبدتها عاد لأنّ ثمود وعادا أبناء نسب واحد ، فيشبه أن تكون عقائدهم متماثلة . وقد قال المفسّرون : أنّ ثمود قامت بعد عاد فنمَتْ وعظمت واتسعت حضارتها ، وكانوا مُوحدين ، ولعلّهم اتّعظوا بما حلّ بعاد ، ثمّ طالت مدّتهم ونعم عيشهم فَعَتوا ونسُوا نعمة الله وعَبَدوا الأصنام فأرسل الله إليهم صالحاً رسولاً يدعوهم إلى التّوحيد فلم يتَّبعه إلاّ قليل منهم مُستضعفون ، وعصاه سادتهم وكبراؤهم ، وذكر في آية سورة هود أنّ قومه لم يغلظوا له القول كما أغلظت قوم نوح وقوم هود لرسولهم ، فقد : { قالوا يا صالح قد كنتَ فينا مرجُوّا قبل هذا أتَنْهَانا أن نعبد ما يَعْبُد آباؤُنا لفي شكّ ممَّا تدعُونا إليه مُريب } [ هود : 62 ]. وتدلّ آيات القرآن وما فُسّرت به من القصص على أنّ صالحاً أجَّلهم مدّة للتّأمّل وجعل النّاقة لهم آية ، وأنّهم تَارَكُوها ولم يُهيجوها زمناً طويلاً .فقد أشعرت مجادلتهم صالحاً في أمر الدّين على أنّ التّعقّل في المجادلة أخذ يدبّ في نفوس البشر ، وأنّ غُلواءهم في المكابرة أخذت تقصر ، وأنّ قناة بأسهم ابتدأت تلين ، للفرق الواضح بين جواب قوم نوح وقوممِ هود ، وبين جواب قوم صالح .ومن أجل ذلك أمهلهم الله ومادّهم لينظروا ويفكّروا فيما يدعوهم إليه نبئهم ولِيَزِنوا أمرهم ، وجعل لهم الانكفاف عن مسّ النّاقة بسوء علامة على امتداد الإمهال؛ لأنّ انكفافهم ذلك علامة على أنّ نفوسهم لم تحْنق على رسولهم ، فرجاؤه إيمانهم مستمرّ ، والإمهال لهم أقطعُ لعذرهم ، وأنهض بالحجّه عليهم ، فلذلك أخّر الله العذاب عنهم إكراماً لنبيّهم الحريص على إيمانهم بقدر الطّاقة ، كما قال تعالى لنوح :{ أنّه لم يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } [ هود : 36 ].وجملة : { قد جاءتكم بينة من ربكم } إلخ ، هي من مقوللِ صالححٍ في وقت غير الوقت الذي ابتدأ فيه بالدّعوة ، لأنّه قد طوي هنا جواب قومه وسُؤَالُهم إياه آية كما دلّت عليه آيات سورة هود وسورة الشّعراء ، ففي سورة هود ( 61 ، 62) : { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثمّ تُوبوا إليه إنّ ربّي قريب مجيب قالوا يا صالح قد كنتَ فِينا مرجُوّا قبل هذا } الآية . وفي سورة الشّعراء ( 153 155) : { قالوا إنّما أنت من المسحرين ما أنت إلاّ بشر مثلنا فأتتِ بآية إن كنت من الصّادقين قال هذه ناقة لها شرب } الآية .فجملة : قد جاءتكم بينة من ربكم } تعليل لجملة : { اعبدوا الله } ، أي اعبدوهُ وحده لأنّه جعل لكم آية على تصديقي فيما بلغتُ لكم ، وعلى انفراده بالتّصرف في المخلوقات .وقوله : { هذه ناقة الله } يقتضي أن النّاقة كانت حاضرة عند قوله : { قد جاءتكم بينة من ربكم } لأنّها نفس الآية .والبيّنة : الحجّة على صدق الدّعوى ، فهي ترادف الآية ، وقد عُبّر بها عن الآية في قوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مُنفكِّينَ حتى تأتيهم البيّنة } [ البينة : 1 ].و { هذه } إشارة إلى النّاقة التي جعلها الله آية لصدق صالح ولما كانت النّاقة هي البيّنة كانت جملة : { هذه ناقة الله لكم آية } منزّلة من التي قبلها منزلة عطف البيان .وقوله : { آية } حال من اسم الإشارة في قوله : { هذه ناقة الله } لأنّ اسم الإشارة فيه معنى الفعل ، واقترانَه بحرف التّنبيه يقوي شبهه بالفعل ، فلذلك يكون عاملاً في الحال بالاتّفاق ، وتقدّم عند قوله : { ذلك نتلوه عليك من الآيات } في سورة آل عمران ( 58 ) ، وسنذكر قصّة في هذا عند تفسير قوله تعالى : { وهذا بعلي شيخاً } في سورة هود ( 72 ).وأكّدت جملة : قد جاءتكم بينة } ، وزادت على التّأكيد إفادةُ ما اقتضاه قوله { لكم } من التّخصيص وتثبيت أنّها آية ، وذلك معنى اللاّم ، أي هي آية مقنِعة لكم ومجعولة لأجلكم .فقوله : { لكم } ظرف مستقرّ في موضع الحال من { آية } ، وأصله صفة فلمّا قُدم على موصوفه صار حالاً ، وتقديمه للاهتمام بأنّها كافية لهم على ما فيهم من عناد .وإضافة ناقة إلى اسم الله تعالى تشريف لها لأنّ الله أمر بالإحسان إليها وعدم التّعرّض لها بسوء ، وعظَّم حرمتها ، كما يقال : الكعبة بيت الله ، أو لأنّها وُجدت بكيفية خارقة للعادة ، فلانتفاء ما الشانُ أن تضاف إليه من أسباب وجود أمثالها أضيفت إلى اسم الجلالة كما قيل : عيسى عليه السّلام كلمةُ الله .وأمّا إضافة { أرض } إلى اسم الجلالة فالمقصود منه أنّ للنّاقة حقّاً في الأكل من نبات الأرض لأنّ الأرض لله وتلك النّاقة من مخلوقاته فلها الحقّ في الانتفاع بما يصلح لانتفاعها .وقوله : { هذَا } مقدمةٌ لقوله : { ولا تمسوها بسوء } أي بسوء يعوّقها عن الرّعي إمّا بموت أو بجرح ، وإمّا لأنّهم لما كذّبوه وكذّبوا معجزته راموا منع النّاقة من الرّعي لتموت جوعا على معنى الإلجاء النّاشىء عن الجهالة .والأرض هنا مراد بها جنس الأرض كما تقتضيه الإضافة .وقد جعل الله سلامة تلك النّاقة علامة على سلامتهم من عذاب الاستيصال للحكمة التي قدّمتُها آنفاً ، وأن ما أوصى الله به في شأنها شبيه بالحَرَم ، وشبيه بحمى الملوك لما فيه من الدّلالة على تعظيم نفوس القوم لمن تُنسب إليه تلك الحُرمة ، ولذلك قال لهم صالح : { فَذروها تأكلْ في أرض الله ولا تمسّوها بسوء } لأنّهم إذا مسّها أحد بسوء ، عن رضى من البَقيّة ، فقد دلُّوا على أنّهم خلعوا حرمة الله تعالى وحنقوا على رسوله عليه السّلام .وجُزم { تأكل } على أنّ أصله جواب الأمر بتقدير : إنْ تذروها تأكُل ، فالمعنى على الرّفع والاستعمالُ على الجزم ، كما في قوله تعالى : { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصّلاة } [ إبراهيم : 31 ] أي يقيمون وهو كثير في الكلام ، ويُشبه أن أصل جزم أمثاله في الكلام العربي على التّوهم لوجود فِعل الطّلب قبل فعللٍ صالح للجزم ، ولعلّ منه قوله تعالى : { وأذّنْ في النّاس بالحجّ يأتوك رجالا } [ الحج : 27 ] وانتصب قوله : { فيأخُذكم } في جواب النّهي لِيُعتبر الجواب للمنهي عنه لأنّ حرف النّهي لا أثر له : أي إن تمسُّوها بسوءٍ يأخذْكم عذاب .وأنيط النّهي بالمس بالسّوء لأنّ المس يصدق على أقل اتّصال شيء بالجسم ، فكلّ ما ينالُها ممّا يراد منه السّوء فهو منهي عنه ، وذلك لأنّ الحيوان لا يسوؤه إلاّ ما فيه ألم لذاته ، لأنّه لا يفقه المعاني النّفسانيّه .والباء في قوله : { بسوء } للملابسة ، وهي في موضع الحال من فاعل تَمسوها أي بقصد سوء .
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
📘 يجوز أن يكون عطفاً على قوله : { اعبدوا الله } [ الأعراف : 73 ] وأن يكون عطفاً على قوله : { فذروها تأكل في أرض الله } [ الأعراف : 73 ] إلخ . والقول فيه كالقول في قوله : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ].{ وبوأكم } معناه أنزلكم ، مشتق من البَوْء وهو الرّجوع ، لأنّ المرء يرجع إلى منزله ومسكنه ، وتقدّم في سورة آل عمران ( 121 ) ، { تُبَوّىءُ المؤمنين مَقاعد للقتال } وقوله : { في الأرض } يجوز أن يكون تعريفُ الأرض للعهد ، أي في أرضكم هذه ، وهي أرض الحِجر ، ويجوز أن يكون للجنس لأنّه لما بوأهم في أرض معيّنة فقد بَوّأهم في جانب من جوانب الأرض .و«السّهول» جمع سهل ، وهو المستوي من الأرض ، وضدّه الجبل .والقصور : جمع قصر وهو المسكن ، وهذا يدلّ على أنّهم كانوا يشيّدون القصور ، وآثارُهم تنطق بذلك .و ( مِنْ ) في قوله : { من سهولها } للظرفيّة ، أي : تتّخذون في سهولها قصوراً .والنّحت : بَرْي الحَجَر والخَشَب بآلة على تقدير مخصوص .والجبال : جمع جبل وهو الأرض النّاتئة على غيرها مرتفعة ، والجبال : ضدّ السّهول .والبيوت : جمع بيت وهو المكان المحدّد المتّخذ للسكنى ، سواء كان مبنياً من حجر أم كان من أثواب شعرٍ أو صوففٍ . وفعل النّحت يتعلّق بالجبال لأنّ النّحت يتعلّق بحجارة الجبال ، وانتصب { بيوتاً } على الحال من الجبال ، أي صائرة بعد النّحت بيوتاً ، كما يقال : خِطْ هذا الثّوب قميصاً ، وابْرِ هذه القصبة قَلماً ، لأنّ الجبل لا يكون حاله حال البيوت وقت النّحت ، ولكن يصير بيوتاً بعد النّحت .ومحلّ الامتنان هو أن جعل منازلهم قسمين : قسم صالح للبناء فيه ، وقسم صالح لنحت البيوت ، قيل : كانوا يسكنون في الصّيف القصور ، وفي الشّتاء البيوتَ المنحوتة في الجبال .وتفريع الأمر بذِكْر آلاءِ الله على قوله : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } تفريع الأعم على الأخصّ ، لأنّه أمَرهم بذكر نعمتين ، ثمّ أمرهم بذكر جميع النّعم التي لا يحصونها ، فكان هذا بمنزلة التّذييل .وفعل : { اذكروا } مشتقّ من المصدر ، الذي هو بضمّ الذّال ، وهو التذَكَّر بالعقل والنّظر النّفساني ، وتذكّر الآلاء يبعث على الشّكر والطّاعة وترك الفساد ، فلذلك عطف نهيهم عن الفساد في الأرض على الأمر بذكر آلاء الله .{ ولا تعثوا } معناه ولا تفسدوا ، يقال : عَثِيَ كَرضِي ، وهذا الأفصح ، ولذلك جاء في الآية بفتح الثّاء حين أسند إلى واو الجماعة ، ويقال عَثا يعثو من باب سَما عثواً وهي لغة دون الأولى ، وقال كراع ، كأنّه مقلوب عاث . والعَثْيُ والعَثْو كلّه بمعنى أفسد أشدّ الإفساد .ومفسدين حال مؤكّدة لمعنى { تعثوا } وهو وإن كان أعمّ من المؤكَّد فإنّ التّأكيد يحصل ببعض معنى المؤكَّد .
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ۚ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
📘 عَدَل الملأُ الّذين استكبروا عن مجادلة صالح عليه السّلام إلى اختبار تصلّب الذين آمنوا به في إيمانهم ، ومحاولة إلقاء الشكّ في نفوسهم ، ولما كان خطابهم للمؤمنين مقصوداً به إفساد دعوة صالح عليه السلام كان خطابهم بمنزلة المحاورة مع صالح عليه السّلام ، فلذلك فصلت جملة حكاية قولهم على طريقة فصْل جُمل حكاية المحاورات ، كما قدّمناه غير مرّة آنفاً وفيما مضى .وتقدّم تفسير الملأ قريباً .ووَصْفُهم بالذين استكبروا هنا لتفظيع كبرهم وتعاظمهم على عامة قومهم واستذلالهم إياهم . وللتّنبيه على أنّ الذين آمنوا بما جاءهم به صالح عليه السلام هم ضعفاء قومه .واختيار طريق الموصولية في وصفهم ووصففِ الآخرين بالذين استضعفوا لما تُومىء إليه الصّلة من وجه صدور هذا الكلام منهم ، أي أن اسكبارهم هو صارفهم عن طاعة نبيئهم ، وأنّ احتقارهم المؤمنين هو الذي لم يُسغ عندهم سبقَهم إياهم إلى الخير والهدى ، كما حكى عن قوم نوح قولهم : { وما نراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا باديَ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل } [ هود : 27 ] وكما حكى عن كفّار قريش بقوله : { وقال الذين كفروا للّذين آمنوا لو كان خيراً مَا سبقونا إليه وإذْ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم } [ الأحقاف : 11 ] ، ولهذا لم يوصفوا بالكفر كما وصف به قوم هود .والذين استُضعفوا هم عامّة النّاس الذين أذلّهم عظماؤهم واستعبدوهم لأنّ زعامة الذين استكبروا كانت قائمة على السّيادة الدّنيوية الخلية عن خلال الفضيلة ، من العَدل والرأفة وحبّ الإصلاح ، فلذلك وصف الملأُ بالّذين استكبروا ، وأطلق على العامة وصف الذين استُضعفوا .واللاّم في قوله : { للذين استضعفوا } لتعدية فعل القول .وقوله : { لمن آمن منهم } بدل من { للذين استضعفوا } بإعادة حرف الجرّ الذي جرّ بمثله المبدل منه .والاستفهام في { أتعلمون } للتشكيك والإنكار ، أي : ما نظنّكم آمنتم بصالححٍ عليه السّلام عن علم بصدقه ، ولكنّكم اتَّبعتموه عن عمى وضلال غير موقنين ، كما قال قوم نوح عليه السّلام : { وما نَراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي } [ هود : 27 ] وفي ذلك شَوب من الاستهزاء .وقد جيء في جواب { الذين استضعفوا } بالجملة الاسميّة للدّلالة على أنّ الإيمان متمكّن منهم بمَزيد الثّبات ، فلم يتركوا للذين استكبروا مطمعاً في تشكيكهم ، بلْه صرفهم عن الإيمان برسولهم .وأكّد الخبر بحرف ( إنّ ) لإزالة ما توهّموه من شكّ الذين استكبروا في صحّة إيمانهم ، والعدول في حكاية جواب الذين استضعفوا عن أن يكون بنعم إلى أن يكون بالموصول صلته لأن الصلة تتضمن إدماجاً بتصديقهم بما جاء به صالح من نحو التوحيد وإثبات البعث ، والدلالة على تمكنهم من الإيمان بذلك كله بما تفيده الجملة الاسمية من الثبات والدوام وهذا من بليغ الايجاز المناسب لكون نسج هذه الجملة من حكاية القرآن لا من المحكي من كلامهم إذ لا يظن أن كلامهم بلغ من البلاغة هذا المبلغ ، وليس هو من الأسلوب الحكيم كما فهمه بعض المتأخرين .
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
📘 ومراجعة الذين استكبروا بقولهم : { إنا بالذي آمنتم به كافرون } تدلّ على تصلّبهم في كفرهم وثباتهم فيه ، إذ صيغ كلامهم بالجملة الاسميّة المؤكَّدة .والموصول في قولهم : { بالذي آمنتم به } هو ما أرسل به صالح عليه السّلام . وهذا كلام جامع لرد ما جَمعه كلام المستضعفين حين { قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون } فهو من بلاغة القرآن في حكاية كلامهم وليس من بلاغة كلامهم .ثمّ إنّ تقديم المجرورين في قوله : { بما أرسل به } و { بالذي آمنتم به } على عامليهما يجوز أن يكون من نظم حكاية كلامهم وليس له معادل في كلامهم المحكي ، وإنّما هو لتتقوّم الفاصلتان ، ويجوز أن يكون من المحكي : بأن يكون في كلامهم ما دلّ على الاهتمام بمدلول الموصولين ، فجاء في نظم الآية مدلولاً عليه بتقديم المعمولين .وقرأ الجمهور : { قال الملأ } بدون عطف جرياً على طريقة أمثاله في حكاية المحاورات . وقرأه ابن عامر : { وقال } بحرف العطف وثبتت الواو في المصحف المبعوث إلى الشام خلافاً لطريقة نظائرها ، وهو عطف على كلام مقدّر دلّ عليه قوله : { قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون } والتّقدير : فآمن به بعض قومه ، وقال الملأ من قومه إلخ ، أو هو عطف على : { قال يا قوم اعبدوا الله } [ الأعراف : 73 ] الآية ، ومخالفةُ نظائره تفنّن .
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
📘 الفاء للتّعقيب لِحكاية قول الذين استكبروا : { إنّا بالذي آمنتم به كافرون } [ الأعراف : 76 ] ، أي قالوا ذلك فعقروا ، والتّعقيب في كلّ شيء بحسبه ، وذلك أنّهم حينَ قالوا ذلك كانوا قد صدعوا بالتّكذيب ، وصمّموا عليه ، وعجزوا عن المحاجة والاستدلال ، فعزموا على المصير إلى النّكاية والإغاظة لصالح عليه السّلام ومن آمنَ به ، ورسموا لابتداء عملهم أن يعتدوا على النّاقة التي جعلها صالح عليه السّلام لهم ، وأقامها بينَه وبينهم علامة موادعة ما داموا غير متعرّضين لها بسوء ، ومقصدهم من نيّتهم إهلاك النّاقة أن يزيلوا آية صالح عليه السّلام لئلا يزيد عدد المؤمنِين به ، لأنّ مشاهدة آية نبوءته سالمة بينهم تثير في نفوس كثير منهم الاستدلال على صدقه والاستئناس لذلك بسكوت كبرائهم وتقريرهم لها على مرعاها وشِربها ، ولأنّ في اعتدائهم عليها إيذاناً منهم بتحفزهم للإضرار بصالح عليه السّلام وبمن آمن به بعدَ ذلك وليُرُوا صالحاً عليه السّلام أنّهم مستخفّون بوعيده إذ قال لهم : { ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم } [ الأعراف : 73 ].والضّمير في قوله : { فعقروا } عائد إلى { الذين استكبروا } [ الأعراف : 75 ] ، وقد أسند العقر إليهم وإن كان فاعله واحداً منهم لأنّه كان عن تمالىء ورضى من جميع الكبراء ، كما دلّ عليه قوله تعالى في سورة القمر ( 29) : { فَنادَوْا صاحبَهم فتعاطى فعَقر } وهذا كقول النّابغة في شأن بني حُنّ :وهم قتلوا الطاءيّ بالجوّ عنوة ... وإنَّما قتله واحد منهموذُكر في الأثر : أنّ الذي تولّى عقر النّاقة رجل من سادتهم اسمه ( قُدار ) بضم القاف ودال مهملة مخففة وراء في آخره ابن سالف . وفي حديث البخاري أنّ النبي ذكر في خطبته الذي عقر الناقة فقال : انبعثَ لها رجل عزيز عَارِم منيعٌ في رهطه مثل أبي زمْعة .والعَقْر : حقيقته الجرح البليغ ، قال امرؤ القيس :تقول وقد مال الغبيط بِنَا معا ... عَقَرْتَ بعيري يا امرأ القيس فانزلأي جرحتَه باحتكاك الغبيط في ظهره من مَيله إلى جهةٍ ، ويطلق العقر على قطع عضو الحيوان ، ومنه قولهم ، عَقَرَ حمارَ وحش ، أي ضربه بالرّمح فقطع منه عضواً ، وكانوا يعقرون البعير المرادَ نحرُه بقطع عضوٍ منه حتّى لا يستطيع الهروب عند النّحر ، فلذلك أطلق العقر عن النّحر على وجه الكناية قال امرؤ القيس :ويَومَ عَقَرْتُ للعذارَى مطيَّتي ... وما في هذه الآية كذلك .والعُتوّ تجاوز الحد في الكِبْر ، وتعديته ب ( مَن ) لتضمينه معنى الإعراض .وأمرُ ربّهم هو ما أمرهم به على لسان صالح عليه السّلام من قوله : { ولا تمسوها بسوء } [ الأعراف : 73 ] فعُبّر عن النّهي بالأمر لأنّ النّهي عن الشّيء مقصود منه الأمر بفعل ضدّه ، ولذلك يقول علماء الأصول إنّ النّهي عن الشّيء يستلزم الأمرَ بضدّه الذي يحصل به تحقّق الكفّ عن المنهي عنه .وأرادوا : { بما تعدنا } العذاب الذي توعَّدهم به مجملاً .وجيء بالموصول للدّلالة على أنّهم لا يخشون شيئاً ممّا يريده من الوعيد المجمل . فالمراد بما تتوعدنا به وصيغت صلة الموصول من مادة الوعد لأنه أخف من مادة الوعد .وقد فرضوا كونَه من المرسلين بحرف ( إنْ ) الدّال على الشكّ في حصول الشّرط ، أي إن كنتَ من الرّسل عن الله فالمراد بالمرسلين من صَدق عليهم هذا اللّقب . وهؤلاء لجهلهم بحقيقة تصرّف الله تعالى وحكمته ، يحسبون أنّ تصرّفات الله كتصرّفات الخلق ، فإذا أرسل رسولاً ولم يصدّقْه المرسَل إليهم غَضِب الله واندَفع إلى إنزال العقاب إليهم ، ولا يعلمون أنّ الله يُمهل الظّالمين ثمّ يأخذهم متى شاء .
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
📘 وجملة { فأخذتهم الرجفة } معترضة بين جملة { فعقروا الناقة } وبين جملة { فتولى عنهم } [ الأعراف : 79 ] أريد باعتراضها التّعجيلُ بالخبر عن نفاذ الوعيد فيهم بعَقب عتوّهم ، فالتّعقيب عرفي ، أي لم يكن بين العقر وبين الرجفة زمن طويل ، كان بينهما ثلاثة أيّام ، كما ورد في آية سورة هود ( 65) : { فعقروها فقال تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب } وأصل الأخذ تناول شيءٍ باليد ، ويستعمل مجازاً في مِلك الشيء ، بعلاقة اللّزوم ، ويستعمل أيضاً في القهر كقوله : { فأخذهم الله بذنوبهم } [ الأنفال : 52 ] ، { فأخذهم أخذة رابية } [ الحاقة : 10 ] وأخذ الرّجفة : إهلاكُها إياهم وإحاطتها بهم إحاطة الآخِذ . ولا شكّ أنّ الله نجّى صالحاً عليه السّلام والذين آمنوا معه ، كما في آية سورة هود . وقد روي أنّه خرج في مائة وعشرة من المؤمنين ، فقيل : نزلوا رملة فلسطين ، وقيل : تباعدوا عن ديار قومهم بحيث يرونها ، فلمّا أخذتهم الرّجفة وهلكوا عاد صالح عليه السّلام ومن آمنَ معه فسكنوا ديارهم ، وقيل : سكنوا مكّة وأنّ صالحاً عليه السّلام دفن بها ، وهذا بعيد كما قلناه في عاد ، ومن أهل الأنساب من يقول : إنّ ثقيفاً من بقايا ثمود ، أي من ذرّية مَن نجا منهم من العذاب ، ولم يذكر القرآن أنّ ثموداً انقطع دابرهم فيجوز أن تكون منهم بقية .والرّجفة : اضطراب الأرض وارتجاجها ، فتكون من حوادث سماوية كالرّياح العاصفة والصّواعق ، وتكون من أسباب أرضيّة كالزلازل ، فالرّجفة اسم للحالة الحاصلة ، وقد سمّاها في سورة هود بالصّيْحة فعلمنا أنّ الذي أصاب ثمود هو صاعقة أو صواعق متوالية رجفت أرضَهم وأهلكتهم صَعِقين ، ويحتمل أن تقارنها زلازل أرضية .والدّار : المكان الذي يحتلّه القوم ، وهو يفرد ويجمع باعتبارين ، فلذلك قال في آية سورة هود : { فأصبحوا في ديارهم جاثمين }. { فأصبحوا } هنا بمعنى صاروا .والجاثم : المُكِب على صدره في الأرض مع قبض ساقيه كما يجثو الأرْنب ، ولمّا كان ذلك أشدّ سكوناً وانقطاعاً عن اضطراب الأعضاء استعمل في الآية كناية عن همود الجثّة بالموت ، ويجوز أن يكون المراد تشبيه حالة وقوعهم على وجوههم حين صعِقوا بحالة الجاثم تفظيعاً لهيئة مِيتتهم ، والمعنى أنّهم أصبحوا جثثا هامدة ميّتة على أبشع منظر لِمَيِّت .
فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ
📘 والفاء في قوله : { فتولى عنهم } عاطفة على جملة : { فعقروا الناقة } [ الأعراف : 77 ] والتّولي الانصراف عن فراق وغضب ، ويطلق مجازاً على عدم الاكتراث بالشّيء ، وهو هنا يحتمل أن يكون حقيقة فيكون المراد به أنّه فارقَ ديار قومه حين علم أنّ العذاب نازل بهم ، فيكون التّعقيب لقوله : { فعقروا الناقة } [ الأعراف : 77 ] لأن ظاهر تعقيب التّوليَ عنهم وخطابه إياهم أن لا يكون بعد أن تأخذهم الرّجفة وأصبحوا جاثمين .ويحتمل أن يكون مجازاً بقرينة الخطاب أيضاً ، أي فأعرض عن النّظر إلى القرية بعد اصابتها بالصّاعقة ، أو فأعرض عن الحَزن عليهم واشتغل بالمؤمنين كما قال تعالى : { لعلّك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ].فعلى الوجه الأول يكون قوله : { يا قوممِ لقد أبلغتكم } إلخ مستعملاً في التّوبيخ لهم والتّسجيل عليهم ، وعلى الوجه الثّاني يكون مستعملاً في التحَسر أو في التّبرىء منهم ، فيكون النّداء تَحسر فلا يقتضي كونَ أصحاب الاسم المنادَى ممّن يعقل النّداء حينئذ ، مثل ما تنادَى الحسرة في : يا حسرة .وقوله : { لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم } تفسيره مثل تفسير قوله في قصّة نوح عليه السّلام : { أبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم } [ الأعراف : 62 ] واللاّم في ( لقد ) لام القسم ، وتقدّم نظيره عند قوله : { لقد أرسلنا نوحاً } [ الأعراف : 59 ].والاستدراك ب ( لكن ) ناشىء عن قوله : { لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحتُ لكم } لأنّه مستعمل في التّبرُّؤ من التقصير في معالجة كفرهم ، سواء كان بحيث هم يسمعونه أم كان قاله في نفسه ، فذلك التّبرُّؤُ يؤذن بدفع توهّم تقصير في الإبلاغ والنّصيحة لإنعدام ظهور فائدة الابلاغ والنّصيحة ، فاستدرك بقوله : { ولكن لا تحبّون النّاصحين } ، أي تكرهون النّاصحين فلا تطيعونهم في نصحهم ، لأنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع ، فأراد بذلك الكناية عن رفضهم النّصيحة .واستعمال المضارع في قوله : { لا تحبّون } إن كان في حال سماعهم قولَه فهو للدّلالة على التّجديد والتّكرير ، أي لم يزل هذا دأبَكم فيكون ذلك آخر علاج لإقلاعهم إن كانت فيهم بقيّه للإقلاع عمّا هم فيه ، وإن كان بعد انقضاء سماعهم فالمضارع لحكاية الحال الماضية مثلها في قوله تعالى : { والله الذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ].
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ۚ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
📘 عطف جملة : { والوزن يومئذٍ الحق } على جملة { فلنقصن } [ الأعراف : 7 ] ، لما تضمّنته المعطوف عليها من العلم بحسنات النّاس وسيّئاتهم ، فلا جرم أشعرت بأنّ مظهرَ ذلك العلم وأثَرَه هو الثّواب والعقاب ، وتفاوتُ درجات العاملين ودرَكاتهم تفاوتاً لا يُظلم العامل فيه مثقال ذرّة ، ولا يفوتُ ما يستحقّه إلاّ أن يتفضّل الله على أحدٍ برفع درجة أو مغفرة زلة لأجل سلامة قلب أو شفاعة أو نحو ذلك ، ممّا الله أعلم به مِن عبادِه ، فلذلك عقبت جملة : { فلنقصن } [ الأعراف : 7 ] بجملة : { والوزن يومئذٍ الحق } فكأنّه قيل : فلنقصنّ عليهم بعلم ولنُجَازِيَنَّهم على أعمالهم جزاء لا غبن فيه على أحد .والتّنوين في قوله : { يومئذٍ } عوض عن مضاف إليه دلّ عليه : { فلنسألن الذين أرْسِلَ إليهم } [ الأعراف : 6 ] وما عطف عليه بالواو وبالفاء ، والتّقدير : يومَ إذ نسألهم ونسأل رُسلَهم ونقُص ذنوبهم عليهم .والوزن حقيقته معادلة جسم بآخر لمعرفة ثقل أحد الجسمين أو كليهما في تعادلهما أو تفاوتهما في المقدار ، وإذ قد كان تساوي الجسمين الموزونين نادر الحصول تعيَّن جُعلت أجسام أخرى يُعرف بها مقدار التّفاوت ، فلا بد من آلة توضع فيها الأشياء ، وتسمّى الميزان ولها أشكال مختلفة شكلاً واتساعاً .والأجسام التي تجعل لتعيين المقادير تُسمّى مَوازين ، وَاحِدُها ميزان أيضاً وتسمّى أوزاناً واحدها وَزْن ، ويطلق الوزن على معرفة مقدار حال في فضل ونحوِه قال تعالى : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } [ الكهف : 105 ] وفي حديث أبي هريرة ، في «الصّحيحين» : " إنَّه ليؤتى بالعظيم السمين يومَ القيامة لا يَزن عند الله جَناح بعوضة " . ويستعار استعارة تمثيلية للتدبير في أحوال ، كقول الراعي :وَزَنَتْ أميَّةُ أمْرَها فدَعَتْ له ... من لَمْ يكن غُمِراً ولا مَجهولاًفالوزن في هذه الآية يراد به تعيين مقادير مَا تستحقّه الأعمال من الثّواب والعقاب تعييناً لا إجحاف فيه ، كتعيين الميزان على حسب ما عيّن الله من ثواب أو عقاب على الأعمال ، وذلك ممّا يعلمه الله تعالى : ككون العمل الصّالح لله وكونِه ريَاء ، وككون الجهاد لإعلاء كلمة الله أو كونِه لمجرّد الطمع في الغنيمة ، فيكون الجزاء على قدر العمل ، فالوزن استعارة ، ويجوز أن يراد به الحقيقة فقد قيل توضع الصحائف التي كتبتها الملائكة للأعمال في شيء خلقه الله ليجعله الله يوم القيامة ، ينطق أو يتكيّف بكيفيّةٍ فيدلّ على مقادير الأعمال لأربابها ، وذلك ممكن ، وقد وردت أخبار في صفة هذا الميزان لم يصحّ شيء منها .والعِبارات في مثل هذا المقام قاصرة عن وصف الواقعات ، لأنّها من خوارق المتعارف ، فلا تعدُو العباراتُ فيها تقريبَ الحقائق وتمثيلها بأقصى ما تعارفه أهل اللّغة ، فما جاء منها بصيغة المصدر غيرَ متعلّق بفعل يقتضي آلة فحمْلُه على المجاز المشهور كقوله تعالى : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً }[ الكهف : 105 ]. وما جاء منها على صيغة الاسماء فهو محتمل مثل ما هنا لقوله : { فمن ثقلت موازينه } إلخ ومثل قول النّبيء صلى الله عليه وسلم « كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان » وما تعلّق بفعل مقتض آلة فحمله على التمثيل أو على مخلوق من أمور الآخرة مثل قوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ]. وقد ورد في السنّة ذكر الميزان في حديث البطاقة التي فيها كلمة شهادة الإسلام ، عند التّرمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وحديث قول النّبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك : « فاطلبْني عند الميزان » خرّجه التّرمذي .وقد اختلف السلف في وجود مخلوق يبيّن مقدار الجزاء من العمل يسمّى بالميزان توزن فيه الأعمال حقيقة ، فاثبت ذلك الجمهور ونفاه جماعة منهم الضحاك ومجاهد والأعمش ، وقالوا : هو القضاء السوي ، وقد تبع اختلافهم المتأخرون فذهب جمهور الأشاعرة وبعض المعتزلة إلى تفسير الجمهور ، وذهب بعض الأشاعرة المتأخرين وجمهورُ المعتزلة إلى ما ذهب إليه مجاهد والضحاك والأعمش ، والأمر هين ، والاستدلال ليس ببيِّن والمقصود المعنى وليس المقصود آلته .والإخبار عن الوزن بقوله : { الحق } إن كان الوزن مجازاً عن تعيين مقادير الجزاء فالحق بمعنى العدل ، أي الجزاء عادل غير جائز ، لأنّه من أنواع القضاء والحكم ، وإن كان الوزن تمثيلاً بهيئة الميزان ، فالعدل بمعنى السوي ، أي والوزن يومئذ مساوٍ للأعمال لا يرجح ولا يحجف .وعلى الوجهين فالإخبار عنه بالمصدر مبالغة في كونه محقاً .وتفرع على كونه الحق قوله : { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } ، فهو تفصيل للوزن ببيان أثره على قدر الموزون . ومحل التّفريع هو قوله : { فأولئك هم المفلحون } وقوله : فأولئك الذين خسروا أنفسهم إذ ذلك مفرّع على قوله : { فمن ثقلت موازينه } وقوله : ومن خفت موازينه .وثقل الميزان في المعنى الحقيقي رجحان الميزان بالشّيء الموزون ، وهو هنا مستعار لاعتبار الأعمال الصّالحة غالبة ووافرة ، أي من ثقلت موازينه الصّالحات ، وإنّما لم يذكر ما ثقلت به الموازين لأنّه معلوم من اعتبار الوزن ، لأنّ متعارف النّاس أنّهم يزنون الأشياء المرغوب في شرائِها المتنافس في ضبط مقاديرها والتي يتغابن النّاس فيها .والثّقل مع تلك الاستعارة هو أيضاً ترشيح لاستعارة الوزن للجزاء ، ثمّ الخفّة مستعارة لعدم الأعمال الصّالحة أخذاً بغاية الخفة على وزان عكس الثّقل ، وهي أيضاً ترشيح ثان لاستعارة الميزان ، والمراد هنا الخفّة الشّديدة وهي انعدام الأعمال الصّالحة لقوله : { بما كانوا بآياتنا يظلمون }. والفلاَح حُصول الخير وإدراك المطلوب .والتّعريف في { المفلحون } للجنس أو العهد وقد تقدّم في قوله تعالى : { وأولئك هم المفلحون } في سورة البقرة ( 5 ).وما صْدَقُ ( مَن ) واحد لقوله : { موازينه } ، وإذ قد كان هذا الواحد غير معيّن ، بل هو كلّ من تحقّق فيه مضمون جملة الشّرط ، فهو عام صح اعتباره جماعة في الإشارة والضّميرين من قوله : { فأولئك هم المفلحون }.والاتيان بالإشارة للتّنبيه على أنّهم إنّما حصلوا الفلاَح لأجل ثقل موازينهم ، واختير اسم إشارة البعد تنبيهاً على البعد المعنوي الاعتباري .وضمير الفصل لقصد الانحصار أي هم الذين انحصر فيهم تحقّق المفلحين ، أي إن علمتَ جماعة تعرف بالمفلحين فهم هُم .
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ
📘 عُطف { ولوطاً } على { نوحاً } في قوله : { لقد أرسلنا نوحاً } [ الأعراف : 59 ] فالتّقدير : وأرسلنا لوطاً ، وتغيير الأسلوب في ابتداء قصّة لوط وقومه إذ ابتُدئت بذكر ( لوطاً ) كما ابتدئت قصّة بذكر نوح لأنه لم يكن لقوم لوط اسم يعرفون به كما لم يكن لقوم نوح اسم يعرفون به . و ( إذ ) ظرف متعلّق ب ( أرسلنا ) المقدر يعني أرسلناه وقت قال لقومه وجعل وقت القول ظرفاً للإرسال لإفادة مبادرته بدعوة قومه إلى ما أرسله الله به ، والمقارنة التي تقتضيها الظّرفية بين وقت الإرسال ووقت قوله ، مقارنةٌ عرفية بمعنى شدّة القرب بأقصى ما يستطاع من مبادرة التّبليغ .وقوم لوط كانوا خليطاً من الكنعانيين وممّن نزل حولهم . ولذلك لم يوصف بأنّه أخوهم إذ لم يكن من قبائلهم ، وإنّما نزل فيهم واستوطن ديارهم . ولوط عليه السّلام هو ابن أخِي إبراهيم عليه السّلام كما تقدّم في سورة الأنعام ، وكان لوط عليه السّلام قد نزل ببلاد ( سَدوم ) ولم يكن بينهم وبينه قرَابة .والقوم الذين أرسل إليهم لوط عليه السّلام هم أهل قرية ( سدوم ) و ( عمُّورة ) من أرض كنعان ، وربّما أطلق اسم سدوم وعمُّورة على سكّانهما . وهو أسلاف الفنيقيين وكانتا على شاطىء السديم ، وهو بحر الملح ، كما جاء في التّوراة وهو البحر الميّت المدعو ( بحيرة لوط ) بقرب أرشليم . وكانت قرب سدوم ومن معهم أحدثوا فاحشة استمتاع الرّجال بالرّجال ، فأمر الله لوطاً عليه السّلام لما نزل بقريتهم سدوم في رحلته مع عمّه إبراهيم عليه السّلام أن ينهاهم ويغلظ عليهم .فالاستفهام في { أتأتون } إنكاري توبيخي ، والإتيان المستفهم عنه مجاز في التّلبّس والعمل ، أي أتعملون الفاحشة ، وكني بالإتيان على العمل المخصوص وهي كناية مشهورة .والفاحشه : الفعل الدّنيء الذّميم ، وقد تقدّم الكلام عليها عند تفسير قوله تعالى : { وإذا فعلوا فاحشة } [ الأعراف : 28 ] : والمراد هنا فاحشة معروفة ، فالتّعريف للعهد .وجملة : { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } مستأنفة استينافاً ابتدائياً ، فإنّه بعد أن أنكر عليهم إتيان الفاحشة ، وعبّر عنها بالفاحشة ، وبّخهم بأنّهم أحدثوها ، ولم تكن معروفة في البشر فقد سَنُّوا سنة سيّئة للفاحشين في ذلك .ويجوز أن تكون جملة : { ما سبقكم بها من أحد } صفة للفاحشة ، ويجوز أن تكون حالا من ضمير : { تأتون } أو من : { الفاحشة }.والسبق حقيقته : وصول الماشي إلى مكان مطلوب له ولغيره قبل وصول غيره ، ويستعمل مجازاً في التّقدّم في الزّمان ، أي الأوّلية والابتداءِ ، وهو المراد هنا ، والمقصود أنّهم سبقوا النّاس بهذه الفاحشة إذ لا يقصد بمثل هذا التّركيب أنّهم ابتدأوا مع غيرهم في وقت واحد .والباء لتعدية فعل ( سبق ) لاستعماله بمعنى ( ابتدا ) فالباء ترشيح للتّبعيّة . و ( مِنْ ) الدّاخلة على ( أحدٍ ) لتوكيد النّفي للدّلالة على معنى الاستغراق في النّفي . و ( مِن ) الداخلة على { العالمين } للتبعيض .
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ
📘 وجملة : { إنكم لتأتون الرجال } مبيّنة لجملة { أتأتون الفاحشة } ، والتّأكيد بإنّ واللاّم كناية عن التّوبيخ لأنّه مبني على تنزيلهم منزلة من ينكر ذلك لكونهم مسترسلون عليه غير سامعين لنهي النّاهي . والإتيان كناية عن عمل الفاحشة .وقرأ نافع ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر : { إنكم } بهمزة واحدة مكسورة بصيغة الخبر ، فالبيان راجع إلى الشيء المنكَر بهمزة الإنكار في { أتأتون الفاحشة } ، وبه يعرف بيان الإنكار ، ويجوز اعتباره خبراً مستعملاً في التّوبيخ ، ويجوز تقدير همزة استفهام حذفت للتّخفيف ولدلالة ما قبلها عليها . وقرأه البقيّة : { أإنّكم } بهمزتين على صِيغة الاستفهام فالبيان للإنكار ، وبه يعرف بيان المنكرَ ، فالقراءتان مستويتان .والشّهوة : الرّغبة في تحصيل شيء مرغوب ، وهي مصدر شَهِي كرضى ، جاء على صيغة الفَعْلة وليس مراداً به المرة .وانتصب { شهوة } على المفعول لأجله . والمقصود من هذا المفعول تفظيع الفاحشة وفاعِليها بأنّهم يشتهون ما هو حقيق بأن يُكره ويستفظع .وقوله : { من دون النساء } زيادة في التّفظيع وقطععِ للعذر في فعل هذه الفاحشة ، وليس قيداً للإنكار ، فليس إتيان الرّجال مع إتيان النّساء بأقلّ من الآخر فظاعة ، ولكن المراد أنّ إتيان الرّجال كلّه واقع في حالة من حقّها إتيان النّساء ، كما قال في الآية الأخرى : { وتذَرون ما خلق لكم ربّكم من أزواجكم } [ الشعراء : 166 ].و { بل } للاضراب الانتقالي ، للانتقال من غرض الإنكار إلى غرض الذمّ والتّحقير والتّنبيه إلى حقيقة حالهم .والإسراف مجاوزة العمل مقدار أمثاله في نوعه ، أي المُسرفون في الباطل والجرم ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة النّساء ( 6 ) وعند قوله تعالى : { ولا تسرفوا إنه لا يحبّ المسرفين } في سورة الأنعام ( 141 ).ووصفُهم بالإسراف بطريق الجملة الاسميّة الدّالة على الثّبات ، أي أنتم قوم تمكَّن منهم الإسراف في الشّهوات فلذلك اشتهوا شهوة غريبة لما سئموا الشهوات المعتادة . وهذه شنشنة الاسترسال في الشّهوات حتّى يصبح المرء لا يشفي شهوته شيء ، ونحوه قوله عنهم في آية أخرى : { بل أنتم قوم عادون } [ الشعراء : 166 ].ووجه تسمية هذا الفعل الشّنيع فاحشة وإسرافاً أنّه يشتمل على مفاسد كثيرة : منها استعمال الشّهوة الحيوانية المغروزة في غير ما غرزت عليه ، لأنّ الله خلق في الإنسان الشّهوة الحيوانيّة لإرادة بقاء النّوع بقانون التّناسل ، حتّى يكون الدّاعي إليه قهري ينسَاق إليه الإنسان بطبعه ، فقضاء تلك الشّهوة في غير الغرض الذي وضعها الله لأجله اعتداء على الفطرة وعلى النّوع ، ولأنّه يغير خصوصية الرُجلة بالنّسبة إلى المفعول به إذ يصير في غير المنزلة التي وضعه الله فيها بخلقته ، ولأنّ فيه امتهاناً محضاً للمفعول به إذ يُجعل آلة لقضاء شهوة غيره على خلاف ما وضع الله في نظام الذّكورة والأنوثة من قضاء الشّهوتين معاً ، ولأنّه مفض إلى قطع النّسل أو تقليله ، ولأنّ ذلك الفعل يجلب أضراراً للفاعل والمفعول بسبب استعمال محليّن في غير ما خلقا له .وحدثت هذه الفاحشة بين المسلمين في خلافة أبي بكر من رجل يسمّى الفجَاءة ، كتب فيه خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصّدّيق أنّه عمل عمل قوم لوط وإذ لم يُحفظ عن النّبيء صلى الله عليه وسلم فيها حدّ معروف جمع أبو بكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واستشارهم فيه ، فقال عليّ : أرى أن يحرق بالنّار ، فاجتمع رأي الصّحابة على ذلك فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه فأحرقه ، وكذلك قضى ابن الزّبير في جماعة عملوا الفاحشة في زمانه ، وهشام بن الوليد ، وخالد القَسري بالعراق ، ولعلّه قيَاس على أنّ الله أمْطر عليهم ناراً كما سيأتي .وقال مالك : يرجم الفاعل والمفعولُ به ، إذا أطاع الفاعلَ وكانا بالغين ، رَجْمَ الزّاني المحصن . سواء أُحصنا أم لم يُحصنا ، وقاس عقوبتهم على عقوبة الله لقوم لوط إذ أمطر عليهم حجارة ، والذي يؤخذ من مذهب مالك أنّه يجوز القياس على ما فعله الله تعالى في الدّنيا . وروي أنّه أخذ في زمان ابن الزّبير أربعةٌ عمِلوا عمل قوم لوط ، وقد أُحصنوا . فأمر بهم فأخرجوا من الحرم فرجموا بالحجارة حتّى ماتوا ، وعنده ابنُ عمر وابنُ عبّاس فلم ينكرا عليه .وقال أبو حنيفة : يعزّر فاعله ولا يبلغ التّعزير حدّ الزّنى ، كذا عزا إليه القرطبي ، والذي في كتب الحنفيّة أنّ أبا حنيفة يرى فيه التّعزير إلاّ إذا تكرّر منه فيقتل ، وقال أبو يوسف ومحمّد : فيه حدّ الزّنى ، فإذا اعتاد ذلك ففيه التّعزير بالإحراق ، أو يهدم عليه جدار ، أو ينكس من مكان مرتفع ويتبع بالأحجار ، أو يسجن حتّى يموت أو يتوب . وذكر الغزنوي في «الحاوي» أنّ الأصح عن أبي يوسف ومحمّد التّعزير بالجلد ( أي دون تفصيل بين الاعتياد وغيره ) وسياق كلامهم التّسوية في العقوبة بين الفاعل والمفعول به .وقال الشّافعي : يحدّ حدّ الزّاني : فإن كان محصناً فحدّ المحصن ، وإن كان غير محصن فحدّ غير المحصن . كذا حكاه القرطبي . وقال ابن هبيرة الحنبلي ، في كتاب «اختلاف الأيمّة» : إنّ للشّافعي قولين : أحدهما هذا ، والآخر أنّه يرجم بكلّ حال ، ولم يذكر له ترجيحاً ، وقال الغزالي ، في «الوجيز» : «للواط يوجب قتل الفاعل والمفعول على قول ، والرّجمَ بكلّ حال على قول ، والتّعزيرَ على قول ، وهو كالزّني على قول» وهذا كلام غير محرّر .وفي كتاب «اختلاف الأيمّة» لابن هبيرة الحنبلي : أن أظهر الرّوايتين عن أحمد أنّ في اللّواط الرّجم بكلّ حال ، أي محصناً كان أو غير محصن ، وفي رواية عنه أنّه كالزّنى ، وقال ابن حزم ، في «المحلى» : إنّ مذهب داود وجميعَ أصحابه أنّ اللّوطي يجلد دون الحد ، ولم يصرّح ، فيما نقلوا عن أبي حنيفة وصاحبيْه ، ولا عن أحد ، ولا الشّافعي بمساواة الفاعل والمفعول به في الحكم إلاّ عند مالك ، ويؤخذ من حكاية ابن حزم في «المحلّى» : أنّ أصحاب المذاهب المختلفة في تعزير هذه الفاحشة لم يفرّقوا بين الفاعل والمفعول إلاّ قولاً شاذا لأحَدِ فقهاء الشّافعيّة رأى أنّ المفعول أغلظ عقوبة من الفاعل .وروى أبو داود والتّرمذي ، عن عكرمة عن ابن عبّاس ، والتّرمذيُّ عن أبي هريرة ، وقال في إسناده ، مَقال عن النّبيء صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " مَن وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " وهو حديث غريب ( لم يرو عن غير عكرمة عن ابن عبّاس ) وقد علمت استشارة أبي بكر في هذه الجريمة ، ولو كان فيها سند صحيح لظهر يومئذ .
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
📘 عطفت جملة : { وما كان جواب قومه } على جملة : { قال لقومه } [ الأعراف : 80 ]. والتّقدير : وإذ ما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا إلخ ، والمعنى : أنّهم أفحموا عن ترويج شنعتهم والمجادلة في شأنها ، وابتدروا بالتّآمر على إخراج لوط عليه السّلام وأهله من القرية ، لأنّ لوطاً عليه السّلام كان غريباً بينهم وقد أرادوا الاستراحة من إنكاره عليهم شأن من يشعرون بفساد حالهم ، الممنوعين بشهواتهم عن الإقلاع عن سيّئاتهم ، المصمّمين على مداومة ذنوبهم ، فإنّ صدورهم تضيق عن تحمّل الموعظة ، وأسماعهم تصمّ لقبولها ، ولم يزل من شأن المنغمسين في الهوى تجهّم حلول من لا يشاركهم بينهم .والجواب : الكلام الذي يقابل به كلام آخر : تقريراً ، أو ردّاً ، أو جزاء .وانتصب قوله : { جواب } على أنّه خبر ( كان ) مقدّم على اسمها الواقععِ بعد أداة الاستثناء المفرغ ، وهذا هو الاستعمالُ الفصيحُ في مثل هذا التّركيب ، إذا كان أحد معمولي كان مصدراً منسبكاً من ( أنْ ) والفعللِ كما تقدّم في سورة آل عمران وسورة الأنعام ، ولذلك أجمعت القرءات المشهورة على نصب المعمول الأوّل .والضّمير المنصوب في قوله : { أخرجوهم } عائد على محذوف عُلم من السّياق ، وهم لوط عليه السّلام وأهلُه : وهم زوجُه وابنتاه .وجملة : { إنهم أناس يتطهرون } علّة للأمر بالإخراج ، وذلك شأن ( إنّ ) إذا جاءت في مقام لا شكّ فيه ولا إنكار ، بل كانت لمجرّد الاهتمام فإنَّها تفيد مُفاد فاء التّفريع وتدلّ على الربط والتّعليل .والتّطهر تكلّف الطّهارة ، وحقيقتُها النّظافة ، وتطلق الطّهارة مجازاً على تزكية النّفس والحذر من الرذائل وهي المراد هنا ، وتلك صفة كمال ، لكن القوم لمّا تمرّدوا على الفسوق كان يعُدّون الكمال منافراً لطباعهم ، فلا يطيقون معاشرة أهل الكمال ، ويذمّون ما لهم من الكمالات فيُسمّونها ثقلاً ، ولذا وصَفُوا تنزه لوط عليه السّلام وآله تطهّراً ، بصيغة التكلّف والتصنُّع ، ويجوز أن يكون حكاية لما في كلامهم من التّهكّم بلوط عليه السّلام وآلِه ، وهذا من قلب الحقائق لأجل مشايعة العوائد الذّميمة ، وأهل المجون والانخلاع ، يسمّون المتعفّف عن سيرتهم بالتّائب أو نحو ذلك ، فقولهم : { إنّهم أناس يتطهرّون } قصدوا به ذمّهم .وهُم قد علموا هذا التّطهر من خلق لوط عليه السّلام وأهله لأنّهم عاشروهم ، ورأوا سِيرتهم ، ولذلك جيء بالخبر جملة فعليّة مضارعيّة لدلالتها على أنّ التّطهر متكرّر منهم ، ومتجدّد ، وذلك أدعَى لمنافِرتهم طباعهم والغضب عليهم وتجهّم إنكار لوط عليه السّلام عليهم .
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
📘 قوله تعالى : { فأنجيناه } تعقيب لجملة : { وما كان جواب قومه } [ الأعراف : 82 ] أو لجملة : { قال لقومه } [ الأعراف : 80 ] وهذا التّعقيب يؤذن بأنّ لوطاً عليه السّلام أُرسل إلى قومه قبل حلول العذاب بهم بزمن قليل .و { أنجيّناه } مقدّم من تأخير . والتّقدير : فأمطرنا عليهم مطراً وأنجيناه وأهلَه ، فقدم الخبر بإنجاء لوط عليه السّلام على الخبر بإمطارهم مطرَ العذاب ، لقصد إظهار الاهتمام بأمر إنجاء لوط عليه السّلام ، ولتعجيل المسّرة للسّامعين من المؤمنين ، فتطمئنّ قلوبهم لحسن عواقب أسلافهم من مؤمني الأمم الماضية ، فيعلموا أنّ تلك سنّة الله في عباده ، وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : { فكذّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك } في هذه السّورة ( 64 ).وأهل لوط عليه السّلام هم زوجه وابنتان له بكران ، وكان له ابنتان متزوّجتان كما ورد في التّوراة امتنع زوجاهما من الخروج مع لوط عليه السّلام فهلكتا مع أهل القرية .وأمّا امرأة لوط عليه السّلام فقد أخبر الله عنها هنا أنّ الله لم ينجها ، فهلكت مع قوم لوط ، وذكر في سورة هود ما ظاهره أنّها لم تمتثل ما أمر الله لوطاً عليه السّلام أن لا يلتفت هو ولا أحد من أهله الخارجين معه إلى المدن حين يصيبها العذاب فالتفتت امرأته فأصابها العذاب ، وذكر في سورة التّحريم أنّ امرأة لوط عليه السّلام كانت كافرة . وقال المفسّرون : كانت تُسِرّ الكفر وتظهر الإيمان ، ولعلّ ذلك سبب التفاتها لأنّها كانت غير موقنة بنزول العذاب على قوم لوط ، ويحتمل أنّها لم تخرج مع لوط عليه السّلام وإن قوله : { إلاّ امرأتك } في سورة هود ( 81 ) ، استثناء من أهلك } لا من { أحد }. لعلّ امرأة لوط عليه السّلام كانت من أهل ( سَدوم ) تزوّجها لوط عليه السّلام هنالك بعد هجرته ، فإنّه أقام في ( سدوم ) سنين طويلة بعد أن هلكت أمّ بناته وقبل أن يرسل ، وليست هي أمّ بنتيه فإنّ التّوراة لم تذكر امرأة لوط عليه السّلام إلاّ في آخر القصّة .ومعنى { من الغابرين } من الهالكين ، والغابر يطلق على المنقضي ، ويطلق على الآتي ، فهو من أسماء الأضداد ، وأشهر إطلاقيه هو المنقضي ، ولذلك يقال : غَبر بمعنى هلك ، وهو المراد هنا : أي كانت من الهالكين ، أي هلكت مع من هلك من أهل ( سدوم ).
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ
📘 والإمطار مشتقّ من المطر ، والمطر اسم للماء النّازل من السّحاب ، يقال : مطرتهم السّماء بدون همزة بمعنى نزل عليهم المطر ، كما يقال : غاثتهم ووبلتهم ، ويقال : مكان ممطور ، أي أصابه المطر ، ولا يقال : مُمْطَر ، ويقال أمطروا بالهمزة بمعنى نزل عليهم من الجوّ ما يشبه المطر ، وليس هو بمطر ، فلا يقال : هم ممطرون ، ولكن يقال : هم مُمْطَرون ، كما قال تعالى : { وأمطَرنا عليهم حجارة من سجّيل } [ هود : 82 ] وقال : { فأمْطِرْ علينا حجارة من السّماء }[ الأنفال : 32 ] ، كذا قال الزّمخشري هنا وقال ، في سورة الأنفال : قد كثر الإمطار في معنى العذاب ، وعن أبي عبيدة أنّ التّفرقة بين مُطِرَ وَأمْطِر؛ أن مُطر للرّحمة وأمطر للعذاب ، وأمّا قوله تعالى في سورة الأحقاف ( 24) : { قالوا هذا عارض مُمْطِرنا فهو يعكّر على كلتا التّفرقتين } ويعين أن تكون التفرقة أغلبيّة .وكان الذي أصاب قوم لوط حجراً وكبريتاً من أعلى القُرى كما في التّوراة وكان الدّخان يظهر من الأرض مثل دخان الأتون ، وقد ظنّ بعض الباحثين أنّ آبار الحُمَر التي ورد في التّوراة أنّها كانت في عمق السديم ، كانت قابلة للالتهاب بسبب زلازل أو سقوط صواعق عليها . وقد ذكر في آية أخرى ، في القرآن : أنّ الله جعل عَالِيَ تلك القُرى سافلاً ، وذلك هو الخَسْف وهو من آثار الزلازل . ومن المستقرب أن يكون البحر الميّت هنالك قد طغى على هذه الآبار أو البراكين من آثار الزّلزال .وتنكير : مطراً } للتعظيم والتّعجيب أي : مطراً عجيباً من شأنه أن يُهلك القرى .وتفرّع عن هذه القصّة العجيبة الأمرُ بالنّظر في عاقبتهم بقوله : { فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } فالأمر للارشاد والاعتبار . والخطاب يجوز أن يكون لغير مُعَيَّن بل لكلّ من يتأتَّى منه الاعتبار ، كما هو شأن إيراد التّذييل بالاعتبار عقب الموعظة ، لأنّ المقصود بالخطاب كلّ من قصد بالموعظة ، ويجوز أن يكون الخطاب للنّبيء صلى الله عليه وسلم تسلية له على ما يلاقيه من قومه الذين كذّبوا بأنّه لا ييأس من نصر الله ، وأنّ شأن الرّسل انتظار العواقب .والمجرمون فاعلوا الجريمة ، وهي المعصية والسيّئة ، وهذا ظاهر في أنّ الله عاقبهم بذلك العقاب على هذه الفاحشة ، وأنّ لوطاً عليه السّلام أرسل لهم لنهيهم عنها ، لا لأنّهم مشركون بالله ، إذ لم يُتعرّض له في القرآن بخلاف ما قُصّ عن الأمم الأخرى ، لكنّ تمالِئهم على فعل الفاحشة واستحلالهم إياها يدلّ على أنّهم لم يكونوا مؤمنين بالله ، وبذلك يؤذن قوله تعالى في سورة التّحريم ( 10) : { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط } فيكون إرسال لوط عليه السّلام بإنكار تلك الفاحشة ابتداء بتطهير نفوسهم ، ثمّ يصف لهم الإيمان ، إذ لا شكّ أنّ لوطاً عليه السّلام بلّغهم الرّسالة عن الله تعالى ، وذلك يتضمّن أنّه دعاهم إلى الإيمان ، إلاّ أنّ اهتمامه الأوّل كان بإبطال هذه الفاحشة ، ولذلك وقع الاقتصار في إنكاره عليهم ومجادلتهم إياه على ما يخصّ تلك الفاحشة ، وقد علم أنّ الله أصابهم بالعذاب عقوبة ، على تلك الفاحشة ، كما قال في سورة العنكبوت : ( 34) : { إنَّا مُنزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السّماء بما كانوا يفسقون وأنّهم لو أقلعوا عنها لتُرك عذابهم على الكفر إلى يوم آخَر أو إلى اليوممِ الآخِر . }
وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
📘 تفسير صدر هذه الآية هو كتفسير نظيرها في قصّة ثمود ، سوى أنّ تجريد فعل { قال يا قوم } من الفاء هنا يترجّح أنّه للدّلالة على أنّ كلامه هذا ليس هو الذي فاتحهم به في ابتداء رسالته بل هو مِمّا خاطبهم به بعدَ أن دعاهم مِراراً ، وبعدَ أن آمنَ به مَن آمن منهم كما يأتي .ومَدْيَن أمّة سُمّيت باسم جَدّها مَدْيَنَ بننِ إبراهيم الخليللِ عليه السّلام ، من زوجه الثّالثة التي تزوّجها في آخر عُمره وهي سرية اسمُها قَطُورَا . وتزوّج مَدْيَنُ ابنةَ لوط عليه السّلام وولد له أبناء : هم ( عيفة ) و ( عفر ) و ( حنوك ) و ( أبيداع ) و ( ألْدَعة ) وقد أسكنهم إبراهيم عليه السّلام في ديارهم ، وسطاً بين مسكن ابنه إسماعيل عليه السّلام ومسكن ابنه إسحاق عليه السّلام ، ومن ذرّيتهم تفرّعت بطون مَدْين ، وكانوا يعدّون نحو خمسة وعشرين ألفاً ، ومواطنهم بين الحجاز وخليج العقبة بقرب ساحل البحر الأحمر ، وقاعدة بلادهم ( وَجّ ) على البحر الأحمر وتنتهي أرضهم من الشّمال إلى حدود مَعان من بلاد الشّام ، وإلى نحو تبوك من الحجاز ، وتسمّى بلادهم ( الأيْكَة ). ويقال : إنّ الأيكة هي ( تبوك ) فعلى هذا هي من بلاد مَدين ، وكانت بلادهم قرى وبوادي ، وكان شعيب عليه السّلام من القرية وهي ( الأيْكَة ) ، وقد تَعرّبوا بمجاورة الأمم العربيّة وكانوا في مدّة شعيب عليه السّلام تحت ملوك مصر ، وقد اكتسبوا بمجاورة قبائل العرب ومخالطتهم لكونهم في طريق مصر ، عربيّة فأصبحوا في عداد العرب المستعربة ، مثل بني إسماعيل عليه السّلام ، وقد كان شاعر في الجاهلية يعرف بأبي الهَمَيْسَع هو من شعراء مَدْيَن وهو القائل :إن تَمْنَعِي صَوْبَككِ صوب المدمع ... يجْري على الخدّ كضئب الثَّغْثَعمن طَمْحَةٍ صبيرُها جَحْلَنْجَعِ ... ويقال : إنّ الخطّ العربي أوّل ما ظهر في مدْين .وشعيب عليه السّلام هو رسولٌ لأهل مدين ، وهو من أنفسهم ، اسمُه في العربيّه شُعيب عليه السّلام واسمه في التّوراة : ( يَثْرُون ) ويسمّى أيضاً ( رَعْوَئِيلَ ) وهو ابن ( نويلى أو نويب ) بن ( رَعْويل ) بن ( عيفا ) بن ( مدين ). وكان موسى عليه السّلام لمّا خرج من مصر نزل بلاد مديَن وزوّجَه شعيبٌ ابنتَه المسمّاة ( صَفورَه ) وأقام موسى عليه السّلام عنده عشر سنين أجيراً .وقد خبط في نسب مدين ونسب شُعيب عليه السّلام جمع عظيم من المفسّرين والمؤرّخين ، فما وجدتَ ممّا يخالف هذا فانبذه . وعَدّ الصفدي شعيباً في العِميان ، ولم أقف على ذلك في الكتب المعتمدة . وقد ابتدأ الدّعوة بالإيمان لأنّ به صلاح الاعتقاد والقلب ، وإزالة الزّيف من العقل .وبيِّنة شعيب عليه السّلام التي جاءت في كلامه : يجوز أن تكون أطلقت على الآية لمعجزة أظهرها لقومه عَرفوها ولم يذكرها القرآن ، كما قال ذلك المفسّرون ، والأظهر عندي أن يكون المراد بالبيّنة حجّة أقامها على بطلان ما هم عليه من الشّرك وسوء الفعل ، وعجزوا عن مجادلته فيها ، فقامت عليهم الحجّة مثل المجادلة التي حكيت في سورة هود فتكون البيّنة أطلقت على ما يُبيّن صدق الدّعوى ، لا على خصوص خارق العادة ، أو أن يكون أراد بالبيّنة ما أشار إليه بقوله : { فاصبروا حتى يحكم الله بيننا } أي يكون أنذرهم بعذاب يحلّ بهم إن لم يؤمنوا ، كما قال في الآية الأخرى{ فأسقط علينا كِسْفا من السّماء إن كنت من الصّادقين } [ الشعراء : 187 ] فيكون التّعبير بالماضي في قوله : { قد جاءتكم } مراداً به المستقبل القريب ، تنبيهاً على تحقيق وقوعه ، أو أن يكون عَرض عليهم أن يظهر لهم آية ، أي معجزة ليؤمنوا ، فلم يسألوها وبادروا بالتّكذيب ، فيكون المعنى مثلَ ما حكاه الله تعالى عن موسى عليه السّلام : { قد جئتكم ببينة من ربّكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنتَ جئتَ بآية فأتتِ بها } [ الأعراف : 105 ، 106 ] الآية ، فيكون معنى : { قد جاءتكم } قد أعِدّت لأنّ تجيئكم إذا كنتم تؤمنون عند مجيئها .والفاء في قوله : { فأوفوا الكيل والميزان } للتّفريع على مضمون معنى { بينة } لأنّ البيّنة تدلّ على صدقه ، فلمّا قام الدّليل على صدقه وكان قد أمرهم بالتّوحيد بادىء بدء ، لما فيه من صلاح القلب ، شرع يأمرهم بالشّرائع من الأعمال بعد الإيمان ، كما دلّ عليه قوله الآتي : { إن كنتم مؤمنين } فتلك دعوة لمن آمن من قومه بأن يكملوا إيمانهم بالتزام الشّرائع الفرعيّة ، وإبلاغٌ لمن لم يؤمن بما يلزمهم بعد الإيمان بالله وحده . وفي دعوة شعيب عليه السّلام قومه إلى الأعمال الفرعيّة بعد أن استقرت الدّعوة إلى التّوحيد ما يؤذن بأنّ البشر في ذلك العصر قد تطوّرت نفوسهم تطوّراً هيّأهم لقبول الشّرائع الفرعيّة ، فإنّ دعوة شعيب عليه السّلام كانت أوسع من دعوة الرّسل من قبله هودٍ وصالححٍ عليهم السّلام إذ كان فيها تشريع أحكام فرعيّة وقد كان عصر شعيب عليه السّلام قد أظَلّ عَصْرَ موسى عليه السّلام الذي جاء بشريعة عظيمة ماسّةٍ نواحيَ الحياة كُلَّها .والبخس فسّروه بالنّقص ، وزاد الرّاغب في «المفردات» قيداً ، فقال : نقص الشّيء على سبيل الظلم ، وأحسن ما رأيت في تفسيره قول أبي بكر بن العربي في «أحكام القرآن» : «البخس في لسان العرب هو النّقص بالتعييب والتّزهيد أو المخادعة عن القيمة أو الاحتيال في التزيد في الكيل والنّقصان منه» فلنبن على أساس كلامه فنقول : البخس هو إنقاص شيء من صفة أو مقدار هو حقيق بكماللٍ في نوعه . ففيه معنى الظلم والتّحيّل ، وقد ذكر ابن سيدة في «المخصص» البَخس في باب الذهاب بحقّ الإنسان ، ولكنّه عندما ذكره وقع فيما وقع فيه غيره من مدوّني اللّغة ، فالبَخس حدث يتّصف به فاعل وليس صفة للشّيء المبْخوس في ذاته ، إلاّ بمعنى الوصف بالمصدر ، كما قال تعالى : { وشَرَوه بثمنٍ بَخس }[ يوسف : 20 ] أي دون قيمة أمثاله ، ( أي تساهل بائعوه في ثمنه لأنّهم حصّلوه بغير عوض ولا كلفة ). وأعلم أنّه قد يكون البَخس متعلّقاً بالكمّية كما يقول المشتري : هذا النِّحْي لا يزن أكثر من عشرة أرطال ، وهو يعلم أنّ مثله يزن اثني عشر رطلاً ، أوْ يقولُ : ليس على هذا النّخل أكثر من عشرة قناطير تمراً في حين أنّه يعلم أنّه يبلغ عشرين قنطاراً ، وقد يكون متعلّقاً بالصّفة كما يقول : هذا البعير شَرود وهو من الرّواحل ، ويكون طريق البَخس قولاً ، كما مثَّلنا ، وفعلاً كما يكون من بذل ثمننٍ رخيصصٍ في شيء من شأنه أن يباع غالياً ، والمقصود من البَخس أن ينتفع البَاخس الرّاغب في السّلعة المبْخوسة بأنْ يصرف النَّاس عن الرّغبة فيها فتبقى كَلاَّ على جالبها فيضطرّ إلى بيعها بثمن زهيد ، وقد يقصد منه إلقاء الشكّ في نفس جالب السّلعة بأنّ سلعته هي دون ما هو رائج بين النّاس ، فيدخله اليأس من فوائد نتاجه فتكسل الهِمَم .وما وقع في «اللّسان» من معاني البَخس : أنّه الخسيس فلعلّ ذلك على ضرب من المجاز أو التّوسّع ، وبهذا تعلم أنّ البَخس هو بمعنى النّقص الذي هو فعل الفاعل بالمفعول ، لا النّقص الذي هو صفة الشّيء النّاقص ، فهو أخص من النّقص في الاستعمال ، وهو أخص منه في المعنى أيضاً .ثمّ إنّ حقّ فعله أن يتعدّى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : { ولا يبْخس منه شيئاً } [ البقرة : 282 ] فإذا عُدّي إلى مفعولين كما في قوله هنا : { ولا تبْخسوا النّاس أشياءهم } فذلك على معنى التّحويل لتحصيل الإجمال ثمّ التّفصيل ، وأصل الكلام : «ولا تبْخسوا أشياءَ النّاس» فيكون قوله : { أشياءهم } بدل اشتمال من قوله : { الناس } وعلى هذا فلو بني فعل { بخس } للمجهول لقلت بُخِس فلان شيئُه برفع فلان ورفع شيئه . وقد جعله أبو البقاء مفعولاً ثانياً ، فعلى إعرابه لو بني الفعل للمجهول لبَقي ( أشياءهم ) منصوباً . وعلى إعرابنا لو بني الفعل للمجهول لصار أشياؤُهم مرفوعاً على البدليّة من النّاس ، وبهذا تَعلم أنّ بيْن البَخس والتَّطفيف فرقاً قد خفي على كثير .وحاصل ما أمر به شعيب عليه السّلام قومَه ، بعد الأمر بالتّوحيد ينحصر في ثلاثة أصول : هي حفظ حقوق المعاملة الماليّة ، وحفظ نظام الأمّة ومصالحها ، وحفظُ حقوق حرّية الاستهداء .فالأوّل قوله : { فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم } فإيفاء الكيل والميزان يرجع إلى حفظ حقوق المشترين ، لأنّ الكائل أو الوازن هو البائع ، وهو الذي يحمله حبّ الاستفضال على تطْفيف الكيل أو الوزن ، ليكون باع الشّيءَ النّاقص بثمن الشّيء الوافي ، كما يحسبه المشتري .وأمّا النَّهي عن بخس النّاس أشياءهم فيرجع إلى حفظ حقوق البائع لأنّ المشتري هو الذي يبْخس شيء البائع ليهيّئه لقبول الغبن في ثمن شيئه ، وكلا هذين الأمرين حيلة وخداع لتحصيل ربح من المال .والكيل مصدر ، ويطلق على ما يكال به ، وهو المِكيال كقوله تعالى : { ونزداد كيل بعير } [ يوسف : 65 ] وهو المراد هنا : لمقابلته بالميزان ، ولقوله في الآية الأخرى : { ولا تنقصوا المكيال والميزان } [ هود : 84 ] ومعنى . إيفاء المكيال والميزان أن تكون آلة الكيل وآلة الوزن بمقدار ما يقدّر بها من الأشياء المقدّرة . وإنَّما خَصّ هذين التحيلين بالأمر والنّهي المذكورين : لأنَّهما كانا شائعين عند مَدْيَن ، ولأنّ التّحيلات في المعاملة الماليّة تنحصر فيهما إذ كان التّعامل بين أهل البوادي منحصراً في المبادلات بأعيان الأشياءِ : عرْضاً وطَلَباً .وبهذا يَظهر أنّ النّهي في قوله : { ولا تبخسوا النّاس أشياءَهم } أفاد معنى غير الذي أفاده الأمر في قوله : { فأوفوا الكيل والميزان }. وليس ذلك النّهي جارياً مجرى العلّة للأمر ، أو التّأكيد لمضمونه ، كما فسّر به بعض المفسّرين .وما جاء في هذا التّشريع هو أصل من أصول رواج المعاملة بين الأمّة لأنّ المعاملات تعتمد الثّقة المتبادَلة بين الأمّة ، وإنَّما تحصل بشيوع الأمانة فيها ، فإذا حصل ذلك نشط النّاس للتّعامل فالمُنتج يزداد إنتاجاً وعَرْضاً في الأسواق ، والطَّالبُ من تاجر أو مُستهلك يُقبِل على الأسواق آمِناً لا يخشى غبناً ولا خديعة ولا خِلابة ، فتتوفّر السّلع في الأمّة ، وتستغني عن اجتلاب أقواتها وحاجياتها وتحسينياتها ، فيقوم نَماء المدينة والحضارة على أساس متين ، ويَعيش النّاس في رخاء وتحابب وتآخ ، وبضد ذلك يختلّ حال الأمّة بمقدار تفشي ضدّ ذلك .وقوله : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } هذا الأصل الثّاني من أصول دعوة شعيب عليه السّلام للنّهي عن كلّ ما يفضي إلى إفساد ما هو على حالة الصّلاح في الأرض . وقد تقدّم القول في نظير هذا التّركيب عند قوله تعالى : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً } في أوائل هذه السّورة ( 56 ).والإشارة { بذلكم } إلى مجموع ما تضمّنه كلامه ، أي ذلك المذكورُ ، ولذا أفرد اسم الإشارة . والمذكور : هو عبادة الله وحده ، وإيفاءُ الكيل والميزان ، وتجنب بخس أشياء النّاس ، وتجنبُ الفساد في الأرض . وقد أخبر عنه بأنّه خير لَهم ، أي نفع وصلاح تنتظم به أمورهم كقوله تعالى : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير } [ الحج : 36 ]. وإنّما كان ما ذُكر خيراً : لأنّه يوجب هناء العيش واستقرار الأمن وصفاءَ الودّ بين الأمّة وزوال الإحَن المفضية إلى الخصومات والمقاتلات ، فإذا تمّ ذلك كثرت الأمّة وعزّت وهابها أعداؤُها وحسنت أحدوثتها وكثر مالها بسبب رغبة النّاس في التّجارة والزّراعة لأمْن صاحب المال من ابتزاز ماله . وفيه خير الآخرة لأنّ ذلك إنْ فعلوه امتثالاً لأمر الله تعالى بواسطة رسوله أكسبهم رضى الله ، فنجَوْا من العذاب ، وسكنوا دار الثّواب ، فالتّنكير في قوله : { خير } للتعظيم والكمال لأنّه جامعُ خيري الدّنيا والآخرة .وقوله : { إن كنتم مؤمنين } شرط مُقَيِّد لقوله : { ذلكم خير لكم } والمؤمنون لقب للمتّصفين بالإيمان بالله وحده ، كما هو مصطلح الشّرائع وحملُ المؤمنين على المصدّقين لقوله ، ونصحه ، وأمانته : حملٌ على ما يأبَاه السّياق ، بل المعنى ، أنّه يكون خيراً إن كنتم مؤمنين بالله وحدَه ، فهو رجوع إلى الدّعوة للتّوحيد بمنزلة ردّ العجز على الصّدر في كلامه ، ومعناه أنّ حصول الخير من الأشياء المشارِ إليها لا يكون إلاّ مع الإيمان ، لأنّهم إذا فعلوها وهم مشركون لم يحصل منها الخير لأنّ مفاسد الشّرك تُفسد ما في الأفعال من الخَير ، أمّا في الآخرة فظاهر ، وأمَّا في الدّنيا فإنّ الشّرك يدعو إلى أضداد تلك الفضائل كما قال الله تعالى :{ وما زَادوهم غَيْر تَتَبيب } [ هود : 101 ] أو يدعو إلى مفاسد لا يَظهر معها نفع تلك المصالح . والحاصل أنّ المراد بالتّقييد نفي الخير الكامل عن تلك الأعمال الصّالحة إن لم يكن فاعلوها مؤمنين بالله حقّ الإيمان ، وهذا كقوله تعالى : { فَكّ رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مَقْرَبة أو مسكيناً ذا مَتْرَبة ثمّ كَان من الذين آمنوا } [ البلد : 13 17 ] وتأويل الآية بغير هذا عدول بها عَن مهيع الوضوح .
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
📘 وقوله : { ولا تقعدوا بكلّ صراط توعدون } هذا الأصل الثّالث من دعوته وهو النّهي عن التّعرّض للنّاس دون الإيمان ، فإنّه بعد أن أمرهم بالإيمان بالله وما يتطلّبه من الأعمال الصّالحة ، وفي ذلك صلاح أنفسهم ، أي أصلحوا أنفسكم ولا تمنعوا من يَرغب في إصلاح نفسه ذلك أنّهم كانوا يصدّون وفودَ النّاس عن الدّخول إلى المدينة التي كان بها شعيب عليه السّلام لئلا يؤمنوا به . فالمراد بالصّراط الطريق الموصلة إلى لقاء شعيب عليه السّلام .والقعود مستعمل كناية عن لازمه وهو الملازمة والاستقرار ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { لأقْعُدَنّ لهم صراطك المستقيم } في هذه السّورة ( 16 ).و ( كُلّ ) للعموم وهو عموم عُرفي ، أي كلّ صراط مبلغ إلى القرية أو إلى منزل شعيب عليه السّلام ، ويجوز أن تكون كلمة ( كلّ ) مستعملة في الكثرة كما تقدّم .والباء للإلصاق ، أو هي بمعنى ( في ) كشأنها إذا دخلت على أسماء المنازل . كقول امرىء القيس :بسِقْط اللِّوَى ... البيت .وجملة : { توعدون } حال من ضمير { تقعدوا } والإيعاد : الوعد بالشرّ . والمقصود من الإيعاد الصدّ ، فيكون عطف جملة { وتصدون } عطفَ علّة على معلول ، أو أريد توعدون المصمّمين على اتِّباع الإيمان ، وتصدّون الذين لم يصمّموا فهو عطف عام على خاص .و { من آمن } يتنازعه كلٌ من { توعدون } وتصدّون .والتّعبير بالماضي في قوله : { مَن آمن به } عوضاً عن المضارع ، حيث المراد بمن آمن قاصدُ الإيمان ، فالتعبير عنه بالماضي لتحقيق عزم القاصد على الإيمان فهو لولا أنّهم يصدّونه لكان قد آمن .و { سبيل الله } الدّين لأنّه مِثل الطريق الموصل إلى الله ، أي إلى القرب من مرضاته .ومعنى { تبغونها عوجا } تبغون لسبيل الله عوجاً إذ كانوا يزعمون أن ما يدعو إليه شعيب باطل ، يقال : بغاه بمعنى طلب له ، فأصله بغى له فحذفوا حرف الجر لكثرة الاستعمال أو لتضمين بغى معنى أعطى .والعِوَج بكسر العين عدم الاستقامة في المعاني ، وبفتح العين : عدم استقامة الذات ، والمعنى : تحاولون أن تصفوا دعوة شعيب المستقيمة بأنها باطل وضلال ، كمن يحاول اعوجاج عود مستقيم . وتقدم نظير هذا في هذه السورة في ذكر نداء أصحاب الجنة أصحاب النار .وإنما أَخَّر النهي عن الصد عن سبيل الله ، بعد جملة { ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين } ولم يجعله في نسق الأوامر والنواهي الماضية ثم يعقبه بقوله : { ذلكم خير لكم } لأنه رتّب الكلام على الابتداء بالدعوة إلى التوحيد ، ثم إلى الأعمال الصالحة لمناسبة أن الجميع فيه صلاح المخاطبين ، فاعقبها ببيان أنها خير لهم إن كانوا مؤمنين فاعاد تنبيههم إلى الإيمان وإلى أنه شرط في صلاح الأعمال ، وبمناسبة ذكر الإيمان عاد إلى النهي عن صد الراغبين فيه ، فهذا مثل الترتيب في قول امرىء القيس :كأنّيَ لم اركَبْ جواداً للذّةٍ ... ولم أتبطّنْ كاعباً ذات خلْخالٍولم أسْبَأ الراحَ الكُميتَ ولم أقل ... لخَيْلِي كُري كَرّةً بعد إجفالروى الواحدي في «شرح ديوان المتنبي» أن المتنبي لما أنشد سيف الدولة قوله فيه :وقَفْتَ وما في الموْت شكّ لوَاقِفٍ ... كأنّك في جفن الرّدى وهو نائمتَمُر بك الأبطال كَلْمَي حزينة ... ووجهك وضَّاح وثَغْرُك باسمأنكر عليه سيف الدولة تطبيق عَجُزي البيتين على صدريهما ، وقال له كان ينبغي أن تجعل العجز الثاني عَجُزاً اللأول والعكس وأنت في هذا مِثْل امرىء القيس في قوله :كأنّي لم أركب جواداً للذة ... البيتين ، ووجه الكلام على ما قاله العلماء بالشّعر : أن يكون عجز البيت الأوّل للثّاني وعجز البيت الثّاني للأوّل؛ ليكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكَر ، ويكون سباء الخمر مع تبطّن الكاعب ، فقال أبو الطّيّب : «إن صحّ أن الذي استدرك على امرىء القيس هذا أعلَمُ منه بالشّعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأتُ أنا ، ومولانا الأميرُ يعلم أنّ الثّوب لا يعرفه البزّاز معرفة الحائك ، لأنّ البزّاز لا يعرف إلاّ جملته ، والحائكَ يعرف جملتَه وتفصيله ، لأنّه أخرجه من الغَزْليَّة إلى الثَّوْبيَّة ، وإنَّما قَرن امرؤ القيس لذة النّساء بلذّة الرّكوب للصّيد وقرن السّماحة في شراء الخمر للأضياف بالشّجاعة في منازلة الأعداء ، وأنا لمّا ذكرت الموت في أوّل البيت أتبعتُه بذكر الردَى لتجانسه ، ولمّا كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوساً وعينُه من أن تكون باكية قلتُ : «ووجهك وضّاح وثَغرك باسم» لأجمع بين الأضداد في المعنى .وهو يعني بهذا أن وجوه المناسبة في نظم الكلام تختلف وتتعدّد ، وإنّ بعضاً يكون أرجح من بعض .وذَكَّرَهُم شُعيبٌ عليه السّلام عقب ذلك بتكثير الله إياهم بعد أن كانوا قليلاً ، وهي نعمة عليهم ، إذ صاروا أمّة بعد أن كانوا معشراً .ومعنى تكثير الله إياهم تيسيره أسباب الكثرة لهم بأن قوّى فيهم قوّة التّناسل ، وحفظهم من أسباب المَوتَان ، ويَسَّر لنسلهم اليفاعة حتّى كثُرت مواليدهم وقلّت وفياتُهم ، فصاروا عدداً كثيراً في زمن لا يعهد في مثله مصير أمّة إلى عددهم ، فيُعد منعهم النّاس من الدّخول في دين الله سعياً في تقليل حزب الله ، وذلك كفران لنعمة الله عليهم بأنّ كثَّرهم ، وليقابلوا اعتبار هذه النّعمة باعتبار نقمته تعالى من الذين غضب عليهم ، إذْ استأصلهم بعد أن كانوا كثيراً فذلك من تمايز الأشياء بأضدادها .فلذلك أعقبه بقوله : { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين }. وفي هذا الكلام جمع بين طريقي التّرغيب والتّرهيب .وقليل وصْف يلزم الإفرادَ والتّذكير ، مثل كثير ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { وكأيِّن من نبيء قتل معه ربّيون كثير } في سورة آل عمران ( 146 ).والمراد بالمفسدين } الذين أفسدوا أنفسهم بعقيدة الشّرك وبأعمال الضّلال ، وأفسدوا المجتمع بخالفة الشّرائع ، وأفسدوا النّاس بإمدادهم بالضّلال وصدّهم عن الهدى ، ولذلك لم يؤت : ل { المفسدين } بمتعلِّق لأنّه اعتبر صفة ، وقطع عن مشابهة الفعل ، أي الذين عرفوا بالإفساد . وهذا الخطاب مقصود منه الكافرون من قومه ابتداء ، وفيه تذكير للمؤمنين منهم بنعمة الله ، فإنّها تشملهم وبالاعتبار بمن مضَوا فإنّه ينفعهم ، وفي هذا الكلام تعريض بالوعد للمسلمين وبالتّسلية لهم على ما يلاقونه من مفسدي أهل الشّرك لانطباق حال الفريقين على حال الفريقين من قوم شُعيب عليه السّلام .و ( إذ ) في قوله : { إذْ كنتم قليلاً } اسم زمان ، غيرُ ظرف فهو في محل المفعول به أي اذكروا زمانَ كنتم قليلاً فأعقبه بأن كثّركم في مدّة قريبة .
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ۚ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
📘 و { الطائفة } الجماعة ذاتُ العدد الكثير وتقدّمت عند قوله تعالى : { فلتقُم طائفة منهم معك } في سورة النّساء ( 102 ).والشّرط في قوله : { وإن كان طائفة } أفاد تعليق حصول مضمون الجزاء في المستقبل ، أعني ما تضمّنه الوعيد للكافرين به والوعدُ للمؤمنين ، على تحقّق حصول مضمون فعل الشّرط ، لا على ترقّب حصول مضمونه ، لأنّه معلوم الحصول ، فالماضي الواقع فعلاً للشّرط هنا ماض حقيقي وليس مؤولاً بالمستقبل ، كما هو الغالب في وقوع الماضي في سياق الشّرط بقرينة كونه معلوم الحصول ، وبقرينة النّفي بلم المعطوف على الشّرط فإنّ ( لَمْ ) صَريحة في المضيّ ، وهذا مثل قوله تعالى : { إنْ كنتُ قلتُه فقد علمتَهُ } [ المائدة : 116 ] بقرينة . ( قد ) إذ الماضي المدخول لقد لا يقلب إلى معنى المستقبل . فالمعنى : إن تبيَّن أن طائفة آمنوا وطائفة كفروا فسيحكم الله بيننا فاصبروا حتّى يحكم ويَؤول المعنى : إن اختلفتم في تصديقي فسيظهر الحكم بأنّي صادق .وليست ( إنْ ) بمفيدة الشكّ في وقوع الشّرط كما هو الشان ، بل اجْتلبت هنا لأنّها أصل أدوات الشّرط ، وإنَّما يفيد معنى الشكّ أو ما يَقرب منه إذا وقع العدول عن اجتلاب ( إذَا ) حين يصحّ اجتلابها ، فأمّا إذا لم يصحّ اجتلاب ( إذا ) فلا تدلّ ( إنْ ) على شكّ وكيفَ تفيد الشكّ مع تحقّق المضي ، ونظيره قول النّابغة :لَئِنْ كنتَ قد بُلِّغْتَ عنّي وشَايَةً ... لَمُبْلغكَ الواشي أغَشّ وأكذبوالصّبر : حبس النّفس في حال التّرقب ، سواء كان ترقب محبوب أم ترقب مكروه ، وأشهر استعماله أن يطلق على حبس النّفس في حال فِقدان الأمر المحبوب ، وقد جاء في هذه الآية مستعملاً في القدْر المشترك لأنّه خوطب به الفريقان : المؤمنون والكافرون ، وصبر كلّ بما يناسبه ، ولعلّه رجح فيه حال المؤمنين ، ففيه إيذان بأنّ الحكم المترقّب هو في منفعة المؤمنين ، وقد قال بعض المفسّرين : إنّه خطاب للمؤمنين خاصة .و { حتّى } تفيد غاية للصّبر ، وهي مؤذنة بأن التّقدير : وإن كان طائفة منكم آمنوا وطائفة لم يؤمنوا فسيحكم الله بيْننا فاصبروا حتّى يحكم .وحكم الله أريد به حكم في الدّنيا بإظهار أثر غضبه على أحد الفريقين ورضاه على الذين خالفوهم ، فيظهر المحقّ من المبطل ، وهذا صدر عن ثقة شّعيب عليه السّلام بأنّ الله سيحكم بينه وبين قومه استناداً لوعد الله إياه بالنَّصْر على قومه ، أو لعلمه بسنّة الله في رسله ومَن كذّبهم بإخبار الله تعالى إياه بذلك ، ولولا ذلك لجاز أن يتأخر الحكم بين الفريقين إلى يوم الحساب ، وليس هو المراد من كلامه لأنّه لا يناسب قوله : { فاصبروا } إذا كان خطاباً للفريقين ، فإن كان خطابا للمؤمنين خاصة صحّ إرادة الحُكمين جميعاً .وأدْخَل نفسه في المحكوم بينهم بضمير المشاركة لأنّ الحكم المتعلّق بالفريق الذين آمنوا به يعتبر شاملاً له لأنّه مؤمن برسالة نفسه .وجملة : { وهو خير الحاكمين } تذييل بالثّناء على الله بأنّ حكمه عَدْل محض لا يحتمل الظلم عَمداً ولا خطأ ، وغيره من الحاكمين يقع منه أحد الأمرين أو كلاهما .و { خير } : اسم تفضيل أصله أخْيَر فخفّفوه لكثرة الاستعمال .
