Al-Baqara • AR-TAFSIR-AL-WASIT
﴿ لِّلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا۟ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ ﴾
“Unto God belongs all that is in the heavens and all that is on earth. And whether you bring into the open what is in your minds or conceal it, God will call you to account for it; and then He will forgive whom He wills, and will chastise whom He wills: for God has the power to will anything.”
ما دام الأمر كذلك فعليكم - أيها المؤمنون - أن تبذلوا نهاية جهدكم في العمل الصالح الذي بين أيديكم إنما هو عارية مستردة ، وأن المالك الحقيقي له إنما هو الله رب العالمين ، فأنفقوا من هذا المال - الذي هو أمانة بين أديكم - في وجوه الخير واجمعوه م نطريق حلال ، وكونوا من القوم العقلاء الصالحين الذين لم تشغلهم دنياهم عن أخراهم ، بل كانوا كما قالوا : ( رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار ) وقوله - سبحانه - : ( وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله ) بيان لشمون علم الله - تعالى - لما أظهره الإِنسان أو أخفاه من أقوال وأعمال ، وأنه سيحاسبه على ذلك بما يستحقه من خير أو شر .والجملة الكريمة صريحة في أن الله - تعالى - يحاسب العباد على نياتهم وما تكسبه قلوبهم سواء أأخفوه أم أظهروه .وقد بين المحققون من العلماء أن هذه المحاسبة إنم اتكون على ما يعزم عليه الإِنسان وينويه ويصر على فعله ، سواء أنفذ ما اعتزم عليه أم حالت دونه حوائل خارجة عن إرادته : كمن عزم على السرقة واتخذ الوسائل لذلك ولكن لم يستطع التنفيذ لأسباب لم يتمكن معها من السرقة التي أصر عليها .أما الخواطر النفسية التي تجول في النفس ، وتعرض للإِنسان دون أن يعزم على تنفيذها ، فإنها ليست موضع مؤاخذة ، بل إن التغلب عليها ، وكفها بعد مكافحتها يجعله أهلاً للثواب .ففي الحصحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله - تعالى - : إذا هم عبدى بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة ، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشر " .وروى الجماعة في كتبهم عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تجاوزوا لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم " .قال الفخر الرازي : الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين : فمنها ما يوطن الإِنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود ، ومنها ما لا يكون كذلك ، بل تكون أموراً خاطرة بالبال مع أن الإِنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس .فالقسم الأول يكون مؤاخذاً به .والثاني لا يكون مؤاخذاً به ، ألا ترى إلى قوله - تعالى - : ( لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) وقال الآلوسي : المؤاخذة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات ، وليس كذلك سائر ما يحدث في النفس - أي من خواطر لا تصميم ولا عزم معها - قال بعضهم :مراتب القصد خمس هاجس ذكروا ... فخاطر فحديث النفس فاستمعايليه هم فعزم كلها رفعت ... سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعاوقوله - تعالى - : ( فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ) بيان لنتيجة المحابة التي تكون من الخالق - عز وجل - لعباده .أي : أنه - سبحانه - بمقتضى علمه الشامل ، وإرادته النافذة ، يحاسب عباده على ما أسروه وما أعلنوه من أقوال وأعمال ، فيغفر بفضله لمن يشاء أو يغفر له ، ويعذب بعدله من يشاء أن يعذبه ، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه .وقوله : ( فيغفر ) ويعذب ، قرأه عاصم وابن عامر ويعقوب وأبو جعفر برفع الراء والباء على الاستئناف أي فهو يغفر : وقرأ الباقون بإسكانهما عطفاً على جواب الشرط وهو قوله : ( يُحَاسِبْكُمْ ) .وقوله : ( والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته - سبحانه - على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما سبق ذكره من المحاسبة لعباده ، وإثابة من يشاء إثابته وتعذيب من يشاء تعذيبه ، فهو القاهر فوق عباده ، وهو الحكيم الخبير .ثم ختم - سبحانه - سورة البقرة بآيتين كريمتين في أولاهما أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم امتداد للرسالات السماوية السباقة وخاتمة لها ومهيمنة عليها ، وبين في الثانية أنه - سبحانه - لم يكلف الناس إلا مبا في قدرتهم ، وأنهم سيحاسبون على أعمالهم ، وأن من شأن الأخيار أن يكثروا من التضرع إليه بخلاص الدعاء . قال - تعالى - :( آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ . . . )