🕋 تفسير سورة آل عمران
(Aal-E-Imran) • المصدر: AR-TAFSIR-AL-WASIT
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ الم
📘 افتتحت سورة آل عمران ببعض حروف التهجى وهو قوله - تعالى - : { الم } . .ويبلغ عدد السور القرآنية التى افتتحت بالحروف المقطعة تسعا عشرين سورة .وقد وقع خلاف بين العلماء فى المعنى المقصود من حروف التهجى التى افتتحت بها بعض السور القرآنية ويمكن إجمال اختلافهم فى رأيين رئيسيين :الرأى الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهى من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه .وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - فى إحدى الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبى ، وسفيان الثورى وغيرهما من العلماء ، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال : " إن لكل كتاب سراً ، وإن سر هذا القرآن فواتح السور " وروى عن ابن عباس أنه قال : " عجزت العلماء عن إدراكها " .وعن على بن أبى طالب أنه قال : " إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى " وفى رواية أخرى للشعبى أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه " .ومن الاعتراضات التى وجهت إلى هذا الرأى أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس؛ لأنه من المتشابه فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثله كمثل التكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها .وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإِفهام عنها عند كل الناس . فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد بها ، وكذلك بعض الصحابة المقربين ، ولكن الذى ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة فى أوائل بعض السور . وهناك مناقشات للعلماء حول هذا الرأى لا مجال لذكرها هنا .أما الرأى الثانى فيرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها معلوم . وأنها ليست من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه . وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم فى تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها :1- أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح " وبدليل اشتهار بعض السورة بالتسمية بها ، كسورة " ص " وسورة " يس " وسورة " ق " . . الخ .ولا يخلو هذا القول من ضعف لأنه لا يلزم من التسمية ببعضها أن تكون جميع الحروف المقطعة أسماء للسور التى بدئت بها ، ولأن كثيراً من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، فلو كانت أسماء للسور لم تتكرر لمعان مختلفة؛ لأن الغرض من التسمية رفع الاشتباه .2- وقيل : إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى .3- وقيل : إنها حروف مقطعة بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته ، فمثلا : { الم } أصلها أنا الله أعلم .4- وقيل : إنها اسم الله الأعظم . إلى غير ذلك من الأقوال التى لا تخلو من مقال ، والتى أوصلها السيوطى فى كتابه " الإِتقان " إلى أكثر من عشرين قولا .5- ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض سور القرآن على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن .فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك .ومما يشهد لصحة هذا الرأى : أن الآيات التى تلى هذه الحروف المقطعة تتحدث عن الكتاب المنزل ، وعن كونه معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم فى أغلب المواضع .وأنت ترى هذه الآيات كثيرا ما تتصدر صراحة باسم الإِشارة الذى يعود إلى القرآن كما فى قوله - تعالى - : (الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ ) أو ضمنا كما فى قوله - تعالى - : (المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ) وأيضا فإن هذه السور التى افتتحت بالحروف المقطعة إذا ما تأملتها من أولها إلى آخرها ترى من أهدافها الأساسية إثبات صحة الرسالة المحمدية عن طريق هذا الكتاب الذى جعله الله - تعالى - معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم .هذه خلاصة موجزة لآراء العلماء فى المراد بالحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع إلى ما كتبه العلماء فى هذا الموضوع .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ
📘 الوقود - بفتح الواو - هو ما توقد به النار كالحطب وغيره . وأصله من وقدت النار تقد إذا اشتعلت . والوقود - بضم الواو - المصدر عند أكثر اللغوين .والمعنى : إن الذين كفروا بالحق لما جاءهم ، وعموا وصموا عن الاستجابة له ، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم يوم القيامة ، ولن تدفع عنهم شيئا من عذاب الله الذي استحقوه بسبب كفرهم ، واغترارهم بكثرة المال ، وعزة النفر ، وقوة العصبية وقد أكد - سبحانه - هذا الحكم ردا على مزاعمهم الباطلة من أن ذلك سينفعهم فقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا : { نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } فبين - سبحانه - أنه بسبب كفرهم الذى أصروا عليه ، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم أي نفع من وقوع عذاب الله عليهم .ومن في قوله { مِّنَ الله } لابتداء الغاية و { شَيْئاً } منصوب على المصدرية . أي شيئا من الاغناء . أو النفع ، لأن الذى ينفع الناس يوم القيامة إنما هو إيمانهم وعملهم الصالح .والإشارة في قوله { وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } لأولئك الكافرين الذين غرهم بالله الغرور . أى : وأولئك الكافرون الذين اغتروا بأموالهم وأولادهم ولم يعيروا أسماعهم أي التفات إلى الحق هم وقود النار أي حطبها . أي أن النار يشتد اشتعالها فيهم حتى لكأنهم هم مادتها التي بها تتقد وتشتعل .وجىء بالإشارة في قوله { وأولئك } لاستحضارهم في الأذهان حتى لكأنهم بحيث يشار إليهم ، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيأتي من الخبر وهو قوله { هُمْ وَقُودُ النار } . وكانت الاشارة للبعيد ، للإشعار بغلوهم في الكفر ، وانغماسهم فيه إلى منتهاه ، ولذلك كانت العقوبة شديدة .وقوله { وأولئك } مبتدأ ، وهم ضمير فصل والخبر قوله : { وَقُودُ النار } والجملة مستأنفة مقررة لعدم الإغناء . وفي هذا التذييل تهديد شديد للكفار الذين اغتروا بأموالهم وأولادهم ببيان أن ما اغتروا به لن يحول بينهم وبين الخلود في النار .قال الفخر الرازي ما ملخصه : اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عن الإنسان كل ما كان منتفعا به . ثم يجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة .أما الأول فهو المراد بقوله { لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً } وذلك لأن المرء عند الخطوب والنوائب في الدنيا يفزع إلى المال والولد . فبين الله - تعالى - أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا . ونظير هذه الآية قوله - تعالى - { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وأما القسم الثاني من أسباب العذاب فهو أن يجتمع عليه الأسباب المؤلمة ، وإليه الإشارة بقوله : { وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } وهذا هو النهاية في العذاب ، فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ
📘 وبعد أن بين - سبحانه - فى هاتين الآيتين أن اليهود قد جمعوا الخستين ضلال أنفسهم ، ثم محاولتهم تضليل غيرهم ، تركهم مؤقتا فى طغيانهم يعمهون ، ووجه نداء إلى المؤمنين يحذرهم فيه من دسائس اليهود وكيدهم ، وينهاهم عن الركون إليهم ، والاستماع إلى مكرهم فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } .والمعنى : إنكم أيها المؤمنون إن استمعتم إلى ما يلقيه بعض أهل الكتاب بينكم من دسائس ولنتم لهم ، لا يكتفون بإيقاع العداوة بينكم كما فى الجاهلية ، بل يتجاوزون ذلك إلى محاولتهم إعادتكم إلى وثنيتكم القديمة وكفركم بالله بعد إيمانكم .وقد خاطب الله المؤمنين بذاته فى هذه الآية بعد أن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخاطب أهل الكتاب فى الآيتين السابقتين ، إظهارا لجلالة قدرهم ، وأشعارا بأنهم الأحقاء بالمخاطبة من الله - تعالى - .وناداهم بصفة الإيمان لتحريك حرارة العقيدة فى قلوبهم وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإيمان من فطنة ويقظة فالمؤمن ليس خبا ولكن لاخب لا يخدعه .وفى التعبير " بأن " فى قوله : { إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً } إشارة إلى أن طاعتهم لليهود ليست متوقعة ، لأن إيمانهم يمنعهم من ذلك .ووصف - سبحانه - الذين يحاولون الوقيعة بين المؤمنين بأنهم فريق من الذين أوتوا الكتاب ، إنصافا لمن لم يفعل ذلك منهم .ونعتهم بأنهم { أُوتُواْ الكتاب } للإشعار بأن تضليلهم ، متعمد وبأن تآمرهم على المؤمنين مقصود ، فهم أهل كتاب وعلم ، ولكنهم استعملوا عملهم فى الشرور والآثام .وقوله : { يَرُدُّوكُم } أصل الرد الصرف والإرجاع ، إلا أنه هنا مستعار لتغير الحال بعد المخالطة فيفيد معنى التصيير كقول الشاعر :فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سوداًأى : يصيروكم بعد إيمانكم كافرين : والكاف مفعوله الأول وكافرين مفعوله الثاني .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى آية آخرى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق } ثم بين القرآن بعد ذلك أنه ما يسوغ للمؤمنين أن يطيعوا هذا الفريق من الذين أوتوا الكتاب ، أو أ ، يكفروا بعد إيمانهم ، أو أن يتفرقوا بعد وحدتهم فقال - تعالى - :
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
📘 { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } ، الاستفهام فى قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } للانكار ، ولاستبعاد كفرهم فى حال اجتمع لهم فيها كل الأسباب الداعية إلى الإيمان .أى : كيف يتصور منكم الكفر ، أو يسوغ لكم أن تسيروا فى أسبابه وآيات الله تقرا على مسامعكم غضة طرية صباح مساء ، ورسول الله صلى الله عليكم وسلم بين ظهرانيكم ، يردكم إلى الصواب إن أخطأتم ، ويزيح شبهكم إن التبس عليكم أمر .وفى هذا ما يومىء إلى إلقاء اليأس فى قلوب هذا الفريق من اليهود من أن يصلوا إلى ما يبغونه بين المؤمنين فى وقت يذكر النبى صلى الله عليه وسلم المؤمنين بما ينفعهم؛ ويحذرهم مما يؤذيهم ويضرهم .وفى توجيه الإنكار والاستبعاد إلى كيفية الكفر مبالغة ، لأن كل موجود لا بد أن يكون وجوده على حال من الأحوال ، فإذا أنكر ونفى فى جميع الأحوال انتفى وجوده بالكلية بالطريق البرهانى .وقوله : { وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } جملتان حاليتان من فاعل { تَكْفُرُونَ } وهو ضمير الجماعة . وهاتان الجملتان هما محط الانكار والاستبعاد .أى أن كلا تلاوة آيات الله وإقامة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم ، وازع لهم عن الكفر ، ودافع لهم إلى التمسك بعرى الإيمان .ففى الآية الكريمة دلالة على عظمة قدر الصحابة ، وأن لهم وازعين عن مواقعة الضلال : سماع القرآن ، ومشاهدة أنوار الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن وجوده عصمة من ضلالهم .قال قتادة : أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مضى إلى رحمة الله ، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر .ثم أرشد الله - تعالى - المؤمنين إلى الوسيلة التى متى تمسكوا بها عصموا أنفسهم من مكر اليهود فقال - تعالى - { وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .أى ومن يتلجىء إلى الله فى كل أحواله ويتوكل عليه حق التوكل ، ويتمسك بدينه ، فقد هدى إلى الطريق الذى لا عوج فيه ولا انحراف .وفى هذا إشارة إلى أن التمسك بدين الله وبكتابه كفيل بأن يبعد المسلمين الذين لم يشاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم عما يبيته لهم أعداؤهم من مكر وخداع .قال ابن جرير ما ملخصه : وأصل العصم : المنع ، فكل مانع شيئاً فهو عاصمه ، والممتنع به معتصم به ولذلك قيل للحبل : عصام ، وللسبب الذى يتسبب به الرجل إلى حاجته عصام ، وأفصح اللغتين : إدخال الباء كما قال - عز وجل - { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً } وقد جاء ثم أمر الله - تعالى - المؤمنين بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات ، فقال - تعالى -
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
📘 { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } .وقوله { حَقَّ تُقَاتِهِ } التقاة مصدر وهو من باب إضافة الصفة غلى موضوفها إذ الأصل : اتقوا الله التقاة الحق .أى : الثابتة ، كقولك ضربت زيدا أشد الضرب تريد الضرب الشديد وقيل التقاة اسم مصدر من اتقى كالتؤدة من اتأد .والمعنى " بالغو أيها المؤمنون فى التمسك بتقوى الله ومراقبته وخشيته حتى لا تتركوا منها شيئاً ولا تكونن على ملة سوى ملة الإسلام إذا أردككم الموت ، وإنما عليكم أن تستمروا على دينكم القويم حتى يأتيكم الأجل الذى لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون .وقد ساق ابن كثير بعض الآثار الى وردت عن بعض السلف فى تفسير هذه الآية الكريمة فمن ذلك ما روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال فى معنى الآية { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } : أن يطاع فلا يُعصى . وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يُشكر فلا يُكفر " .وروى عن أنس أنه قال : لا يتقى الله العبد حق تقاته حتى يُخزن لسانه .وقوله { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } هو نهى فى لصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة والمراد دوامهم على الإسلام وذلك أن الموت لا بد منه فكأنه قيل : داوموا على الإسلام إلى أن يدرككم الموت فتموتوا على هذه الملة السمحاء وهى ملة الإسلام ، لكى تفوزوا برضا الله وحسن ثوابه .والجملة الكريمة فى محل نصب على الحال من ضمير الجماعة فى { اتقوا } .والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال : أى لا تموتن على حالة من الأحوال إلى على هذه الحالة الحسنة التى هى حالة المداومة على التمسك بالإسلام وتعاليمه وآدابه .وقال صاحب الكشاف : قوله { وَلاَ تَمُوتُنَّ } معناه ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت ، وذلك كأن تقول لمن تستعين به على لقاء العدو : لا تأتنى إلا وأنت على حصان ، فأنت لا تنهاه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التى شرطت عليه فى وقت الإتيان " .
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
📘 وبعد أن أمرهم - سبحانه - بمداومة خشيته ، والاستمرار على دينه أتبع ذلك بأمرهم بالاعتصام بدينه وبكتابه فقال - تعالى - { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } .فهذه الآية الكريمة تأكيد لما اشتملت عليه سابقتها من مداومة التقوى والطاعة لله رب العالمين .والاعتصام : افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أى يمنع من السقوط والوقوع .وأصل الحبل : ما يشد به للارتقاء أو التدلى أو للنجاة من غرق أو نحوه ، أو للوصول إلى شىء معين .والمراد بحبل الله هنا : دينه ، أو عهده ، أو كتابه ، لأن التمسك بهذه الأشياء يوصل إلى النجاة والفلاح .والمعنى : كونوا جميعا مستمسكين بكتاب الله وبدينه وبعهوده ، ولا تتفرقوا كما كان شأنكم فى الجاهلية بضرب بعضكم رقاب بعض ، بل عليكم أن تجتمعوا على طاعة الله وأن تكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا . وبذلك تفوزون وتسعدون وتنتصرون على أعدائكم .ففى الجملة الكريمة استعارة تمثيلية حيث شبه - سبحانه - الحالة الحاصلة من تمسك المؤمنين بدينه وبكتابه وبعهوده وبوحدة كلمتهم ، بالحالة الحاصلة من تمسك جماعة بحبل وثيق مأمون الانقطاع ألقى إليهم من منقذ لهم من غرق أو سقوط أو نحوهما .وإضافة الحبل إلى الله - تعالى - قرينة على هذا التمثيل .وقوله { جَمِيعاً } حال من ضمير الجماعة فى قوله { واعتصموا } .فالجملة الكريمة تأمر المسلمين جميعا أن يعتصموا بعهود الله وبدينه . وبكتابه ، وأن يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وأن ينبذوا التفرق والاختلاف الذى يؤدى إلى ضعفهم وفشلهم .قال الفخر الرازى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : واعلم أن كل من يمشى على طريق دقيق يخاف أن ينزلق رجله ، فإنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبى ذلك الطريق أمن من الخوف . ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق ، وقد انزلقت أرجل كثيرة من الخلق عنه ، فمن اعتصم بدلائل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف فكان المراد من الحبل هنا : كل شىء يمكن التوصل به إلى الحق فى طريق الدين ، وهو أنواع كثيرة فمنهم من قال المراد به عهد الله . . ومنهم من قال المراد به القرآن ، فقد جاء فى الحديث " هو حبل الله المتين " ومنهم من قال المراد به طاعة الله . . . وهذه الأقوال كلها متقاربة والتحقيق ما ذكرنا من أنه لما كان النازل فى البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط فى جهنم ، جعل ذلك حبلا لله وأمروا بالاعتصام به . ثم أمرهم - سبحانه - بتذكر نعم الله عليهم فقال : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } .قوله { شَفَا حُفْرَةٍ } الشفا طرف الشىء وحرفه مثل شفا البئر ، وشفا الحفرة ومنه يقال : فلان أشفى على الشىء إذا اشرف عليه ، كأنه بلغ شفاه أى حده وحرفه .والمعنى : واذكروا أيها المؤمنون وتنبهوا بعقولكم وقلوبكم إلى نعمة الله علكم بتأليف نفوسكم ورأب صدوعكم ، فقد كنتم فى الجاهلية أعداء متقاتلين متنازعين ، فألف بين قلوبكم بأخوة الإسلام فاصبحتم متحابين متناصحين متوادين وكنتم على وشك الوقوع فى النار بسبب اخلافكم وضلالكم فمن الله عليكم وأنقذكم من التردى فيها بهدايتكم إلى الحق عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أرسله ربه رحمة للعالمين . إذا فمن الواجب عليكم وفاء لهذه النعم أن تشكروا الله عليها وأن تطيعوا رسولكم صلى الله عليه وسلم وأن تتمسكوا بعرى المحبة والمودة والأخوة فيما بينكم .قال ابن كثير : قوله - تعالى - { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً } .. إلخ . هذا السياق فى شأن الأوس والخزرج ، فإنه كان بينهم حروب كثيرة فى الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم ، والوقائع بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام . فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله ، متواصلين فى ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها إذ هداهم للإيمان وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين ، فعتب من عتب منهم بما فضل عليهم فى القسمة بما رآه ، فخطبهم فقال يا معشر الأنصار ، الم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى ، وكنتم متفرقين فالفكم الله بى ، وعالة فأغناكم الله بى؟ فكانوا كلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله آَمَنّ " .وفى هذه الاية الكريمة تصوير بديع مؤثر لحالة المسلمين قبل الإسلام وحالتهم بعد الإسلام .فقد صورة - سبحانه - حالهم وترديهم فى الكفر والاختلاف والتقاتل قبل أن يدخلوا فى الإسلام بحال من يكون على حافة حفرة من النار يوشك أن يقع فيها .وصور هدايته لهم إلى سبيل الحق والمحبة والإخاء بدخولهم فى الإسلام عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم بحالة من يبعد غيره عن التردى فى النار وينقذه من الوقوع فيها .قال صاحب الكشاف : " والضمير المجرور فى قوله { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } يعود للحفرة أو للنار أو للشفا ، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة - فاكتسب التأنيث من المضاف إليه - كما قال : كما شرقت صدر القناة من الدم . . . وشفا الحفرة وشفتها : حرفها بالتذكير والتأنيث .فإن قلت : كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟ قلت : لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار " فمثلت حياتهم التى يتوقع بعدها الوقوع فى النار بالقعود على حرفها ، مشفين - أى مشرفين - على الوقوع فيها " .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .أى كهذا البيان الواضح الذى سمعتموه فى هذه الآيات ، يبين الله لكم دائما من آياته ودلائله وحججه ما يسعدكم فى الدنيا والآخرة ، و ما يأخذ بيدكم إلى وسائل الهداية وأسبابها ، رجاء أن تكونوا ممن رضى الله عنهم وأرضاهم بسبب اهتدائهم إلى الصراط المستقيم .
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
📘 وبعد أن أمرهم - سبحانه - بتكميل أنفسهم عن طريق خشيته وتقواه والاعتصام بدينه وبكتابه ، عقب ذلك بأمرهم بالعمل على تكميل غيرهم وإصلاح شأنه عن طريق دعوته إلى الخير وإبعاده عن الشر فقال - تعالى - :{ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } .الأمة : الجماعة التى تؤم وتقصد لأمر ما وتطلق على أتباع الأنبياء كما تقول : نحن من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى الرجل الجامع للخير الذى يقتدى به كقوله - تعالى -{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } وعلى الدين والملة كقوله - تعالى - { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ } وعلى الحين والزمان كقوله - تعالى - : { وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } والمراد بالأمة هنا الطائفة من الناس التى تصلح لمباشرة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .والمراد بالخير ما فيه صلاح للناس دينى أو دنيوى .والمراد بالمعروف ما حسنه الشرع وتعارف العقلاء على حسنه والمنكر ضد ذلك .والمعنى : ولتكن منكم أيها المؤمنون طائفة قوية الإيمان عظيمة الإخلاص ، تبذلى أقصى طاقتها وجهدها فى الدعوة إلى الخير الذي يصلح من شأن الناس ، وفى أمرهم بالتمسك بالتعاليم وبالأخلاق التى توافق الكتاب والسنة والعقول السليمة ، وفى نهيهم عن المنكر الذى يأباه شرع الله ، وتنفر منه الطباع الحسنة .وقوله : { وَلْتَكُن } صيغة وجوب من الله - تعالى - على كل من يصلح لمهمة الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .وتكن إما من كان التامة أى : ولتوجد منكم أمة . فيكون قوله : { أُمَّةٌ } فاعلا لتكن وجملة { يَدْعُونَ } صفة لأمة ، و { مِّنْكُمْ } متعلق بتكن .وإما من كان الناقصة فيكون قوله : { أُمَّةٌ } اسمها ، وجملة { يَدْعُونَ } صفة لأمة ، و { مِّنْكُمْ } متعلق بكان الناقصة ، أو بمحذوف وقع حالا من أمة .و { مِّنْ } فى قوله - تعالى - { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } يرى أكثر العلماء أنها للتبعيض .أى : ليكن بعض منكم أمة أى طائفة تبذل جهدها فى تبليغ رسالات الله وفى دعوة الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر .وفى هذا التبعيض وتنكير أمة تنبيه على قلة العاملين بذلك وأنه لا يخاطب به إلا الخواص . ومن هذا الأسلوب قوله - تعالى - : { اتقوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } فقد وجه الخطاب إلى نفس منكرة تنبيها على قلة الناظر فى معاده .وعلى هذا فكأن الآية الكريمة قد اشتملت على طلبين :أحدهما : وجه إلى الأمة كلها يطالبها بأن تعد طائفة من بينها لهذه المهمة السامية وهى دعوة الناس إلى الخير وأن تزود هذه الطائفة الصالحة لهذه المهمة بكل ما يمكنها من أداء مهمتها .وثانيهما : موجه إلى تلك الطائفة الصالحة لهذه المهمة ، بأن تخلص فيها ، وتؤديها على الوجه الأكمل الذى يرضى الله - تعالى - .ويرى بعض العلماء أن " من " فى قوله - تعالى - { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } بيانية .فيكون المعنى أن الأمة كلها عليها واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا على سبيل الفرض الكفائى ، بل على سبيل الفرض العينى .أى : لتكونوا أيها المؤمنون جميعا أمة تدعون إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فمن هنا ليس المراد بها التبعيض على هذا الرأى بل المراد بها البيان ، وذلك كقولك : لفلان من أولاده جند ، وللأمير ن غلمانه عسكر ، تريد بذلك جميع أولاجه وغلمانه .ويبدو لنا أن الرأى الأول وهو أن " من " للتبعيض أقرب إلى الصواب ، لأن الأمة كلها برجالها ونسائها وشبابها وشيوخها لا تصلح لهذه المهمة السامية ، وإنما يصلح لها من يجيدها ويحسنها بأن تكون عنده القدرة العقلية ، والعلمية ، والنفسية ، والخلقية ، لأدائها .ولذا قال صاحب الكشاف مرجحا أن " من " للتبعيض : قوله : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } من للتبعيض ، لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفايات ، لأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر ، وعلم كيف يرتب الأمر فى إقامته وكيف يباشره فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر ، وربما عرف الحكم فى مذهبه وجهله فى مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر . وقد يغلظ في موضع اللين ، ويلين فى موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا ، أو على من الإنكار عليه عبث .وقيل " من " للتبيين ، بمعنى : وكونوا أمة تأمرون ، كقوله - تعالى - { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } وقوله - تعالى - { وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } معطوف على قوله : { يَدْعُونَ إِلَى الخير } من باب عطف الخاص على العام .وفائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا على هذين الوجهين وهما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، لأنهما أشرف ألوان الدعوة إلى الخير .وقوله : { يَدْعُونَ إِلَى الخير } المفعول فيه محذوف وكذلك فى قوله : " يأمرون وينهون " والتقدير يدعون الناس إلى الخير ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر .وحذف المفعول للإيذان بظهوره . أو للقصد إلى إيجاد نفس الفعل . أى يفعلون الدعاء إلى الخير ، أو لقصد التعميم أى يدعون كل من تتأتى له الدعوة .وقد ختم - سبحانه - الآية الكريمة بتبشير هؤلاء الداعين إلى الخير بالفلاح فقال { وأولئك هُمُ المفلحون } والفلاح هو الظفر وإدراك البغية .أى : وأولئك القائمون بواجب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هم الكاملون في الفلاح والنجاح ، ولا يمكن أن يفلح سواهم ممن لم يقم بهذا الواجب الذى هو مناط عزة الجماعات والأفراد ، وأساس رفعتهم وقوتهم وسعادتهم .قال بعض العلماء : فى الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة ، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة ، وأصل عظيم من أصولها ، وركن مشيد من أركانها ، وبه يرتفع سنامها ويكمل نظامها .وقال الإمام الغزالى : فى هذه الآية بيان الإيجاب . فإن قوله : { وَلْتَكُن } أمر . وظاهر الأمر الإيجاب ، وفيها بيان أن الفلاح منوط به . إذ حصر وقال : { وأولئك هُمُ المفلحون } وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين وأنه إذا قام به البعض سقط الفرض عن الآخرين ، إذ لم يقل كونوا كلكم آمرين بالمعروف ، بل قال : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } وإن تقاعد عنه الخلق جميعا عم الإثم كافة القادرين عليه لا محالة .هذا وقد وردت أحاديث متعددة فى فضل الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وفى بيان العاقبة السيئة التى تترتب على ترك هذا الواجب ، ومن ذلك :ما رواه مسلم والترمذى وابن ماجة النسائي عن أبى سعيد الخدرى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " .وروى الترمذى عن جابر بن عبد الله عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فامره ونهاه فقتله " .وروى الشيخان عن جرير بن عبد الله قال : بايعت النبى صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقننى فيما استطعت والنصح لكل مسلم .وروى أبو داود والترمذى وابن ماجه والنسائى عن أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - قال : ياأيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " .
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
📘 وبعد أن أمر الله - تعالى - بالمواظبة على الدعوة إلى الخير ، عقب ذلك بنهيهم عن التفرق والاختلاف فقال : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات } .أى : ولا تكونوا أيها المؤمنون كأولئك اليهود والنصارى وغيرهم من الذين تفرقوا شيعا وأحزابا ، وصار { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } واختلفوا فيما بينهم اختلافا شنيعا ، وقد ترتب على ذلك أن كفر بعضهم بعضا ، وقاتل بعضهم بعضا ، وزعم كل فريق منهم أنه على الحق وغيره على الباطل ، وأنه هو وحده الذى يستطيع أن يدرك ما في الكتب السماوية من حقائق ، وهو وحده الذى يستطيع تفسيرها تفسيرا سليما .ولقد كان تفرقهم هذا واختلافهم { مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات } أى الآيات والحجج والبراهين الدالة على الحق ، والداعية إلى الاتحاد والوئام لا إلى التفرق والاختلاف .وقوله : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ } معطوف على قوله { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ } ويرجع إلى قوله من قبل واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } لما فيه من تمثيل حال التفرق فى أبشع صوره المعروفة لديهم من مطالعة أحوال اليهود وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يفضى إلى التفرق والاختلاف إذ يترتب على هذا الترك أن تكثر المنازعات والأهواء والمظالم ، وتنشق الأمة بسبب ذلك انشقاقا شديدا .والمقصود بهذا النهى إنما هو التفرق والاختلاف فى أصول الدين وأسسه ، أما الفروع التى لا يصادم الخلاف فيها نصا صحيحا من نصوص الدين فلا تندرج تحت هذا النهى ، فنحن نرى أن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم والتابعين من بعدهم قد اختلفوا فيما بينهم فى بعض المسائل التى لا تخالف نصا صحيحا من نصوص الشريعة وتأولها كل واحد أو كل فريق منهم على حسب فهمه الذى أداه إليه اجتهاده .ومن الأحاديث التى ذمت الاختلاف فى الدين ما رواه أبو داود والإمام أحمد عن أبى عامر عبد الله بن يحيى قال : " حججنا مع معاوية بن أبى سفيان ، فلما قدمنا مكة قام حين صلى الظهر فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أهل الكتابين افترقوا فى دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه المة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعنى الأهواء - كلها فى النار إلا واحدة - وهي الجماعة - وأنه سيخرج فى أمتى أقوام تجارى بهم تلك الأهواء ، كما يتجارى الكلب بصاحبه . لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاءكم به نبيكم - صلى الله عليه وسلم - لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به " .ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان سوء عاقبة المتفرقين ، والمختلفين فى الحق فقال { وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أى وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الذميمة لهم عذاب عظيم بسبب تفرقهم واختلافهم الباطل .فأنت ترى أن القرآن الكريم قد نهى المؤمنين عن التفرق والاختلاف بأبلغى تعبير وألطف إشارة ، وذلك بأن بين لهم حسن عاقبة المعتصمين بحبل الله دون أن يتفرقوا ، وما بشر به - سبحانه - المواظبين على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من أنهم هم المفلحون الفائزون .ثم بين لهم بعد ذلك سوء عاقبة التفرقة والاختلاف الذى وقع فيه من سبقهم من اليهود والنصارى وكيف أنه ترتب على تفرقهم واختلافهم أن كفر بعضهم بعضا . وقاتل بعضهم بعضا ، ورمى بعضهم بعضا بالزيغ والضلال .هذا فى الدنيا ، أما في الآخرة فلهؤلاء المتفرقين والمختلفين العذاب العظيم من الله - تعالى - فالقرىن قد أتى بالأوامر ومعها الأسباب التى تدعو إلى الاستجابة لها ، وأتى بالنواهي ومعها كذلك الأسباب التى تحمل على البعد عنها .وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت مسلكا من مسالك اليهود الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين ، ووبختهم على ذلك توبيخا موجعا ، وفضحتهم على مر العصور والدهور ، وحذرت المؤمنين من شرورهم ، وأرشدتهم إلى ما يعصمهم من كيدهم . وذكرتهم بنعم الله الجليلة عليهم ، وأمرتهم بالمواظبة على الدعوة إلى الخير . ونهتهم عن التفرق والاختلاف لكى يسعدوا فى دينهم ودنياهم .
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
📘 ثم حذر الله - تعالى - الناس من أهوال يوم القيامة ، وأمرهم بأن يتسلحوا بالإيمان وبالعمل الصالح حتى ينجوا من عذابه فقال : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ . . . } .قوله - تعالى - { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } : بياض الوجوه وسوادها محمولان على الحقيقة عن جمهور العلماء . وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولا دليل يوجب ترك هذه الحقيقة فوجب الحمل على ذلك .قال الآلوسى : قال بعضهم يوسم أهل الحق ببياض الوجه وإشراق البشرة تشريفاً لهم وإظهارا لآثار أعمالهم فى ذلك الجمع . ويوسم أهل الباطل بضد ذلك .والظاهر أن الابيضاض والأسوداد يكونان لجميع الجسد إلا أنهما أسندا للوجوه؛ لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه ، وهو أشرف أعضائه واختلف فى وقت ذلك فقيل : وقت البعث من القبور وقيل وقت قراءة الصحف " .ويرى بعض العلماء أن بياض الوجوه هنا المراد منه لازمه وهو الفرح والسرور ، كما أن سوادها المراد منه لازمه أيضاً وهو الحون والغم وعليه يكون التعبير القرآنى محمولا على المجاز لا على الحقيقة .قال الفخر الرازى ما ملخصه : وهذا مجاز مشهور قال - تعالى - { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } ويقال : لفلان عندى يد بيضاء وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه : ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل . . ويقال من وصل إليه مكروه : أربَدّ وجهه واغبر لونه وتبدلت صورته . . . وعلى هذا فمعنى الآية : أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه ، فإن رأى ما يسره ابيض وجهه بمعنى أنه استبشر بنعم الله وفضله ، وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة عليه اسود وجهه بمعنى أنه يشتد حزنه وغمه " .والظرف " يوم " فى قوله { يَوْمَ تَبْيَضُّ } إلخ منصوب على أنه مفعول به بفعل محذوف والتقدير : اذكر يوم تبيض وجوه وتسود وجوه والمراد الاعتبار والاتعاظ ويجوز أن يكون العامل فيه قوله { عَظِيمٌ } فى قوله قبل ذلك { وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . أى أولئك الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات لهم عذاب فى هذا اليوم الهائل الشديد الذي تبيض فيه وجوه المؤمنين وتسود فيه وجوه الكافرين والفاسقين .وفى وصف هذا اليوم بأنه تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه تهويل لأمره . وتعظيم لشأنه وتشويق لما يرد بعد ذلك من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضة وأصحاب الوجوه المسودة ، وترغيب للمؤمنين فى الإكثار من التزود بالعمل الصاحل وترهيب للكافرين من التمادى فى كفرهم وضلالهم .والتنكير فى قوله { وُجُوهٌ } للتكثير . أى تبيض وجوه عدد كثير من المؤمنين وتسود وجوه كثيرة للكافرين .وشيبه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } وقوله - تعالى - { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } قال صاحب الكشاف : " البياض من النور والسواد من الظلمة .فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته ، واشرقت ، وسعى النور بين يديه وبيمينه . ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده ، واسودت صحيفته وأظلمت وأحاطت به الظلمة من كل جانب . نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمة الباطل وأهله " .ثم بين - سبحانه - حال الذين اسودت وجوههم وسوء عاقبتهم فقال : { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ } بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة فيقال لهم { أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } وحذف هذا القول المقدر والذى هو جواب إما لدلالة الكلام عليه ، ومثله كثير فى القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } أي قائلين ربنا أبصرنا وسمعنا وقوله تعالى - { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } أي قائلين لهم : سلام عليكم .والاستفهام في قوله : { أَكْفَرْتُمْ } للتوبيخ والتعجب من حالهم .قال الآلوسى والظاهر من السياق أن هؤلاء هم أهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم ، هو كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان به قبل مبعثه . وقيل هم جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم من الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم على أنفسهم { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } ويحتمل أن يراد بالإيمان الإيمان بالقوة والفطرة ، وكفر جميع الكفار كان بعد هذا الإيمان؛ لتمكنهم بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة من الإيمان بالله - تعالى - ، وبرسوله صلى الله عليه وسلم " .وقوله { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } أى فادخلوا جهنم وذوقوا مرارة العذاب وآلامه بسبب استمراركم على الكفر وموتكم عليه .والأمر فى قوله { فَذُوقُواْ } للإهانة والإذلال ، وهو من باب الاستعارة فى { فَذُوقُواْ } استعارة تبعية تخييلية . وفى العذاب استعارة مكنية : حيث شبه العذاب بشىء يدرك بحاسة الأكل والذوق تصويراً له بصورة ما يذاق ، وأثبت له الذوق تخييلا - وهو قرينة المكنية .وأل فى العذاب للعهد أى فذوقوا العذاب المعهود الموصوف بالعظم ، والذى سبق أن حذركم الله - تعالى - منه ، ولكنكم لم تعيروا التحذير انتباها ، بل تماديتم فى كفركم وضلالكم حتى أدرككم الموت وأنتم على هذه الحال الشنيعة .
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - حال الذين ابيضت وجوههم وحسن عاقبتهم فقال : { وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ } ببركة إيمانهم وعملهم الصاحل { فَفِي رَحْمَةِ الله } أى ففى جنته . والتعبير عن الجنة بالرحمة من باب التعبير بالحال عن المحل فتكون الظرفية حقيقة . وإذا أريد برحمة الله ثوابه وجزاؤه تكون الظرفية مجازية .وفى التعبير عن الجنة بالرحمة إشعار بأن دخولها إنما هو بمحض فضل الله - تعالى - فهو - سبحانه - المالك لكل شىء ، والخالق لكل شىء .وقوله { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } بيان لما خصهم الله - تعالى - من خلود فى هذا النعيم الذى لا يحد بحد ، ولا يرسم برسم ، ولا تبلغ العقول مداه . أى هم فى الرحمة باقون دائمون فقد أعطاهم الله - تعالى - عطاء غير مجذوذ .وقد بدأ - سبحانه - كلامه عن الفريقين بالذين ابيضت وجوههم ثم قدم الحديث عن حال الذين اسودت وجوههم على الذين ابيضت وجوههم ، ليكون ابتداء الكلام واختتامه عن هؤلاء السعداء بما يسر القلب ويشرح الصدر ويغرى الناس بالتمسك بعرى الإيمان وبالإكثار من العمل الصالح الذي يوصلهم إلى رحمة الله ورضاه .ووصف - سبحانه - الذين ابيضت وجوههم بأنهم خالدون فى رحمته ، ولم يصف الذين اسودت وجوههم بالخلود فى العذاب للتصريح فى غير هذا الموضع بخلودهم فى هذا العذاب كما فى قوله - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أولئك هُمْ شَرُّ البرية } وللإشعار بأن باب رحمته - سبحانه - مفتوح أمام هؤلاء الضالين فعليهم أن يثوبوا إلى رشدهم ، وأن يقلعوا عن الكفر إلى الإيمان والعمل الصالح حتى ينجوا من عذاب الله وسخطه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه .
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۗ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ
📘 وبعد أن أفاض - سبحانه - فى الحديث عن أحوال السعداء وأحوال الأشقياء وعن رذائل الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم ممن أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وبعد أن ساق - سبحانه - من التوجيهات الحكيمة ، والإرشادات النافعة ما يشفى الصدور ويهدى النفوس ، بعد كل ذلك ، خاطب - سبحانه - نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :{ تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } .والمراد بالآيات ما سبق ذكره فى هذه السورة وغيرها من آيات قرآنية تهدى إلى الرشد وتشهد بوحدانية الله - تعالى - وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه .وكانت الإشارة بتلك الدالة على البعد للإشعار بعلو شأن هذه الآيات وسمو منزلتها وعظم قدرها .ومعنى { نَتْلُوهَا } نقرؤها عليك يا محمد شيئاً فشيئاً قراءة واضحة جلية لتبلغها للناس على مكث وتدبر وروية .وأسند - سبحانه - التلاوة إليه مع أن التالى فى الحقيقة جبريل - عليه السلام - للتنيه على شرف هذه الآيات المتلوة ، ولأن تلاوة جبريل إنما هي بأمر منه - سبحانه - .وقال - سبحانه - { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا } فأظهر لفظ الجلالة ولم يقل تلك آياتنا نتلوها ، ليكون التصريح باسمه - سبحانه - مربيا فى النفوس المهابة والإجلال له ، إذ هو المستحق وحده لوصف الألوهية فلا إله سواه ولا معبود بحق غيره ، وهو ذو الجلال والإكرام ، وهو المنشىء الموجد لهذا الكون وما فيه ومن فيه .فالتصريح باسمه - تعالى - يزيد البيان جلالا ويبعث فى النفوس الخشيية والمراقبة والبعد عما يوجب العقاب والإقبال على ما يوصل إلى الثواب .وقوله { بالحق } في موضع الحال المؤكدة من الفاعل أو المفعول .أى نتلوها عليك متلبسة بالحق أو متلبسين بالصدق أو العدل فى كل ما دلت عليه هذه الايات ونطقت به ، مما لا تختلف فيه العقول السليمة ، والمدارك القويمةوقوله - تعالى - { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } نفى للظلم بأبلغ وجه فإنه - سبحانه - لم ينف فقط الظلم عن ذاته بل نفى عن ذاته إرادة الظلم إذ هو أمر يليق به - سبحانه - ولا يتصور وقوعه منه .وكيف يريد الظلم من منح هذا العالم كله الوجود ، وخلق هذا الكون برحمته وقدرته وعدله؟ والظلم - كما يقول الراغب - وضع الشىء فى غير موضعه المختص به إما بزيادة أو بنقصان وإما بعدول عن وقته ومكانه ، ومن هذا يقال : ظلمت السقاء إذا تناولته فى غير وقته ، وظلمت الأرض إذا حفرتها ولم تكن موضعاً للحفر .وقال بعض الحكماء : الظلم ثلاثة أنواع :الأول : ظلم بين الإنسان وبين الله - تعالى - وأعظمه الكفر والشرك والنفاق وإياه قصد - سبحانه - بقوله : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } والثانى : ظلم بينه وبين الناس وإياه قصد بقوله : { إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس } والثالث : ظلم بينه وبين نفسه وإياه قصد بقوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } والظلم الذى نفى إرادته - سبحانه - عن ذاته عام لا يخص نوعا دون نوع ، إذ من المعروف عند علماء اللغة أن النكرة فى سياق النفى تعم ، وهنا جاء لفظ الظلم منكراً فى سياق النفى وهو ما .قال الجمل واللام فى قوله { لِّلْعَالَمِينَ } زائدة لا تعلق لها بشىء زيدت فى مفعول المصدر وهو " ظلم " والفاعل محذوف . وهو فى التقدير ضمير البارىء - سبحانه - والمعنى ما الله يريد أن يظلم العالمين ، فزيدت اللام تقوية للعامل كقوله { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
📘 ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أنهو هو المالك لكل شىء وأنه هو وحده الذى إليه تصير الأمور فقال : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أى له - سبحانه - وحده ما فيهما من المخلوقات ملكا وخلقا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وإماتة وإثابة وتعذيباً .{ وإلى الله تُرْجَعُ الأمور } أى إلى حكمه وقضائه تعود أمور الناس وشئونهم فيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى ، لأنه - سبحانه - منه المبدأ وإليه المآب فيجازى كل إنسان على حسب اعتقاده وعمله بدون ظلم أو محاباة .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حذرت الناس من أهوال يوم القيامة الذى تبيض فيه وجوه وتسود وجوه وبينت السباب التى أدت إلى فوز من فاز وإلى شقاء من شقى ، ونوهت بشأن الآيات التى أنزلها الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم لتكون هداية للناس وصرحت بأن الله - تعالى - هو الخالق لكل شىء وإليه مرجع الأمور ومصيرها فيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب .وبعد أن أمر الله - تعالى - المؤمنين بالدعوة إلى الخير ونهاهم عن التفرق والاختلاف المفضى إلى العذاب العظيم يوم القيامة ، وبين لهم أن مصير الأمور إليه بعد كل ذلك ساق لهم ما يقوى إيمانهم ويثبت يقينهم ، بأن برهم بحسن العقبى متى استقاموا على أمره ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وأنذر الكافرين من أهل الكتاب بالهزيمة فى الدنيا ، وبغضب الله - تعالى - فى الآخرة فقال - تعالى - : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ . . . } .
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
📘 ثم بين - سبحانه - أن حال الكافرين بالحق الذي جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم كحال الذين سبقوهم في الجحود والعناد فقال - تعالى - : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ } .الدأب : أصله الدوام والاستمرار . يقال : دأب على كذا يداب دأباً ودأباً ودءوباً ، إذا داوم عليه وجد فيه وتعب . ثم غلب استعماله في الحال والشان والعادة ، لأن من يستمر في عمل أمدا طويلا يصير عادة من عاداته ، وحالا من أحواله فهو من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم .وآل فرعون : هم أعوانه ونصراؤه وأشياعه الذين استحبوا العمى على الهدى واستمروا على النفاق والضلال حتى صار ديدنا لهم .قال الراغب : " والآل مقلوب عن الأهل . ويصغر على أهيل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة . يقال آل فلان ولا يقال آل رجل . . . ولا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الأشرف والأفضل ، فيقال آل الله وآل السلطان ، والأهل يضاف إلى الكل فيقال أهل الله وأهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا " .والمعنى : حال هؤلاء الكافرين الذين كرهوا الحق الذي جئت به - يا محمد - ولم يؤمنوا بك حالهم في استحقاق العذاب ، كحال آل فرعون والذين من قبلهم من أهل الزيغ والضلال ، كفروا بآيات الله ، وكذبوا بما جاءت به من هدايات فكانت نتيجة ذلك أن أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر حيث أهلكهم بسبب ما ارتكبوه من ذنوب ، والله - تعالى - شديد العقاب لمن كفر بآياته .والجار والمجرور بقوله { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف . أى شأن هؤلاء في تكذيبك يا محمد كشأن آل فرعون والذين من قبلهم في تكذيبهم لأنبيائهم .والمقصود بآل فرعون أعوانه وبطانته ، لأن الآل يطلق على أشد الناس التصاقا واختصاصا بالمضاف إليه ، والاختصاص هنا في المتابعة ، والتواطؤ على الكفر ، لأنه إذا وجد العناد في التابع فهو في الغالب يكون في المتبوع أشد وأكبر . ولأنهم هم الذين حرضوه على الشرور والآثام والطغيان فلقد حكى القرآن عنهم ذلك في قوله - تعالى - { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } وخص القرآن آل فرعون بالذكر من بين الذين سبقوهم في الكفر ، لأن فرعون كان اشد الطغاة طغيانا ، وأكبرهم غرورا وبطرا وأكثرهم استهانة بقومه ، واحتقارا لعقولهم وكيانهم ، ألم يقل لهم - كما حكى القرآن - { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } ألم يبلغ به غروره أن يقول لهم : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ألم يقل لوزيره : { ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً . . . }ولقد وصف الله - تعالى - قوم فرعون بهوان الشخصية ، وتفاهة العقل ، والخروج عن كل مكرمة فقال : { فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } لأن الأمة التي تترك الظالم وبطانته يعيثون في الأرض فسادا لا تستحق الحياة ، ولا يكون مصيرها إلا إلى التعاسة والخسران .وجملة { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } تفسير لصنيعم الباطل ، ودأبهم على الفساد والضلال . والمراد بالآيات ما يعم المتلوة في كتب الله - تعالى - والبراهين والمعجزات الدالة على صدق الأنبياء فيما يبلغونه عن ربهم .وفي إضافتها إلى الله - تعالى - تعظيم لها وتنبيه على قوة دلالتها على الحق والخير وقوله { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } بيان لما أصابهم بسبب كفرهم وتكذيبهم للحق ، وفي التعبير بالأخذ إشارة إلى شدة العقوبة ، فهو - سبحانه - قد أخذهم كما يؤخذ الأسير الذى لا يستطيع فكاكا من آسره .والباء للسببية أى أخذهم بسبب ما اجترحوه من ذنوب . أو الملابسة والمصاحبة . أى أخذهم وهم متلبسون بذنوبهم دون أن يتوبوا منها أو يقعلوا عنها ، والجمل على الوجهين تدل على كمال عدل الله - تعالى - لأنه ما عاقبهم إلا لأنهم اتسحقوا ذلك .وأصل الذنب : الأخذ بذنب الشيء ، أي بمؤخرته ثم أطلق على الجريمة لأن مرتكبها يعاقب بعدها .
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ
📘 قوله - تعالى - { كُنْتُمْ } يصح أن تكون من كان التامة التى بمعنى وجد وهى لا تحتاج إلى خبر فيكون المعنى وجدتم خير أمة أخرجت للناس ، ويكون قوله { خَيْرَ أُمَّةٍ } بمعنى الحال . وبهذا الراى قال جمع من المفسرين .ويصح أن تكون من كان الناقصة التى هى - كما يقول الزمخشرى - عبارة عن وجود الشىء فى زمان ماض على سبيل الإبهام وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارىء فيكون المعنى : قدرتم فى علم الله - تعالى - خير أمة أخرجت للناس .ويجوز أن تكون بمعنى صار . أى تحولتم يا معشر المؤمنين الذين عاصرتم النبى صلى الله عليه وسلم من جاهليتكم إلى أن صرتم خير أمة .وقيل : إن " كان " هنا زائدة ، والتقدير : أنتم خير أمة . ورد هذا القول بأن كان لا تزاد فى أول الكلام .والظاهر أن الرأى الأول الذى يقول إن { كُنْتُمْ } هنا من كان التامة هو أقرب الأقوال إلى الصواب " ويليه الرأى الثاني الذى يرى أصحابه أن " كنتم " هنا من " كان " الناقصة إلا أنها هنا تدل على تحقق شىء بصفة فى الزمان الماضى من غير دلالة على عدم سابق أو لاحق .والخطاب فى هذه الآية الكريمة بقوله - تعالى - { كُنْتُمْ } للمؤمنين الذين عاصروا النبى صلى الله عليه وسلم ولمن أتى بعدهم واتبع تعاليم الإسلام إلى يوم الدين .ولذا قال ابن كثير : والصحيح أن هذه الآية عامة فى جميع الأمة . كل قرن بحسبه ، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ، كما قال - سبحانه - فى الآية الأخرى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } وقد وردت أحاديث متعددة فى فضل هذه الأمة الإسلامية ، منها : ما جاء فى مسند الإمام أحمد وفى سنن الترمذى وابن ماجه من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله - تعالى - " .والمعنى : وجدتم يا معشر المسلمين العالمين بتعاليم الإسلام وآدابه وسنته وشريعته خير أمة أخرجت وأظهرت للناس ، من أجل إعلاء كلمة الحق وإزهاق كلمة الباطل ، ونشر الإصلاح والنفع فى الأرض .وقوله { خَيْرَ أُمَّةٍ } خبر كنتم على أنها من كان الناقصة .وجملة { أُخْرِجَتْ } صفة لأمة ، وقوله { لِلنَّاسِ } متعلق بأخرجت ، وحذف الفاعل من { أُخْرِجَتْ } للعلم به أى : خرجها الله - تعالى - لنفع الناس وهداءتهم إلى الصراط المستقيم .فالجملة الكريمة تنوه بشأن الأمة الإسلامية وتعلى من قدرها ، فهل تعى الأمة الإسلامية هذا التنويه من شأنها وذلك لإعلاء من قدرها فتقوم بدورها الذى اختاره الله لها ، وهو نشر كلمة التوحيد فى الأرض واحقاق الحق وإبطال الباطل شكراً لله - تعالى - على جعله إياها خير أمة أخرجت للناس؟؟إن واقع المسلمين الملىء بالضعف والهوان ، والفسوق والعصيان يدمى قلوب المؤمنين الصادقين ، ويحملهم على أن يبلغوا رسالات الله دون أن يخشوا أحدا سواه حتى تكون كلمته هى العليا وكلمة الذين كفروا هى السفلى .ثم بين - سبحانه - الأسباب التى جعلت الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس فقال : { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } .والمعروف : هو كل قول أو عمل حسنه الشرع ، وأيدته العقول السليمة ، والمنكر بعكسه .والمعنى : وجدتم خير أمة أخرجت للناس ، لانكم تأمرون بالمعروف أى بالقول أو الفعل الجميل المستحسن فى الشرائع والعقول . { وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } أى كل قول أو فعل قبيح تستنكره الشرائع ويأباه أهل الإيمان القويم ، والعقل السليم .و { وَتُؤْمِنُونَ } بالله أى تصدقون وتذعنون بأنه لا معبود بحق سواه ، وتخلصون له العبادة والخضوع ، وتطيعونه فى كل ما أمركم به أو نهاكم عنه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .فأنت ترى أن الخيرية للأمة الإسلامية منوطة بتحقيق اصلين أساسيين :أولهما : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنهما سياج الدين ، ولا يمكن أن يتحقق بنيان أمة على الخير والفضيلة إلا بالقيام بهما ، فهما من الأسباب التى استحق بنو إسرائيل اللعنة من أجل تركهما ، فقد أخرج أبو داود فى سننه عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول له : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل له ، ثم يلقاه من الغد على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشربيه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال صلى الله عليه وسلم ( لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) ثم قال : " كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق اطرا - ولتحملنه على اتباع الحق حملا - أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ، ثم ليلعنكم كما لعنهم " .وثانيهما : الإيمان بالله - تعالى - وبجميع ما أمر الله - تعالى - بالإيمان به .هذان هما الأمران الذان يجب أن يتحققا لتكون هذه الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس لأن الأمة التي تهمل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا تؤمن بالله لا يمكن أن تكون خير أمة بل لا توصف بالخيرية قط ، لأنه لا خير إلا فى الفضائل والحق والعدل ، ولا تقوم هذه الأمور إلا مع وجود الإيمان بالله وكثرة الدعاة إلى الخير والناهين عن الشر ، ويكون لدعوتهم آثارها القوية التى تحيا معها الفائل وتزول بها الرذائل .وكأنه - سبحانه - قد أخر " الإيمان بالله " عن " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر " ليكون كالباعث عليهما لأنه لا يصبر على تكاليفهما ومتاعبهما إلا مؤمن يبتغى وجه الله ويركن فى كفاحه إليه . فهذا الإيمان بالله هو الباعث للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، على أن يبلغوا رسالات الله ، دون أن يخشوا أحدا سواه .وقيل : إنما أخر الإيمان على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة كما هو الظاهر ، لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فهما أظهر فى الدلالة على الخيرية للأمة الإسلامية .وجملة { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } يجوز أن تكون حالية من ضمير الخطاب فى { كُنْتُمْ } ويجوز أن تكون مستأنفة للتعليل ، وهذا ما ذهب إليه الفخر الرازى ، فقد قال :" واعلم أن هذا الكلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية ، كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقم بما يصلحهم ، وتحقيق الكلام أنه ثبت فى أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فههنا حكم الله - بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة . ثم ذكر عقيب هذا الحكم هذه الطاعات أعنى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإيمان ، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبارات .وقال الإمام ابن كثير - بعد أن ساق بضعة عشر حديثاً فى فضل هذه الأمة : فهذه الأحاديث فى معنى قوله - تعالى - { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم فى هذا المدح ، كما قال قتادة ، بلغنا أن عمر بن الخطاب رأى من الناس دعة فى حجة حجها فقرأ هذه الآية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، ثم قال : من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها " ، رواه ابن جرير ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } الآية .وبعد أن مدح - سبحانه - هذه الأمة على هذه الصفات شرع فى ذم أهل الكتاب وتأنيبهم فقال - تعالى - { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب } أى بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أى لكان إيمانهم خيرا لهم فى دنياهم وآخرتهم ولنالوا الخيرية التى ظفرت بها الأمة الإسلامية ولكنهم لم يؤمنوا فامتنع الخير فيهم لامتناع الإيمان الصحيح منهم ، ولإيثارهم الضلالة على الهداية فهذه الجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } .. . . ومرتبطة بها .ولم يذكر متعلق { آمَنَ } هنا لأن المراد لو اتصفوا بالإيمان الذى هو لقب وشعار للإيمان بدين الإسلام الذى أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الذى منه أطلقت صفة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة .وقال - سبحانه - { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أى : لو آمنوا لكان إيمانهم خيرا لهم بدون تفصيل لهذه الخيرية لتذهب نفوسهم كل مذهب فى الرجاء والإشفاق .ثم أخبر - سبحانه - بأن قلة من أهل الكتاب اختاروا الإيمان على الكفر فقال - تعالى - { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } .أى : من أهل الكتاب أمة آمنت بالله وصدقت رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم واتبعت ما جاء به من الحق وأكثرهم معرضون عن الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وخارجون عن الطريق المستقيم الذى أمرت باتباعه الشرائع والعقول السليمة .فالجملة الكريمة إنصاف للقلة المؤمنة التى آمنت من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره ممن دخل فى الإسلام . وذم لأكثر أهل الكتاب الذين جحدوا الحق . وخرجوا عن الطريق القويم .وقوله { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } جملة مستأنفة استثنافا بيانيا ، فهى جواب للجملة الشرطية التى قبلها . فكأنه قيل : هل منهم من آمن أو كلهم على الكفر؟ فكان الجواب : منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون .وعبر عن كفرهم بالفسق ، للإشعار بأنهم قد فسقوا فى دينهم أيضا فهم ليسوا عدولا فيه ، وبذلك يكونون قد خرجوا عن الإسلام وعما أوجبته عليهم كتبهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ
📘 ثم بشر الله - تعالى - المؤمنين ، بأن هذه الكثرة الفاسقة من أهل الكتاب التى عتت عن أمر ربها وناصبت المؤمنين العداء ، ولن تضرهم ضررا بليغا له أثر ما دام أهل الإيمان مستمسكين بدينهم ومنفذين لتعاليمه وآدابه ، فقال - سبحانه - { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } أى " لن يضركم أهل الكتاب يا معشر المؤمنين إلا ضررا يسيرا ، كأن يؤذوكم بألسنتهم ويلقوا الشبه بينكم ليصدوا من ضعف إيمانه عن الحق ، وفى هذا تثبيت للمؤمنين ، وطمأنينة لقلوبهم ، إذ الضرر الذى يصيب الأمة الإسلامية من أعدائها على قسمين :أولهما : ضرر يؤدى إلى هدم كيان الأمة ، وإضعاف قوتها وإهدار كرامتها وجعل أمورها فى أيدى أعدائها تصرفها كيف تشاء .وثانيهما : ضرر لا يؤثر فى كيان الأمة ، ولا يؤدى إلى اضمحلال قوتها كالأذى بالقول ، أو محاولة التأثير فى ضعاف الإيمان .وقد نفى - سبحانه - أن يلحق المؤمنين ضرر يأتى على كيانهم من جهة أهل الكتاب فقال : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } فأوقع الفعل المضارع فى حيز لن المفيدة للنفى - للإشارة إلى أن ذلك لا يكون فى المستقبل .ولكن هذا النفى لهذا النوع من الضرر مشروط بمحافظة الأمة الإسلامية على الأصلين السابقين وهما " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإيمان بالله " .فإذا أرادت أمة الإسلام ألا تصاب من جهة أهل الكتاب بما يأتى على كيانها ، فعليها أن تخلص العبادة لربها ، وأن تعمل بسنة نبيها ، وأن تتقيد بأحكام كتابها ، وأن تباشر الأسباب التى شرعها خالقها للنصر على أعدائها .أما إذا تركت أمة الإسلام ما أمرها الله - تعالى - به وتجاوزت ما نهاها عنه فإنها فى هذه الحالة قد تصاب من أعدائها بما يؤثر فى كيانها وتكون هي الجانية على نفسها بمخالفتها لأوامر الله ونواهيه .هذا ، وأكثر العلماء على أن الاستثناء فى قوله { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } متصل وأنه استثناء مفرغ من المصدر العام كأنه قيل : لن يضروكم ضررا ألبتة إلا ضرر أذى لا يبالى به من كلمة سوء و نحوها .وقيل هو استثناء منقطع لأن الأذى ليس من الضرر : أى لن يضروكم بقتال وغلبة لكن بكلمة أذى ونحوها .ورجح الأول ، لأن الكلام إذا أمكن حمله على الاستثناء الحقيقى لم يجز صرفه عن ذلك إلى الاستثناء المنقطع وهنا الأذى مهما قل هو نوع من الضرر وإن لم يترك أثراً .ثم بشر الله - تعالى - المؤمنين ببشارة أخرى فقال : { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } .تولية الأدبار : كناية عن الهزيمة لأن المنهزم يحول ظهره ودبره إلى جهة الذى هزمه هربا إلى ملجأ يلجأ إليه ليدفع عن نفسه أو الأسر .والمعنى ، إن أهل الكتاب لن يضروكم يا معشر المؤمنين إلا ضررا يسيراً لا يبقى أثره فيكم - ما دمتم مستمسكين بدينكم - ، فإن قاتلوكم وأنتم على هذه الحال ، أمدكم الله بنصره ، والقى في قلوبهم الرعب فيولونكم الأدبار انهزاما منكم ، ثم لا ينصرون عليكم بل تنصرون أنتم عليهم .والتعبير عن الهزيمة بتولية الأدبار ، فيه إشارة إلى جبنهم وأنهم يفرون فرارا شديدا بذعر وهلع .وهكذا كان الشأن فى قتال المسلمين الأولين لأعداء الله وأعدائهم ، فلقد قاتل المؤمنون اليهود من بنى قيناع والنضير وقريظة وأهل خيبر فانتصر المسلمون عليهم انتصاراً باهراً .وقاتلوا جموع الروم فى بلاد الشام وفى مصر ، فكان النصر المؤزر حليفا للمسلمين مع قلتهم وكثرة أعدائهم .وقوله { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } احتراس . أى : يولونكم الأدبار تولية المنهزم ، لا تولية المتحرف لقتال أو المتحيز إلى فئة أو المتأمل فى الأمر .والتعبير ب { ثُمَّ } لإفادة التراخى فى المرتبة : لأن الإخبار بتسليط الخذلفان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الأدبار .وهذه الجملة خبرية وهى معطوفة على جملتى الشرط وجزائه معا ، للإشعار بأن هذا ديدنهم ، وأنهم لن ينتصروا على المسلمين لا فى قتال ولا فى غيره ، ما دام المسلمون مستقيمين على الطريقة التى رسمها الله - تعالى - لهم .وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : فإن قلت : هلا جزم المعطوف فى قوله { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } ؟ قلت : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم إبتداء كأنه قيل أخبركم أنهم لا ينصرون .فإن قلت : فأى فرق بين رفعه وجزمه فى المعنى؟ قلت لو جزم لكان النصر مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار وحين رفع كان نفى النصر وعدا مطلقا كأنه قال . ثم شأنهم وقصتهم التى أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم لهم أمر ، وكان كما أخبر من حال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع ويهود خيبر فإن قلت : فما الذى عطف عليه هذا الخبر؟ قتل : جملة الشرط والجزاء كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون . فإن قلت فما معنى التراخى فى ثم؟ قلت : التراخى فى المرتبة ، لأن الاخبار بتلسيط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار فإن قلت : ما موقع الجملتين ، أعنى { مِّنْهُمُ المؤمنون } و { لَن يَضُرُّوكُمْ } قلت هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب ، كما يقول القائل : وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ولذلك جاءا من غير عطف " .فأنت ترى الآية الكريمة قد بشرت المؤمنين الصادقين ببشارات ثلاث :أولها : أنهم فى مأمن من الضرر البليغ الذى يؤثر فى كيانهم وعزتهم وكرامتهم من جهة أهل الكتاب .ثانيها : أن أهل الكتاب لو قاتلوهم ، فإن المؤمنين سيكون لهم النصر عليهم .ثالثها : أنهم بعد نصرهم عليهم لن تكون لأهل الكتاب - وعلى رأسهم اليهود - شوكة أو قوة للأخذ بثأرهم بعد ذلك .وقد تحققت هذه البشارات ، وكانت كما أخبر الله - تعالى - فإن المسلمين الأولين الذين كانوا متمسكين بتعاليم دنيهم نصرهم الله - تعالى - على أهل الكتاب وعلى غيرهم من أعدائهم نصرا مؤزرا - كما سبق أن أشرنا - .فإن قال قائل : ولكن الذى نراه الآن أن اليهود الذين لا يمارى أحد فى جبنهم وفى حرصهم على الحياة قد انتصروا على المسلمين وأقاموا لهم دولة فى بقعة من أعز بقاع البلاد الإسلامية وهى فلسطين فهل يخلف وعد الله؟والجواب على ذلك . أن وعد الله - تعالى - لا يخلف ولن يتخلف وقد حققه - سبحانه - لأسلافنا الصالحين الذى آمنوا به حق الإيمان . ولكن المسلمين فى هذا العصر هم الذين تغيرت أحوالهم ، فقد فرطوا فى دينهم وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وتفرقوا شيعاً وأحزاباً وتنكبوا الطريق القويم ولم يباشروا الأسباب التى شرعها الله - تعالى - لبلوغ النصر ، ولم يحسنوا الشعور بالمسئولية .فلما فعلوا ذلك تبدل حالهم من الخير إلى الشر ، ومن القوة إلى الضعف .وسلط الله عليهم من لا يخافهم ولا يرحمهم ، لأنه - سبحانه - { لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } وإذا ما عاد المسلمون إلى دينهم فطبقوا أوامره ونواهيه على أنفسهم تطبيقا كاملا ، فإن الله - تعالى - سيعيد لهم كرامتهم وعزتهم وقوتهم { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } ومن هنا نعلم أ ، الشرط فى نفى الذى يؤثر فى نفى الضرر الذى يؤثر فى الأمة الإسلامية ، هو أن تكون مؤمنة بربها حق الإيمان متبعة لهدى رسولها محمد صلى الله عليه وسلم .
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - بعد ذلك بعض العقوبات التى عاقب بها اليهود بسبب كفرهم وظلمهم فقال : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس } .وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة يقال ضرب فلان بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا المعنى معان مجازية أخرى ترجع إلى شدة اللصوق .والذلة على وزن فعلة من قول القائل : ذل فلان يذل ذلة وذلا . والمراج بها الصغار والهوان والحقارة .فضرب الذلة عليهم كناية عن لزومها لهؤلاء اليهود ، وإحاطتها بهم ، كما يحيط السرادق بمن يكون فى داخله .قال صاحب الكشاف : جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم ، فهم كمن يكون فى القبة من ضربت عليهم ، أو الصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه . فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة " .و { ثقفوا } أى وجدوا ، أو ظفر بهم . يقال : ثقفه أى صادفه أو ظفر به أو أدركه . وهذه المادة تدل على التمكن من أخذ الشىء ومن التصرف فيه بشدة ومنها سمى الأسير ثقافا . والثقاف آلة تكسر بها أغماد الرماح .والحبل : هو ما يربط بين شيئين ويطلق على العهد لأن الناس يرتبطون بالعهود : كما يقع الارتباط الحسى بالحبال ، وهذا الإطلاق هو المراد هنا .ولذا قال ابن جرير : وأما الحبل الذى ذكره الله - تعالى - فى هذا الموضوع ، فإنه السبب الذى يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقفوا فى بلاد الإسلام .والمعنى : أن هؤلاء اليهود أحاطت بهم الذلة فى جميع أحوالهم أينما وجدوا وحيثما حلوا إلا فى حال اعتصامهم بعهد من الله أو بعهد من الناس .وقد فسر العلماء عهد الله بعقد الجزية الذى يربط بينهم وبين المسلمين .وإنما كان عقد الجزية عهدا من الله لهم ، لأنه - سبحانه - هو الذى شرعه ، وما شرعه الله فالوفاء به واجب .وكان عهدا من المسلمين لهم ، لأنهم أحد طرفيه ، فهم الذين باشروه مع اليهود وبمقتضاه يحفظون حقوقهم ودماءهم وأموالهم؛ ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ، ولعى المسلمين حمايتهم ، وصون أموالهم لقاء مقدار من المال يدفع لهم كل عام وهو المسمى بالجزية .وأما عهد الناس ، فهو العهود التى يعيشون بمقتضاها فى أى أمة من أمم الأرض مسلمة كانت هذه الأمة أو كافرة .فإن كانت العهود صادرة من المسلمين ، جاز أن يطلق عليها عهد الله - أيضاً - باعتبار أن الله هو الذى شرعها .وإن كانت من غير المسلمين فهى عهود من الناس سواء أوافقت شريعة الله تعالى - أم لا .والمعنى الإجمالي للآية : أن اليهود قد ضرب الله - تعالى - عليهم الذلة والمسكنة فى كل زمان ومكان بسبب كفرهم وطغيانهم ، وسلب عنهم السلطان والملك ، فهم يعيشون فى بقاع الأرض فى حماية غيرهم من الأمم الأخرى ، بمقتضى عهود يعقدونها معهم وقد تكون هذه العهود موافقة لشرع الله - تعالى - وقد لا تكون موافقة .فإن قال قائل : إنهم الآن أصحاب جاه وسلطان ، بعد أن أنشأوا دولتهم بفلسطين!!والجواب : أنهم مع قيام هذه الدولة يعيشون تحت حماية غيرهم من دول الكفر الكبرى . فهى التى تحميهم وتمدهم بأسباب الحياة والقوة ، فينطبق على هذه الحالة - أيضاً - أنها بحبل من الناس . فاليهود لا سلطان لهم ، ولا عزة تكمن فى نفوسهم ، ولكنهم مأمورون مسخرون أن يعيشوا فى تلك البقعة من الأرض لتكون مركزا لتلك الأمم الت تعهدت بحمايتهم ما استطاعوا من قوة لقتال أعداء الله وأعدائهم .لو أنهم فعلوا ذلك لما كان حالهم كما ترى الآن من ضعف وتخاذل وتفرق والأمل كبير فى أن يتنبه المسلمون إلى ما يحيط بهم من أخطار فيعملوا على دفعها ويعتصموا بحبل الله لتعود لهم قوتهم وهيبتهم .لو أنهم فعلوا ذلك لما كان حالهم كما ترى الآن من ضعف وتخاذل وتفرق والأمل كبير فى أن يتنبه المسلمون إلى ما يحيط بهم من أخطار فيعملوا على دفعها ويعتصموا بحبل الله لتعود لهم قوتهم وهيبتهم .هذا ، وقوله : { أَيْنَ مَا } اسم شرط ، وهو ظرف مكان و " ما " مزيدة فيها للتأكيد .وقوله { ثقفوا } فى محل جزم بها .وجواب الشرك محذوف يدل عليه ما قبله أى : أينما ثقفوا غلبوا أو ذلوا .ويجوز أن يكون جواب الشرط قوله { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } عند من يجوز تقديم جواب الشرط على الشرط .والاستثناء فى قوله { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس } مفرغ من عموم الأحوال أى ضربت عليهم الذلة فى عامة الأحوال إلا فى حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس .ثم ذكر - سبحانه - عقوبتين أخريين أنزلهما بهم جزاء كفرهم وتعديهم لحدوده فقال تعالى : { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة } .قال ابن جرير : قوله - تعالى - { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } أى انصرفوا ورجعوا .ولا يقال باؤوا ، إلا موصولا إما بخير وإما بشر . يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به بوأ وبواء . ومنه قوله - تعالى - { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يعنى تنصرف متحملهما ، وترجع بهما قد صارا عليك دونى . فمعنى الكلام إذا : ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم منه سخط " .والمسكنة : مفعلة من السكون ، ومنها أخذ لفظ المسكين . لأن الهم قد أثقله فجعله قليل الحركة والنهوض لما به من الفاقة والفقر .والمراد بها فى الآية الكريمة الضعف النفسي ، والفقر القلبي الذى يستولى على الشخص فيجعله يحس بالهوان مهما تكن لديه من أسباب القوة .والفرق بينها وبين الذلة : أن الذلة تجىء أسبابها من الخارج . كأن يغلب المرء على أمره نتيجةانتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو .أما المسكنة فهى تنشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق ، واستيلاء المطامع والشهوات وحب الدنيا عليها .والمعنى : أن هؤلاء اليهود يجانب ضرب الذلة عليهم حينما حلوا ، قد صاروا فى غضب من الله ، وأصبحوا أحقاء به ، وضربت عليهم كذلك المسكنة التى تجعلهم يحسون بالصغار مهما ملكوا من قوة ومال .ثم ذكر - سبحانه - الأسباب التى جعلتهم أحقاء بهذه العقوبات فقال - تعالى - : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .فاسم الإشارة ذلك يعود إلى تلك العقوبات العادلة التى عاقبهم الله بها بسبب كفرهم وفسقهم .والآيات : تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله - تعالى - وربوبيته وتطلق ويراد بها النصوص التى تشتمل عليها الكتب السماوية ، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يبلغون عن الله - تعالى - ، وهى التي يسميها علماء التوحيد بالمعجزات .وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات ومردوا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع { يَكْفُرُونَ } .أى : ذلك الذى أصابهم من عقوبات رادعة ، سببه أنهم كانوا يكفرون بآيات الله وأدلته الدالة على وحدانيته وعلى صدق رسله - عليهم الصلاة والسلام - وتلك هى جريمة بنى إسرائيل الأولى .أما جريمتهم الثانية فقد عبر عنها - سبحانه - بقوله { وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } أى أنهم لم يكتفوا بالكفر ، بل امتدت أيديهم الأثيمة إلى دعاة الحق وهم أنبياء الله - تعالى - الذين أرسلهم لهدايتهم فقتلوهم بدون أدنى شبهة تحمل على الإساءة إليهم فضلا عن قتلهم .وقال - سبحانه - { بِغَيْرِ حَقٍّ } مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبدا . لإفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر فى شريعتهم لأنها تحرمه .قال - تعالى - { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً }فهذا القيد المقصود به الاحتجاج عليهم بأصول دينهم ، وتخليد مذمتهم ، وتقبيح إجرامهم حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ فى الفهم ، أو تأول فى الحكم أو شبهة فى الأمر ، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا ، ومخالفون لشرع الله عن تعمد وإصرار .ولذا قال صاحب الكشاف : فإن قلت : قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق ، فما فائدة ذكره؟ قلت : معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم ، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا فى الأرض فيقتلوا ، وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم .فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقون به القتل عندهم .وقال الفخر الرازى ما ملخصه : فإن : قيل : قال هنا : { وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } وقال فى سورة البقرة { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } فما الفرق؟ قلت : إن الحق المعلوم بين المسلمين الذى يوجب القتل يتجلى فى حديث : " لا تحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق " فالحق المذكور فى سورة البقرة إشارة إلى هذا . وأما الحق المنكر هنا فالمراد به تأكيد العموم أى لم يكن هناك أى حق يستندون إليه ، لا هذا الذى يعرفه المسلمون ولا غيره ألبتة .ونسب - سبحانه - القتل إلى أولئك اليهود المعاصرين للعهد النبوى مع أن القتل قد صدر عن أسلافهم ، لأن أولئك المعاصرين كانوا راضين بفعل آبائهم وأجدادهم ، فصحت نسبة القتل إليهم ، ولأن بعض أولئك المعاصرين قد هَمَّ بقتل النبى صلى الله عليه وسلم فكف الله - تعالى - أيديهم الأثيمة عنه .ثم سجل الله - تعالى - جريمتهم الثالثة بقوله { ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .العصيان : الخروج عن طاعة الله ، والاعتداء : تجاوز الحد الذى حده الله - تعالى - لعباده إلى غيره وكل متجاوز حد شىء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه .وللمفسرين فى مرجع اسم الإشارة { ذلك } فى قوله { ذلك بِمَا عَصَوْاْ } رأيان :أولهما : أنه يعود إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم لأنبيائه ، وعليه يكون المعنى :إن هؤلاء اليهود قد ألفوا العصيان لخالقهم والتعدى لحدوده بجرأة وعدم مبالاة ، فنشأ عن هذا التمرد والطغيان أن كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه ، وباشروا تلك الكبائر بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة .والجملة الكريمة على هذا الرأى تفيد أن التردى فى المعاصى ، وارتكاب ما نهى الله عنه ، وتجاوز الحدود المشروعة ، يؤدى إلى الانتقال من صغير الذنوب إلى كبيرها ومن حقيرها إلى عظيمها لأن هؤلاء اليهود حين استمرأوا المعاصى ، هانت على نفوسهم الفضائل ، وانكسرت أمام شهواتهم كل المثل العليا فكذبوا بآيات الله تكذيبا ، وقتلوا من جاءهم بالهدى ودين الحق .وثانيهما : أن اسم الإشارة { ذلك } فى قوله { ذلك بِمَا عَصَوْاْ } يعود إلى نفس المشار إليه باسم الإشارة الأول وهو قوله { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .وتكون الحكمة فى تكرار الإشارة هو تمييز المشار إليه ، حرصاً على معرفته ، ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة عليهم واستحقاقهم لغضب الله كما أشرنا من قبل .والإشارة حينئذ من قبيل التكرير المغنى عن العطف كما فى قوله - تعالى - { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } والمعنى : أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة ، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا وقتلهم أنبياءنا وخروجهم عن طاعتنا ، وتعديهم حدودنا .وعلى هذا الرأى يكون ذكر أسباب العقوبة التى حلت بهم فى الدرجة العيا من حسن الترتيب فقد بدأ - سبحانه - بما فعلوه فى حقه وهو كفرهم بآياته . ثم ثنى بما يتلوه فى العظم وهو قتلهم لأنبيائه ، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته ، ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء وتخطى الحدود ، وعدم المبالاة بالعهود .وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم فى سوق الأحكام مشفوعة بعللها وأسبابها .وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد بدأت حديثها بمدح الأمة الإسلامية بأنها خير أمة أخرجت للناس ، ثم ثنت بدعوة أهل الكتاب إلى الإسلام وبإخبار المؤمنين بأن أعداءهم لن يضروهم ضررا يؤثر فى كيانهم ما داموا معتصمين بتعاليم دينهم ، ثم ختمت حديثها ببيان العقوبات التى حلت باليهود بسبب كفرهم وبغيهم .وبعد هذا الحديث الحكم عن أهل الكتاب ، وعن العقوبات التى أنزهلا - سبحانه - باليهود بسبب فسقهم وظلمهم ، بعد كل ذلك ساق - سبحانه - آيات كريمة تمدح من يستحق المدح من أهل الكتاب إنصافا لهم وتكريما لذواتهم فقال - تعالى - : { لَيْسُواْ سَوَآءً . . . } .
۞ لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ
📘 الضمير فى قوله - تعالى - { لَيْسُواْ سَوَآءً } يعود لأهل الكتاب الذين تقدم الحديث عنهم وهو اسم ليس ، وخبرها قوله { سَوَآءً } والجملة مستأنفه للثناء على من يستحق الثناء منهم بعد أن وبخ القرآن من يستحق التوبيخ منهم .قال ابن كثير : والمشهور عند كثير من المفسرين أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن شعبة وغيرهم . أى لا يستوى من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب ، وهؤلاء الذين أسلموا ، ولهذا قال - تعالى - { لَيْسُواْ سَوَآءً } أى ليسوا كلهم على حد سواء بل منهم المؤمن ومنهم المجرم .وقوله - تعالى - { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } استئناف مبين لكيفية عدم التساوى ومزيل لما فيه من إيهام .أى : ليس أهل الكتاب متساوين فى الكفر وسوء الأخلاق ، بل منهم طائفة قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه مستقيمة على طريقته ثابتة على الحق ملازمة له ، لم تتركه كما تركه الأكثرون من أهل الكتاب وضيعوه .فمعنى قائمة : مستقيمة عادلة من قولك أقمت العود فقام بمعنى استقام .أو معناها : ثابتة على التمسك بالدين الحق ، ملازمة له غير مضطربة فى التمسك به ، كما فى قوله - تعالى - { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } أى ملازمة لمطالبته بحقك . ومنه قوله - تعالى - { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط } أى ملازما له .والمراد بهذه الطائفة من أهل الكتاب التى وصفها الله - تعالى - بأنها { أُمَّةٌ } قائمة أولئك الذين أسلموا منهم واستقاموا على أمر الله وأطاعوه فى السر والعلن ، كعبد الله بن سلام ، وأصحابه ، والنجاشى ومن آمن معه من النصارى . فهؤلاء قد آمنوا بكل ما يجب الإيمان به ، ولم يفرقوا بين أنبياء الله ورسله ، فمدحهم الله على ذلك وأثنى عليهم .ثم تابع القرآن حديثه عن أوصافهم الكريمة فقال { يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } .وقوله { يَتْلُونَ } من التلاوة وهى القراءة ، وأصل الكلمة من الإتباع ، فكأن التلاوة هى اتباع اللفظ اللفظ .والمراد بآيات الله هنا : ما أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من قرآن .وقوله : { آنَآءَ الليل } أى أوقاته وساعاته . والآناء جمع إنىَ - كمعاً وأمعاء - أو جمع أنىَ - كعصاً - ، أو جمع أنىَ وإنى وإنو . فالهزة فى آناء منقلبة عن ياء كرداء : أو عن واو ككساء .والمراد بالسجود فى قوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } الصلاة لأن السجود لا قراءة فيه وإنما فيه التسبيح ، فقد روى مسلم فى صحيحه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إنى نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً فأما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا فى الدعاء فقمن أن يستجاب لكم " .والمعنى : ليس أهل الكتاب متساوين فى الاتصاف بما ذكر من القبائح ، بل منهم قوم سلموا منها ، وهم الذين استقاموا على الحق ولزموه ، وأكثروا من تلاوة آيات الله فى صلاتهم التى يتقربون بها إلى الله - تعالى - آناء الليل وأطراف النهار .قال الآلوسى ما ملخصه . والمراد بصلاتهم هذه التهجد - على ما ذهب إليه البعض - . وعلل هذا بأنه أدخل فى المدح وفيه تتيسر لهم التلاوة ، لأنها فى المكتوبة وظيفة الإمام .والذى عليه بعض السلف أنها صلاة العتمة . واستدل عليه بما أخرجه الإمام أحمد والنسائى وابن جرير والطبرانى عن ابن مسعود قال آخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : " أما إنه لا يصلى هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب " وعبر عن الصلاة بالسجود ، لأنه أدل على كمال الخضوع والصلاة تسمى سجودا وسجدة ، وركوعا وركعة .
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ
📘 صم وصفهم - سبحانه - بصفات أخرى كريمة فقال : { يُؤْمِنُونَ بالله } والمراد بهذا الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به على الوجه المقبول الذى نطق به الشرع ، وجاء به محمد صلى الله عليه وسلم .{ واليوم الآخر } أى ويؤمنون باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب وجنة ونار وقوله : { وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } إشعار بأنهم لم يكتفوا بتكميل أنفسهم بالفضائل التى من أشرفها الإيمان بالله واليوم الآخر ، والإكثار من إقامة الصلاة ومن تلاوة القرآن ، بل أضافوا إلى ذلك إرشاد غيرهم إلى الخير الذى أمر الله به ، ونهيه عن الباطل الذى يبغضه الله ، وتستنكره العقول السليمة .وقوله - تعالى - { وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات } أى يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات التى ترفع درجاتهم عند الله - بدون تردد أو تقصير .وقال - سبحانه - : { وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات } ولم يقل إلى الخيرات للإشعار بأنهم مستقرون فى كل أعمالهم فى طريق الخير ، فهم ينتقلون من خير إلى خير فى دائرة واحدة هى دائرة الخير ، ينتقلون بين زواياها وأقطارها ولا يخرجون منها . فهم لا ينتقلون مسارعين من شر إلى خير . وإنما ينتقلون مسارعين من خير إلى خير وهذا هو سر التعبير بفى المفيدة للظرفية .والمسارعة فى الخير هى فرط الرغبة فيه ، لأن من رغب في الأمر يسارع فى توليه وفى القيام به ، واختيار صيغة المفاعلة " يسارعون " للمبالغة فى سرعة نهوضهم لهذا العمل الجامع لفنون الخير ، وألوان البر .قال صاحب الكشاف . وقوله : { يَتْلُونَ } و { يُؤْمِنُونَ } في محل الرفع صفتان لأمة . أى : قائمة تالون مؤمنون . وصفهم بخصائص ما كانت فى اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ، ومن الإيمان بالله ، لأن إيمانهم به كلا إيمان ، لاشراكهم به عزيرا ، وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض : ومن الإيمان باليوم الآخر ، لأنهم يصفونه بخلاف صفته .ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، لأنهم كانوا مداهنين . ومن المسارعة فى الخيرات ، لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها " .واسم الإشارة فى قوله : { وأولئك مِنَ الصالحين } يعود إلى الموصوفين بتلك الصفات السابقة من تلاوة الكتاب ومن إيمان بالله واليوم الآخر .أى وأولئك المصوفون بتلك الصفات الجليلة الشأن من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم ، واستحقوا ثناءه عليهم .وفى التعبير بقوله : { مِنَ الصالحين } إشارة إلى أنهم بهذه المزايا وتلك الصفات ، قد انسلخوا من عداد أهل الكتاب الذين ذمهم الله - تعالى - ووصفهم بأن أكثرهم من الفاسقين .فهم بسبب إيمانهم وأفعالهم الحميدة قد خرجوا من صفوف المذمومين إلى صفوف الممدوحين .قال الفخر الرازى : وأعلم أن وصفهم بالصلاح فى غياة المدح ، ويدل عليه القرآن والمعقول . أما القرآن ، فهو أن الله - تعالى - مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء ، فقال بعد ذكر إدريس وإسماعيل وذى الكفل وغيرهم { وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين } وذكر حكاية عن سليمان أنه قال : " وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين " . وأما المعقول ، فهو أن الصلاح ضد الفساد ، وكل ما لا ينبغى أن يكون فهو فساد ، سواء كان ذلك فى العقائد أو فى الأعمال ، فإذا كان كل ما حصل من باب ما ينبغى أن يكون فقد حصل الصلاح ، فكان الصلاح دالا على أكمل الدرجات .
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - أنه لن يضيع شيئا مما قدموه من أعمال صالحة ، بل سيكافئهم على ذلك بما هو أفضل وأبقى فقال : { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ } أى أن هؤلاء الذين وصفهم بتلك الصفات الطيبة لن يضيع الله شيئا مما قدموه من عمل صالح ، وإنما سيجازيهم بما هم أهله من ثواب جزيل ، وأجر كبير بدون أى نقصان أو حرمان .و { وَمَا } فى قوله : { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } شرطية . وفعل الشرط قوله : { يَفْعَلُواْ } وجوابه قوله : { فَلَنْ يُكْفَروهُ } .و { مِنْ } فى قوله : { مِنْ خَيْرٍ } لتأكيد العموم أى ما يفعلوا من أى خير سواء أكان قليلا أم كثيرا فلن يحرموا ثوابه .وأصل الكفر : الستر والتغطية . وقد صح تعدية الفعل كفر إلى مفعولين لأنه هنا بمعنى حرم .ولذا قال صاحب الكشاف : فغن قلت لم عدى إلى مفعولين ، وشكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد تقول : شكر النعمة وكفرها؟ قلت : ضمن معنى الحرمان فكأنه قيل : فلن يحرموه بمعنى : فلن يحرموا جزاءه " .وقوله : { والله عَلِيمٌ بالمتقين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله . أى هو - سبحانه - عليم بأحوال عباده وسيجازى التمقين بما يستحقون من ثواب ، وسيجازى الكافرين بما يستحقون من عقاب .فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد أنصفت المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب ، ووصفتهم بجملة من الصفات الطيبة .وصفتهم بأنهم طائفة ثابتة على الحق . وأنهم يتلون آيات آناء الليل وأطراف النهار ، وأنهم مكثرون من التضرع إلى الله فى صلواتهم وسجودهم ، وأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر وأنهم يأمرون بالمعروف ، وأنهم ينهون عن المنكر . وأنهم يسارعون فى الخيرات ، وأنهم من الصالحين .ثم بشرهم - سبحانه - بعد وصفهم بهذه الصفات الكريمة بأن ما يقدموه من خير فلن يحرموا ثوابه ، لأنه - سبحانه - عليم بأحوال عباده ولن يضيع أجر من أحسن عملا .الحديث المؤثر عن أحوال المؤمنين من أهل الكتاب وبيان ما أعده الله لهم من ، أتبعه بالحديث عن الكافرين وعن سوء عاقبتهم وعن أهم الأسباب التى أدت إلى كفرهم وفسوقهم فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . . } .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۚ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
📘 المراد بالذين كفروا فى قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } جميع الكفار ، لأن اللفظ عام ، ولا دليل يقتضى تخصيصه بفريق من الكافرين دون فريق . والمراد من الإغناء فى قوله : { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً } الدفع وسد الحاجة يقال : أغنى فلان فلانا عن هذا الأمر ، إذا كفاه مؤنته ، ورفع عنه ما أثقله منه .أى : إن الذين كفروا بما يجب الإيمان به ، واغتروا بأموالهم وأولادهم فى الدنيا ، لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئاً - ولو يسيرا - من عذاب الله الذى سيحيق بهم يوم القيامة بسبب كفرهم وجحودهم .وقد أكد - سبحانه - عدم إغناء أموالهم ولا أولادهم عنهم شيئاً - فى وقت هم فى أشد الحاجة إلى من يعينهم ويدفع عنهم - بحرف " لن " المفيد لتأكيد النفى وخص الأموال والأولاد بالذكر ، لأن الكفار كانوا أكثر ما يكونون اغتراراً بالأموال والأولاد ، وقد حكى القرآن غرورهم هذا بأموالهم وأولادهم فى كثير من الآيات ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } ولأن من المتعارف عليه بين الناس أن الإنسان يلجأ إلى ماله وولده عند الشدائد ، إذ المال يدفع به الإنسان عن نفسه فى الفداء وما يشبهه من المغارم ، والأولاد يدافعون عن أبيهم لنصرته ممن يعتدى عليه .وكرر حرف النفى مع المعطوف فى قوله : { وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ } ، لتأكيد عدم غناء أولادهم عنهم ، ولدفع توهم ما هو متعارف من أن الأولاد لا يقعدون عن الذب عن آبائهم .فالمقصود من الجملة الكريمة نفى الانتفاع بالأموال والأولاد فى حالة اجتماعهما ، وفى حالة انفراد أحدهما عن الآخر ، لأن المال قد يكون أكثر نفعا فى مواضع خاصة ، والأولاد قد يكونون أكثر نفعا من المال فى مواطن أخرى ، فبتكرار النفى تأكد عدم انتفاع الكفار بهذين النوعين فى أية حال من الأحوال .فإن قيل : لقد نص القرآن على أن الكفار لا تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم يوم القيامة ، مع أن المؤمنين كذلك لا تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم فلماذا خص الكافرين بالذكر؟ .فالجواب أن الكافرين هم الذين اغتروا بأموالهم وأولادهم ، وهم الذين اعتقدوا أنهم سينجون من العقاب بسبب ذلك ، أما المؤمنون فإنهم فم يعتقدوا هذا الاعتقاد ، ولم يغتروا بما منحهم الله من نعم ، وإنما اعتقدوا أن الأموال والألواد فتنة ، ولم يعتمدوا فى نجاتهم من عقاب الله يوم القيامة إلى على فضله ورحمته ، وعلى إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح .و { مِّنَ } فى قوله : { مِّنَ الله } ابتدائية ، والجار والمجرور متعلق بتغنى .وقوله : { شَيْئاً } منصوب على أنه مفعلو مطلق أى : لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا من الاغناء والدفع .وتنكير { شَيْئاً } للتقليل .وقوله : { وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } تذيل قصد به بيان سوء عاقبتهم ، وما أعد لهم من عذاب شديد .أى وأولئك الكافرون المغترون بأموالهم وأولادهم ، هم أصحاب النار الذين سيلازمونها ويصلون سعيرها ، ولن يصرفهم من عذاب الله أى ناصر من أموال أو أولاد أو غيرهما .وقد أكد - سبحانه - هذا الحكم العادل بعدة مؤكدات منها : التعبير باسم الإشارة المتضمن السلب من كل قوة كانوا يعتزون بها ، ومنها : ذكر مصاحبتهم للنار وخلودهم فيها أى ملازمتهم لها ملازمة أبدية ، ومنها : ما اشتملت عليه الجملة الكريمة من معنى القصر أى أولئك أصحاب النار الذين يلازمونها ولا يخرجون منها إلى غيرها بل هم خالدون فيها .
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
📘 ثم ضرب - سبحانه - مثلا لبطلان ما كان ينفقه هؤلاء الكافرون من أموال في الدنيا فقال : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا } أى من أموال فى وجوه الخير المختلفة ، كمواساة البائسين ، ودفع حاجة المحتاجين .و { مَا } موصولة ، والعائد محذوف ، والتقدير ، مثل ما ينفقونه .{ كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أى كمثل ريح فيها برد شديد قاتل للنبات . وقيل : الصر . الحر الشديدن وقيل الصر : صوت لهيب النار التى تحرق الثمار .وذكر - سبحانه - الصر على أنه فى الريح ، وأنها مشتملة عليه ، وهى له ظرف وهو مظروف ، للاشعار بأنها ريح لا تحمل عوامل النماء للزرع ، وإنما هى تحمل معها ما يهلكه .وقوله : { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } أى أصابت زرع قوم ظلموا أنفسهم بالكفر وارتكاب المعاصى فدمرته وأهلكت ما فيه من ثمار وهم أحوج ما يكونون إلى هذا الزرع وتلك الثمار .والحرث هنا مصدر بمعنى المحروث ، وأصل كلمة حرث : فلح الأرض وإلقاء البذر فيها ، ثم أطلقت على ما هو نتيجة لذلك وهو الزرع .وفى التعبير بقوله : { ظلموا أَنْفُسَهُمْ } تذكير للسامعين ، وبعث لهم على ترك الظلم ، حتى لا يصابوا بمثل ما أصيب به أولئك الذين ظلموا أنفسهم من عقوبات رادعة ، وأضرار فادحة .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أى أن الله - تعالى - ما ظلمهم حين لم يقبل نفقاتهم ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بإيثارهم الكفر على الإيمان ، ومن كان كذلك فلن يقبل الله منه شيئاً؛ لأن الله تعالى ، إنما يتقبل من المتقين .والضمائر فى هذه الجملة الكريمة تعود على أولئك الكافرين الذين ينفقون أموالهم مقرونة بالوجوه المانعة من قبولها .وفى هذه الآية الكريمة تشبيه بليغ ، فقد شبه - سبحانه - حال ما ينفقه الكفار فى الدنيا - على سبيل القربة أو المفاخرة - شبه ذلك فى ضياعه وذهابه وقت الحاجة إليه فى الآخرة من غير أن يعود عليهم بفائدة ، بحال زرع لقوم ظالمين ، أصابته ريح مهلكة فاستأصلته ، ولم ينتفع أصحابه منه بشىء ، وهم أحوج ما يكونون إليه .قال صاحب الانتصاف : أصل الكلام - والله أعلم - مثل ما ينفقون فى هذه الحياة الدنيا ، كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم ، فأصابته ريح فيها صر فأهلكته .ولكن خولف هذا النظم فى المثل المذكور لفائدة جليلة . وهى تقديم ما هو أهم لأن الريح التى هى مثل العذاب ، ذكرها فى سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث .فقدمت عناية بذكرها ، واعتماداً على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه ومثل هذا فى تحويل النظم لمثل هذه الفائدة قوله - تعالى - : { فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } ومثله - أيضا - . اعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه . والأصل أن تذكر إحداهما الأخرى وإن ضلت . وأن أدعم بها الحائط إذا مال ، وأمثال ذلك كثيرة " .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
📘 وبعد أن بين - سبحانه - سوء عاقبة الكافرين أكمل بيان وأحكمه ، حذر المؤمنين من أهل الكتاب ومن على شاكلتهم ممن لا يريدون للإسلام إلا الشرور والمضار فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .قال الفخر الرازى ما ملخصه : اختلفوا فى الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم؟ فقيل هم اليهود ، لأن بعض المسلمين كانوا يشاورونهم فى أمورهم ويؤانسونهم لما كان فيهم من الرضاع والحلف . وقيل هم المنافقون ، وذلك لأن بعض المؤمنين كانوا يغترون يظاهر أقوالهم فيفشون إليهم الأسرار والصحيح أن المراد بهم جميع أصناف الكفار ، والدليل عليه قوله تعالى : { بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين ، فيكون ذلك نهيا عن جميع الكفار " .والبطانة فى الأصل : داخل الثوب ، وجمعها بطائن . قال - تعالى - : ( مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الجنتين دَانٍ ) . وظاهر الثوب يسمى الظهارة ، والبطانة - أيضاص - الثوب الذى يجعل تحت ثوب آخر ويسمى الشعار ، وما فوقه الدثار وفى الحديث " الأنصار شعار والناس دثار " .ثم أطلقت البطانة على صديق الرجل وصفيه الذى يطلع على شئونه الخفية تشبيها ببطانة الثياب فى شدة القرب من صاحبها . قال الشاعر :أولئك خلصائي نعم وبطانتى ... وهم عيبتى من دون كل قريبوقوله : { مِّن دُونِكُمْ } أى من غير أهل ملتكم .والمعنى : لا يجوز لكم - أيها المؤمنون - أن تتخذوا من غير أهل ملتكم أصفياء وأولياء تلقون إليهم بأسراركم لاتى لا يصح لكم أن تطلعوهم عليها ، لأنكم لو فعلتم ذلك لأصابكم الضرر فى دينكم ودنياكم .قال القرطبى : " نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء ، يفاوضونهم فى الآراء ويسندون إليهم أمورهم . وفى سنن أبى داود عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " وقيل لعمر بن الخطاب - رضى الله عنه - إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم ، أفلا يكتب عنك؟ فقال : لا آخذ بطانة من دون المؤمنين " .ثم قال القرطبى - رحمه الله - : قلت وقد انقلبت الأحوال فى هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء ، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء . روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ما بعث الله من نبى ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه . وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه ، والمعصوم من عصمه الله " .وصدر - سبحانه - النداء بوصف الإيمان ، للإشعار بأن مقتضى الإيمان يوجب عليهم ألا يأمنوا من يخالفهم فى عقيدتهم على أسرارهم ، وألا يتخذوا أعداء الله وأعداءهم أولياء يلقون إليهم بالمودة ، وألا يطلعوهم على ما يجب إخفاؤه من شئون وأمور خاصة بالمؤمنين وقوله : { مِّن دُونِكُمْ } يجوز أن يكون صفة لبطانة فيكون متعلقاً بمحذوف ، أى لا تتخذوا بطانة كائنة من غيركم .ويجوز أن يكون متعلقا بقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ } أى لا تتخذوا من غير أهل ملتكم بطانة تصافونهم وتطلعونهم على أسراركم .ثم ذكر - سبحانه - جملة من الأسباب التى تجعل المؤمنين يمتنعون عن مصافاة هؤلاء الذين يخالفونهم فى عقيدتهم فقال فى بيان أول هذه الأسباب : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } وأصل " الألو " : التقصير . يقال : ألا فى الأمر - كغزا - يألو ألواً وألوا ، إذا قصر فيه ، ومنه قول امرىء القيس :وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا آلأراد ولا مقصر ، وهو - أى الفعل " يألو " من الأفعال اللازمة التى تتعدى إلى المفعول بالحرف ، وقد يستعمل متعديا إلى مفعولين كا فى قولهم : لا آلوك نصحاً ، على تضمين الفعل معنى المنع . أى لا أمنعك ذلك .والخبال : الشر والفساد . وأصله ما يلحق الحيوان من مرض وفتور فيورثه فسادا واضطراباً . يقال خبله وخبله فهو خابل . والجمع الخبل ورجل مخبل إذا أصيب بمرض أورثه اضطراباً وفساداً فى قواه العقلية والفكرية .والمعنى : أنهاكم - أيها المؤمنون - عن أن تتخذوا أولياء وأصفياء لكم من غير إخوانكم المؤمنين ، لأن هؤلاء الأولياء من غير إخوانكم المؤمنين ، لا يقصرون فى جهد يبذلونه فى إفساد أمركم ، وفيما يورثكم شرا وضرا . أو لا يمنعونكم خبالا ، أى أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولا يبقون شيئاً منه عندهم ، بل يبذلون قصارى جهدهم فى إليحاق الضرر بكم فى دينكم ودنياكم .وقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } جملة مستأنفة مبينة لحالهم داعية إلى اجتنابهم . أو صفة لقوله : { بِطَانَةً } .وقوله : { خَبَالاً } منصوب على أنه المفعول الثانى ليألونكم لتضمينه معنى يمنعونكم .ويصح أن يكون منصوبا بنزع الخافض أى لا يقصرون لكم عن جهد فيما يورثكم شرا وفسادا .أما السبب الثانى الذى يحمل المؤمنين على اجتناب هؤلاء الضالين فقد بينه - سبحانه - بقوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } .وقوله : { وَدُّواْ } من الود وهو المحبة . يقال : وددت كذا أى أحببته .وقوله : { عَنِتُّمْ } من العنت وهو شدة الضرر والمشقة . ومنه قوله - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } أى لأوقعكم فيما يشق عليكم .و { مَا } فى قوله : { مَا عَنِتُّمْ } هى ما المصدرية . أى : أن هؤلاء الذين تصافونهم وتفشون إليهم أسراركم مع أنهم ليسوا على ملتكم ، بجانب أنهم لا يألون جهدا فى إفساد أمركم ، فإنهم يحبون عنتكم ومشقتكم وشدة ضرركم ، وتفريق جمعكم ، وذهاب قوتكم .فالجملة الأولى وهى قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } بمنزلة المظهر والنتيجة ، وهذه . أى قوله تعالى : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } بمنزلة الباعث والدافع .فهم لا يودون للمسلمين الخير والاطمئنان والأمان ، وأنما يودون لهم الشقاء والشرور والخسران .وليس بعاقل ذلك الذى يطلع من يريد له الشرور على أسراره ودخائله .وأما السبب الثالث الذى يدعو المؤمنين إلى اجتنابهم فقد بينه الله - تعالى - بقوله : { قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } .والبغضاء مصدر كالسراء والضراء ، وهى البغض الشديد المتمكن فى النفوس ، والثابت فى القلوب .أى : قد ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم ، وطفح البغض الباطن فى قلوبهم لكم حتى خرج من أفواههم ، ولاح على صفحات وجوههم ، وقد قيل : كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان . ومع هذا فإن ما تخفيه نفوسهم المريضة لكم من أحقاد وإحن ، أكبر مما نطقت به ألسنتهم من بغضاء ، إذ أن ما نطقوا به إنما هو بمثابة الرشح الذى ظهر من مسام أجسادهم وقلوبهم ، أما ما يبيتونه لكم من شرور وآثام فهو أكبر من ذلك بكثير .وخص الأفواه بالذكر دون الألسنة . للإشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم فى أقوالهم الباطلة ، فهم أشد جرما من المتستر الذى تبدو البغضاء فى عينيه .ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان مظهر من مظاهر فضله على المؤمنين حيث كشف لهم عن أحوال أعدائهم ، وعن سوء نواياهم وعن الأسباب التى تدعو إلى الحذر منهم فقال - تعالى - : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } .أى قد بينا لكم العلامات الواضحات ، والآيات البينات التى تعرفون بها أعداءكم ، وتميزون عن طريقها بين الصديق وبين العدو ، إن كنتم من أهل العقل والفهم .والمقصود من الجملة الكريمة حضهم على استعمال عقولهم بتأمل وتدبر فى هذه الآيات التى بينها الله لهم فضلا منه وكرما ، وحتى لا يتخذوا بطانة من غير إخوانهم فى العقيدة والدين .وجواب الشرك محذوف لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : إن كنتم تعقلون ذلك فلا تباطنوهم ولا تفشوا لهم أسراركم .
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
📘 ثم ذكر - سبحانه - أموراً أخرى من شأنها أن تجعل المؤمنين يقلعون عن مباطنة ومصافاة أعدائهم فى الدين فقال : { هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أى ها أنتم أولاء أيها المؤمنون تحبون هؤلاء الذين يخالفونكم فى عقيدتكم ، وتتمنون لهم الهداية والخير ، بينما هم لا يحبونكم ولا يريدون لكم إلا الشرور والهزائم والضعف .وفى هذه الجملة الكريمة عتاب ولوم للمؤمنين الذين يلقون إلى أعدائهم بالمودة ، ويكشفون لهم عن أسرارهم ودخائلهم .ز { هَآ } حرف تنبيه ، وقوله : { أَنْتُمْ } مبتدأ وقوله : { أولاء } خبره ، وقوله : { تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } كلام مستأنف لبيان خطئهم فى موالاتهم ومحبتهم لمن يبغضونهم ويخالفونهم فى الدين .وبعضهم جعل { أَنْتُمْ } مبتدأ ، وقوله : { أولاء } منادى حذف منه حرف النداء ، وقوله : { تُحِبُّونَهُمْ } هو الخبر عن المبتدأ .وبعضهم جعل جملة { تُحِبُّونَهُمْ } فى موضع نصب على الحال من اسم الإشارة الذى هو الخبر .والمراد بالكتاب فى قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ } جنس الكتب السماوية التى أنزلها الله على أنبيائه .أى أنتم أيها المؤمنون تحبونهم وهم لا يحبونكم ، وأنتم تؤمنون بجميع الكتب السماوية التى أنزلها الله على أنبيائه وهم لا يؤمنون بشىء من كتابكم الذى أنزله الله على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وما دام الأمر كذلك فكيف تتخذونهم بطانة من دون إخوانكم المؤمنين؟ لا شك أن من يفعل ذلك يكون بعيدا عن الطريق القويم ، والعقل السليم .ثم بين - سبحانه - سبباً ثالثاً يدل على قبيح مخالطتهم ومصافاتهم فقال - تعالى - : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } .والعض هو الإمساك بالأسنان أى تحامل الأسنان بعضها على بعض . يقال : عض يعض عضاً وعضيضاً إذا تحامل بأسنانه على الشىء .والأنامل جمع أنملة ، وهى أطراف الأصابع . وقيل هى الأصابع .والغيظ : أشد الغضب . وعضهم الأنامل كناية عن شدة غضبهم وتحسرهم وحنقهم على المؤمنين .أى أن هؤلاء الذين يواليهم بعضكم أيها المؤمنون بلغ من نفاقهم وسوء ضمائرهم أنهم إذا لقوكم قالوا آمنا بدينكم وبنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وإذا خلوا ، أى خلا بعضهم ببعض أكل الحقد قلوبهم عليكم ، وسلقوكم بألسنة حداد ، وتمنوا لكم المصائب ، وأظهروا فيما بينهم أشد ألوان الغيظ نحوكم بسبب ما يرونه من ائتلافكم ، واجتماع كلمتكم ، وعجزهم عن أن يجدوا سبيلا إلى التشفى منكم . وإلحاق الأضرار بين صفوفكم .ومن كان كذلك فى كفره ونفاقه ، كان من الواجب على كل مؤمن أن يحتقره وأن يبتعد عنه؛ لأنه لا يزيد للمؤمنين إلا شرا .ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يكبت هؤلاء المنافقين ويبقى حسرتهم فقال : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم : ولكل مؤمن من أتباعه لتحريضه على مقاطعة هؤلاء الذين لا يريدون إلا الشر .أى : قل لهم دوموا على غيظكم واستمروا عليه إلى أن تموتوا . فإن قوة الإسلام وعزة أهله التى جعلتكم تبغضون المؤمنين ستبقى وستستمر ، وإن أحقادكم على المسلمين لن تنقص من قوتهم وعلو كلمتهم شيئاً .فالمراد الدعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا بهن وهذا يستلزم أن يستمر ما يغيظهم ويكبتهم وهو نجاح الإسلام وقوته .والباء فى قوله : { بِغَيْظِكُمْ } للملابسة ، أى موتوا متلبسين بغيظكم وحقدكم .وقوله : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أى محيط بما خفى فيها ، ومطلع على ما يبيته هؤلاء المنافقون للمسلمين ، وسيحاسبهم عليه حسابا عسيراً . ويعذبهم بسبب ذلك عذابا اليما .قال الجمل : وهذه الجملة يحتمل أن تكون مستأنفة ، أخبر الله - تعالى - بذلك . لأنهم كانوا يخفون غيظهم ما أمكنهم ، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد . ويحتمل أن تكون من جملة المقول ، أى قل لهم كذا وكذا فتكون فى محل نصب بالقول ، ومعنى قوله : { بِذَاتِ الصدور } أى بالمضمرات ذوات الصدور .فذات هنا تأنيث ذى بمعنى صاحبة الصدور . وجعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها وعدم انفكاكها عنها ، نحو أصحاب الجنة وأصحاب النار .وفى هذه الجملة الكريمة تطييب لقلب النبى صلى الله عليه وسلم ولقلوب أصحابه . حيث بين - سبحانه - لهم أنه ناصرهم ، وأنه كاشف لهم أمر أعدائهم متى أطاعوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه ، ولم يجعلوا من أولئك الأعداء الذين يضمرون لهم كل شر وضغينة بطانة لهم .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
📘 وفي قوله : { والله شَدِيدُ العقاب } إشارة إلى أن شدة العقاب سببها شدة الجريمة وتعليم للناس بأن كل فعل له جزاؤه ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وتقرير وتأكيد لمضمون ما قبلها . ثم أنذر الله - تعالى - الكافرين بسوء المصير ، وبشر المؤمنين بحسن العاقبة فقال - تعالى - : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد } .وقد وردت روايات في سبب نزول هذه الآية والتي بعدها . من أشهرها : ما ذكره ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو بن قتادة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من قريش ما أصاب في غزوة بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال : " يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم " فقالوا يا محمد ، لا يغرنك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة . إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس . فأنزل الله - تعالى - { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ } إلى قوله - تعالى - { لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } " والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء اليهود وأمثالهم من المشركين الذين يدلون بقوتهم ، ويغترون بأموالهم وأولادهم وعصبيتهم . . قل لهم ستغلبون وتهزمون في الدنيا على أيدى المؤمنين وتحشرون يوم القيامة ثم تساقون إلى نار جهنم لتلقوا فيها مصيركم المؤلم ، { وَبِئْسَ المهاد } أي بئس المكان الذى هيأوه لأنفسهم في الآخرة بسبب سوء فعلهم .والمهاد : المكانل الممهد الذى ينام عليه كالفراش .ولقد أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتولى الرد عليهم . وأن يواجههم بهذا الخطاب المشتمل على التهديد والوعيد ، لأنهم كانوا يتفاخرون عليه بأموالهم وبقوتهم ، فكان من المناسب أن يتولى صلى الله عليه وسلم الرد عليهم ، وأن يخبرهم بأن النصر سيكون له ولأصحابه ، وأن الدائرة ستدور عليهم .وقوله { سَتُغْلَبُونَ } إخبار عن أمر يحصل في المستقبل ، وقد وقع كما أخبر به الله - تعالى - فقد دارت الدائرة على اليهود من بني قيقناع والنضير وقريظة وغيرهم ، بعد بضع سنوات من الهجرة ، وتم فتح مكة في السنة الثامنة بعد الهجرة .وقوله { وَبِئْسَ المهاد } إما من تمام ما قال لهم ، أو استئناف لتهويل شأن جهنم ، وتفظيع حال أهلها .
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
📘 ثم ذكر - سبحانه - لونا آخر من ألوان بغض هؤلاء الكافرين للمؤمنين فقال - سبحانه - : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } والمس : أصله الجس باليد . أطلق على كل ما يصل إلى الشىء على سبيل التشبيه ، فيقال : فلان مسه النصب أو التعب ، أى أصابه .والمراد بالحسنة هنا منافع الدنيا على اختلاف ألوانها ، كصحة البدن ، وحصول النصر ، ووجود الألفة والمحبة بين المؤمنين .أى إن تمسسكم - أيها المؤمنون - حسنة كنصركم على أعدائكم . وإصلاح ذات بينكم ، { تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ } كنزول مصيبة بكم ، يفرحوا بها . أى يبتهجوا بها ، وتستطار ألبابهم سرورا وحبورا بسبب ما نزل بكم من مكاره .فالجملة الكريمة بيان لفرط عداوة هؤلاء المنافقين للمؤمنين ، حيث يحسدونهم على ما ينالهم من خيرن ويشمتون بهم عندما ينزل بهم شر .وعبر فى جانب الحسنة بالمس ، وفى جانب السيئة بالإصابة ، للإشارة إلى تمكن الأحقاد من قلوبهم ، بحيث إن أى حسنة حتى ولو كان مسها للمؤمنين خفيفاً وليس غامراً عاما فإن هؤلاء المنافقين يحزنون لذلك ، لأنهم يستكثرون كل خير للمؤمنين حتى ولو كان هذا الخير ضئيلا .أما بالنسبة لما يصيب المؤمنين من مكاره ، فإن هؤلاء المنافقين لا يفرحون بالمصيبة التى تمس المؤمنين مساً خفيفاً ، فإنها لا تشفى غيظهم وحقدهم ، وإنما يفرحون بالمصائب الشديدة الت تؤذى المؤمنين فى دينهم ودنياهم أذى شديدا ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بغرشاد المؤمنين إلى الدواء الذى يتقون به كيد أعدائهم وأعدائه فقال - تعالى - : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .وقوله : { تَصْبِرُواْ } من الصبر وهو حبس النفس على ما يقتضيه الشرع والعقل .وقوله : { وَتَتَّقُواْ } من التقوى وهى صيانة الإنسان نفسه عن محارم الله .وقوله : { كَيْدُهُمْ } من الكيد وهو أن يحتال الشخص ليوقع غيره في مكروه .والمعنى : { وَإِن تَصْبِرُواْ } أيها المؤمنون على طاعة الله ، فتضبطوا أنفسكم ولا تنساقوا فى مبحة من لا يستحق المحبة ، وتتحملوا بعزيمة صادقة مشاق التكاليف التى كلفكم الله بها ، وتقاوموا العداوة بمثلها { وَتَتَّقُواْ } الله - تعالى - فى كل ما نهاكم عنه ، وتمتثلوا أمره فى كل ما أمركم به ، إن فعلتم ذلك { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ } وتدبيرهم السىء { شَيْئاً } من الضرر ببركة هاتين الفضيلتين : الصبر والتقوى ، فإنهما جامعتان لمحاسن الطاعات ، ومكارم الأخلاق .وإن لم تفعلوا ذلك اصابكم الضرر ، واستمكنوا منكم بكيدهم ومكرهم ، قال الجمل ما ملخصه : وقوله : { لاَ يَضُرُّكُمْ } وردت فيه قراءتان سبعيتان :إحداهما : بضم الضاد وضم الراء مع التسديد - من ضر يضر .والثانية : { لاَ يَضِرْكُمْ } بكسر الضاد وسكون الراء - من ضار يضير . والفعل فى كليهما مجزوم جواباً للشرط ، وجزمه على القراءة الثانية " يضركم " ظاهر ، وعلى القراءة الأولى " يضركم " يكون مجزوماً بسكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الإتباع للتخلص من التقاء الساكنين ، وأصل الفعل يضرركم - بوزن ينصركم - نقلت حركة الراء الأولى إلى الضاد ثم أدغمت فى الثانية ، وحركت الثانية بالضم إتباعاً لحركة الضاد " .وقوله : { شَيْئاً } نصب على المصدرية . أى لا يضركم كيدهم شيئاً من الضرر لا قليلا ولا كثيرا بسبب اعتصامكم بالصبر والتقوى .وقوله : { إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } تذييل قصد به إدخال الطمأنينة على قلوب المؤمنين ، والرعب فى قلوب أعدائهم . . أى إنه - سبحانه - محيط بأعمالهم وبكل أحوالهم ، ولا تخفى عليه خافية منها ، وسيجازيهم عليها بما يستحقونه من عذاب أليم بسبب نياتهم الخبيثة ، وأقوالهم الذميمة . وأفعالهم القبيحة .وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد نهت المؤمنين بأسلوب بليغ حكيم عن مصافاة من يخالفونهم فى الدين ، وذكرت لهم من صفات وأحوال هؤلاء المخالفين ما يحملهم على منابذتهم والحذر منهم والبعد عنهم ، وأرشدتهم إلى ما يعينهم على النصر عليهم وعلى التخلص من آثار مكرهم وكيدهم .وإنها لوصايا حكيمة وتوجيهات سديدة ، وإرشادات عالية ، ما أحوج المسلمين فى كل زمان ومكان إلى العمل بها لكى يفلحوا فى دنياهم وآخرتهم .تدبر معى - أخى القارىء - هذه الآيات مرة أخرى فماذا ترى؟إنك تراها توجه إلى المؤمنين نداء محببا إلى نفوسهم ، محركا لحرارة العقيدة فى قلوبهم . . حيث نادتهم بصفة الإيمان ، ونهتهم فى هذا النداء عن اتخاذ أولياء وأصفياء لهم من غير إخوانهم المؤمنين . ولكن هل اكتفت بهذا النهى مع أنه كفيل بحجز المؤمنين علما نهتهم عنه؟كلا ، إنها لم تكتف بذلك ، بل ساقت لهم صورة كاملة السمات لأحوال أعدائهم ، صورة ناطقة بدخائل نفوسهم ، وبمشاعرهم الظاهرة والخفية ، وبانفعالاتهم القلبية والجسدية ، وبحركاتهم الذاهبة والآيبة ، صورة ناطقة بحالهم عندما يلتقون بالمؤمنين ، وبحالهم عندما يفارقونهم ويخلون بأنفسهم ، أو عندما يلتقون بأمثالهم من الضالين . صورة ناطقة بسرورهم عند ما تصيب المسلمين مصيبة ، وبحزنهم عندما يرون المؤمنين فى نعمة يسيرة .صورة ناطقة بموقف المؤمنين منهم وبموقفهم هم من المؤمنين ثم بعد رسم هذه الصورة العجيبة المتكاملة لهم ، يسوق القرآن للمؤمنين أسمى وأحكم ألوان التوجيه والإرشاد الذى يجعلهم فى مأمن من كيدهم ومكرهم { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } .أرأيت - يا أخى - كيف ربى القرآن أتباعه أكمل تربية وأحكمها وأسماها؟ إنه نهاهم أولا عن مباطنة أعدائهم ، ثم ساق لهم بعد ذلك من أوصافهم وأحوالهم ما يقنعهم ويحملهم على البعد عنهم ، ثم أرشدهم إلى الدواء الذى ينجيهم من مكرهم .فما أحكمه من توجيه . وما أسماه من إرشاد ، وإن ذلك ليدل على أن هذا القرآن من عند الله { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } وإلى هنا تكون سورة آل عمران قد حدثتنا - من بين ما حدثتنا - فى مائة وعشرون آية منها ، عن بعض الأدلة على وحدانية الله - تعالى - ، وعن مظاهر قدرته ورحمته ، وعن كتبه التى أنزلها على أنبيائه لسعادة الناس وهدايتهم وعن حب الناس للشهوات وعما هو أسمى وأفضل من هذه الشهوات الزائلة ، وعن المجادلات التى حدثت بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أهل الكتاب فيما يتعلق بوحدانية الله - تعالى - وبصحة دين الإسلام ، وعن جوانب من قصة آل عمران وما اشتملت عليه من عظات وعبر ، وعن الشبهات التى آثارها اليهود حول الدعوة الإسلامية والمسالك الخبيثة التى سلكوها فى حربهم لها وكيف رد القرآن عليهم بما يفضحهم ويكشف عن كذبهم ، ويجعل المؤمنين يزدادون إيمانا على إيمانهم .والخلاصة أن السورة الكريمة من مطلعها إلى هنا قد ساقت - من بين ما ساقت - ألوانا من الحرب النفسية التى شنها أهل الكتاب على الدعوة الإسلامية ، وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويبصرهم بالحق - إن كانوا طلاب حق - وساقت للمؤمنين من التوجيهات والعظات ، ما يهدى قلوبهم ، ويصلح بالهم ويكفل لهم النصر على أعدائهم .وبعد هذا السبح الطويل فى الحديث عما دار بين المسلمين وبين أعدائهم من حرب كلامية وفكرية ونفسية . . . انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن حروب السيف والسنان ، وما صاحبها من أفكار وأقوال وأفعال .فقد حدثتنا السورة الكريمة فى حوالي ستين آية عن جوانب متعددة من غزوة " أحد " تلك الغزوة التى كانت لها آثارها الهامة في حياة المسلمين وأحوالهم .ولعل من الخير - قبل أن نبدأ فى تفسير الآيات الكريمة التى وردت فى سورة آل عمران بشأن هذه الغزوة - أن نسوق خلاصة تاريخية لهذه الغزوة تعين على فهم الآيات المتعلقة بها ، فنقول :كانت غزوة بدر من الغزوات المشهورة فى تاريخ الدعوة الإسلامية ، فقد انتصر المسلمون فيها انتصارا مؤزرا على كفار قريش .وصمم المشركون على أن يأخذوا بثأرهم من المسلمين ، فجمعوا جموعهم ، وخرجوا فى جيش كبير ، ومعهم بعض نسائهم حت يكون ذلك أبلغ فى استماتة الرجال فى القتال .ووصل مشركو قريش ومعهم حلفاؤهم إلى أطراف المدينة فى أوائل شوال من السنة الثالثة ، وكان عددهم يربو على ثلاثة آلاف رجل .واستشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى شان هؤلاء المشركين الزاحفين إلى المدينة .فكان رأى بعضهم - ومعظمهم من الشباب - الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة .وكان من رأى فريق آخر من الصحابة ، استدراج المشركين إلى أزقة المدينة ومقاتلتهم بداخلها ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يميل إلى رأى هذا الفريق ، إلا أنه آثر الأخذ برأى الفريق الأول الذى يرى أصحابه الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة ، نظراً لكثرة عدد القائلين بذلك .ثم دخل النبى صلى الله عليه وسلم بيته ، ثم خرج منه وقد لبس آلة حربه ، وشعر بعض المسلمين أنهم قد استكرهوا النبى صلى الله عليه وسلم على القتال ، فأظهروا له الرغبة فى النزول على رأيه ، إلا أنه لم يستجب لهم ، وقال كلمته التى تعمل الناس الحزم وعدم التردد : " ما ينبغى لنبى لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ، لقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج ، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس . وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه " .ثم خرج النبى صلى الله عليه وسلم فى ألف مقاتل من المسلمين حتى نزل قريباً من جبل " أحد " إلا أن " عبد الله بن أبى بن سلول " انسحب في الطريق بثلث الناس محتجا بأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه ، بل أخذ برأى غيره .وعكسر المسلمون بالشعب من أحد ، جاعلين ظهرهم إلى الجبل ، ورسم النبى صلى الله عليه وسلم الخطة لكسب المعركة ، فجاءت خطة محكمة رائعة . فقد وزع الرماة على أماكنهم - وكانوا خمسين راميا- ، وقال لهم : " انضحوا الخيل عنا بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا فالزموا أماكنكم لا نؤتين من قبلكم " .وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم : " أحموا ظهورنا ، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا . وإن رأيتمونا نغنم فلا تُشركونا " .وأخيراً التقى الجمعان ، وأذن النبى صلى الله عليه وسلم لأتباعه أن يجالدوا أعداءهم ، وأظهر المسلمون أسمى صور البطولة والإقدام ، وكان شعارهم فى هذا الالتحام " أمت أمت " .وما هى إلى جولات فى أوائل المعركة ، حتى ولى المشركون المسلمين الأدبار ، ولم يغن عن المشركين شيئاً ما كانت تقوم به نسوتهم من تحريض واستنهاض للعزائم .قال ابن إسحاق : ثم أنزل الله - تعالى - نصره ، وصدق وعده ، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعكسر ، وكانت الهزيمة لا شك فيها .ورأى الرماة الهزيمة وهى تحل بقريش ، فتطلعت نفوسهم إلى الغنائم ، وحاول أميرهم ، عبد الله بن جبير أن يمنعهم من ترك أماكنهم عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن معظهم تركوا أماكنهم ونزلوا إلى ساحة المعركة ليشاركوا فى جمع الغنائم والأسلاب .وأدرك خالد بن الوليد - وكان ما زال مشركا - أن ظهور المسلمين قد انكشفت بترك الرماة لأماكنهم ، فاهتبل الفرصة على عجل ، واستدار بمن معه من خيل المشركين خلف المسلمين فأحدق بهم ، وأخذ فى مهاجمتهم من مكان ما كانوا ليظنوا أنهم سيهاجمون منه ، فقد كانوا يعتمدون على الرماة فى حماية ظهورهم .وعاد المشركون المنهزمون إلى مقاتلة المسلمين ، بعد أن رأوا ما فعله خالد ومن معه . واضطربت صفوف المسلمين للتحول المفاجىء الذى حدث لهم ، إلا أن فريقا منهم أخذ يقاتل ببسالة وصبر . واستشهد عدد كبير منهم وهم يحاولون شق طريقهم .وأصيب النبى صلى الله عليه وسلم خلال ذلك بجروح بالغة ، وأشيع أنه قد قتل ، إلا أنه صلى الله عليه وسلم جعل يصيح بالمسلمين : إلى عباد الله ، إلى عباد الله . . . فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلا ، ودافعوا عنه دفاع الأبطال المخلصين .ومرت على المسلمين ساعة من أحرج الساعات فى تاريخ الدعوة الإسلامية فقد كان المشركون يهاجمون النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعناد وحقد ، وكان المسلمون مستميتين فى الدفاع عن رسولهم صلى الله عليه وسلم وعن أنفسهم .وكان لهذه الاستماتة آثارها فى تراجع المشركين ، وقد ظنوا أنهم قد أخذوا بثأرهم من المسلمين . .وخشى النبى صلى الله عليه وسلم أن يكون تراجع المشركين من أجل مهاجمة المدينة ، فقال لعلى بن أبى طالب : " اخرج فى آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة . وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل ، فهم يريدون المدينة . فوالذى نفسى بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ، ثم لأناجزنهم فيها " .قال على : فخرجت فى آثارهم فرأيتهم جنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، واتجهوا إلى مكة .وعندما انصرف أبو سفيان نادى : إن موعدكم بدر العام المقبل ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه : قل لهم : نعم بيننا وبينك موعد .وانتهت غزوة أحد باستشهاد حوالى سبعين صحابيا من بينهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ، وسعد بن الربيع . وغيرهم من الأبطال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه .وهذه خلاصة لأحداث غزوة أحد كما روتها كتب السيرة .
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
📘 والآن فلنول وجوهنا شطر القرآن الكريم ، لنتدبر حديثه الحكيم عن هذه الغزوة ، ولنستمع إليه بقلوب واعية ، وآذان متفتحة ، وهو يبدأ حديثه عنها فيقول : { وَإِذْ غَدَوْتَ . . . } .فى هذه الآيات الكريمة التى بدأت السورة بها حديثها عن غزوة أحد ، تذكير للمؤمنين بما وقع فيها حتى يعتبروا ويعتصموا بحبل الله جميعاً ولا يتفرقوا .وقوله - تعالى - : { غَدَوْتَ } من الغدو وهو الخروج فى أول النهار ، يقال : غدا يغدو من باب سما يسمو .و { مِنْ } فى قوله : { مِنْ أَهْلِكَ } للابتداء ، والمراد بأهله ، زوجه عائشة - رضى الله عنها - فقد كان خروجه لغزوة أحد من بيتها . والكلام على حذف مضاف يدل عليه فعل { غَدَوْتَ } والتقدير : من بيت أهلك .وقوله : { تُبَوِّىءُ } أصله من التبوء وهو اتخاذ المنزل . يقال : بوأته ، وبوأت له منزلا ، أى : أنزلته فيه . والمراد به هنا تنظيم المؤمنين وتسويتهم للقتال ، حتى يكونوا صفا واحداً كأنهم بنيان مرصوص .والعامل فى { وَإِذْ } فعل مضمر تقديره ، واذكر .والمعنى : واذكر لهم يا محمد ليعتبروا ويتعظوا وقت خروجك مبكراً من حجرة زوجتك عائشة إلى غزوة أحد .وقوله : { تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أى تنزلهم وتسوى لهم بالتنظيم والترتيب مواطن وأماكن للقتال ، بحيث يكونون فى أحسن حال ، وأكمل استعداد لملاقاة أعدائهم .قال الجمل : " ويستعمل الفعل { غَدَوْتَ } بمعنى صار عند بعضهم ، فيكون ناقصاً يرفع الاسم وينصب الخبر . . . وهذا المعنى ممكن هنا ، فالمعنى عليه ، وإذ غدوت أى صرت تبوىء المؤمنين أى تنزلهم فى منازل للقتال ، وهذا أظهر من الآخر ، لأن المذكور فى القصة أنه سار من عند أهله بعد صلاة الجمعة وبات فى شعب أحد ، وأصبح ينزل أصحابه فى منازل القتال ويدبر لهم أمر الحرب " .فالجملة الكريمة تشير إلى ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم مع أصحابه قبل أن تبدأ المعركة ، فقد اهتم بتنظيم صفوفهم ، وبرسم الخطة الحكيمة التى تكفل لهم النصر ، وأمر الجيش كله ألا يتحرك للقتال إلا عندما يأذن له بذلك ، ولقد حدث أن بعض المسلمين من الأنصار استشرف للقتال وتمناه عندما رأى قريشا قد سرحت خيولها وإبلها فى زروع المسلمين ، وقال للنبى صلى الله عليه وسلم " أترعى زروع بنى قيلة - يعنى الأنصار - ولما تضارب "؟؟ إلا أن النبى صلى الله عليه وسلم نهاهم عن القتال إلا بعد إذنه .وجملة { تُبَوِّىءُ } حال من فاعل " غدوت " .والفعل { تُبَوِّىءُ } يحتاج لمفعولين :أولهما : قوله : { المؤمنين } .وثانيهما : قوله : { مَقَاعِدَ } وقوله : { لِلْقِتَالِ } متعلق بقوله : { تُبَوِّىءُ } .والمراد بقوله : { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أى مراكز وأماكن ومواقف للقتال بحيث يعرف كل مؤمن مكانه وموقفه فينقض منه على خصمة إلا أن القرآن الكريم عبر عن هذه الأماكن والمراكز والمواقف بالمقاعد . للإشارة إلى وجوب الثبات فيها كما يثبت القاعد فى مكانه ، وأن عليهم ألا يبرحوا أماكنهم إلا بإذن قائدهم صلى الله عليه وسلم .وقد ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لبيان أنه مطلع على كل شىء ، وعلى ما كان يجرى بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه من مشاورات ومناقشات .فهو - سبحانه - { سَمِيعٌ } لما نطقت به ألسنتهم { عَلِيمٌ } بما تخفيه صدورهم ، وسيجازى المؤمنين الصادقين بما يستحقون من ثواب ، وسيجازى غيرهم من ضعاف الإيمان والمنافقين بما يستحقون من عقاب .فالمقصود من هذه الجملة الكريمة غرس الرهبة فى قلوب المؤمنين ، حتى لا يعودوا إلى مثل ما حدث من بعضهم فى غزوة أحد . حيث خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر - سبحانه - ما راود قلوب بعض المؤمنين من ضعف وفضل ، عندما رأوا زعيم المنافقين عبد الله بن أبى ينخذل بثلث الجيش فقال - تعالى - :
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
📘 { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } .الهم : هو حديث النفس واتجاهها إلى شىء معين دون أن تأخذ فى تنفيذه فإذا أخذت فى تنفيه صار إرادة وعزماً وتصميماً .وتفشلا : من الفشل والجبن والخور والضعف . يقال : فشل يفشل فشلا فهو فشل أى جبان ضعيف القلب .أى : واذكر لهم وقت أن همت طائفتان منكم يا معشر المؤمنين أن تفشلا وتضعفا وتجبنا عن القتال فى وقت الشديدة والكريهة .وقوله : { والله وَلِيُّهُمَا } أى ناصرهما ويتولى أمرهما .وهاتان الطائفتان هما بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وكانتا جناحى الجيش فى يوم أحد .روى الشيخان عن جابر - رضى الله عنه - قال : فينا نزلت { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا } قال : نحن الطائفتان : بنو حارثة وبنو سلمة ، وما نحب أنها لم تنزل لقوله - تعالى - { والله وَلِيُّهُمَا } .أى : لفوط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله - تعالى - عليهم ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية . وأن ما حدثوا به أنفسهم لم يخرجهم عن ولايته سبحانه لأنهم لم ينساقوا وراء هذا الهم الباطل ، بل سرعان ما عادوا إلى يقينهم وإيمانهم الصادق ، وطاعتهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم .ولذا قال صاحب الكشاف : والطائفتان حيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس هموا باتباع عبد الله بن أبى عندما انخذل بثلث الناس وقال : يا قوم علام نقتل أنفسنا وأولادنا! فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .وعن ابن عباس قال : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا . والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس . كما لا تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع ، ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر ، ويوطنها على احتمال المكروه . لو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية " .وقد ختم - سبحانه - الآية بدعوة المؤمنين إلى التوكل عليه وحده فقال : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } .والتوكل : تفعل من وكل فلان أمره إلى فلان . إذا اعتمد فى كفايته عليه ولم يتوله بنفسه .والتوكل الحقيقى إنما يكون بعد الأخذ بالأسباب التى شرعها الله - تعالى - ثم بعد ذلك يترك الإنسان النتائج للخالق - عز وجل - يسيرها كيف يشاء . والجملة الكريمة أفادت قصر التوكل على الله وحده ، كما يؤذن به تقديم الجار والمجرور .أى وعلى الله وحده لا على غيره فليكل المؤمنون أمورهم ، بعد اتخذا الأسباب التى أمرهم - سبحانه - باتخاذها ، فإنهم متى فعلوا ذلك تولاهم - سبحانه - بتأييده ورعايته .
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
📘 ثم ذكرهم - سبحانه - بفضله عليهم وتأييده لهم يوم غزوة بدر فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } .وبدر : اسم لماء بين مكة والمدينة ، التقى عنده المسلمون والمشركون من قريش فى السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، وكان عدد المشركين قريبا من ألف رجل ، ومع ذلك كان النصر حليفا للمسلمين . والأذلة - كما يقول الزمخشرى : جمع قلة ، وجاء بجمع القلة ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلين . وذلتهم : ما كان بهم من ضعف الحال ، وقلة السلاح والمال والمركوب ، وذلك أنهم خرجوا على النواضح يعتقب لانفر منهم على البعير الواحد ، وما كان معهم إلا فرس واحد . وقلتهم : أنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، وكان عدوهم فى حال كثرة زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس ، ومعهم الشكة والشوكة - أى السلاح والقوة - .وإذن فليس المراد بكونهم أذلة أنهم كانوا أضعاف النفوس . أو كانوا راضين بالهوان . وإنما المراد أنهم كانوا قليلى العدد والعدد ، فقراء فى الأموال وفى وسائل القتال .وفى هذا التذكير لهم بما حدث فى غزوة بدر ، تنبيه لهم إلى وجوب تفويض أمورهم إلى خالقهم ، وإلى أن القلة المؤمنة التقية الصابرة كثيراً ما تنتصر على الكثرة الفاسقة الظالمة ، ولذا فقد ختم - سبحانه - بقوله : { فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .أى فاتقوا الله بأن تستشعروا هيبته ، وتجتنبوا ما نهاكم عنه ، وتفعلوا ما أمركم به لعلعكم بذلك تكونون قد قمتم بواجب شكر ما أنعم به عليكم من نعم لا تحصى .
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ
📘 ثم ذكرهم - سبحانه - بما كان يوجهه إليهم النبى صلى الله عليه وسلم من توجيهات سامية ، وإرشادات نافعة فقال - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ } .قال ابن كثير : اختلف المفسرون فى هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد على قولين؟ أحدهما : أن قوله - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } متعلق بقوله { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } ، وهذا عن الحسن والشعبى والربيع بن أنس وغيرهم .فعن الحسن فى قوله : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } . . . إلخ قال : هذا يوم بدر . وعن الشعبى : أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر يريد أن يمد المشركين - برجال وسلاح - فشق ذلك على المسلمين فأنزل الله - تعالى - : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة } إلى قوله : { مُسَوِّمِينَ } قال : فبلغت كرزاً الهزيمة فلم يمد المشركين .وقال الربيع بن أنس : أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا بخمسة آلاف .فإن قيل فكيف الجمع بين هذه الآية على هذا القول وبين قوله فى قصة بدر { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ . . } إلى قوله : { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فالجواب : أن التنصيص على الألف ههنا لا ينافى الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله - تعالى - : ( مُرْدِفِينَ ) بمعنى غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم .وهذا السياق شبيه بالسياق في سورة آل عمران ، فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان ببدر .والقول الثاني يرى أصحابه أن هذا الوعد متعلق بقوله : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } وذلك يوم أحد . وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك وغيرهم . لكن قالوا : لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف ، لأن المسلمين يومئذ فروا . وزاد عكرمة : ولا بالثلاثة الآلاف لقوله - تعالى - :
بَلَىٰ ۚ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ
📘 { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } فلم يصبروا ، بل فروا فلم يمدوا بملك واحد . ويبدو من كلام ابن كثير أنه يميل إلى أن هذا الوعد كان يوم بدر ، فقد قال : فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر .وهذا ما تسكن إليه النفس : لأن الوعد بنصرة الملائكة للمؤمنين كان يوم بدر لا يوم أحد ، فقد كانوا فى بدر قليلى العدد والعدد ، وكانت غزوة بدر أول معركة حربية كبرى يلتقى فيها المؤمنون بالكافرين ، ولأن سياق الآيات يشعر بأن الله - تعالى - قد ساقها ليستحضر فى أذهان المؤمنين مشهد غزوة بدر وما تم فيها من نصر بسبب صدق إيمانهم ، وطاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم حتى لا يعودوا إلى ما حدث من بعضهم فى غزوة أحد من مخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم .وعلى هذا الرأى يكون قوله - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } متعلقا بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ } أى : اذكروا أيها المؤمنون أن الله - تعالى - قد نصركم ببدر وأنتم قلة فى العدد والعدة ، وكان رسولكم صلى الله عليه وسلم فى ذلك الوقت يقول لكم على سبيل التثبيت والتقوية : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ } أى منزلين من السماء لنصرتكم وتوقيتكم ودحر أعدائكم .أما على الرأى القائل بأن هذا الوعد كان غزوة احد ، فيكون قوله - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } إلخ .بدل من قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } .قال الآلوسى : " والهمزة فى قوله : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } لإنكار ألا يكفيهم ذلك . وأتى بلن لتأكيد النفى ، وفيه إشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لقلة عددهم وعدتهم . وفى التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من اللطف وتوقية الإنكار . وقوله : { أَن يُمِدَّكُمْ } فى تأويل المصدر فاعل { يَكْفِيكُمْ } . و { مِّنَ الملائكة } بيان أو صفة لآلاف أو لما أضيف إليه . و { مُنزَلِينَ } صفة لثلاثة آلاف ، وقيل حال من الملاكة " وقوله - تعالى - : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } إما من تتمة مقوله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ، وإما ابتداء خطاب من الله - تعالى - تأييداً لقول نبيه صلى الله علهي وسلم وزيادة على ما وعدهم تكرما وفضلا .وقوله : { بلى } إيجاب لما بعد " لن " أى ، بل يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف . ولكنه - سبحانه - يعدكم بأنكم { إِن تَصْبِرُواْ } على قتال أعدائكم وعلى كل ما أمركم الله بالصبر عليه ، وتتقوا . أى وتتقوا الله وتخشوه وتجتنبوا معاصيه { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا } أى ويأتوكم المشركون مسرعين ليحاربوكم ، وقد أعددتم أنفسكم لقتالهم ، إذا فعلتم ذلك .{ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } ، أى يمددكم ربكم بفضله ورعايته لكم بخمسة آلاف من الملائكة معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامات مخصوصة .وقرىء { مُسَوِّمِينَ } - بالفتح - أى معلمين من جهته - تعالى - بعلامات القتال . من التسويم وهو إظهار علامة الشىء .قال صاحب الكشاف : وقوله { مِّن فَوْرِهِمْ هذا } من قولك : قفل من غزوته وخرج من فوره إلى غزوة أخرى ، وجاء فلان ورجع من فوره . ومنه قول أبى حنيفة - رحمه اله - : الأمر على الفور لا على التراخى ، وهو مصدر من فارت القدر إذا غلت ، فاستعير للسرعة ، ثم سميت به الحالة التى لا ريث فيها . فقيل : خرج من فوره كما تقول : خرج من ساعته . والمعنى : أنهم يأتونكم من ساعتهم هذه " .هذا ، وقد تكلم العلماء هنا عن أمرين يتعلقان بهذه الآياتزأما الأمر الأول فهو : هل أمد الله - تعالى - المؤمنين فى غزوة بدر بهذا العدد الذى ذكر فى هذه الآية؟والجواب على ذلك أن بعض المفسرين يرى أن الله - تعالى - قد أمد المؤمنين فى بدر بخمسة آلاف من الملائكة ، لأنهم صبروا واتقوا وأتاهم المشركون من مكة فوراً حين استنفرهم أبو سفيان لإنقاذ العير ، فكان المدد خمسة آلاف على سبيل التدريج ، أى أمدوا أولا بألف ، ثم صاروا ألفين ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف لا غير ، وإلى هذا الرأى ذهب الحسن وقتادة .وقال الشعبى : إن المدد لم يزد على الألف ، لأن المسلمين كان قد بلغهم أن كرز بن جابر المحاربى يريد أن يمد المشركين بسلاح وجند ، فشق ذلك على المسلمين فأنزل الله - تعالى - : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ } إلى قوله { مُسَوِّمِينَ } فبلغ كرزا الهزيمة فرجع ولم يمدهم ، فلم يمد الله المسلمين بخمسة الآلاف أيضاً . أما ابن جرير فقد اختار أن المسلمين وعدوا بالمدد بعد الألف ، ولا دلالة فى الآية على أنهم أمدوا بما زاد على ذلك ، ولا على أنهم لم يمدوا به ، ولا يثبت شىء من ذلك إلا بنص . فقد قال - رحمه الله - :" وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة } فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف خمسة آلاف ، إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله ، ولا دلالة فى الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف ، ولا بالخمسة الآلاف؛ ولا على أنهم لم يمدوا بهم .وقد يجوز أن يكون الله - تعالى - أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم ، وقد يجوز أن يكون لم يمدهم ، على نحو الذى ذكره من أنكر ذلك وغير جائز أن يقال فى ذلك قول إلا بخبر توقم الحجة به ، ولا خبر به كذلك فنسلم لأحد الفريقين قوله . غير أن فى القرآن دلالة على أنهم أمدموا يوم بدر بألف . وذلك قوله - تعالى - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ } أما فى أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها فى أنهم أمدوا ، ذلك لأنهم لو أمدوا لم يهزموا ونيل منهم ما نيل منهم " .والذى نراه أن رأى ابن جرير هو أقرب الآراء إلى الصواب .وأما الأمر الثانى فهو : إذا كان الله - تعالى - قد أمد المؤمنين بالملائكة فى بدر ، فهل كانت وظيفتهم القتال مع المؤمنين أو كانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين فقط؟ والجواب على ذلك أن كثيرا من العلماء يرى أن الملائكة قد قاتلت مع المؤمنين .قال القرطبى : تظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت .ومن ذلك قول أبى أسيد مالك بن ربيعة وكان قد شهد بدرا : لو كنت معكم الآن ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشعب - أى الطريق فى الجبل - الذى خرجت منه الملائكة ، لا أشك ولا أمترى " .وفى صحيح مسلم عن ابن عباس قال : بينما رجل من المسلمين يوم بدر يشتد فى أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول : " أقدم حيزوم " فنظر المسلم إلى المشرك أمامه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه .فجاء المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بذلك فقال : صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة .ويرى فريق آخر من العلماء أن الملائكة ما قاتلت مع المسلمين يوم بدر ، وإنما أمد الله المؤمنين بالملائكة لتثبيت نفوسهم ، وتقوية قولبهم ، ولتخذيل المشركين ، وإلقاء الرعب فى قلوبهم ، فقد قال - تعالى - { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } ويبدو أن الإمام ابن جرير الطبرى كان يميل إلى هذا الرأى فقد قال عند تفسيره لقوله - تعالى - { فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } أى : قووا عزائمهم ، وصححوا نياتهم فى قتال عدوهم من المشركين ، وقيل : كان ذلك بمعونتهم إياهم بقتال أعدائهم " .وقد حكى الألوسى عن أبى بكر الأصم أنه أنكر قتال الملائكة مع المؤمنين فى بدر وأنه قال : " إن الملك الواحد يكفى فى إهلاك سائر الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط وأيضا أى فائدة فى إرسال هذا الجمع من الملائكة معه وهو القوى الأمين . وأيضا فإن أكابر الكفار الذين قتلوا فى بدر عرف من قتلهم من المسلمين " .ولم يرتض الألوسى ما قاله الأصم بل قال فى الرد عليه : ولا يخفى أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة ، ولا بمن يعترف بأنه - سبحانه - قادر على ما يشاء فعال لما يريد ، فما كان يليق بالأصم إلا أن يكون أخرص عن ذلك .ثم قال الآلوسى فالواجب التسليم بكل ممكن جاء به النبى صلى الله عليه وسلم وتفويض ذلك وكيفيته إلى - الله - .ونرى من كلام الآلوسلاى أنه يرجح الرأى القائل بأن الملائكة قد قاتلت مع المؤمنين فى غزوة بدر .ونحن لا نرى مانعا من اشتراك الملائكة مع المؤمنين فى بدر لأن النصوص الواردة عن النبى صلى الله عليه وسلم صريحة فى ذلك ، ولسنا مع الذين يضعفون من شأن الأحاديث الصحيحة أو يؤولونها تأويلا لا يتفق مع العقل السليم .ولقد سئل الإمام السبكى : ما الحكمة فى قتال الملائكة مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه؟فأجاب : بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب التى أجراها - سبحانه - فى عباده .
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
📘 ثم تابع القرآن حديثه عن مظاهر فضل الله عليهم ورعايته لهم فقال - تعالى - { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } .أى وما جعل الله - تعالى - الإمداد الذى أمدكم به إلا بشارة لقلوبكم ، وتطمينا لنفوسكم فالضمير فى { جَعَلَهُ } يعود إلى الإمداد المفهوم وهو الفاعل المقدر المدلول عليه بقوله " أن يمدكم " فكأنه قيل : ألن يكفيكم إمداد الله تعالى لكم بما ذكرن وما جعل الله - تعالى - ذلك الإمداد إلى بشرى لكم ، ولتسكن قلوبكم به فلا تخافوا كثرة العدو ، بل تقدمون عليه بعزائم ثابتة ، ونفوس قوية .وقوله { بشرى } مفعول لأجله . والاستثناء مفرغ من أعم العلل ، أى ما جعل الله إمدادكم بإنزال الملائكة لشىء من الأشياء إلا للبشارة لكم بأنكم ستنتصرون على أعدائكم .وقوله { وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } معطوف على { بشرى } باعتبار موضعه أى ما جعل إمدادكم إلا للبشرى والطمأنينة .وإنما جر المصدر المؤول من قوله { وَلِتَطْمَئِنَّ } باللام لاختلال شرط من شروط نصبه على أنه مفعول لأجله ، وهذا الشرط هو عدم اتحاد الفاعل . فإن فاعل الجعل هو الله - تعالى - ، وفاعل الاطمئنان القلوب ، فلذلك نصب المعطوف عليه وهو { بشرى } لاستكمال شروطه . وجر المعطوف وهو { وَلِتَطْمَئِنَّ } لاختلال شرط من شروطه .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم } .أى ليس النصر إلا من الله وحده فهو العزيز الذى لا يغالب فى أمره . الحكيم الذى يفعل كل ما يريد فعله حسبتما تقتضيه إرادته .فالجملة الكريمة المقصود منها غرس الاعتماد على الله فى قلوب المؤمنين وتفويض أمورهم إليه ، وبيان أن النصر إنما هو من الله وحده ، وليس من الملائكة أو من غيرهم ، لأن الملائكة أو غيرهم أسباب عاديةو بمعزل عن التأثير ، إلا إذا أراد الله ذلك . فهو الخالق للأسباب والمسببات .ولقد حرص القرآن فى كثير من آياته على تثبيت هذا المعنى فى قلوب المؤمنين حتى لا يعتمدوا على الأسباب والوسائل التى بين أيديهم ، ويغتروا بها ، دون أن يلتفتوا إلى قدرة خالق الأسباب والوسائل ، فإنهم إذا اغتروا بالأسباب والوسائل ، ونسوا خالقها أتاهم الفشل من حيث لم يحتسبوا وكان أمرهم فرطاً .والعاقل من الناس هو الذى يباشر الأسباب التى شرعها الله - تعالى - بتدبر واعتبار بحيث يوقن أن من ورائها خالقا لها ، يجب أن يستجيب له فى كل ما أمر أو نهى ، وأن يعتمد عليه فى كل شئونه وأحواله .
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - الحكمة من هذا النصر والثمرات التى ترتبت عليه فقال - تعالى - : { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } .وقوله { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ } متعلق بقوله { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } وما بينهما تحقيق لحقيته ، وبيان لكيفية وقوعه .والقطع - كما يقول الراغب - فصل الشىء مدركا بالبصر كالأجسام ، أو مدركا بالبصيرة كالأشياء المعقولة والمراد به هنا الإهلاك والقتل .والطرف - بفتح الراء - جانب الشىء أو الجزء المتطرف منه كاليدين والرجلين والرأس .والمراد به هنا طائفة من المشركين .والكبت فى اللغة : صرع الشىء على وجهه . يقال : كبته فانكبت ، والمراد به هنا الإخزاء والإذلال وشدة الغيظ بسبب ما أصابهم من هزيمة .وخائبين من الخيبة وهى انقطاع الأمل فى الحصول على الشىء . يقال : خاب يخيب إذا لم ينل ما طلب .والمعنى : ولقد نصركم الله - تعالى - ببدر وأنتم فى قلة من العدد والعدة { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا } أى ليهلك طائفة من الذين كفروا ويستأصلهم بالقتل . وينقص من أرضهم بالفتح ، ومن سلطانهم بالقهر ، ومن أموالهم بالغنيمة { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أى يذلهم ويخزيهم ويغيظهم غيظا شديدا بسبب ما نزل بهم من هزيمة ، حتى يخبو صوت الكفر ، ويعلو صوت الإيمان :وقوله { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } أى فينهزموا ويرتدوا على أدبارهم منقطعى الآمال ، غير ظافرين بمبتغاهم .قال الآلوسى : " ولم يعبر عن تلك الطائفة بالوسط بل بالطرف فقال { لِيَقْطَعَ طَرَفاً } لأن أطراف الشىء يتوصل بها إلى توهينه وإزالته . وقيل : لأن الطرف أقرب إلى المؤمنين فهو كقوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار } وقيل للإشارة إلى أنهم كانوا أشرافا ، ومنه قولهم : هو من أطراف العرب أى من أشرافهم ، ولعل إطلاق الأطراف على الأشراف لتقدمهم فى السير . . فالمعنى ليهلك صناديد الذين كفروا ورؤساءهم المتقدمين فيهم بالقتل والأسر . وقد وقع ذلك فى بدر فقد قتل المؤمنون من المشركين سبعين وأسروا سبعين " .و { أَوْ } فى قوله { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } للتنويع . لأن القطع والكبت قد وقعا للمشركين ، فهى مانعة خلو ، أى لا يخلو أمر الكافرين من الهلاك والكبت .وعبر عن عودتهم خائبين بقوله { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } للإشارة إلى أن مقاصدهم وأهدافهم قد انقلبت ، فقد كانوا يقصدون إطفاء نور الإسلام فخاب قصدهم ، وطاش سهمهم ، وعادوا وقد فقدوا الكثيرين من وجوههم وصناديديهم ، وتركوا خلقهم فى الأسر العشرات من رجالهم .أما الإسلام فقد ازداد نوره تألقا ، وازداد أتباعه إيمانا على إيمانهم . ورزقهم الله - تعالى - نصره المبين .
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
📘 وقوله { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } أى : ليس لك من أمر الناس شىء ، وإنما أمرهم إلى الله وحده ، أما أنت فوظيفتك التبليغ والإرشاد ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .وقوله { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } . أى مما هم فيه من الكفر فيهديهم إلى الإسلام بعد كفرهم وظلالهم .وقوله { أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } أى أو يعذبهم فى الدنيا والآخرة على كفرهم واجتراحهم للسيئات ، فإنهم بذلك يكونون مستحقين للعقاب ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، فهم الذين صموا آذانهم عن الحق واستحبوا العمى على الهدى .وعلى هذا يكون قوله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } جملة معترضة بين المتعاطفات ويكون تقدير الآيتين هكذا :ولقد نصركم الله ببدر ليهلك طائفة من الذين كفروا بالقتل والأسر ، ا يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذبهم فى الدنيا والآخرة بسبب ظلمهم ، وليس لك من أمرهم شىء ، إنما أنت رسول ن عند الله - تعالى - مأمور بإنذارهم وجهادهم .وقد رجح هذا الوجه صاحب الكشاف فقال : وقوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } اعتراض . والمعنى أن الله مالك أمرهم ، فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر ، وليس لك من أمرهم شىء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم . .وقيل إن { أَوْ } بمعنى " إلا أن " كقولك : لألزمنك أو تقضينى حقى ، على معنى ليس لك من أمرهم شىء إلا أن يتوب عليهم فتفرح بحالهم ، أو يعذبهم فتتشفى منهم .فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد بينتا أحوال الكافرين فى غزوة بدر أكمل بيان ، لأن فريقاً منهم قد قتلوا فقطع بهم طرف من الكافرين ، وفريقاً كبتوا وذلوا ، وفريقا من الله عليهم بالإسلام فأسلموا ، وفريقاً عذبوا بالموت على الكفر أو عذبوا فى الدنيا بالذل والصغار .و " أو " التى جىء بها بين هذه الجمل للتقسيم .هذا ، وقد روى المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } روايات منها ما أخرجه مسلم عن أنس " أن النبى صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج فى وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبهم وهو يدعوهم إلى ربهم - عز وجل - فأنزل الله - تعالى - { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } " .ومنها ما أخرجه البخارى عن أبى هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أرا أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده : " اللهم ربنا ولك الحمد . اللهم أنج الوليد بن الوليد . وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبى ربيعة ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف " يجهر بذلك . وكان يقول فى بعض صلاته فى صلاة الفجر : اللهم العن فلانا وفلانا " لأحياء من العرب " حتى أنزل الله - تعالى - : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } " .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
📘 ثم ختم - سبحانه - هذا التذكير بما جرى فى غزوة بدر ببيان قدرته الشاملة ، وإرادته النافذة فقال - سبحانه - : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .أى لله جميع ما فى السموات وما فى الأرض ملكا وتصرفا وتدبيرا لا ينازعه فى ذلك منازع ولا يعارضه معارض ، وهو - سبحانه - يغفر لمن يشاء أن يغفر له من المؤمنين فلا يعاقبه على ذنبه فضلا منه وكرما ، ويعذب من يشاء أن يعذبه عدلا منه { والله غَفُورٌ } أى كثير المغفرة يحبها ويريدها ، { رَّحِيمٌ } أى واسع الرحمة بعباده ، لا يؤاخذهم بكل ما اكتسبوه من ذنوب بل يعفو عن كثير منها .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد افتتحت الحديث عن غزوة أحد باستحضار بعض أحداثها ، وبتذكير المؤمنين بما همّ به بعضهم قبل أن تبدأ المعركة ، ثم بتذكيرهم بمعركة بدر وما تم لهم فيها من نصر مؤزر منحه الله لهم مع قتلهم وضعفهم ، حتى يعرفوا أن النصر ليس بكثرة العدد والعدد وإنما النصر يأتى مع صفاء النفوس ، ونقاء القلوب ، ومضاء العزائم والطاعة التامة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وحتى لا يعودوا إلى ما حدث من بعضهم فى غزوة أحد من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن طمع فى زينة الحياة الدنيا .وبعد هذا التذكير الحكيم والتوجيه السديد ، وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن تعاطى الربا ، وأمرهم بتقوى الله وبطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وبالمسارعة إلى الأعمال الصالحة التى توصلهم إلى مغفرته ورضوانه فقال - تعالى - : { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ . . . } .
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ
📘 ثم ساق القرآن مثلا مشاهداً يدل على نصر الله - تعالى - لأوليائه وخذلانه لأعدائه ، فقال : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } .والمراد بالآية هنا العلامة والبرهان والشاهد على صدق الشىء المخبر عنه .والفئة - كما يقول القرطبي - الجماعة من الناس ، وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها ، أي يرجع إليها في وقت الشدة ، ولا خلاف في أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر . ثم قال : ويحتمل أن يكون المخاطب بهذه الآية جميع المؤمنين ، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار ، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة ، وبكل احتمال منها قد قال قوم . وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها ، حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع .والمعنى : قد كان لكم أيها الناس علامة عظيمة ، ودلالة واضحة على أن الكافرين سيغلبون والمؤمنين سينصرون بما جرى في غزوة بدر ، فقد رأيتم كيف أن الله - تعالى - قد نصر المؤمنين مع قلة عددهم ، وهزم الكافرين مع كثرة عددهم وعددعم . ولقد كان المؤمنون يرون أعداءهم أكثر منهم عددا وعدة ومع ذلك لم يهابوهم ولم يجبنوا عن لقائهم ، بل أقدموا على قتالهم بإيمان وشجاعة فرزقهم الله النصر على أعدائهم .ووصف - سبحانه - الفئة المؤمنة بأنها تقاتل في سبيل الله ، على سبيل المدح لها ، والإعلاء من شأنها ، وبيان الغاية السامية التي من أجلها قاتلت ، ومن أجلها تم لها النصر فهي لم تقاتل لأجل عرض من أعراض الدنيا وإنما قاتلت لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق .ووصف الفئة الأخرى بأنها كافرة؛ لأنها لم تؤمن بالحق ، ولم تتبع الطريق المستقيم ، بل كفرت بكل ما يصلحها في دينها ودنياها .ولم يصفها بالقتال كما وصف الفئة المؤمنة . إسقاطا لقتال تلك الفئة الكافرة عن درجة الاعتبار ، وإيذانا بأن الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم عند لقائهم للمؤمنين ، جعلهم بأنهم ليسوا أهلا لأن يوصفوا بالقتال .هذا وللعلماء أقوال في المراد من قوله - تعالى - { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه الأقوال فقال : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ } أي : يرى المشركون المسلمين مثلى عدد المشركين أي قريبا من ألفين ، أو مثلى عدد المسلمين أي ستمائة ونيفا وعشرين . أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم . وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم بالملائكة . والدليل عليه قراءة نافع " ترونهم " بالتاء ، أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلى فئتكم الكافرة ، أو مثلى أنفسهم . فإن قلت فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال { وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ } قلت : قللوا أولا في أعينهم حتى اجترؤا عليهم : فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين . . . وتقليلهم تارة وتكثيرهم تارة أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية . وقيل : يرى المسلمون المشركين مثلى المسلمين على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثيني في قوله { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } بعدما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله - تعالى - { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } والذى نراه أن الرأى الذى عبر عنه صاحب الكشاف بقوله : وقيل : يرى المسلمون المشركين مثل المسلمين . . . إلخ هذا الرأى هو أقرب الأقوال إلى الصواب؛ لأن المسلمين في غزوة بدر كانوا أقل عددا وعدة من المشركين ، ولأن التعبير بقوله - تعالى - { رَأْيَ العين } يفيد أن رؤية هذه الكثرة من المشركين كانت رؤية بصرية بالمشاهدة ، وليست بالتقدير أو التخيل ، وهذا يتحقق في رؤية المؤمنين للمشركين :فإن قيل : إن المشركين في بدر كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين تقريبا - كما حكى لنا التاريخ - ولم يكونوا مثليهم أي ضعفهم؟فالجواب على ذلك أن هذا التقدير للمشركين من جانب المؤمنين كان تقديراً تقريبيا وليس تقديرا عدديا ، فثلاثة الأمثال قد ترى رأى العين مثلين أو نقول : إن المراد بكلمة مثلين مجرد التكرار وليس المراد بها التثنية على الحقيقة ، كما في قوله - تعالى - { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } فالمراد تكرار النظر مرة ومرات وليس المراد التحديد بكرتين .وقد رجح ابن جرير الطبرى هذا الرأى ، فقد قال بعد سرده لجملة من أقوال العلماء : وأولى هذه القراءات بالصواب : قراءة من قرأ { يَرَوْنَهُمْ } بمعنى : وأخرى كافرة يراهم المسلمون مثليهم ، يعني : مثلى عدد المسلمين ، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال . فكان حزرهم إياهم كذلك . . ثم قال : وأما قوله : { رَأْيَ العين } فإنه مصدر رأيته يقال رأيته رأياً ورؤية ، ويقال هو منى رأى العين ، ورأى العين - بالنصب والرفع - يراد حيث يقع عليه بصرى .. فمعنى ذلك : يرونهم حيث تلحقهم أبصارهم وتراهم عيونهم مثليهم " .وقوله - تعالى - { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } . . إلخ من تمام القول المأمور به جىء به لتقرير وتحقيق ما قبله . و { كَانَ } هنا ناقصة ، و { آيَةٌ } اسمها ، وترك التأنيث في - كان - لوجود الفاصل بينها وبين اسمها ، ولأن المرفوع بها وهو اسمها مجازى التأنيث أو باعتبار أن الآية برهان ودليل . وقوله { لَكُمْ } خبر كان . وقوله { فِئَةٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى . إحداهما فئة تقاتل في سبيل الله . وقوله { وأخرى } نعت لمقدر أى وفئة أخرى كافرة . والجملة مستأنفة لتقرير " ما في الفئتين من الآية " ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } .أى : والله - تعالى - يؤيد بنصره من يشاء نصره وفوزه ، فهو القادر على أن يجعل الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة ، لاراد لمشيئته ولا معقب لحكمه وإن الذين يغترون بقوتهم وحدها ، ويغترون بما بين أيديهم من أموال وعتاد ورجال ، ولا يعملون حسابا للقدر ، الذي يجريه الله على حسب مشيئته وإرادته هؤلاء الذين غرهم بالله الغرور ، تداهمهم الهزيمة من حيث لا يحتسبون ، وقد يفجؤهم الخسران والخذلان من الطريق الذى توهموا فيه الكسب والانتصار .لذا أمر الله - تعالى - عباده بالاعتبار والاتعاظ فقال : { إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } واسم الإشارة ذلك يعود إلى المذكور الذى رأوه وشاهدوه وهو أن الفئة القليلة المؤمنة غلبت الفئة الكثيرة الكافرة .والعبرة - الاعتبار والاتعاظ وأصله من العبو وهو النفور من أحد الجانبين إلى الآخر ، وسمى الاتعاظ عبرة ، لأن المعتبر المتعظ يعبر عن الجهل إلى العلم ، ومن الهلاك إلى النجاة .أى : إن في ذلك الذي شاهده الناس وعاينوه من انتصار الفئة القليلة التي تقاتل في سبيل الله ، على الفئة الكثيرة التي تقاتل في سبيل الطاغوت ، لعبرة عظيمة ، ودلالة واضحة ، لأصحاب المدارك السليمة والعقول الواعية التي تفهم الأمور على حقيقتها ، وتؤمن بأن الله - تعالى - قادر على كل شيء ، أما أصحاب القلوب المطموسة والنفوس المغرورة بقوتها . فهي عن الاعتبار والاتعاظ بمعزل .قال الفخر الرازي ما ملخصه : " واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وعبرة واضحة - وجوها : منها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور منها قلة العدد ، وأنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا ، ومنه قلة السلاح ، ومنها أنها كانت ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من الكثرة والتأهب وغير ذلك ومع هذا فقد انتصر المؤمنون ، ولما كان ذلك خارجا عن العادة كان معجزا " .وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أنذرت الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم ، وساقت لهم ما يؤيد ذلك من واقع ما شاهدوه ، وبشرت المؤمنين بنصر الله لهم ، وحثنهم على الاتعاظ والاعتبار ، لأن من شأن المعتبرين أن يكونوا مراقبين لله - تعالى - ومنفذين لأوامره ، ومبتعدين عن نواهيه ، ومن كان كذلك كان الله معه بنصره وتأييده .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
📘 قال الإمام الرازى ما ملخصه : اعلم أن من الناس من قال : إن الله - تعالى - لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم فى أمر الدين وفى أمر الجهاد ، أتبع ذلك بما يدخل فى الأمر والنهى والترغيب والترهيب فقال : { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } .وقال القفال : يحتمل أن تكون هذه الآية متصلة بما قبلها من جهة أن المشركين فى غزوة أحد أنفقوا على عساكرهم أموالا كثيرة جمعوها من الربان ولعل ذلك يصير داعياً للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على المعسكر ، ويتمكنوا من الانتقام منهم ، فلا جرم نهاهم الله عن ذلك .وكان الرجل فى الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم - مثلا - إلى أجل ، فإذا حل الأجل ولم يكن المدين واجدا لذلك المال قال : زدنى فى المال حتى أزيد فى الأجل ، فربما جعله مائتين ، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله { أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } .وقد ابتدأ - سبحانه - الآية بالنداء بقوله { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } لبيان أن أكل الربا ليس من شأن المؤمنين ، وإنما هو من سمات الكافرين والفاسقين .وإذا كان الكافرون يستكثرون من تعاطى الربا فعلى المؤمنين أن يجتنبوا هذا الفعل القبيح ، وأن يتحروا الحلال فى كل أمورهم .وخصه بالنهى لأنه كان شائعاً فى ذلك الوقت ، ولأنه - كما يقول القرطبى - هو الذى أذن فيه بالحرب فى قوله - تعالى - { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } والحرب يؤذن بالقتل ، فكأنه يقول لهم : إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم .والمراد من الأكل الأخذ ، وعبر عنه بالأكل لما أنه معظم ما يقصد بهن ولشيوعه فى المأكولات مع ما فيه من زيادة التشنيع .والربا معناه الزيادة ، والمراد بها هنا تلك الزيادة التى كانت تضاف على الدين .قال الإمام ابن جرير : عن عطاء قال : كانت ثقيف تداين بنى المغيرة فى الجاهلية ، فإذا حل الأجل قالوا : نزيدكم وتؤخرون .وقال ابن زيد : كان أبى - زيد بن ثابت - يقول : إنما كان ربا الجاهلية فى التضعيف . يكون للرجل على الرجل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له : " تقضينيى أو تزيدنى " .وقوله { أَضْعَافاً } حال من الربا ، وقوله { مُّضَاعَفَةً } صفة له .والأضعاف جمع ضعف . وضعف الشىء مثلاه ، وأضعافه أمثاله .وهذا القيد وهو قوله " أضعافا مضاعفة " ليس لتقييد النهى به ، أى ليس النهى عن أكل الربا فى هذه الحالة وإباحته فى غيرها ، بل هذا القيد لمراعاة الواقع ، ولبيان ما كانوا عليه فى الجاهلية من التعامل الفاسد المؤدى إلى استئصال المال ، ولتوبيخ من كان يتعاطى الربا بتلك الصورة البشعة .وقد حرم الله - تعالى - أصل الربا ومضاعفته ، ونفر منه تنفيراً شديداً ، فقال - تعالى - { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } وهذا النوع من الربا الذى نهى الله - تعالى - عنه هنا بقوله : { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } هو الذى يسمى عند الصحابة والفقهاء بربا النسيئة ، أو ربا الجاهلية وقد حرمه الإسلام تحريماً قاطعا . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خطبة الوداع : " ألا إن الجاهلية موضوع - أي مهدر - وأول ربا أبدأ به ربا عمى العباس بن عبد المطلب " .وقال الإمام أحمد بن حنبل : إن ربا النسيئة يكفر من يجحد تحريمه .ويقابل هذا النوع من الربا ، ربا البيوع وهو الذى ورد فى حديث النبى صلى الله عليه وسلم الذى يقول فيه : " البر بالبر مثلا بمثل يدا بيد ، والذهب بالذهب مثلا بمثل يدا يد والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد ، والتمر بالتمر مثلا بمثلا يدا بيد ، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى " .وقد اتفق العلماء على أن بيع هذه الأصناف لا بد أن يكون بغير زيادة إذا كانت بمثلها كقمح بقمح ، ولا بد من قبضها . وإذا اختلف الجنس كقمح بشعير جازت الزيادة ، ولا بد من القبض فى المجلس ، والتأخير يسمى ربا النساء ، والزيادة المحرمة تسمى ربا الفضل .وللفقهاء فى هذا الموضوع مباحث طويلة فليرجع إليها من شاء فى مظانها . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بأمر المؤمنين بخشيته وتقواه فقال : { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .أى : واتقوا الله بأن تجعلوا بينكم وبين محارمه ساترا ووقاية ، لعلكم بذلك تنالون الفلاح فى الدنيا والآخرة .
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
📘 ثم حذرهم - سبحانه - من الأعمال التى تفضى بهم إلى النار فقال : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } يقول : هى أخوف آية فى القرآن ، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه فى اجتناب محارمه " .
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
📘 ثم بعد هذا التحذير الشديد للمؤمنين من ارتكاب ما نهى الله عنه ، أمرهم - سبحانه - بطاعته وطاعة رسوله فقال : { وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .أى أطيعوا الله فى كل ما أمركم به ونهاكم عنه ، وأطيعوا الرسول الذى أرسله إليكم ربكم لهدايتكم وسعادتكم ، لعلكم بهذه الطاعة تكونون فى رحمة من الله ، فهو القائل وقوله الحق { إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين }وفى ذكر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مقترنة بطاعة الله - تعالى - تنبيه إلى أن طاعة الرسول طاعة لله . فقد قال - تعالى - { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }
۞ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
📘 ثم أمرهم - سبحانه - بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة التى توصلهم إلى مغفرة الله ورضوانه فقال : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } .قال الآلوسى : وسبب نزول هذه الآية على ما أخرجه عبد بن حميد وغيره عن عطاء بن أبى رباح : أن المسلمين قالوا : يا رسول الله . بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا ، كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة فى عتبة داره أجدع أنفك ، أجدع أذنك ، افعل كذا وكذا فسكت صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآيات إلى قوله { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } الآية فقال النبى صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بخير من ذلكم ثم تلاها عليهم " .وقوله : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } من السرعة بمعنى المبادرة إلى الشىء بدون تأخير أو تردد . والكلام على حذف مضاف : أى سارعوا وبادروا إلى ما يوصلكم إلى ما به تظفرون بمغفرة ربكم ورحمته ورضوانه وجنته ، بأن تقوموا بأداء ما كلفكم به من واجبات ، وتنتهوا عما نهاكم عنه من محظورات .ولقد قرأ نافع وابن عامر بغير واو ، وهى قراءة أهل المدينة والشام . والباقون بالواو ، وهى قراءة أهل مكة والعراق .فمن قرأ بالواو ، جعل قوله - تعالى - { وسارعوا } معطوفا على قوله { وَأَطِيعُواْ } أى : أطيعوا الله والرسول وسارعوا إلى مغفرة من ربكم .ومن قرأ بغير واو جعل قوله " سارعوا " مستأنفا ، إذ هو بمنزلة البيان أو بدل الاشتمال .و { مِّن } فى قوله { مِّن رَّبِّكُمْ } ابتدائية ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة للمغفرة أى مغفرة كائنة من ربكم . .ولقد عظم - سبحانه - بذلك شأن هذه المغفرة التى ينبغى طلبها بإسراع ومبادرة ، بأن جاء بها منكرة ، وبأن وصفها بأنها كائنة منه - سبحانه - هو الذى خلق الخلق بقدرته ، ورباهم برعايته .ووصف - سبحانه - الجنة بأن عرضها السموات والأرض على طريقة التشبيه البليغ ، بدليل التصريح بحرف التشبيه فى قوله - تعالى - { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض } قال الفخر الرازى ما ملخصه : وفى معنى أن عرض الجنة مثل عرض السموات والأرض وجوه منها : أن المراد لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا ، بحيث تكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة ، وهذا غاية فى السعة لا يعلمها إلا الله .ومنها أن المقصود المبالغة فى وصف السعة للجنة ، وذلك لأنه لا شىء عندنا أعرض منهما ونظيره قوله{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض } فإن أطول الأشياء بقاء عندنا هو السموات والأرض ، فخوطبنا على وفق ما عرفناه ، فكذا هنا " .وخص - سبحانه - العرض بالذكر ، ليكون أبلغ فى الدلالة على عظمها واتساع طولها ، لأنه إذا كان عرضها كذا ، فإن العقل يذهب كل مذهب فى تصور طولها " لأن العرض فى العادة أقل من الطول . وذلك كقوله - تعالى - فى صفة فرش الجنة { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } لأنه إذا كانت بطانة الفرش من الحرير فكيف يكون ما فوق البطانة مما تراه الأعين؟ .قال القفال : ليس المراد بالعرض ها هنا ما هو خلاف الطول ، بل هو عبارة عن السعة كما تقول العرب : بلاد عريضى ، ويقال هذه دعوى عريضة أي واسعة عظيمة . والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق ، وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة " .قال ابن كثير : وقد روينا فى مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب إلى النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " إنك دعوتنى إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم : سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار " .وعن أبى هريرة أن رجلا جاء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أرايت قوله - تعالى - : { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض } فأين النار قال : أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شىء فأين النهار؟ قال : حيث شاء الله قال صلى الله عليه وسلم : " وكذلك النار تكون حيث شاء الله " " .وقوله - تعالى - { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أى هيئت للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن محارم الله ، وجعلوا بينهم وبينها وقاية وساترا ، وخافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى .
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - صفات المتقين الذين يصلحون فى الأرض ولا يفسدون ، والذين أعد لهم - سبحانه - جنته فقال - تعالى - { الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء } أى الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله فى جميع أحوالهم ، فهم يبذلونها ابتغاء وجه ربهم فى حال يسرهم وفى حال عسرهم ، وفى حال سرورهم وفى حال حزنهم ، وفى حال صحتهم وفى حال مرضهم ، لا يصرفهم صارف عن إنفاق أموالهم فى وجوه الخير ما داموا قادرين على ذلك .وقوله { الذين يُنفِقُونَ } فى محل جر صفة للمتقين . ويجوز أن يكون فى محل نصب أو رفع على القطع المشعر بالمدح .وقال { يُنفِقُونَ } بالفعل المضارع ، للإشارة بأنهم يتجدد إنفاقهم فى سبيل الله آنا بعد آن بدون انقطاع .وقدم الإنفاق على غيره من صفاتهم لأنه وصف إيجابى يدل على صفاء نفوسهم ، وقوة إخلاصهم ، فإن المال شقيق الروح ، فإذا أنفقواه فى حالتى السراء والضراء كان ذلك دليلا على التزامهم العميق لتعاليم دينهم وطاعة ربهم .وقد مدح الله - تعالى - الذين ينفقون أموالهم فى سبيله فى عشرات الآيات من كتابه ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أما الصفتان الثانية والثالثة من صفات هؤلاء المتقين فهما قوله تعالى : { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس } .أى سارعوا أيها المؤمنون إلى العمل الصالح الذى يوصلكم إلى جنة عظيمة أعدها الله - تعالى - لمن يبذلون أموالهم فى السراء والضراء ، ولمن يمسكون غيظهم ، ويمتنعون عن إمضائه مع القدرة عليه ، ولمن يغضون عمن أساء إليهم . فالمراد بكظم الغيظ حبسه وإمساكه . يقال : كظم فلان غيظه إذا حبسه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بمن أغضبه . ويقال : كظم البعير جرته ، إذا ردها وكف عن الاجترار . وكظم القربة : إذا ملأها وشد على فمها ما يمنع من خروج ما فيها .وقد ساق ابن كثير جملة من الأحاديث التى وردت فى فضل كظم الغيظ والعفو عن الناس ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب " .وروى الإمام أحمد - بسنده - عن حارثة بن قدامة السعدى أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله : قل لى قولا ينفعنى وأقلل على لعلى أعقله : فقال له : " لا تغضب " فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا كل ذلك يقول : " لا تغضب " " .وعن أبى بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عن من ظلمه ويعط من حرمه ، ويصل من قطعه " .وكظم الغيظ والعفو عن الناس هاتان الصفتان إنما تكونان محمودتين عندما تكون الإساءة متعلقة بذات الإنسان ، أما إذا كانت الإساءة متعلقة بالدين بأن انتهك إنسان حرمة من حرمات الله ففى هذه الحالة يجب الغضب من أجل حرمات الله ، ولا يصح العفو عمن انتهك هذه الحرمة .فلقد وصفت السيدة عائشة النبى صلى الله عليه وسلم بأنه كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شىء .وقوله { والله يُحِبُّ المحسنين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .والإحسان معناه الإتقان والإجادة . وأل فى المحسنين إما للجنس أى والله - تعالى - يحب كل محسن فى قوله و عمله ، ويكون هؤلاء الذين ذكر الله صفاتهم داخلين دخولا أوليا .وإما أن تكون للعهد فيكون المعنى : والله - تعالى - يحب هؤلاء المحسنين الذين من صفاتهم أنهم ينفقون أموالهم في كل حال من أحوالهم ، ويكظمون غيظهم ، ويعفون عمن ظلمهم .
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
📘 أما الصفة الرابعة من صفات هؤلاء المتقين فقد ذكرها - سبحانه - فى قوله : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .والفاحشة من الفحش وهو مجاوزة الحد فى السوء . والمراد بها الفعلة البالغة فى القبح كالزنا والسرقة وما يشبههما من الكبائر .والمعنى : سارعوا أيها المؤمنون إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدها خالقكم - عز وجل - للمتقين الذين من صفاتهم أنهم ينفقون أموالهم فى السراء والضراء ، ويكظمون غيظهم ، ويعفون عن الناس ، وأنهم إذا فعلوا فعلة فاحشة متناهية فى القبح ، أو ظلموا أنفسهم ، بارتكاب أى نوع من أنواع الذنوب " ذكروا الله " أى تذكروا حقه العظيم ، وعذابه الشديد ، وحسابه العسير للظالمين يوم القيامة " فاستغفروا لذنوبهم " أى طلبوا منه - سبحانه - المغفرة لذنوبهم التى ارتكبوها ، وتابوا إليه توبة صادقة نصوحا .وعلى هذا يكون قوله - تعالى - { والذين إِذَا فَعَلُواْ } معطوفا على الصفة الأولى من صفات المتقين ، ويكون قوله - تعالى - { والله يُحِبُّ المحسنين } جملة معترضة بين الصفات المتعاطفة .قال الفخر الرازى : واعلم أن وجه النظم من وجهين :الأول : أنه - تعالى - لما وصف الجنة بأنها معدة للمتقين بين أن المتقين قسمان :أحدهما : الذين أقبلوا على الطاعات والعبادات ، وهم الذين وصفهم بالانفاق فى السراء والضراء ، وكظم الغيظ والعفو عن الناس .وثانيهما : الذين أذنبوا ثم تابوا وهو المراد بقوله - تعالى - { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } وبين - سبحانه - أن هذه الفرقة كالفرقة الأولى فى كونها متقية .والوجه الثانى : أنه فى الآية الأولى ندب إلى الإحسان إلى الغير ، وندب فى هذه الآية إلى الإحسان إلى النفس ، فإن الذنب إذا تاب كانت توبته إحسانا منه إلى نفسه " .وقوله { أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ } معطوف على { فَعَلُواْ فَاحِشَةً } من باب عطف العام على الخاص ، وهذا على تفسير الفاحشة بأنها كبائر الذنوب ، أما ظلم النفس فيتناول كل ذنب سواء أكان صغيرا أم كبيراً .وبعضهم يرى أن الفاحشة وظلم النفس وجهان للمعصية لا ينفصلان عنها ، بمعنى أن كل معصية لا تخلو منهما فهى فاحشة وظلم للنفس ، وعلى هذا تكون " أو " بمعنى الواو .ويكون المعنى : ومن يرتكب فاحشة ويظلم نفسه ، ويتذكر الله عند ارتكابها فيعود إليه تائباً منيبا يكون من المتقين .وفى التعبير بقوله : { إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله } بصيغة الشرط الجواب ، إشعار بوجوب اقتران الجواب بالشرط . أى أن الشخص الذى يدخل فى جملة المتقين هو الذاى يعود إلى ربه تائبا فور وقوع المعصية ، بحيث لا يسوف ولا يؤخر التوبة حتى إذا حصره الموت .قال : إنى تبت الآن .وقوله : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } جملة معترضة بين قوله { فاستغفروا } وبين قوله { وَلَمْ يُصِرُّواْ } .والاستفهام فى قوله : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } للإنكار والنفى .أى : لا أحد يقبل توبة التائبين ، ويغفر ذنوب المذنبين ، ويمسح خطايا المخطئين ، إلا الله العلى الكبير " الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل ، ويتوب الله على من تاب " - كما جاء فى الحديث الشريف - ولذا قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الجملة ما ملخصه : فى هذه الجملة وصف لذاته - تعالى - بسعة الرحمة ، وقرب المغفرة ، وأن التائب من ذنبه كمن لا ذنب له ، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه . وفيها تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل ، وكرمه أعظم . والمعنى أنه وحده عنده مصححات المغفرة ، وهذه جملة معترضة بين المعطوف ، والمعطوف عليه " .وقوله { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } بيان لشروط الاستغفار المقبول عند الله - تعالى - .أى أن من صفات المتقين أنهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ، سارعوا بالتوبة إلى الله - تعالى - ، ولم يصروا على الفعل القبيح الذى فعلوه ، وهم عالمون بقبحه ، بل يندمون على ما فعلوا ، ويستغفرون الله - تعالى - مما فعلوا ، ويتوبن إليه توبة صادقة .وقوله { وَلَمْ يُصِرُّواْ } معطوف على قوله { فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } .وقوله { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية من فاعل " يصروا " أى ولم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه .ومفعول يعلمون محذوف للعمل به أى يعلمون سوء فعلهم ، أو يعلمون أن الله يتوب على من تاب ، أو يعلمون عظم غضب الله على المذنبين الذين يداومون على فعل القبائح دون أن يتوبوا إليه .فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد فتحت باب التوبة أمام المذنبين ، وحرضتهم على ولوجه بعزيمة صادقة ، وقلب سليم ، ولم تكتف بذلك بل بشرتهم بأنهم متى أقلعوا عن ذنوبهم ، وندموا على ما فعلوا ، وعاهدوا الله على عدم العودة على ما ارتكبوه من خطايا ، وردوا المظالم إلى أهلها ، فإن الله - تعالى - يغفر لهم ما فرط منهم ، ويحشرهم فى زمرة عباده المتقين .إنه - سبحانه - لا يغلق فى وجه عبده الضعيف المخطىء باب التوبة ، ولا يلقيه حئرا منبوذا فى ظلام المتاهات ، ولا يدعه مطرودا خائفا من المصير ، وإنما يطمعه فى مغفرته - سبحانه - ويرشده إلى أسبابها ، ويغريه بمباشرة هذه الأسباب حتى ينجو من العقاب .ولقد ساق - سبحانه - فى عشرات الآيات ما يبشر التائبين الصادقين فى توبتهم بمغفرته ورحمته ورضوانه ، ومن ذلك قوله - تعالى - :{ والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً } وقد وردت أحاديث كثيرة فى هذا المعنى ومن ذلك ما رواه أبو داود والترمذى عن أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة " .وقال القرطبى : وأخرج الشيخان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه " .وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذى نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم " .ثم قال القرطبى : " والذنوب التى يتاب منها إما كفر أو غيره فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره ، وغير الكفر إما حق الله - تعالى - وإما حق لغيره؛ فحق الله - تعالى - يكفى فى التوبة منه الترك ، غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك ، بل أضاف إلى ذلك فى بعضها قضاء كالصلاة والصوم . ومنها ما أضاف إليها كفارة كالحنث فى الإيمان والظهار وغير ذلك وأما حقوق الآدميين فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها ، فإن لم يوجدوا تصدق عنهم ، ومن لم يجد السبيل لخروج ما عليه لإعسار فعفو الله مأمول ، وفضله مبذول ، فكم ضمن من التبعات ، وبدل من السيئات بالحسنات " .
أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - عاقبة من هذه صفاتهم فقال : { أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } .أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات السابقة من الإنفاق فى السراء والضراء ، وكظم الغيظ ، والعفو عن الناس . . إلخ { أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } تستر ذنوبهم ، وتمسح خطاياهم .وفى الإشارة إليهم بأولئك الدالة على البعد ، إشعار بعلو منزلتهم فى الفضل ، وسمو مكانتهم عند الله - تعالى - .وقوله { وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } معطوف على { مَّغْفِرَةٌ } أى لهم بجانب هذه المغفرة جنات تجرى من تحت أشجارها وثمرها الأنهار .وقوله { خَالِدِينَ فِيهَا } حال مقدرة من الضمير المجرور فى { جَزَآؤُهُمْ } لأنه مفعول به فى المعنى ، إذ هو بمعنى أولئك يجزيهم الله - تعالى - جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وعد أصحاب هذه الصفات بأمور ثلاثة .وعدهم بغفران ذنوبهم وهذا منتهى الآمانى والآمال .ووعدهم بإدخالهم فى جناته التى يتوفر لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين .ووعدهم بالخلود فى تلك الجنات حتى يتم لهم السرور والحبور .وقوله - تعالى - { وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } تذييل قصد به مدح ما أعد لهم من جزاءن حتى يرغب فى تحصيله العقلاء .والمخصوص بالمدح محذوف أى ونعم أجر العاملين هذا الجزاء الذى وعدهم الله به مغفرة وجنات خالدين فيها .وبذلك نرى السورة الكريمة قبل أن تفصل الحديث عن عزوة أحد ، قد ذكرت المؤمنين بطرف مما حدث من بعضهم فيها ، وبالنتائج الطيبة التى حصلوا عليها من غزوة بدر ، ثم أمرتهم بتقوى الله ، وبالمسارعة إلى الأعمال الصالحة التى توصلهم إلى رضاه .ثم أخذت السورة الكريمة بعد ذلك تتحدث عن غزوة أحد وعن آثارها فى نفوس المؤمنين ، فبدأت بالإشارة إلى سنن الله فى المكذبين بآياته؛ لتخفف عن المؤمنين مصابهم ، ثم أمرتهم بالصبر والثبات ونهتهم عن الوهن والجزع لأنهم هم الأعلون . وإن تكن قد أصابتهم جراح فقد أصيب المشركون بأمثالها ، والله - تعالى - فيما حدث فى غزوة أحد حكم ، منها : تمييز الخبيث من الطيب ، وتمحيص القلوب واتخاذ الشهداء ، ومحق الكافرين .استمع إلى القرآن الكريم وهو يوق تلك المعانى بأسلوبه الذى يبعث الأمل فى قلوب المؤمنين . ويرشدهم إلى ما يقويهم ويثبتهم ، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ، ويخفف عنه آلامهم فيقول : { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ . . . } .
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
📘 قال الفخر الرازى ما ملخصه : اعلم أن الله - تعالى - لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية ، الغفران والجنات ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية . وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } .وأصل الخلو فى اللغة : الانفراد . والمكان الخالى هو المنفرد عمن يسكن فيه . ويستعمل أيضا فى الزمان بمعنى المضى : لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية .والسنن جمع سنة وهى الطريقة المستقيمة والمثال المتبع . وفى اشتقاق هذه اللفظة وجوه منها : أنها فعلة من سن الماء يسنه إذا والى صبه . والسن الصب للماء . والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب ، فإنه لتوالى أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشىء الواحد " .والمراد بالسنن هنا : وقائع فى الأمم المكذبة ، أجراها الله - تعالى - على حسب عادته ، وهى الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم عن أمره .والمعنى : إنه قد مضت وتقررت من قبلكم - أيها المؤمنون - سنن ثابتة ، ونظم محكمة فيما قدره - سبحانه - من نصر وهزيمة ، وعزة وذلة ، وعقاب فى الدنيا وثواب فيها ، فالحق يصارع الباطل ، وينتصر أحدهما على الآخر بما سنه - سبحانه - من سنة فى النصر والهزيمة .وقد جرت سننه - سبحانه - فى خلقه أن يجعل العاقبة للمؤمنين الصادقين ، وأن يملى للكافرين ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر .فإن كنتم فى شك من ذلك - أيها المؤمنون - { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } .أى : فسيروا فى الأرض متأملين متبصرين ، فسترون الحال السيئة التى انتهى إليها المكذبون من تخريب ديارهم ، وبقايا آثارهم .قالوا : وليس المراد بقوله { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا } الأمر بذلك لا محالة ، بل المقصود تعرف أحوالهم ، فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير فى الأرض كان المقصود حاصلا ، ولا يمتنع أن يقال أيضا : إن لمشاهدة آثار المتقدمين أثراً أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر :تلك آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثاروالتعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام ، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التى تدعو إلى العجب ، وتثير الاستغراب ، وتغرس الاعتبار والاتعاظ فى قلوب المؤمنين؛ لأن هؤلاء المكذبين . مكن الله لهم فى الأرض ، ومنحهم الكثير من نعمه . ولكنهم لم يشكروه عليها ، فأهلكهم بسبب طغيانهم .فهذه الآية وأشباهها من الآيات ، تدعو الناس إلى الاعتبار بأحوال من سبقوهم . وإلى الاتعاظ بأيام الله ، وبالتاريخ وما فيه من أحداث ، وبالآثار التى تركها السابقون ، فإنها أصدق من رواية الرواة ومن أخبار المخبرين .
هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
📘 ثم قال - تعالى - { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } .والبيان : هو الدلالة التى تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلة .والهدى : هو الإرشاد إلى ما فيه خير الناس فى الحال والاستقبال .والمواعظة : هى الكلام الذى يفيد الزجر عما لا ينبغى من الأمور الدينية أو الدنيوية .قالوا : فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان :أحدهما : الكلام الهادى إلى ما ينبغى فى الدين وهو الهدى .والثانى : الكلام الزاجر عما لا ينبغى فى الدين وهو الموعظة . فعطفهما على البيان من عطف الخاص على العام .واسم الإشارة يعود إلى ما تقدم هذه الآية الكريمة من أوامر ونواه ، ومن وعد ووعيد ، ومن حض على السير فى الأرض للاعتبار والاتعاظ .أى هذا الذى ذكرناه لكم من وعد ووعيد ، ومن أوامر ونواه ، ومن حض على الاعتبار بأحوال المكذبين ، { بَيَانٌ لِّلنَّاسِ } يكشف لهم الحقائق ويرفع عنهم الالتباس { وَهُدًى } يهديهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم { وَمَوْعِظَةٌ } أى تخويف نافع { لِّلْمُتَّقِينَ } الذين يعتبرون بالمثلات ، وينتفعون بالعظات .وقيل : إن اسم الإشارة يعود إلى القرآن .أى هذا القرآن بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين .وقد رجح ابن جرير الرأى الأول فقال : وأولى القولين فى ذلك عندى بالصواب : قول من قال : قوله { هذا } إشارة إلى ما تقدم هذه الآية من تذكير الله - عز وجل - المؤمنين ، وتعريفهم حدوده ، وحضهم على لزوم طاعته ، والصبر على جهاد أعدائه ، لأن قوله { هذا } إشارة إلى حاضر إما مرئى وإما مسموع وهو فى هذا الموضع لى حاضر مسموع من الآيات المتقدمة ، فمعنى الكلام : هذا الذى أوضحت لكم وعرفتكموه بيان للناس " .والمراد بالناس جميعهم ، إذ أن ما ساقه الله - تعالى - من دلالات وهدايات وعظات هى للناس كافة ، إلا أن الذين ينتفعون بها هم المتقون ، لأنهم هم الذين أخلصوا قلوبهم لله ، وهم الذين طلبوا الحق وسلكوا طريقه . . .والكلمة الهادية لا يستفيد بها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى ، والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب الخاشع المنيب ، والناس فى كل زمان ومكان لا ينقصهم - فى الغالب - العلم بالحق وبالباطل ، وبالهدى والضلال . . . وإنما الذى ينقصهم هو القلب السليم الذى يسارع إلى الحق فيعتنقه ويدافع عنه بإخلاص وإصرار ، ولذا وجدنا القرآن فى هذه الآية - وفى عشرات الآيات غيرها - يصرح بأن المنتفعين بالتذكير هم المتقون فيقول : { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } .
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
📘 وبعد هذا البيان الحكيم ، يتجه القرآن إلى المؤمنين بالتثبيت والتعزية فينهاهم عن أسباب الفشل والضعف ، ويأمرهم بالصمود وقوة اليقين . ويبشرهم بأنهم هم الأعلون فيقول : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .وقوله { تَهِنُوا } من الوهن - بسكون الهاء وفتحها - وهو الضعف . وأصله ضعف الذات كما فى قوله - تعالى - حكاية عن زكريا : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي }أى ضعف جسمى .وهو هنا مجاز عن خور العزيمة ، وضعف الإرادة ، وانقلاب الرجاء يأساً والشجاعة جبنا ، واليقين شكا ، ولذلك نهوا عنه .وقوله { تَحْزَنُوا } من الحزن وهو ألم نفسى يصيب الإنسان عند فقد ما يحب أو عدم إدراكه ، أو عند نزول أمر يجعل النفس فى هم وقلق .والمقصود من النهى عن الوهن والحزن ، النهى عن سببهما وعن الاسترسال فى الألم مما أصابهم فى غزوة أحد .والمعنى : لا تسترسلوا - أيها المؤمنون - فى الهم والألم مما أصابكم فى يوم أحد ، ولا تضعفوا عن جهاد أعدائكم فإن الضعف ليس من صفات المؤمنين ، ولا تحزنوا على من قتل منكم فإن هؤلاء القتلى من الشهداء الذين لهم منزلتهم السامية عند الله .وقوله { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } جملة حالية من ضمير الجماعة فى ولا تهنوا ولا تحزنوا والمقصوج بها بشارتهم وتسليتهم وإدخال الطمأنينة على قلوبهم .أى لا تضعفوا ولا تحزنوا والحال أنكم أنتم الأعلون الغالبون دون عدوكم فأنتم قد أصبتم منهم فى غزوة بدر أكثر مما أصابوا منكم فى غزوة أحد . وأنتم تقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله وهم يقاتلون فى سبيل الطاغوت .وأنتم سيكون لكم النصر عليهم فى النهاية ، لأن الله - تعالى - قد وعدكم بذلك فهو القائل : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } وقوله { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جملة شرطية ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله .أى : إن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا بل اعتبروا بمن سبقكم ولا تعودوا لما وقعتم فيه من أخطاء يوجب قوة القلب ، وصدق العزيمة ، والصمود فى وجه الأعداء ، والإصرار على قتالهم حتى تكون كلمة الله هى العليا .والتعليق بالشرط فى قوله { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } المراد منه التهييج لنفوسهم حتى يكون تمسكها بالإيمان أشد وأقوى ، إذ قد علم الله - تعالى - أنهم مؤمنون ، ولكنهم لما لاح عليهم الوهن والحزن بسبب ما أصابهم فى أحد صاروا بمنزلة من ضعف يقينه ، فقيل لهم : إن كنتم مؤمنين حقا فاتركوا الوهن والحزن وجدوا فى قتال أعدائكم ، فإن سنة الله فى خلقه اقتضت أن تصيبوا من أعدائكم وأن تصابوا منهم إلا أن العاقبة ستكون لكم .فالآية الكريمة تحريض للمؤمنين على الجهاد والصبر ، وتشجيع على القتال وتسلية لهم عما أصابهم ، وبشارة بأن النصر فى النهاية سيكون حليفهم .
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
📘 ثم بين - سبحانه - أهم الشهوات التي يؤدى الانهماك في طلبها إلى الانحراف في التفكير ، وإلى عدم التبصر والاعتبار ، ودعا الناس إلى التزود من العمل الصالح الذي يفضى بهم إلى رضاه - سبحانه - فقال : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ . . . } .فأنت ترى في هذه الآيات الكريما بيانا حكيما من الله - تعالى - لأهم متع الحياة الدنيا وشهواتها ، ولما هو خير من هذه المتع والشهوات ، مما أعده الله لعباده المتقين من جنات وخيرات .وقوله { زُيِّنَ } من التزيين وهو تصيير الشيء زينا أى حسنا . والزينة هى ما فى الشيء من المحاسن التي ترغب الناظرين في اقتنائه .قال الراغب : " والزينة بالقول المجمل ثلاث : زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة ، وزينة بدنية كالقوة وطول القامة ، وزينة خارجية كالمال والجاه . . وقد نسب الله التزيين في مواضع إلى نفسه كما في قوله - تعالى - { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } ونسبه في مواضع إلى الشيطان كما في قوله { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } وذكره في مواضع غير مسمى فاعله كما في قوله - تعالى - { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات } .والشهوات جمع شهوة ، وهي ثوران النفس وميلها نحو الشيء المشتهى . والمراد بها هنا الأشياء المشتهاة من النساء والبنين . . . إلخ . وعبر عنها بالشهوات للإشارة - كما يقول الألوسي - إلى ما ركز في الطباع من محبتها والحرص عليها حتى لكأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض : ما تشتهي؟ فقال : أشتهي أن أشتهى . أو تنبيها على خستها : لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب فيما عند الله ، ثم قال : والتزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب ، وهو بهذا المعنى مضاف إليه - تعالى - حقيقة؛ لأنه لا خالق إلا هو . ويطلق ويراد به الحض على تعاطي الشهوات المحظورة فتزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها " .ثم بين - سبحانه - أهم المشتهيات التي يحبها الناس ، وتهفوا إليها قلوبهم ، وترغب فيها نفوسهم ، فأجملها في أمور ستة .أما أولها : فقد عبر عنه القرآن بقوله : " من النساء ولا شك أن المحبة بين الرجال والنساء شيء فطري في الطبيعة الإنسانية ، ويكفي أن الله - تعالى - قد قال في العلاقة بين الرجل والمرأة { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } وقال تعالى - في آية ثانية { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } وإن بعض الرجال قد يستهين بكل شيء في سبيل الوصول إلى المرأة التي يهواها ويشتهيها والأمثال على ذلك كثيرة ولا مجال لذكرها هنا وصدق رسول الله حيث يقول : " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " ، ولذا قدم القرآن اشتهاءهن على كل شهوة . و { مِنَ } في قوله { مِنَ النساء والبنين } بيانية ، وهي مع مجرورها في محل نصب على الحال من الشهوات .واكتفى القرآن بذكر محبة الرجل للمراة مع أن المرأة كذلك تحب الرجل بفطرتها لأن ذكر محبة أحدهما للآخر يغني عن ذكر الطرفين معاً ، وما يستفاد بالإشارة يستغنى فيه عن العبارة خصوصاً في هذا المجال الذي يحرص فيه القرآن على تربية الحياء والأدب في النفوس ، ولأن المرأة في هذا الباب يهمها أن تكون مطلوبة لا طالبة . وحتى لو كانت محبتها للرجل أشد فإنها تحاول أن تثير فيه ما يجعله هو الذي يطلبها لا هي التي تطلبه .وأما ثاني المشتهيات : فقد عبر عنه القرآن بقوله { والبنين } جمع ابن ، وهو معطوف على ما قبله ، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء لأن البنين ثمرة حب النساء ، واكتفى بذكر البنين ، لأنهم موضع الفخر في العادة وحب الأولاد طبيعة في النفس البشرية فهم ثمرات القلوب ، وقرة الأعين ومهوى ألفئدة ، ومطمح الآمال ، ولقد تمنى الذرية جميع الناس حتى الأنبياء فهذا سيدنا إبراهيم يقول : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين } وسيدنا زكريا يقول : { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } والإنسان في سبيل حبه لأولاده يضحى براحته ، وقد يجمع المال من أجلهم من حلال ومن حرام ، وقد يرتكب بعض الأعمال التي لا يريد ارتكابها إرضاء لهم ، وقد يمتنع عن فعل أشياء هو يريد فعلها لأن مصلحتهم تقتضي ذلك .وصدق الله إذ يقول : { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " الولد ثمرة القلب ، وإنه مجبنة مبخلة محزنة " أى أن الأبناء يجعلون آباءهم يجبنون خوفا من الموت لئلا يصيب أبناءهم اليتم وآلامه ، ويجعلونهم يبخلون فلا ينفقون فيما ينبغي أن ينفق فيه إيثاراً لهم بالمال ، ويجعلونهم يحزنون عليهم إن أصابهم مرض ونحوه .أما الأمر الثالث من المشتهيات : فقد عبر عنه القرآن بقوله { والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة } والقناطير جمع قنطار ، وهو مأخوذ من عقد الشىء وإحكامه ، تقول العرب : قنطرت الشىء إذا أحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها .قال الفخر الرازى " القنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب وحكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون : إنه وزن لا يحد . واعلم أن هذا هو الصحيح ، ومن الناس من حاول تحديده . فعن ابن عباس : القنطار ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية " .ولفط { المقنطرة } مأخوذ من القنطار . ومن عادة العرب أن يصفوا الشىء بما يشتق منه للمبالغة أي والقناطير المضاعفة المتكاثرة المجموعة قنظاراً قنطاراً كقولهم : دراهم مدرهمة وإبل مؤبلة .وقوله { مِنَ الذهب والفضة } بيان للناطير ، وهو فى موضع الحال هنا .والمراد أن الإنسان محب للمال حباً شديداً ، قال - تعالى - { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } وقال تعالى - { وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً }وفي الحديث الشريف الذى رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً . ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب . ويتوب الله على من تاب " والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .وقالت السيدة - عائشة - رضي الله عنها - " رأيت ذا المال مهيبا ، ورأيت ذا الفقر مهينا " وقالت : " إن أحساب ذوى الدنيا بنيت على المال " .وإنما كان الذهب والفضة مبحوبين ، لأنهما - كما يقول الرازى - جعلا ثمنا لجميع الأشياء ، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء " وصفة المالكية هي القدرة ، والقدرة صفة كمال ، والكمال محبوب لذاته ، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذى هو محبوب لذاته - وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب - لا جرم كانا محبوبين " .وأما المشتهيات الرابعة والخامسة والسادسة فتتجلى في قوله - تعالى - { والخيل المسومة والأنعام والحرث } .ولفظ الخيل يرى سيبويه أنه اسم جمع لا واحد له من لفظة ، بل مفرده فرس فهو نظير قوم - ورهط ونساء . ويرى الأخفش أنه جمع تكسير وواحده خائل ، فهو نظير راكب ، وطائر وطير . وهو مشتق من الخيلاء لأنها تختال في مشيتها .والمسومة : أى الراعية في المروج والمسارح . يقال : سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى . أو المطهمة الحسان ، من السيما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل من السمة بمعنى العلامة .والخيل كانت وما زالت زينة محببة مرغوبة ، مهما تفنن البشر في اختراع صنوف من المراكب براً وبحراً فمع وجود هذه المراكب المتنوعة ما زال للخيل عشاقها الذين يعجبهم ما فيها من جمال وانطلاق وألفة . ويقتنونها للركوب والمسابقات . . . { والأنعام } جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم . ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها .والأنعام فيها زينة . والإنسان في حاجة شديدة إليها في مركبه ومطعمه وغير ذلك . قال - تعالى - { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } و { والحرث } مصدر بمعنى المفعول أى المحروث . والمراد به المزروع سواء أكان حبوباً أم بقلا ، أم ثمراً إذ من هذه الأشياء يتخذ الإنسان مطعمه وملبسه وأدوات زينته .تلك هى أهم المشتهيات في هذه الحياة إلى نفس الإنسان قد جمعها القرآن في آية واحدة ، وقد اختصها - سبحانه - بالذكر لأنها أوضح من غيرها في الاحتياج إليها والتلذذ بها ، ولأن فيها إشارة إلى أنواع المتع كلها سواء أكانت متعة جسدية أم روحية ، أم مالية ، أم غير ذلك من ألوان المتع ، ومن مستلزمات الحياة .وقد ختم - سبحانه - الآية بقوله { ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } . واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى كل ما تقدم ذكره من الأمور الستة التي سبق الحديث عنها ، والمآب : مصدر ميمى بوزن مفعل ، من آب . كقال - إياباً وأوباً ومآباً ، إذا رجع . وأصله مأوب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ثم قلبت الواو ألفاً مثل مقال .أى ذلك المذكور من النساء والبنين وما عطف عليهما هو موضع الزينة ، ومطلب الناس الذى يستمتعون به ، . . . .فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت المشتهيات التي جبل الإنسان على الميل إليها ، وصياغة الفعل للمجهول { زُيِّنَ لِلنَّاسِ } للإشارة إلى أن محبة هذه الأشياء واشتهاءها مركوز في الفطرة الإنسانية منذ أوجد الله الإنسان في هذه الحياة الدنيا .وهذه المشتهيات ليست خسيسة في ذاتها ، ولا يقصد الإسلام إلى تخسيسها في ذاتها أو إلى التنفير منها ، وإنما الإسلام يريد من أتباعه أن يقتصدوا في طلبها ، وأن يطلبوها من وجوهها المشروعة ، وأن يضعوها في مواضعها المشروعة ، وأن يشكروا الله عليها ، وألا يجعلوها غاية مقصدهم في هذه الحياة إن الإسلام لا يحارب الفطرة الإنسانية التي تشتهي هذه الأشياء ، وإنما يهذبها ويضبطها ويرشدها إلى أن تضع هذه الأشياء في موضعها المناسب ، بحيث لا تطغى على غيرها ولا تستعمل فى غير ما خلقها الله من أجله ، وبذلك يسعد الإنسان في دينه ودنياه وآخرته .وللإمام ابن كثير كلام حسن عند تفسيره لهذه الآية فقد قال ما ملخصه : يخبر الله - تعالى - عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين ، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد . . فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه كما وردت الأحاديث بذلك . . وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر . . . فيكون مذموما ، وتارة يكون للنفقة في وجوه البر فيكون محموداً . . وحب الخيل على ثلاثة أقسام ، تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها فهؤلاء يثابون . وتارة تربط فخرا ومناوأة لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر . وتارة تربط للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس صاحبها حق الله فيها فهذه لصاحبها تر . وفى الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة " والسكة النخل المصطف ، والمأبورة الملقحة ، . وفي الصحيحن عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم غرس أو زرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقه " .هذا ، وختام الآية الكريمة بقوله { ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } إشارة إلى أن متع الدنيا مهما كثرت وتنوعت وتلذذ بها الإنسان فهى زوال ، وأما اللذائذ الباقية الخالدة فهي التي أعدها الله - تعالى - لعباده المتقين في الدارة الآخرة ، ولذا قال - سبحانه - بعد ذلك { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } .
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
📘 ثم أضاف - سبحانه - إلى ذلك تسلية جديدة لهم ، فأخبرهم بأن ما أصابهم من جراح وآلام قد أصيب أعداؤهم بمثله فقال - تعالى - : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ } .فقال الفخر الرازى : واعلم أن هذا من تمام قوله - تعالى - { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } فبين - تعالى - أن الذين يصيبهم من القرح لا يصح أن يزيل جدهم واجتهادهم فى جهاد العدو ، وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك ، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك فى الحرب ، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى .والمراد بالمس هنا : الإصابة بالجراح ونحوها .والقرح - بفتح القاف - الجرح الذى يصيب الإنسان ، والقرح - بضم القاف - الألم الذى يترتب على ذلك وقيل هما لغتان بمعنى واحد وهو الجرح وأثره .والمعنى : إن تكونوا - أيها المؤمنون - قد أصابتكم الجراح من المشركين فى غزوة أحد ، فأنتم قد أنزلتم بهم من الجراح فى غزوة بدر مثل ما أنزلوا بكم فى أحد ، ومع ذلك فإنهم بعد بدر قد عادوا لقتالكم ، فأنتم أولى بسبب إيمانكم ويقينكم ألا تهنوا والا تحزنوا لما أصابكم فى أحد وأن تعقدوا العزم على منازلتهم حتى يظهر أمر الله وهم كارهون .وقيل : إن المعنى إن تصبكم الجراح فى أحد فقد أصيب القوم بجراح مثلها فى هذه المعركة ذاتها .وقد ذكر صاحب الكشاف هذين المعنيين فقال : والمعنى : إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ، ولم ثبطهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أولى أن لا تضعفوا . ونحوه { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } وقيل : كان ذلك يوم أحد ، فقد نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .فإن قلت : كيف قيل " قرح مثله " وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين؟ قلت : بلى كان مثله . ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار . ألا ترى إلى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } ويبدو لنا أن الظاهر هو الرأى الأول ، وهو أن الكلام عن غزوتى بدر وأحد ، لأن الله - تعالى - قد ساق هذه الآية الكريمة لتسلية المؤمنين بأن ما أصابهم فى أحد من المشركين قد أصيب المشركون بمثله على أيدى المؤمنين فى غزوة بدر ، فلماذا يحزنون أو يضعفون؟ ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } ، ويؤيد هذا المعنى - كما سنبينه لعد قليل - .وجواب الشرط فى قوله { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } . . . إلخ . والتقدير إن يمسسكم قرح فاصبروا عليه واعقدوا عزمكم على قتال أعدائكم ، فقد مسهم قرح مثله قبل ذلك .وعبر عما أصاب المسلمين فى أحد بصيغة المضارع { يَمْسَسْكُمْ } لقربه من زمن الحال ، وعما أصاب المشركون بصيغة الماضى لبعده؛ لأن ما أصابهم كان فى غزوة بدر .وقوله { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } بيان لسنة الله الجارية فى كونه ، وتسلية للمؤمنين عما أصابهم فى أحد .وقوله { نُدَاوِلُهَا } من المداولة ، وهى نقل الشىء من واحد إلى آخر .يقال : هذا الشىء تداولته الأيدى ، أى انتقل من واحد إلى آخر .والمعنى : لا تجزعوا أيها المؤمنون لما أصابكم من الجراح فى أحد على أيدى المشركين فهم قد أصيبوا منكم بمثل ذلك فى غزوة بدر ، وإن أيام الدنيا هى دول بين الناس ، لا يدوم سرورها ولا غمها لأحد منهم ، فمن سره زمن ساءته أزمان ، ومن أمثال العرب . الحرب سجال : والأيام دول فهى تارة لهؤلاء وتارة لأولئك ، كما قال الشاعر :فلا وأبى الناس لا يعلمون ... فلا الخير خير ولا الشر شرفيوم علينا ، ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسرواسم الإشارة { تِلْكَ } مشاربه إلى ما بعده ، كما فى الضمائر المبهمة التى يفسرها ما بعدها ، ومثل هذا التركيب يفيد التفخيم والتعظيم .والمراد بالأيام : الأوقات والأزمان المختلفة لا الأيام العرفية التى يتكون الواحد منها من مدة معينة .وقد فسر صاحب الكشاف مداولة الأيام بتبادل النصر ، فقال : وقوله : { وَتِلْكَ الأيام } ، تلك مبتدأ ، والأيام صفته { نُدَاوِلُهَا } خبره .ويجوز أن يكون { وَتِلْكَ الأيام } مبتدأ وخبرا ، كما تقول : هى الأيام تبلى كل جديد .والمراد بالأيام : أوقات الظفر والغلبة . ونداولها : نصرفها بين الناس ، نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء " .وقد تكلم الإمام الرازى عن الحكمة فى مداولة الأيام بين الناس فقال ما ملخصه : واعمل أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله - تعالى - ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين ، وذلك لأن نصرة الله منصب شريف ، وإعزاز عظيم فلا يليق بالكافر ، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه :الأول : إنه - سبحانه - لو شدد المحنة على الكفار فى جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين فى جميع الأوقات . لحصل العلم الاضطرارى بأن الإيمان حق وما سواه باطل ، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب ، فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية ، والمكلف يدفعها بواسطة النظر فى الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله .والثانى : أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصى ، فيكون تشديد المحنة عليه فى الدنيا أدباً ، وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضباً من الله عليه " .ووجه آخر وهو شحذ عزائم المؤمنين فى اتخاذ وسائل النصر فلا يركنوا إلى إيمانهم ويتركوا العمل بالأسباب .ثم كشفت السورة الكريمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث فى غزوة أحد ، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس فقال - تعالى - { وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } .أى فعلنا ما فعلنا فى أحد ، واقتضت حكمتنا أن نداول الأيام بينكم وبين عدوكم ، ليظهر أمركم - أيها المؤمنون - ، وليتميز قوى الإيمانى من ضعيفه .فمعنى علم الله هو تحقيق ما قدره فى الأزل فيعلمه الناس ، ويعلمه الله - تعالى - واقعا حاضرا ، وذلك لأن العلم الغيبيى لا يتربت عليه ثواب ولا عقاب ، وإنما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً فى الحس .قال صاحب الكشاف : وقوله { وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ } فيه وجهان :أحدهما : أن يكون المعلل محذوفا والمعنى : وليتميز الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف فعلنا ذلك . وهو من باب التمثيل . بمعنى : فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت ، وإلا فالله - عز وجل - لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها .والثاني : أنه تكون العلة محذوفة ، وهذا عطف عليه والمعنى : وفعلنا ذلك ليكون كيت وليعلم الله . وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ، ليسليهم عما جرى عليهم ، وليبصرهم بأن العبد يسوؤه ما يجرى عليه من المصائب ، ولا يشعر أن لله فى ذلك من المصالح ما هو غافل عنه " .وقوله { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } بيان لحكمة أخرى لما أصاب المسلمين يوم أحد .أى : وليكرم ناسا منكم بالشهادة ليكونوا مثالا لغيرهم فى التضحية بالنفس من أجل إعلاء كلمة الله ، والدفاع عن الحق . وهو - سبحانه - يحب الشهداء من عباده ، ويرفعهم إلى أعلا الدرجات ، وأسمى المنازل .قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } أي يكرمكم بالشهادة ، أي ليقتل قوم منكم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم . وقيل : لهذا قيل شهيد .وقيل : سمى شهيداً لأنه مشهود له بالجنة . وقيل : سمى شهيدا ، لأن أرواحهم احتضرت دار السلام لأنهم أحياء عند ربهم ، فالشهيد بمعنى الشاهد أى الحاضر للجنة . والشهادة فضلها عظيم ويكفيك فى فضلها قوله - تعالى - { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } الآية . وفى الحديث الشريف " أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما بال المؤمنين يفتنون فى قبورهم إلا الشهيد؟ فقال صلى الله عليه وسلم " كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة " " .وقوله - تعالى - { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } جملة معترضة لتقدير مضمون ما قبلها .أى : والله - تعالى - لا يحب الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم وتخاذلهم عن نصرة الحق ، وإنما يحب المؤمنين الثابتين على الحق ، المجاهدين بأنفسهم وأموالهم فى سبيل إعلاء دين الله ، ونصره شريعته .
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
📘 ثم ذكر - سبحانه - حكمتين أخريين لما جرى للمؤمنين فى غزوة أحد فقال : { وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الكافرين } .وقوله { وَلِيُمَحِّصَ } من المحص بمعنى التنقية والتخليص . يقال : محصت الذهب بالنار ومحصته إذا أزلت عنه ما يشوبه من خبث .أو من التمحيص بمعنى الابتلاء والاختبار .وقوله { وَيَمْحَقَ } من المحق وهو محو الشىء والذهاب به ، وأصله نقص الشىء قليلا قليلا حتى يفنى . يقال : محق فلان هذا الطعام إذا نقصه حتى أفناه ومنه المحاق ، لأخر الشهر ، لأن الهلال يبلغ أقصى مدى النقصان فيختفى .والمعنى : ولقد فعل - سبحانه - ما فعل فى غزوة أحد ، لكى يطهر المؤمنين ويصفيهم من الذنوب ، ويخلصهم من المنافقين المندسين بينهم ، ولكى يهلك الكافرين ويمحقهم بسبب بغيهم وبطرهم .فأنت ترى أن الله - تعالى - قد ذكر اربع حكم لما حدث للمؤمنين فى غزوة أحد وهيى : تحقق علم الله - تعالى - وإظهاره للمؤمنين ، وإكرام بعضهم بالشهادة التى توصل صاحبها إلى أعلى الدرجات ، وتطهير المؤمنين وتخليصهم من ذنوبهم ومن المنافقين ، ومحق الكافرين واستئصالهم رويدا رويدا .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - أن طريق الجنة محفوف بالمكاره ، وأن الوصول إلى رضا الله - تعالى - يحتاج إلى جهاد عظيم ، وصبر طويل فقال - تعالى - : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } و { أَمْ } هنا يرى كثير من العلماء أنها منقطعة ، بمعنى بل الانتقالية ، لأن الكلام انتقال من تسليتهم إلى معاتبتهم على ما حدث منهم فى غزوة أحد من مخالفة بعضهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرارهم عنه فى ساعة الشدة .والهمة المقدرة معها للإنكار والاستبعاد .وقوله { أَمْ حَسِبْتُمْ } معطوف على جملة { وَلاَ تَهِنُوا } وذلك أنهم لما مسهم القرح فحزنوا واعتراهم شىء من الضعف ، بين الله لهم أنه لا وجه لهذا الضعف أو الحزن لأنهم هم الأعلون ، والأيام دول ، وما أصابهم فقد سبق أن أصيب بمثله أعداؤهم ، ثم بين لهم هنا : أن دخول الجنة لا يحصل لهم إذا لم يبذلوا مهجهم وأرواحهم فى سبيل الله ، فإذا ظنوا غير ذلك فقد أخطأوا .والمعنى : بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة ، وتنالوا كرامة ربكم ، وشرف المنازل عنده مع أنكم لم تجاهدوا فى سبيل الله جهاد الصابرين على شدائده ومتاعبه ومطالبه ، إن كنتم تحسبونه هذا الحسبان فهو ظن باطل يجب عليكم الإقلاع عنه .ويحتمل أن تكون { أَمْ } هنا للمعادلة بمعنى أنها متصلة لا منقطعة " ويكون المعنى عليه : أعلمتم أن الله - تعالى - سننا فى النصر والهزيمة ، وأن الأيام دول . وأن الوصول إلى السنة يحتاج إلى إيمان وجهاد وصبر ، أم حسبتم وظننتم أنكم تدخلون الجنة من غير مجاهدة واستشهاد؟وقوله { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ } بمعنى ولما تجاهدوا . لأن العلم متعلق بالمعلوم ، فنزل نفى العلم منزلة نفى متعلقة ، لأنه منتف بانتفائه . يقول الرجل : ما علم الله من فلان خيرا ، يريد ما فيه خير حتى يعمله ، و " لما " بمعنى و { لَم } إلا أن فيها ضرباً من التوقع ، فدل على نفى الجهاد فيما مضى ، وعلى توقعه فيما يستقبل .وتقول : وعدنى أن يفعل كذا لوما يفعل ، تريد : وأنا أتوقع فعله " .وجملة { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ } حالية من ضمير { تَدْخُلُواْ } مؤكدة للإنكار ، فإن رجاء الأجر من غير علم مستبعد عند ذوى العقول السليمة ، ولذا قال بعضهم :ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجرى على اليبسوقال بعض الحكماء " طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور . وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة " .وقوله { وَيَعْلَمَ الصابرين } أى ويتميز الصابرون فى جهادهم عن غيرهم فالآية الكريمة تشير إلى أن الشدائد من شأنها أن تميز المجاهدين الصادقين فى جهادهم ، الثابتين فى البأساء والضراء من غيرهم ، وأن تميز الصابرين الذين يتحملون مشاق القتال وتبعاته بقلب راسخ ، ونفس مطمئنة من الذين يجاهدون ولكنهم تطيش أحلامهم عند الشدائد والأهوال .فالجهاد فى سبيل الله يستلزم الصبر ، لأن الصبر هو عدة المجاهد وأساس نجاحه ، ولقد سئل بعضهم عن الشجاعة فقال : الشجاعة صبر ساعة .وقال بعض الشعراء يعتذر عن انتصار أعدائهم عليهم .سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبراولقد كان عدم صبر الرماة فى غزوة أحد ، ومسارعتهم إلى جمع الغنائم ، من أهم الأسباب التى أدت إلى هزيمة المسلمين فى تلك المعركة .والآية الكريمة كذلك تشير إلى أن الطريق إلى الجنة ليس سهلا يسلكه كل إنسان وإنما هو طريق محفوف بالمكاره والشدائد . ولا يصل إلى غايته إلا الذين جاهدوا وصبروا وصابروا ، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات " .
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
📘 ثم ذكرهم - سبحانه - بما كان منهم من تمنى الشهادة فى سبيله فقال { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } .قال ابن جرير ما ملخصه : كان قوم من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهدوا بدراً ، يتمنون قبل يوم أحد يوما مثل يوم بدر ، فيعطون الله من أنفسهم خيرا ، وينالون من الأجر مثل ما نال أهل بدر ، فلما كان يوم أحد ، فر بعضهم وصبر بعضهم ، حتى أوفى بما كان عاهد الله عليه قبل ذلك ، فعاتب الله من فر منهم بقوله : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } . . . الآية .والخطاب فى الآية الكريمة للمؤمنين الذين لم يفوزوا بالشهادة فى غزوة أحد ، وهو خطاب يجمع بين الموعظة والملام .والمراد بالموت هنا الشهادة فى سبيل الله ، أو الحرب والقتال لأنهما يؤديان إلى الموت .والمعنى : ولقد كنتم - يا معشر المؤمنين - { تَمَنَّوْنَ الموت } ، أى الحرب أو الشهادة فى سبيل الله { مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } أى تشاهدوه وتعرفوا أهواله { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } أى فقد رأيتم ما تتمنونه من الموت بمشاهدة أسبابه وهى الحرب وما يترتب عليها من جراح وآلام وقتال { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } أى رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أنتم أيها الأحياء أن تقتلوا .{ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } متعلق بقوله { تَمَنَّوْنَ } مبين لسبب إقدامهم على التمنى . أى من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا مصاعبه .ففى الجملة الكريمة تعريض بأنهم تمنوا أمرا دون أن يقدروا شدته عليهم ، ودون أن يوطنوا أنفسهم على تحمل مشقاته وتبعاته .والفاء فى قوله { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } للإفصاح عن شرط مقدر دل عليه صدر الكلام . والتقدير : إذا كنتم قد تمنيتم الموت فقد وقع ما تمنيتموه ورأيتموه رأى العين ، فأين بلاؤكم وصبركم وثباتكم؟ .وقوله { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جملة حالية من ضمير المخاطبين مؤكدة لمعنى رأيتموه . أى رأيتموه معاينين له ، وهذا على حد قولك : رأيته وليس فى عينى علة ، أى رأيته رؤية حقيقة لا خفاء ولا التباس .والتعبير بالمضارع { تَنظُرُونَ } يفيد التصوير . وإحضار الصورة الواقعة فى الماضي كأنها واقعة فى الحاضر ، فيستحضرها العقل كما وقعت ، وكما ظهرت فى الوجود .والنظر الذى قرره الله - تعالى - بقوله { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } يتضمن النظر إلى الموقعة كلها ، وكيف كان النصر فى أول الأمر للمسلمين ، ثم كيف كانت الهزيمة بعد ذلك بسبب تطلع بعضهم إلى أعراض الدنيا . ثم كيف تفرقت صفوفهم بعد اجتماعها وكيف تضعضعت بعض العزائم بعد مضائها وقوتها .ولقد حكت الآية الكريمة أن المسلمين كانوا يتمنون الموت فى معركة ، وليس فى ذلك من بأس ، بل إن هذا هو شعار المؤمن الصادق ، لأن المؤمن الصادق هو الذى يتمنى الشهادة فى سبيل الله ومن أجل نصرة دينه ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لوددت أنى اقتل فى سبيل الله ، ثم أحيا ، ثم أقتل ، ثم أحيا ثم أقتل " .وقال عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - " اللهم إنى أسألك شهادة فى سبيلك " . ولكن الذى يكرهه الإسلام هو أن يتمنى المسلم الشهادة ثم لا يفى بما تمناه ، بمعنى أن يفر من الميدان أو يفعل ما من شأنه أن يتنافى مع الجهاد الحق فى سبيل الله .ولذا قال الآلوسى : " والمقصود من هذا الكلام عتاب المنهزمين على تمنيهم الشهادة ، وهم لم يثبتوا حتى يستشهدوا ، أو على تمنيهم الحرب وتسببهم لها ثم جبنهم وانهزامهم لا على تمنى الشهادة نفسها لأن ذلك مما لا عتاب عليه كما وهم " .فالآية الكريمة تعظ المؤمنين بأن لا يتمنوا أمرا حتى يفكروا فى عواقبه ، ويعدوا أنفسهم له ، ويلتزموا الوفاء بما تمنوه عند تحققه ، ولقد رسم النبى صلى الله عليه وسلم الطريق القويم الذى يجب أن يسلكه المسلم في حياته فقال فى حديثه الصحيح :" أيها الناس ، لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية . فإذا لقيتموهم فاصبروا . واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد أمرت المؤمنين بأن يعتبروا بأحوال من سبقهم ، وأن يتجنبوا ما كان عليه المكذبون من ضلال وعصيان وأن يوطنوا أنفسهم على تحمل المصائب والآلام فإن العاقبة لهم ، وأن يعملوا أن الحياة لا تخلو من نصر وهزيمة ، وسراء وضراء حتى يتميز الخبيث من الطيب ، وأن يعرفوا أن الطريق إلى الجنة يحتاج إلى إيمان عميق ، وصبر طويل ، وجهاد شديد ، واستجابة كاملة لتعاليم الإسلام وآدابه . ثم تمضى السورة الكريمة فى حديثها عن غزوة أحد ، فتذكر المؤمنين بما كان منهم عندما اشيع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، وترشدهم إلى أن الآجال بيد الله ، وأن المؤمنين الصادقين قاتلوا مع أنبيائهم فى سبيل إعلاء كلمة الله بدون ضعف أو ملل فعليهم أن يتأسوا بهم فى ذلك ، وأن الله - تعالى - قد تكفل بان يمنح المؤمنين الصادقين المجاهدين فى سبيله أجرهم الجزيل فى الدنيا والآخرة .
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
📘 استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق هذه المعانى بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول : { وَمَا مُحَمَّدٌ . . . } .قال ابن كثير : لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد ، وقتل من قتل منهم ، نادى الشيطان : ألا إن محمداً قد قتل ، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم : قتلت محمداً . وإنما قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه فى رأسه . فوقع ذلك فى قلوب كثير من الناس ، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فحصل ضعف ووهن وتأخر - بين المسلمين - عن القتال . ففى ذلك أنزل الله تعالى - { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } الآية .وقوله - تعالى - { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } تقرير لحقيقة ثابتة ، ولأمر مؤكد ، وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم واحد من البشر ، وأنه سيموت كما يموت جميع البشر ، وأنه ليس له صفة تميزه عن سائر البشر سوى الرسالة التى وهبها الله - تعالى - له ، ومنحه إياها ، وأن هذه الرسالة لا تقتضى بقاءه أو خلوده ، إذ الرسل الذين سبقوه قد أدوا رسالتهم فى الحياة كما أمرهم خالقهم ثم ماتوا أو قتلوا .وما دام الأمر كذلك فمحمد صلى الله عليه وسلم سيموت وينتقل إلى الرفيق الأعلى كما مات الذين سبقوه من الأنبياء ، وكما سيموت جميع البشر .والقصر فى قوله - تعالى - : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } من باب قصر الموصوف على الصفة ، أى قصر محمد صلى الله عليه وسلم على وصف الرسالة قصراً إضافياً .وفى هذا القصر رد على ما صدر من بعض المسلمين من اضطراب وضعف حين أرجف المنافقون فى غزوة أحد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل .فكأنه - تعالى - يقول لهم : إن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من الرسل الذين أرسلهم الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وسيكون مصيره إلى الموت إن عاجلا أو آجلا كما هو شأن سائر البشر الذين اصطفى الله - تعالى - منهم رسله ، إلا أن رسالته التى جاء بها من عند الله لن تموت من بعده ، بل ستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولا يصح أن يضعف أتباعه فى عقيدتهم أو فى تبليغ رسالته من بعده ، بل عليهم أن يستمسكوا بما جاءهم به ، وأن يدافعوا عنه بأنفسهم وأموالهم .ولذا فقد وبخ الله - تعالى - بعض المسلمين الذين صدر منهم اضطراب أو ضعف عندما أشاع ضعاف النفوس بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل فى غزوة أحد فقال - تعالى - : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } ؟أى : إذا مات محمد صلى الله عليه وسلم - أيها المؤمنون - وقد علمتم أن موته حق لا ريب فيه ، أو قتل وهو يدافع عن دينه وعقيدته ، { انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } أى : رجعتم إلى ما كنتم عليه من الكفر والضلال .والانقلاب : الرجوع إلى المكان . وهو هنا مجاز فى الرجوع إلى الحال التى كانوا عليها قبل الإسلام .يقال لكل من رجع إلى حاله السىء الأول : نكص على عقبيه ، وارتد على عقبيه . والعقب مؤخر الرجل . وجمع أعقاب .قال صاحب الكشاف : قوله { أَفإِنْ مَّاتَ } الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبب . والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل ، مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلاب عنه .قإن : قلت : لم ذكر القتل وقد علم أنه لا يقتل؟ قلت : لكونه مجوزا عند المخاطبين .فإن قلت : أما علموه من ناحية قوله : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } قلت : هذا مما يختص بالعلماء منهم وذوى البصيرة " .وفى قوله { انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } تنفير شديد من الرجوع إلى الضلال بعد الهدى ، وتصوير بليغ لمن ارتد عن الحق بعد أن هداه الله إليه .فقد صور - سبحانه - حالة من ترك الهداية إلى الضلال ، بحالة من رجع إلى الوراء وبصره إلى الأمام ، وأعقابه هى التى تقوده إلى الخلق ، وهو فى حالة انتكاس ، بأن جعل رأسه إلى أسفل وعقبه إلى أعلا . ولا شك أن هذا أقبح منظر يكون عليه الإنسان .وقوله { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً } الغرض منه تأكيد الوعيد ، لأن كل عاقل يعلم أن الله - تعالى - لا يضره كفر الكافرين .أى : ومن ينقلب على عقبيه بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بأن يرجع إلى ما كان عليه من الكفر والضلال ، فلن يضر الله شيئاً من الضرر وإن قل ، إنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب ، وبحرمانها من الأجر والثواب .ثم أتبع - سبحانه - هذا الوعيد بالوعد فقال : { وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } أى : وسيثيب الله - تعالى - الثابتين على الحق والصابرين على الشدائد الشاكرين له نعمه فى السراء والضراء ، سيثيبهم على ذلك بالنصر فى الدنيا وبرضوانه فى الآخرة .وعبر هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين مع أن الصبر فى هذا الموطن أظهر ، وذلك لأن الشكر فى هذا المقام هو أسمى درجات الصبر ، لأن هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين وقفوا إلى جانب النبى - صلى الله عليه وسلم - فى ساعة العسرة ، لم يكتفوا بتحمل البلاء معه فقط ، بل تجاوزوا حدود الصبر إلى حدود الشكر على هذه الشدائد التى ميزت الخبيث من الطيب ، فالشكر هنا صبر وزيادة ، وقليل من الناس هو الذى يكون على هذه الشاكلة ، ولذا قال - تعالى -{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } فالآية الكريمة قد تضمنت عتابا وتوبيخا لأولئك المسلمين الذين ضعف يقينهم ، وفترت همتهم ، عندما أرجف المرجفون فى غزوة أحد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل .كما تضمنت الثناء الجزيل على أولئك الثابتين الصابرين الذين لم تؤثر فى قوة إيمانهم تلك الأراجيف الكاذبة ، بل مضوا فى جهادهم وثباتهم بدون تردد أو تزعزع ولقد كان الثابتون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة أحد كثيرين ومن بينهم أنس بن النضر - رضى الله عنه - ، فقد ورى البخارى عن أنس - رضى الله عنه - قال : غاب عمى أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله . غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين ، لئن أشهدنى الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع .فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون . قال : اللهم إنى أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المسلمين - . وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المشركين - .ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ . فقال : يا سعد بن معاذ!! الجنة ورب النضر إنى لأجد ريحها من دون أحد .قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع .قال أنس : فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل ، وقد مثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه .قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفى أشباهه : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } كما تضمنت الآية الكريمة التحذير عن الارتداد عن دين الله بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان أنه بشر من البشر ، وأنه يموت كما يموت سائر البشر ، وأن رسالته هى الخالده الباقية ، فمن تمسك بها فقد سعد وفاز . ومن أعرض عنها فلن يضر الله شيئاً .
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - أن الآجال بيد الله وحده . وأنه - سبحانه - قد جعل لكل أجل وقتا محددا لا يعدوه فقال - تعالى - { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } .أى : ما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس مطلقا ، لأى سبب من الأسباب ، إلا بمشيئة الله وأمره وإذنه ، فهو - سبحانه - الذى كتب لكل نفس عمرها كتابا مؤقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر .المراد بالنفس هنا . جنسها . أى كل نفس لا تموت إلا بإذن الله .والمراد بإذنه - : أمره ومشيئته ، فكل نفس لا تحيا إلا بأمره ، ولا تموت إلا بإذنه .و { كَانَ } نقاصة وقوله { أَنْ تَمُوتَ } في محل رفع اسمها وقوله { لِنَفْسٍ } متعلق بمحذوف وقع خبرا لها . والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال والأسباب .أى ما كان لها أن تموت فى حالة من الأحوال أو لسبب من الأسباب إلا مأذونا لها منه - سبحانه - .والباء فى قوله { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } للمصاحبة .وقوله { كِتَاباً } مفعول مطلق مؤكد لمضمون الجملة التى قبله ، وعامله مضمر والتقدير : كتب الله ذلك كتابا مؤجلا . أى له أجل معلوم لا يتقدم عنه ولا يتأخر ، وهو آت لا ريب فيه .وقوله { مُّؤَجَّلاً } صفة لقوله { كِتَاباً } .ثم ذم - سبحانه - الذين يؤثرون متاع الدنيا على الآخرة ، فقال : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } أى من يرد بعمله ثواب الدنيا أى جزاءها وثمارها كالأموال والغنائم نؤته منها ما نشاء أن نؤتيه ، ولا يكون له فى الآخرة من نصيب .وهذا تعريض بمن شغلوا بجمع الغنائم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بمن تركوا أماكنهم التى وضعهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسارعوا إلى جمع حطام الدنيا ، فنتج عن ذلك هزيمة المسلمين فى غزوة أحد .ثم مدح - سبحانه - الذين يبتغون بأعمالهم ثواب الآخرة فقال : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا } .أى ومن يرد بعمله وجهاده ثواب الآخرة وما ادخره الله فيها لعباده المتقين من أجر جزيل نؤته منها ما نشاء من عطائنا الذين تشتهيه النفوس ، وتقر له العيون .وقوله { وَسَنَجْزِي الشاكرين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، ووعد من عطاء الله لمن شكره على نعمه ويثبت على شرعه .أى وسنجزى الشاكرين فى دنياهم بما يسعدهم ويرضيهم . وسنجزيهم فى الآخرة بما يشرح صدورهم ، ويدخل البهجة على نفوسهم .فأنت ترى أن الآية الكريمة قد تضمنت تحريض المؤمنين على القتال . وتحذيرهم من الجبن والفرار ، لأن الجبن لا يؤخر الحياة ، كما أن الإقدام لا يؤدى إلى الموت قبل حلول وقته ، فإن أحدا لا يموت قبل أجله ، وإن خاص المهالك واقتحم المعارك .كما تضمنت دعوة المؤمنين إلى الزهد فى متع الحياة الدنيا ، وإلى أن يجعلوا مقصدهم الأكبر فى تحصيل ما ينفعهم فى آخرتهم ، فإن هذا هو المقصد الأسمى ، والمطلب الأعلى : قال - تعالى - { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } وإن الذين خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم تركوا أما كنهم التى أمرهم بالثبات فيها جريا وراء الغنائم ، لم يحصلوا منها شيئا ، بل فقدوها وفقدوا أرواحهم وعزتهم وكرامتهم ، وكان فعلهم هذا من أسباب هزمية المسلمين فى غزوة أحد .كما تضمنت وعداً من الله - تعالى - بأن يزيد الشاكرين من فضله وإحسانه ، وأن يكافئهم على شكرهم إياه بما هم أهل له من نصر وخير وفير .
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - ما كان عليه أتباع الأنبياء السابقين من إيمان عميق ، وعزم وثيق ، حتى يتأسى بهم كل ذى عقل سليم ، فقال - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا } .وكلمة { وَكَأَيِّن } مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية الدالة على الكثير .ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها وهى مبتدأ : وجملة { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } خبرها .والربيون جمع ربى ، وهو العالم بربه ، الصادق فى إيمانه به ، الملخص له فى عبادته نسبة إلى الرب كالربانى .قال القرطبى ما ملخصه : والربيون - بكسر الراء - قراءة الجمهور . وقرأها بعضهم بضم الراء وقرأها بعضهم بفتحها والربيون : الجماعة الكثيرة نسبة إلى الربة - بكسر الراء وضمها - وهى الجماعة . . ومنه يقال للخرقة التى تجمع فيها القداح : ربة . وربة والرباب : قبائل تجمعت .وقال ابن عباس : ربيون - بفتح الراء - منسوب إلى الرب .وقال الخليل : الربى - بكسر الراء - الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء ، وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله - تعالى - . وقوله { فَمَا وَهَنُواْ } من الوهن وهو اضطراب نفسى ، وانزعاج قلبي ، يبتدىء من داخل الإنسان ، فإذا وصل إلى الخارج كان ضعفاً وتخاذلا .والمعنى : وكثير من الأنبياء قاتل معهم مؤمنون صادقو الإيمان من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وأصيبوا وهم يقاتلون بما أصيبوا من جراح وآلام ، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } أى فما عجزوا أو جبنوا بسبب ما أصابهم من جراح ، أو ما أصاب أنبياءهم وإخوانهم من قتل واستشهاد . لأن الذى أصابهم إنما هو فى سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ، ونصرة رسله .وقوله { وَمَا ضَعُفُواْ } أى : عن قتال أعدائهم وعن الدفاع عن الذى آمنوا به وقوله { وَمَا استكانوا } أى ما خضعوا وذلوا لأعدائهم .فأنت ترى أن الله - تعالى - قد نفى عن هؤلاء المؤمنين الصادقين ثلاثة أوصاف لا تتفق مع الإيمان .نفى عنهم - أولا - الوهن وهو اضطراب نفسى ، وهلع قلبى ، يستولى على الإنسان فيفقده ثباته وعزيمته .ونفى عنهم - ثانيا - الضعف الذى هو ضد القوة ، وهو ينتج عن الوهن .ونفى عنهم - ثالثاً - الاستكانة وهى الرضا بالذل والخضوع للاعداء ليفعلوا بهم ما يريدون .وقد نفى - سبحانه - هذه الأوصاف الثلاثة عن هؤلاء المؤمنين الصادقين مع أن واحداً منها يكفى نفيه لنفيها لأنها متلازمة - وذلك لبيان قبح ما يقعون فيه من أضرار فيما لو تمكن واحد من هذه الأوصاف من نفوسهم .وجاء ترتيب هذه الأوصاف فى نهاية الدقة بحسب حصولها فى الخارج ، فإن الوهن الذى هو خور فى العزيمة إذا تمكن من النفس أنتج الضعف الذى هو لون من الاستسلام والفشل .ثم تكون بعدهما الاستكانة التى يكون معها الخضوع لكل مطالب الأعداء وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة فى حياته كان الموت أكرم له من هذه الحياة .وقوله { والله يُحِبُّ الصابرين } تذييل قصد به حض المؤمنين على تحمل المكاره وعلى مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره من أجل إعلاء دينهم حتى يفوزوا برضا الله ورعايته كما فاز أولئك الأنقياء الأوفياء .أى والله - تعالى - يحب الصابرين على آلام القتال ، ومصاعب الجهاد ، ومشاق الطاعات ، وتبعات التكاليف التى كلف الله - تعالى - بها عباده .
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
📘 ثم أتبع - سبحانه - محاسنهم الفعلية ، ببيان محاسنهم القولية فقال - تعالى - { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } .أى أن هؤلاء الأنقياء الأوفياء الصابرين ما كان لهم من قول فى مواطن القتال وفى عموم الأحوال إلا الضراعة إلى الله - بثلاث أمور :أولها : حكاه القرآن عنهم فى قوله : { ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا } .أى : إنهم يدعون الله - تعالى - بأن يغفر لهم ذنوبهم ما كان صغيرا منها وما كان كبيرا : وأن يغفر لهم ( إسرافهم فى أمرهم ) أى ما تجاوزوه من الحدود التى حدها لهم وأمرهم بعدم تجاوزها .وثانيها : حكاه القرآن عنهم فى قوله { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } أى أجعلنا يا ربنا ممن يثبت لحرب أعدائك وقتالهم ولا تجعلنا ممن يوليهم الأدبار .وثالثها : حكاه القرآن عنهم فى قوله { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } أى اجعل النصر لنا يا ربنا على أعدائك وأعدائنا الذين جحدوا وحدانيتك ، وكذبوا نبيك وضلوا ضلالا بعيدا .وتأمل معى - أخى القارىء- هذه الدعوات الكريمة تراها قد جمعت من صدق اليقين ، وحسن الترتيب .فهم قد التمسوا - أولا - من خالقهم مغفرة ذنوبهم والتجاوز عما وقعوا فيه من أخطاء وهذا يدل على سلامة قلوبهم وتواضعهم واستصغار أعمالهم مهما عظمت أمام فضل الله ونعمه .ثم التمسوا منه - ثانيا - تثبيت أقدامهم عند لقاء الأعداء حتى لا يفروا من أمامهم .ثم التمسوا منه - ثالثا - النصر على الكافرين وهو غاية القتال ، لأن الانتصار عليهم يؤدى إلى منع وقوع الفتنة فى الأرض ، وإلى إعلاء كلمة الحق .قال صاحب الكشاف : قوله { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } الخ هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين هضما لها واستقصارا . والدعاء بالاستغفار منها مقدما على طلب تثبيت الأقدام فى مواطن الحرب والنصرة على العدو ، ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة وخضوع . وهو أقرب إلى الاستجابة " .وكان هنا ناقصة ، وقوله { قَوْلَهُمْ } بالنصب خبرها واسمها المصدر المتحصل من " أن " وما بعدها فى قوله { إِلاَّ أَن قَالُواْ } والاستثناء مفرغ .أى : ما كان قولهم فى ذلك المقام وفى غيره من المواطن إلا قولهم هذا الدعاء أى هو دأبهم وديدنهم .
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - الثمار التى ترتبت على هذا الدعاء الخاشع والإيمان الصادق والعمل الخالص لوجهه - سبحانه - فقال : { فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة والله يُحِبُّ المحسنين } .والفاء فى قوله { فَآتَاهُم } لترتيب ما بعدها على ما قبلها .أى أن هؤلاء الذين آمنوا بالله حق الإيمان وجاهدوا فى سبيله حق الجهاد لم يخيب الله - تعالى - سعيهم ولم يقفل بابه عن إجابة دعائهم ، وإنما أعطاهم الله - تعالى - لأنه غير زائل ، وغير مشوب بتنغيص أو قلق .وقوله { والله يُحِبُّ المحسنين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، فإن محبة الله - تعالى - للعبد مبدأ كل خير وسعادة .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد قررت فى مطلعها حقيقة ثابتة . وهى أن محمدا صلى الله عليه وسلم بشر من البشر ، وأنه يموت كما يموت سائر البشر وأن رسالته لا تموت من بعده بل على أتباعه أن يسيروا على طريقته وأن يحملوا من بعده عبء تبليغ تعاليم الإسلام الذى جاء به ثم قررت بعد ذلك أن الآجال بيد الله وأن الحذر لا يمنع القدر وأن أحداً لن يموت قبل انتهاء أجله ، ما دام الأمر كذلك فعلى المؤمنين أن يجاهدوا الكفار والمنافقين وأن يغلظوا عليهم .ثم ذكرت الناس بعد ذلك بما كان من أتباع الرسل السابقين من إيمان عميق وجهاد صادق وثبات فى وجه الباطل ودعاء مخلص خاشع . حتى يتأسى بهم فى أقوالهم وأعمالهم كل ذى عقل سليم .ثم ختمت هذه الآيات ببيان النتائج الطيبة التى منحها الله - تعالى - لعباده المؤمنين الصادقين فى دنياهم وآخرهم حتى يسارع الناس فى كل زمان ومكان إلى الأعمال الصالحة التى تكون سببا فى سعادتهم وعزتهم ثم وجه القرآن ندء إلى المؤمنين ، نهاهم فيه عن طاعة أعداء الله وأعدائهم ، وأمرهم بالتمسك بتعاليم دينهم وبشرهم بسوء عاقبة أعدائهم فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمنوا . . . } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
📘 قال الآلوسى : ما ملخصه : قوله { يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ } شروع فى زجر المؤمنين عن متابعة الكفار ببيان مضارها ، إثر ترغيبهم فى الاقتداء بأنصار الأنبياء ببيان فضائله وتصدير الخطاب بالنداء والتنبية لإظهار الاعتناء بما فى حيزه ووصفهم بالإيمان لتذكيرهم بحال ينافى تلك الطاعة فيكون الزجر على أكمل وجه . والمراد من الذين كفروا إما المنافقون لأنهم هم الذين قالوا للمؤمنين عند هزيمتهم فى أحد : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا فى دينهم . . وإما أبو سفيان وأصحابه وحينئذ فالمراد بإطاعتهم الاستكانة لهم وطلب الأمان منهم . . وإما اليهود ولاصنارى لأنهم هم الذين كانوا يلقون الشبه فى الدين ويقولون : لو كان محمد نبيا حقا لما غلبه أعداؤه . . وإما سائر الكفار " .فالآية الكريمة تنهى المؤمنين عن طاعة الكفار؛ لأن الكفر والإيمان نقيضان لا يجتمعان .وجاء التعبير : بإن " الشرطية دون " إذا "؛ لأن إذا لتحقق الشرط والجزاء أما إن فإنها لا تفيد التحقق بل تفيد الشك ، وهذا هو المناسب لحال المؤمنين لأن إيمانهم يحجزهم عن طاعة الذين كفروا ويمنعهم من الوقوع فى ذلك والنداء متوجه ابتداء للمؤمنين المجاهدين الذين حضروا غزوة أحد ، وسمعوا ما سمعوا من أراجيف أعدائهم وأكاذيبهم ، إلا أنه يندرج تحت مضمونه كل مؤمن فى كل زمان أو مكان لأن الكافرين في كل العصور لا يريدون بالمؤمنين إلا خبالا ، ولا يتمنون لهم إلا الشرور والمصائب .ثم بين - سبحانه - النتيجة - السيئة التى تترتب على طاعة المؤمنين للكافرين فقال : { يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } .أى : إن تطيعوهم يرجعوكم إلى ما كنتم عليه قبل الإسلام من ضلال وكفران أو يردوكم إلى الحالة التى كنتم عليها قبل مشروعية الجهاد وهى حالة الضعف والهوان التى رفعها الله عنكم بأن أذن لكم فى مقاتلة أعدائكم الذين أخرجوكم من دياركم بغير حق .وقوله { فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } أى فترجعوا خاسرين لخيرى الدنيا والآخرة ، أما خسران الدنيا فبسبب انقيادكم لهم ، واستسلامكم لمطالبهم . . وأما خسران الآخرة فبسبب ترككم لوصايا دينكم ومخالفتكم لأوامر خالقكم ، وتوجيهات نبيكم صلى الله عليه وسلم وكفى بذلك خسارة شنيعة .فأنت ترى أن الآية الكريمة قد نهت المؤمنين عن طاعة الكافرين ، ثم بينت لهم نتيجتين سيئتين تترتبان على هذه الطاعة ، وهما : الرجوع إلى الضلال بعد الهدى ، والخسران فى الدنيا والآخرة .والتعبير بقوله { فَتَنقَلِبُواْ } يفيد أن إطاعة الكافرين يؤدى بالمؤمنين إلى انقلاب حالهم وانتكاس أمرهم وجعل أعلاهم أسفلهم . . . وفى ذلك ما فيه من التنفير عن إطاعة الكافرين والاستماع إلى وساوسهم .
۞ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
📘 أى قل يا محمد للناس الذين مالوا إلى شهوات الدنيا من النساء والبنين وغيرهما ، قل لهم ألا تحبون أن أخبركم بما هو خير من تلك المشتهيات الدنيوية؟والاستفهام للتقرير ، والمراد به التحقيق والتثبيت في نفوس المخاطبين ، أى تحقيق وتثبيت خيرية ما عند الله وأفضليته على شهوات الدنيا ، وحضهم على الاستجابة لما سيلقى عليهم .وافتتح الكلام بكلمة { قُلْ } للاهتمام بالمقول وتنبيه السامعين إلى أن ما سيلقى عليهم أمر يهمهم ومما يقوى هذا التنبيه هنا : التعبير بقوله { أَؤُنَبِّئُكُمْ } لأن الإنباء معناه الخبر العظيم الشأن ، والتعبير بقوله { ذلكم } لاشتماله على الإشارة التى للبعيد الدالة على عظم شأن ما سيخبرهم به ، والتعبير بقوله { بِخَيْرٍ } الذى يدل على الأفضلية ، لأن نعيم الآخرة خير محض ونعيم الدنيا مشوب بالشرور والأضرار . ثم بين - سبحانه - المخبر عنه بعد أن مهد له بتلك التنبيهات التي تشوق إلى سماعه وتغرى بالاستجابة له فقال : { لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله } .هذه هى اللذائذ والمتع التى أعدها الله - تعالى - لمن اتقاه ، أى أدى ما أمره به ، وابتعد عما نهاه عنه .وأول هذه النعم : { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار ، وفى هذه الجنات مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .وقوله { لِلَّذِينَ اتقوا } ، خبر مقدم ، وقوله { جَنَّاتٌ } مبتدأ مؤخر ، وقوله { عِندَ رَبِّهِمْ } في محل نصب على الحال من جنات . وقوله { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } صفة لجنات .وعلى هذا يكون منتهى الاستفهام عند قوله { مِّن ذلكم } وهذا هو المشهور عند العلماء . ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله { لِلَّذِينَ اتقوا } ثم يبتدأ فيقال : عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار . ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله - تعالى - { عِندَ رَبِّهِمْ } ثم يبدأ فيقال : جنات تجرى من تحتها الأنهار .قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من جعل الاستفهام منتهيا عند قوله - تعالى - { بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله : { ذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } فيكون مخرج ذلك مخرج الخير . وهو إبانة عن معنى الخير الذى قال : أنبئكم به ، فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير " .وثانى هذه النعم عبر عنه - سبحانه - بقوله { خَالِدِينَ فِيهَا } أى أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم خالدين في تلك الجنات التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين خلوداً أبدياً ، بخلاف أولئك المنعمين بنعم الدنيا فإن نعيمهم إلى فناء وزوال .وثالث هذه النعم قوله - تعالى - { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } .والأزواج : جمع زوجهة وهي المرأة يختص بها الرجل . أى ولهم في تلك الجنات أزواج مطهرة غاية التطهير من كل دنس وقذر حسى ومعنوى ، فقد وصف - سبحانه - هؤلاء الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل ما يتمناه الرجل في المرأة .ورابع هذه النعم قوله - تعالى - { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله } وهذه النعمة هي أعظم النعم وأجلها أى لهم رضا عظيم من خالق الخلق ، ومبدع الكون ، ومنشىء الوجود . وهو مصدر كالرضا ، ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم ، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، ولأن التنكير قصد به التفخيم والتعظيم .وقوله { مِّنَ الله } صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة .روى الشيخان عن أبي سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله - عزو وجل - يقول لأهل الجنة يوم القيامة : يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ولم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول : أنا اعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا : يا ربنا رأى شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبداً " .هذه هى اللذائذ والمتع والنعم التى أعدها الله - تعالى - لعباده المتقين .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله بَصِيرٌ بالعباد } أي أنه - سبحانه - عليم بأحوال عباده ، لا تخفى عليه خافية من شئونهم . وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى . ففي هذا التذييل وعد للمتقين ووعيد للمسيئين .
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ
📘 ثم أمرهم - سبحانه - بطاعته والاعتماد عليه والاستعانة به وحده فقال { بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين } .وحرف " بل " هنا للإضراب الانتقالى ، لأنه - سبحانه - بعد أن حذر المؤمنين من إطاعة الكافرين وما يترتب عليها من مضار ، انتقل إلى توجيههم إلى ما فيه عزتهم وكرامتهم وسعادتهم .والمولى هنا بمعنى النصير والمعين ، وهذا اللفظ لا يدل على النصرة والعون فقط ، وإنما يدل على كمال المحبة والمودة والقرب ، والنصرة تجىء ملازمة لهذه المعانى ، لأنه من كان الله محبا له ، كان - سبحانه - ناصرا له لا محالة .والمعنى إنى أنهاكم - أيها المؤمنون - عن إطاعة الكافرين ، لأنهم ليسوا أولياء لكم فتطيعوهم ، بل الله - تعالى - هو وليكم ومعينكم وهو خير الناصرين ، لأنه هو الذى لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء فأخلصوا له العبادة والطاعة .
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ۖ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۚ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ
📘 ثم بشرهم - سبحانه - بأنه سيلقى الرعب والفزع فى قلوب أعدائهم فقال - تعالى - : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } .والرعب : الخوف والفزع ، يقال رعبه يرعبه أى خوفه أصله من الملء يقال : سيل راعب ، إذا ملأ الأودية . ورعبت الحوض : ملأته .والسلطان : الحجة والبرهان وسميت الحجة سلطانا لقوتها ونفوذها . أصل المادة يدل على الشدة والقوة ومنها السليط الشديد واللسان الطويل .والمعنى : سنملأ قلوب المشركين خوفا وفزعا بسبب إشراكهم مع الله - تعالى - آلهة لم ينزل الله بها حجة والمراد : أنه لا حجة لهم حتى ينزلها .قال الآلوسى : قوله { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ } أى بإشراكه أو بعبادته ، و " ما " نكره موصوفة أو موصولة اسمية وليست مصدرية و " سلطانا " أى حجة والإتيان بها للإشارة بأن المتبع فى باب التوحيد هو البرهان السماوى دون الآراء والأهواء الباطلة . . وذكر عدم إنزال الحجة مع استحالة تحققها من باب انتفاء المقيد لانتفاء قيده اللازم ، أى : لا حجة حتى ينزلها ، فهو على حد قوله فى وصف مفازة :لا تفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحرإذ المراد : لا ضب بها حتى ينجحر . فالمراد نفيهما جميعا .فالآية الكريمة قد بشرت المؤمنين بأن الله - تعالى - سيلقى الرعب والفزع فى قلوب أعدائهم حتى لا يتجاسروا عليهم .ومن مظاهر الرعب التى ألقاها الله - تعالى - فى قلوب المشركين أنهم بعد أن انتصروا على المسلمين فى غزوة أحد . كان فى قدرتهم أن يوغلوا فى مهاجمتهم وقتالهم إلا أن الرعب صدهم عن ذلك .ولقد حاولوا وهم فى طريقهم إلى مكة أن يعودوا للقضاء على المسلمين إلا أن الخوف داخل قلوبهم وجعل أحد زعمائهم وهو صفوان بن أمية يقول لهم : " يا أهل مكة لا ترجعوا لقتال القوم ، فإنى أرى أنه سيكون للقوم قتال غير الذى كان " .قال الفخر الرازى ما ملخصه قوله { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } اختلفوا فى أن هذا الوعد هل هو مختص بيوم أحد ، أو هو عام فى جميع الأوقات؟قال كثير من المفسرين : إنه مختص بهذا اليوم ، وذلك لأن جميع الآيات المتقدمة إنما وردت فى هذه الواقعة .ثم القائلون بهذا القول ذكروا فى كيفية إلقاء الرعب فى قلوب المشركين فى هذا اليوم وجهين :الأول : أن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب فى قلوبهم ، فتركوهم وفروا منهم من غير سبب .والثانى : أن الكفار لما ذهبوا إلى مكة فلما كانوا فى بعض الطريق قالوا ما صنعنا شيئاً قتلنا الأكثرين منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون . ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب فى قلوبهم .والقول الثانى : أن هذا الوعد غير مختص بيوم أحد ، بل هو عام ، كأنه قيل : إنه وإن وقعة لكم هذه الواقعة فى يوم أحد ، إلا أن الله - تعالى - سيلقى الرعب منكم بعد ذلك فى قلوب الكافرين حتى يقهر الكفار ، ويظهر دينكم على سائر الأديان .وقد فعل الله ذلك حتى صار دين الإسلام قاهرا لجميع الأديان والملل . ونظير هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم " نصرت بالرعب مسيرة شهر " .ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان سوء عاقبة هؤلاء الكافرين فقال : { وَمَأْوَاهُمُ النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين } .والمأوى : اسم مكان من أوى يأوى . وهو المكان الذى يرجع إليه الشخص ويعود إليه .والمثوى : اسم مكان - أيضا - يقال : ثوى بالمكان وفيه يثوى ثواء وثويا وأثوى به ، أى أطال الإقامة والنزول فيه .والمعنى : أن هؤلاء الكافرين سيلقى الله - تعالى - الرعب والفزع فى قلوبهم حتى لا يتجاسروا على المؤمنين ، هذا فى الدنيا ، أما فى الآخرة ، فالمكان الذى يأوون إليه ويستقرون فيه هو النار ، لا مأوى لهم غيرها ، وبئس هذه النار موضع إقامة دائمة لهم .وقد أظهر - سبحانه - الاسم فى موضع الإضمار فلم يقل : وبئس النار مثواهم ، بل قال : { وَبِئْسَ مثوى الظالمين } : للإشارة إلى أن هذا المآل الأليم إنما هو جزاء عادل لهم بسبب ظلمهم إذ هم الذين ظلموا أنفسهم فأضلوها وصدوها عن الحق فكانت نهايتهم تلك النهاية المهينة ، " وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون " .وفى جعل هذه النار مثواهم بعد جعلها مأواهم إشارة إلى خلودهم فيها ، فإن المثوى مكان الإقامة المنبئة عن المكث ، وأما المأوى فهو المكان الذى يأوى إليه الإنسان .وقدم المأوى على المثوى لأن هذا هو الترتيب الوجودى فى الخارج ، لأن الإنسان يأوى إلى المكان ثم يثوى فيه .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد نهت المؤمنين عن إطاعة الكافرين وبينت لهم النتائج الوخيمة التى تترتب على إطاعتهم ثم دعتهم إلى الاعتصام بدين الله وبشرتهم بسوء عاقبة أعدائهم فى الدنيا والآخرة .ثم ذكر الله - تعالى - المؤمنين بما حدث لهم فز غزوة أحد ، وكيف أنهم انتصروا على أعدائهم فى أول معركة ثم كيف أنهم أصيبوا بالهزيمة بعد ذلك بسبب فشلهم وتنازعهم ومعصيتهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم ثم صور - سبحانه - أحوالهم فى هذه المعركة تصويرا بليغا مؤثرا وحكى أقوال ضعاف الإيمان ورد عليها بما يدحضها . استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك فيقول : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ . . . } .
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ۚ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
📘 قال القرطبى : قال محمد بن كعب القرظى : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد ، وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فنزل قوله - تعالى - { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } الآية .وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء ، وكان الظفر ابتداء للمسلمين ، غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة وترك بعض الرماة أيضاً مراكزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة .وقد روى البخارى عن البراء بن عازب قال : لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم : " لا تبرحوا من مكانكم . إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ، وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا " .قال : فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددت الجبل - أى يسرعن الفرار - يرفعن عن سوقهن ، قد بدت خلاخلهن . فجعلوا يقولون - أى الرماة - " الغنيمة . . الغنيمة " فقال لهم أميرهم عبد الله بن جبير . أمهلوا . أما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا أماكنكم؟ فأبوا - وانطلقوا لجمع الغنائم - فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا " .وصدق الوعد معناه : تحقيقه والوفاء به ، الصدق مطابقة الخبر للواقع . والمراد بهذا الوعد ، ما وعد الله به المؤمنين من النصر والظفر فى مثل قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } وفى مثل قوله - تعالى - { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } وفى مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم للرماة قبل أن تبدأ المعركة " لا تبرحوا أماكنكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " .ومعنى " تحسونهم تقتلونهم قتلا شديدا يفقدون معه حسهم وحركتهم . يقال : حسه حسا إذا قتله . وحقيقته : أصاب حاسته بآفة فأبطلها ، يقال : كبده وفأده أى : أصاب كبده وفؤاده . ومنه جراد محسوس ، وهو الذى قتله البرد أو مسته النار فأهلكته .والمعنى : ولقد حقق الله - تعالى - لكم - أيها المؤمنون - ما وعدكم به من النصر على أعدائكم إذ إيدكم فى أول معركة أحد بعونه وتأييده فصرتم تقتلون المشركين قتلا ذريعا شديدا بإذنه وتيسيره ورعايته وكان حليفا لكم فى أول المعركة .و " صدق " يتعدى لاثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر تقول : صدقت زيداً فى الحديث . وقد يتعدى بنفسه إلى مفعولين كما هنا إذ المفعول الأول ضمير المخاطبين ، والثانى قوله { وَعْدَهُ } .وقوله { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } معمول لصدقكم أى صدقكم فى هذا الوقت وهو وقت قتلهم وقوله " بإذنه " متعلق بمحذوف لأنه حال من فاعل " تحسونهم " أى تقتلونهم مأذونا لكم فى ذلك .فالجملة الكريمة تذكر المؤمنين بما كان من نصر الله - تعالى - لهم عندما أقبلوا على معركة أحد بقلوب مخلصة ، ونفوس ثابتة وعزيمة صادقة . . ثم بين - سبحانه - أن ما أصابهم من هزيمة بعد ذلك كان بسبب فشلهم وتنازعهم فقال - تعالى - : { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } .والفشل : بمعنى الجبن والضعف ، يقال فشل يفشل فهو فشل وفاشل والتنازع : التخاصم والتحالف .والمعنى : ولقد صدقكم الله وعده فى النصر - أيها المؤمنون - عندما كنتم تقاتلون أعداءكم بإيمان صادق ، وإخلاص الله - تعالى - حتى إذا ضعفت نفوسكم وعجزتم عن مقاومة أهوائكم وتنازعتم فيما بينكم ( أنتبع الغنائم نجمعها أم نبقى فى أماكننا التى حددها الرسول صلى الله عليه وسلم لنا ) ؟ ومال أكثركم إلى طلب الغنائم مخالفاً أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ما أراكم الله فى أول المعركة من نصر مؤزر تحبونه وترجونه ، ومن مغانم تتطلعون إليها بلهفة وشوق .حتى إذا فعلتم ذلك منع الله - تعالى - عنكم نصره ، وتحول نصركم إلى هزيمة وفقدتم أنفسكم وما جمعتموه من غنائم .وهكذا نرى أن ما أصاب المسلمين فى أحد من هزيمة كان بسبب فشل بعضهم وتنازعهم وعصيانهم أمر رسولهم صلى الله عليه وسلم وصدق الله إذ يقول : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } ولقد رتب الله - تعالى - ما حدث من بعض المؤمنين فى غزوة أحد ترتيباً دقيقاً ، يتفق مع ما حصل منهم وذلك لأنهم حدث منهم - أولا - الفشل بمعنى العجز النفسي عن الثبات والصبر . ثم ترتب على ذلك أن تنازعو فيما بينهم ونتج عن هذا التنازع أن ترك معظمهم مكانه ونزل إلى ميدان المعركة لجمع المغانم ، ثم ترتب على كل ذلك معصيتهم لأمر رسولهم وقائدهم صلى الله عليه وسلم .قال الجمل ما ملخصه : وقوله { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } فى حتى هذه قولان :أحدهما : أنها حرف جر بمعنى إلى وفى متعلقها حينئذ ثلاثة أوجه .أحدها : أنها متعلقة بقوله : { تَحُسُّونَهُمْ } أى تقتلونهم إلى هذا الوقت .والثانى : أنها متعلقة " بصدقكم " أى صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم . والثالث : أنها متعلقة بمحذوف دل عليه السياق تقديره : ودام لكم ذلك إلى وقت فشلكم .والقول الثانى : أنها حرف ابتداء داخلة على الجملة الشرطية { إِذَا } على بابها من كونها شرطية ، والصحيح أن جوابها محذوف أى حتى إذا فشلتم وتنازعتم منع الله عنكم نصره " .وقال الفخر الرازى : فإن قيل ما الفائدة فى قوله { بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } ؟فالجواب عنه : أن المقصود منه التنبيه على عظم المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله - تعالى - " أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله - تعالى - " أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم . وقوله { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } تفصيل للتنازع الذى كان بين الرماة ، أو بين بعض أفراد المسلمين الذين اشتركوا فى هذه الغزوة .أى : منكم - أيها المسلمون - من يريد الدنيا ومغانمها حتى حمله ذلك على ترك مكانه المخصص له مخالفا نصيحة قائده ورسوله صلى الله عليه وسلم ولو أن هذا البعض منكم خالف هواه ، وحارب مطامعه ، وأطاع أمر رسوله صلى الله عليه وسلم لتم لكم النصر ، ولأتتكم الدنيا بغنائمها وهيى صاغرة .ومنكم من يريد بجهاده وعمله ثواب الآخرة وهم الذين أطاعوا أمر رسولهم صلى الله عليه وسلم وثبتوا إلى جانبه يدافعون عنه وعن عقيدتهم وعن أنفسهم دفاع الأبطال الصامدين وهؤلاء هم الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم ما يسعدهم فى دنياهم وآخرتهم .قال ابن جرير : قال ابن عباس : لما هزم الله المشركين يوم أحد ، قال الرماة : أدركوا الناس لا يسبقوكم إلى الغنائم فتكون لهم دونكم ، وقال بعضهم : لا نريم حتى يأذن لنا النبى صلى الله عليه وسلم فنزلت : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } .وقال ابن مسعود : ما علمنا أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد " .وقوله { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } عطف على جواب " إذا " المقدر ، وما بينهما اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه .والتقدير : منع الله نصره عنكم بسبب فشلكم وتنازعكم ومعصيتكم لنبيكم ثم ردكم عنهم دون أن تنالوا ما تبتغون { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أى ليعاملكم الله - تعالى - معاملة من يمتحن غيره ، ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه وليتبين لكم الصابر المخلص من غيره .وجاء العطف بثم فى قوله { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } للإشعار بالتفاوت الكبير بين المقصد الأصلى الذى خرجوا من أجله وهو النصر والحصول على الغنيمة وبين النتيجة التى انتهوا إليها وهى العودة مقهورين .وكان التعبير بكلمة { صَرَفَكُمْ } دون كلمة " هزمتم " لأن ما حدث فى أحد لم يكن هزيمة وإن لم يكن نصراً . لأن الهزيمة تقتضى أن يولى المسلمون الأدبار وأن يتحكم فيهم أعداؤهم وما حدث فى أحد لم يكن كذلك ، وإنما كان زيادة فى عدد الشهداء من المسلمين عن عدد القتلى من المشركين لأن بعض المسلمين خالفوا وصية نبيهم صلى الله عليه وسلم وتطلعوا إلى زهرة الدنيا وزينتها بطريقة تتعارض مع ما يقتضيه الإيمان الصادق فكان من الله - تعالى - التأديب لهم .. وفى هذا التعبير { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } تسلية لهم عما أصابهم ، وتخفيف لمصابهم فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن ما حدث فى أحد إنما هو نوع من الصرف عن الغاية التى من أجلها خرجتم لحكم من أهمها : تمييز الخبيث من الطيب ، وتربيتكم على تحمل المصائب والآلام ، وتأديبكم بالأدب المناسب حتى لا تعودوا مرة أخرى إلى مخالفة رسولكم صلى الله عليه وسلم .ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يمسح آلامهم ويذهب الحسرة من قلوبهم فقال - تعالى - { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } .أى : ولقد عفا - سبحانه - عما صدر منكم تفضلا منه وكرما ، والله تعالى هو صاحب الفضل المطلق الدائم على المؤمنين .ولقد أكد - سبحانه - هذا العفو باللام وبقد وبالتعبير بالماضى ، ليفتح أمامهم طريق الأمل ، وليحفزهم على التوبة الصادقة والإيمان العميق ، حتى لا ييأسوا من رحمة الله .والتذييل بقوله { ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } مؤكد لمضمون ما قبله .قال الآلوسى : " إيذان بأن ذلك العفو ، ولو كان بعد التوبة ، بطريق التفضل لا الوجوب أى : شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو فى جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم ، إذ الابتلاء أيضاً رحمة " .فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت المؤمنين بأن الله - تعالى - قد حقق وعده معهم فى أول المعركة بأن سلطهم على المشركين يقتلونهم بتأييده ورعايته قتلا ذريعا فلما صدر من بعض المؤمنين الفشل والتنازع والعصيان منع الله عنهم عونه وصرفهم عن الغاية التى كانوا يتمنونها ليتميز الخبيث من الطيب ومع ذلك فقد عفا الله عما صدر منهم من أخطاء لأنه هو صاحب الفضل الدائم على المؤمنين .
۞ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ۗ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
📘 ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بما كان من بعضهم بعد أن اضطربت أحوالهم وجاءهم أعداؤهم من أمامهم ومن خلفهم بسبب ترك معظم الرماة لأماكنهم ، فقال - تعالى - { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } .وقوله : { تُصْعِدُونَ } من الإصعاد وهو الذهاب فى صعيد الأرض والإبعاد فيه .يقال : أصعد فى الأرض إذا أبعد فى الذهاب وأمعن فيه ، فهو الصعد .قال القرطبى : الإصعاد : السير فى مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب .والصعود : الارتفاع على الجبال والدرج .وقوله { إِذْ تُصْعِدُونَ } متعلق بقوله { صَرَفَكُمْ } أو بقوله { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أو بمحذوف تقديره اذكروا .أى اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن كنتم مصعدين تهرولون بسرعة فى بطن الوادى بعد أن اختلت صفوفكم - واضطرب جمعكم . وصرتم لا يعرج بعضكم على بعض ولا يتلفت أحدكم إلى غيره من شدة الهرب ، والحال أن رسولكم صلى الله عليه وسلم { يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } أى يناديكم فى أخراكم أو فى جماعتكم الأخرى أو من خلفكم يقال .جاء فلان فى آخر الناس وأخراهم إذا جاء خلفهم ، كما يقال : جاء فى أولهم وأولاهم .والمراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو المنهزمين إلى الثبات وإلى ترك الفرار من الأعداء وإلى معاودة الهجوم عليهم وهو ثابت لم يتزعزع ومعه نفر من أصحابه .قال ابن جرير لما اشتد المشكرون على المسلمين بأحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " إلىَّ عباد الله "! فذكر الله صعودهم إلى الجبل ، ثم ذكر دعاء النبى صلى الله عليه وسلم إياهم فقال : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } .ففى هذه الجملة الكريمة تصوير بديع معجز لحال المسلمين عندما اضطربت صفوفهم فى غزوة أحد ، فهى تصور حالهم وهم مصعدون فى الوادى بدون تمهل أو تثبت ، وتصور حالهم وقد أخذ منهم الدهش مأخذه بحيث أصبح بعضهم لا يلتفت إلى غيره أو يسمع له نداء ، أو يجيب له طلبا وتصور حال النبى صلى الله عليه وسلم وقد ثبت كالطود الأشم بدون اضطراب أو وجل ومعه صفوة من أصحابه وقد أخذ ينادى الفارين بقوله : " إلى عباد الله ، إلى عباد الله أنا رسول الله ، من يكر فله الجنة " .وقوله - تعالى - { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } .بيان للنتيجة التى ترتبت على هذا الاضطراب وهو معطوف على قوله { صَرَفَكُمْ } أو على قوله { تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ } ولا يضر كونهما مضارعين فى اللفظ لأن إذ المضافة إليهما صيرتهما ماضيين فى المعنى .وأصل الإثابة إعطاء الثواب ، وهو شىء يكون جزاء على عطاء أو فعل ولفظ الثواب لا يستعمل فى الأعم الأغلب إلا في الخير ، والمراد به هنا العقوبة التى نزلت بهم . وسميت العقوبة التى نزلت بهم ثوابا على سبيل الاستعارة التهكمية كما فى قوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ويجوز أن يكون اللفظ مستعملا فى حقيقته ، لأن لفظ الثواب فى أصل اللغة معناه ما يعود على الفاعل من جزاء فعله ، سواء أكان خيراً أو شراً .قال القرطبى : قوله - تعالى - { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ } الغم فى اللغة التغطية . يقال : غممت الشىء أى غطيته . ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين .قال مجاهد وقتادة وغيرهما ، والغم الأول القتل والجراح والغم الثانى الإرجاف بمقتل النبى صلى الله عليه وسلم وقيل الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة والثانى : استعلاء المشركين عليهم . وعند ذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم" اللهم لا يعان علينا " .والباء فى { بِغَمٍّ } على هذا بمعنى على . وقيل هى على بابها والمعنى أنهم غموا النبى صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم إياه فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم " .ويجوز أن يكون الكلام لمجرد التكثير أى جازاكم بغموم وأحزان كثيرة متصل بعضها ببعض بأن منع عنكم نصره وحرمكم الغنيمة وأصابتكم الجراح الكثيرة وأشيع بينكم أن نبيكم قد قتل . . وكل ذلك بسبب أنكم خالفتم وصية نبيكم صلى الله عليه وسلم وتغلب حب الدنيا وشهواتها على قلوب بعضكم فلم تخلصوا لله الجهاد فأصابكم ما أصابكم .وقوله { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } تعليل لقوله { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أى : ولقد عفا الله - تعالى - عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم ونصر ، ولا على ما أصابكم من جراح وآلام ، فإن عفو الله - تعالى - يذهب كل حزن ويمسح كل ألم .وير صاحب الكشاف أن معنى " لكى لا تحزنوا " لتتمرنوا على تجرع الغموم فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار .ثم قال : ويجوز أن يكون الضمير فى { فَأَثَابَكُمْ } للرسول . أى : فآساكم فى الاغتمام - أى فصار أسوتكم - لأنه كما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرها فقد غمه ما نزل بكم . فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره ، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ولا على ما أصابكم من غلبة العدو " .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أى : والله - تعالى - عليم بأعمالكم ونياتكم علما كاملا ، وخير بما انطوت عليه نفوسكم فهو - سبحانه - لا تخفى عليه خافية مهما صغرت ، فاتقوه وراقبوه واتبعوا ما كلفكم به لتنالوا الفوز والسادة .
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِنْكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
📘 ثم ذكرهم - سبحانه - ببعض مظاهر لطفه بهم ورحمته لهم حيث أنزل على طائفة منهم النعاس الذى أدخل الطمأنينة على قلوبهم وأزال الخوف والفزع من نفوسهم فقال - تعالى - { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ } والجملة الكريمة معطوفة على قوله { فَأَثَابَكُمْ } .والأمنة - بفتحتين - مصدر كالأمن : أمن أمنا وأماناً وأمنة .والنعاس : الفتور فى أوائل النوم ومن شأنه أن يزيل عن الإنسان بعض متاعبه ولا يغيب صاحبه فلذلك كان أمنة لهم : لأنه لو كان نوما ثقيلا لهاجمهم المشركون .أى : ثم أنزل عليكم - أيها المؤمنون - بعد أن أصابكم من الهم والغم ما أصابكم ، أمنا كان مظهره نعاسا اطمأنت معه نفوسكم واستراحت معه أبدانكم من غير فزع ولا قلق ، وكان هذا الأمان والاطمئنان لطائفة معينة منكم أخلصت جهادها لله ، وخافت مقام ربها ونهت نفسها عن الهوى .قال ابن كثير : يقول - تعالى - ممتنا على المؤمنين فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذى غشيهم وهم مشتملون السلاح فى حال همهم وغمهم والنعاس فى مثل تلك الحال دليل على الأمان ، كما قال فى سورة الأنفال : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ } فعن ابن مسعود قال : النعاس فى القتال من الله وفى الصلاة من الشيطان " .وروى البخارى عن أبى طلحة قال : كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفى من يدى مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه " .وقوله ( نعاسا ) بدل من { أَمَنَةً } أو عطف بيان .قال الفخر الرازى : واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد :أحدها : أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد ، فكان ذلك معجزة للنبى صلى الله عليه وسلم ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم ، ومتى صاروا كذلك ازدادوا جدهم فى محاربة العدو . ووثوقهم بأن الله منجز وعده .وثانيهما : أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة .وثالثها : أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقى مهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد خوفهم .ورابعها : أن الأعداء كانوا فى غاية الحرص على قتلهم فبقاؤهم فى النوم مع السلامة فى مثل تلك المعركة من أول الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم وذلك مما يزيل الخوف عن قلوهبم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله " .هذا جانب مما امتن الله به على المؤمنين من فضل ورعاية ، حيث أنزل عليهم النعاس فى أعقاب ما أصابهم من هموم ليكون راحة لأبدانهم ، وأمانا لنفوسهم .أما غير المؤمنين الصادقين فلم ينزل عليهم هذا النعاس بل بقوا فى قلقهم وحسرتهم وقد عبر الله - تعالى - عنهم بقوله : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية } .وقوله { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } حملتهم على الهم ، والهم ما يهتم له الإنسان أو ما يحزنه يقال : أهمنى الأمر أى أقلقنى وأزعجنى ، كما يقال : أهمنى الشىء ، أى جعلنى مهتما به اهتماماً شديداً .والمعنى : أن الله - تعالى - أنزل النعاس أمانا واطمئنانا للمؤمنين الصادقين بعد أن أصابتهم الغموم ، وهناك طائفة أخرى من الذين اشتركوا فى غزوة أحد لم تكن صادقة فى إيمانها لأنها كانت لا يهمها شأن الإسلام انتصر أو انهزم ولا شأن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وإنما الذى كان يهمها هو شىء واحد وهو أمر نفسها وما يتعلق بذلك من الحصول على الغنائم ومتع الدنيا .أو المعنى : أن هذه الطائفة قد أوقعت نفسها فى الهم والحزن بسبب عدم اطمئنانها وعدم صبرها ، وجزعها المستمر .وإلى هذين العنيين أشار صاحب الكشاف بقوله : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } أى : ما يهم إلا هم أنفسهم ، لا هم الدين ولا هم الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين . وقد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم فى الهموم والأشجان فهم فى التشاكى والتباكى " .والجملة الكريمة مستأنفة مسوقة لبيان حال ضعاف الإيمان بعد أن بين - سبحانه - ما امتن به على أقوياء الإيمان .وقوله : { يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية } وصف آخر لسوء أخلاق هذه الطائفة التى ضعف إيمانها ، وصارت لا يهمها إلا ما يتعلق بمنافعها الخاصة .أى أن هذه الطائفة لم تكتف بما استولى عليها من طمع وجشع وحب لنفسها بل تجاوزت ذلك إلى سوء الظن بالله بأن توهمت بأن الله - تعالى - لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الإسلام ليس ديناً حقاً وأن المسلمين لن ينتصروا على المشركين بعد معركة أحد . . . إلى غير ذلك من الظنون الباطلة التى تتولد عند المرء الذى ضعف إيمانه وصار لا يهمه إلا أمر نفسه .وقوله { يَظُنُّونَ بالله } حال من الضمير المنصوب فى { أَهَمَّتْهُمْ } أو استئناف على وجه البيان لما قبله .وقوله { غَيْرَ الحق } مفعول مطلق وصف لمصدر محذوف أى يظنون بالله ظنا غير الحق الذى يجب أن يتحلى به المؤمنون إذ من شأن المؤمنين الصادقين أن يستسلموا لقدر الله بعد أن يباشروا الأسباب التى شرعها لهم : وأن يصبروا على ما أصابهم وأن يوقنوا بأن ما أصابهم هو بتقدير الله وبحكمته وبإرادته { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } وقوله { ظَنَّ الجاهلية } بدل أو عطف بيان مما قبله .أى يظنون بالله شيئاً هو من شأن أهل الجاهلية الذين يتوهمون أن الله لا ينصر رسله ولا يؤيد أولياءه ولا يهزم أعداءه .ثم بين - سبحانه - ما صدر عنهم من كلام باطل بسبب ظنونهم السيئة فقال - تعالى - { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } . والاستفهام للإنكار بمعنى النفى ، وهم يريدون بهذا القول تبرئة نفوسهم من أن يكونوا سببا فيما أصاب المسلمين من آلام يوم أحد ، وأن الذين تسببوا فى ذلك هم غيرهم .أى : يقول بعضهم لبعض ليس لنا من الأمر شىء أى شىء فلسنا مسئولين عن الهزيمة التى حدثت للمسلمين فى أحد لأننا لم يكن لنا رأى يطاع ولأن الله - تعالى - لو أراد نصر محمد صلى الله عليه وسلم لنصره .وهذا القول قاله عبد الله بن أبى بن سلول حين أخبروه بمن استشهد من قبيلة الخزرج فى غزوة أحد .وذلك أن عبد الله بن أبى لما استشاره النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن الخروج لقتال المشركين فى أحد أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج لقتال المشركين بناء على إلحاح بعض الصحابة .فلما أخبر ابن أبى بمن قتل من الخزرج قال : هل لنا من الأمر شىء؟ يعنى أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يقبل قوله حين أشار عليه بعدم الخروج من المدينة .وقد أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد على هؤلاء الظانين بالله ظن السوء بقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } .أى قل لهم إن تقدير الأمور كلها لله - تعالى - وحده وإن العاقبة ستكون للمتقين ، إلا أنه - سبحانه - قد جعل لكل شىء سببا ، فمن أخلص لله فى جهاده وباشر الأسباب التى شرعها للنصر نصره الله - تعالى - ومن تطلع إلى الدنيا وزينتها وخالف أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أدبه الله - تعالى - بحجب نصره عنه حتى يفىء إلى رشده ويتوب توبة صادقة إلى ربه ، ويتخذ الوسائل التى شرعها الله - تعالى - للوصول إلى الفوز والظفر .فالجملة الكريمة معترضة للرد عليهم فيما تقولوه من أباطيل .ثم كشف - سبحانه - عما تخفيه نفوسهم من أمور سيئة فقال : { يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } .أى : أن هؤلاء الذين أهمتهم أنفسهم : والذين يظنون بالله غير الحق . يخفون فى أنفسهم من الأقوال القبيحة والظنون السيئة أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية مالا يستطيعون إظهاره أمامك .وهذه الجملة حال من الضمير فى قوله { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا } السابقة .وقوله { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } بيان لبعض ما يخفون أو لما يقولونه فيما بينهم .أى يقولون لو كان لنا من الأمر المطاع أو المسموع شىء ما خرجنا من المدينة إلى هذا المكان الذى قتل فيه أقاربنا وعشائرنا .فأنت ترى أن القرآن يحكى عنهم أنهم يريدون تبرئة أنفسهم مما نزل بالمسلمين بأحد ، وأنهم لو كان لهم رأى مطاع لبقوا فى المدينة ولم يخرجوا منها لقتال المشركين ، وأن التبعة فى كل ما جرى فى غزوة أحد يتحملها النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ألحوا عليه فى الخروج لقتال المشركين خارج المدينة ، وأن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه لو كانوا على الحق لانتصروا .قال ابن جرير : وذكر أن ممن قال هذا القول - { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ } - معتب بن قشير من بنى عمرو بن عوف . فعن عبد الله بن الزبير عن الزبير قال ، والله إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشانى ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } .وقد أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يدفع أقوالهم الباطلة فقال : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } .وقوله { لَبَرَزَ } من البروز وهو الخروج من المكان الذى يستتر فيه الإنسان و ( المضاجع ) جمع مضجع وهو مكان النوم . والمراد به هنا المكان الذى استشهد فيه من استشهد من المسلمين .والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الذين يقولون : لو كان لنا من الأمر شىء ما قتل أقاربنا فى هذا المكان من جبل أحد . قل لهم لو كنتم فى بيوتكم ومنازلكم بالمدينة ولم تخرجوا للقتال بجملتكم ، لخرج لسبب من الأسباب الداعية إلى الخروج الذين كتب عليهم القتل فى اللوح الحفوظ إلى مضاجعهم أى أماكن قتلهم التى قدر الله لهم أن يقتلوا فيها لأنه ما من نفس تموت إلا بإذن الله وبإرادته ، ولن يستطيع أحد أن ينجو من قدر الله المحتوم وقضائه النافذ ، فإن الحذر لا يدفع القدر ، والتدبير لا يقاوم التقدير { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } وفى هذا الرد مبالغة فى إبطال ما قاله هؤلاء الذين يظنون بالله الظنون السيئة حيث لم يقتصر - سبحانه - على تحقيق القتل نفسه متى قدره بل عين مكانه - أيضاً - .ثم بين - سبحانه - بعض الحكم من وراء ما حدث للمسلمين فى أحد فقال : { وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .والابتلاء : الاختبارن وهو هنا كناية عن أثره ، وهو إظهاره للناس ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه .والتمحيص تخليص الشىء مما يخالطه مما فيه عيب له .والجملة معطوفة على كلام سابق يفهم من السياق . والتقدير : نزل بكم ما نزل من الشدائد فى أحد لتتعودوا تحمل الشدائد والمحن ، وليعاملكم - سبحانه - معاملة المختبر لنفوسكم ، فيظهر ما تنطوى عليه من خير أو شر ، حتى يتبين الخبيث من الطيب وليخلص ما فى قلوبكم ويزيل ما عساه يعلق بها من أدران ، ويطهرها مما يخالطها من ظنون سيئة - فإن القلوب يخالطها بحكم العادة وتزيين الشيطان واستيلاء الغفلة وحب الشهوات . ما يضاد ما أودع الله فيها من إيمان وإسلام وبر وتقوى .فلو تركت فى عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ، ولم تتمحص من الآثام فاقتضت حكمة الله - تعالى - أن ينزل بها من المحن والبلاء ما يكون بالنسبة لها كالدواء الكريه لمن عرض له داء .وقوله { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أى عليم بأسرارها وضمائرها الخفية التى لا تفارقها فهو القائل { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } وهو القائل { وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } ثم أخبر - سبحانه - عن الذين لم يثبتوا مع النبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وبين السبب فى ذلك وفتح لهم باب عفوه فقال :
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
📘 { إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } .وقوله { تَوَلَّوْاْ } من التولى ويستعمل هذا اللفظ بمعنى الإقبال وبمعنى الإدبار فإن كان متعديا بنفسه كان بمعنى الإقبال كما فى قوله - تعالى - { وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ } وإذا كان متعديا بعن أو غير متعد أصلا كان بمعنى الإعراض كما فى الآية التى معنا .والتولى الذى وقع فيه من ذكرهم الله - تعالى - فى الآية التى معنا يتناول الرماة الذين تركوا أماكنهم التى أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبقاء فيها لحماية ظهور المسلمين كما يتناول الذين لم يثبتوا بجانب النبى صلى الله عليه وسلم بل فروا إلى الجبل أو إلى غيره عندما اضطربت الصفوف .ولقد حكى لنا التاريخ أن هناك جماعة من المسلمين ثبتت إلى جانب النبى صلى الله عليه وسلم بدون وهن أو ضعف وقد أصيب ممن كان حوله أكثر من ثلاثين ، وكلهم يفتدى النبى صلى الله عليه وسلم بنفسه ويقول : وجهى لوجهم الفداء ونفسى لنفسك الفداء . وعليك السلام غير مودع .ومعنى { استزلهم الشيطان } طلب لهم الزلل والخطيئة ، أو حملهم عليها بوسوسته لهم : أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالثبات فى مواقفهم التى عينها لهم ، فكانت مخالفتهم لرسولهم وقائدهم طاعة للشيطان . فحرمهم الله تأييده وتقوية قلوبهم .قال الراغب : استزله إذا تحرى زلته ، وقوله - تعالى - { إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } أى استجرهم الشيطان حتى زلوا ، فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه ، والزلة فى الأصل : استرسال الرجل من غير قصد " .والمراد بالزلة هنا ما حدث منهم من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ترتب عليها هزيمتهم .والمعنى : إن الذين تولوا منكم - يا معشر المؤمنين - عن القتال أو تركوا أماكنهم فلم يثبتوا فيها طلبا للغنيمة يوم التقيتم بالمشركين فى معركة أحد؛ { إِنَّمَا استزلهم الشيطان } أى طلب منهم الزلل والمعصية ، ودعاهم إليها بمكر منه وكان ذلك { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } أى بسبب بعض ما اكتسبوه من ذنوب ، لأن نفوسهم لم تتجه بكليتها إلى الله فترتب على ذلك أن منعوا النصر والتأييد وقوة القلب والثبات .قال ابن القيم : " كانت أعمالهم جنداً عليهم ازداد بها عدوهم قوة . فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه ولا بد للعبد فى كل وقت من سرية ن نفسه تهزمه أو تنصره . فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتل بها ، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه .فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى .ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله بعثه له الشيطان واستزله به " .ثم أخبر - سبحانه - أنه قد عفا عن هؤلاء الزالين ، حتى تكون أمامهم الفرصة لتطهير نفوسهم . وبعثها على التوبة الصادقة والإخلاص لله رب العالمين ، فقال - تعالى - { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } .أى : ولقد عفا - سبحانه - عنهم لصدق توبتهم وندمهم على ما فرط منهم ، لأن فرارهم لم يكن عن نفاق ، بل كان عارضا عرض لهم عندما اضطربت الصفوف واختلطت الأصوات ثم عادوا إلى صفوف الثابتين من المؤمنين ليكونوا معهم فى قتال أعدائهم .ولقد أكد الله - تعالى - هذا العلو بلام التأكيد وبقد المفيدة للتحقيق ، وبرصفه - سبحانه - لذته بالمغفرة فإن هذا الوصف يؤكد أن العفو شأن من شئونه ، وبوصفه - سبحانه - لذاته بالحلم ، فإن هذا الوصف يفيد أنه لا يعاجل عابده بالعقاب ، بل إن ما أصابهم من مصائب فهو بسبب ما اقترفوه من ذنوب ويعفو - سبحانه - عن كثير .وصدق الله إذ يقول : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } وقد أكد - سبحانه - شان هذا العفو لتذهب عن نفوس هؤلاء الذين استزلهم الشيطان حيرتها ولتتخلع عن الماضى ، ولتستقبل الحاضر والمستقبل بقلوب عامرة بالإيمان ، وبنفوس متغلبة على أهوائها مطيعة لتعاليم دينها .وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين بعض الأسباب الظاهرة والخفية لما أصابهم فى أحد ، وفتحت لهم باب التوبة لتطهير أنفسهم ، وأخبرتهم بعفو الله عنهم ، وفى ذلك ما فيه من عظات وعبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .وبعد هذا الحديث الحكيم عن أحداث معركة أحد ، وعما تم للمسلمين فى أولها من نصر ، ثم عما جرى لهم بعد ذلك من اضطراب وتفرق بسبب مخالفة بعضهم لوصايا نبيهم صلى الله عليه وسلم .بعد كل ذلك وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم عن التشبه بالكافرين وعن الاستماع إلى أباطيلهم وحضهم فيه على مواصلة الجهاد فى سبيل الله ، حتى تكون كلمة الله هى العليا وأخبرهم بأن الآجال بيد الله ، وأن موتهم من أجل الدفاع عن الحق أشرف لهم من الحياة الذليلة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
📘 استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعانى بأسلوبه البليغ فيقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .قوله { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } الخ كلام مستأنف قصد به تحذير المؤمنين من التشبه بالكافرين ومن الاستماع إلى أقوالهم الذميمة .والمراد بالذين كفروا المنافقون كعبد الله بن أبى بن سلول وأشباهه من المنافقين الذين سبق للقرآن أن حكى عنهم أنهم قالوا : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } وإنما ذكرهم بصفة الكفر للتصريح بمباينة حالهم لحال المؤمنين وللتنفير عن مماثلتهم ومسايرتهم . وقيل المراد بهم جميع الكفار .والمراد بإخوانهم : إخوانهم فى الكفر والنفاق والمذهب أو فى النسب وقوله { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض } أى سافروا فيها للتجارة أو غيرها فماتوا . وأصل الضرب : إيقاع شىء على شىء ثم استعمل فى السير ، لما فيه من ضرب الأرض بالأرجل ، ثم صار حقيقة فيه .وقوله : { غُزًّى } جمع غاز كراكع وركع ، وصائم وصوم ، ونائم ونوم .والمعنى : يا من آمنتم بالله واليوم الآخر لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا بفزع وجزع من أجل إخوانهم الذين فقدوهم بسبب سفرهم للتجارة أو بسبب غزوهم فى سبيل الله .قالوا على سبيل التفجع : لو كان هؤلاء الذين ماتوا فى السفر أو الغزو مقيمين معنا ، أو ملازمين بيوتهم ، ولم يضربوا فى الأرض ولم يغزوا فيها لبقوا أحياء ولما ماتوا أو قتلوا .وقولهم هذا يدل على جبنهم وعجزهم ، كما يدل على ضعف عقولهم وعدم إيمانهم بقضاء الله وقدره ، إذ لو كانوا مؤمنين بقضاء الله وقدره لعلموا أن كل شىء عنده بمقدار ، وأن العاقل هو الذى يعمل ما يجب عليه بجد وإخلاص ثم يترك بعد ذلك النتائج لله يسيرها كيف يشاء .وقولهم هذا بجانب ذلك يدل على سوء نيتهم ، وخبث طويتهم ، لأنهم قصدوا به تثبيط عزائم المجاهدين عن الجهاد ، وعن السعى فى الأرض من أجل طلب الرزق الذى أحله الله .والنهى فى قوله - تعالى { لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ } يشعر بالتفاوت الشديد بين المقامين : مقام الإيمان ومقام الكفران ، وأنه لا يليق بالمؤمن أن ينحدر إلى المنحدر الدون وهو التشبه بالكافرين ، بعد أن رفعه الله بالإيمان إلى أعلى عليين ، وفى هذا تقبيح للمنهى عنه بأبلغ وجه وبأدق تصوير .واللام فى قوله { لإِخْوَانِهِمْ } يرى صاحب الكشاف أنها للتعليل فقد قال : قوله : { وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } أى لأجل إخوانهم ، كقوله - تعالى - { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } ويجوز أن تكون اللام للدلالة على موضع الخطاب ، ويكون المعنى : لا تكونوا أيها المؤمنون كهؤلاء الذين كفروا وقالوا لإخوانهم الأحياء : لو كان أولئك الذين فقدناهم ملازمين لبيوتهم ولم يضربوا فى الأرض ولم يغزوا لما أصابهم ما أصابهم من الموت أو القتل .قال الفخر الرازى ما ملخصه : فإن قيل إن قوله { قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } يدل على الماضى ، وقوله { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض } يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما؟فالجواب من وجوه :أولها : أن قوله { قَالُواْ } تقديره : يقولون ، فكأنه قيل : لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لإخوانهم كذا وكذا .. .وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضى للتأكيد وللإشعار بأن جدهم فى تقرير الشبهة قد بلغ الغاية ، وصار بسبب ذلك الجد ينظر لى هذا المستقبل كالكائن الواقع .وثانيها : أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية . والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا فى الأرض ، فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فمن أخبر عنهم بعد ذلك فلا بد أن يقول : قالوا .وثالثها : قال " قطرب " كلمة " إذ " و " وإذا يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى وهو حسن لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول ، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم أولى " .وقوله { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } معطوف على { ضَرَبُواْ فِي الأرض } من عطف الخاص بعد العام ، اعتناء به لأن الغزو هو المقصود فى هذا المقام وما قبله توطئة له .قالوا : على أنه قد يوجد الغزو بدون الضرب فى الأرض بناء على أن المراد بالضرب فى الأرض السفر البعيد ، فيكون على هذا بين الضرب فى الأرض وبين الغزو خصوص وعموم من وجه .وإنما لم يقل أو غزوا : للإيذان باستمرار اتصافهم بعنوان كونهم غزاة ، أو لا نقضاء ذلك ، أى كانوا غزاة فيما مضى .وقوله { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } فى محل نصب مقول القول .ثم بين - سبحانه - ما ترتب على أقوالهم من عواقب سيئة فقال : { لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } .والحسرة - كما يقول الراغب - هى غم الإنسان على ما فاته ، والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذى حمله على ما ارتكبه ، أو انحسرت قواه - أى انسلخت - من فرط الغم ، وأدركه إعياء عن تدارك ما فرط " .فالحسرة هى الهم المضنى الذى يلقى على النفس الحزن المستمر والألم الشديد ، واللام فى قوله { لِيَجْعَلَ } هى التى تسمى بلام العاقبة ، وهى متعلقة بقالوا أى قالوا ما قالوا لغرض من أغراضهم التى يتوهمون من ورائها منفعتهم ومضرة المؤمنين فكان عاقبة قولهم ومصيره إلى الحسرة والندامة لأن المؤمنين الصادقين لن يلتفتوا إلى هذا القول . بل سيمضون فى طريق الجهاد الذى كتبه الله عليهم وسيكون النصر الذى وعدهم الله إياه حليفهم وبذلك يزداد الكافرون المنافقون حسرة على حسرتهم .ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويكون المعنى : أن الله - تعالى - طبع الكفار على هذه الأخلاق السيئة بسبب كفرهم وضلالهم لأجل أن يجعل الحسرة فى قلوبهم والغم فى نفوسهم والضلال بهذه الأقوال والأفعال فى عقولهم .قال صاحب الكشاف : فإن قتل ما متعلق ليجعل؟ قلت : قالوا . أى قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة فى قلوبهم على أن اللام مثلها فى { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أو لا تكونوا بمعنى : لا تكونوا مثلهم فى النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله الله حسرة فى قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم . فإن قلت : ما معنى إسناد الفعلى إلى الله؟ قلت : معناه أن الله - تعالى - عند اعتقادهم ذلك المعتقد الفاسد يضع الغم والحسرة فى قلوبهم ويضيق صدورهم عقوبة لهم . كما قال - تعالى - { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دل عليه النهى ، أى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثهلم حسرة فى قلوبهم ، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغمهم ويغيظهم " .والجعل هنا بمعنى التصيير ، وقوله { حَسْرَةً } مفعول ثان له ، وقوله ، { فِي قُلُوبِهِمْ } متعلق بيجعل .وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها ، لإرادة التمكن ، والإيذان بعدم الزوال .وقوله { والله يُحْيِي وَيُمِيتُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } رد على قولهم الباطل أثر بيان سوء عاقبته وحض للمؤمنين على الجهاد فى سبيل الله وترغيب لهم فى العمل الصالح ، أى أن الأرواح كلها بيد الله يقبضها متى شاء ، ويرسلها متى شاء فالقعود فى البيوت لا يطيل الآجال كما أن الخروج للجهاد فى سبيل الله أو للسعى فى طلب الرزق لا ينقصها وما دام الأمر كذلك فعلى العاقل أن يسارع إلى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله ، وأن يسعى فى الأرض ذات الطول والعرض ليأكل من رزق الله وأن يباشر الأسباب التى شرعها الله بدون عجز أو كسل وليعلم أن الله مطلع على أعمال الناس وأقوالهم وسيجازيهم عليها يوم القيامة بما يستحقون من خير أو شر .
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
📘 ثم رد الله - تعالى - على أولئك الكافرين برد آخر ، فيه تثبيت للمؤمنين ، وترغيب لهم فى الجهاد فقال : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ } أيها المؤمنون وأنتم تجاهدون { فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ } على فراشكم بدون قتل بعد أن أديتم رسالتكم فى الحياة على أكمل وجه ، وأطعتم ربكم فيما أمركم به أو نهاكم عنه لنلتم مغفرة من الله - تعالى - لذنوبكم ولظفرتم برحمته الواسعة التى تسعدكم .وقوله { خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أى خير مما يجمعه الكفرة من متع الدنيا وشهواتها الزائلة بخلاف مغفرة الله ورحمته فإنهما باقيتان ولا كدر معهما ولا تعب ولا قلق . واللام فى قوله { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ } موطئة للقسم ، أى : والله لئن قتلتم فى سبيل الله أو متم .وقوله { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ } جواب القسم وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ووفائه بمعناه .
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - أن مصير العباد جميعا إليه وحده فقال .{ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } .أى ولئن متم - أيها المؤمنون - وأنتم فى بيوتكم أو فى أى مكان ، أو قتلتم بأيديى أعدائكم وأنتم تجاهدون فى سبيل الله ، فعلى أى وجه من الوجوه كان انقضاء حياتكم فإنكم إلى الله وحده جميعا تعودون وتحشرون فيجازيكم على أعمالكم .فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على أبلغ ألوان الترغيب فى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله ، لأنها قد بينت أن الحياة والموت بيد الله وحده وأنه سبحانه قد يكتب الحياة للمسافر والغازى مع اقتحامها لموارد الحتوف ، وقد يميت المقيم والقاعد فى بيته مع حيازته لأسباب السلامة .وأن الذين يموتون على الإيمان الحق ، أو يقتلون وهم يجاهدون فى سبيل الله فإن لهم من مغفرة الله ورحمته ما هو خير مما يجمعه الكافرون من حطام الدنيا .وأن جميع الخلق مؤمنمهم وكافرهم سيعودون إلى الله ليجازيهم على أعمالهم يوم الدين .قال الفخر الرازى : واعلم أن فى قوله : { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } دقائق :أحداها : أنه لم يقل : تحشرون إلى الله ، بل قال : لإلى الله تحشرون ، وهذا يفيد الحصر ، وهذا يدل على أنه لا حاكم فى ذلك اليوم ولا نافع ولا ضار إلا هو .وثانيهما : أنه ذكر من أسمائه هذا الاسم ، وهذا الاسم أعظم الأسماء وهو دال على كمال الرحمة . وكمال القهر ، فهو لدلالته على كمال الرحمة أعظم أنواع الوعد ، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد .وثالثها : أن قوله { تُحْشَرُونَ } فعل لم يسم فاعله ، مع أن فاعل ذلك الحشر هو الله وإنما ما يقع التصريح به لأنه - تعالى - هو العظيم الكبير الذى شهدت العقول بأنه هو الذى يبدىء ويعيد ، ومنه الإنشاء والإعادة فترك التصريح فى مثل هذا الموضع أدل على العظمة .ورابعها : أن قوله { تُحْشَرُونَ } خطاب مع الكل فهو يدل على أن جميع العاملين ، يحشرون إلى الله فيجتمع المظلوم مع الظالم والمقتول مع القاتل ، والله - تعالى - هو الذى يتولى الحكم بينهم .وقبل أن تتم السورة حديثها مع الذين آمنوا عن أحداث غزوة أحد وما دار فيها من نصر وهزيمة ، وعن السباب الظاهرة والخفية لذلك . أخذت فى بيان حال النبى صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من قيادة حكيمة وأخلاق كريمة ، وأنه - صلى لله عليه وسلم - لم يقابل مخالفة المخالفين له والفارين عنه بالانتقام منهم وإنزال العقوبات بهم وإنما قابل ذلك بالحلم واللين والسياسة الرشيدة . فقال - تعالى - : { فَبِمَا رَحْمَةٍ . . . } .
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
📘 الخطاب فى قوله - تعالى - { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } . . . الخ للنبى صلى الله عليه وسلم .والفاء لترتيب الكلام على ما ينبىء عنه السياق من استحقاق الفارين والمخالفين للملامة والتعنيف منه . صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية .والباء هنا للسببية ، و " ما " مزيدة للتأكيد ولتقوية معنى الرحمة " لنت " من لان يلين لينا وليانا بمعنى الرفق وسعة الخلق و " الفظ " الغليظ الجافى فى المعاشرة قولا وفعلا .وأصل الفظ - كما يقول الراغب - ماء الكرش وهو مكروه شربه بمقتضى الطبع ولا يشرب إلى فى أشد حالات الضرورة .وغلظ القلب عبارة عن قسوته وقلة تأثره من الغلظة ضد الرقة ، وتنشا عن هذه الغلظة الفظاظة والجفاء .والمعنى : فبسبب رحمة عظيمة فياضة منحك الله إياها يا محمد كنت لينا مع أتباعك فى كل أحوالك ، ولكن بدون إفراط أو تفريط ، فقد وقفت من أخطائهم التى وقعوا فيها فى غزوة أحد موقف القائد الحكيم الملهم فلم تعنفهم على ما وقع منهم وأنت تراهم قد استغرقهم الحزن والهم . . بل كنت لينا رفيقا معهم .وهكذا القائد الحكيم لا يكثر من لوم جنده على أخطائهم الماضية ، لأن كثرة اللوم والتعنيف قد تولد اليأس ، وإنما يتلفت إلى الماضى ليأخذ منه العبرة والعظة لحاضره ومستقبله ويغرس فى نفوس الذين معه ما يحفز همتهم ويشحذ عزيمتهم ويجعلهم ينظرون إلى حاضرهم ومستقبلهم بثقة واطمئنان وبصيرة مستنيرة .وإن الشدة فى غير موضعها تفرق ولا تجمع وتضعف ولا تقوى ، وذا قال - تعالى - { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } .أى ولو كنت - يا محمد - كريه الخلق ، حشن الجانب ، جافيا فى أقوالك وأفعالك ، قاسى القلب لا تتأثر لما يصيب أصحابك . . . ولو كنت كذلك { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } أى لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك .فالجملة الكريمة تنفى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون فظا أو غليظا ، لأن " لو " تدل على نفى الجواب لنفى الشرط . أى أنك لست - يا محمد - فظا ولا غليظ القلب ولذلك التف أصحابك من حولك يفتدونك بأرواحهم وبكل مرتخص وغال ، ويحبونك حبا يفوق حبهم لأنفسهم ولأولادهم ولآبائهم ولأحب الأشياء إليهم .وقال - سبحانه - { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب } لينفى عنه صلى الله عليه وسلم القسوة والغلظة فى الظاهر والباطن : إذ القسوة الظاهرية تبدو أكثر ما تبدو فى الفظاظة التى هى خشونة الجانب ، وجفاء الطبع ، والقسوة الباطنية تكون بسبب يبوسة القلب ، وغلظ النفس وعدم تأثرها بما يصيب غيرها .والرسول صلى الله عليه وسلم كان مبرأ من كل ذلك ، ويكفى أن الله - تعالى - قد قال فى وصفه : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : إنى أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الكتب المتقدمكة . إنه ليس بفظ ، ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح .ولقد كان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم مداراة الناس إلا أن يكون فى المداراة حق مضيع فعن عائشة رضى الله عنها ، قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أمرنى بمداراة الناس كما أمرنى بإقامة الفرائض " .ثم أمر الله تعالى ، بما يترتب على الرفق والبشاشة فقال : { فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } .فالفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أى أنه يترتب على لين جانبك مع أصحابك ، ورحمتك بهم ، أن تعفو عنهم فيما وقعوا فيه من أخطاء تتعلق بشخصك أو ما وقعوا فيه من مخالفات أدت إلى هزيمتهم فى أحد ، فقد كانت زلة منهم وقد أدبهم الله عليها .وأن تلتمس من الله تعالى ، أن يغفر لهم ما فرط منهم ، إذ فى إظهارك ذلك لهم تأكيد لعفوك عنهم ، وتشجيع لهم على الطاعة والاستجابة لأمرك . وأن تشاورهم فى الأمر أى فى أمر الحرب ونحوه مما تجرى فيه المشاورة فى العادة من الأمور التى تهم الأمة .وقد جاءت هذه الأوامر للنبى صلى الله عليه وسلم ، على أحسن نسق ، وأحكم ترتيب ، لأن الله تعالى أمره أولاً بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه ، فإذا ما انتهوا إلى هذا المقام ، أمره بأن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى ، لتنزاح عنهم التبعات ، فإذا صاروا إلى هذه الدرجة ، أمره بأ يشاورهم فى الأمر لأنهم قد أصبحوا أهلا لهذه المشاورة .ولقد تكلم العلماء كلاما طويلا عن حكم المشورة وعن معناها ، وعن فوائدها ، فقد قال القرطبى ما ملخصه : والاستشارة مأخوذة من قول العرب : شُرْتُ الدابة وشَوَّرتها ، إذا عملت خبرها وحالها يجرى أو غيره . . وقد يكون من قولهم : شُرْتُ العسل واشْتَرتُه ، إذا أخذته من موضعه .ثم قال : واختلف أهل التأويل فى المعنى الذى أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور فيه أصحابه فقالت طائفة : ذلك فى مكائد الحروب ، وعند لقاء العدو ، تطييبا لنفوسهم ورفعاً لأقدارهم وإن كان الله - تعالى - قد أغناه عن رأيهم بوحيه .وقال آخرون : ذلك فيما لم يأته فيه وحى . فقد قال الحسن : ما أمر الله - تعالى - نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم ، وإنما أراد أن يعلمهم ما فى المشاورة من الفضل وليقتدى به أمته من بعده .ثم قال : والشورى من قواعد الشريعة ، وعزائم الأحكام ، والذى لا يستشير أهل العلم والدين - والخبرة - فعزله واجب وهذا لا خلاف فيه .وقد استشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى كثير من الأمور ، وقال " المستشار مؤتمن " وقال " ما ندم من استشار ولا خاب من استخار " وقال : " ما شقى قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأى " .وقال البخارى : " وكانت الأمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم فى الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها " .وقال الفخر الرازى ما ملخصه : " اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحى من عند الله لم يجز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشاور فيه الأمة ، لأنه إذا جاء النص بطل الرأى والقياس ، فأما مالا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه فى جميع الأشياء أولا؟قال بعضهم : هذا الأمر مخصوص بالمشاورة فى الحروب ، لأن الألف واللام فى لفظ " الأمر " تعود على المعهود السابق وهو ما يتعلق بالحروب - إذ الكلام فى غزوة أحد - .وقال آخرون : اللفظ عام خص منه ما نزل فيه وحى فتبقى حجته فى الباقى وظاهر الأمر فى قوله { وَشَاوِرْهُمْ } للوجوب وحمله الشافعى على الندب . .والحق أن الشورى أصل من أصول الحكم فى الإسلام ، وقد استشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى غزوات بدر وأحد والأحزاب وفى غير ذلك من الأمور التى تتعلق بمصالح المسلمين ، وسار على هذا المنهج السلف الصالح من هذه الأمة .ولقد كان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - يكتب لعماله يأمرهم بالتشاور وبتمثل لهم فى كتبه بقول الشاعر :خليلى ليس الرأى فى صدر واحد ... أشيرا على بالذى تريانوقد تمدح الحكماء والشعراء بفضيلة الشورى وما يترتب عليها من خير ومنفعة ومن ذلك قول بشار بن برد :إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن ... برأى نصيح أو نصيحة حازمولا تحسب الشورى عليك غضاضه ... فإن الخوافى قوة للقوادموالحكام العقلاء المنصفون المتحرون للحق والعدل هم الذين يقيمون حكمهم على مبدأ الشورى ولا يعادى الشورى من الحكام إلا أحد اثنين :إما رجل قد أصيب بداء الغرور والتعالى ، فهو يتوهم أن قوله هو الحق الذى لا يخالطه باطل ، وأنه ليس محتاجا إلى مشورة غيره وإما رجل ظالم مستبد مجانب للحق ، فهو ينفذ ما يريده بدون مشورة أحد لأنه يخشى إذا استشار غيره أن يطلع الناس على ظلمه وجوره وفجوره .هذا ومتى تمت المشورة على أحسن الوجوه وأصلحها واستقرت الأمور على وجه معين ، فعلى العاقل أن يمضى على ما استقر عليه الرأى بدون تردد أو تخاذل ، ولذا قال - سبحانه - { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } .أى فإذا عقدت نيتك على إتمام الأمر وإمضائه بعد المشاورة السليمة وبعد أن تبين لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فبادر بتنفيذ ما عقدت العزم على تنفيذه ، و { تَوَكَّلْ عَلَى الله } أى اعتمد عليه فى الوصول إلى غايتك ، فإن الله - تعالى - يحب المعتمدين عليه ، المفوضين أمورهم إليه مع مباشرة الأسباب التى شرعها لهم لكى يصلوا إلى مطلوبهم .فالجملة الكريمة تأمر النبى صلى الله عليه وسلم وتأمر كل من يتأتى له الخطاب بأن يبذل أقصى جهده لمعرفة ما هو صواب بأن يستشير أهل الخبرة كل فى مجال تخصصه فإذا ما استقر رأيه على وجهة نظر معينة - بعد أن درسها دراسة فاحصة واستشار العقلاء الأمناء فيها - فعليه أن يبادر إلى تنفيذها بدون تردد فإن التردد يضيع الأوقات والتأخر كثيرا ما يحول الحسنات إلى سيئات وعليه مع حسن الاستعداد أن يكون معتمدا على الله ، مظهرا العجز أمام قدرته - سبحانه - لأنه هو الخالق للأسباب والمسببات وهو القادر على تغييرها .وكم من أناس اعتمدوا على قوتهم وحدها ، أو على مباشرتهم للأسباب وحدها دون أن يجعلوا للاعتماد على الله مكانا فى نفوسهم ، فكانت نتيجتهم الفشل والخذلان وكانت الهزيمة المنكرة المرة التى اكتسبوها بسبب غرورهم وفجورهم وفسوقهم عن أمر الله . ورحم الله القائل :إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجنى عليه اجتهاده
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
📘 ثم حكى - سبحانه - أقوال هؤلاء المتقين ومدحهم على إيمانهم وصلاحهم فقال - تعالى - { الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النار } أى أن هذه الجنات وغيرها منأنواع النعم قد أعدها الله - تعالى - لهؤلاء المتقين الذين يضرعون إلى الله ملتمسين منه المغفرة فيقولون : يا ربنا إننا آمنا بك وصدقنا رسولك في كل ما جاء به من عندك ، فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا في أمرنا فأنت الغفار الرحيم ، { وَقِنَا عَذَابَ النار } أي جنبنا هذا العذاب الأليم يا أرحم الراحمين .وفي حكاية هذا القول عنهم بصيغة المضارعة { يَقُولُونَ } إشعار بأنهم يجددون التوبة إلى الله دائما لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، وإحساسهم بأنهم مهما قدموا من طاعات فهى قليلة بجانب فضل الله عليهم ، ولذلك فهم يلتمسون منه الستر والغفران ، والوقاية من النار ، وهذا شأن الأخيار من الناس .وقوله - سبحانه - { الذين يَقُولُونَ } بدل أو عطف بيان من قوله { لِلَّذِينَ اتقوا } ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة منهما جواب عن سؤال كأنه قيل : من أولئك المتقون؟ فقيل : هم الذين يقولون ربنا إننا آمنا .. .
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
📘 ولقد أكد الله - تعالى - وجوب التوكل عليه بعد ذلك فى قوله : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ } ؟والمراد بالنصر هنا العون الذى يسوقه لعباده حتى ينتصروا على أعدائهم . والمراد بالخذلان ترك العون . والمخذول ، هو المتروك الذى لا يعبأ به .يقال : خذلت الوحشية إذا أقامت على ولدها فى المرعى وتركت صواحباتها .والمعنى : أن يرد الله - تعالى - نصركم كما نصركم يوم بدر - { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } أى فإنه لا يوجد قوم يستطيعون قهركم ، لأن الله معكم ، ومن كان الله معه فلن يغلبه أحد من الخلق .وأن يرد أن يخذلكم ويمنع عنكم عونه كما حدث لكم يوم أحد ، فلن يستطيع أحد أن ينصركم من بعد خذلانه ، لأنه لا يوجد أحد عنده قدرة تقف أمام قدرة الله - تعالى - ومشيئته .والاستفهام هنا إنكارى يعنى النفى ، أى لا أحد يستطيع نصركم إذا اراد الله خذلانكم ، وهو جواب للشرط الثانى .وفيه لطف بالمؤمنين ، حيث صرح لهم بعدم الغلبة فى الأول ، ولم يصرح لهم بأنهم لا ناصر لهم فى الثانى ، بل أتى به فى صورة الاستفهام وإن كان معناه نفيا ليكون أبلغ ، إذ فى مجيئه على هذه الصورة الاستفهامية توجيه لأنظار المخاطبين إلى البحث عن قوة تكون قدرته كافية للوقوف أمام إرادة الله - تعالى - ولا شك أنهم لن يجدوه ، وعندئذ سيعتقدون عن يقين بأن الله وحده هو الكبير المتعال ، وأنه لا ناصر لهم سواه .وقوله { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أى وعلى الله وحده لا على أحد سواه . فليجعل المؤمنون اعتمادهم واتكالهم عليه ، لأن الذين يعتمدون على أى قوة سوى الله - تعالى - لن يصلوا إلى العاقبة الطيبة التى أعدها - سبحانه - لعباده المتقين .فالآية الكريمة كلام مستأنف ، وقد سيق بطرق تلوين الخطاب ، تشريفا للمؤمنين لايجاب التوكل عليه والترغيب فى طاعته التى تؤدى إلى النصر ، وتحذيرا لهم من معصيته التى تقضى إلى الخسران والخذلان .
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ۚ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
📘 ثم نهى - سبحانه - عن الغلول ونزه النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال - تعالى - { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } وقوله { يَغُلَّ } من الغلول وهو الأخذ من الغنيمة خفية قبل قسمتها . يقال : غل فلان شيئاً من المغنم يغل غلولا إذا أخذه خفية . ويقال : أغل الجازر أو السالخ إذا أبقى فى الجلد شيئا من اللحم على طريق الخفية .وأصله من الغلل وهو دخول الماء فى خلل الشجر خفية . والغل : الحقد الكامن فى الصدر وسميت هذه الخيانة غلولا ، لأنها تجرى فى المال على خفاء من وجه لا يحل .والمعنى : ما صح ولا استقام لنبى من الأنبياء أن يخون فى المغنم ، لأن الخيانة تتنافى مع مقام النبوة الذى هو أشرف المقامات { وَمَن يَغْلُلْ } أى ومن يرتكب شيئاً من ذلك ، { يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } أى يأت بما غله يوم القيامة حاملا إياه ليكون فضيحة له يوم الحشر ، ليؤخذ بإثم غلوله وخيانته .وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه أبو داود والترمذى عن ابن عباس قال : " نزلت هذه الآية " { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } فى قطيفة حمراء فقدت يوم بدر . فقال بعض الناس : لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها ، وأكثروا فى ذلك فأنزل الله الآية " .وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضاً أن المنافقين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء فُقِد ، فأنزل الله - تعالى - { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } .قال ابن كثير - بعد أن ساق هاتين الروايتين - وهذا تنزيه له صلى الله عليه وسلم من جميع وجوه الخيانة فى أداء الأمانة وقسمة الغنيمة وغير ذلك .وفى ورود هذه الآية الكريمة فى سياق الحديث عن غزوة أحد ، حكمة عظيمة ، وتأديب من الله للمؤمنين ، وتحذير لهم من الغلول ، ذلك أن الرماة الذين تركوا أماكنهم مخالفين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفعهم لذلك خشيتهم من أن ينفرد المقاتلون بالغنائم ، ففعلوا ما فعلوا ، ولقد روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرماة :" أظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم " .وقد نهى صلى الله عليه وسلم فى كثير من الأحاديث عن الغلول ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال : " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ، ثم قال لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثنى ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ، ولا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك من الله شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول : يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك من الله شيئاً قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق - أى ثياب - فيقول يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيام على رقبته صامت - أى ذهب وفضة - فيقول : يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك " .هذا ، وجمهور العلماء على أن الغال يأتى بما غله يوم القيامة بعينه على سبيل الحقيقة لأن ظواهر النصوص من الكتاب والنسة تؤيد ذلك . ولأنه لا موجب لصرف الألفاظ عن ظواهرها .ومن العلماء من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجاز عن الإتيان بإثمه تعبيراً بما غل عما لزمه من الإثم مجازا .قال الفخر الرازى : " واعلم أن هذا التأويل - المجازى - يحتمل ، إلا أن الأصل المعتبر فى علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة إلا إذا قام دليل يمنع منه . وهنا لا مانع من هذا الظاهر فوجب إثباته " .ومن المفسرين الذين حمولا الإتيان على ظاهره الإمام القرطبى فقد قال عند تفسيره لقوله - تعالى - { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } أى يأتى به حاملا له على ظهره ورقبته معذباً بحماه وثقله ومرعوباً بصوته ، وموبخاً بإظهار خيانته على رءوس الاشهاد .وقال بعد إيراده للحديث السابق الذى رواه مسلم عن أبى هريرة : قيل الخبر محمول على شهرة الأمر . أى يأتى يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل بعيراً له رغاء أو فرساً له حمحمة .قلت : وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه ، وإذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل - كما فى كتب الأصول - وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم بالحقيقة ولا عطر بعد عروس " .ثم نبه - سبحانه - على العقوبة التى ستحل بالخائن ، بعد أن بين ما سيناله من فضيحة وخزى فقال : { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .أى : ثم تعطى كل نفس يوم القيامة جزاء ما كسبت من خير أو شر وافيا تاماً ، وهم لا يظلمون شيئاً ، لأن الحاكم بينهم هو ربك الذى لا يظلم أحداً .وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها وقوله { وَمَن يَغْلُلْ } وجاء العطف بثم المفيدة للتراخى ، للإشعار بالتفاوت الشديد بين حمله ما غل وبين جزائه وسوء عاقبته يوم القيامة .وقال - سبحانه - { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ } . . . بصيغة العموم ، ولم يقل ثم يوفى الغال مثلا - لأن من فوائد ذكر هذا الجزاء بصيغة العموم ، الاعلام والإخبار للغال وغيره من جميع الكاسبين بأن كل إنسان سيجازى على عمله سواء أكان خيرا أو شراً . فيندرج الغال تحت هذا العموم أيضاً فكأنه قد ذكر مرتين .وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل به؟ قلت : جىء بعام دخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى ، وهو أبلغ وأثبت ، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزى فموفى جزاءه ، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب .
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
📘 ثم أكد - سبحانه - نفى الظلم عن ذاته فقال : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } بأن واظب على ما يرضيه ، والتزم طاعته ، وترك كل ما نهى عنه من غلول وغيره { كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ الله } أى كمن رجع بغضب عظيم عليه من الله بسبب غلوله وخيانته وارتكابه لما نهى الله عنه من أقوال وأفعال؟فالآية الكريمة تفريع على قوله - تعالى - قبل ذلك { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } وتأكيد لبيان أنه لا يستوى المحسن والمسىء والأمين والخائن .والاستفهام إنكارى بمعنى النفى ، أى لا يستوى من اتبع رضوان الله مع من باء بسخط منه .وقد ساق - سبحانه - هذا الكلام الحكيم بصيغة الاستفهام الإنكارى ، للتنبيه على أن عدم المساواة بين المسحن والمسىء أمر بدهى واضح لا تختلف فيه العقول والأفهام ، وأن أى إنسان عاقل لو سئل عن ذلك لأجاب بأنه لا يستوى من اتبع رضوان الله مع من رجع بسخط عظيم منه بسبب كفره أو فسقه وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } وقوله { أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض } والفاء فى قوله { أَفَمَنِ اتبع } للعطف على محذوف والتقدير ، أمن اتقى فاتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله؟ثم أعقب - سبحانه - ذكر سخطه بذكر عقوبته فقال : { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } أى أن هذا الذى رجع بغضب عظيم عليه من الله - تعالى - بسبب كفره أو فسوقه أو خيانته ، سيكون مثواه ومصيره إلى النار وبئس ذلك المصير الذى صار إليه وكان له مرجعا ونهاية .
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - النتيجة التى ترتبت على عدم تساوى المحسن والمسىء فقال { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } .والضمير { هُمْ } يعود على { مَنِ } فى قوله { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله } وقوله { كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ الله } أى على الفريقين . وبعضهم جعل مرجعه إلى الفريق الأول فقط .والدرجات : جمع درجة وهى الرتبة والمنزلة ، ومنه الدرج بمعنى السلم لأنه يصعد عليه درجة بعد درجة .وأكثر ما تستعمل الدرجة فى القرآن فى المنزلة الرفيعة ، كما فى قوله - تعالى - { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } بخلاف الدركة فإنها تستعمل فى عكس ذلك ، كما فى قوله - تعالى - { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } ولذا قال الراغب : " الدرك كالدرج لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود ، والدرك اعتبارا بالحدور ، ولهذا قيل : درجات الجنة ودركات النار ولتصور الحدور فى النار سميت هاوية . . . " .والمعنى : هم أى الأخيار الذين ابتعوا رضوان الله ، والأشرار الذين رجعوا بسخط منه متفاوتون فى الثواب والعقاب على حسب أعمالهم كما تتفاوت الدرجات وإطلاق الدرجات على الفريقين من باب التغليب للأخيار على الأشرار والمراد إن الذين اتبعوا رضوان الله يتفاوتون فى الثواب الذى يمنحهم الله إياه على حسب قوة إيمانهم ، وحسن أعمالهم .كما أن الذين باءوا بسخط منه يتفاوتون فى العقاب الذى ينزل بهم على حسب ما اقترفوه من شرور وآثام ، فمن أوغل فى الشرور والآثام كان عقابه أشد من عقاب من لم يفعل فعله وهكذا .والذين قالوا إن الضمير { هُمْ } يعود على الفريق الول فقط احتجوا بأن التعبير بالدرجات يستعمل فى الغالب فى الثواب ، وبأن الله قد أضاف هذه الدرجات لنفسه فدل ذلك على أن المقصود بقوله : هم الذين اتبعوا رضوان الله . وبأن هؤلاء الذين اتبعوا رضوان الله قد فضل الله بعضهم على بعض كما جاء فى بعض الآيات ومنها قوله : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } والذى نراه أن عودة الضمير " هم " على الفريقين أقرب إلى الحق ، لأن تفاوت الدرجات موجود بين الأخيار كما أن تفاوت العقوبات موجود بين الأشرار ، فالذين أدوا جميع ما كلفهم الله به من طاعات ليسوا كالذين اكتفوا بأداء الفرائض . والذين انحدروا فى المعاصى إلى النهاية ليسوا كالذين وقعوا فى بعضها .وقوله { عِندَ الله } أى فى حكمه وعلمه وهو تشريف لهم والظرف متعلق بدرجات على المعنى ، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لها . أى درجات كائنة عند الله .وقوله { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أى مطلع على أعمال العباد صغيرها وكبيرها ظاهرها وخفيها ، لا يغيب عنه شىء ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه على حسب عمله ، بمقتضى علمه الكامل ، وعدله الذى لا ظلم معه .وبعد أن نزه الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم عن الغلول وعن كل نقص ، وبين أن الناس متفاوتون فى الثواب والعقاب على حسب أعمالهم .
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
📘 وبعد أن بين ذلك أتبعه ببيان فضله - سبحانه - على عباده فى أن بعث فيهم رسولا منهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور فقال - تعالى - : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } .قال الرازى : قال الواحدى : " لمن فى كلام العرب معان :أحدها : الذى يسقط من السماء ، وهو قوله : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } وثانيها : أن تمن بما أعطيت كما فى قوله { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } وثالثها : القطع كما فى قوله { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } ورابعها الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه - وهو المراد هنا " .والمعنى : لقد أنعم الله على المؤمنين ، وأحسن إليهم { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أى بعث فيهم رسولا عظيم القدر ، هو من العرب أنفسهم ، وهم يعرفون حسبه ونسبه وشرفه وأمانته صلى الله عليه وسلم .وعلى هذا المعنى يكون المراد بقوله { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أى من نفس العرب ، ويكون المراد بالمؤمنين مؤمنى العرب ، وقد بعثه الله عربيا مثلهم ، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع بتوجيهاته .ويصح أن يكون معنى قوله { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أنه بشر مثل سائر البشر إلا أن الله - تعالى - وهبه النبوة والرسالة ، ليخرج الناس - العربى منهم وغير العربى - من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان ، وجعل رسالته عامة فقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وخص الله - تعالى - منته وفضله بالمؤمنين ، لأنهم هم الذين انتفعوا بنعمة الإسلام ، الذى لن يقبل الله دينا سواه والذى جاء به محمد - عليه الصلاة والسلام .والجملة الكريمة جواب قسم محذوف والتقدير : والله { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين } .ثم بين - سبحانه - مظاهر هذه المنة والفضل ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة } .والتلاوة : هى القراءة المتتابعة المرتلة التى يكون بعضها تلو بعض .والتزكية : هى التطهير والتنقية .أى لقد أعطى الله - تعالى - المؤمنين من النعم ما أعطى ، لأنه قد بعث فيهم رسلا من جنسهم يقرأ عليهم آيات الله التى أنزلها لهدايتهم وسعادتهم ، { وَيُزَكِّيهِمْ } أى يطهرهم من الكفر والذنوب . أو يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كانوا عليه من دنس الجاهلية ، والاعتقادات الفاسدة .{ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب } بأن يبين لهم المقاصد التى من أجلها نزل القرآن الكريم ، ويشرح لهم أحكامه ، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه التى قدى تخفى على مداركهم .فتعليم الكتاب غير تلاوته : لأن تلاوته قراءته مرتلا مفهوما أما تعليمه فمعناه بيان أحكامه وما اشتمل عليه من تشريعات وآداب .ويعلمهم كذلك { الحكمة } أى الفقه فى الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده التى يكمل بها العلم بالكتاب .وهذه الآية الكريمة قد اشتملت على عدة صفات من الصفات الجليلة التى منحها الله تعالى - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم .ثم بين - سبحانه - حال الناس قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } .أى : إن حال الناس وخصوصا العرب أنهم كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم فى ضلال بين واضح لا يخفى أمره لعى أحد من ذوى العقول السليمة والأذواق المستقيمة .وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإسلام الذى جاء به صلى الله عليه وسلم من عند ربه فى ضلال واضح ، وظلام دامس ، فهم من ناحية العبادة كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى ، ومن ناحية الأخلاق تفشت فيهم الرذائل حتى صارت شيئاً مألوفا ، ومن ناحية المعاملات كانوا لا يلتزمون الحق والعدل فى كثير من شئونهم .والخلاصة أن الضلال والجهل وغير ذلك من الرذائل ، كانت قد استشرت فى العالم بصورة لا تخفى على عاقل .فكان من رحمة الله بالناس ومنته عليهم أن أرسل فيهم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم لكى يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان إلى نور الهداية والاستقامة والإيمان .ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن غزوة أحد فحكت ما قاله ضعاف الإيمان فى أعقابها ، وردت عليهم بما يبطل مقالتهم ، وبما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم فقال - تعالى : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ . . . . } .
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
📘 قوله تعالى : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا } الخ مستأنف مسوق لإبطال بعض ما نشأ من الظنون الفاسدة ، إثر إبطال بعض آخر تقدم الحديث عنه من فوائد غزوة أحد أنها كشفت عن قوة الإيمان من ضعيفه ، ميزت الخبيث من الطيب .وإذا كان انتصار المسلمين فى بدر جعل كثيراً من المنافقين يدخلون فى الإسلام طمعا فى الغنائم . . فإن عدم انتصارهم فى أحد قد أظهر المنافقين على حقيقتهم ، ويسر للمؤمنين معرفتهم والحذر منهم .والهمزة فى قوله { أَوَ لَمَّا } للاستفهام الإنكارى التعجيبي . و " الواو " للعطف على محذوف و " لما " ظرف بمعنى حين مضافة إلى ما بعدها مستعملة فى الشرط . والمصيبة : أصلها فى اللغة الرمية التى تصيب الهدف ولا تخطئه ، ثم أطلقت على ما يصيب الإنسان فى نفسه أو أهله أو ما له أو غير ذلك من مضار . وقوله { مِّثْلَيْهَا } أى ضعفها ، فإن مثل الشىء ما يساويه . ومثليه ضعفه .والمعنى : أفعلتم ما فعلتم من أخطاء ، وحين أصابكم من المشركين يوم أحد نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك فى بدر تعجبتم وقلتم { أنى هذا } أى من أين لنا هذا القتل والخذلان ونحن مسلمون نقاتل فى سبيل الله ، وفينا رسوله صلى الله عليه وسلم وأعداؤنا الذين قتلوا منا من قتلوا مشركون يقاتلون فى سبيل الطاغوت .فالجملة الكريمة توبيخ لهم على ما قالوه لأنه ما كان ينبغى أن يصدر عنهم . إذ هم قد قتلوا من المشركين فى بدر سبعين من صناديدهم واسروا منهم قريبا من هذا العدد وفى أحد كذلك كان لهم النصر فى أول المعركة على المشركين ، وقتلوا منهم قريبا من عشرين إلا أنهم حين خالفوا وصية رسولهم صلى الله عليه وسلم وتطلعوا إلى الغنائم منع الله عنهم نصره ، فقتل المشركون منهم قريبا من سبعين .وقوله { قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } فى محل رفع صفة " لمصيبة " . وفائدة هذا القول التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على حال واحدة ، وإن من شأن الحرب أن تكون سجالا ، إلا أن العاقبة جعلها الله للمتقين .وقوله { قُلْتُمْ أنى هذا } هو موضع التوبيخ والتعجيب من شأنهم ، لأن قولهم هذا يدل على أنهم لم يحسنوا وضع الأمور فى نصابها حيث ظنوا أن النصر لا بد أن يكون حليفهم حتى ولو خالفوا أمر قائدهم ورسولهم - صلى الله عليه وسلم - ولذا فقد رد الله - تعالى - عليهم بما من شأنه أن يعيد إليهم صوابهم وبما يعرفهم السبب الحقيقى فى هزيمتهم فقال : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } .أى قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا ما قالوا : إن ما أصابكم فى أحد سببه أنتم لا غيركم .فأنتم الذين أبيتم إلا الخروج من المدينة مع أن النبى صلى الله عليه وسلم أشار عليكم بالبقاء فيها . وأنتم الذين خالفتم وصيته بترككم أماكنكم التى حددها لكم وأمركم بالثبات فيها . وأنتم الذين تطلعت أنفسكم إلى الغنائم فاشتغلتم بها وتركتم النصيحة ، وأنتم الذين تفرقتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ساعة الشدة والعسرة لهذه المخالفات التى نبعت من أنفسكم أصابكم ما أصابكم فى أحد ، وكان الأولى بكم أن تعرفوا ذلك وأن تعتبروا وأن تقلعوا عن هذا القول التى لا يليق بالعقلاء ، إذ العاقل هو الذى يحاسب نفسه عندما يفاجئه المكروه ويعمل على تدارك أخطائه ويقبل على حاضره ومستقبله بثبات وصبر مستفيدا بماضيه ومتعظا بما حدث له فيه .وما أحوج الناس فى كل زمان ومكان إلى الأخذ بهذا الدرس فإن كثيرا منهم يقصرون فى حق الله وفى حق أنفسهم وفى حق غيرهم ، ولا يباشرون الأسباب التى شرعها الله للوصول إلى النصر . . بل يبنون حياتهم على الغرور والإهمال ، فإذا ما أصابتهم الهزيمة مسحوا عيوبهم فى القضاء والقدر ، أو فى غيرهم من الناس ، أو شدهوا لهول ما أصابهم - بسبب تقصيرهم - ثم قالوا : أنى هذا؟ وما دروا لجهلهم وغرورهم - أن الله - تعالى - قد جعل لكل شىء سببا . فمن باشر أسباب النجاح وصل إليها بإذن الله ومن أعرض عنها حرمه الله - تعالى - من عونه ورعايته .ولقد أكد - سبحانه قدرته على كل شىء فقال : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } أى إن الله تعالى - قدرته فوق كل شىء فهو القدير على نصركم وعلى خذلانكم وبما أنكم قد خالفتم نبيكم صلى الله عليه وسلم فقد حرمكم الله نصره ، وقرر لكم الخذلان ، حتى تعتبروا ولا تعودوا إلى ما حدث من بعضكم فى غزوة أحد ، ولتذكروا دائما قوله - تعالى - { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } ثم أكد - سبحانه - عموم قدرته وإراته فقال :
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ
📘 { وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله وَلِيَعْلَمَ المؤمنين } .أى : وما أصابكم - أيها المؤمنون - من قتل وجراح وآلام يوم التقى جمعكم وجمع أعدائكم فى أحد ، { فَبِإِذْنِ الله } أى فبإرادته وعلمه ، إذ ما من شىء يقع فى هذا الكون إلا بتقدير الله وعلمه ، فعليكم أن تستسلموا لإرادة الله ، وأن تعودوا إلى أنفسكم فتهذبوها وتروضوها على تقوى الله وطاعته ، حتى تكونوا أهلا لنصرته وعونه .و " ما " موصولة بمعنى الذى فى محل رفع بالابتداء ، وجملة { أَصَابَكُمْ } صلة الموصولة ، وقوله { فَبِإِذْنِ الله } هو الخبر . ودخلت الفاء فى الخبر لشبه المبتدأ بالشرط . وقوله { وَلِيَعْلَمَ المؤمنين } بيان لبعض الحكم التى من أجلها حدث ما حدث فى غزوة أحد .والعلم هنا كناية عن الظهور والتقرر فى الخارج لما قدره - سبحانه - فى الأزل أى أراد الله أن يحدث ما حدث فى غزوة أحد ليظهر للناس ويميز لهم المؤمنين من غيرهم .
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
📘 وقوله : { وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } حكمة ثانية لما حدث فى غزوة أحد ليعلم - سبحانه - المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية وظهور يتميز معه عند الناس كل فريق عن الآخر تميزا ظاهرا .إذ أن نصر المسملين فى بدر فتح الطريق أمام المنافقين للتظاهر باعتناق الإسلام . وعدم انتصارهم فى أحد ، كشف عن هؤلاء المنافقين وأظهرهم على حقيقتهم ، فإن من شأن الشدائد أنها تكشف عن معادن النفوس ، وحنايا القلوب .ثم بين - سبحانه - بعض النصائح التى قيلت لهؤلاء المنافقين حتى يقلعوا عن نفاقهم ، وحكى مارد به المنافقون على الناصحين فقال : { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } .أى فعل - سبحانه - ما فعل فى أحد ليميز المؤمنين من المنافقين الذين قيل لهم من النبى صلى الله عليه وسلم ومن بعض أصحابه : تعالوا معنا لتقاتلوا فى سبيل الله ، فإن لم تقاتلوا فادفعوا أى فانضموا إلى صفوف المقاتلين ، فيكثر عددهم بكم فإن كثرة العدد تزيد من خوف الأعداء .أو المعنى : تعالوا معنا لتقاتلوا من أجل إعلاء كلمة الله ، فإن لم تفعلوا ذلك لضعف إيمانكم ، واستيلاء الشهوات والأهواء على نفوسكم ، فلا أقل من أن تقاتلوا لتدفعوا عن أنفسكم وعن مدينتكم عار الهزيمة .أى إن لم تقاتلوا طلبا لمرضاة الله ، فقالتوا دفاعا عن أوطانكم وعزتكم .قال الجمل : وهذه الجملة وعى قوله - تعالى - { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ } تحتمل وجهين :أحدهما : أن تكون مستأنفة ، أخبر الله أنهم مأمورون إما بالقتال وإما بالدفع أى تكثير سواد المسلمين - أى عددهم .والثانى : أن تكون معطوفة على { نَافَقُواْ } فتكون داخلة فى خبر الموصول . أى وليعلم الذين حصل منهم النافق والقول المذكور وإنما لم يأت بحرف العطف بين تعالوا وقاتلوا ، لأن المقصود أن تكون كل من الجملتين مقصودة بذاتها .وقوله { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } حكاية لردهم القبيح على من نصحهم بالبقاء مع المجاهدين .أى قال المنافقون - وعم عبد الله بن أبى وأتباعه - لو نعلم أنكم تقاتلون حقا لسرنا معكم ، ولكن الذى نعلمه هو أنكم ستذهبون إلى أحد ثم تعودون بدون قتال لأى سبب من الأسباب .أو المعنى - كما يقول الزمخشرى - " لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا { لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } يعنون أن ما أنتم فيه لخطأ رأيكم وزللكم عن الصواب ليس بشىء ، ولا يقال لمثله قتال ، إنما هو إلقاء بالنفس إلى التهلكة ، لأن رأى عبد الله بن أبى كان فى الإقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج " .وقال ابن جرير : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فى ألف رجل من أصحابه وحتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة ، انخذل عنهم عبد الله بن أبى ابن سلول بثلث الناس وقال . أطاعهم ، أى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج وعصانى . والله ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس؟ فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق والريب ، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام - أخو بنى سلمة - يقول لهم . يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم - وقاتلوا فى سبيل الله أو ادفعوا - فقالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكننا لا نرى أن يكون قتال .فلما استعصوا عليه ، وأبوا إلا الانصراف عن المؤمنين قال لهم . أبعدكم الله يا أعداء الله فسيغنى الله رسوله عنكم ، ثم مضى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .هذا هو موقف المنافقين فى غزوة أحد ، وهو موقف يدل على فساد قلوبهم ، وخبث نفوسهم ، وجبنهم عن لقاء الأعداء .ولقد كان المؤمنون الصادقون على نقيض ذلك ، فلقد خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتوا إلى جانبه فكانوا ممن قال الله فيهم : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } ولقد حكى لنا التاريخ أن بعض المؤمنين الذين كانت لهم أعذارهم التى تسقط عنهم الخروج للجهاد ، كانوا يخرجون مع المجاهدين لتكثير عددهم .فعن أنس بن مالك قال : " رأيت يوم القادسية - عبد الله بن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء ، فقيل له : أليس قد أنزل الله عذرك؟ فقال : بلى ولكنى أحب أن أكثر المسلمين بنفسى .هذا ، وقد أصدر - سبحانه - حكمه العادل على أولئك المنافقين فقال : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } .أى هم يوم أن قالوا هذا القول الباطل قد بينوا حالهم ، وهتكوا أستارهم وكشفوا عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مؤمنون ، لأنهم قبل أن يقولوا : " لو نعلم قتالا لاتبعناكم " كانوا يتظاهرون بالإيمان ، وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم ، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر .أو المعنى : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال فيه تقوية للمشركين .قال الجمل : " وقوله { هُمْ } مبتدأ ، وقوله { أَقْرَبُ } خبره ، وقوله { لِلْكُفْرِ } وقوله { لِلإِيمَانِ } متعلقان بأقرب ، لأن أفعل التفضيل فى قوة عاملين . فكأنه قيل : قربوا من الكفر وقربوا من الإيمان ، وقربهم الكفر فى هذا اليوم أشد لوجود العلامة وهى خذلانهم للمؤمنين " .وقوله { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } جملة مستأنفة مبينة لحالهم مطلقا لا فى ذلك اليوم فحسب .أى أن هؤلاء القوم من صفاتهم الذميمة أنهم يقولون بألسنتهم قولا يخالف ما انطوت عليه قلوبهم من كفر ، وما امتلأت به نفوسهم من بغضاء لكم - أيها المؤمنون - .قال صاحب الكشاف : وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم وأن إيمانهم موجود فى أفواههم معدوم فى قلوبهم ، بخلاف صفة المؤمنين فى مواطأة قلوبهم لأفواههم " .وقوله { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } تذييل قصد به زجرهم وتوعدهم بسوء المصير بسبب نفاقهم وخداعهم .أى والله - تعالى - أعلم منكم - أيها المؤمنون - بما يضمره هؤلاء المنافقون من كفر ومن كراهية لدينكم ، لأنه - سبحانه - يعلم ما ظهر وما خفى من أمورهم ، وقد كشف الله لكم أحوالهم لكى تحذروهم ، وسيحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم ، وسينزل بهم ما يستحقونه من عذاب مهين .
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
📘 ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من أراجيفهم وأكاذيبهم التى قصدوا من ورائها الإساءة إلى المؤمنين ، والتشكيك فى صدق تعاليم الإسلام فقال - تعالى - : { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } .أى أن هؤلاء المنافقين لم يكتفوا بما ارتكبوه من جنايات قبيل غزوة أحد وخلالها ، بل إنهم بعد انتهاء المعركة قالوا لإخوانهم الذين هم مثلهم فى المشرب والاتجاه ، : قالوا لهم وقد وقعوا عن القتال : لو أن هؤلاء الذين استشهدوا فى أحد أطاعونا وقعدوا معنا فى المدينة لما أصابهم القتل ، ولكنهم خالفونا فكان مصيرهم إلى القتل .ويجوز أن تكون اللام فى قوله " لإخوانهم " للتعليل فيكون المعنى : أنهم قالوا من أجل إخوانهم الذين استشهدوا فى غزوة أحد ، لو أن هؤلاء الذين قتلوا أطاعونا ولم يخرجوا لبقوا معنا على قيد الحياة ، كما هو حالنا الآن ، ولكنهم لم يستمعوا إلى نصحنا وخرجوا للقتال فقتلوا .وعلى كلا التفسيرين فقولهم هذا يدل على خبث نفوسهم ، وانطماس بصيرتهم وجهلهم بقدرة الله ونفاذ إرادته ، وشماتتهم فيما حل بالمسلمين من قتل وجراح يوم أحد .ولذا فقد رد الله عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويدحض قولهم ، ويكشف عن جهلهم وسوء تفكيرهم فقال - تعالى - { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .أى قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتهكم بعقولهم الفارغة : إذا كنتم تظنون أنكم دفعتم عن أنفسكم الموت بقعودكم فى بيوتكم ، وامتناعكم عن الخروج للقتال ، إذا كنتم تظنون ذلك { فَادْرَءُوا } أى ادفعوا عن أنفسكم الموت المكتوب عليكم ، والذى سيدرككم ولو كنتم فى بروج مشيدة .فالمقصود من هذه الجملة الكريمة الرد عليهم بما يبطل أقوالهم عن طريق الحس والمشاهدة ، وذلك ببيان أن القعود عن الجهاد لا يطيل الحياة ، كما أن الخروج إلى ساحات القتال لا ينقص شيئا من الآجال ، فكم من مجاهد عاد من جهاده سالما ، وكم من قاعد أتاه الموت وهو فى عقر داره .فزعم هؤلاء المنافقين بأن أولئك الذين استشهدوا فى أحد لو أطاعوهم ولم يخرجوا للقتال لما أصابهم القتل زعم باطل ، وإلا فإن كانوا صادقين فى هذا الزعم فليدفعوا عن أنفسهم الموت الذى سينزل بهم حتما فى الوقت الذى يشاؤه الله ، ولا شك أنهم لن يستطيعوا دفعه فثبت كذبهم وافتراؤهم .وقوله تعالى { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } فى محل نصب بدل من قوله { الذين نَافَقُواْ } .أو فى محل رفع بدل من الضمير فى قوله { يَكْتُمُونَ } فكأنه قيل : والله أعلم بما يكتم هؤلاء الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا . . .وقوله { وَقَعَدُواْ } حال من الضمير فى { قَالُواْ } بتقدير حرف قد أى قالوا ما قالوا والحال أنهم قد قعدوا عن القتال .وجواب الشرط فى قوله { الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } محذوف لدلالة ما قبله عليه وهو قوله { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ } .والتقدير : إن كنتم صادقين فى زعمكم أن الذين قتلوا فى أحد لو أطاعوكم وقعدوا كما قعدتم لما أصابهم القتل ، إن كنتم صادقين فى هذا الزعم فادرأوا عن أنفسكم الموت عند حلوله .قال الآلوسى : والمراد أن ما ادعيتموه سببا للنجاة ليس بمستقيم ، ولو فرض استقامته فليس بمفيد ، أما الأول : فلأن أسباب النجاة كثيرة . غايته أن القعود والنجاة وجدا معا وهو لا يدل على السببية .وأما الثانى : فلأن المهروب عنه بالذات هو الموت الذى القتل أحد أسبابه فإن صح ما ذكرتم فادفعوا سائر أسبابه ، فإن أسباب الموت فى إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء وأنفسكم أعز عليكم ، وأمرها أهم لديكم " .وقال ابن القيم : وكان من الحكم التى اشتملت عليها غزوة أحد ، أن تكلم المنافقون بما فى نفوسهم ، فسمعه المؤمنون ، وسمعوا رد الله عليهم ، وجوابه لهم ، وعرفوا مراد النفاق ، وما يؤول إليه ، كيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة .فالله الله كم من حكمة فى ضمن هذه القصة بالغة ، ونعمة على المؤمنين سابغة ، وكم فيها من تحذير وتخويف وإرشاد وتنبيه ، وتعريف بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما .وبعد هذا الحديث الكاشف عن طبيعة المنافقين وعن أحوالهم ، انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن الشهداء وفضلهم وما أعده الله لهم من نعيم مقيم فقال - تعالى - : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ . . } .
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
📘 قوله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ } كلام مستأنف ساقه الله - تعالى - لبيان أن القتل فى سبيل الله الذى يحذره المنافقون ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر ، بل هو أجل المطالب وأسناها ، إثر بيان أن الحذر لا يدفع القدر ، لأن من قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه . ومن لم يقدر له ذلك لا خوف عليه منه .فهذه الآيات الكريمة رد على شماتة المنافقين إثر الردود السابقة ، وتحريض للمؤمنين على القتال ، وتقرير لحقيقة إسلامية ثابتة هى أن الاستشهاد فى سبيل الله ليس فناء بل هو بقاء .والخطاب فى قوله " ولا تحسبن " للنبى صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى له الخطاب .والحسبان : الظن ، والنهى بلا هنا منصب على هذا الظن ، أى أنهاكم عن أن تظنوا أنهم أموات ، ونون التوكيد فى قوله " ولا تحسبن " لتأكيد هذا النهى .أى : لا تحسبن أيها الرسول الكريم ، أو أيها المؤمن أن الذين قتلوا فى سبيل الله ، من أجل إعلان كلمته ، لا تحسبنهم أمواتا لا يحسون شيئاً ولا يتلذون ولا يتنعمون ، بل هم أحياء عند ربهم ، يرزقون رز الأحياء ، ويتنعمون بألوان النعم التى أسبغها الله عليهم ، جزاء إخلاصهم وجهادهم وبذلهم أنفسهم فى سبيل الله .وقوله { الذين } مفعول أول لقوله : { تَحْسَبَنَّ } وقوله { أَمْوَاتاً } مفعوله الثانى وقوله { أَحْيَاءٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى بل هم أحياء .وقوله { عِندَ رَبِّهِمْ } يصح أن يكون خبرا ثانيا للمبتدأ المقدر أو صفة لأحياء أو ظرفا له لأن المعنى : يحيون عند ربهم .والمراد بالعندية هنا المجاز عن القرب والإكرام والتشريف ، أى هم أحياء مقربون عنده ، فقد خصهم بالمنازل الرفيعة ، والدرجات العالية ، وليس المراد بها القرب المكانى لاستحالة ذلك فى حق الله - تعالى - .وقوله { يُرْزَقُونَ } صفة لقوله { أَحْيَاءٌ } أو حال من الضمير فيه أى يحيون مرزوقين .هذا وقد وردت أحاديث متعددة تصرح بأن هذه الآيات الكريمة قد نزلت فى شهداء أحد ، ويدخل فى حكمهم كل شهيد فى سبيل الله ، ومن هذه الأحدايث ما أرخرجه أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر تَرِد أنهار الجنة تأكل من ثمارها ، وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة فى ظل العرش . فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء فى الجنة نرزق لئلا يزهدوا فى الجهاد ، ولا ينكلوا عند الحرب . فقال الله - تعالى - : " أنا أبلغهم عنكم . قال : فأنزل الله هؤلاء الآيات { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } . . . إلخ الآيات " .وأخرج الترمذى وابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال : لقينى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " " يا جابر مالى أراك منكساً مهتما "؟ قلت يا رسول الله استشهد أبى - فى أحد - وترك عيالا وعليه دين . فقال : ألا أبشرك بما لقى الله - عز وجل - به أباك؟ قلت : بلى يا رسول الله . قال : إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحاً - أى مواجهة ليس بينهما حجاب - وما كلم أحداً قط إلا من وراء حجاب ، فقال له يا عبدى تمن أعطك . قال يا رب فردنى إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية . فقال الرب - تعالى - إنه قد سبق منى أنهم إليها لا يرجعون . قال : يا رب فأبلغ من ورائى فأنزل الله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } . . . الآية " .قال القرطبى - بعد أن ساق هذين الحديثين وغيرهما - ما ملخصه : " فقد أخبر الله - تعالى - فى هذه الآيات عن الشهداء أنهم أحياء فى الجنة يرزقون . والذى عليه الكثيرون أن حياة الشهداء محققه . ثم منهم من يقول : ترد إليهم الأرواح فى قبورهم فينعمون ، كما يحيا الكفار فى قبورهم فيعذبون . وصار قوم إلى أن هذا مجاز ، والمعنى أنهم فى حكم الله مستحقون للتنعم فى الجنة . وقال آخرون أرواحهم فى أجواف طير خضر وأنهم يزرقون فى الجنة ويأكلون ويتنعمون . وهذا هو الصحيح من الأقوال ، لأن ما صح به النقل فهو الواقع . وحديث ابن عباس - الذى سقناه قبل قليل - نص يرفع الخلاف " .والذى تطمئن إليه النفس : أن الآية الكريمة تنبه على أن للشهداء مزية خاصة تجعلهم يفضلون الموتى المعروفين لدى الناس ، وهى أنهم فى حياة سارة ، ونعيم لذيذ ، ورزق حسن عند ربهم . وهذه الحياة الممتازة ترفعهم عن أن يقال فيهم كما يقال فى غيرهم : أموات ، وإن كان المعنى اللغوى للموت - بمعنى مفارقة الروح للجسد فى ظاهر الأمر - حاصلا للشهداء كغيرهم من الموتى .إلا أن الحياة البرزخية التى أخبر الله بها عن الشهداء نؤمن بها كما ذكرها الله - تعالى - ولا ندرك حقيقتها ، إذ لا يمكن إدراكها إلا من طريق الوحى ، فقد قال - تعالى - فى آية أخرى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أى ولكن لا تحسون وال تدركون حال هؤلاء الذين قتلوا فى سبيل الله بمشاعركم وحواسكم ، لأنها من شئون الغيب التى لا طريق للعمل بها إلا بالوحى .
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ
📘 ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح . صم وصفهم - سبحانه - بخمس صفات كريمة من شأنها أن تحمل العقلاء على التأسى بهم فقال : { الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } .وفي كل صفة من صفاتهم دليل على قوة إيمانهم ، وإذعانهم للحق حق الإذعان . فهم صابرون ، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس من أكبر البراهين على سلامة اليقين ، وقد حث القرآن أتباعه على التحلى بهذه الصفة في أكثر من سبعين موضعا . وهم صادقون ، والصدق من أكمل الصفات الإنسانية وأشرفها ، وقد أمر الله عباده أن يتحلوا به في كثير من آيات كتابه ، ومن ذلك قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } وهم قانتون ، والقانت هو المداوم على طاعة الله - تعالى - غير متململ منها ولا متبرم بها ، ولا خارج على حدودها . فالقنوت يصور الإذعان المطلق لرب العالمين .وهم منفقون أموالهم في طاعة الله - تعالى - ، وبالطريقة التى شرعها وأمر بها . وهم مستغفرون بالأسحار . أى يسألون الله - تعالى - أن يغفر لهم خطاياهم فى كل وقت ، ولا سيما في الأسحار .والأسحار جمع سحر وهو الوقت الذى يكون قبل الفجر . روى مسلم في صحيحه عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ينزل ربنا - عز وجل - إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول : أنا الملك من ذا الذى يدعونى فأستجيب له ، من ذا الذى يسألنى فأعطيه ، من ذا الذى يستغفرني فأغفر له ، فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر " .وخص وقت الأسحار بالذكر لأن النفس تكون فيه أصفى ، والقلب فيه أجمع ، ولأنه وقت يستلذ فيه الكثيرون النوم فإذا أعرض المؤمن عن تلك اللذة وأقبل على ذكر الله كانت الطاعة أكمل وأقرب إلى القبول .وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد كشفت عن المشتهيات التي يميل إليها الناس في دنياهم بمقتضى فطرتهم ، وأرشدتهم إلى ما هو أسمى وأعلى وأبقى من ذلك وبشرتهم برضوان الله وجناته ، متى استقاموا على طريقه ، واستجابوا لتعاليمه ، { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وبعد أن بين - سبحانه - ما أعده للمتقين ، وذكر صفاتهم عقب ذلك ببيان أساس التقوى وهو عقيدة التوحيد ، وببيان أن الإسلام هو الدين الذى ارتضاه الله - تعالى - للناس ، وأن من يعارض فى ذلك معارضته داحضة وسيعاقبه الله بما يستحقه . استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول : { شَهِدَ الله . . . } .
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - ما هم فيه من مسرة وحبور فقال : { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } أى فرحين فرحا عظيما بعد انتقالهم من الدنيا ، بما أعطاهم الله ف حياتهم الجديدة من ضروب النعم المتعددة التى من بينها الثواب العظيم ، والنعيم الدائم ، والسعادة التى ليس بعدها سعادة .وقوله { فَرِحِينَ } يصح أن يكون حالا من الضمير فى { يُرْزَقُونَ } أو من الضمير فى " أحياء " وقوله { مِن فَضْلِهِ } متعلق بأتاهم .و { مِن } يصح أن تكون للسببية أى الذى آتاهم متسبب عن فضله . أو لابتداء الغاية وقوله { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ } معطوف على فرحين لتأويله بيفرحون . أو هو حال من الضمير فى { فَرِحِينَ } بتقدير وهم يستبشرون . . .وأصل الاستبشار : طلب البشارة وهو الخبر السار الذى تظهر آثاره على البشرة إلا أن المراد هنا السرور استعمالا للفظ فى لازم معناه .أى : أن هؤلاء الشهداء فرحين بما آتاهم الله من فضله من شرف الشهادة ، ومن الفوز برضا الله ، ويسرون بما تبين لهم من حسن مآل إخوانهم الذين تركوهم من خلفهم على قيد الحياة ، لأن الأحياء عندما يموتون شهداء مثلهم سينالون رضا الله وكرامته ، وسيظفرون بتلك الحياة الأبدية الكريمة كما ظفروا هم بها . فالمراد لم يلحقوا بهم من خلفهم : رفقاؤهم الذين كانوا يجاهدون معهم فى الدنيا ولم يظفروا بالشهادة بعد ، لأنهم ما زالوا على قيد الحياة .وفى هذا دلالة على أن أرواح هؤلاء الشهداء قد منحها الله - تعالى - من الكشف والصفاء ما جعلها تطلع على ما يسرها من أحوال الذين يهمهم شأنهم فى الدنيا .وقيل : إن معنى { لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم .وقوله { مِّنْ خَلْفِهِمْ } متعلق بمحذوف حال من فاعل { يَلْحَقُواْ } أى لم يلحقوهم متخلفين عنهم باقين بعد فى الدنيا . أو متعلق بقوله { يَلْحَقُواْ } ذاته على معنى أنهم قد يقوا بعدهم وهؤلاء الشهداء قد تقدموهم .وقوله { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } بدل اشتمال من قوله { الذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم .والمعنى : ويستبشرون بما تبين لهم من حال الذين تركوهم من خلفهم فى الدنيا من رفقائهم المجاهدين ، وهو أنهم لا خوف عليهم فى المستقبل ولا هم يحزنون على ما تركوه فى الدنيا ، بل هم سيكونون آمنين مطمئنين بعد فراقهم للدنيا وعندما يبعثون يوم القيامة .ونفى عنهم الخوف والحزن ، لأن الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل فى المستقبل .والحزن يكون بسبب فوات المنافع إلتى كانت موجودة فى الماضى . فبين - سبحانه - أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة ، ولا حزن لهم فيما فاتهم من متاع الدنيا .
۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
📘 وقوله { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } استئناف مبين لما هم عليه من سرور يتعلق بذواتهم . بعد أن بين - سبحانه - سرورهم بحال الذين لم يلحقوا بهم .والمعنى أن هؤلاء الشهداء يستبشرون بحال إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم . كما أنهم يستبشرون ايضاً لأنفسهم بسبب ما أنعم الله به عليهم من نعم جزيلة وبسبب ما تفضل به عليهم من زيادة الكرامة ، وسمو المنزلة .وهذا يدل على أن هؤلاء الشهداء لا يهتمون بشأن أنفسهم فقط . وإنما يهتمون أيضا بأحوال إخوانهم الذين تركوهم فى الدنيا ، وفى ذلك ما فيه من صفاء نفوسهم ، وطهارة قلوبهم ، حيث أحبوا الخير لغيرهم كما أحبوه لأنفسهم ، بل إن تقديم استبشارهم بحال إخوانهم على استبشارهم بما يتعلق بأنفسهم ليشعر بأن اهتمامهم بحال إخوانهم أشد من اهتمامهم بحال أنفسهم .ويرى بعضهم أن الضمير فى قوله { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ } يعود على الذين لم يلحقوا بهم فتكون جملة { يَسْتَبْشِرُونَ } حالا من الذين لم يلحقوا بهم . وعليه يكون المعنى : أن هؤلاء الذين لم يلحقوا بهم لا خوف عليهم ولا حزن ، فهم مستبشرون بنعمة من الله وفضل . . . " .وقوله { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } معطوف { نِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } ، وهذا على قراءة الجمهور بفتح همزة أن على معنى وبأن .وقرأ الكسائى " وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين " ، بكسر همزة إن على الاستئناف والمقصود من الآية الكريمة بيان أن كل مؤمن يخاف مقام ربه وينهى نفسه عن الهوى ، ويجاهد فى سبيل إعلاء كلمة الله فإن الله - تعالى - لا يضيع شيئا من أجره ، بل يعطيه من الجزاء الحسن - بفضله وإحسانه - أكثر مما يستحق .
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ
📘 ثم مدح - سبحانه - المؤمنين الصادقين الذين لم تمنعهم جراحهم وآلامهم عن الاستجابة لأمر رسولهم - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى - : { الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } .قال الفخر الرازى ما ملخصه : اعلم أن الله - تعالى - مدح المؤمنين على غزوتين تعرف إحداهما : بغزوة حمراء الأسد ، والثانية : بغزوة بدر الصغرى . وكلاهما متصلة بغزوة أحد .أما غزوة حمراء الأسد فهى المرادة من هذه الآية ، فإن الأصح فى سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه بعد أن انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ، ندموا وقالوا : إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فَلِم تركناهم؟ بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم ، فهموا بالرجوع .فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة . فندب أصحابه إلى الخروج فى طلب أبى سفيان وقال : لا اريد أن يخرج الآن معى إلا من كان معى فى القتال - فى أحد - .فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع قوم من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد .وهى مكان على بعد ثمانية أميال من المدينة .فألقى الله الرعب فى قلوب المشركين فانهزموا .وروى أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى . وكان كل ذلك لإثخان الجراح فيهم ، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة .وقوله { استجابوا } بمعنى أجابوا . وقيل : استجابوا ، أصلها طلبوا الإجابة لأن الأصل فى الاستفعال طلب الفعل . والقرح : الجراح الشديدة .والمعنى : أن الله - تعالى - لا يضيع أجر هؤلاء المؤمنين الصادقين ، الذين أجابوا داعى الله وأطاعوا رسوله ، بأن خرجوا للجهاد فى سبيل عقيدتهم بدون وهن أو ضعف أو استكانة مع ما بهم من جراح شديدة ، وآلام مبرحة .ثم بين - سبحانه - جزاءهم فقال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } أى للذين أحسنوا منهم بأن أدوا جميع المأمورات ، واتقوا الله فى كل أحوالهم بأن صانوا أنفسهم عن جميع المنهيات ، لهؤلاء أجر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله - تعالى - .وقوله { الذين استجابوا } فى موضع رفع على الابتداء وخبره قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } ويجوز أن يكون فى موضع جر على أنه صفة للمؤمنين فى قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } .قال صاحب الكشاف : و " من " فى قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ } للتبيين مثلها فى قوله - تعالى - { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم .
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
📘 ثم مدحهم - سبحانه - على ثباتهم وشجاعتهم وحسن اعتمادهم على خالقهم - عز وجل - ، بعد أن مدحهم قبل ذلك على حسن استجابتهم لله ولرسوله فقال - تعالى - : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } .قال الفخر الرازى ما ملخصه : نزلت هذه الآية فى غزوة بدر الصغرى ، وذلك أن أبا سفيان لما عزم على الانصراف إلى مكة فى أعقاب غزوة أحد نادى : يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرة فنقتتل بها إن شئت . فقال النبى صلى الله عليه وسلم لعمر : قل له بيننا وبينك ذلك إن شاء الله .فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران ، فألقى الله الرعب فى قلبه ، فبدا له أن يرجع . فلقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال له : يا نعيم : إنى وعدت محمداً أن نلتقى بموسم بدر . وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ، ونشرب فيه اللبن . وقد بدا لى أن أرجع . ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة علينا ، فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندى عشرة من الإبل .فخرج نعيم إلى المدينة فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : ما هذا بالرأى .أتوكم فى دياركم وقتلوا أكثركم فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد .فوقع هذا الكلام فى قلوب قوم منهم . فلما رأى النبى صلى الله عليه وسلم ذلك قال " والذى نفسى بيده لأخرجن إليهم ولو وحدى " .ثم خرج صلى الله عليه وسلم فى جمع من أصحابه ، وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى - وهى ماء لبنى كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام - ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين .ووافقوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيباً . وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين .أما أبو سفيان ومن معه فقد عادوا إلى مكة بعد أن وصلوا إلى مر الظهران . . .وقيل إن الذين قابلهم أبو سفيان عند خروجه من مكة جماعة من بنى عبد القيس ، وقد قال لهم ما قاله لنعيم بن مسعود عندما أزمع العودة إلى مكة بعد أن قذف الله الرعب فى قلبه من لقاء المسلمين .وعلى أية حال ففى سبب نزول هذه الآية والتى قبلها أقوال أخرى للمفسرين اكتفينا بما ذكرناه خشية الإطالة .وقوله { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } بدل من قوله { الذين استجابوا للَّهِ والرسول } أو صفة له . أو فى محل نصب على المدح أى مدح الذين قال لهم الناس . . . الخ .والمراد فى الموصول فى الآيتين طائفة واحدة من المؤمنين وهم الذين لم تمنعهم الجراح عن الخروج للقتال ، ولم يرهبهم قول من قال لهم بعد ذلك إن الناس قد جمعوا لكم .والمراد من الناس الأول وهو قوله { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } جماعة بنى عبد القيس أو نعيم بن مسعود .قال صاحب الكشاف : فإن قلت كيف قيل " الناس " إن كان نعيم هو المثبتط وحده؟ قلت : قيل ذلك؛ لأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ، ويلبس البرد وماله إلا فرس واحد وبرد فرد . أو لأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه ، ويصلون جناح كلامه ، ويثبطون مثل تثبيطه .والمراد من الناس الثانى وهو قوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } أبو سفيان ومن معه . فأل فيهما للعهد ، والناس الثانى غير الأول .وقوله - تعالى - حكاية عن هؤلاء المثبطين : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } أى إن أعداءكم المشركين قد جمعوا لكم جموعا كثيرة ليستأصلوكم ، فاخشوهم ولا تخرجوا لقتالهم .وحذف مفعول { جَمَعُواْ } فلم يقل : جمعوا جيشا كبيرا أو جمعوا أنفسهم وعددهم وأحلافهم وذلك ليذهب الخيال كل مذهب فى مقدار ما جمعوا من رجال وسلاح وأموال ، ولمن هذا القول الذى صدر من هؤلاء المثبطين ، لم يلتفت إليه المؤمنون الصادقون المخلصون فى جهادهم وفى اعتمادهم على خالقهم ، بل كانوا كما أخبر الله تعالى - عنهم { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } .أى أن هذا القول الذى قاله المثبطون ، زاد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، ويقينا على يقينهم ، وثباتا على ثباتهم ، وجعلهم يقولون للمرجفين بثقة واطمئنان : { حَسْبُنَا الله } أى كافينا الله أمر أعدائنا { وَنِعْمَ الوكيل } أى نعم النصير خالقنا - عز وجل - فهو الموكول إليه أمرنا ومصيرنا .وقولهم هذا يدل دلالة واحضة على قوة إيمانهم ، وشدة ثقتهم فى نصر الله - تعالى - لهم ، مهما كثر عدد أعدائهم ، ومهما تعددت مظاهر قوتهم .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف زادهم نعيم أو مقوله إيماناً؟ قلت : لما لم يسمعوا قوله وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد ، وأظهروا حمية الإسلام ، كان ذلك أثبت ليقينهم ، وأقوى لاعتقادهم ، كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج . ولأن خروجهم على أثر تثبيطه إلى جهة العدو طاعة عظيمة ، والطاعات من جملة الإيمان ، لأن الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل . وعن ابن عمر : قلنا يا رسول الله : إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال : " نعم . يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار " . وعن عمر - رضى الله عنه - أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول : قم بنا نزداد إيمانا . وعنه : " لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمة لرجح به " .وقال ابن كثير : روى البخارى عن ابن عباس : قال : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } قالها إبراهيم - عليه السلام - حين ألقى به فى النار . وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " .وعن أبى هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وقعتم فى الأمر العظيم فقولوا : " حسبنا الله ونعم الوكيل " " .
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
📘 ثم حكى - سبحانه - ما تم لهؤلاء المجاهدين الذين خرجوا للقاء أعدائهم من عاقبة حسنة وعود حميد فقال - تعالى - : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء واتبعوا رِضْوَانَ الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } .فالفاء فى قوله { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } للتعقيب ، وهى معطوفة على مقدر دل عليه السياق .ومعنى { انقلبوا } عادوا ورجعوا .والنعمة : هى العطاء الذى ينفع صاحبه . والفضل : الزيادة فى العطاء والنعمة .والمعنى : أن هؤلاء المجاهدين الصادقين خرجوا للقاء أعدائهم بدون وهن أو ضعف أو استكانة فلم يجدوهم ، فرجعوا إلى ديارهم مصحوبين { بِنِعْمَةٍ } عظيمة { مِّنَ الله } - تعالى - ، إذ خذل أعداءهم ، وسملهم من شرورهم ، ومصحوبين بفضل جليل منه - سبحانه - حيث أغدق عليهم ربحا وفيرا فى تجارتهم ، وأجراً جزيلا بسبب قوة إيمانهم ، وإخلاصهم فى دينهم .قال الآلوسى : " روى البيهقى عن ابن عباس أن عيراً مرت فى أيام الموسم - أى موسم بدر - فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك الفضل " .وأخرج ابن جرير عن السدى قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج فى غزوة بدر الصغرى أصحابه دراهم ابتاعوا بها فى الموسم ، فأصابوا تجارة - فربحوا بها " .وقوله { بِنِعْمَةٍ } فى موضع الحال من الضمير { فانقلبوا } فتكون الباء للملابسة أو للمصاحبة فكأنه قيل : فانقلبوا متلبسين بنعمة أو مصاحبين لها .وقوله { مِّنَ الله } متعلق بمحذوف صفة لنعمة ، وهو مؤكد لفخامتها وأنها نعمة جزيلة لا يقدر قدرها .وقوله { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } أى لم يصبهم أى أذى أو مكروه عند خروجهم وعودتهم .والجملة فى موضع الحال من فاعل { انقلبوا } أى رجعوا منعمين مبرئين من السوء والأذى .وقوله { واتبعوا رِضْوَانَ الله } معطوف على قوله { فانقلبوا } .أى اتبعوا ما يرضى الله ويوصلهم إلى مثوبته ورحمته ، باستجابتهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم وخروجهم للقاء أعدائهم بإيمان عميق ، وعزم وثيق .فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أخبر عن هؤلاء المجاهدين المخلصين أنهم قد صحبهم فى عودتهم أمور أربعة :أولها : النعمة العظيمة .وثانيهما : الفضل الجزيل .وثالثها : السلامة من السوء .ورابعها : اتباع رضوان الله .وهذا كله قد منحه الله لهم جزاء إخلاصهم وثباتهم على الحق الذى آمنوا به .ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } .أى والله - تعالى - صاحب الفضل العظيم الذى لا يحده حصر ، ولا يحصيه عد ، هو الذى تفضل على هؤلاء المؤمنين الصادقين بما تفضل به نم عطاء كريم ، وثواب جزيل .وفى هذا التذيل زيادة تبشير للمؤمنين برعاية الله لهم ، وزيادة تحسير للمتخلفين عن الجهاد فى سبيله - عز وجل - ، حيث حرموا أنفسهم مما فاز به المؤمنون الصادقون .
إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
📘 ثم أمر الله - تعالى - عباده المؤمنين أن يجعلوا خشيتهم وخوفهم منه وحده ، فقال - تعالى - : { إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .فالخطاب فى الآية الكريمة للمؤمنين ، والإشارة بذلك إلى المثبط بالذات أو بالواسطة .وقوله { إِنَّمَا } أداة حصر ، و { ذلكم } مبتدأ و { الشيطان } خبره ، وقوله : { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } جملة مستأنفة مبينة لشيطنته .وقيل إن { ذلكم } مبتدأ أول ، و { الشيطان } مبتدأ ثان . وقوله : { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } خبر للمبتدأ الثانى . وهو وخبره خبر للمبتدأ الأول .والمراد بالشيطان إبليس لأنه علم بالغلبة عليه ولأنه هو الذى يخوف بالوسوسة . وقيل المراد به أتباعه الذين دسهم لكى يرهبوا المؤمنين من الكافرين وهم جماعة بنى عبد القيس أو نعيم بن مسعود المجاشعى .إنما ذلكم المثبط لكم عن لقاء أعدائكم هو الشيطان ، الذى يوسوس فى قلوبكم بالشر بذاته ، أو بواسطة أتباعه الضالين ، ومن شأن المؤمنين الصادقين أنهم لا يتأثرون بهذه الوساوس الكاذبة ، وإنما الذين يتأثرون بها هم ضعاف الإيمان .وقوله { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } أى يخوف أولياءه المنافقين وضعفاء الإيمان ليقعدوا عن مقاتلة المشركين . أما أنتم أيها المؤمنون الصادقون فإنكم لن يقعدكم تخويفه ، لأن هذا التخويف لا أثر له فى قلب من آمن بالله حق الإيمان ، واتقاه حق تقاته .وقيل إن معنى { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } يخوفكم بأوليائه فحذف المفعول وحذف الجار . كما فى قوله : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } أى فإذا خفت عليه فرعون . فحذف المفعول . وكما فى قوله : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } أى لينذركم يوم التلاقى .وقيل إن المعنى : يخوفكم أولياءه فحذف المفعول الأول كما تقول : أعطيت الأموال ، أى أعطيت القوم الأموال .وقوله { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أى فلا تخافوا أولياء الشيطان ، بل اجعلوا خوفكم منى وحدى ، إن كنتم مؤمنين حقا .فالمقصود بهذه الجملة الكريمة تشجيعهم ، وتقويتهم ، وإلهاب شعورهمن إذ الإيمان الحق يستلزم الخوف من الله دون سواه .والمراد بالنهى عن الخوف وهو أمر نفسى : النهى عن أسبابه التى من أهمها حب الدنيا وكراهية الموت أى خذوا بأسباب القوة التى من أهمها التمسك بتقوى الله فإن ذلك يزيل الخوف من قلوبكم .وفى المقابلة بين النهى عن الخوف من أولياء الشيطان ، وبين الأمر بأن يكون خوفهم من الله وحده ، فى هذه المقابلة إرشاد إلى العلاج الذى يزيل الخوف والفزع من نفوسهم . لأن الذى يجعل خشيته وخوفه من الله وحده لن يستطيع الشيطان أو أولياؤه أن يبعدوه عن الطريق القويم وصدق الله إذ يقول : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وبذلك ترى أن الآيات الكريمة قد رفعت منازل الشهداء إلى أعلى الدرجات ، وصرحت بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون . كما أثنت ثناء مستطابا على الذين لبوا دعوة رسولهم صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الجهاد فى سبيل الله ، ولم يمنعهم عن إجابة دعوته ما بهم من جراح ، أو ما قاله لهم المرجفون من أقوال باطلة ، فرضى الله عنهم وأرضاهم .ثم أخذ القرآن فى تسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما يراه من كفر الكفارين . وعناد المعاندين ، وفى بيان أن كفر الكافر إنما يعود عليه ضرره لا على غيره ، وأنه - سبحانه - يملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، وأن حكمته - سبحانه - تقتضى تمييز الخبيث من الطيب . فقال - تعالى - : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين . . . } .
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ۚ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ۗ يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
📘 الخطاب فى قوله - تعالى - { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } للنبى صلى الله عليه وسلم والمقصود منه تسليته وإدخال الطمأنينة على قلبهن حتى لا يتأثر بما يراه من كفر الكافرين ، ونفاق المنافقين ، وفسق الفاسقين .أى : لا يحزنك ولا يُثِر فى نفسك الحسرات يا محمد ، حال أولئك القوم الذين { يُسَارِعُونَ فِي الكفر } أى يتوغلون فيه ، ويتعجلون فى إظهاره وتأييده والعمل به عند سنوح الفرص ، ويقعون فيه سريعا من تريث أو تدبر أو تفكير والمقصود بالنهى عن الحزن ، النهى عن الاسترسلا فيه وفى الأسباب التى تؤدى إليه ، كأن يظن صلى الله عليه وسلم أن كثرة الضالين ستؤدى إلى انتصارهم على المؤمنين .وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف فقال : { يُسَارِعُونَ فِي الكفر } يقعون فيه سريعا ، ويرغبون فيه أشد رغبة . وهم الذين نافقوا من المتخلفين . وقيل : هم قوم ارتدوا عن الإسلام . فإن قلت : فما معنى قوله { وَلاَ يَحْزُنكَ } ومن حق الرسول أن يحزن لنفاق من نافق وارتداد من ارتد؟ قلت : معناه : لا يحزنوك لخوف أن يضروك ويعينوا عليك " .ولتضمن المسارعة معنى الوقوع تعدت بحرف " فى " دون حرف " إلى " الشائع تعديتها بها كما فى قوله - تعالى - { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وقوله { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } تعليل للنهى عن أن يحزنه تسارعهم فى الكفر أى : لا يحزنك يا محمد حال هؤلاء المارقين الذين يسارعون فى الكفر وينتقلون فيه من دركة إلى دركة أقبح من سابقتها ، فإنهم مهما تمادوا فى كفرهم وضلالهم ومحاولتهم إضلال غيرهم ، فإنهم لن يضروا دين الله أو أولياءه بشىء من الضرر حتى ولو كان ضرراً يسيراً .ففى الكلام حذف مضاف والتقدير إنهم لن يضروا أولياء الله شيئا .وفى هذا الحذف تشريف للمؤمنين الصادقين ، وإشعار بأن مضارتهم بمنزلة مضارته - سبحانه - وفى الحديث القدسى : " من عادى لى وليا فقد آذنته بحرب " .ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم بمقتضى طبيعته البشرية ، وغيرته على دين الله - تعالى - يحزن لإعراض المعرضين عن الحق الذى جاء به ، ولقد حكى القرآن ذلك فى كثير من آياته ، ومنه قوله - تعالى - { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } وقوله - تعالى - { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } فأراد - سبحانه - فى هذه الآية الكريمة وأمثالها أن يزيل من نفس رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الحزن الذى نتج عن كفر الكافرين ، وأن يطمئنه إلى أن العاقبة ستكون له ولأتباعه المؤمنين الصادقين .وقوله { يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة } استئناف لبيان جزائهم على كفرهم فى الآخرة ، بعد أن بين - سبحانه - عدم إضرارهم لأوليائه فى الدنيا .أى : لا ينبغى لك يا محمد أن تحزن لمسارعة هؤلاء الضالين فى الكفر ، فإنهم لن يضروا أوليائى بشىء من الضرر ، ولأن كفرهم ليس مراغمة لله حتى تحزن ، وإنما هو بإرادته ، لأنه أراد ألا يكون لهم حظ أو نصيب من الخير فى الآخرة بسبب استحبابهم العمى على الهدى ، ولهم مع هذا الحرمان من الخير فى الآخرة { عَذَابٌ عَظِيمٌ } لا يعلم مقدار آلامه وشدته إلا الله تعالى .قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : هلا قيل : لا يجعل الله لهم حظا فى الآخرة ، وأى فائدة فى ذكر الإرادة؟ قلت : فائدته الإشعار بأن الداعى إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصا لم يبق معه صارف قط حين سارعوا فى الكفر ، تنبيها على تماديهم فى الطغيان وبلوغهم الغاية فيه ، حتى إن أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم " .
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
📘 ثم أكد - سبحانه - هذا الحكم وقرره فقال : { إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .والاشتراء فى الآية الكريمة بمعنى الاستبدال على سبيل الاستعارة التمثيلية فقد شبه - سبحانه - الكافر الذى يترك الحق الواضح الذى قامت الأدلة على صحته ويختار بدله الضلال الذى قامت الأدلة على بطلانه ، بمن يكون فى يده سلعة ثمينة جيدة فيتركها ويأخذ فى مقابلها سلعة رديئة فاسدة .والمعنى أن الذين استبدلوا الكفر بالإيمان ، لن يضروا دين الله ولا رسوله ولا أولياءه بشىء من الضرر ، وإنما يضرون بفعلهم هذا أنفسهم ضررا بليغا ولهم فى الآخرة عذاب مؤلم شديد الإيلام ، بسبب إيثارهم الغى على الرشد ، والكفر على الإيمان ، والشر على الخير .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
📘 ثم بين - سبحانه - أن ما يتمتع به الأشرار فى الدنيا من متع إنما هو استدراج لهم ، فقال - تعالى - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } .وقوله { نُمْلِي لَهُمْ } من الإملاء وهو الإمهال والتخلية بين العامل والعمل ليبلغ مداه .يقال : أملى فلان لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء .ويطلق الإملاء على طول المدة ورغد العيش .والمعنى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } ، بتطويل أعمارهم ، وبإعطائهم الكثير من وسائل العيش الرغيد هو ، { خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } كلا . بل هو سبب للمزيد من عذابهم ، لأننا { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } بكثرة ارتكابهم للمعاصى { وَلَهْمُ } فى الآخرة { عَذَابٌ مُّهِينٌ } أى عذاب ينالهم بسببه الذل الذى ليس بعده ذل والهوان الذى يتصاغر معه كل هوان .وقوله { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } إلخ . . عطف على قوله - تعالى - { وَلاَ يَحْزُنكَ } ويكون للنهى عن الظن متجها للذين كفروا ليعلموا سوء عاقبتهم .ويكون مفعولا يحسب قد سد مسدهما أن المصدرية وما بعدها و " ما " فى قوله " أنما نملى لهم " يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون موصولة حذف عائدها .وقد كتبت متصلة بأن مع أن من حقها أن تكتب منفصلة عنها اتباعا للمصحف الإمام أى لا يحسبن الكافرين أن إملاءنا لهم أو أن الذى نمليه لهم من تأخير حياتهم وانتصارهم فى الحروب فى بعض الأحيان ، هو خير لهم .وقرأ حمزة " ولا تحسبن الذين كفروا " . فيكون الخطاب بالنهى متجها إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويكون المفعول الأول لحسب هو { الذين كَفَرُواْ } وقوله : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } بدل من الذين كفروا ساداً مسد المفعول الثانى ، أو يكون هو المفعول الثانى .والمعنى : لا تحسبن يا محمد ولا يحسبن أحد من أمتك أن إملاءنا للذين كفروا هو خير لأنفسهم ، بل هو شر لهم ، لأننا ما أعطيناهم الكثير من وسائل العيش الرغيد إلا على سبيل الاستدراج ، وسنعاقبهم على ما ارتكبوه من آثام عقابا عسيرا .وقوله { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } استئناف واقع موقع التعليل للنهى عن حسبان الإملاء خيراً للكافرين .أى إنما نزيدهم من وسائل العيش الرغيد ليزدادوا آثاما بكثرة ارتكابهم للسيئات . فتكون نتيجة ذلك أن نزيدهم من العذاب المهين الذى لا يستطيعون دفعه أو التهرب منه .و " إنما " فى قوله { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } أداة حصر مركبة من " إن " التى هى حرف توكيد ومن " ما " الزائدة الكافة .واللام فى قوله { ليزدادوا إِثْمَاً } هى التى تسمى بلام العاقبة كما فى قوله - تعالى - { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أى : إنما نملى لهم فيزدادون إثما ، فلما كان ازدياد الإثم ناشئا عن الإملاء كان كالعلة له ، وكانت نتيجة هذا الإملاء أن وقعوا فى العذاب المهين .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } وقوله - تعالى - { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } ثم بين - سبحانه - بعض الحكم التى اشتملت عليها غزوة أحد فقال - تعالى -
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
📘 { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } .وقوله { لِيَذَرَ } أى ليترك . والمراد بالمؤمنين : المخلصون الذين صدقوا فى إيمانهم والمراد بقوله { على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ } أى اختلاط المؤمنين بالمنافقين واستواؤهم فى إجراء الأحكام .ومعنى يميز يفصل . وقرىء يميز أن يحدد ويبين .والمراد بالخبيث : المنافق ومن على شاكلته من ضعاف الإيمان .والمراد بالطيب : الصادق فى إيمانه .والمعنى : ليس من شأن الله - تعالى - ولا من حكمته وسنته فى خلقه أن يترككم أيها المؤمنون على ما أنتم عليه من الالتباس واختلاط المنافقين بكم ، بل الذى من شأنه وسنته أن يبتليكم ويمتحنكم بألوان من المصائب والشدائد حتى يتميز المؤمنون من المنافقين ، وينفصل الأخيار عن الأشرار .قال ابن كثير : أى لا بد أن يعقد سبباً من المحنة ، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه ، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر ، يعنى بذلك يوم أحد الذى امتحن الله به المؤمنين فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله لرسوله وهتك به ستار المنافقين ، فظهرت مخالفتهم ، ونكولهم عن الجهاد ، وخيانتهم لله ولرسوله . قال مجاهد : ميز بينهم يوم أحد " .وعبر - سبحانه - عن المؤمن بالطيب ، وعن المنافق بالخبيث ، ليسجل على كل منهما ما يليق به من الأوصاف ، وللإشعار بعلة الحكم .وقوله { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } معطوف على قوله { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ } .والغيب : ضد المشاهد . وهو كل ما غاب عن الحواس ولا تمطن معرفته إلا عن طريق الوحى من الله - تعالى - على رسوله صلى الله عليه وسلم .واجتبى : من الاجتباء بمعنى الاختيار والاصطفاء .أى : وما كان الله - تعالى - ليعطى أحدا منكم - معشر المؤمنين - علم الغيوب الذى به تعرفون المؤمن من المنافق ، إذ علم ذلك له وحده ، ولكنه - سبحانه - يصطفى من رسله من يريد اصطفاءه فيطلعه على بعض الغيوب ، وأطلعه على حال تلك المرأة التى أرسلها حاطب بن أبى بلتعة برسالة إلى قريش لتخبرهم باستعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لحربهم . وأطلعه على بعض أحوال المنافقين .قال - تعالى - { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } وفى قوله - تعالى - { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } إيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية ، لا يتأتى إلا ممن رشحه الله - تعالى - لمنصب جليل ، تقاصرت عنه همم الأمم ، واصطفاه على الناس لإرشادهم .ثم أمر الله - تعالى - عباده أن يثبتوا على الإيمان ، وبشرهم بالأجر العظيم إذ هم استمروا على ذلك فقال : { فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .أى : إذا علمتم أيها المؤمنون أن الله لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يجب عليكم أن تؤمنوا بالله وبرسله حق الإيمان ، وأن تؤمنوا بالله - تعالى - وبرسله حق الإيمان ، وتتقوا المخالفة فى الأمر والنهى ، فلكم فى مقابلة ذلك من الله - تعالى - مالا يقادر قدره من الثواب العظيم ، والأجر الجزيل .
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
📘 قال القرطبي : " لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما للآخر : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذى يخرج في آخر الزمان! فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له : أنت محمد؟ قال نعم قالا : وأنت أحمد؟ قال : نعم . قالا : نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك . فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلانى . فقالا : أخبرنا عن الأعظم شهادة في كتاب الله . فأنزل الله تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط } فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله تعالى : { شَهِدَ الله } أى بين وأعلم كما يقول : شهد فلان عند القاضى إذا بين وأعلم لمن الحق أو على من هو قال الزجاج : " الشاهد هو الذى يعلم الشيء ويبينه ، فقد دلنا الله على وحدانيته بما خلق وبين " .والمعنى : أخبر الله - تعالى - عباده وأعلمهم بالآيات القرآنية التي أنزلها على نبيه ، وبالآيات الكونية التى لا يقدر على خلقها أحد سواه ، وبغير ذلك من الأدلة القاطعة التي تشهد بوحدانيته ، وأنه لا معبود بحق سواه ، وأنه هو المنفرد بالألوهية لجميع الخلائق . وأن الجميع عبيده وفقراء إليه وهو الغنى عن كل ما عداه . وشهد بذلك " الملائكة " بأن اقروا بأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد فعبدوه حق العبادة ، وأطاعوه حق الطاعة ، وشهد بذلك أيضاً " أولو العلم " بأن اعترفوا له - سبحانه - بالوحدانية ، وصدقوا بما جاهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبلغوا ذلك لغيرهم .قال الزمخشرى : شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التى لا يقدر عليها غيره ، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص وآية الكرسى وغيرهما ، بشهادة الشاهد فى البيان والكشف وكذلك إقرار الملائكة وأولى العلم بذلك واحتجاجهم عليه " .وقالوا : وفى هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء ، فإنه لو كان أحد أشرف العلماء ، لقرنهم الله باسمه وسام ملائكته كما قرن العلماء . وقال في شرف العلم لنبيه - صلى الله عليه وسلم - { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } فلو كان شىء أشرف من العلم لأمر الله نبيه أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم . وقال صلى الله عليه وسلم " إن العلماء ورثة الأنبياء " وقال : " العلماء أمناء الله على خلقه " وهذا شرف للعلماء عظيم ومحل لهم في الدين خطير .والمراد بأولى العلم هنا جميع العلماء الذين سخروا ما أعطاهم الله من معارف في خدمة عقيدتهم ، وفيما ينفعهم وينفع غيرهم ، وأخلصوا لله في عبادتهم ، وصدقوا في أقوالهم وأفعالهم . وقدم سبحانه - الملائكة على أولى العلم ، لأن فيهم من هو واسطة لتوصيل العلم إلى ذويه ، لأن علمهم كله ضرورى بخلاف البشر فإن علمهم منه ما ضرورى ، ومنه ما هو اكتسابى .وقوله - تعالى - { قَآئِمَاً بالقسط } بيان لكماله - سبحانه - في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته . والقسط : العدل . يقال قسط ويقسط قسطاً ، وأقسط إقساطاً فهو مقسط إذا عدل ومنه { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } ويطلق القسط على الجور ، والفاعل قاسط ، ومنه { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أى : مقيما للعدل في تدبير أمر خلقه ، وفى أحكامه . وفيما يقسم بينهم من الأرزاق والآجال ، وفيما يأمر به وينهى عنه ، وفى كل شأن من شئونه .قال الجمل و { قَآئِمَاً } منصوب على أنه حال من الضمير المنفصل الواقع بعد إلا ، فتكون الحال أيضا فى حيز الشهادة ، فيكون المشهود به أمرين : الوحدانية والقيام بالقسط وهذا أحسن من جعله حالا من الاسم الجليل فاعل شهد ، لأن عليه يكون المشهود به الوحدانية فقط والحال ليست في حيز الشهادة .وقوله { لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } تكرير للمشهود به للتأكيد والتقرير ، وفيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعى إنما يكون بالدليل ، والاعتناء به يتقضى الاعتناء بأدلته .{ العزيز الحكيم } صفتان مقررتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل . أى لا إله في هذا الوجود يستحق العبادة بحق إلا الله { العزيز } الذى لا يمتنع عليه شىء أراده ، وينتصر من كل أحد عاقبه أو انتقم منه { الحكيم } في تدبيره فلا يدخله خلل .قال ابن جرير : " وإنما عنى جل ثناؤه - بهذه الآية نفى ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من النبوة ، وما نسب إليه سائر أهل الشرك : من أن له شريكا ، واتخاذهم دونه أربابا ، فأخبرهم الله عن نفسه ، أنه الخالق كل ما سواه ، وأنه رب كل ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربا دونه ، وأن ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهل العلم به من خلقه . فبدا - جل ثناؤه - بنفسه تعظيما لنفسه ، وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إليها ، كما سن لعباده أن يبدأوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره مؤدباً خلقه بذلك " .هذا ، ومن الآثار التى وردت في فضل هذه الآية ما رواه الإمام أحمد عن الزبير بن العوام قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } .. . إلى أخر الآية . فقال صلى الله عليه وسلم : " وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب " وقال غالب القطان : أتيت الكوفة في تجارة لي فنزلت قريبا من الأعمش فكنت اختلف إليه ، فقام في ليلة متهجدا فمر بهذه الآية { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } فقال : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة وهى لى وديعة { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } ، - قالها مراراً - فقلت . لقد سمع فيها شيئا فسألته في ذلك فقال : حدثني أبو وائل بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله - تعالى - " عبدى عهد إلى وأنا أحق من وفى العهد ادخلوا عبدى الجنة " .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
📘 ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء مصير الذين يبخلون بنعم الله ، فلا يؤدون حقها . ولا يقومون بشكرها فقال - تعالى - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } .وقوله { يَبْخَلُونَ } من البخل وهو ضد الجود والسخاء ، ومعناه : أن يقبض الإنسان يده عن إعطاء الشىء لغيره ، وأن يحرص حرصاً شديداً على ما يملكه من مال أو علم أو غير ذلك .ويرى جمهور المفسرين أن المراد بالبخل هنا البخل بالمال ، لأنه هو الذى يتفق مع السياق .ويرى بعضهم أن المراد بالبخل هنا البخل بالعلم وكتمانه ، وذلك لأن اليهود كتموا صفات النبى صلى الله عليه وسلم التى جاءت بها التوراة .والذى تراه أن ما عليه الجمهور هو الأرجح ، لأنه هو المتبادر من معنى الآية ، وهو المتفق من سياق الكلام .ولذا قال الآلوسى : قوله - تعالى - { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } بيان لحال البخل وسوء عاقبته ، وتخطئة لأهله فى دعواهم خيريته عقب بيان حال الإملاء . . .وقيل : وجه الارتباط أنه - تعالى - لما بالغ فى التحريض على بذل الأرواح فى الجهاد وغيره ، شرع هنا فى التحريض على بذل المال ، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل به " .والمعنى : ولا يظنن أولئك الذين يبخلون بما أعطاهم الله من نعم وأموال أن بخلهم فيه خير لهم ، كلا ، بل إن بخلهم هذا فيه شر عظيم لهم .والنهى عن الحسبان بأن البخل فيه خير فى قوله { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } يدل على النفى المؤكد .اى لا يصح لهم أن يظنوا بأية حال من الأحوال أن ذلك البخل فيه خير لهم . بل الحقيقة أن فيه شراً كبيراً لهم .وفى قوله { بِمَآ آتَاهُمُ الله } إشعار بسوء صنيعهم ، وخبث نفوسهم ، حيث بخلوا بشىء ليس وليد عملهم واجتهادهم ، وإنما هذا الشىء منحه الله - تعالى - لهم بفضله وجوده ، فكان الأولى لهم أن بشكروه على ما أعطى ، وأن يبذلوا مما أعطاهم فى سبيله .والضمير " هو " يعود على البخل المستفاد من قوله { يَبْخَلُونَ } .ويرى الزمخشرى أنه ضمير فصل لتأكيد نفى الظن فى الخيرية .وفى إعادة الضمير ، وذكر الجملة الإسمية فى قوله { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } تأكيد لمعنى الشر فى البخل ، وأنه لا خير من ورائه قط ، ففى الحديث الشريف الذى رواه الإمام مسلم فى صحيحه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " .ثم بين - سبحانه - المصير المؤلم لأولئك البخلاء فقلا - تعالى - { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } .وقوله { سَيُطَوَّقُونَ } مشتق من الطوق ، وهو ما يلبس من أسفل الرقبة . أى تجعل أموالهم أطواقا حول رقابهم ، وأغلالا حول أجسادهم ، فيعذبون عذابا أليما بحملها .وجمهور المفسرين على أن الكلام على ظاهره ، وأن عذاب هؤلاء البخلاء بنعم الله ، سيكون نوعا من العذاب الأخروى المحسوس . وقد أيد القرطبى هذا الاتجاه فقال :" وهذه الآية نزلت فى البخل بالمال والإنفاق فى سبيل الله وأداء الزكاة المفروضة ، ذهب إلى هذا جماعة من المتأولين ، منهم : ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل .قالوا : ومعنى { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } هو الذى ورد لى الحديث عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - أى شدقيه - ثم يقول له . أنا مالك أنا كنزك . ثم تلا هذه الآية : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .ويرى بعض العلماء أن هذا الوعيد على سبيل التمثيل ، وأن الظاهر غير مراد ومعنى قوله { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ } عند هذا البعض : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم ، فلا يأتون لأنهم ليس فى قدرتهم ذلك .و المعنى : سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق ، ويتحملون وزر ذلك يوم القيامة .فالآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى الجود والسخاء من أجل إعلاء كلمة الله ، وتتوعد البخلاء باقسى ألوان الوعيد وأفطعها . وتبين أن كل ما فى هذا الكون إنما هو ملك لله - تعالى - وحده ، فهو المعطى وهو المانع ، ولذا قال - تعالى - : { وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .والميراث : مصدر كالميعاد . وأصله موارث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها . والمراد به ما يتوارث .والمعنى : أن لله - تعالى - وحده لا لأحد غيره ما فى السموات والأرض مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره ، فما بال هؤلاء القوم يبخلون عليه بما يملكه ، ولا ينفقونه فى سبيله . وعلى هذا يكون الكلام جار على حقيقته ولا مجاز فيه .ويصح أن يكون المعنى : أن الله - تعالى - يرث من هؤلاء ما فى أيديهم مما بخلوا به من مال وغيره وينتقل منهم إليه حين يميتهم ويفنيهم ، وتبقى الحسرة والندامة عليهم . وعلى هذا يكون الكلام على سبيل المجاز .قال الزجاج : أى أن الله - تعالى - يفنى أهلهما . فيفنيان بما فيهما ، فليس لأحد فيهما ملك . فخوطبوا بما يعلمون ، لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثا ، ملكا له " .وقوله { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } تذييل قصد به حضهم على الإنفاق ، ونهيهم عن البخل ، أى أن الله - تعالى - خبير ومطلع على ما يصدر عنكم من سخاء أو بخل أو غيرهما ، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا الحسنى .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من التسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ولأتباعه ، وبشرتهم بأن العاقبة ستكون لهم ، وفضحت المنافقين وهتكت ما تستروا به من ريا وخداع ، وبينت أن من سنن الله فى خلقه أن يبتلى عباده بشتى ألوان البلاء ليتميز الخبيث من الطيب ، وأنه - سبحانه - يلمى للكافرين ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وأن البخلاء بما آتاهم الله من فضله ستكون عاقبتهم شرا ، ومصيرهم إلى العذاب الأليم .
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
📘 ثم أخذت السورة الكريمة - بعد أن فضحت المنافقين - فى الحديث عن بعض رذائل أهل الكتاب ، وفى التحذير من شرورهم ، وفى بيان طبيعة هذه الحياة وما تحمله من بلاء واختبار فقال - تعالى - : { لَّقَدْ سَمِعَ . . . . } .قال ابن كثير : عن ابن عباس قال : لما نزل قوله - تعالى - ( مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ) قالت اليهود : يا محمد!! افتقر ربك فسأل عباده القرض ، فأنزل الله هذه الآية .وروى محمد بن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال : " دخل أبو بكر الصديق بيت المدراس . فوجد من يهود ناسا كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له " فحناص " وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر يقال له " اشيع " . فقال له أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول من عند الله ، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل . فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء . ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم . ينهاكم عن الربا ويعطينا ، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا .فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا ، وقال : والذي نفسي بيده لولا الذى بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله . . .فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد : أبصر ما صنع بي صاحبك .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله . إن عدو الله قال قولا عظيما . يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء . فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه .فجحد فنحاص ذلك وقال : ما قلت ذلك . فأنزل الله فيما قال فنحاص : { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا . . . } " .والمعنى : لقد سمع الله - تعالى - قول أولئك اليهود الذين نطقوا بالزور والفحش فزعموا أن الله - تعالى - فقير وهم أغنياء .والمقصود من هذا السمع لازمه وهو العلم والإحاطة بما يقولون من قبائح ، ثم محاسبتهم على ما تفوهوا به من أقوال ، وما ارتكبوه من أعمال ، ومعاقبتهم على جرائمهم بالعقاب المهين الذين يستحقونه .وقوله { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ } أى سنسجل عليهم فى صحائف أعمالهم قولهم هذا ، كما سنسجل عليهم قتلهم أنبياء الله بغير حق ، فالاسناد مجازى والكتابة حقيقية .أو المعنى : سنحفظه فى علمنا ولا نهمله ، وسنعاقبهم بما يستحقونه من عقوبات ، فيكون الإسناد حقيقة والكتابة مجازا .والسين للتأكيد ، أى لن يفوتنا أبدا تدوينه وإثباته ، بل سنسجله عليهم ونعاقبهم عليه عقابا اليما بسبب أقوالهم القبيحة ، وأعمالهم المنكرة .وقد قرن - سبحانه - قولهم المنكر هذا ، بفعل شنيع من أفعال أسلافهم ، وهو قتلهم الأنبياء بغير حق؛ وذلك لإثبات أصالتهم فى الشر ، وإستهانتهم بالحقوق الدينية ، وللتنبيه على أن قولهم هذا ليس أول جريمة ارتكبوها ، ومعصية استباحوها ، فقد سبق لأسلافهم أن قتلوا الأنبياء بغير حق ، وللإشعار بأن هاتين الجريمتين من نوع واحد ، وهو التجرؤ على الله - تعالى - ، فقتل الأنبياء هو تعد على أمناء الله فى الأرض الذين اختارهم لتبليغ رسالاته ، وقولهم { إِنَّ الله فَقِيرٌ } وهو تطاول على ذات الله ، وكذب عليه ، ووصف له بما لا يليق به - سبحانه - وبهذا كله يكونون قد عتوا عتواً كبيراً ، وضلوا ضلالا بعيدا .وأضاف - سبحانه - القتل إلى المعاصرين للعهد النبوى من اليهود ، مع أنه حدث من اسلافهم؛ لأن هؤلاء المعاصرين كانوا راضين بفعل أسلافهم ولم ينكروه وإن لم يكونوا قد باشروه ، ومن رضى بجريمة قد فعلها غيره فكأنما قد فعلها هو .وفى الحديث الشريف : إذا عملت الخطيئة فى الرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها . ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها .ووصف - سبحانه - قتلهم الأنبياء بأنه { بِغَيْرِ حَقٍّ } مع أن هذا الإجرام لا يكون بحق أبدا ، للإشارة إلى شناعة أفعالهم ، وضخامة شرورهم ، وأنهم لخبث نفوسهم ، وقسوة قلوبهم لا يبالون أكان فعلهم فى موضعه أم فى غير موضعه .ثم - صرح سبحانه - بالعقوبة بعد أن كنى عنها فقال : { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } أى : سنجازيهم بما فعلوا ، ونلقى بهم فى جهنم ، مخاطبين إياهم بقولنا : ذوقوا عذاب تلك النار المحرقة التى كنتم بها تكذبون .ففى الاية الكريمة إيجاز بالحذف دل عليه سياق الكلام .والذوق حقيقته إدراك المطعومات ، والأصل فيه أن يكون فى أمر مرغوب فى ذوقه وطلبه ، والتعبير به هنا عن ذوق العذاب هو لون من التهكم عليهم ، والاستهزاء بهم كما فى قوله - تعالى - { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ثم صرح - سبحانه - بأنهم هم الذين جنوا على أنفسهم بوقوعهم فى العذاب المحرق فقال :
ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
📘 { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } .أى : ذلك العذاب الشديد الذى حاق بكم - أيها اليهو- بسبب ما قدمته أيديكم من عمل سىء ، وما نطقت به أفواهكم من قول منكر ، فقد اقتضت حكمته وعدالته ألا يعذب إلا من يستحق العذاب ، وأنه - سبحانه - لا يظلم عباده مثقال ذرة . واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى العذاب المحقق المنزل منزلة المحسوس المشاهد . والمراد بالأيدى الأنفس ، والتعبير بالأيدى عن الأنفس من قبيل التعبير بالجزء عن الكل .وخصت الأيدى بالذكر ، للدلالة على التمكن من الفعل وإراته ، ولأن أكثر الأفعال يكون عن طريق البطش بالأيدى ، ولأن نسبة الفعل إلى اليد تفيد الالتصاق به والاتصال بذاته .قال الآلوسى ما ملخصه :وقوله { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } عطف على قوله { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } فهو داخل تحت حكم باء السببية ، وسببيته للعذاب من حيث إن نفى الظلم يستلزم العدل المقتضى إثابة المحسن ومعاقبة المسىء .. .وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب فى صورة المبالغة فى الظلم . . . وقيل إن صيغة " ظلام " للنسب كعطار أى : لا ينسب غليه الظلم أصلا " .
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ۗ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
📘 ثم ذكر - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل اليهود فقال : { الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار } .وقوله { الذين قالوا إنَّ } . . إلخ . فى محل نصب بتقدير : أعنى . أو فى محل رفع بتقدير : هم الذين قالوا . ويجوز أن يكون فى محل جر على البدلية من قوله { الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ } .والمراد بالموصول جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف ، وفنحاص بن عازوراء ، وحيى بن أخطب . . وغيرهم ، فقد ذكر جماعة من المفسرين أنهم أتوا النبى صلى الله عليه وسلم وقالوا له هذا القول وهو : { إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا } . . . إلخ .و ( القربان ) هو ما يتقرب به إلى الله من نعم أو غير ذلك من القربات .والمعنى : أن عذابنا الأليم سيصيب أولئك اليهود الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء ، والذين قالوا إن الله امرنا فى التوراة وأوصانا بأن لا نصدق ونعترف لرسول يدعى الرسالة غلينا من قبل الله - تعالى - حتى ياتينا بقربان يتقرب به إلى الله ، فتنزل نار من السماء فتأكل هذا القربان ، فإذا فعل ذلك كان صادقا فى رسالته .ومقصدهم من وراء هذا القول الذى حكاه القرآن عنهم ، أن يظهروا أمام الناس بمظهر المحافظين على عهود الله . وأنهم ما تركوا الإيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم حسدا له ، وإنما تركوا الإيمان به ، لأنه لم يأتب بالمعجزات التى أتى بها الأنبياء السابقون ، فهم معذورون إذا لم يؤمنوا به لأنه ليس نبيا صادقا - فى زعمهم - .ولا شك أن قولهم هذا ظاهر البطلان ، لأن الإتيان بالقربان إذا كان معجزة لرسول لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول ، إذ أن آيات الله فى إثبات رسالات رسله متعددة النواحى ، مختلفة المناهج ، وكون هذا الإتيان بالقربان الذى تأكله النار معجزة لبعض الرسل لا يستدعى أن يكون معجزة لجميعهم ولذا فقد أمر الله - تعالى - رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يبطل قولهم فقال : { قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .أى : قل لهم يا محمد { قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي } كثير عددهم " بالبينات " أى بالحجج الواضحة ، وبالمعجزات الساطعة الدالة على صدقهم { وبالذي قُلْتُمْ } أى وجاءكم هؤلاء الرسل بالقربان الذى تأكله النار { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } بعد أن جاءوكم بتلك المعجزات الباهرة { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فى دعواكم أنكم تتبعون الحق ، وتطيعون الرسل متى أتوكم بما يهد بصدقهم؟فالجملة الكريمة ترد على هؤلاء اليهود بأبلغ الوجوه التى تثبت كذبهم فيما يدعون ، لأن قتلهم للأنبياء بعد أن جاءوهم بالمعجزات الواضحة الدالة على صدقهم ، دليل على أن هؤلاء اليهود قد بلغوا منتهى الجحود والظلم والعدوان ، وأن دعواهم أن إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم متوقف على مجيئه بالقربان الذى تأكله النار دعوة كاذبة ، لأن من جاءهم بالقربان كان جزاؤه القتل منهم .. .قال الفخر الرازى : وقد بني الله بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد وإنما على سبيل التعنت . وذلك لأن أسلافهم طلبوا هذه المعجزة من الأنبياء المتقدمين مثل : زكريا ويحيى وعيسى ، فلما أظهروا لهم هذا المعجزة سعوا فى قتلهم بعد أن قابلوهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة . وذلك يدل على أن مطالبهم كانت على سبيل التعنت؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما سعوا فى قتلهم ، ومتأخروا اليهود راضون بفعل متقدميهم . وهذا يقتضى كونهم متعنتين - أيضا - فى مطالبهم . ولهذا لم يجبهم الله فيها " .
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ
📘 { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات والزبر والكتاب المنير } .والبينات : جمع بينه وهى الآيات المبينة للحق ، والأدلة التى يستشهد بها الرسول على أنه صادق فيما يبلغه عن ربه .والزبر جمع زبور - كالرسول والرسل - وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته بمعنى حسنته .وخص الزبور بالكتاب الذى أنزله الله على داود - عليه السلام - : قال - تعالى - { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } وقيل : الزبر اسم للمواعظ و الزواجر من زبرته إذا زجرته .والمعنى فإن كذبوك هؤلاء اليهود يا محمد بعد أن قام الدليل على صدقك وعلى كذبهم وتعنتهم وجحودهم ، فلا تبتئس ولا تحزن ، فإن الأنبياء من قبلك قد قوبلوا بالتكذيب من أقوامهم بعد أن جاءوهم بالدلائل الواضحة الدالة على صدقهم وبعد أن جاءوهم ( بالزبر ) أى بالكتب الموحى بها من الله - تعالى - لوعظ الناس وزجرهم ، وبعد أن جاءوهم بالكتاب المنير أى بالكتاب الواضح المستنير المشتمل على سعادة الناس فى دنياهم وآخرتهم .فالآية الكريمة مسوقة على سبيل التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه مما يلقاه من الجاحدين والمكذبين .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ
📘 ثم بين - سبحانه - أن مرد الخلق جميعا إلى الله ، وأن كل نفس مهما طال عمرها لا بد أن يصيبها الموت ، وأن الدار الباقية إنما هى الدار الآخرة التى سيحاسب الناس فيها على أعمالهم فقال - تعالى - : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } .قال ابن كثير : " يخبر - تعالى - إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت ، كقوله - تعالى - :{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام } فهو - تعالى - وحده الحى الذى لا يموت والجن والإنس يموتون ، وكذلك الملائكة وحملة العرش ، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء فيكون آخرا كما كان أولا ، وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس ، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت . . " .وقوله { ذَآئِقَةُ الموت } من الذوق وحقيقته إدراك الطعوم ، والمراد به هنا حدوث الموت لكل نفس .وعبر عن حدوث الموت لكل نفس بذوقه ، للإشارة إلى أنه عند ذوق المذاق إما مرا لما يستتبعه من عذاب ، وإما حلوا هنيئا بسبب ما يكون بعده من أجر وثواب .وأسند ذوق الموت إلى النفس ولم يسنده إلى الشخص : لأن النفس روح ، والشخص جزءان : جسم ونفس ، والنفس هى التى تبقى بعد مفارقتها للجسد ، فهى التى تذوق الموت كما ذاقت الحياة الدنيا .وقوله { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } أى : وإنما تعطون جزاء أعمالكم وافيا تاما يوم القيامة . يوم يقوم الناس لرب العالمين ليحاسبهم على أعمالهم ، فيجازى الذين أساءوا بما عملوا . ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .قال صاحب الكشاف : فإن قلت كيف اتصل قوله - تعالى - : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } بما قبله؟ قلتك اتصاله به على معنى أن كلكم تموتون ، ولا بد لكم من الموت ولا توفون أجوركم على طاعتكم ومعصيتكم عقيب موتكم ، وإنما توفونها يوم قيامكم من القبور .فإن قلت : فهذا يوهم نفى ما يروى من أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة نم حفر النار؟ قلت : كلمة التوفية تزيل هذا الوهم ، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون فى ذلك اليوم ، وما يكون قبل ذلك فهو بعض الأجور " .وقال الفخر الرازى : " بين - سبحانه - أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة ، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف فى الدنيا فهى مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال ، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة ، لأن هناك يحصل السرور بلا غم ، والأمن بلا خوف ، واللذة بلا ألم ، والسعادة بلا خوف الانقطاع .وكذا القول فى العقاب ، فإنه لا يحصل فى الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة ، بل يمتزج به راحات وتخفيفات ، وإنما الألم التام الخالص الباقى هو الذى يكون يوم القيامة " .ثم قال - تعالى - { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } .الزحزحة عن النار : هى التنحية عنها ، وعدم الاقتراب منها والفعل زحزح مضاعف الفعل زحه عن المكان إذا جذبه وأبعده عنه بعجلة وسرعة .والمعنى أن كل نفس سيدركها الموت لا محالة . وأن الناس سيحاسبون على أعمالهم يوم القيامة ، فمن كانت نتيجة حسابه الإبعاد عن النار ، والنجاةن من سعيرها ، فقد فاز فوزاً عظيما ، وأدرك البغية التى ليس بعدها بغية .والفاء فو قوله { فَمَن زُحْزِحَ } للتفريع على قوله { تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ } .وجمع - سبحانه - بين { زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة } مع أن فى الثانى غنية عن الأول ، للإشعار بأن دخول الجنة يشتمل على نعمتين عظيمتين وهما : النجاة من النار ، والتلذذ بنعيم الجنة .وفى الحديث الشريف عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " موضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا إن شئتم { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } " .وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه " .ثم ختم - الآية بقوله : { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } .والمتاع : هو ما يتمتع به الإنسان وينتفع به مما يباع ويشترى .والغرور - بضم الغين - مصدر غره أى خدعه وأطعمه بالباطل .أى : ليست هذه الحياة الدنيا التى نعيش فيها . ونستمتع بلذاتها ومنافعها ، إلا متاعا يستمتع به المغتر بها ، الذى لا يفكر فى أى شىء سواها ، ثم يحاسب على ذلك حسابا عسيراً يوم القيامة ، أما الذى يأخذ من متاعها بالطريقة التى أمر الله - تعالى - بها ، فإنه يكون من السعداء فى دنياهم وآخرتهم .قال صاحب الكشاف : شبه - سبحانه - الدنيا بالمتاع الذى يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ، ثم يتبين له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور . وعن سعيد بن جبير : إنما هذا لمن آثرها على الآخرة ، فاما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ " .فالآية الكريمة ترغيب للمؤمنين فى الطاعة ، وتحذير للعصاة من المعصية ، وتذكير للجميع بأن مرجعهم إلى الله إن عاجلا أو آجلا ، وسيلقى كل إنسان جزاءه على عمله ، وأن السعادة الحقة لمن نال رضا الله يوم يلقاه .
۞ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
📘 ثم بين - سبحانه - للمؤمنين أنهم سيتعرضون فى المستقبل للمحن والآلام كما تعرضوا لذلك فى أيامهم الماضية ، وأن من الواجب عليهم أن يتقبلوا ذلك بعزيمة صادقة ، وصبر جميل فقال - تعالى - : { لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } .وقوله { لَتُبْلَوُنَّ } جواب قسم محذوف أى : والله لتبلون أى لتختبرن . والمراد لتعاملن معاملة المختبر والممتحن ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق ، ومن التمسك بمكارم الأخلاق ، فإن المصائب محك الرجال .وإنما أخبرهم - سبحانه - بما سيقع لهم من بلاء ، ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ، وليستعدوا لتلقيه من غير فزع أو جزع ، فإن الشدة المتوقعة يسهل احتمالها ، أما الشدة التى تقع من غير توقع فإنها يصعب احتمالها .والمعنى : لتبلون - أيها المؤمنون - ولتختبرن { في أَمْوَالِكُمْ } بما يصيبها من الآفات ، وبما تطالبون به من إنفاق فى سبيل إعلاء كلمة الله ، ولتختبرن أيضاً فى { أَنْفُسِكُمْ } بسبب ما يصيبكم من جراح وآلام من قبل أعدائكم ، وبسبب ما تتعرضون له من حروب ومتاعب وشدائد ، وفضلا عن ذلك فإنكم { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } وهم اليهود والنصارى { وَمِنَ الذين أشركوا } وهم كفار العرب ، لتسمعن من هؤلاء جميعا { أَذًى كَثِيراً } كالطعن فى دينكم ، والاستهزاء بعقيدتكم ، والسخرية من شريعتكم والاستخفاف بالتعاليم التى أتاكم بها نبيكم ، والتفنن فيما يضركم .وقد رتب - سبحانه - ما يصيب المؤمنين ترتيبا تدريجيا ، فابتدأ بأدتى ألوان البلاء وهو الإصابة فى المال ، فإنها مع شدتها وقسوتها على الإنسان إلا أنها أهون من الإصابة فى النفس لأنها أغلى من المال ، ثم ختم ألوان الابتلاء ببيان الدرجة العليا منه وهى التى تختص بالإصابة فى الدين ، وقد عبر عنها بقوله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } .وإنما كانت الإصابة فى الدين أعلى أنواع البلاء ، لأن المؤمن الصادق يهون عليه ماله ، وتهون عليه نفسه ، ولكنه لا يهون عليه دينه ، ويسهل عليه أن يتحمل الأذى فى ماله ونفسه ولكن ليس من السهل عليه أن يؤذى فى دينه . . .ولقد كان أبو بكر الصديق مشهورا بلينه ورفقه . ولكنه مع ذلك - لقوة إيمانه - لم يحتمل من " فنحاص " اليهودى أن يصف الخالق - عز وجل - بأنه فقير ، فما كان من الصديق إلا أن شجَّ وجه فنحاص عندما قال ذلك القول الباطل .وقد جمع - سبحانه - بين أهل الكتاب وبين المشركين فى عداوتهم وإيذائهم للمؤمنين ، للإشعار بأن الكفر ملة واحدة ، وأن العالم بالكتاب والجاهل به يستويان فى معاداتهم للحق ، لأن العناد إذا استولى على القلوب زاد الجاهلين جهلا وحمقا ، وزاد العالمين حقداً وحسداً .ثم أرشد - سبحانه - المؤمنين إلى العلاج الذى يعين على التغلب على هذا البلاء فقال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } .أى : وإن تصبروا على تلك الشدائد ، وتقابلوها يضبط النفس ، وقوة الاحتمال . { وَتَتَّقُواْ } الله فى كل ما أمركم به ونهاكم عنه ، تنالوا رضاه - سبحانه - وتنجوا من كيد أعدائكم .والإشارة فى قوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } تعود إلى المذكور ضمنا من الصبر والتقوى ، أى فإن صبركم وتقواكم من الأمور التى يجب أن يسير عليها كل عاقل . لأنها تؤدى إلى النجاح والظفر .وقوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } دليل على جواب الشرط .والتقدير : وإن تصبروا وتتقوا تنالوا ثواب أ÷ل العزم فإن ذلك من عزم الأمور .فالآية الكريمة استئناف مسوق لإيقاظ المؤمنين ، وتنبيههم إلى سنة من سنن الحياة ، وهى أن أهل الحق لا بد من أن يتعرضوا للابتلاء والامتحان ، فعليهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل كل ذلك ، لأن ضعفاء العزيمة ليسوا أهلا لبلوغ النصر .ولقد بين النبى صلى الله عليه وسلم أن قوة الإيمان وشدة البلاء متلازمان ، فقد روى الترمذى عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ، أى الناس أشد بلاء؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل . فيبتلى الرجل على حسب دينه . فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان فى دينه رقة ابتلى على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة " .
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
📘 ثم حكى - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل أهل الكتاب فقال : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } .الميثاق : هو العهد الموثق المؤكد . وقد أخذ - سبحانه - العهد على الذين أوتو الكتاب بأمرين :أولهما : بيان ما فى الكتاب من أحكام وأخبار .وثانيهما : عدم كتمان كل شىء مما فى هذا الكتاب .والمعنى : واذكر أيها المخاطب وقت أن أخذ الله العهد المؤكد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن يبينوا جميع ما فى الكتاب من أحكام وأخبار وبشارات بالنبى صلى الله عليه وسلم وألا يكتموا شيئا من ذلك ، لأن كتمانهم للحق سيؤدى إلى سوء عاقبتهم فى الدنيا والآخرة .والضمير فى قوله " لتبيننه " يعود إلى الكتاب المشتمل على الأخبار والشرائع والأحكام والبشارات الخاصة بمبعث النبى صلى الله عليه وسلم .أى لتبينن ما فى هذا الكتاب الذى بين أيديكم من أحكام وشرائع وأخبار وبشارات . وقيل الضمير يعود إلى الميثاق ، ويكون المراد من العهد الذى وثقه الله عليهم هخو تعاليمه وشرعه ونوره .وقوله { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } عطف على " لتبيننه " وإنما لم يؤكد بالنون لكونه منفيا . وجمع - سبحانه - بين أمرهم المؤكد بالبيان وبين نهيهم عن الكتمان مبالغة فى إيجاب ما أمروا به حتى لا يقصروا فى إظهار ما فى الكتاب من حقائق وحتى لا يلجأوا إلى كتمان هذه الحقائق أو تحريفها .ولكن أهل الكتاب - ولا سيما العلماء منهم - نقضوا عهودهم مع الله - تعالى - ، وقد حكى - سبحانه - ذلك فى قوله { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } .النبذ : الطرح والترك والإهمال .أى أن أهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهود الموثقة بأن يبينوا ما فى الكتاب ولا يكتموا شيئا منه ، لم يكونوا أوفياء بعهودهم ، بل إنهم نبذوا ما عاهدهم الله عليه ، وطرحوه وراء ظهورهم باستهانة وعدم اعتداد .وأخذوا فى مقابل هذا النبذ والطرح والإهمال شيئا حقيرا من متاع الدنيا وحطامها ، فبئس الفعل فعلهم .والتعبير عنهم بقوله { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } كناية عن استهانتهم بالمنبوذ ، وإعراضهم عنه بالكلية ، وإهمالهم له إهمالا تامت ، لأن من شأن الشىء المنبوذ أن يهمل ويترك ، كما أن من شأن الشىء الذى هو محل اهتمام أن يحرس ويجعل نصب العين .والضميى فى قوله { فَنَبَذُوهُ } يعود على الميثاق باعتبار أنه موضع الحديث ابتداء .ويصح أن يعود إلى الكتاب ، لأن الميثاق هو الشرائع والأحكام ، والكتاب وعاؤها ، فنبذ الكتاب نبذ للعهد .والمراد " بالثمن القليل " ما أخذوه من أموال ومتاع دنيوى من غيرهم فى مقابل عدم بيانهم لما فى الكتاب من حقائق ، وكتمانهم لذلك إرضاء للشهوات وللأهواء الباطلة .وليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف المخصصة للنكرات ، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل فى مقابل نبذهم لكتاب الله وعهوده ، إذ لا يكون هذا الثمن المحصل إلا قليلا وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا بجانب رضا الله - تعالى - .قوله { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } أى بئس شيئا يشترونه ذلك الثمن .فما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ، وجملة يشترونه صفته ، والمخصوص بالذم محذوف .وقيل " ما مصدرية فاعل بئس ، والمخصوص بالذم محذوف ، أى بئس شراؤهم هذا الشراء لاستحقاقهم به العذاب الأليم .وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، وجوب إظهار الحق ، وتحريم كتمانه .ورحم الله صاحب الكشاب فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : وكفى به دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس ، وألا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة ، وتطييب لنفوسهم ، واستجلاب لمسارهم ، أو لجر منفعة وحطام دنيا ، أو لتقية ، أو لبخل بالعلم وغيرة من أن ينسب إلى غيرهم ، وعن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال : " من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار " وعن على رضي الله عنه ، قال : " ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا " .وقال ابن كثير عند تفسيره للآية الكريمة : هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأن ينوهوا بذكره فى الناس فيكونوا على أهبة من أمره ، فإذا أرسله الله تابعوه ، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير فى الدنيا والآخرة بالدون الطفيف ، والحظ الدنيوى السخيف ، فبئس الصفقة صفقتهم ، وبئست البيعة بيعتهم ، وفى هذا تحذير للعلماء من أن يسلكوا مسلكه فيصيبهم ما أصابهم ويسلك بهم مسلكهم ، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع ، ولا يكتموا منه شيئا " .
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
📘 ثم حكى - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل أهل الكتاب المتعددة ، وهى أنهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، ويفرحون بما أتوا ، وبين سوء عاقبتهم بسبب تلك الأخلاق القبيحة فقال : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .والخطاب فى قوله { لاَ تَحْسَبَنَّ } موجه إلى النبى صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له الخطاب .والنهى موجه إلى حسبان أن يكون فى هؤلاء الأشرار خير .أى أن الله تعالى ، ينهى نبيه صلى الله عليه وسلم ، نهيا مؤكدا عن أن يظن خيرا فى هؤلاء الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا .و " المفازة " مصدر ميمى بمعنى الفوز . وقيل هى اسم مكان أى محل فوز ونجاة .والمعنى : لا تظن يا محمد أن هؤلاء الأشرار { الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } أى يفرحون بما فعلوا من بيعهم الدين بالدنيا واستبدالهم الذى هو أدنى بالذى هو خير ، والذين { يُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } أي يحبون أن يمدحهم الناس على ما لم يفعلوه من الوفاء بالعهود ، ومن إظهار الحق وعدم كتمانه ، فإنهم فعلوا الشرور والآثام . ثم لم يحاولوا أن يستروا ما اقترفوه من آثام ، بل يطلبون من الناس أن يمدحوهم على ما ارتكبوه من منكرات ، فهم ممن قال الله فيهم { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } لا تحسبن هؤلاء الأشرار { بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب } أى بمنجاة منه ، بل لهم عذاب مؤلم أشد الإيلام بسبب ما اجترحوه من سيئات .وقوله { الذين يَفْرَحُونَ } هو المفعول الأول لتحسب ، والمفعول الثانى محذوف والتقدير : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا موفقين . أو مهتدين ، أو صالحين .وحذف هذا المفعول الثانى لدلالة ما بعده عليه وهو قوله { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } ولتذهب النفس كل مذهب فيما يتناسب مع الوصف الذى وصفهم به - سبحانه - ، وهو أنهم يفعلون القبيح ويحبون أن يحمدهم الناس عليه .وقوله { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب } بيان لسوء عاقبتهم بسبب أفعالهم السيئة وهو تأكيد لقوله { لاَ تَحْسَبَنَّ } .قال الزجاج : جرت عادة العرب أنهم إذا طالت القصة أو الكلام أعادوا لفظ حسب وما أشبهه ، للإعلام بأن الذى جرى متصل بالكلام الأول والأول متصل به . فتقول . لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا فلا تظنه صادقا . فيفيد " لا تظنن " توكيدا وتوضيحا .والتعبير عن النجاة من العذاب الأليم ، ولكنهم لن ينجوا منه أبدا ، ولذا أكد - سبحانه - عدم نجاتهم بقوله { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .فذكر - سبحانه - عذابهم الأليم بالسلب والإيجاب ، فنفى أولا أنهم بمنجاة منه ، وأخبر ثانيا أنهم واقعون فيه .هذا ، وقد ذكر كثير من العلماء أن هذه الآية الكريمة نزلت فى شان أحبار اليهود فقد روى الشيخان والترمذى والنسائي ، وغيرهم عن حميد بن عبد الرحمن ابن عوف أن مروان قال لبوابه رافع : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له لئن كان كل امرىء منا فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذ بن جميعا .فقال ابن عباس : مالكم وهذه ، وإنما نزلت هذه فى أهل الكتاب ثم تلا ابن عباس : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } إلى قوله { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقال ابن عباس : " سألهم النبى صلى الله عليه وسلم عن شىء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، ثم خرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه " .وذكر بعض العلماء أن هذه الآية نزلت فى شأن المنافقين ، فقد روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو ، اعتذروا إليه وحلفوا وأحبو أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزت ، { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ } .قال العلماء : ولا منافاة بين الروايتين ، لأن الآية عامة فى جميع ما ذكر . وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد حدثتنا عن جملة من رذائل أهل الكتاب ، فقد حكت قولهم { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } وحكت قولهم { أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار } ووصفتهم بكتمان الحق ونبذه وراء ظهورهم ، كما وصفتهم بأنهم يفرحون بما أتوا وييحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، وردت على أكاذيبهم بما يدحضها وأنذرتهم بسوء مصيرهم ، وساقت للمؤمنين من ألوان التسلية ما يخفف عنهم مصابهم ، ويجعلهم يسيرون فى هذه الحياة بعزم ثابت ، وهمة عالية ، ونفس مطمئنة .ثم ختم - سبحانه - سورة آل عمران بالحديث عن مظاهر قدرته ، وأدلة وحدانيته ، وبشر أصحاب العقول السليمة - الذين يعتبرون ويتعظون ويتفكرون ويكثرون من ذكره - برضوانه وجنته ، وأمر عباده بألا يغتروا بما عليه الكافرون من سلطان وجاه فإنه - سبحانه - قد جعل العاقبة للمتقين ، كما أمرهم بالصبر والمصابرة والمرابطة ومداومة خشيته فقال - تعالى - : { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات . . . } .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
📘 قوله - تعالى - { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أى له وحده - سبحانه - ملك السموات والأرض بما فيهما ، فهو وحده صاحب السلطان القاهر فى هذا العالم يتصرف فيه كيفما يشاء ويختار : إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، وتعذيبا وإثابة ، وهو - سبحانه - على كل شى قدير ، لا يعجزه أمر ، ولا يدفع عقابه دافع ، ولا يمنع عقابه مانع ، فعليكم أيها الناس أن تطيعوه وأن تحذروا غضبه ونقمته .
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
📘 وقوله { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى . وأصل الدين فى اللغة الجزاء والحساب . يقال دنته بما صنع أى جازيته على صنيعه ، ومنه قولهم : كما تدين تدان أى ، كما تفعل تجازى ، وفي الحديث " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " والمراد به هنا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه من عقائد وتكاليف وتشريعات ، فيكون بمعنى الملة والشرع .أى : إن الشريعة المرضية عند الله - تعالى - هى الإسلام ، والإسلام في اللغة هو الاستسلام والانقياد يقال : أسلم أى انقاد واستسلم . وأسلم أمره لله سلمه إليه والمراد به هنا - كما قال ابن جرير : " شهادة أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، وهو دين الله الذى شرعه لنفسه وبعث به رسله ، ودل عليه أولياءه ، لا يقبل غيره ولا يجزى بالإحسان إلا به " وهو الدين الحنيف الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .وقال ابن كثير : وقوله - تعالى - { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } إخبار منه تعالى - بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام ، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لقى الله تعالى - بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال - تعالى - { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ } الآية . وقال في هذه الآية مخبراً بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام } وقوله : { عِندَ الله } ظرف العامل فيه لفظ الدين لما تضمنه من معنى الفعل ، أى الذى شرع عند الله الإسلام . ويصح أن يكون صفى للدين فيكون متعلقا بمحذوف أى الكائن أو الثابت عند الله الإسلام . وفى إضافة الدين إلى الله - تعالى - بقوله { عِندَ الله } وباعتبار الإسلام وحده ، هو دين الله ، كما يدل على ذلك تعريف الطرفين ، إشعار بفضل الإسلام ، لأن له ذلك الشرف الإضافى إلى خالق هذا الكون ومربيه ، فهو دين الله الذى شرعه لخلقه .ثم بين - سبحانه - أن اختلاف أهل الكتاب في شأن الدين الحق لم يكن عن جهل منهم بالحقائق وإنما كان سببه البغى والحسد وطلب الدنيا فقال - تعالى - { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ } .أى : وما كان خلاف الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى فيما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من بعد أن علموا بأن ما جاءهم به هو الحق الذي لا باطل معه ، فخلافهم لم يكن عن جهل منهم بأن ما جاءهم به هو الحق وإنما كان سبه البغى والحسد والظلم فيما بينهم .وفي التعبير عنهم بأنهم { أُوتُواْ الكتاب } زيادة تقبيح لهم؛ فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح وأفحش ، إذ الكتاب ما نزل إلا لهدايتهم ، وسعادتهم فإذا تركوا بشاراته وتوجيهاته واتبعوا أهواءهم كان فعلهم هذا أشد قبحا وفحشا .وقوله { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } زيادة أخرى في تقبيح أفعالهم ، فإن الاختلاف بعد مجىء العلم أزيد في القبح والعناد .والاستثناء من أعم الأحوال أو الأوقات ، أى وما اختلفوا في حال من الأحوال أو فى وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا الحق ، والعلم بالحق وحده لا يكفي في الإيمان به ، ولكنه يحتاج إلى جانب ذلك إلى قلب مخلص متفتح لطلبه ، وكم من أناس يعرفون الحق معرفة تامة ولكنهم يحاربونه ويحاربون أهله ، لأنهم يرون أن هذا الحق يتعارض مع أهوائهم وشهواتهم وصدق الله إذ يقول . { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فهم قد اختلفوا في الحق مع عملهم بأنه حق ، لأن العلم كالمطر ، لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة النقية ، وكذلك لايستفيد من العلم إلا أصحاب النفوس الصافية ، والقلوب الواعية ، والأفئدة المستقيمة .وقوله { بَغْياً بَيْنَهُمْ } مفعول لأجله ، والعامل فيه اختلف أى وما اختلفوا إلا للبغى لا لغيره قال القرطبي : " وفي الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى ، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم " .ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التهديد الشديد فقال : { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } . أى : ومن يكفر بآيات الله الدالة على وحدانيته - سبحانه - فإن الله محص عليه أعماله في الدنيا وسيعاقبه بما يستحقه في الآخرة .فقوله { فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } قائم مقام جواب الشرط وعلة له ، أى : ومن يكفر بآيات الله فإنه - سبحانه - محاسبه ومعاقبه والله سريع الحساب .وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب ، وعلى العلم الكامل والقدرة التامة فهو - سبحانه - لا يحتاج إى فحص وبحث ، لأنه لا تخفى عليه خافية .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ
📘 وبعد أن بين - سبحانه - أن ملك السموات والأرض بقبضته ، أشار - سبحانه - إلى ما فيهما من عبر وعظات فقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } .أى : إن فى إيجاد السموات والأرض على هذا النحو البديع ، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب وبحار وزروع وأشجار . . . وفى إيجاد الليل والنهار على تلك الحالة المتعاقبة ، وفى اختلافهما طولا وقصرا . . فى كل ذلك لأمارات واضحة ، وأدلة ساطعة ، لأصحاب العقول السليمة على وحدانية الله - تعالى - وعظيم قدرته ، وباهر حكمته .وصدرت الجملة الكريمة بحرف " إن " للاهتمام بالخبر ، وللاعتناء بتحقيق مضمون الجملة .أى إن فى إيجاد السموات والأرض وإنشائهما على ما هما عليه من العجائب ، وما اشتملتا عليه من البدائع ، وفى اختلاف الليل والنهار . . . إن فى كل ذلك من العبر والعظات ما يحمل كل عاقل على الاعتراف بوحدانية الله ، وكمال قدرته وحكمته .والمراد بأولى الألباب : أصحاب العقول السليمة ، والأفكار المستقيمة ، لأن لب الشىء هو خلاصته وصفوته .ولقد قال الزمخشرى فى صفة أولى الألباب : " هم الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار ، ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطرة . وفى الحكم : املأ عينيك من زينة هذه الكواكب ، وأجلهما فى جملة هذه العجائب متفكرا فى قدرة مقدرها ، متدبرا فى حكمة مدبرها قبل أن يسافر بك القدر ، ويحال بينك وبين النظر " .هذا ، وقد أورد المفسرون كثيرا من الآثار فى فضل هذه الآيات العشر التى اختتمت بها سورة آل عمران ، ومن ذلك قول ابن كثير - رحمه الله - :وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده فقد روى البخارى - رحمه الله - عنابن عباس - رضى الله عنهما - قال : بت عند خالتى ميمونة ، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد : فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } . . . الآيات .ثم قام فتوضأ واستن ، ثم صلى إحدى عشرة ركعة ، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح .وروى مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعد ما مضى شطر من الليل فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } إلى آخر السورة .ثم قال : " اللهم اجعل فى قلبى نوراً ، وفى سمعى نوراً ، وفى بصرى نوراً ، وعن يمينى نوراً ، وعن شمالى نوراً ، ومن بين يدى نوراً ، ومن خلفى نوراً ، ومن فوقى نوراً ، ومن تحتى نوراً . وأعظم لى نوراً يوم القيامة " .وروى ابن مردويه عن عطاء قال : " انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة - رضى الله عنها - فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب فقال لها ابن عمر : أخبرينا بأعجب ما رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فبكت وقالت : كل أمره كان عجبا!! أتانى فى ليلتى حتى مسَّ جلده جلدى ثم قال : يا عائشة : ذرينى أتعبد لربى - عز وجل - قالت : فقلت والله أنى لأحب قربك وإنى أحب أن تعبد ربك .فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلى فبكى حتى بل لحيته ، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ، ثم اضطجع على جنبه فبكى . ثم إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت : فقال : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : ويحك يا بلال!! وما يمنعنى أن أبكى وقد أنزل الله على هذه الليلة : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } إلخ الآيات .ثم قال : ويل لمن يقرأها ولم يتفكر فيها " .
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
📘 ثم وصف - سبحانه - أولى الألباب بصفات كريمة فقال : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } .فقوله { الذين يَذْكُرُونَ } إلخ . فى موضع جر على أنه نعت لأولى الألباب . ويجوز أن يكون فى موضع رفع أو نصب على المدح .أى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } لآيات واضحات على وحدانية الله وقدرته ، لأصحاب العقول السليمة ، الذين من صفاتهم أنهم { يَذْكُرُونَ الله } أى يستحضرون عظمته فى قلوبهم ، ويكثرون من تسبيحه وتمجيده بألسنتهم ، ويداومون على ذلك فى جميع أحوالهم . فهم يذكرونه قائمين ، ويذكرونه قاعدين . ويذكرونه وهم على جنوبهم فالمراد بقوله { قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } أن ذكرهم الله - تعالى - بقلوبهم وألسنتهم يستغرق عامة أحوالهم " .وقوله { قِيَاماً وَقُعُوداً } منصوبان على الحالية من ضمير الفاعل فى قوله : { يَذْكُرُونَ } .وقوله { وعلى جُنُوبِهِمْ } متعلق بمحذوف معطوف على الحال أى : وكائنين على جنوبهم أيى مضطجعين .ثم وصفهم سبحانه وتعالى بوصف آخر فقال : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } أى أن من صفات هؤلاء العباد أصحاب العقول السليمة أنهم يكثرون من ذكر الله - تعالى - ، ولا يكتفون بذلك ، بل يضيفون إلى هذا الذكر والتدبر والتفكر فى هذا الكون وما فيه من جمال الصنعة ، وبديع المخلوقات ، ليصلوا من رواء ذلك إلى الإيمان العميق ، والإذعان التام ، والاعتراف الكامل بواحدانية الله .وعظيم قدرته . . .فإن من شأن الأخيار من الناس أنهم يتفكرون فى مخلوقات الله وما فيها من عجائب المصنوعات ، وغرائب المبتدعات ، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع - سبحانه - ، فيعلموا أن لهذا الكون قادراً مدبراً حكيما ، لأن عظم آثاره وأفعاله ، تدل على عظم خالقها .ولقد ذكر العلماء كثيرا من الأقوال التى تحض على التفكير السليم ، وعلى التدبر فى عجائب صنع الله ، ومن ذلك قول سليمان الدارانى : " إنى أخرج من بيتى فما يقع بصرى على شىء إلا رأيت لله على فيه نعمة ، ولى فيه عبرة " ، وقال الحسن البصرى : " تفكر ساعة خير من قيام ليلة " .وقال الفخر الرازى : دلائل التوحيد محصورة فى قسمين : دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس . ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم ، كما قال - تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنه فى هذه الآية بالفكر فى خلق السموات والأرض ، لأن دلالتها أعجب . وشواهدها أعظم " .وقد وبخ - سبحانه - الذين يرون العبر فلا يعتبرون ، وتمر أمامهم العظات فلا يتعظون ولا يتفكرون فقال - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } ثم حكى - سبحانه - ثمرات ذكرهم لله وتفكرهم فى خلقه فقال : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .أى أنهم بعد أن أذعنت قلوبهم للحق ، ونطقت ألسنتهم بالقول الحسن ، وتفكرت عقولهم فى بدائع صنع الله تفكيرا سليما ، استشعروا عظمة الله استشعاراً ملك عليهم جوراحهم ، فرفعوا أكف الضراعة إلى الله بقولهم :يا ربنا إنك ما خلقت هذا الخلق البديع العظيم الشأن عبثاً ، أو عاريا من الحكمة . أو خالياً من المصلحة ، { سُبْحَانَكَ } أى ننزهك تنزيها تاما عن كل ما لا يليق بك { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أى فوفقنا للعمل بما يرضيك ، وأبعدنا عن عذاب النار .وقوله { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } إلخ جملة واقعة موقع الحال على تقدير قوله أى يتفكرون قائلين ربنا . لأن هذا الكلام اريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء .وقوله : باطلا صفة لمصدر محذوف أى خلقاً باطلاً ، أو حال من المفعول والمعنى يا ربنا ما خلقت هذا المخلوق العظيم الشأن عاريا عن الحكمة ، خالياً من المصلحة ، بل خلقته مشتملا على حكم جليلة ، منتظما لمصالح عظيمة .وكان نداؤهم لخالقهم - عز وجل - بلفظ { رَبَّنَآ } اعترافا منهم بأنه هو مربيهم وخالقهم فمن حقه عليهم أن يفردوه بالعبادة والخضوع .وسبحان اسم مصدر بمعنى التسبيح أى التنزيه ، وهو مفعول بفعل مضمر لا يكاد يستعمل معه أى ، تنزهت ذاتك وتقدست عن كل ما لا يليق ، وجىء بفاء التعقيب فى حكاية قولهم { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } لأنه ترتب على اعتقادهم بأنه سبحانه - لم يخلق هذا عبثاً - أن هناك ثواباً وعقاباً ، فسألوا الله - تعالى - أن يجعلهم من أهل الجنة لا من أهل النار .
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
📘 وقوله - تعالى - حكاية عنهم { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } فى مقام التعليل لضراعتهم بأن يبعدهم عن النار .أى : أبعدنا يا ربنا عن عذاب النار ، فإن من تدخله النار تكون قد أخزيته أى أهنته وفضحته على رءوس الأشهاد .والخزى : مصدر خزى يخزى بمعنى ذل وهان بمرأى من الناس . وفى هذا التعليل مبالغة فى تعظيم أمر العقاب بالنار ، وإلحاح فى طلب النجاة منها ، لأن من سأل ربه حاجة ، إذا شرح عظمها وقوتها ، كان رجاؤه فى القبول أشد ، وإخلاصه أتم ، وعوده بالعطاء أقوى .وقوله { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أى ليس لهم ناصر ينصرهم من عقاب الله - تعالى - أو يخلصهم مما وقعوا فيه من بلاء .و " من " للدلالة على استغراق النفى ، أى لا ناصر لهم ايا كان هذا الناصر ، وفى ذلك إشارة إلى انفراد الله - تعالى - بالسلطان ونفاذ الإرادة .
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ
📘 ثم حكى - سبحانه - لوناً آخر من ألوان ضراعتهم يدل على قوة إيمانهم فقال - تعالى - { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } .أى أنهم يقولون على سبيل الضراعة والخضوع لله رب العالمين : يا ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى أى داعياً يدعو إلى الإيمان وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فاستجبنا لدعوته ، وآمنا بما دعانا إليه بدون تردد أو تسويف .وفى وصفه صلى الله عليه وسلم بالمنادى ، دلالة على كمال اعتنائه بشأن دعوته التى يدعو إليها ، وأنه حريض على تبليغها للناس تبليغا تاما .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فأى فائدة فى الجمع بين " المنادى " و { يُنَادِي } ؟ قلت : ذكر النداء مطلقا ، ثم مقيداً بالإيمان ، تفخيما لشأن المنادى؛ لأنه لا منادى أعظم من مناد ينادى للإيمان . ونحوه قولك : مررت بهاد يهدى للإسلام . وذلك أن النمادى إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحر ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض النوازل ، أو لبعض المنافع . وكذلك الهادى قد يطلق على من يهدى للطريق ويهدى لسداد الرأى وغير ذلك .فإذا قلت : ينادى للإيمان . ويهدى للإسلام ، فقد رفعت من شأن المنادى والهادى وفخمته .و " أن " فى قوله { أَنْ آمِنُواْ } تفسيرية لما فى فعل { يُنَادِي } من معنى القول دون حروفه ، وجىء بفاء التعقيب فى قوله - تعالى - حكاية عنهم { فَآمَنَّا } ؛ للدلالة على المبادرة والسبق ، إلى الإيمان ، وأنهم قد أقبلوا على الداعى لى الله بسرعة وامتثال ، وفى ذلك دلالة على سلامة فطرتهم ، وبعدهم عن المكابرة والعناد .ثم حكى - سبحانه - مطلبهم فقال : { رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } .أى نسألك يا ربنا بعد أن آمنا بنبيك ، واستجبنا للحق الذى جاء به ، أن تغفر لنا ذنوبنا بأن تسترها وتعفو عنها ، وأن تكفر عنا سيئاتنا بأن تزيلها وتمحوها وتحولها إلى حسنات أو بأن تحشرنا مع الأبرار أى مع عبادك الصالحين المستقيمين الأخيار . إذ الأبرار جمع بار وهو الشخص الكثير الطاعة لخالقه - تعالى - .فأنت تراهم قد طلبوا من خالقهم ثلاثة أمور ، غفران الذنوب ، وتكفير السيئات ، والوفاة مع الأبرار الأخيار ، وهى مطالب تدل على قوة إيمانهم ، وصفاى نفوسهم ، وزهدهم فى متع الحياة الدنيا .وقد جمعوا فى طلبهم بين غفران الذنوب وتكفير السيئات ، لأن السيئة عصيان فيه إساءة ، والذنب عصيان فيه تقصير وتباطؤ عن فعل الخير ، والغفران والتكفير كلاهما فيه معنى التسر والتغطية ، إلا أن الغفران يضتمن معنى عدم العقاب ، والتكفير يتضمن ذهاب أثر السيئة .ومعنى وفاتهم مع الأبرار : أن يموتوا على حالة البر والطاعة وأن تلازمهم تلك الحالة إلى الممات ، وألا يحصل منهم ارتداد على أدبارهم ، بل يستمروا على الطاعة استمرارا تاما .وبذلك يكونو في صحبة الأبرار وفى جملتهم .
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ
📘 ثم حكى القرآن أنهم ترقوا فانتقلوا من طلب الغفران إلى طلب الثواب الجزيل ، والعطاء الحسن فقال - تعالى - حكاية عنهم { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } .أي نسألك يا ربنا أن تعطينا وتمنحنا بعد وفاتنا ، وحين قيامنا من قبورنا يوم القيامة ، ما وعدتنا به من ثواب فى مقابل تصديقنا لرسلك ، وطاعتنا لهم ، واستجابتنا لأوامرهم ونواهيهم { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } أى ولا تذلنا ولا تفضحنا يوم المحشر على رءوس الأشهاد { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } . أى أنك - سبحانك - لا تخلف وعدك الذى وعدته لعبادك الصالحين .فهم قد جعلوا هذا الدعاء وهو طلب الثواب الجزيل يوم القيامة ، ختاما لدعواتهم ، لشعورهم بهفواتهم وبتقصيرهم أمام فضل الله ونعمه .والمراد بقولهم { مَا وَعَدتَّنَا } الثواب والعطاء الكائن منه - سبحانه - و " ما " موصولة أى آتنا الذى وعدتنا به أو وعدتنا إياه .وقوله { على رُسُلِكَ } فيه مضاف محذوف أى آتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك من ثواب . أو آتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك والإيمان بهم من جزاء حسن .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف دعوا الله بإنجاز ما وعد والله لا يخلف الميعاد؟ .قلت : معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد ، أو هو من باب الملجأ إلى الله والخضوع له ، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، " يستغفرون مع علمهم بأنهم مغفور لهم ، يقصدون بذلك التذلل لربهم ، والتضرع إليه ، والملجأ الذى هو سيما العبودية " .تلك هى الدعوات الخاشعات التى حكاها - سبحانه - عن أصحاب العقول السليمة ، وهم يتضرعون بها إلى خالقهم - عز وجل - فماذا كانت نتيجتها؟
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ ۖ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ
📘 لقد كانت نتيجة دعواتهم ، أن أجاب الله لهم سؤالهم وحقق لهم مطالبهم فقال - تعالى - { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } !! .قال الحسن البصرى : " ما زالوا يقولون ربنا حتى استجاب لهم " .وقال جعفر الصادق : " من حزبه أمر فقال خمس مرات { رَبَّنَآ } أنجاه الله مما يخالف ، وأعطاه ما أراد ، قيل : وكيف ذلك؟ قال : اقرءوا أن شئتم قوله - تعالى - { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً } . . . إلخ فإن هؤلاء الأخيار قد نادوا ربهم خمس مرات فأجاب الله لهم دعاءهم .ودلت الفاء فى قوله { فاستجاب } على سرعة الإجابة ، لأن الفاء للتعقيب ، فهم لأنهم دعوا الله بقلب سليم ، أجاب الله لهم دعاءهم بدون إبطاء .واستجاب هنا بمعنى أجاب عند جمهور العلماء ، إن السين والتاء للتأكيد ، مثل استوقد واستخلص .وقال بعضه : إن استجاب أخص من أجاب ، لأن استجاب يقال لمن قبل ما دعى إليه ، وأجاب أعم فيقال لمن أجاب بالقبول وبالرد .والمعنى : أن الله - تعالى - قد بشر هؤلاء الأخيار برضاه عنهم ، بأن أخبرهم بأنه قد أجاب لهم دعاءهم ، وأنه - سبحانه - لا يضيع عمل عامل منهم ، بل سيجازيهم بالجزاء الأوفى ، وسيمنحهم من الثواب . فوق ما عملوا لأنه هو الكريم الوهاب ، ولن يفرق فى عطائه بين ذكر وأنثى ، لأن الذكر من الأثنى والأنثى من الذكر وقد خلقهم جميعا من نفس واحدة .وفى التعبير باللفظ السامى { رَبُّهُمْ } إشارة إلى أن الذى سيجزيهم هو خالقهم ومربيهم والمنعم عليهم ، والرحيم بهم .ومعنى { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ } لا أزيل ثواب عمل أى عامل منكم ، بل أكافئه عليه بما يستحقه ، وأعطيه من ثوابى ورحمتى ما يشرح صدره ، ويدخل البهجة والسرور على نفسه .وقوله { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } بيان لعامل ، وتأكيد عمومه ، أى لا اضيع عمل أى شخص عامل سواء أكان هذا العامل ذكراً أم أنثى .ومعنى { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر ، كلكم بنو آدم وهذه جملة معترضة مبينة لسبب شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده من أجر جزاء أعمالهم الصالحة .روى الترمذى عن أم سلمة قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله - تعالى - ذكر النساء فى الهجرة ، فأنز الله - تعالى - { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } .ثم بين - سبحانه - الأعمال الصالحة التى استحق بها هؤلاء الأبرار حسن الثواب منه - سبحانه - فقال : { فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } .أى فالذين هاجروا بأن تركوا أوطانهم التى أحبوها إلى أماكن أخرى من أجل إعلاء كلمة الله ، وأخرجوا من ديارهم ، فرارا بدينهم من ظلم ظالمين ، واعتداء المعتدين ، { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } أى تحملوا الأذى والاضطهاد فى سبيل الحق الذى آمنوا به { وَقَاتَلُواْ } أعداء الله { وَقُتِلُواْ } وهم يجاهدون من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل .هؤلاء الذين فعلوا كل ذلك ، وعدهم الله - تعالى - بالأجر العظيم فقال : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أى لأمحون عنهم ما ارتكبوه من سيئات ، ولأسترنها عليهم حتى تعتبر نسيا منسيا { وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى تجرى من تحت قصورها الأنهار التى فيها العسل المصفى ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين .وقوله { ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } أى لأثيبنهم ثوابا عظيما من عندى ، والله - تعالى - عنده حسن الجزاء لمن آمن وعمل صالحا .فأنت ترى أن الله - تعالى - قد منح هؤلاء الأخيرا ذلك الأجر الجزيل لأنهم قد هاجروا من الأرض التى أحبوها إلى غيرها من أجل إعلاء كلمة الله ، وأخرجوا منها مضطرين لا مختارين فرارا بدينهم ، ولقد ذكر المؤرخون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة مهاجرا التفت إليها وقال : " يا مكة والله لأنت أحب بلاد الله إلى ولولا أن قومك أخرجونى ما خرجت " .ولأنهم قد تحملوا ما تحملوا من الأذى فى سبيل الله ، ولأنهم قد جاهدوا أعداء الله وأعداءهم حتى استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله .وقوله { الذين هَاجَرُواْ } مبتدأ ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له ، والتفخيم لشأنه . وخبره قوله { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } .وقوله { وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } معطوف على { هَاجَرُواْ } . وجمع بينهما للإشعار بأنهم قد تركوا أوطانهم تارة باختيارهم ليبحثوا عن مكان أصلح لنماء دعوتهم ، وانتشار الحق الذى اعتنقوه ، وتارة بغير اختيارهم بل تركوها مجبرين ومضطرين بعد أن ألجأهم أعداؤهم إلى الخروج منها بسبب ما نالهم منهم من ظلم واعتداء .وقوله { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } معطوف على ما قبله . والمراد من الإيذاء ما هو أعم من أن يكون بالإخراج من الديار ، أو غير ذلك مما كان يصيب المؤمنين من جهة المشركين .وجمع - سبحانه - بين قوله { وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ } للإشارة إلى أن للقسمين ثوابا وأنهم لن يصيبهم إلا أحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة ، وقوله : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } جواب قسم محذوف ، أى والله لأكفرن عنهم سيئاتهم .وقدّم - سبحانه - تكفير سيئاتهم على إدخالهم الجنة ، لأن التخلية - كما يقولون - مقدمة على التحلية ، فهو أولا طهرهم من الذنوب والآثام ونقاهم منها ، ثم أدخلهم بعد ذلك جنته وأعطاهم فيها ما لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .وقوله { ثَوَاباً } مصدر مؤكد لما قبله ، لأن المعنى لأثيبنهم على ما عملوه ثوابا عظيما .وقوله { مِّن عِندِ الله } صفة لقوله { ثَوَاباً } وهو وصف مؤكد؛ لأن الثواب لا يكون إلا من عنده - تعالى - ، لكنه صرح به - سبحانه - تعظيما للثواب وتفخيما لشأنه .وقوله { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .وقد ختم - سبحانه - الآية بهذه الجملة الكريمة لبيان اختصاصه بالثواب الحسن كأن كل جزاء للأعمال فى الدنيا لا يعد حسنا بجوار ما أعده - سبحانه - فى الآخرة لعباده المتقين .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد دعت المؤمنين إلى الإكثار من ذكر الله وإلى التفكر السليم فى عجائب صنعه ، وساقت لنا ألوانا من الدعوات الطيبات الخاشعات التى تضرع بها الأخيار إلى خالقهم ، وبينت لنا الثواب الجزيل والعطاء العظيم الذى منحه الله لهم فى مقابل إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح ، فقد جرت سنته - سبحانه - أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وأنه لا يرد دعاء الأبرار من عباده .
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ
📘 وبعد أن بشر - سبحانه - عباده المؤمنين الصادقين بهذا الثواب الحسن ، نهاهم عن الاغترار بما عليه الكافرون من قوة وسطوة ومتاع دنيوى فقال - تعالى - { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } .يغرنك : من الغرور وهو الاطماع فى أمر محبوب على نية عدم وقوعه ، أو إظهار الأمر المضر فى صورة الأمر النافع ، وهو مشتق من الغرة بكسر الغين - وهى الغفلة - ويقال : رجل غر إذا كان ينخدع لمن خادعه .والتقلب فى البلاد : التصرف فيها على جهة السيطرة والغلبة ونفوذ الإرادة .والمتاع : الشىء الذى يتمتع الإنسان به لمدة معينة ، والمعنى : لا يصح أن يخدع أحد بما عليه الكافرون من تقلب فى البلاد ومن تصرفهم فيها تصرف الحاكم المسيطر عليها ، المستغل لثرواتها وخيراتها ، فإن تصرفهم هذا لن يستمر طويلا ، بل سيبقى مدة قليلة يتمتعون فيها بما بين أيديهم ثم يزول عنهم كل شىء وسوف يعودون إلى خالقهم فيعذبهم العذاب الأكبر على ظلمهم وبغيهم وكفرهم .والخطاب فى قوله { لاَ يَغُرَّنَّكَ } للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى له الخطاب ، وهو نهى للمؤمنين عن أن يغتروا بما عليه الكافرون من جاه ونفوذ وسلطان وغنى .وليس من مقتضى النهى أن يكون قد وقع النهى عنه فإن الإنسان قد ينهى عن شىء لم يقع منه لتحذيره من الوقوع فيه فى الحال أو المآل .ولذا روى عن قتادة أنه قال : " والله ما غروا نبى الله حتى قبضه الله إليه " .ولقد قال صاحب الكشاف فى الجواب على أن النهى موجه إلى النبى صلى الله عليه وسلم فإن قلت : كيف جاز أن يغتر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى ينهى عن الاغترار به؟ قلت : فيه وجهان :أحدهما : أن عظيم القوم ومتقدمهم يخاطب بشىء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا فكأنه قيل : لا يغرنكم .والثانى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد ما كان عليه وثبت ما كان على التزامه كقوله { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين }
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
📘 وقوله { مَتَاعٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى هو متاع وقوله { قَلِيلٌ } صفة لمتاع . ووصف بأنه قليل لقصر مدته ، ولكونه متعة فانية زائلة بخلاف ما أعده الله للمتقين من نعيم فى الآخرة فإنه دائم لا يزول .وجاء العطف { بثُمَّ } فى قوله { ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } للإشعار بالتفاوت الكبير بين حالهم فى الدنيا وما هم فيه من متاع زائل وبين ما سينالهم فى الآخرة من عذاب دائم لا ينقطع .أى أنهم يتمتعون بهذه المتع العاجلة لفترة قليلة { ثُمَّ مَأْوَاهُمْ } أى مكانهم الذى يأوون إليه ويستقرون فيه { جَهَنَّمُ } التى لا يحيط الوصف بشدة عذابها { وَبِئْسَ المهاد } أى بئس ما مهدوا لأنفسهم وفرشوا جهنم .وفيه إشارة إلى أن مصيرهم إلى جهنم هم الذين كانوا سببا فيه بكفرهم واستحبابهم العمى على الهدى .وفى هذا تعزية للمؤمنين وتسلية لهم عما يرونه من غنى وجاه وسلطان للمشركين وتحريض للأخيار على أن يجعلوا همهم الأكبر فى العمل الصالح الذى يوصلهم إلى رضوان الله الباقى ، ففى الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والله ما الدنيا فى الآخرة إلا مثل ما يجعل احدكم إصبعه فى اليم . فلينظر بم يرجع " .
لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ
📘 ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين إثر بيانه لسوء عاقبة الكافرين فقال : { لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } .وافتتحت الآية الكريمة بحرف " لكن " الذى معناه الاستدراك ، لأن مضمونها ضد الكلام الذى قبلها . ولكى تكون هناك مقابلة بين عاقبة المشركين الفجار وبين عاقبة المؤمنين الأخيار .والمعنى : هذا هو شأن الكافرين يتقلبون فى البلاد لفترة قصيرة من الزمان هيى مدة حياتهم فى هذه الدنيا الفانية ثم يتركون كل شىء عند موتهم ليلاقوا مصيرهم المحتوم وهو عذاب جهنم الذى لا ينقطع . . . لكن الذين اتقوا ربهم وخافوا مقامه ونهوا أنفسهم عن الهوى ليسوا كذلك فقد أعد الله لهم جنات تجرى من تحت قصورها وأشجارها الأنهار المليئة بأنواع المشارب الطيبة اللذيذة ، وهم خالدون فى تلك الجنات خلودا أبديا لا انقطاع له ولا زوال .. . فأين مصير أولئك ، الأشرار من مصير هؤلاء الأخيار؟فالآية الكريمة بيان لكمال حسن حال المؤمنين ، إثر بيان سوء عاقبة الكافرين .ثم قال - تعالى - { نُزُلاً مِّنْ عِندِ الله وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } .والنزل : ما يعد للنزيل والضيف لإكرامه والحفاوة به من طعام وشراب وغيرهما . وهو منصوب على أنه حال من " جنات " لتخصيصها بالوصف ، والعامل فيه ما فى الضرف من معنى الاستقرار .أى لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها حالة كون هذه الجنات منزلا مهيئاً لهم من عند الله - تعالى - على سبيل الإكرام لهم ، والتشريف لمنزلتهم .وقوله { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } أى ما عند الله من نعيم مقيم لعباده المتقين خير مما يتقلب فيه الكافرون من المتاع القليل الزائل .
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
📘 ثم بين - سبحانه - أن أهل الكتاب ليسوا سواء . بل منهم الأشرار ومنهم الأخيار ، وقد بين - سبحانه - هنا صفات الأخيرا منهم فقال : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } .أى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب } وهم اليهود والنصارى لفريقاً { يُؤْمِنُ بالله } إيمانا حقا منزها عن الإشراك بكل مظاهره ويؤمن بما { أُنزِلَ إِلَيْكُمْ } من القرآن الكريم على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بحقيقة " ما أنزل إليهم " من التوراة والإنجيل ولا يزالون مع هذا الإيمان العميق { خَاشِعِينَ للَّهِ } أى خاضعين له - سبحانه - خائفين من عقابه ، طالبين لرضاه { لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } أى لا يبيعون آيات الله أو حقيقة من حقائق دينهم فى نظير ثمن هو عرض من أعراض الدنيا الفانية ، لأن هذا الثمن المأخوذ قليل حتى ولو بلغ القناطير المقنطرة من الذهب والفضة .فأنت ترى أنه - سبحانه - قد وصفهم بخمس صفات كريمة تدل على صفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم ، وفى هذا إنصاف من القرآن الكريم للمهتدين من أهل الكتاب .وقد ذكر القرآن ما يشبه هذه الآية فى كثير من سوره ومن ذلك قوله - تعالى - { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } وقوله - تعالى - { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } وقدم - سبحانه - إيمانهم بالقرآن على إيمانهم بما أنزل عليهم لأن القرآن هو المهيمن على الكتب السماوية والأمين عليها ، فما وافقه منها فهو حق وما خالفه فهو باطل وقوله { خَاشِعِينَ للَّهِ } حال من فاعل { يُؤْمِنُ } وجمع حملا على المعنى :ثم بين - سبحانه - جزاءهم الطيب بعد بيان صفاتهم الكريمة فقال : { أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } .أى أولئك الموصفون بتلك الصفات الكريمة لهم أجرهم الجزيل فى مقابل أعمالهم الصالحة وأفعالهم الحميدة .وقوله { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } كناية عن كمال علمه بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق وأنه يوفيها لكل عامل على ما ينبغى وقدر ما ينبغى .ويجوز أن يكون كناية عن قرب إنجاز ما وعد من الأجر؛ فإن سرعة الحساب تستدعى سرعة الجزاء فكأنه قيل : لهم أجرهم عند ربهم عن قريب ، لأن الله - تعالى - سريع الحساب والجزاء .
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
📘 ثم وصف - سبحانه - ذاته بما يليق به من جلال وكمال فقال : { الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } .ولفظ الجلالة { الله } يقول بعض العلماء : إن أصله إله ، دخلت عليه أداة التعريف " ال " وحذفت الهمزة فصارت الكلمة الله .قال القرطبي : قوله { الله } هذا الاسم أكبر أسمائه - تعالى - وأجمعها حتى قال بعضهم : إنه اسم الله الأعظم ، ولم يتسم به غيره ، ولذلك لم يثن ولم يجمع ، فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الألوهية ، المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقى ، لا إله إلا هو سبحانه - .ولفظ " إله " قالوا : إنه من أله أى عبد ، فالإِله على هذا المعنى هو المعبود وقيل هو أله أى تحير . . وذلك لأن العبد إذا تفكر فى صفاته - تعالى - تحير فيها ، ولذا قيل : تفكروا فى آلاء الله ولا تتفكروا فى الله .و { الحي } أى : المتصف بالحياة التى لا بدء ولا فناء لها .و { القيوم } الدائم القيام بتدبير أمر الخلق وحفظهم ، المعطى لهم ما به قوام حياتهم ، وهو مبالغة فى القيام وأصله قيووم - بوزن فيعول - من قام بالأمر إذا حفظه ودبره .والمعنى : الله - تعالى - هو الإِله الحق المتفرد بالألوهية التى لا يشاركه فيها سواه . وهو المعبود الحق وكل معبود سواه فهو باطل ، وهو ذو الحياة الكاملة . وهو الدائم القيام بتدبير شئون الخلق وحياطتهم ورعايتهم وإحيائهم وإماتتهم .قال الآلوسى : ولفظ الجلالة " الله " مبتدأ وما بعده خبر . والجملة مستأنفة ، أى : هو المستحق للعبودية لا غيره . و { الحي القيوم } خبر بعد خبر ، أو خبر لمبتدأ محذوف أى : هو الحى القيوم . . وأياً ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاق العبودية به - سبحانه - وقد أخرج الطبرانى وابن مزدويه من حديث أبى أمامة مرفوعا أن اسم الله الأعظم فى ثلاث سور ، فى سورة البقرة ، وآل عمران ، وطه .
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ۖ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
📘 ثم لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد به على أهل الكتاب إذا ما جادلوه أو خاصموه ليحسم الأمر معهم ومع غيرهم من المشركين وليمضى فى طريقه الواضح المستقيم فقال - تعالى - { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } .وقوله { حَآجُّوكَ } من المحاجة وهى أن يتبادل المتجادلان الحجة ، بأن يقدم كل واحد حجته ويطلب من الآخر أن يرد عليها أو يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعم أنه الحق الذى لا شك فيه .والمعنى : فإن جادلك - يا محمد - أهل الكتاب ومن لف لفهم بالأقاويل المزورة والمغالطات الباطلة بعد أن قامت الحجج على صدقك . فلا تسر معهم في لجاجتهم ، ولا تلتفت إلى أكاذيبهم ، بل قل لهم { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } أى أخلصت عبادتى لله وحده ، وأطعته وانقدت له ، وكذلك من اتبعنى وآمن بى قد أسلم وجهه له وأخلص له العبادة .والمراد بالوجه هنا الذات ، وعبر بالوجه عن سائر الذات لأنه أشرف أعضاء الشخص ، ولأنه هو الذي تكون به المواجهة ، وهو مجمع محاسن الجسم فالتعبير به عن الجسم كله تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل .و { وَمَنِ } في قوله { وَمَنِ اتبعن } في محل رفع عطفا على الضمير المتصل في { أَسْلَمْتُ } أى أسلمت أنا ومن اتبعنى ، وجاء العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد لوجود الفاصل بينهما .وقوله { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ } عطف على الجملة الشرطية ، والمراد بالأميين الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب .والاستفهام فى قوله { أَأَسْلَمْتُمْ } للحض على أن يسلموا وجوههم لله ، ويتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم كما اتبعه المسلمون .والمعنى : فإن جادلوك في الدين - يا محمد - بعد أن تبين لكل عاقل صدقك ، فقل لهؤلاء المعاندين إني أسلمت وجهى لله وكذلك أتباعى أسلموا وجوههم لله ، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلموا تسلموا فقد تبين لكن أنى على حق ، ومن شأن العاقل أنه إذا تبين له الحق أن يدخل فيه وأن يترك العناد والمكابرة .قال صاحب الكشاف : وقوله { أَأَسْلَمْتُمْ } يعنى أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان طريقا إلا سلكته : هل فهمتها لا أم لك . ومنه قوله - تعالى - { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر . وفي هذا الاستفهام استقصار - أى عد المخاطب قاصرا - وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف في إذعانه للحق .ثم بين - سبحانه - ما يترتب على إسلامهم من نتائج ، وما يترتب على إعراضهم من شرور تعود عليهم فقال : { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ والله بَصِيرٌ بالعباد } .أى : فإن أسلموا وجوههم لله وصدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقد اهتدوا إلى طريق الحق ، لأن هذا الإسلام هو الدين الذى ارتضاه الله للناس وإن أعرضوا عن هذا الطريق المستقيم ، فإن إعراضهم لن يضرك - أيها الرسول الكريم - لأن الذى عليك إنما هو تبليغ الناس ما أمرك الله بتبليغه إياهم . وهو - سبحانه - بصير بخلقه لا تخفى عليه خافية من أقوالهم أو أفعالهم ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه .وعبر بالماضى فى قوله { فَقَدِ اهتدوا } مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى لهم وقوله { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } قائم مقام جواب الشرط أى وإن تولوا لا يضرك توليهم شيئا إذا ما عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه وأبلغه .وقوله { والله بَصِيرٌ بالعباد } تذييل فيه عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم عن كفرهم ، وإشارة إلى أحوالهم ، وإنذار بسوء مصيرهم ، لأنه - سبحانه - عليم بنفوس الناس جميعا وسيجازى كل إنسان بما يستحقه ، وفيه كذلك وعد للمؤمنين بحسن العاقبة ، وجزيل الثواب .قال ابن كثير : وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنة فى غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله - تعالى - { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } وقال - تعالى - { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بنى آدم من عربهم وعجمهم . كتابيهم وأميهم امتثالا لأمر الله له بذلك ، فعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذى نفسى بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة يهدى ولا نصرانى ومات ولم يؤمن بالذى أرسلت به إلا كان من أهل النار " .وقال صلى الله عليه وسلم " بعثت إلى الأحمر والأسود " وقال : " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " وعن أنس - رضى الله عنه - أن غلاما يهوديا كان يضع للنبى صلى الله عليه وسلم وضوءه ويناوله نعليه فمرض . فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه ، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : " يا فلان قل لا إله إلا الله ، فنظر إلى أبيه فسكت أبوه فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم القول . فنظر إلى أبيه ، فقال له أبوه أطع أبا القاسم . فقال الغلام أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . فخرج النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذى أخرجه بى من النار "رواه البخاري في الصحيح . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث .وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد بينت للناس في كل زمان ومكان أن دين الإسلام هو الدين الحق الذى ارتضاه الله لعباده وشهد بذلك خالق هذا الكون - عز وجل - وكفى بشهادته شهادة كما شهد بذلك الملائكة المقربون والعلماء المخلصون . كما بينت أن كثيرا من الذين أوتوا الكتاب يعلمون هذه الحقيقة ولكنهم يكتمونها ظلما وبغيا ، كما بينت - أيضاً - أن الذين يدخلون فى هذا الدين يكونون بدخولهم قد اهتدوا إلى الطريق القويم ، وأن الذين يعرضون عنه سيعاقبون بما يستحقونه بسبب هذا الإعراض عن الحق المبين .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
📘 ثم ختم - سبحانه - السورة الاكريمة بنداء جامع للمؤمنين ، دعاهم فيه إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى فقال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .والصبر معناه : حبس النفس عن أهوائها وشهواتها وترويضها على تحمل المكره وتعويدها على أداء الطاعات .والمصابرة : هى المغالبة بالصبر : بأن يكون المؤمن أشد صبراً من عدوه .ورابطوا : من المرابطة وهى القيام على الثغور الإسلامية لحمياتها من الأعداء ، فهى استعداد ودفاع وحماية لديار الإسلام من مهاجمة الأعداء .والمعنى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا } على طاعة الله وعلى تحمل المكاره والآلام برضا لا سخط معه؛ فإن الصبر جماع الفضائل وأساس النجاح والظفر .و { وَصَابِرُواْ } أى قابلوا صبر أعدائكم بصبر أشد منه وأقوى في كل موطن من المواطن التى تستلزم الصبر وتقتضيه .قال صاحب الكشاف : { وَصَابِرُواْ } أعداء الله فى الجهاد ، أى غالبوهم فى الصبر على شدائد الحرب ، ولا تكونوا أقل منهم صبراً وثباتاً فالمصابرة باب من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تخصيصاً لشدته وصعبوته " .و { وَرَابِطُواْ } أى أقيموا على مرابطة الغزو فى نحر العدو بالترصد له ، والاستعداد لمحاربته وكونوا دائما على حذر منه حتى لا يفاجئكم بما تكرهون .ولقد كان كثير من السلف الصالح يرابطون فى سبيل الله نصف العام ، ويطلبون قوتهم بالعمل فى النصف الآخر .ولقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث التى وردت فى فضل المرابطة من أجل حماية ديار الإسلام ، ومن ذلك ما رواه البخاري فى صحيحه عن سهل ابن سعد الساعدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما فيها " .وروى مسلم فى صحيحه عن سلمان الفارسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذى كان يعمله ، وأجرى عليه رزقه ، وأمن الفتان " .وبعضهم جعل المراد بالمرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة مستدلا بالحديث الذى رواه مسلم والنسائي عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة . فذلكم الرباط " .قال القرطبى : بعد أن ساق هذا الحديث - : " والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة فى سبيل الله - وأصلها من ربط الخيل ، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور المسلمين مرابطا فارسا كان أو راجلا . واللفظ مأخوذ من الرب . وقول النبى صلى الله عليه وسلم " فذلكم الرباط " إنما هو تشبيه بالرباط فى سبيل الله " .ومما يدل على أن المرابطة فى سبيل الله م أجل الديار الإسلامية من أفضل الأعمال وأن الصالحين الأخيار من المسلمين كانوا لا ينقطعون عنها ، مما يدل على ذلك ما كتبه عبد الله بن المبارك - وهو يرابط بطرسوس - إلى صديقه الفضيل بن عياض - وكان الفضيل معتكفا بالمسجد الحرام - كتب إليه عبد الله يقول :يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك فى العبادة تلعبمن كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضبأو كان يتعب خيله فى باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعبريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيبولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذبلا يستوى غبار خيل الله فى ... أنف امرىء ودخان نار تلهبهذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذبفلما قرأ الفضيل هذه الأبيات بكى وقال : صدق عبد الله .وقوله { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أى اتقوا الله بأن تصونوا أنفسكم عن محارمه وعن مخالفة أمره ، ورجاء أن يكتب لكم الفوز بالنصر فى الدنيا ، والثواب الحسن فى الآخرة .وبعد : فهذه سورة آل عمران ، وهذا تفسير مفصل لما اشتملت عليه من توجيهات نافعة وعظات بليغة ، وآداب عالية وتشريعات سامية و تربية رشيدة وعبادات قويمة وحجج تثبت الحق وتدحض الباطل .والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ونافعا لعباده .والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
📘 ثم انتقل القرآن إلى سرد بعض الرذائل التى عرف بها اليهود وعرف بها أسلافهم ، وبين سوء مصيرهم ومصير كل من يفعل فعلهم فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ . . } .أنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هؤلاء المارقين بصفات ينفر منها كل عاقل وصفهم أولا بأنهم : { يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } أى لا يكتفون بالكفر بالله - تعالى - ، بل يكفرون بالآيات المثبتة لوحدانيته ، وبالرسل الذين جاءوهم بالهدى والحق .ووصفهم ثانيا بأنهم { يَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ } وقتل النبيين بغير حق فعل معروف عن اليهود ، فهم الذين قتلوا زكريا - عليه السلام - لأنه حاول أن يخلص ابنه يحيى -عليه السلام - من القتل وقتلوا يحيى لأنه لم يوافقهم في أهوائهم وحاولوا قتل عيسى - عليه السلام - ولكن الله تعالى نجاه من مكرهم ، وقتلوا غيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .فإن قيل إن اليهود ما قتلوا كل الأنبياء فلم أخبر القرآن عنه أنهم يقتلون النبيين ولم يقل يقتلون بعض النبيين؟فالجواب أنهم بقتلهم لبعض النبيين فقد استهانوا بمقام النبوة ، ومن استهان بمقام النبوة بقتله لبعض الأنبياء فكأنه قد قتل الأنبياء جميعا ، ونظير هذا قوله - تعالى - : { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } وقيد القتل بأنه { بِغَيْرِ حَقٍّ } مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبداً ، للتصريح بموضع الاستنكار ، لأن موضع الاستنكار هو اعتداؤهم على الحق بقتلهم الأنبياء ، وللإشارة إلى أنهم لتوغلهم في الظلم والعدوان قد صاروا أعداء للحق لا يألفونه ولا تميل إليه نفوسهم ، وللتسجيل عليهم أن هذا القتل للأنبياء كان مخالفاً لما في شريعتهم فإنها قد نهتهم عن قتلهم ، بل عن مخالفتهم . فهذا القيد من باب الاحتجاج عليهم بما نهت عنه شريعتهم لتخليد مذمتهم في كل زمان ومكان .وقال - سبحانه - { بِغَيْرِ حَقٍّ } بصيغة التنكير ، لعموم النفى ، بحيث يتناول الحق الثابت ، والحق المزعوم ، أى أنهم لم يكونوا معذروين بأي لون من ألوان العذر في هذا الاعتداء فقد أقدموا على ما أقدموا عليه وهم يعلمون أنهم على الباطل ، فكان فعلهم هذا إجراما في بواعثه وفي حقيقته ، وأفظع أنواع الإجرام في موضوعه .وقوله { بِغَيْرِ حَقٍّ } في موضع الحال المؤكدة لمضمون جملة { يَقْتُلُونَ النبيين } إذ لا يكون قتل النبيين إلا كذلك .ووصفهم ثالثا بأنهم { وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس } .والقسط : العدل . يقال : قسَط يقسِط ويقسُط قِسطا ، وأقسط إقساطا إذا عدل .أى : لا يكتفون بقتل النبيين الذين جاءوا لهدايتهم وسعادتهم ، وإنما يقتلون مع ذلك الذين يأمرونهم بالعدل من مرشديهم ونصحائهم .وفي قوله { مِنَ الناس } إشارة غلى أنهم ليسوا بأنبياء ، بل من الناس غير المبعوثين .وفي قرنهم بالأنبياء ، وإثبات أن الاعتداء عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء ، إشارة إلى بيان علو منزلتهم ، وأنهم ورثتهم الذين يدعون بدعوتهم .وعبرعن جرائمهم بصيغة الفعل المضارع - يكفرون ويقتلون لاستحضار صورة أفعالهم الشنيعة في أذهان المخاطبين ، ولإفادة أن أفعالهم هذه متجددة كلما استطاعوا إليها سبيلا ، وللإشعار بأن اليهود المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم كانوا راضين بفعل آبائهم وأسلافهم ، ولقد حاول اليهود في العهد النبوى أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الله - تعالى - نجاه من شرورهم .هذا ، وقد وردت آثار متعددة تصرح بأن اليهود قد دأبوا على قتل الأنبياء والمصلحين ، ومن ذلك ما جاء عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال : " قلت يا رسول الله : أي الناس أشد عذابا يوم القيامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا ، أو قتل من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } الآية . ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة وسبعون رجلا منهم فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم " " .هذه بعض جرائمهم فماذا كانت نتيجتها؟ كانت نتيجتها العذاب الأليم الذى أخبرهم الله به في قوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .والجملة الكريمة خبر إن ، وجاز دخول الفاء على خبرها لتضمن اسمها وهو { الذين } معنى الشرط في العموم .وحقيقة التبشير : الإبخار بما يظهر سرور المخبر - بفتح الباء - على بشرة وجهه ، وهو هنا مستعمل فى ضد حقيقته على سبيل التهكم بهم ، وذلك لأن هؤلاء المعتدين مع أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه وأولياءه ، وفعلوا ما فعلوا من منكرات ، مع كل ذلك زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، فساق لهم القرآن ما يخبرهم به على سبيل الاستهزاء بعقولهم أن بشارتهم التى يرتقبونها بسبب كفرهم ودعواهم الباطلة هي : العذاب الأليم .واستعمال اللفظ في ضده عند علماء البيان من باب الاستعارة التهكمية ، لأن تشبيه الشىء بضده لا يروج في عقل العقلاء إلى على معنى التهكم والاستهزاء .
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
📘 ثم أخبر - سبحانه - بفساد أعمالهم في الدنيا والآخرة فقال : { أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة } .والحبوط - كما يقول الراغب - من الحبط ، وهو أن تكثر الدابة الأكل حتى تنتفخ بطنها ، وقد يؤدى إلى موتها .والمراد بحبوط أعمالهم إزالة آثارها النافعة من ثواب في الآخرة وحياة طيبة في الدنيا ، لأنهم عملوا ما عملوا وهم لا يرجون الله وقاراً .وجىء باسم الإشارة في صدر الآية ، لتمييز أصحاب تلك الأفعال القبيحة أكمل تمييز ، وللتنبيه على أنهم أحقاء بما سيخبر به عنهم بعد اسم الإشارة .وكانت الإشارة للبعيد ، للإيذان ببعدهم عن الطريق القويم ، والخلق المستقيم ، وقوله { أولئك } مبتدأ الموصول وصلته خبره .أى : أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة بطلت أعمالهم في الدنيا والآخرة ، وسقطت عن حيز الاعتبار ، وخلت عن الثمرة التي كانوا يؤملونها من ورائها ، بسبب إشراكهم بالله واعتدائهم على حرماته .وقوله { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } نفى لكل ما كانوا يتوهمونه من أسباب النصر ، وقد أكد هذا النفى بمن الزائدة .أى ليس لهم من أحد ينصرهم من بأس الله وعقابه ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، لأنهم بسبب كفرهم وأفعالهم القبيحة صاروا مستحقين للعقاب ، وليس هناك من يدفعه عنهم .فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصفهم بصفات ثلاث : بالكفر وقتل الأنبياء وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس .وتوعدهم - أيضاً - بثلاثة أنواع من العقوبات : بالعذاب الأليم ، وحبوط أعمالهم في الدنيا والآخرة ، وانتفاء من ينصرهم أو يدافع عنهم .وبذلك نرى الآيتين الكريمتين تسوقان أشد ألوان التهديد والوعيد لهؤلاء المعتدين ، بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ
📘 وبعد أن وصف القرآن هؤلاء المعاندين بالكفر وقتل الأنبياء والمصلحين وبين سوء مصيرهم ، أتبع ذلك ببيان رذيلة من أفحش رذائلهم وهى أنهم يدعون إلى التحاكم إلى الكتاب الذى يزعمون أنهم يؤمنون به ، فيمتنعون عن ذلك غرورا وعناداً ، استمع إلى القرآن وهو يصور أحوالهم السيئة فيقول : { أَلَمْ تَرَ . . . }أورد بعض المفسرين روايات في سبب نزول هذه الآيات : منها ، ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر أن اليهود جاءوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا . فقال لهم : " كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قولا : نحممها - أي نجعل على وجوههما الفحم تنكيلا بهما ، ونضربهما . فقال : ألا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا : لا نجد فيها شيئا . فقال لهم عبد الله بن سلام : كذبتم . فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين . فوضع مدراسها - الذى يدرسها منهم - كفه على آية الرجم فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ، ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن الرجم . فقال ما هذه؟ - أى أن عبد الله بن سلام رفع يد القارىء عن آية الرجم وقال له ما هذه - فلما رأى اليهود ذلك قالوا : هى آية الرجم ، فأمر بهما فرجما قريبا من حيث موضع الجنائز عند المسجد " .وقال ابن عباس : " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس على جماعة من يهود - أى دخل عليهم في المكان الذى يتدارسون فيه علومهم - فدعاهم إلى الله . فقال له بعضهم : على أى دين أنت يا محمد؟ فقال : إنى على ملة إبراهيم ودينه . فقالوا : فإن إبراهيم كان يهوديا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهلموا إلى التوراة هى بيننا وبينكم؛ فأبوا عليه فأنزل الله هذه الآيات " .وذكر النقاش أنها نزلت لأن جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقال لهم : " هلموا إلى التوراة ففيها صفتى " فأبوا " " .قال ابن جرير ما ملخصه : وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندى بالصواب أن يقال : إن الله - تعالى - قد أخبر عن طائفة من اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم دعوا إلى التوراة للتحاكم إليها في بعض ما تنازعوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا . ويجوز أن يكون هذا التنازع فى أمر نبوته ، أو فى أمر إبراهيم ودينه ، أو فى حد من الحدود فإن كل ذلك مما نازعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .وكأن ابن جرير - رحمه الله - يريد أن يقول : إن الآيات الكريمة تتسع لكل ما تنازعوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دعاهم إلى أن يحكم التوراة بينه وبينهم في شأن هذا التنازع أبوا وأعرضوا وهو رأى حسن .والاستفهام في قوله { أَلَمْ تَرَ } للتعجيب من شأنهم ومن سوء صنيعهم حيث دعوا إلى كتابهم ليحكم بينهم فامتنعوا عن ذلك لأنهم كانوا - كما يقول الألوسي - " إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن المحجة " ثم قال :و " من " إما للتبعيض وإما للبيان ، ومعنى " نصيب " هو الكتاب أو نصيبا منه ، لأن الوصول إلى كنه كلامه - سبحانه - متعذر " فإن جعل بيانا كان المراد إنزال الكتاب عليهم .وإن جعل تبعيضاً كان المراد هدايتهم إلى فهم ما فيه ، وعلى التقديرين اللام في " الكتاب " للعهد والمراد به التوارة " .والمعنى : قد علمت أيها العاقل حال أولئك الأحبار من اليهود الذين اعطوا قسطا من معرفة كتابهم والذين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التحاكم إلى التوراة التى هى كتابهم فيما حدث بينهم وبينه من نزاع فأبوا أن يستجيبوا لدعوته ، وأعرضوا عنها كما هو شأنهم ودأبهم في الإعراض عن الحق والصواب .وعرف المتحدث عنهم - وهم أحبار اليهود - بطريق الموصولية ، لأن في الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم ، لأن كونهم على علم من الكتاب قليل أو كثير من شأنه أن يصدهم عما أخبر به عنهم لو كانوا يعقلون .وجملة { يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله } مستأنفة مبينة لمحل التعجب ، أو حال من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب .والمراد بكتاب الله : التوراة ، لأن سبب النزول يؤيد ذلك ، لأن التعجيب من حالهم يكون أشد إذا كان إعراضهم إنما هو عن كتابهم . وقيل المراد به القرآن .وقوله { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } معطوف على قوله { يُدْعَوْنَ } وجاء العطف بثم للإشعار بالفارق الشاسع بين ما قاموا به من إعراض عن الحق ، وبين كان يجب عليهم أن يفعلوه . فإن علمهم بالكتاب كان يقتضى أن يتبعوه وأن يعملوا بأحكامه ، ولكنهم أبوا ذلك لفساد نفوسهم .وقوله { مِّنْهُمْ } جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لفريق .وإنما قال { فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } ليخرج القلى التي أسلمت من علماء اليهود كعبد الله بن سلام ، وهذا من إنصاف القرآن في أحكامه . واحتراسه في سوق الحقائق ، فهو لا يلقى الأحكام على الجميع جزافا ، وإنما يحدد هذه الأحكام بحيث يدين المتهم ، ويبرىء ساحة البرىء .وقوله { وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } حال من فريق ، أي ثم يتولى فريق منهم عن سماع الحق ، والانقياد لأحكامه ، وينفر منها نفورا شديداً ، والحال أنهم قوم ديدنهم الإعراض والانصراف عن الحق .
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۖ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - الأسباب التي صرفتهم عن الحق فقال : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } .واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى المذكور من توليهم وإعراضهم عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وعن سماعهم للحق الذى جاء به .والمس : اتصال أحد الشيئين بالآخر على وجه الإحساس والإصابة ، والمراد من النار : نار الآخرة .والمراد من المعدودات : المحصورات القليلات يقال شىء معدود : أى قليل وشىء غير معدود أى كثير .فهم يزعمون أن النار لن تمسهم إلا مدة يسيرة قد تكون سبعة أيام ، وقد تكون أربعين يوما ، وبعدها يخرجون إلى الجنة .عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن اليهود كانوا يقولون إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما في النار ، وإنما هي سبعة آيام . وفي رواية عنه أنه قال في قوله - تعالى - { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } ذلك أعداء الله اليهود ، قالوا : لن يدخلنا الله النار إلى تحلة القسم ، الأيام التي أصبنا فيها العجل أربعين يوما ، فإذا انقضت عنا تلك الأيام انقطع عنا العذاب والقسم .أى ذلك التولى والإعراض عن الحق الذى صدر عن كثير من أحبار اليهود وعوامهم سببه أنهم سهلوا على أنفسهم أمر العقاب ، وتوهموا أنهم لن يعذبواعذابا طويلا ، بل النار ستمسهم أياما قليلة ثم بعد ذلك يخرجون منها ، لأنهم أبناء الله واحباؤه ، ولأن آباءهم سيشفعون لهم في زعمهم .ثم قال - تعالى - { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } .وقوله { وَغَرَّهُمْ } من الغرور وهو كل ما يغر الإنسان ويخدعه من مال أو جاه أو شهوة أو غير ذلك من الأشياء التي تغر الإنسان وتخدعه وتجعله غافلا عن اتباع الحق .والمعنى : أنهم سهلوا على أنفسهم الخطوب ، ولم يبالوا بالمعاصي والذنوب ، وأنهم طمعوا في غير مطمع ، وأصاب موضع المغرة والغفلة منهم في دينهم كا كانوا يفترونه من أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات . والغرور أكبر شىء يبعد الإنسان عن حسن الاستعداد لما يجب عليه نحو دينه ودنياه .
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
📘 ثم حكى القرآن ما سيكون عليه حالهم من عذاب وحسرة بأسلوب مؤثر فقال : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .فالاستفهام هنا للاستعظام والتهويل والرد على مزاعمهم الباطلة .وكيف في موضع نصب على الحال ، والعامل فيه محذوف أى فكيف تكون حالهم ، أو كيف يصنعون . ويجوز أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف أى : فكيف حالهم .قال الفخر الرازى : أما قوله { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } فالمعنى أنه لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بين أنه سيجىءى يوم يزول فيه ذلك الجهل ، وينكشف فيه ذلك الغرور فقال : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } وفي الكلام حذف والتقدير : فكيف صورتهم وحالهم ، ويحذف الحال كثيراً مع كيف ، لدلالتها عليه تقول كنت أكرمه وهو لم يزرنى ، فكيف لو زارنى ، أى كيف حاله إذا زارنى . وأعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل : " لو زارني ، وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية " .والمعنى : فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم لجزاء يوم لا ريب فى مجيئه وحصوله ، واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي أدعوها في الدنيا { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } من خير أو شر { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } شيئاً ، بل يجازى كل إنسان على حسب عمله ، لا شك أنهم فى هذا اليوم الهائل الشديد سيفاجأون بذهاب غرورهم ، وبفساد تصورهم ، وأنهم سيقعون في العذاب الأليم الذى لا حيلة لهم في دفعه ، ولا مخلص فهم من ذوقه{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قال الزمخشري : " روى أن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود ، فيفضحهم الله على رءوس الأشهاد ، ثم يأمر بهم إلى النار " . وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد وبخت أحبار اليهود الذين يعرضون عن الحق توبيخاً شديداً ، وأبطلت أكاذيبهم وغرورهم ، وردت عليهم بما يفضحهم ويخزيهم ، وصورت حالهم يوم القيامة تصويراً مؤثراً هائلا تهتز له القلوب ، وترتجف منه الأفئدة ويحمل العقلاء على التزود من التقوى والعمل الصالح حتى يفوزوا برضا الله .من توجيهات القرآن الكريم : بعد أن تحدثت سورة آل عمران ، عن المعرضين عن الحق . أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم كما أمر كل مؤمن أن يتوجه إليه بالضراعة . فقال تعالى : { قُلِ اللهم . . . } .