۞ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
📘 كان جوابهم عن حجّة شعيب جوابَ المفحَم عن الحجّة ، الصائر إلى الشدّة ، المزدهي بالقوة ، المتوقّععِ أن يكثر معاندوه ، فلذلك عدلوا إلى إقصاء شعيب وأتباعه عن بلادهم خشية ظهور دعوته بين قومهم ، وبث أتنباعه دعوته بين الناس ، فلذلك قالوا : { لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا }.وتفسير صدر الآية هو كتفسير نظيره من قصّة ثمود .وإيثار وصفهم بالاستكبار هنا دون الكفر ، مع أنّه لم يحك عنم هنا خطاب المستضعفين ، حتّى يكون ذكر الاستكبار إشارة إلى أمّهم استضعفوا المؤمنين كما اقتضته قصة ثمود ، فاختير وصف الاستكبار هنا لمناسبة مخاطبتهم شعيباً بالإخراج أو الإكراه على اتّباع دينهم ، وذلك من فعل الجبّارين أصحاب القوة .وكان إخراج المغضوب عليه من ديار قبيلته عقوبة متّبعة في العرب إذا أجمعت القبيلة على ذلك ويسمّى هذا الإخراج عند العرب بالخَلْع ، والمخرَج يسمّى خليعاً .قال امرؤ القيس :به الذئبُ يعوي كالخليع المعيل ... وأكدوا التوعّد بلام القسم ونون التوكيد : ليوقن شعيب بأنّهم منجزو ذلك الوعيد .وخطابهم إيّاه بالنداء جار على طريقة خطاب الغضب ، كما حكى الله قول آزر خطاباً لإبراهيم عليه السلام { أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم } [ مريم : 46 ].وقوله : { معك } متعلّق ب { لنخرجنّك } ، ومتعلّق { آمنوا } محذوف ، أي بك ، لأنهم لا يصفونهم بالإيمان الحقّ في اعتقادهم .والقرية ( المدينة ) لأنها يجتمع بها السكان . والتقرّي : الاجتماع . وقد تقدم عند قوله تعالى : { أوْ كالذي مرّ على قرية } [ البقرة : 259 ] ، والمراد بقريتهم هنا هي ( الأيكة ) وهي ( تبوك ) وقد رددوا أمر شعيب ومن معه بين أن يُخرجوا من القرية وبين العود إلى ملة الكفر .وقد جعلوا عود شعيب والذين معه إلى ملّة القوم مقسماً عليه فقالوا : { أو لتعودُن } ولم يقولوا : لنخرجنّكم من أرضنَا أو تعودن في ملّتنا ، لأنّهم أرادوا ترديد الأمرين في حيز القسم لأنهم فاعلون أحد الأمرين لا محالة وأنّهم ملحّون في عودهم إلى ملّتهم .وكانوا يظنّون اختياره العود إلى ملّتهم ، فأكدوا هذا العود بالقسم للإشارة إلى أنّه لا مَحيد عن حصوله عوضاً عن حصول الإخراج لأن أحد الأمرين مُرضضٍ للمقسمين ، وأيضاً فإن التوكيد مؤذن بأنّهم إن أبوا الخروج من القرية فإنهم يكرهون على العود إلى ملّة القوم كما دل عليه قول شعيب في جوابهم : { أوَلْو كُنّا كارهين } ولما كان المقام للتوعّد والتّهديد كان ذكر الإخراج من أرضهم أهم ، فلذلك قدموا القسم عليه ثم أعقبوه بالمعطوف بحرف ( أوْ ).والعَوْد : الرجوع إلى ما كان فيه المرء من مكان أو عمل ، وجعلوا موافقة شعيب إياهم على الكفر عوداً لأنهم يحسبون شعيباً كان على دينهم ، حيث لم يكونوا يعلمون منه ما يخالف ذلك ، فهم يحسبونه ، موافقاً لهم من قبل أن يدعو إلى ما دعا إليه .وشأن الذين أرادهم الله للنبوءة أن يكونوا غير مشاركين لأهل الضلال من قومهم ولكنّهم يكونون قبل أن يُوحى إليهم في حالة خلو عن الإيمان حتى يهديهم الله إليه تدريجاً ، وقومهم لا يعلمون باطنهم فلا حيرة في تسمية قومه مُوافقته إيّاهم عوداً .وهذا بناء على أن الأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوءة ، وذلك قول جميع المتكلمين من المسلمين ، وقد نبّه على ذلك عياض في «الشفاء» في القسم الثالث وأورد قول شعيب : { إنْ عُدنا في ملّتكُم } [ الأعراف : 89 ] وتأول العود بأنّه المصير ، وذلك تأويل كثير من المفسرين لهذه الآية . ودليل العصمة من هذا هو كمالهم ، والدليل مبني على أن خلاف الكمال قبل الوحي يُعد نقصاً ، وليس في الشريعة دليل قاطع على ذلك ، وإنّما الإشكال في قول شعيب { إنْ عدنا في ملّتكم } [ الأعراف : 89 ] فوجهه أنّه أجراه على المشاكلة والتغليب . وكلاهما مصحّح لاستعمال لفظ العود في غير معناه بالنسبة إليه خاصة ، وقد تولى شعيب الجواب عمّن معه من المؤمنين ليقينه بصدق إيمانهم .والملّة : الدين ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلاّ مَنْ سَفِه نفسَه } في سورة البقرة ( 130 ).وفصل جملة : { قال الملأ } لوقوعها في المحاورة على ما بيناه عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ).فصل جملة { قال . . } لوقوعها في سياق المحاورة .والاستفهام مستعمل في التعجب تعجباً من قولهم : { أو لتعودن في ملّتنا } المؤذننِ ما فيه من المؤكّدات بأنّهم يُكرهونهم على المصير إلى ملّة الكفر ، وذلك التعجب تمهيد لبيان تصميمه ومن معه على الإيمان ، ليعلم قومه أنّه أحاط خبراً بما أرادُوا من تخييره والمؤمنين معه بين الأمرين : الإخراج أو الرجوع إلى ملّة الكفر ، شأنَ الخصم اللبيب الذي يأتي في جوابه بما لا يغادر شيئاً مما أراده خصمه في حوارِه ، وفي كلامه تعريض بحماقة خصومه إذ يحاولون حمله على ملّتهم بالإكراه ، مع أن شأن المُحقّ أن يشرك للحق سلطانه على النفوس ولا يتوكّأ على عصا الضّغط والإكراه ، ولذا قال الله تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ } [ البقرة : 256 ]. فإن التزام الدين عن إكراه لا يأتي بالغرض المطلوب من التّديّن وهو تزكية النفس وتكثير جند الحق والصلاح المطلوب .والكاره مشتق من كره الذي مصدره الكَرهُ بفتح الكاف وسكون الراء وهو ضد المحبة ، فكاره الشيء لا يدانيه إلاّ مغصوباً ويقال للغصب إكراه ، أي مُلجَئين ومغصوبين وتقدم في قوله تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كُرهٌ لكم } في سورة البقرة ( 216 ).و ( لو ) وصلية تفيد أن شرطها هو أقصى الأحوال التي يحصل معها الفعل الذي في جوابها ، فيكون ما بعدها أحرى بالتعجب . فالتقدير : أتعيدوننا إلى ملّتكم ولو كنا كارهين . وقد تقدم تفصيل ( لو ) هذه عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به }في سورة آل عمران ( 91 ). وتقدم معنى الواو الداخلة عليها وأنها واو الحال .
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ۚ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۚ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ۚ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ
📘 واستأنف مرتقياً في الجواب ، فبيّن استحالة عودهم إلى ملّة الكفر بأن العود إليها يستلزم كذبَه فيما بلّغه عن الله تعالى من إرساله إليهم بالتوحيد فذلك كذب على الله عن عمد ، لأن الذي يرسله الله لا يرجع إلى الكفر ، ويستلزم كذب الذين آمنوا به على الله حيث أيقنوا بأن شعيباً مبعوث من الله بما دلهم على ذلك من الدلائل ، ولذلك جاء بضمير المتكلّم المشارك في كل من قوله : افترينا } و { عدنا } و { نجانا } و { نعود } و { ربُنا } و { توكّلنا }.والربط بين الشرط وجوابه ربط التّبيّن والانكشاف . لأنه لا يصح تعليق حصول الافتراء بالعود في ملة قومه ، فإن الافتراء المفروض بهذا المعنى سابق متحقق وإنّما يكشفه رجوعهم إلى ملّة قومهم ، أي إنْ يَقع عودنا في ملتكم فقد تبين أننا افترينا على الله كذباً ، فالماضي في قوله : { افترينا } ماض حقيقي كما يقتضيه دخول { قد } عليه ، وتقديمه على الشرط لأنه في الحالتين لا تقلبه ( إن ) للاستقبال ، أما الماضي الواقع شرطاً ل ( إن ) في قوله : { إن عدنا } فهو بمعنى المستقبل لأن ( إنْ ) تقلب الماضي للمستقبل عكس ( لم ).وقوله : { بعد إذ نجّانا الله منها } على هذا الوجه ، معناه : بعد إذ هدانا الله للدين الحق الذي اتبعناه بالوحي فنجانا من الكفر ، فذكر الإنجاء لدلالته على الإهداء والإعلان بأن مفارقة الكفر نجاة ، فيكون في الكلام إيجاز حذف أو كناية .وهذه البعدية ليست قيداً ل { افترينا } ولا هي موجب كون العود في ملّتهم دالاً على كذبه في الرسالة ، بل هذه البعدية متعلقة ب { عُدْنَا } يقصد منها تفظيع هذا العود وتأييس الكافرين من عود شعيب وأتباعه إلى ملّة الكفر ، بخلاف حالهم الأولى قبلَ الإيمان فإنهم يوصفون بالكفر لا بالافتراء إذ لم يظهر لهم وجه الحق ، ولذلك عقبه بقوله : { وما يكون لنا أن نعود فيها } أي لأن ذلك لا يقصده العاقل فيلقي نفسه في الضلال والتعرض للعذاب .وانتصاب { كذباً } على المفعولية المطلقة تأكيداً ل { افترينا } بنا هو ماسو له أو أعم منه ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة المائدة ( 103 ).وقد رَتّب على مقدمة لزوم الافتراء نتيجةَ تأييس قومه من أن يعود المؤمنون إلى ملّة الكفر بقوله : { وما يكون لنا أن نعود فيها } فنفي العود نفياً مؤكداً بلام الجحود وقد تقدم بيان تأكيد النفي بلام الجحود في قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الخ في سورة آل عمران ( 79 ).وقوله : { إلاّ أن يشاء الله ربّنا } تأدب مع الله وتفويضُ أمره وأمرِ المؤمنين إليه ، أي : إلاّ أن يقدّر الله لنا العود في ملّتكم فإنّه لا يسأل عمّا يفعل ، فأمَا عود المؤمنين إلى الكفرِ فممكن في العقل حصوله وليس في الشرععِ استحَالته ، والارتداد وقع في طوائف من أمم .وأمّا ارتداد شعيب بعد النبوءَةِ فهو مستحيل شرعاً لعصمة الله للأنبياء ، فلو شاء الله سلب العصمة عن أحد منهم لمَا ترتّب عليه محال عقلاً ، ولكنه غير ممكن شرعاً ، وقد علمتَ آنفاً عصمة الأنبياء من الشرك قبل النبوءة فعصمتهم منه بعد النبوءة بالأولى ، قال تعالى : { لئن أشركت ليحبطَن عملك } [ الزمر : 65 ] على أحد التأويلين .وفي قول شعيب : { إلاّ أنْ يشاء الله ربّنا } تقييدُ عدم العود إلى الكفر بمشيئة الله ، وهو يستلزم تقييد الدوام على الإيمان بمشيئة الله ، لأن عدم العود إلى الكفر مساو للثبات على الإيمان ، وهو تقييد مقصود منه التأدب وتفويض العلم بالمستقبل إلى الله ، والكناية عن سؤال الدوام على الإيمان من الله تعالى كقوله : { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } [ آل عمران : 8 ].ومن هنا يستدل لقول الأشعري وجماعةٍ على رأسهم محمد بن عبدوس الفقيه المالكي الجليل أن المسلم يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، لأنّه لا يعلم ما يُختم له به ، ويضعف قول الماتريدي وطائفةٍ من علماء القيروان على رأسهم محمد بن سحنون أن المسلم لا يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، لأنّه متحقق أنه مؤمن فلا يقول كلمة تنبىء عن الشك في إيمانه .وقد تطاير شرر الخلاف بين ابن عبدوس وأصحابه من جهة ، وابن سحنون وأصحابه من جهة ، في القيروان زماناً طويلاً ورمى كل فريق الفريق الآخر بما لا يليق بهما ، وكان أصحاب ابن سحنون يدْعون ابنَ عبدوس وأصحابَه الشكوكية وتلقفت العامة بالقيسروان هذا الخلاف على غير فهم فربما اجْتروا على ابن عبدوس وأصحابة اجتراء وافتراء ، كما ذكره مفصلاً عياض في «المدارك» في ترجمة محمد بن سحنون ، وترجمة ابن النبّان ، والذي حقّقه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد وعياض أن الخلاف لفظي : فإن كان يقول : إن شاء الله ، وسريرتُه في الإيمان مثلُ علانيته فلا بأس بذلك ، وإن كان شكاً فهو شك في الإيمان ، وليس ذلك ما يريده ابن عبدوس ، وقد قال المحققون : أن الخلاف بين الأشعري والماتريدي في هذه المسألة من الخلاف اللفظي ، كما حقّقه تاج الدين السبكي في «منظومته النونية» ، وتبعه تلميذه نور الدين الشيرازي في «شرحه» . ومما يجب التنبيه له أن الخلاف في المسألة إنما هو مفروض في صحّة قول المؤمن : أنا مؤمن إن شاء الله ، وأن قوله ذلك هل ينبىء عن شكه في إيمانه ، وليس الخلاف في أنّه يجب عليه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله ، عند القائلين بذلك ، بدليل أنهم كثيراً ما يقابلون قول القائلين بالمشيئة بقول الآخرين : أنا مؤمن عند الله ، فرجعت المسألة إلى اختلاف النظر في حالة عقد القلب مع ما هو في علم الله من خاتمته ، وبذلك سهل إرجاع الخلاف إلى الخلاف اللفظي .والإتيان بوصف الرب وإضافتُه إلى ضمير المتكلم المشارَك : إظهار لحضرة الإطلاق ، وتعريض بأن الله مولى الذين آمنوا .والخلاف بيننا وبين المعتزلة في جواز مشيئة الله تعالى الكفرَ والمعاصي خلاف ناشىء عن الخلاف في تحقيق معنى المشيئة والإرادة ، ولكلا الفريقين اصطلاح في ذلك يخالف اصطلاح الآخر ، والمسألة طفيفة وإن هوّلها الفريقان ، واصطلاحنا أسعد بالشريعة وأقرب إلى اللغة ، والمسألة كلها من فروع مسألة التكليف وقدرة المكلف .وقوله : { وسعَ ربنا كل شيء علْماً } تفويض لعلم الله ، أي إلاّ أن يشاء ذلك فهو أعلم بمراده منا ، وإعادة وصف الربوبية إظهار في مقام الإضمار لزيادة إظهار وصفه بالربوبية ، وتأكيد التعريض المتقدم ، حتى يصير كالتصريح .وانتصب { علماً } على التمييز المحول عن الفاعل لقصد الإجمال ثم التفصيل للاهتمام .وانتصب { كل شيء } على المفعول به ل { وَسعَ } ، أي : وسع علم ربنا كل شيء .والسعة : مستعملة مجازاً في الإحاطة بكل شيء لأن الشيء الواسع يكون أكثر إحاطة .وفي هذه المجادلة إدماج تعليم بعض صفات الله لأتْباعه وغيرهم على عادة الخطباء في انتهاز الفرصة .ثم أخبر بأنه ومَن تبعه قد توكلوا على الله ، والتوكل : تفويض مباشرة صلاح المرء إلى غيره ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في آل عمران ( 159 ) ، وهذا تفويض يقتضي طلب الخير ، أي : رجونا أن لا يسلبنا الإيمان الحق ولا يفسد خلق عقولنا وقلوبنا فلا نفتن ونضل ، ورجونا أن يكفينا شر من يُضمر لنا شراً وذلك شر الكفرة المضمر لهم ، وهو الفتنة في الأهل بالإخراج ، وفي الدين بالإكراه على إتباع الكفر .وتقديم الجار والمجرور على فعل توكلنا } لإفادة الاختصاص تحقيقاً لمعنى التوحيد ونبذ غير الله ، ولمَا في قوله : { على الله توكلنا } من التفويض إليه في كفايتهم أمر أعدائهم ، صرح بما يزيد ذلك بقوله : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق }. وفسروا الفتح هنا بالقضاء والحكم ، وقالوا : هو لغة أزد عمان من اليمن ، أي احكم بيننا وبينهم ، وهي مأخوذة من الفتح بمعنى النصر لأن العرب كانوا لا يتحاكمون لغير السيف ، ويحسبون أن النصر حُكم الله للغالب على المغلوب .وقوله : { وأنت خير الفاتحين } هو كقوله : { وهو خير الحاكمين } [ الأعراف : 87 ] ، أي وأنت خير الناصرين ، وخير الحاكمين هو أفضل أهل هذا الوصف ، وهو الذي يتحقق فيه كمال هذا الوصف فيما يقصد منه وفي فائدته بحيث لا يشتبه عليه الحق بالباطل ولا تروج عليه الترهات . والحكام مراتب كثيرة ، فتبين وجه التفضيل في قوله : { وهو خير الحاكمين } [ الأعراف : 87 ] وكذلك القياس في قوله : { خير الناصرين } [ آل عمران : 150 ] و { خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] وقد تقدم في سورة آل عمران ( 150) : { بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . }
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ
📘 والخسران حقيقته ضد الرّبح ، وهو عدم تحصيل التّاجر على ما يستفضله من بيعه ، ويستعار لفقدان نفع ما يرجى منه النّفع ، فمعنى { خسروا أَنفُسَهُم } فقدوا فوائدها ، فإن كلّ أحد يرجو من مواهبه ، وهي مجموع نفْسِه ، أن تجلب له النّفع وتدفع عنه الضرّ : بالرأي السَّديد ، وابتكار العمل المفيد ، ونفوس المشركين قد سوّلت لهم أعمالاً كانت سبب خفّة موازين أعمالهم ، أي سبب فقد الأعمال الصّالحة منهم ، فكانت نفوسهم كرأسسِ مال التّاجر الذي رجا منه زيادة الرّزق فأضاعه كلّه فهو خاسر له ، فكذلك هؤلاء خسروا أنفسهم إذ أوقعتهم في العذاب المقيم ، وانظر ما تقدّم في قوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } في سورة الأنعام ( 20 ). وقوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } في سورة البقرة ( 16 ).والباء في قوله : بما كانوا } باء السّببيّة ، وما مصدرية أي بكونهم ظلموا بآياتنا في الدّنيا ، فصيغة المضارع في قوله : { يظلمون } لحكاية حالهم في تجدّد الظلم فيما مضى كقوله تعالى : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه } [ فاطر : 9 ].والظلم هنا ضدّ العدل : أي يظلمون الآيات فلا ينصفونها حقّها من الصدق . وضمن { يظلمون } معنى يُكَذّبون ، فلذلك عُدّي بالباء ، فكأنّه قيل : بما كانوا يظلمون فيكذبون بآياتنا على حد قوله تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظُلماً وعلواً } [ النمل : 14 ].وإنّما جعل تكذيبهم ظلما لأنّه تكذيب ما قامت الأدلّة على صدقه فتكذيبه ظلم للأدلّة بدحضها وعدم إعمالها .وتقديم المجرور في قوله : { بآياتنا } على عامله ، وهو { يظلمون } ، للاهتمام بالآيات . وقد ذكرت الآية حال المؤمنين الصّالحين وحال المكذّبين المشركين إذ كان النّاس يوم نزول الآية فريقين : فريق المؤمنين ، وهم كلّهم عاملون بالصّالحات ، مستكثرون منها ، وفريق المشركين وهم أخلياء من الصّالحات ، وبقي بين ذلك فريق من المؤمنين الذين يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيّئاً وذلك لم تتعرّض له هذه الآية ، إذ ليس من غرض المقام ، وتعرّضت له آيات آخرى .
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ
📘 عُطفت جملة : { وقال الملأ } ولم تفصل كما فصلت التي قبلها لانتهاء المحاورة المقتضية فصل الجمل في حكاية المحاورة ، وهذا قول أنف وجه فيه الملأ خطابهم إلى عامة قومهم الباقين على الكفر تحذيراً لهم من اتباع شعيب خشية عليهم من أن تحيك في نفوسهم دعوة شعيب وصدْق مجادلته ، فلما رأوا حجته ساطعة ولم يستطيعوا الفلج عليه في المجادلة ، وصمموا على كفرهم ، أقبلوا على خطاب الحاضرين من قومهم ليحذروهم من متابعة شعيب ويهددوهم بالخسارة .وذِكْرُ { المَلأ } إظهار في مقام الإضمار لبعد المعاد . وإنّما وصف الملأ بالموصول وصلته دون أن يكتفي بحرف التعريف المقتضي أن الملأ الثاني هو الملأ المذكور قبله ، لقصد زيادة ذم الملأ بوصف الكفر ، كما ذم فيما سبق بوصف الاستكبار .ووصف { الملأ } هنا بالكفر لمناسبة الكلام المحكي عنهم ، الدال على تصلبّهم في كفرهم ، كما وصفوا في الآية السابقة بالاستكبار لمناسبة حال مجادلتهم شعيباً ، كما تقدم ، فحصل من الآيتين أنّهم مُستكبرون كافرون .والمخاطب في قوله : { لئن اتّبعتم شعيباً } هم الحاضرون حين الخطاب لدى الملإِ ، فحُكي كلام الملأ كما صدر منهم ، والسياق يفسر المعنيين بالخطاب ، أعني عامّة قوم شعيب الباقين على الكفر .( واللام ) موطّئة للقسم . و { إنكم إذا لخاسرون } جواب القسم وهو دليل على جواب الشرط محذوف ، كما هو الشأن في مثل هذا التركيب .والخُسران تقدم عند قوله تعالى : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم } في سورة الأنعام ( 140 ). وهو مستعار لحصول الضر من حيث أريد النفع ، والمراد به هنا التحذير من أضرار تحصل لهم في الدنيا من جراء غضب آلهتهم عليهم ، لأن الظاهر أنّهم لا يعتقدون البعث ، فإن كانوا يعتقدونه ، فالمراد الخسران الأعم ، ولكن الأهم عندهم هو الدنيوي .
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
📘 ( والفاء ) في : { فأخذتهم الرجفة } للتعقيب ، أي : كان أخذ الرجفة إياهم عقب قولهم لقومهم ما قالوا .وتقدم تفسير : { فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين } في نظيرها من قصة ثمود .والرجفة التي أصابت أهل مدين هي صواعق خرجت من ظُلة ، وهي السحابة ، قال تعالى في سورة الشعراء ( 189 ). { فأخَذَهم عذابُ يوم الظلة } وقد عبر عن الرجفة في سورة هود بالصيحة فتعين أن تكون من نوع الأصوات المنشقة عن قالع ومقلوع لا عن قارع ومقروع وهو الزلزال ، والأظهر أن يكون أصابهم زلزال وصواعق فتكون الرجفة الزلزال والصيحة الصاعقة كما يدل عليه قوله : { كأن لم يَغْنَوا فيها }.
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۚ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ
📘 وجملة : { الذين كذبوا شعيباً } مستأنفة ابتدائية ، والتعريف بالموصولية للإيماء إلى وجه بناء الخبر ، وهو أن اضمحلالهم وانقطاع دابرهم كان جزاء لهم على تكذيبهم شعيباً .ومعنى : { كأن لم يَغنَوا فيها } تشبيه حالة استيصالهم وعفاء آثارهم بحال من لم تسبق لهم حياة ، يقال : غَنَى بالمكان كرَضي أقام ، ولذلك سمي مكان القوم مغنى .قال ابن عطية : «الذي استقريتُ من أشعار العرب أن غَنى معناه : أقام إقامة مقترنة بتنعم عيش ويشبه أن تكون مأخوذة من الاستغناء» أي كأن لم تكن لهم إقامة ، وهذا إنما يُعنى به انمحاء آثارهم كما قال : { فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس } [ يونس : 24 ] ، وهو يرجح أن يكون أصابهم زلزال مع الصواعق بحيث احترقت أجسادهم وخُسف لهم في الأرض وانقلبت ديارهم في باطن الأرض ولم يبق شيء أو بقي شيء قليل . فهذا هو وجه التشبيه ، وليس وجه التشبيه حالة موتهم لأن ذلك حاصل في كل ميت ولا يختص بأمثال مدين ، وهذا مثل قوله تعالى : { فهل ترى لهم من باقية } [ الحاقة : 8 ].وتقديم المسند إليه في قوله : { الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين } إذا اعتُبرت { كانوا } فعلاً ، واعتبر المسند فعلياً فهو تقديم لإفادة تقوي الحكم ، وإن اعتبرت ( كان ) بمنزلة الرابطة ، وهو الظاهر ، فالتقوي حاصل من معنى الثبوت الذي تفيده الجملة الاسمية .والتكرير لقوله : { الذين كذبوا شعيباً } للتعديد وإيقاظ السامعين ، وهم مشركو العرب ، ليتقوا عاقبة أمثالهم في الشرك والتكذيب على طريقة التعريض ، كما وقع التصريح بذلك في قوله تعالى : { وللكافرين أمثالها } [ محمد : 10 ].وضمير الفصل في قوله : { كانوا هم الخاسرين } يفيد القصر وهو قصر إضافي ، أي دون الذين اتبعوا شعيباً ، وذلك لإظهار سَفه قول الملإ للعامة { لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذن لخاسرون } توقيفاً للمعتبرين بهم على تهافت أقوالهم وسفاهة رأيهم ، وتحذيراً لأمثالهم من الوقوع في ذلك الضلال .
فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ۖ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ
📘 تقدم تفسير نظير هذه الآية إلى قوله : { ونصحت لكم } من قصة ثمود ، وتقدم وجه التعبير ب { رسالات } بصيغة الجمع في نظيرها من قصة قوم نوح .ونداؤُه قومه نداء تحسر وتبرىء من عملهم ، وهو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر ، حين وقف على القليب الذي ألقي فيه قتلى المشركين فناداهم بأسماء صناديدهم ثم قال : " لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً " وجاء بالاستفهام الإنكاري في قوله : { فكيف آسى على قوم كافرين } مخاطباً نفسه على طريقة التجريد ، إذ خطر له خاطر الحزن عليهم فدفعه عن نفسه بأنهم لا يستحقون أن يؤسف عليهم لأنهم اختاروا ذلك لأنفسهم ، ولأنه لم يترك من تحذيرهم ما لو ألقاه إليهم لأقلعوا عما هم فيه فلم يبق ما يوجب أسفه وندامته كقوله تعالى : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } [ الكهف : 6 ] وقوله : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ].فالفاء في { فكيف آسى على قوم كافرين } للتفريع على قوله : { لقد أبلغتكم } الخ . . . فرع الاسستفهام الإنكاري على ذلك لأنه لمّا أبلغهم ونَصحَ لهم وأعرضوا عنه ، فقد استحقوا غضب من يَغضب لله ، وهو الرسول ، ويرى استحقاقهم العقاب فكيف يحزن عليهم لما أصابهم من العقوبة .والأسى : شدة الحزن ، وفعله كرضي ، و«آسى» مضارع مفتتح بهمزة التكلم ، فاجتمع همزتان .ويجوز أن يكون الاستفهام الإنكاري موجهاً إلى نفسه في الظاهر ، والمقصود نهي من معه من المؤمنين عن الأسى على قومهم الهالكين ، إذ يجوز أن يحصل في نفوسهم حزن على هلكى قومهم وإن كانوا قد استحقوا الهلاك .وقوله : { على قوم كافرين } إظهار في مقام الإضمار : ليتأتى وصفهم بالكفر زيادة في تعزية نفسه وترك الحزن عليهم .وقد نَجى الله شعيباً مما حلّ بقومه بأن فارق ديار العذاب ، قيل : إنه خرج مع من آمن به إلى مكة واستقروا بها إلى أن تُوُفوا ، والأظهر أنهم سكنوا محلة خاصة بهم في بلدهم رفع الله عنها العذاب ، فإن بقية مدين لم يزالوا بأرضهم ، وقد ذكرت التوراة أن شعيباً كان بأرض قومه حينما مرّت بنو إسرائيل على ديارهم في خروجهم من مصر .
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ
📘 عطفت الواو جملة { ما أرسلنا } على جملة { وإلى مدين أخاهم شعيباً } [ الأعراف : 85 ] ، عطف الأعم على الأخص . لأن ما ذكر من القصص ابتداء من قوله تعالى : { لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ الأعراف : 59 ] كله ، القصد منه العبرة بالأمم الخالية موعظة لكفّار العرب فلما تلا عليهم قصص خمس أمم جاء الآن بحكم كلي يعم سائر الأمم المكذبة على طريقة قياس التمثيل ، أو قياس الاستقراء الناقص ، وهو أشهر قياس يسلك في المقامات الخطابية ، وهذه الجمل إلى قوله : { ثم بعثنا من بعدهم موسى } [ يونس : 75 ] كالمعترضة بين القَصَص ، للتنبيه على موقع الموعظة ، وذلك هو المقصود من تلك القصص ، فهو اعتراض ببيان المقصود من الكلام وهذا كثير الوقوع في اعتراض الكلام .وعُدّيَ { أرسلنا } ب ( في ) دون ( إلى ) لأن المراد بالقرية حقيقتها ، وهي لا يرسل إليها وإنما يرسل فيها إلى أهلها ، فالتقدير : وما أرسلنا في قرية من نبيء إلى أهلها إلاّ أخذنا أهلها فهو كقوله تعالى : { وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً } [ القصص : 59 ] ولا يجري في هذا من المعنى ما يجري في قوله تعالى الآتي قريباً : { وأرسل في المدائن حاشرين } [ الأعراف : 111 ] إذ لا داعي إليه هنا .و { منْ } مزيد للتنصيص على العموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي ، وتخصيص القرى بإرسال الرسل فيها دون البوادي كما أشارت إليه هذه الآية وغيرها من آي القرآن ، وشهد به تاريخ الأديان ، ينبىء أن مراد الله تعالى من إرسال الرسل هو بث الصلاح لأصحاب الحضارة التي يتطرق إليها الخلل بسبب اجتماع الأصناف المختلفة ، وإن أهل البوادي لا يخلون عن الإنحياز إلى القرى والإيواء في حاجاتهم المدنية إلى القرى القريبة ، فأما مجيء نبيء غير رسول لأهل البوادي فقد جاء خالد بن سنان نبياً في بني عبس ، وأما حنظلة بن صفوان نبيء أهل الرسّ فالأظهر أنه رسول لأن الله ذكر أهل الرسل في عداد الأمم المكذبة ، وقد قيل : إنه ظهر بقرية الرس التي تسمى أيضاً ( فتح ) بالمهملة أو ( فتَخ ) بالمعجمة أو ( فيْج ) بتحتية وجيم ، أو فلْج ( بلام وجيم ) من اليمامة .والاستثناء مفرغ من أحوال ، أي ما أرسلنا نبيّاً في قرية في حال من الأحوال إلاّ في حال أنّنا أخذنا أهلها بالبأساء ، وقد وقع في الكلام إيجاز حذف دل عليه قوله : { لعلهم يضرّعون } فإنه يدل على أنهم لم يضرّعُوا قبل الأخذ بالبأساء والضراء ، فالتقدير : وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ كذبه أهل القرية فخوفناهم لعلّهم يذلون لله ويتركون العناد الخ . . .والأخذ : هنا مجاز في التناول والإصابة بالمكروه الذي لا يستطاع دفعه ، وهو معنى الغلبة ، كما تقدم في قوله تعالى : { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخدناهم بالبأساء والضراء } في سورة الأنعام ( 42 ).وقوله : { بالبأساء والضراء لعلهم يضرّعون } تقدم ما يُفسّرها في قوله : { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلّهم يتضرعون } في سورة الأنعام ( 42 ). ويُفسر بعضها أيضاً في قوله : { والصابرين في البأساء والضراء } في سورة البقرة ( 177 ).واستغنت جملة الحال الماضوية على الواو و ( قد ) بحرف الاستثناء ، فلا يجتمع مع ( قد ) إلاَّ نادراً ، أي : ابتدأناهم بالتخويف والمصائب لتَفُل من حدتهم وتصرف تأملهم إلى تطلب أسباب المصائب فيعلموا أنها من غضب الله عليهم فيتوبوا .
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
📘 والتبديل : التعويض ، فحقه أن يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء المفيدة معنى البدلية ويكون ذلك المفعول الثاني المدخول للباء هو المتروك ، والمفعول الأول هو المأخوذ ، كما في قوله تعالى : { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } في سورة البقرة ( 61 ) ، وقوله : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } في سورة النساء ( 2 ) ، لذلك انتصب الحسنة } هنا لأنها المأخوذة لهم بعد السيّئة فهي المفعول الأول والسيّئة هي المتروكة ، وعدل عن جر السيئة بالباء إلى لفظ يؤدي مُؤَدى باء البدلية وهو لفظ ( مكان ) المستعمل ظرفاً مجازاً عن الخلَفية ، يقال خذ هذا مكانَ ذلك ، أي : خذه خلفاً عن ذلك لأن الخلَف يحل في مكان المخلوف عنه ، ومن هذا القبيل قول امرىء القيس :وبُدلْتُ قُرحاً دامياً بعد نعمة ... فجعل ( بعدَ ) عوضاً عن باء البدلية .فقوله : { مكانَ } مَنصوب على الظرفية مجازاً ، أي : بَدلناهم حسنة في مكان السيّئة ، والحسنة اسم اعتبر مؤنثاً لتأويله بالحالة والحادثة وكذلك السيئة فهما في الأصل صفتان لموصوف محذوف ، ثم كثر حذف الموصوف لقلة جدوى ذكره فصارت الصفتان كالاسمين ، ولذلك عبر عن الحسنة في بعض الآيات بما يُتَلَمّح منه معنى وصفيّتها نحو قوله تعالى : { ولا تستوي الحسنة ولا السيّئة ادفع بالتي هي أحسنُ } [ فصلت : 34 ] أي : ادفع السيّئة بالحسنة ، فلما جاء بطريقة الموصولية والصلة بأفعل التفضيل تُلمح معنى الوصفية فيهما ، وكذلك قوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن السيّئة } [ فصلت : 34 ]. ومثلهما في هذا المصيبة ، كما في قوله تعالى في سورة براءة ( 50) : { إن تُصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل } أي : بدّلناهم حالة حسنة بحالتهم السيّئة وهي حالة البأساء والضراء .فالتعريف تعريف الجنس ، وهو مشعر بأنهم أعطوا حالة حسنة بطيئة النفع لا تبلغ مبلغ البركة .و { حتى } غاية لما يتضمنه { بدّلنا } من استمرار ذلك وهي ابتدائية ، والجملة التي بعدها لا محل لها .و { عَفْوا } كثُروا . يقال : عفا النبات ، إذا كثر ونما ، وعطف { وقالوا } على { عفوا } فهو من بقية الغاية .والسّرّاء : النعمة ورَخاء العيش ، وهي ضد الضراء .والمعنى أنا نأخذهم بما يغير حالهم التي كانوا فيها من رخاء وصحة عسى أن يعلموا أن سلب النعمة عنهم أمارة على غضب الله عليهم من جرّاء تكذيبهم رسولهم فلا يهتدون ، ثم نردهم إلى حالتهم الأولى إمهالاً لهم واستدراجاً فيزدادون ضلالاً ، فإذا رأوا ذلك تعللوا لما أصابهم من البؤس والضر بأن ذلك التغيير إنما هو عارض من عوارض الزمان وأنه قد أصاب أسلافهم من قبلهم ولم يَجئهم رسُل .وهذه عادة الله تعالى في تنبيه عباده ، فإنه يحب منهم التوسم في الأشياء والاستدلال بالعقل والنظر بالمسببات على الأسباب ، كما قال تعالى : { أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون } [ التوبة : 126 ] لأن الله لما وهب الإنسان العقل فقد أحب منه أن يستعمله فيما يبلغ به الكمال ويقيه الضلال .وظاهر الآية : أن هذا القول صادر بألسنتهم وهو يكون دائراً فيما بين بعضهم وبعض في مجادلتهم لرسُلهم حينما يعظونهم بما حلّ بهم ويدْعونهم إلى التوبة والإيمان ليكشف عنهم الضر .ويجوز أن يكون هذا القول أيضاً : يجيش في نفوسهم ليدفعوا بذلك ما يخطر ببالهم من توقع أن يكون ذلك الضر عقاباً من الله تعالى ، وإذ قد كان محكياً عن أمم كثيرة كانت له أحوال متعددة بتعدد ميادين النفوس والأحوال .وحاصل ما دفعوا به دلالة الضراء على غضب الله أن مثل ذلك قد حل بآبائهم الذين لم يدْعُهم رسول إلى توحيد الله ، وهذا من خطأ القياس وفساد الاستدلال ، وذلك بحصر الشيء ذي الأسباب المتعددة في سبب واحد ، والغفلة عن كون الأسباب يخلف بعضها بعضاً ، مع الغفلة عن الفارق في قياس حالهم على حال آبائهم بأن آباءهم لم يأتهم رسُل من الله ، وأما أقوام الرسل فإن الرسل تحذرهم الغضب والبأساء والضراء فتحيق بهم ، أفلا يَدلُهم ذلك على أن ما حصل لهم هو من غضب الله عليهم ، على أن غضب الله ليس منحصر الترتب على معصية الرسول بل يكون أيضاً عن الانغماس في الضلال المبين ، مع وضوح أدلة الهدى للعقول ، فإن الإشراك ضلال ، وأدلة التوحيد واضحة للعقول ، فإذا تأيدت الدلالة بإرسال الرسل المنذرين قويت الضلالة باستمرارها ، وانقطاع أعذارها ، ومثل هذا الخطأ يعرض للناس بداعي الهوى وإلف حال الضلال .والفَاء في قوله : { فأخذناهم } للتعقيب عن قوله : { عَفَوْا } ، و { قالوا } ، باعتبار كونهما غاية لإبدال الحسنة مكان السيئة ، ولا إشعار فيه بأن قولهم ذلك هو سبب أخذهم بغتة ولكنه دل على إصرارهم ، أي : فحصل أخذنا إياهم عقب تحسن حالهم وبَطرهم النعمة .والتعقيب عرفي فيصدق بالمدة التي لا تعد طولاً في العادة لحصول مثل هذه الحوادث العظيمة .والأخذ هنا بمعنى الإهلاك كما في قوله تعالى : { أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون } في سورة الأنعام ( 44 ).والبغتة : الفجْأة ، وتقدمت عند قوله تعالى : { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة } [ الأنعام : 31 ] ، وفي قوله : { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة } في سورة الأنعام ( 44 ) ، وتقدم هنالك وجه نصبها .وجملة : وهم لا يشعرون } حال مؤكدة لمعنى { بغتة }.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
📘 عُطفت جملة { ولو أن أهل القرى } على جملة : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } [ الأعراف : 94 ] أي : ما أرسلنا في قرية نبيئاً فكذبه أهلها إلاّ نبهناهم واستدرجناهم ثم عاقبناهم ، ولو أن أهل تلك القرى المُهْلَكَةِ آمنوا بما جاءهم به رسولهم واتقوا ربهم لما أصبناهم بالبأساء ولأحييناهم حياة البركة ، أي : ما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم .وشرط ( لو ) الامتناعية يحصل في الزمن الماضي ، ولما جاءت جملة شرطها مقترنة بحرف ( أنّ ) المفيد للتأكيد والمصدرية ، وكان خبر ( أنّ ) فعلاً ماضياً توفر معنى المضي في جملة الشرط . والمعنى : لو حصل إيمانهم فيما مضى لفتحنا عليهم بركات .والتقْوى : هي تقوى الله بالوقوف عند حدوده وذلك بعد الإيمان .والتعريف في { القرى } تعريف العهد ، فإضافة { أهل } إليه تفيد عمومه بقدر ما أضيف هو إليه ، وهذا تصريح بما أفهمه الإيجاز في قوله : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } [ الأعراف : 94 ] الآية كما تقدم ، وتعريض بإنذار الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم من أهل مكة ، وتعريض ببشارة أهل القُرى الذين يؤمنون كأهل المدينة ، وقد مضى في صدر تفسير هذه السورة ما يقرّب أنها من آخر ما نزل بمكة ، وقيل ، إن آيات منها نزلت بالمدينة كما تقدم وبذلك يظهر موقع التعريض بالنذارة والبشارة للفريقين من أهل القرى ، وقد أخذ الله أهل مكة بعد خروج المؤمنين منها فأصابهم بسبع سنين من القحط ، وبارك لأهل المدينة وأغناهم وصرف عنهم الحمى إلى الجُحفة ، والجُحفة يومئذٍ بلاد شرك .والفتح : إزالة حَجْز شيء حاجز عن الدخول إلى مكان ، يقال : فتح الباب وفتح البيت ، وتعديته إلى البيت على طريقة التوسع ، وأصله فتح للبيت ، وكذلك قوله هنا : { لفتحنا عليهم بركات } وقولُه : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها } [ فاطر : 2 ] ، ويقال : فتح كوة ، أي : جعلها فتحة ، والفتح هنا استعارة للتمكين ، كما تقدم في قوله تعالى : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } في سورة الأنعام ( 44 ).وتعدية فعل الفتح إلى البركات هنا استعارة مكنية بتشبيه البركات بالبيوت في الانتفاع بما تحتويه ، فهنا استعارتان مكنية وتبعية ، وقرأ ابن عامر : لفتّحنا } بتشديد التاءِ وهو يفيد المبالغة .والبركات : جمع بركة ، والمقصود من الجمع تعددها ، باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة . وتقدم تفسير البركة عند قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } في سورة الأنعام ( 92 ). وتقدم أيضاً في قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للّذي بمكّة مباركاً } في سورة آل عمران ( 96 ). وتقدم أيضاً في قوله تعالى : { تَبارك الله رب العالمين } في هذه السورة ( 54 ) ، وجُماع معناها هو الخير الصالح الذي لا تبعة عليه في الآخرة فهو أحسن أحوال النعمة ، ولذلك عبر في جانب المغضوب عليهم المستدرَجين بلفظ الحسنة } بصيغة الإفراد في قوله :{ مكان السيئة الحسنة } وفي ج [ الأعراف : 95 ] انب المؤمنين بالبركات مجموعة .وقوله : { من السماء والأرض } مراد به حقيقته ، لأن ما يناله الناس من الخيرات الدنيوية لا يعدو أن يكون ناشئاً من الأرض ، وذلك معظم المنافع ، أو من السماء مثل ماء المطر وشعاع الشمس وضوء القمر والنجوم والهواء والرياح الصالحة .وقوله : { ولكن كذبوا } استثناء لنقيض شرط ( لو ) فإن التكذيب هو عدم الإيمان فهو قياس استثنائي .وجملة : { فأخذناهم } متسببة على جملة : { ولكن كذبوا } وهو مثل نتيجة القياس ، لأنه مساوي نقيضضِ التالي ، لأن أخذهم بما كسبوا فيه عدم فتح البركات عليهم .وتقدم معنى الأخذ آنفاً في قوله تعالى : { فأخذناهم بغتة } [ الأعراف : 95 ] ، والمراد به أخذ الاستئصال .والباء للسببية أي بسبب ما كسبوه من الكفر والعصيان .
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ
📘 ( والفاء ) في قوله : { أفأمن أهل القرى } عاطفة أفادت الترتب الذكري ، فإنه لما ذكر من أحوال جميعهم ما هو مثار التعجيب من حالهم أعقبه بما يدل عليه معطوفاً بفاء الترتب . ومحل التعجيب هو تواطؤهم على هذا الغرور ، أي يترتب على حكاية تكذيبهم وأخذِهم استفهامُ التعجيب من غرورهم وأمنهم غضب القادر العليم .وقد تقدم الكلام على مثل هذا التركيب عند قوله تعالى : { أفكلما جاءكم رسول } في سورة البقرة ( 87 ).وجيء بقوله : { يأتيهم } بصيغة المضارع لأن المراد حكاية أمنهم الذي مضى من إتيان بأس الله في مستقبل ذلك الوقت .وقوله : { أوْ أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسناً ضحى وهم يلعبون } قرأه نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر بسكون الواو على أنه عطف بحرف ( أو ) الذي هو لأحد الشيئين عطفاً على التعجيب ، أي : هو تعجيب من أحد الحالين . وقرأه الباقون بفتح الواو على أنه عطف بالواو مقدمة عليه همزةُ الاستفهام ، فهو عطف استفهام ثان بالواو المفيدة للجمع ، فيكون كلا الاستفهامين مدخولاً لفاء التعقيب ، على قول جمهور النحاة ، وأما على رأي الزمخشري فيتعين أن تكون الواو للتقسيم ، أي تقسيم الاستفهام إلى استفهامين ، وتقدم ذكر الرأيين عند قوله تعالى : { أفكلما جاءكم رسول } في سورة البقرة ( 87 ).و { بياتاً } تقدم معناه ووجه نصبه عند قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسناً بياتاً } في أول هذه السورة ( 4 ).
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ
📘 والضحَى بالضم مع القصر هو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرق وارتفع ، وفسره الفقهاء بأن ترتفع الشمس قيد رمح ، ويرادفه الضحوة والضّحْوُ .والضحى يذكر ويؤنث ، وشاع التوقيت به عند العرب ومن قبلهم ، قال تعالى حكاية عن موسى : { قال مَوْعدكُمْ يوم الزينة وأن يُحشر الناس ضُحى } [ طه : 59 ].وتقييد التعجيب من أمْنهم مجيءَ البأس ، بوقتي البيات والضحى ، من بين سائر الأوقات ، وبحالي النوم واللعب ، من بين سائر الأحوال ، لأن الوقتين أجدر بأن يحذر حلول العذاب فيهما ، لأنهما وقتان للدعة ، فالبيات للنوم بعد الفراغ من الشغل .والضحى للعب قبل استقبال الشغل ، فكان شأن أولي النهى المعرضين عن دعوة رسل الله أن لا يأمنوا عذابه ، بخاصة في هذين الوقتين والحالين .وفي هذا التعجيب تعريض بالمشركين المكذبين للنبيء صلى الله عليه وسلم أن يحل بهم ما حلَّ بالأمم الماضية ، فكان ذكر وقت البيات ، ووقت اللعب ، أشد مناسبة بالمعنى التعريضي ، . تهديداً لهم بأن يصيبهم العذاب بأفظع أحواله ، إذ يكون حلوله بهم في ساعة دعتهم وساعة لهوهم نكاية بهم .
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ
📘 وقوله : { أفأمنوا مكر الله } تكرير لقوله : { أفأمنَ أهل القرى } قصد منه تقرير التعجيب من غفلتهم ، وتقرير معنى التعريض بالسامعين من المشركين ، مع زيادة التذكير بأن ما حل بأولئك من عذاب الله يماثل هيئة مكر الماكر بالممكور فلا يحسبوا الإمهال إعراضاً عنهم ، وليحذروا أن يكون ذلك كفعل الماكر بعدوّه .والمكر حقيقته : فعل يقصد به ضر أحد في هيئة تخفَى أو هيئة يحسبها منفعة . وهو هنا استعارة للإمهال والإنعام في حال الإمهال ، فهي تمثيلية ، شبه حال الإنعام مع الإمهال وتعقيبه بالانتقام بحال المكر ، وتقدم في سورة آل عمران ( 54 ) عند قوله : { ومكَروا ومكر الله والله خير الماكرين } وقوله : { فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون } مُترتب ومتفرع عن التعجيب في قوله : { أفأمنوا مكر الله } لأن المقصود منه تفريع أن أهل القرى المذكورين خاسرون لثبوت أنهم أمنوا مكر الله ، والتقدير : أفأمنوا مكر الله فهم قوم خاسرون .وإنما صيغ هذا التفريع بصيغة تعُم المخبَر عنهم وغيرهم ليجري مجرى المثل ويصير تذييلاً للكلام ، ويدخل فيه المعرّض بهم في هذه الموعظة وهم المشركون الحاضرون ، والتقدير : فهم قوم خاسرون ، إذ لا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون .والخسران هنا هو إضاعة ما فيه نفعهم بسوء اعتقادهم ، شُبه ذلك بالخسران وهو إضاعة التاجر رأس ماله بسوء تصرفه ، لأنهم باطمئنانهم إلى السلامة الحاضرة ، وإعراضهم عن التفكر فيما يعقبها من الأخذ الشبيه بفعل الماكر قد خسروا الانتفاع بعقولهم وخسروا أنفسهم .وتقدم قوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم } في سورة الأنعام ( 12 ) ، وقوله : { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } في أول السورة ( 9 ).وتقدم أن إطلاق المَكْر على أخذ الله مستحقي العقاب بعد إمهالهم : أن ذلك تمثيل عند قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } في سورة آل عمران ( 54 ).واعلم أن المراد بأمن مكر الله في هذه الآية هو الأمن الذي من نوع أمن أهل القرى المكذبين ، الذي ابتُدىء الحديث عنه من قوله : { وما أرسلنا في قرية من بنيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضّراء لعلهم يضرّعون } [ الأعراف : 94 ] ثم قوله : { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً } الآياتتِ ، وهو الأمن الناشىء عن تكذيب خبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن الغرور بأن دين الشرك هو الحق فهو أمن ناشىء عن كفر ، والمأمون منه هو وعيد الرسل إياهم وما أطلق عليه أنه مكر الله .ومن الأمن من عذاب الله أصنْاف أخرى تُغاير هذا الأمن ، وتتقارب منه ، وتتباعد ، بحسب اختلاف ضمائر الناس ومبالغ نياتهم ، فأما ما كان منها مستنداً لدليل شرعي فلا تَبعةَ على صاحبه ، وذلك مثل أمن المسلمين من أمثال عذاب الأمم الماضية المستند إلى قوله تعالى : { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } [ الأنفال : 33 ] ، وإلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } فقال النبي عليه الصلاة والسلام : أعوذ بسبحات وجهك الكريم { أَوْ مِن تحت أرجلكم } فقال : " أعوذ بسبحات وجهك الكريم { أو يلبسكم شيعا } [ الأنعام : 65 ] الآية فقال : هذه أهون " كما تقدم في تفسيرها في سورة الأنعام ومثل ، أمن أهل بدر من عذاب الآخرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " في قصة حاطب بن أبي بلتعة .ومثل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن سلام أنه لا يزال آخذاً بالعروة الوثقى ، ومثل الأنبياء فإنهم آمنون من مكر الله بإخبار الله إياهم بذلك ، وأولياءُ الله كذلك ، قال تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } [ يونس : 62 ، 63 ] فمن العجيب ما ذكره الخفاجي أن الحنفية قالوا : الأمنُ من مكر الله كفر لقوله تعالى : { فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون }.والأمنُ مجمل ومكر الله تمثيل والخسران مشكك الحقيقة . وقال الخفاجي : الأمنُ من مكر الله كبيرة عند الشافعية ، وهو الاسترسال على المعاصي اتكالاً على عفو الله وذلك مما نسبه الزركشي في «شرح جمع الجوامع» إلى ولي الدين ، وروى البزار وابن أبي حاتم عن ابن عباس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : ما الكبائر فقال : الشرك بالله واليأس من روح الله والأمنُ من مكر الله " ولم أقف على مبلغ هذا الحديث من الصحة ، وقد ذكرنا غير مرة أن ما يأتي في القرآن من الوعيد لأهل الكفر على أعمال لهم مرادٌ منه أيضاً تحذير المسلمين مما يشبه تلك الأعمال بقدر اقتراب شبهه .