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
📘 قال القرطبي : قال ابن عباس وأنس بن مالك : " لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، ووعد أمته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود : هيهات هيهات! من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك ، ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم . فأنزل الله هذه الآية .والأمر بقوله { قُلِ } للنبى صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى له الخطاب من المؤمنين .وكلمة { اللهم } يرى الخليل وسيبويه أن أصلها يا الله فلما استعملت دون حرف النداء الذى هو " يا " جعلوا هذه الميم المشددة التى فى آخرها عوضا عن حرف النداء ، وهذا التعويض من خصائص الاسم الجليل ، كما اختص بجواز الجمع فيه بين " يا " و " أل " وبقطع همزته ، ودخول تاء القسم عليه .والمعنى . قل أيها المخاطب على سبيل التعظيم لربك ، والشكر له ، والتوكل عليه والضراعة إليه ، قل : يا الله يا مالك الملك أنت وحدك صاحب السلطان المطلق في هذا الوجود ، بحيث تتصرف فيه كيف تشاء ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، وتعذيبا وإثابة ، من غير أن ينازعك في ذلك أي منازع .فكأن في هذه الجملة الكريمة { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك } دعاءين خاشعين :أما الدعاء الأول فهو بلفظ الجلالة المعبر عنه بقوله { اللهم } أى يا الله ، وفى هذا النداء كل معانى العبودية والتنزيه والتقديس والخضوع .وأما الدعاء الثاني فهو المعبر عنه بقوله { مَالِكَ الملك } أى يا مالك الملك ، وفى هذا النداء كل معانى الإحساس بالربوبية ، والضعف أمام قدرة الله وسلطانه .فقوله { مَالِكَ } منصوب بحرف النداء المحذوف . كما في قوله { قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض } أى يا فاطر السموات والأرض .ثم فصل - سبحانه - بعض مظاهر خلقه التي تدل على أنه هو مالك الملك على الحقيقة فقال - تعالى - { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } .أى أنت وحدك الذي تعطى الملك من تشاء إعطاءه من عبادك ، وتنزعه ممن تشاء ، نزعه منهم ، فأنت المتصرف في شئون خلقك لا راد لقضائك ولا معقب لحكمك .وعبر بالإيتاء الذى هو مجرد لإعطاء دون التمليك المؤذن بثبوت المالكية ، للتنبيه على أن المالكية على الحقيقة إنما هي مختصة بالله رب العالمين ، أما ما يعطيه لغيره من ملك فهو عارية مستردة ، وهو شىء زائل لا يدوم .والتعبير عن إزالة الملك بقوله { وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } يشعر بأنه - سبحانه - فى قدرته أن يسلب هذا العطاء من أى مخلوق مهما بلغت سعة ملكه ، ومهما اشتدت ، قوته ، وذلك لأن لفظ النزع يدل على أن المنزع منه الشىء كان متمسكا به ، فسلبه الله منه بمقتضى قدرته وحكمته .والمراد بالملك هنا السلطان ، وقيل النبوة ، وقيل غير ذلك .قال الفخر الرازي : وقوله { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة ، وملك العقل ، والصحة ، والأخلاق الحسنة . وملك النفاذ والقدرة ، وملك المحبة ، وملك الأموال ، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز " .ومفعول المشيئة في الجملتين محذوف أى : تؤتى الملك من تشاء إيتاءه وتنزعه ممن تشاء نزعه منه .أما الأمر الثاني الذي يدل على أنه - سبحانه - هو مالك الملك على الحقيقة فهو قوله { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } .العزة - كما يقول الراغب - حالة مانعة للإنسان من أن يغلب ، من قولهم : أرض عزاز : أى صلبة ، وتعزز اللحم : اشتد وعز ، كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه . . . . والعزيز الذى يقهر ولا يغلب .وتذل ، من الذل ، وهو ما كان عن قهر ، يقال : ذل يذل ذلا إذا قهر وغلب والعزة صفة نفسية يحس بها المؤمن الصادق في إيمانه ، لأنه يشعر دائما بأنه عبد الله وحده وليس عبدا لأحد سواه ، قال - تعالى - { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فالمؤمنون الصادقون أعزاء ولو كانوا في المال والجاه فقراء . أما الكافرون أذلاء ، لأنهم خضعوا لغير الله الواحد القهار .والمعنى : أنت يا الله يا ملك الملك ، أنت وحدك الذى تؤتى الملك لمن تشاء أن تؤتيه له ، وتنزعه ممن تريد نزعه منه ، وأنت وحدك الذي تعز من تشاء إعزازه بالنصر والتوفيق ، وتذل من تشاء إذلاله بالهزيمة والخذلان ، ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التسليم المطلق من المؤمنين لذته فقال - تعالى - : { بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .أى أنت وحدك الذى تملك الخير كله ، وتتصرف فيه حسب إرادتك ومشيئتك ، لأنك على كل شىء قدير .وأل في الخير للاستغراق الشامل ، إذ كل خير فهو بيده - سبحانه - وقدرته ، وتقديم الجار والمجرور { بِيَدِكَ } لإفادة الاختصاص ، أى بيدك وحدك على الحقيقة لا بيد غيرك ، وجملة " إنك على كل شيء قدير " تعليلية .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : " كيف قال { بِيَدِكَ الخير } فذكر الخير دون الشر؟ قلت : لأن الكلام إنما وقع في الخير الذى يسوقه إلى المؤمنين وهو الذى أنكرته الكفرة فقال بيدك الخير ، تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ، ولأن أفعال الله - تعالى - من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه " .
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
📘 ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا من مظاهر قدرته الباهرة فقال : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل } .الولوج في الأصل : الدخول ، والإيلاج الإدخال . يقال : ولج فلان منزله إذا دخله ، فهو يلجه ولجا وولوجا .وأولجته أنا إذا أدخلته ، ثم استعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب .أى أنت يا الله يا مالك الملك . أنت الذى بقدرتك تدخل طائفة من الليل في النهار فيقصر الليل ويزيد النهار وتدخل طائفة من النهار في الليل فيقصر النهار ويزيد الليل ، وأنت وحدك الذى بقدرتك أن تجعلهما متعاقبين بأن تأتى بالليل رويداً رويداً في أعقاب النهار ، وتأتي بالنهار شيئاً فشيئاً فى أعقاب الليل ، وفى كل ذلك دليل على سعة قدرتك ، وواسع رحمتك . وتذكير واعتبار لأولى الألباب .ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا آخر من مظاهر قدرته فقال : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } .قال الفخر الرازي : ذكر المفسرون فيه وجوها .أحدها : يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر ، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح .والثاني : يخرج الحيوان - وهو حى - من النطفة - وهي ميتة - ، والدجاجة - وهي حية - من البيضة أو العكس .والثالث : يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس والنخلة من النواة وبالعكس : ثم قال : والكلمة محتملة للكل : أما الكفر والإيمان فقال - تعالى - { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } يريد كان كافرا فهديناه ، فجعل الكفر موتاً والإيمان حياة ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء وجعل ما قبل ذلك ميتة فقال : { وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال : { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } وفى الحق : إن المتدبر فى هذا الكون وما يعترى سكانه من موت وحياة ليشهد ويذعن بأن لهذا الكون خالقا قادراً هو الله الواحد القهار .ثم ختم - سبحانه - مظاهر قدرته ورحمته بقوله { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } والرزق - كما يقول الراغب - يقال للعطاء الجارى تارة دنيوا كان أو أخرويا . وللنصيب تارة ، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة أخرى يقال : أعطى السلطان رزق الجند ، ورزقت علما ، قال - تعالى - : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت } أى : من المال والجاه والعلم " .أى أنت يا الله يا مالك الملك ، أنت وحدك الذى ترزق من تشاء أن ترزقه بغير حساب ، أى رزقا واسعا عظيما لأنك أنت صاحب الجود والكرم ، ولأنك ليس معك شريك فيحاسبك ، بل أنت المعطى بدون محاسب ، وبدون محاسبة من تعطيه ، ولأن خزائن ملكك لا ينقصها العطاء مهما كثر .ومن كانت هذه صفاته ، وتلك بعض مظاهر قدرته : من إيتاء الملك لمن يشاء ونزعه ممن يشاء وإيلاج الليل فى النهار والنهار فى الليل ، وإخراج الحى من الميت والميت من الحى ، كان من حقه أن يفرد بالعبادة والخضوع { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين }قال ابن كثير : روى الطبرانى عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اسم الله الأعظم الذى إذا دُعى به أجاب في هذه الآية : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } " .وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد وصفتا الخالق - عز وجل - بما هو أهله ، من قدرة تامة وسلطان نافذ ، ورحمة واسعة ، وهذا الوصف من شانه أن يحمل كل عاقل على إخلاص العبادة له - سبحانه - وعلى الاستجابة لكل ما أمر به أو نهى عنه رغبة في ثوابه ، ورهبة من عقابه . وبعد أن بين - سبحانه - أنه هو وحده مالك الملك ، وأنه على كل شىء قدير ، عقب ذلك بنهى المؤمنين عن موالاة أعدائه بسبب قرابة أو صداقة أو نحوهما ، فقال - تعالى- : { لاَّ يَتَّخِذِ . . . ) .
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
📘 أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات :منها أن جماعة من اليهود كانوا يصادقون جماعة من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة ابن المنذر ، وعبد الله بن جبير ، وسعيد بن خيشمة لأولئك النفر من الأنصار : اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا ملازمتهم وبماطنتهم لئلا يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية " .وقوله { أَوْلِيَآءَ } جمع ولى ، والولاء والتوالى - كما يقول الراغب : أن يحصل شيئان فصاعداً حصولا ليس بينهما ما ليس منهما ، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ، ومن حين النسبة ومن حين الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد .والولاية - بكسر الواو - النصرة والولاية - تولى الأمر ، وقيل هما بمعنى واحد " .و " لا " ناهية . والفعل " يتخذ " مجزوم بها ، وهو متعد لمفعولين :أولهما : { الكافرين } .وثانيهما : { أَوْلِيَآءَ } .والمعنى : لا يحل للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء ونصراء ، بل عليهم أن يراعوا ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين ، وأن يقدموها على ما بينهم وبين الكفار من قرابة أو صداقة أو غير ذلك من ألوان الصلات لأن في تقديم مصلحة الكافرين على مصلحة المؤمنين تقديما للكفر على الإيمان ومن شأن المؤمن الصادق في إيمانه أن لا يصدر منه ذلك .وقد ورد مثل هذا النهى فى كثير من الآيات ومن ذلك قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } وقوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } قال اللآلوسي : وقوله { مِن دُونِ المؤمنين } حال من الفاعل ، أى متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا ، ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والَوْا الكفار دون المؤمنين فهو لبيان الواقع . أو لأن ذكره للإشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون ، وفى موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار " .قالوا : والموالاة الممنوعة هي التي يكون فيها خذلان للدين أو إيذاء لأهله أو إضاعة لمصالحهم ، وأما ما عدا ذلك كالنجارة وغيرها من ضروب المعاملات الدنيوية فلا تدخل في ذلك النهي ، لأنها ليس معاملة فيها أذى للإسلام والمسلمين " .وكرر - سبحانه - لفظ " المؤمنين " بأداة التعريف أل للإشارة إلى أن الثاني هو عين الأول ، وفي ذلك إشعار بأن المؤمنين الذين يتخذون الكافرين أولياء ونصراء ، يتركون أنفسهم ويهملونها ويتخذون من عدونهم نهاية لها .ثم قال - تعالى - { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } أى : ومن يتخذ الكافرين أولياء وأنصارا من دون المؤمنين ، فإنه في هذه الحالة يكون بعيدا عن ولايته لله ، ومنسلخا منها رأسا وليس بينه وبين الله صلة تذكر .فاسم الإشاراة { ذلك } يعود على الاتخاذ المفهوم من الفعل يتخذ؟والتنوين في { شَيْءٍ } للتحقير أى ليس في شىء يصح أن يطلق عليه اسم الولاية ، لأن موالاة الولى وموالاة عدوه متنافيان كما قال الشاعر :تود عدوى ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عنك بعازبو " من " شرطية ، و { يَفْعَلْ } فعل الشرط ، وجوابه " فليس من الله في شىء " واسم ليس ضمير يعود على " من " وقوله { فِي شَيْءٍ } خبرها . أى فليس الموالى في شىء كائن من الله - تعالى - والجملة معترضى بين المستثى والمستثنى منه .وقال - سبحانه - { فَلَيْسَ مِنَ الله } ولم يقل " فليس من ولاية الله " للإشعار بأن من اختار مناصرة المشركين وموالاتهم فقد ترك ذات الله - تعالى - وكان مؤثرا لقوة الكفار على قوة العزيز الجبال ، فهو في هذه الحالة يعاند الله نفسه ، ثم استثنى - سبحانه - من أحوال النهى حال التقية فقال : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } وقوله : { تَتَّقُواْ } من الاتقاء بمعنى تجنب المكروه ، وعدى بمن لتضمينه معنى تخافوا { تُقَاةً } مصدر تقيته - كرميته - بمعنى اتقيته ووزنه فعلة ويجمع على تقى : كرطبة ورطب . وأصل تقاة : وقية من الوقاية . فأبدلت الواو المضمومة تاء والياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها .والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال ، والتقدير : لا تتخذوا أيها المؤمنون الكافرين أولياء في أى حال من الأحوال إلا في حال اتقائكم منهم أى إلا أن تخافوا منهم مخافة . أو إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه من الضرر في النفس أو المال أو العرض .كأن يكون الكفار غالبين ظاهرين . أو كنتم في قوم كفار فيرخص لكم في مداراتهم باللسان ، على ألا تنطوى قلوبكم على شىء من مودتهم ، بل دارونهم وأنتم لهم كارهون . وألا تعملوا ما هو محرم كشرب الخمر ، أو إطلاعهم على عورات المسلمين أو الانحياز إليهم في مجافاة بعض المسلمين ، وإذن فلا رخصة إلا في المداراة باللسان . ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التهديد الشديد حيث قال - تعالى - { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير } .والتحذير : هو التخويف لأجل الحذر واليقظة ، من أن يقع الإنسان في قول أو عمل منهى عنه .ونفسه : منصوب على نزع الخافض . والمصير : المرجع والمآب .أى : ويحذركم الله - تعالى - من نفسه أى من عقابه وانتقامه ، وإليه - سبحانه - مرجعكم ومصيركم فيحاسبكم على أعمالكم .وقوله { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } فيه ما فيه من التهديد والتخويف من موالاة الكافرين ، لأن التحذير من ذات الله ، يقتضى الخوف ووقع الرهبة في النفس من الذات العلية ، وذلك كما يقال : - والله المثل الأعلى - احذر الأسد ، فإن هذا القائل يريد أن ذات الأسد في كل أحوالها موهوبة ، ولأن كلمة " نفس " تقال لتأكيد التعبير عن الذات .أى أن التحذير قد جاءكم من الله - تعالى - لا من غيره فعليكم أن تمتثلوا أمره ، فإن إليه وحده المآل وانتهاء أمر العباد .وسيجازيهم على أعمالهم بما يستحقون فاحذروا التعرض لعقابه ، وقوله { وَإِلَيَّ المصير } تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه . هذا ، ولبعض العلماء كلام طويل عن التقية - وهى أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن مخافة الأذى الشديد - فقد قال الآلوسى ما ملخصه :" وفي الآية دليل على مشروعية التقية ، وعرفوها بالمحافظة على النفس أو العرض من شر الأعداء . .والعدو قسمان :الأول : من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم .والثاني : من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والإمارة ، ومن هنا صارت التقية قسمين :أما القسم الأول فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له فيه أن يظهر دينه لتعرض المخالفين له بالعداوة فإنه يجب عليه أن يهاجر من ذلك المكان إلى مكان يستطيع فيه أن يظهر دينه ، إلا إذا كان ممن لهم عذر شرعي كالنساء والصبيان والعجزة فقد قال تعالى : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً } وإذا كان التخويف بالقتل ونحوه جاز له المكث والموافقة لهم ظاهرا بقدر الضرورة مع السعى في حيلة للخروج والفرار بدينه .والموافقة لهم حينئذ رخصة ، وإظهار ما في قلبه عزيمة فلو مات مات شهيداً بدليل ما روى من أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : " أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، نعم ، نعم فقال له : أتشهد أنى رسول الله؟ قال : نعم . ثم دعا الثاني فقال له أتشهد أنى رسول الله؟ قال إني رسول الله؟ قال إنى أصم ، قالها ثلاثا ، فضرب عنقه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه فهنيئا له . وأما الآخر فقد قبل رخصة الله فلا تبعة عليه " .وأما القسم الثانى وهو من كانت عداواته بسبب المال والإمارة وما إلى ذلك ، فقد اختلف فى وجوي هجرة صاحبه ، فقال بعضهم تجب أن الله قد نهى عن إضاعة المال . وقال آخرون لا تجب ، لأنها لمصلحة دنيوية ولا يعود على من تركها نقصان في الدين .وعد قوم من باب التقية الجائزة مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم لكف أذاهم وصيانة العرض منهم - بشرط أن لا تكون هذه المدارة مخالفة لأصول الدين وتعاليمه - فإن كانت مخالفة لذلك فلا تجوز .روى البخارى عن عائشة قالت : " استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس أخو العشيرة ، ثم أذن له فألان له القول ، فقلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال : " يا عائشة إن من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه " إلى غير ذلك من الأحاديث . لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ، ويرتكب المنكر ، وتسىء الظنون " .ثم يبين - سبحانه - أنه عليم بالظواهر والبواطن ، وأمر بأن يكثروا من العمل الصالح الذى ينفعهم يوم القيامة ، وأن يلتزموا طاعة الله ورسوله لكى يسعدوا في دينهم ودنياهم ، وأن يراقبوا الله - تعالى - في أقوالهم وأعمالهم لأنه - سبحانه - لا تخفى عليه خافية فقال تعالى : { قُلْ إِن تُخْفُواْ . . . } .
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
📘 المعنى : قل يا محمد لهؤلاء الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، وقل لغيرهم ممن يوجه إليهم الخطاب ، قل لهم على سبيل الإرشاد والتحذير { إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } من ولاية الكفار أو غيرها من الأقوال والأفعال { يَعْلَمْهُ الله } فيجازيكم عليه بما تستحقون .وفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه هذا القول إلى المخاطبين ترهيب لهم من الآمر وهو الله - تعالى - لأن هذا التنويع في الخطاب من شأنه أن يربى المهابة في القلوب . وذلك - والله المثل الأعلى - كأن يقول الملك للمخالفين من رعيته : أحذركم من مخالفتى ، ثم يأمر أحد أصفيائه بأن يكرر هذا التحذير وأن يبين لهم سوء عاقبة المخالفين .وقوله { وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } جملة مستأنفة وليست معطوفة على جواب الشرط وهو { يَعْلَمْهُ الله } ، وذلك لأن علمه - سبحانه - بما في السموات والأرض ليس متوقفا على شرط فلذلك جىء به مستأنفا . وهذا من باب ذكر بالعام بعد الخاص وهو علم ما فى صدوركم تأكيدا له وتقريراً .وقوله { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل قصد به الإخبار بأنه مع علمه الواسع المحيط ، ذو قدرة نافذة على كل شىء وهذا لون من التهديد والتحذير لأن الذي يتوعد غيره بشىء لا يحول بينه وبين تحقيق هذا الشىء إلا أحد أمرين : الجهل بجريمة المجرم ، أو العجز عن تنفيذ وعيده ، فلما أعلمهم - سبحانه - بأن محيط بكل شىء وقادر على كل شىء ، ثبت أنه - سبحانه - متمكن من تنفيذ وعيده .قال صاحب الكشاف : " وقوله { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أى : هو قادر على عقوبتكم وهذا بيان لقوله { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } لأن نفسه وهى ذاته المميزة من سائر الذوات ، متصفة بعلم ذاتى لا يختص بمعلوم دون معلوم . فهى متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور ، فهى قادرة على المقدورات كلها فكان حقها أن تحذر وتتقى فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر عن واجب فإنه مطلع عليه لا محالة فلاحق به العقاب . ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله ، فوكل همه بما يورد ويصدر ، ونصب عليه عيونا ، وبث من يتجسس عن بواطن أموره : لأخذ حذره و تيقظ في أمره ، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به ، فما بال من علم أن العالم بالذات - يعنى أن علمه بذاته لا بعلم زائد عن ذاته كعلم الحوادث وهذا عند المعتزلة - الذى يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن . اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك " .
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
📘 وقال أبو أمامة : فالتمستها فوجدت فى البقرة { الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } وفى آل عمران { الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } وفى طه { وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم } وبعد أن بين - سبحانه - أنه هو وحده المستحق للعبودية ، أتبع ذلك ببيان بعض مظاهر فضله ورحمته فقال : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } والكتاب - كما يقول الراغب - فى الأصل مصدر ، ثم سمى المكتوب فيه كتاباً . والكتاب فى الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيه . والكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة ، وفى التعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط .والمراد بالكتاب المنزل : القرآن الكريم . وفى التعبير عنه باسم الجنس إيذان بتفوقه على بقية أفراد الكتب المنزلة ، فكأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح به التصريح باسمى التوراة والإِنجيل .وعبر بنزل - بصيغة التضعيف - للإِشارة إلى أن نزول القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم كان منجما ولم يكن دفعة واحدة ومن المعروف أن القرآن قد نزل على النبى صلى الله عليه وسلم على حسب الوقائع والحوادث وغيرها فى مدة تزيد على عشرين سنة .وقد ذكر العلماء حكما كثيرة لنزول القرآن منجما منها : تثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه ، ومنها : التدرج فى تربية قويمة سليمة ، ومنها : مسايرة الحوادث فى تجددها وتفرقها . ومنها تيسير حفظه وتسهيل فهمه ، ومنها : تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين ومنها : الإِجابة على أسئلة السائلين ، وبيان حكم الله - تعالى - فيما يحصل من قضايا ، ولفت أنظار المخطئين إلى ما وقعوا فيه من أخطاء ، وكشف حال الكافرين والمنافقين . منها : الإِرشاد إلى مصدر القرآن وأنه من عند الله - تعالى -{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } فأنت تقرأ ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من قرآن فى مكة . وما نزل عليه فى المدينة ، فترى الجميع محكم السرد . دقيق السبك ، رصين الأسلوب ، بليغ التراكيب ، فصيح الألفاظ . . بينما ترى كلام الأدباء والبلغاء يختلف فى جودته من وقت إلى وقت " ومن موضوع إلى موضوع " .وقد بين - سبحانه - أن هذا القرآن قد نزل مقترنا بأمرين متصلا بهما :أما أولهما فهو قوله : { بالحق } .وأما ثانيهما فهو قوله : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أى : أن الله - عز وجل - الذى لا إله إلا هو ، والذى هو الحى القيوم ، هو الذى نزل عليك يا محمد هذا القرآن تنزيلا ملتبسا بالحق ، ومصاحبا له ، ومقترنا به ، ومشتملا عليه ، فكل ما فيه من أوامر ، ونواه ، وقصص ، وأحكام ، وعقائد ، وآداب ، وشرائع وأخبار . . حق لا يحوم حوله باطل ، وصدق لا يتطرق إليه كذب .وهو الذى جعل هذا الكتاب المنزل عليك موافقا ومؤيداً لما اشتملت عليه الكتب السابقة من الدعوة إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق ، وإلى الوصايا والشرائع التى تسعد الناس فى كل زمان ومكان . وهذا يدل على أن الشرائع الإِلهية واحدة فى جوهرها وأصولها . قال - تعالى - : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } وقوله { بالحق } متعلق بمحذوف فيكون فى محل نصب على الحال من الكتاب . وقوله { مُصَدِّقاً } حال مؤكدة من الكتاب . أى نزله فى حال تصديقه الكتب .وفائدة تقييد التنزيل بهذه الحال حث أهل الكتاب على الإِيمان بالمنزل ، وتنبيههم على وجوبه؛ فإن الإِيمان بالمصدق يوجب الإِيمان بما يصدقه حتما .قال الجمل : وقوله { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } ، فيه نوع مجاز؛ لأن ما بين يديه هو ما أمامه . فسمى ما مضى بين يديه لغاية ظهوره واشتهاره . واللام فى { لِّمَا } لتقوية العامل . نحو قوله - تعالى - : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } وهذه العبارة أحسن من تعبير بعضهم بالزائدة " .ثم أخبر - سبحانه - عن بعض الكتب الأخرى التى أنزلها فقال : { وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان } .والتوراة : اسم عبرانى للكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على موسى - عليه السلام - ليكون شريعة له ولقومه .قال القرطبى ما ملخصه : والتوراة معناها الضياء والنور مشتقة من وَرَى الزند ووَرِى لغتان إذا خرجت نارة . . وقيل مأخوذة من لتورية ، وهى التعريض بالشئ والكتمان لغيره ، فكان أكثر التوراة معاريض وتلويحات من غير تصريح وإيضاح .والجمهور على القول الأول لقوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } يعنى التوراة .والإِنجيل : كلمة يونانية معناها البشارة وهى اسم للكتاب الذى أنزله الله على عيسى .قالوا : والإِنجيل إفعيل من النجل وهو الأصل : يقال : رحم الله ناجليه أى والديه . وقال قوم : الإِنجيل مأخوذ من نجلت الشئ إذا استخرجته وأظهرته ، ويقال للماء الذى يخرج من البئر : نجل وقيل : هو من النجل الذى هو سعة فى العين . ومنه طعنة نجلاء أى واسعة . وسمى الإِنجيل بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه الله - تعالى - لبنى إسرائيل على يد عيسى عليه السلام .وهذا الكلام الذى نقلناه عن القرطبى والفخر الرازى هو قول لبعض العلماء الذين يرون أن لفظى التوراة والإِنجيل يدخلهما الاشتقاق والتصريف .وهناك فريق آخر من العلماء يرى أن هذين اللفظين لا يدخلهما الاشتقاق والتصريف لأنهم اسمان أعجميان لهذين الكتابين الشريفين .قال الفخر الرازى بعد أن أورد كلاما طويلا يدل على عدم ارتضائه للمذهب الذى يرى أصحابه أن هذين اللفظين يدخلهما الاشتقاق والتصريف : " فالتوراة والإِنجيل اسمان أعجميان :أحدهما بالعبرية ، والآخر بالسريانية ، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقهما على أوزان لغة العرب ، فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث " .
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ
📘 ثم كرر - سبحانه - التحذير من الحساب يوم القيامة وما يقع فيه من أهوال ورغب المؤمنين في العمل الصالح فقال : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } .قال الآلوسى : الأمد : غاية الشىء ومنتهاه والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة والأمد مدة لها حد مجهول ، والمرادهنا الغاية الطويلة ، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة ، ولعله الأظهر ، فالتمنى هنا من قبيل التمنى فى قوله - تعالى - { ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين } والمعنى : راقبوا ربكم أيها المؤمنون . وتزودوا من العلم الصالح واذكروا { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } في الدنيا { مِنْ خَيْرٍ } وإن كان مثقال ذرة { مُّحْضَراً } لديها مشاهدا في الصحف ، حتى لكأنه قد أحضر من الدنيا إلى الآخرة فيرى رأى العين { وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء } تراه أيضاً ظاهراً ثابتا مسجلا عليها ، وتتمنى لو أن بينها وبين هذا العمل السىء زمنا طويلا ، ومسافة بعيدة وذلك لأن الإنسان يتمنى دائما أن يكون بيعدا بعدا شاسعاً عن الشىء المخيف المؤلم خصوصاً فى هذا اليوم العصيب وهو يوم القيامة .وقوله { يَوْمَ } متعلق بمحذوف تقديره اذكروا ، وهو مفعول به لهذا المحذوف . و " تجد " يجوز أن يكون متعديا لواحد فيكون بمعنى تصيب وتصادف ، ويكون " محضراً " على هذا منصوبا على الحال . قال الجمل : وهذا هو الظاهر . ويجوز أن يكون بمعنى تعلم فيتعدى لاثنين أولهما { مَّا عَمِلَتْ } والثانى { مُّحْضَراً } .وقوله { وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء } معطوف على قوله { مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ } .ويرى بعضهم أن " ما " فى قوله { وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء } متبدأ ، وخبرها جملة { لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } فيكون المعنى : ما عملت من سوء تتمنى كل نفس أن يكون بينها وبينه أمدا بعيدا .أتى - سبحانه - بقوله { مُّحْضَراً } فى جانب الخير فقط من أن عمل السوء أيضاً يكون محضراً للإشعار يكون عمل الخير هو المراد بالذات . وهو الذى يتمناه الإنسان ويرجو حضوره فى هذا لما يترتب عليه من ثواب وأما عمل الشر فتتمنى كل نفس اقترفته لو بعد عنها ولم تره بسبب ما يترتب عليه من عقاب .وقوله - سبحانه - { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } تكرير للتحذير الأول الذى جاء فى قوله - تعالى - { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } والسر في هذا التكرير زيادة التحذير من عقاب الله وانتقامه ، فإن تكرار التحذير من شأنه أن يغرس في القلوب التذكر والاعتبار والوجل .وقيل : إن التحذير الأول ذكر للنهى عن موالاة الكافرين . والذى هنا ذكر للحث على عمل الخير والتنفير من عمل الشر .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله رَؤُوفُ بالعباد } ومن مظاهر رأفته ورحمته أنه حذر عباده قبل أن يعاقبهم ، وأنه يعفو عن كثير من ذنوب عباده ، وأنه فتح لهم باب التوبة حتى يقلعوا عن خطاياهم .إلى غير ذلك من مظاهر رأفته ورحمته .
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
📘 ثم أمر الله - تعالى - رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرشد الناس إلى الطريق الذى متى سلكوه كانوا حقا محبين لله ، وكانوا من يحبهم - سبحانه - فقال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } .قال بعضهم : عن الحسن البصرى قال : قال قوم على عهد النبى صلى الله عليه وسلم يا محمد إنا نحب ربنا ، فأنزل الله الآية ، وروى محمد بن إسحاق عن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : " نزلت في نصارى نجران وذلك أنهم قالوا : إنما نعظم المسيح ونعبده حبا لله وتعظيما له فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم " .ومحبة العباد لله - كما يقول الزمخشرى - مجاز عن إرادة نفوسهم اختصاصه بالعبادة دون غيره ورغبتهم فيها ، ومحبة الله عباده أن يرضى عنهم ويحمد فعلهم .والمعنى : قل يا محمد للناس على سبيل الإرشاد والتبيين : إن كنتم تحبون الله حقا كما تدعون ، فاتبعوني ، فإن اتباعكم لى يؤدى إلى محبة الله لكم ، وإلى غفرانه لذنوبكم ، وذلك لأن محبة الله ليست دعوة باللسان ، وإنما محبة الله تتحقق باتباع ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذى أرسله رحمة للعالمين .قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : " هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية ، بأنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدى ، والدين النبوى في كل أقواله وأعماله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .وقوله { يُحْبِبْكُمُ } جواب الأمر ، وهو قوله { فاتبعوني } . وهذا رأى الخليل .ويرى أكثر المتأخرين من النحاة أن قوله " يحببكم الله " جواب لشرط مقدر دل عليه المقام والتقدير : إن كنتم تحبون الله فاتبعونى ، وإن اتبعتمونى يحببكم الله ، أى يمنحكم الثواب الجزيل ، والأجر العظيم ، والرضا الكبير .فأنت ترى أن الآية الكريمة قد بينت أن أول علامات محبة العبد لربه ، هى اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وأن هذا الاتباع يؤدى إلى محبة الله - تعالى - لهذا العبد وإلى مغفرة ذنوبه .ومحبة الله لعبده هى منتهى الأمانى ، وغاية الآمال ، ولذا قال بعض الحكماء : " ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تَحب " . ومحبة الله إنما تتأتى بإخلاص العبادة والوقوف عند حدوده والاستجابة لتعاليم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكل من يدعى أنه محب لله وهو معرض عن أوامره ونواهيه فهو كاذب فى دعواه كما قال الشاعر الصوفى :تعصى الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمرى في القياس بديعلو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيعثم ختم - سبحانه - الآية بوصفين جليلين فقال : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى أنه - سبحانه - كثير الغفران والرحمة لمن تقرب إليه بالطاعة ، واتبع رسوله فيما جاء به من عنده .
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
📘 ثم كرر - سبحانه - الأمر لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحض الناس على اتباع ما يسعدهم فقال له : { قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول } .أى قل لهم يا محمد أطيعوا الله وأطيعوا رسوله في جميع الأوامر والنواهى ، وإن من يدعى أنه مطيع لله دون أن يتبع رسوله فإنه يكون كاذبا في دعواه ، ولذا لم يقل - سبحانه - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، للإشعار بأن الطاعة واحدة وأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله تعالى ، كما قال سبحانه : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } ثم ذكر - سبحانه - عاقبة العصاة المعاندين فقال : { فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } أى : فإن أعرضوا عما تأمرهم به يا محمد ولم يستجيبوا لك واستمروا على كفرهم ، فإنهم لا ينالون محبة الله ، لأنهم كافرون .ففى هذه الجملة الكريمة دلالة على أن محبة الله لا ينالها إلا من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه - سبحانه - نفى حبه عن الكافرين ، ومتى نفى حبه عنهم فقد أثبت بغضه ، و لأنه عبر عن تركهم اتباع رسوله بالتولى وهو أفحش أنواع الإعراض ، ومن أعرض عن طاعة رسول الله كان بعيداً عن محبة الله .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ساقت للناس من التوجيهات السامية ، والآداب العالية ما من شأنه أن يغرس في النفوس إخلاص العبادة لله ، والخشية من عقابه ، والأمل في ثوابه ، والإكثار من العلم الصالح الذى يؤدى إلى رضا الله ومحبته .وبعد هذا الحديث الحكيم المتنوع - من أول السورة إلى هنا - عن وحدانية الله ، وقدرته النافذة وعلمه المحيط ، وعن أحقيته للعبادة والخضوع ، وعن الكتب السماوية وما اشتملت عليه من هدايات وعن محكم القرآن ومتشابهه ، وعن رعاية الله - تعالى - لعباده المؤمنين ، وعن تهديد الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم ، وعن الشهوات الذى ارتضاه الله لعباده ، وعن بعض الرذائل التى عرفت عن أكثر أهل الكتاب ، وعن حث الناس على مراقبة الله - تعالى - وإخلاص العبادة له حتى يكونوا ممن يحبهم ويحبونه فيسعدوا في دينهم ودنياهم وآخرتهم . . . بعد كل ذلك تحدث القرآن - في أكثر من ثلاثين آية - عمن اصطفاهم الله من عباده ، وعن جانب من قصة مريم ، وقصة زكريا وابنه يحيى - عليهما السلام - وعن قصة ولادة عيسى - عليه السلام - وما صاحبها من خرق للعادات ، وما منحه - سبحانه - من معجزات وعن محاجة الكافرين من أهل الكتاب في شأنه وكيف رد القرآن عليهم . . . استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول : { إِنَّ الله . . . } .
۞ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ
📘 قوله { اصطفى } من الاصطفاء وهو الاختيار والانتقاء وطلب الصفوة من كل شىي . وقوله { وَآلَ إِبْرَاهِيمَ } الآل - كما يقول الراغب - مقلوب عن الأهل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة . يقال آل فلان ولا يقال آل رجل ولا آل زمان كذا أو موضع كذا . . . ويضاف إلى الأشرف الأفضل فيقال آل الله وآل السلطان ولا يقال آل الحجام . . . . ويستعمل الآل فيمن يختص بالإنسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة قال - تعالى - { وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ } .والمعنى : إن الله - تعالى - قد اختار واصطفى { ءَادَمَ } أبا البشر ، بأن جعله خليفة في الأرض ، وعلمه الأسماء كلها ، وأسجد له ملائكته .واصطفى { نُوحاً } لأنه - كما يقول الآلوسى - آدم الأصغر ، والأب الثاني للبشرية ، وليس أحد على وجه البسيطة إلا من نسله لقوله - سبحانه - { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين } واصطفى { آلَ إِبْرَاهِيمَ } أى عشيرته وذوى قرباه وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما .واصطفى { آلَ عِمْرَانَ } إذ جعل فيهم عيسى - عليه السلام - الذى آتاه الله البينات ، وأيده بروح القدس .والمراد بعمران هذا والد مريم أم عيسى - عليه سلام - فهو عمران بن ياشم بن ميشا بن حزقيا . . . . وينتهى نسبه إلى إبراهيم - عليه السلام - .وإن في ذلك التسلسل دليل على أن الله - تعالى - قد اقتضت حكمته أن يجعل في الإنسانية من يهديها إلى الصراط المستقيم فقد ابتدأت الهداية بآدم أبى البشر كما قال - تعالى - : { ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى } ثم جاء من بعده بقرون لا يعلمها إلا الله نوح - عليه السلام - فمكث يدعو الناس إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق " ألف سنة إلا خمسين عاماً " ثم جاء من بعد ذلك إبراهيم - عليه السلام - فدعا الناس إلى عبادة الله وحده ، فكان هو وآله صفوة الخلق وفيهم النبوة فمن إسماعيل بن إبراهيم كان محمد صلى الله عليه وسلم الذى ختمت به الرسالات السماوية .ومن إسحاق وبنيه كان عدد من الأنبياء كداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون . . . ومن فرع إسحاق كان آل عمران وهم ذريته وأقاربه كزكريا ويحيى وعيسى الذي كان آخر نبى من هذا الفرع .وفى التعبير بالاصطفاء تنبيه إلى أن آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران صفوة الخلق ، إذ أن الرسل والأنبياء جميعا من نسلهم .وقوله { عَلَى العالمين } أى على عالمى زمانهم . أى أهل زمان كل واحد منهم .
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
📘 ثم صرح - سبحانه - بعد ذلك بتسلسل هذه الصوة الكريمة بعضها من بعض فقال { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } وأصل الذرية - كما يقول القرطبي - فعلية من الذر ، لأن الله - تعالى - أخرج الخلق من صلب آدم كالذر حين أشهدهم على أنفسهم - وقيل هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم درءًا خلقهم ، ومنه الذرية وهى نسل الثقلين " .والمعنى : أن أولئك المصطفين الأخيار بعضهم من نسل بعض ، فهم متصلو النسب ، فنوح من ذرية آدم ، وآل إبراهيم من ذرية نوح ، وآل عمران من ذرية آل إبراهيم ، فهم جميعا سلسلة متصلة الحلقات فى النسب ، والخصال الحميدة .وقوله { ذُرِّيَّةً } منصوب على الحال من آل إبراهيم وآل عمران . ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أى هو - سبحانه - سميع لأقوال عباده فى شأن هؤلاء المصطفين الأخيار وفى شأن غيرهم عليم بأحوال خلقه علما تاما بحيث لا تخفى عليه خافية تصدر عنهم .والجملة الكريمة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها ، ومؤكد له .
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
📘 ثم حكى سبحانه ما قالته امرأة عمران عندما أحست بعلامات الحمل فقال تعالى : { إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي } والظرف " إذا " في محل النصب على المفعولية بفعل محذوف والتقدير : أذر لهم وقت قولها رب إنى نذرت . . . ألخ . وقيل هو متعلق بقوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أى أنه - سبحانه - يعلم علم ما يسمع في الوقت الذي قالت فيه امرأة عمران ذلك القول .وامرأة عمران هذه هى " حنة " بنت فاقوذا بن قنبل وهى أم مريم وجدة عيسى عليه السلام وعمران هذا هو زوجها ، وهو أبو مريم .وقوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } من النذر وهو التزام التقرب إلى الله - تعالى - بأمر من جنس العبادات التي شرعها - سبحانه - لعباده ليتقربوا بها إليه .وقوله { نَذَرْتُ } أى عتيقا مخلصا للعبادة متفرغا من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس . يقال : حررت العبد إذا خلصته من الرق وحررت الكتابة إذا أصلحته ولم تبق فيه شيئاً من وجوه الخطأ ، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه سلطان .والمعنى : اذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن لجأت امرأة عمران إلى ربها تدعوه بضراعة وخشوع فتقول : يا رب إنى نذرت لخدمة بيتك هذا الجنين الذى في بطني مخلصا لعبادتك متفرغا لطاعتك فتقبل منى هذا النذر الخالص ، وتلك النية الصادقة ، { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } لقولى ولأقوال خلقك { العليم } بنيتى وبنوايا سائر عبادك .فأنت ترى في هذا الدعاء الخاشع الذى حكاه القرآن عن امرأة عمران أسمى ألوان الأدب والإخلاص ، فقد توجهت إلى ربها بأعز ما تملك وهو الجنين الذى في بطنها ، ملتمسة منه - سبحانه - أن يقبل نذرها الذى وهبته لخدمة بيته ، واللام في قوله " لك " للتعليل أى نذرت لخدمة بيتك .وقوله { مُحَرَّراً } حال من " ما " والعامل فيه " نذرت " .قال بعضهم : " وكان هذا النذر يلزم في شريعتهم فكان المحرر عندهم إذا حرر جعل في الكنيسة يخدمها ولا يبرح مقيما فيها حتى يبلغ الحلم ، ثم يتخير فإن أحب ذهب حيث شاء ، وإن اختار الإقامة لا يجوز له بعد ذلك الخروج . ولم يكن أحد من أنبياء بنى إسرائيل وعلمائهم إلا ومن أولاده من حرر لخدمة بيت المقدس ولم يكن يحرر إلا العلمان ، ولا تصلح الجارية لخدمة بيت المقدس لما يصيبها من الحيض والأذى " . وجملة { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } تعليلية لاستدعاء القبول ، من حيث أن علمه - سبحانه - بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لقبول نذرها تفضلا منه وكرما .
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
📘 ثم حكى - سبحانه - ما قالته بعد أن وضعت ما في بطنها فقال - تعالى - : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } .قالوا : إن هذا خبر لا يقصد به الإخبار ، بل المقصود منه إظهار التحسر والتحزن والاعتذار ، فقد كانت امرأة عمران تتوقع أن يكون ما في بطنها ذكرا ، لأنه هو الذى يصلح لخدمة بيت الله والانقطاع للعبادة فيه ، لكنها حين وضعت حملها ووجدته أنثى ، قالت على سبيل الاعتذار عن الوفاء بنذرها : رب إنى وضعتها أنثى ، والأنثى لا تصلح للمهمة التى نذرت ما فى بطنى لها وهى خدمة بيتك المقدس ، وأنت يا إلهي القدير على كل شيء فبقدرتك أن تخلق الذكر وبقدرتك أن تخلق الأنثى .والضمير فى قوله { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } يعود لما فى بطنها . وتأنيث باعتبار حاله في الواقع ونفس الأمر وهو أنه أنثى .وقوله { أنثى } منصوب على الحال من الضمير في وضعتها ، وهى حال مؤكدة لأن كونها أنثى مفهوم من تأنيث الضمير فجاءت أنثى مؤكدة .وقوله { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } جملة معترضة سيقت للايماء إلى تعظيم المولود الذى وضعته وتفخيم شأنه ، وللإشعار بأن الأنثى ستصلح لما يصلح له الذكور من خدمة بيته . أى : والله - تعالى - أعلم منها ومن غيرها بما وضعته ، لأنه هو الذى خلق هذا المولود وجعله أنثى ، وهو العليم بما سيصير إليه أمر هذه الأنثى من فضل ، إذ منها سيكون عيسى - عليه السلام - وسيجعلها - سبحانه - آية ظاهرة دالة على كمال قدرته ، ونفوذ إرادته .وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } بضم التاء وعلى هذه القراءة لا تكون الجملة معترضة وإنما هى من تتمة ما قالته ، ويكون الكلام التفات من الخطاب إلى الاسم الظاهر وهو لفظ الجلاة إذ لو جرت على مقتضى قولها ، { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } لقالت : وأنت أعلم بما وضعت .ويكون قولها هذا من تتمة الاعتذار إلى الله - تعالى - حيث وضعت مولودا لا يصلح لما نذرته - في عرف قومها وتسلية لنفسها ، أى ولعل الله سرا وحكمة لا يعلمها أحد سواه في جعل هذا المولود أنثى . أو لعل هذه الأنثى تكون خيراً من الذكر .وقوله - تعالى - { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } يحتمل أنه من كلامه - سبحانه - وهو الظاهر - فتكون الجملة معترضة كسابقتها ، ويكون : وليس الذكر الذى طلبته كالأنثى التي ولدتها ، بل هذه الأنثى وإن كانت أفضل منه في العبادة والمكانة إلا أنها لا تصلح عندهم لسدانة بيت الله تعالى ، بسبب حرمة اختلاطها بالرجال وما يعتريها من حيض وغير ذلك مما يعترى النساء .ويحتمل أنه من كلامها الذى حكاه الله تعالى عنها فلا تكون الجملة معترضة ويكون المعنى : وليس الذكر الذى طلبته كالأنثى التي وضعتها ، بل هو خير منها لأنه هو الذى يصلح لسدانة بيتك وخدمته ، ومع هذا فأنا في كلتا الحالتين راضية بقضائك مستسلمة لإرادتك .ثم حكى - سبحانك - أيضاً بعض ما قالته بعد ولادتها فقال { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } .قالوا : إن كلمة مريم معناها في لغتهم العابدة ، فأرادت بهذه التسمية التقرب إلى الله والالتماس منه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقا لا سمها .ومعنى { أُعِيذُهَا بِكَ } أمنعها وأجيرها بحفظك . مأخوذ من العوذ ، وهو أن تلتجىء إلى غيرك وتتعلق به . يقال : عاذ فلان بفلان إذا استجار به ، ومنه العوذة وهي التميمة والرقية .والشيطان في لغة العرب : كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شىء . وهو مشتق من شكن إذا بعد ، فهو بعيد بطبعه عن كل خير .والرجيم : فعيل بمعنى مفعول . أى أنه مرجوم مطرود من رحمة الله ومن كل خير . وقيل رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والشرور .والمعنى : وإنى يا خالقى مع حبى لأن يكون المولود ذكراً لتتهيأ له خدمة بيتك فقد رضيت بما وهبت لي ، وإنى قد سميت هذه الأثنى التي أعطيتنى إياها مرم . أى العابدة الخادمة لك ، وإنى أحصنها وأجيرها بكفالتك لها ولذريتها من الشيطان الرجيم الذى يزين للناس الشرور والمساوىء . قال القرطبى : وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان ، إلا ابن مريم وأمه " .ثم قال أبو هريرة : " اقرءوا إن شئتم : وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " .قال علماؤنا : فأفاد هذا الحديث أن الله - تعالى - استجاب دعاء أم مريم . . . ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال المنخوس فإن ذلك ظن فاسد ، فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ، ومع ذلك عصمهم الله مما يرومه الشيطان كما قال تعالى :{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وقوله : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } معطوف على { إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } وما بينهما اعتراض . وهذا على قراءة الجمهور التي جاءت بتسكين التاء فى { وَضَعَتْ } في قوله - تعالى - { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } .وأما على قراءة غير الجمهور التى جاءت بضم التاء فى قوله : { وَضَعَتْ } فيكون أيضاً معطوفاً على { إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } ويكون هذا القول وما عطف عليه في محل نصب بالقول ، والتقدير : قالت : إنى وضعتها أنثى ، وقالت : الله أعلم بما وضعت وقالت : ليس الذكر كالأنثى ، وقالت : إنى سميتها مريم .وأتى في قوله : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا } بخبر إن فعلا مضارعا للدلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها ، بخلاف وضعتها ، وسميتها ، حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما . وقوله : { وَذُرِّيَّتَهَا } معطوف على الضمير المنصوب فى أعيذها .وفى التنصيص على إعاذتها وإعاذة ذريتها من الشيطان الرجيم ، رمز إلى طلب بقائها على قيد الحياة حتى تكبر وتكون منها الذرية الصالحة .تلك هى بعض الكلمات الطيبات والدعوات الخاشعات ، التي توجهت بها امرأة عمران إلى ربها عندما أحست بالحمل في بطنها وعندما وضعت حملها حكاها القرآن بأسلوبه البليغ المؤثر ، فماذا كانت نتيجتها؟
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
📘 كانت نتيجتها أن أجاب الله دعاءها وقبل تضرعها ، وقد حكى - سبحانه - ذلك بقوله : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } .والفاء في قوله : { فَتَقَبَّلَهَا } تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة ، والضمير يعود إلى مريم . والتقبل - كما يقول الراغب - قبول الشىء على وجه يقتضى ثوابا كالهداية ونحوها . وإنما قال - سبحانه - { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ } ولم يقل بتقبل : للجمع بين الأمرين : التقبل الذى هو الترقى فى القبول ، والقبول الذى يقتضى الرضا والإثابة " .والمعنى : أن الله - تعالى - تقبل مريم قبولا مباركا وخرق بها عادة قومها ، فرضى أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته كالذكور ، مع كونها أنثى وفاء بنذر الأم التقية التى قالت { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } .{ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } أى رباها تربية حسنة ، وصانها من كل سوء ، فكان حالها كحال النبات الذى ينمو في الأرض الصالحة حتى يؤتى ثماره الطيبة .وهكذا قيض الله - تعالى - لمريم كل ألوان السعادة الحقيقية ، فقد قبلها لخدمة بيته مع أنها أنثى ، وأنشأها حسنة بعيدة عن كل نقص خلقى أو خلقى ، وهيأ لها وسائل العيش الطيب من حيث لا تحتسب . فقد قال - تعالى - { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .قوله { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أى ضمها إلى زكريا ، لأن الكفالة في أصل معناها الضم .أى ضمها الله - تعالى - إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها .وقرئ { وَكَفَّلَهَا } بتخفيف الفاء . وبرفع { زَكَرِيَّا } على أنه فاعل . وعلى هذه القراءة تنطق كلمة زكريا بالمد قبل الهمزة فقط أى " زكرياء " .أما على القراءة الأولى فيجوز في زكريا المد والقصر .وزكريا هو أحد أنبياء بنى إسرائيل وينتهى نسبة إلى سليمان بن داود - عليهما السلام - وكان متزوجا بخالة مريم ، وقيل كان متزوجا بأختها .وكانت كافلته لها نتيجة اقتراع بينه وبين من رغبوا في كفالتها من سدنة بيت المقدس ، يدل على ذلك قوله - تعالى - { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } قال صاحب الكشاف : " روى أن " حنة " حين ولدت مريم ، لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار وهم في بيت المقدس ، فقال لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم " .فقال لهم زكريا : أنا أحق بها عندى خالتها فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها ، فانطلقوا إلى نهر وألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها " .وقوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } بيان لكفالة الله - تعالى - لرزقها ورضاه عنها ، ورعايته لها .والمحراب موضع العالى الشريف والمراد به الغرفة التي تتخذها مريم مكانا لعبادتها فى المسجد . سمى بذلك لأنه مكان محاربى الشيطان والهوى .قال الألوسى ما مخلصه : " والمحراب - على ما روى عن ابن عباس - غرقة بنيت لها في بيت المقدس ، وكانت لا يصعد إليها إلا بسلم . وقيل المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب . وقيل المراد به أشرف مواضع المسجد ومقدمها وهو مقام الإمام من المسجد أصله مفعال : صيغة مبالغة - كمطعان - فسمى به المكان ، لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه و " كلما " ظرف على أن " ما " مصدرية ، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت ، والعائد محذوف والعامل فيها جوابها .والمعنى : كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه " وجد عندها رزقا " أى أصاب ولقى بحضرتها ذلك أو وجد ذلك كائنا بحضرتها . أخرجه بن جرير عن الربيع قال : " أنه كان لا يدخل أحد سوى زكريا فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف " والتنوين في { رِزْقاً } للتعظيم . . .وهذا دليل على قدرة الله - سبحانه - على كل شىء ، وعلى رعايته لمريم ، فقد رزقها - سبحانه - من حين لا تحتسب ، ودليل على وقوع الكرامة أوليائه - تعالى - .ولقد كان وجود هذا الرزق عند مريم دون أن يعرف زكريا - عليه السلام - مصدره مع أنه لا يدخل عليها أحد سواه كان ذلم محل عجبه ، لذا حكى القرآن عنه : { قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا } أى من أين لك هذا الرزق العظيم الذى لا أعرف سببه ومصدره . و { أنى } هنا بمعنى من أين .والجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا قال زكريا عند مشاهدة هذا الرزق؟ فكان الجواب : قال يا مريم من أين لك هذا .ولقد كانت إجابة مريم على زكريا تدل على قوة إيمانها ، وصفاء نفسها . فقد أجابته بقولها - كما حكى القرآن عنها - { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } أى : قالت له إن هذا الزرق من عند الله - تعالى - فهو الذى رزقني إياه وسافه إلى بقدرته النافذة .وقوله - تعالى - { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } جملة تعليلية . أى : إن الله تعالى ، يرزق من يشاء أن يرزقه رزقا واسعا عظيما لا يحده حد ، ولا تجرى عليه الأعداد التي تنتهى ، فهو - سبحانه - لا يحاسبه محاسب ، ولا تنقص خزائنه من أى عطاء مهما كثر وعظم .وهذه الجملة الكريمة يحتمل أنها من كلام الله - تعالى - فتكون مستأنفة ، ويحتمل أنها من كلامها الذى حكاه القرآن عنها ، فتكون تعليلية في محل نصب داخلة تحت القول .هذا وفى تلك الآيات التى حكاها القرآن عن مريم وأمها نرى كيف يعمل الإيمان عمله في القلوب فينقيها ويصفيها ويحررها من رق العبودية لغير الله الواحد القهار وكيف أن الله تعالى ، يتقبل دعاء عباده الصالحين ، وينبتهم نباتا حسنا ، ويرعاهم برعايته ، يزرقهم من حيث لا يحتسبون .ولقد كان ما رآه زكريا - عليه السلام - من أحوال مريم من الأسباب التي جعلته - وهو الشيخ الهرم - يتضرع إلى الله أن يرزقه الذرية الصالحة ، وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال - تعالى - : { هُنَالِكَ دَعَا . . . . }
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ
📘 قوله - تعالى - { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } كلام مستأنف ، وقصة مستقلة سيقت في تضاعيف قصة مريم وأمها لما بينهما من قوة الارتباط ، وشدة الاشتباك مع ما فى إيرادها من تقرير ما سيقت له قصة مريم و أمها من بيان اصطفاء آل عمران .و " هنا " ظرف يشار به إلى المكان القريب كما فى قوله - تعالى - { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } وتدخل عليه اللام والكاف " هنالك " أو الكاف وحدها " هناك فيكون للبعيد وقد يشار به للزمان اتساعا .والمعنى : فى ذلك المكان الطاهر الذى كان يلتقى فيه زكريا بمريم ويرى من شأنها ما يرى من فضائل وغربائب ، تحركت في نفس زكريا عاطفة الأبوة ، وهو الشيخ الكبير الذى وهن عظمه واشتعل رأسه شيباً ، وبلغ من الكبر عتياً - فدعا الله تعالى - بقلب سليم ، وبنفس صافية وبجوارح خاشعة ، أن يرزقه الذرية الصالحة . كولقد حكى القرآن دعاءه بأسلوبه المؤثر فقال : { قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء } .أى ، قال زكريا مناجيا ربه : يا رب أنت الذى خلقتني ، وأنت الذى لا يقف أمام قدرتك شىء ، وأنت الذى جعلتنى أرى من أحوال مريم ما يشهد بقدرتك النافذة وفضلك العميم فهب لي يا خالقي من عندك ذرية صالحة تقر بها عينى ، وتكون خلفا من بعدى { إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء } أى أنك عليم بدعائي علم من يسمع ، قريب الإجابة لمن يدعوك ، فإن أجبت لى سؤالى فبفضلك وإن لم تجبه ، فبعدلك وحكمتك . فأنتترى في هذا الدعاء الذى صدر عن زكريا - عليه السلام - أسمى ألوان الأدب والخشوع والإنابة . فقد رفع أكف الضراعة في مكان مقدس طاهر ، وفي التعبير بقوله { دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } إشارة إلى تسليمه لله وإلى شعوره بقدرة الله على كل شىء ، فهو الذى خلقه ورباه وتولاه برعايته في كل أدوار حياته .وفى قوله { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ } إشعار بأنه يريد من خالقه - عز وجل - أن يعطيه هذه الذرية بلا سبب عادى ، ولكن بإرادته وقدرته لأنه لو كان الأمر فى هذا العطاء يعود إلى الأسباب والمسببات العادية لكان الحصول على الذرية مستبعداً إذ هو قد بلغ من الكبر عتيا وزوجته قد تجاوزت السن التي يحصل فيها الانجاب في العادة .أى هب لى من عندك لا من عندى ، لأن الأسباب عندى أصبحت مستبعدة . وفي تقييد الذرية بكونها طيبة ، إشارة إلى أن زكريا لقوة إيمانه ، ونقاء سريرته ، وحسن صلته بربه ، لا يريد ذرية فحسب وإنما يريد ذرية صالحة يرجى منها الخير في الدنيا والآخرة .وجملة { إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء } تعليلية ، أى إنى ما التجأت إليك يا إلهى إلا لأنك مجيب للدعاء غير مخيب للرجاء .قال القرطبى ما ملخصه " دلت هذه الآية على طلب الولد وهى سنة المرسلين والصديقين . قال الله - تعالى - { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } وقد ترجم البخارى على هذا " باب طلب الولد " وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبى طلحة حين مات ابنه " " أعرستم الليلة " قال نعم . قال : " بارك الله لكما في غابر ليلتكما " فقال رجل من الأنصار فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن " ، والأخبار في هذا المعنى كثيرة . تحث على طلب الولد لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد مماته . قال صلى الله عليه وسلم إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث : فذكر منها " أو ولد صالح يدعو له " ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية .هذا ، وقد حكى لنا القرآن في سورة مريم دعاء زكريا بصورة أكثر تفصيلا فقال : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً } هذا هو دعاء زكريا كما حكاه الله - تعالى - في أكثر من موضع فى كتابه الكريم فماذا كانت نتيجة هذا الدعاء الخاشع ، والتضرع الخالص؟ لقد كانت نتيجته الإجابة من الله - تعالى - لعبده زكريا ،
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ
📘 فقد قال - تعالى - { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى } .أى : فنادت الملائكة زكريا - عليه السلام - وهو قائم يصلي في المحراب ، يناجى ربه . ويسبح بحمده بأن الله قد استجاب دعاءك ويبشرك بغلام اسمه يحيى ، لكى تقر به عينك ويسر به قلبك .والتعبير بالفاء في قوله { فَنَادَتْهُ } يشعر بأن الله - تعالى - فضلا منه وكرما قد استجاب لزكريا دعاءه بعد فترة قليلة من ذا الدعاء الخاشع ، إذ الفاء تفيد التعقيب .ويرى فريق من المفسرين أن الذى ناداه هو جبريل وحده ، ومن الجائز فى العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع .قال ابن جرير : كما يقال في الكلام : خرج فلان على بغال البريد وإنما ركب بغلا واحداً وركب السفن وإنما ركب سفينة واحدة وكما يقال : ممن سمعت هذا؟ فيقال : من الناس ، وإنما سمعه من رجل واحد ، وقد قيل : إن منه قوله - تعالى - { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } والقائل كان فيما ذكر واحد . ويرى فريق آخر منهم أن الذى نادى زكريا وبشره بمولوده يحيى ، جمع من الملائكة لأن الآية صريحة فى أن هذا النداء قد صدر من جمع لا من واحد ، ولأن صدوره من جمع يناسب هذه البشارة العظيمة ، فقد جرت العادة في أمثال هذه البشارات العظيمة أن يقوم بها جمع لا واحد ، ولا شك أن حالة زكريا وحالة زوجه تستدعيان عددا من المبشرين لإدخال السرور على هذين الشخصين اللذين كادا يفقدان الأمل في إنجاب الذرية .وقد رجح هذا الاتجاه ابن جرير فقال " وأما الصواب من القول في تأويله فأن يقال : إن الله - جل ثناؤه - أخبر أن الملائكة نادته ، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد ، جبريل واحد فلا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب دون الأقل ما وجدنا إلى ذلك سبيلا ، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفى من الكلام والمعاني " .وقوله { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية من مفعول النداء ، و " يصلى " حال من الضمير المستكن فى قائم أو حال أخرى من مفعول النداء على القول بجواز تعدد الحال ، وقوله { فِي المحراب } متعلق بيصلى . والمراد بالمحراب هنا المسجد ، أو المكان الذى يقف فيه الإمام في مقدمة المسجد .وقرأ جمهور القراء : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } بفتح همزة أن - على أنه في محل جر بباء محذوفه . أى : نادته الملائكة بأن الله يبشرك بيحيى .وقرأ ابن عامر وحمزة : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } - بكسر الهمزة - على تضمين النداء معنى القول ، أى : قالت له الملائكة إن الله يبشرك بيحيى .وقوله : { بيحيى } متعلق بيبشرك ، وفي الكلام مضاف أى يبشرك بولادة يحيى ، لأن الذوات ليست متعلقا للبشارة .وفى اقتران التبشير بالتسمية بيحيى ، إشعار بأن ذلك المولود سيحيا اسمه وذكره بعد موته ، وبذلك تتحقق الإجابة لدعاء زكريا تحققا تاما ، فقد حكى القرآن عنه في سورة مريم أنه قال : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً } قال الجمل : و " يحيى ، فيه قولان :أحدهما : وهو المشهور عند أهل التفسير أنه منقول من الفعل المضارع ، وقد سموا بالأفعال كثيراً نحو يعيش ويعمر . . وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعملية ووزن الفعل ، نحو يزيد ويشكر وتغلب .والثاني : أنه أعجمى لا اشتقاق له ، وهذا هو الظاهر ، فامتناعه من الصرف للعلمية والعجمة " .ثم وصف الله - تعالى - يحيى - عليه السلام - بأربع صفات كريمة فقال : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } .فالصفة الأولى : من صفات يحيى - عليه السلام - أنه كان { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله } وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان :أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه - وهم جمهور العلماء - أن المراد بكلمة الله هو عيسى - عليه السلام - لأنه كان يسمى بذلك أى أن يحيى كان مصدقا بعيسى ومؤمنا بأنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .وقد كان يحيى معاصرا لعيسى . وكانت بينهما قرابة قوية إذ أن والدة يحيى كانت أختا لأم مريم وقيل إن أم يحيى كانت أختا لمريم .وأما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه أن المراد بكلمة الله كتابه ، أى أن يحيى من صفاته الطيبة أنه كان مصدقا بكتاب الله وبكلامه ، وذلك لأن الكلمة قد تطلق ويراد منها الكلام ، والعرب تقول أنشد فلان كلمة أى قصيدة ، وقال كلمة أى خطبة .ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب ، لأن القرآن قد وصف عيسى بأنه كلمة الله في أكثر من موضع فيه ومن ذلك قوله - تعالى - { ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } وقوله تعالى - { يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } ولأن فى التعبير عن عيسى الذى صدقه يحيى - بأنه كلمة من الله ، إشعاراً بأن ولادتهما متقاربة من حيث الزمن ، وإيماء إلى أن زكريا - عليه السلام - قد أوتى علماً بأن المسيح عهده قريب ، وأن يحيى - عليه السلام - سيعيش حتى يدرك عيسى .وقوله { مُصَدِّقاً } منصوب على الحال المقدرة من يحيى ، أى على الحال التي سيكون عليها في المستقبل ، والمراد بهذا التصديق الإيمان بعيسى - كما سبق أن أشرنا - قيل : هو أول من آمن بعيسى وصدق أنه كلمة الله وروح منه .و " من " في قوله { مِّنَ الله } للابتداء . والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة ، أى مصدقاً بكلمة كائنة من الله - تعالى - .والصفة الثانية : من صفات يحيى عبر عنها القرآن بقوله " وسيدا " والسيد - كما يقول القرطبي - الذى يسود قومه وينتهى إلى قوله . وأصله سيود يقال : فلان أسود من فلان على وزن أفعل من السيادة ، ففيه دلالة على تسمية الإنسان سيدا . وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبنى قريظة عندما دخل سعد بن معاذ - " قوموا إلى سيدكم " وفى الصحيحين أنه قال فى الحسن " إن ابنى هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " .والمراد أن يحيى - عليه السلام - من صفاته أنه سيكون سيدا ، أى يفوق غيره في الشرف والتقوى وعفة النفس ، بأن يكون مالكا لزمامها ، ومسيطرا على أهوائها .والصفة الثالثة : من صفاته عبر عنها القرآن بقوله : { وَحَصُوراً } وأصل الحصر : المنع والحبس .يقال حصرنى الشىء وأحصرنى إذا حبسنى .والمراد أن يحيى - عليه السلام - من صفاته أنه سيكون حابسا نفسه عن الشهوات ، حتى لقد قيل عنه إنه امتنع عن الوزاج وهو قادر على ذلك - زهادة منه واستعفافا ، وليس صحيحا ما قيل من أنه كان لا يأتى النساء لعدم قدرته على ذلك .قال ابن كثير : وقد قال القاضى عياض في كتابه الشفاء : اعلم أن ثناء الله على يحيى بأنه كان { وَحَصُوراً } معناه أنه معصوم من الذنوب ، أى لا يأتيها كأنه حصور عنها . وقيل : مانعا نفسه من الهشوات ، وقيل ليست له شهوة في النساء وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله - تعالى - كيحيى - عليه السلام - ثم هى في حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه : درجة عليا وهى درجة درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذى لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وهدايته لهن . . . والمقصود أن مدح يحيى بأنه حصور ليس معناه أنه لا يأتى النساء ، بل معناه أنه معصوم من الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال : { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً } كأنه قال ولداً له ذرية ونسل وعقب .أما الوصف الرابع : من أوصاف يحيى - عليه السلام - فهو قوله - تعالى - { وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } وفى هذا الوصف بشارة ثانية لزكريا بأن ابنه سيكون من الأنبياء الذى اصطفاهم الله لتبليغ دعوته إلى الناس ، وهذه البشارة أسمى وأعلى من الأولى التى أخبره الله فيها بولادة يحيى ، لأن النبوة منزلة لا تعدلها منزلة في الشرف والفضل .
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ۗ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
📘 وقوله { مِن قَبْلُ } متعلق " بأنزل " و " هدى " حال من التوراة والإِنجيل ، ولم يثن لأنه مصدر . ويجوز أن يكون مفعولا لأجله والعامل فيه أنزل .أى : وأنزل التوراة والإِنجيل من قبل تنزيل القرآن لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذى من جملته الإِيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم واتباعه حين يبعث ، لأنهما قد اشتملتا على البشارة به والحض على طاعته .قالوا : فالمراد بالناس من عمل بالتوراة والإِنجيل وهم بنو إسرائيل . ويحتمل أنه عام بحيث يشمل هذه الأمة وإن لم نكن متعبدين أى مكلفين ومأمورين بشرع من قبلنا ، والآن فيهما ما يفسد التوحيد وصفات البارى والبشارة بالنبى صلى الله عليه وسلم .قال الآلوسى : وعبر فى جانب التوراة والإِنجيل بقوله " أنزل " للإِشارة إلى أنهما لم يكن لهما سوى نزول واحد ، بخلاف القرآن فإن له نزولين : نزولا من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة ، ونزولا من ذلك إليه صلى الله عليه وسلم منجما فى ثلاث وعشرين سنة على المشهور ، ولهذا يقال فيه نزل وأنزل . . " .هذا ، وليست التوراة التى بين أيدى اليهود اليوم هى التوراة التى أنزلها الله على موسى ، فقد بين القرآن فى أكثر من آية أن بعض أهل الكتاب قد امتدت أيديهم الأثيمة إلى التوراة فحرفوا منها ما حرفوا ، ومن ذلك قوله - تعالى - { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } وقوله : - تعالى - { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ }ومن الأدلة على أن التوراة التى بين أيدى اليهود اليوم ليست هى التى أنزلها الله على موسى : انقطاع سندها ، واشتمالها على كثير من القصص والعبارات والمتناقضات التى تتنزه الكتب السماوية عن ذكرها .وكذلك الحال بالنسبة للإِنجيل؛ إذ ليست هذه الأناجيل التى يقرؤها المسيحيون اليوم هى الإِنجيل الذى أنزله الله على عيسى؛ وإنما هى مؤلفات ألفت بعد عيسى - عليه السلام - ونسبت إلى بعض الحواريين من أصحابه .أما الإِنجيل الذى أنزله الله على عيسى والذى وصفه الله بأنه هداية للناس فهو غير هذه الأناجيل .و { الفرقان } كل ما فرق به بين الحق والباطل ، والحلال والحرام . وهو مصدر فرق يفرق بين الشيئين فرقا وفرقاناً .1- والمراد به عند أكثر المفسرين : الكتب السماوية التى سبق ذكرها وهى التوراة والإِنجيل والقرآن . أى : أنزل بهذه الكتب ما يفرق به بين الحق والباطل ، والهدى والضلال . والخير والشر ، وبذلك لا يكون لأحد عذر فى جحودها والكفر بها .وأعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الإِنزال ، تنزيلا للتغاير الوصفى منزلة التغاير الذاتى .2- وقال بعضهم المراد بالفرقان هنا القرآن . وإنما أعاده بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه ، ورفعا لمكانه ، ومدحا له بكونه فارقاً بين الحق والباطل ، للإِشارة إلى الاتصال الكامل بين شرائع الله - تعالى - وأنه تتميم لما سبقه ، وأنه كمال الشرائع كلها .3- وقال بعضهم : المراد به جنس الكتب السماوية التى أنزلها الله - تعالى - على رسله لهداية الناس وسعادتهم . وقد عبر عنها بالفرقان ليشمل هذا الوصف ما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم ، إثر تخصيص مشاهيرها بالذكر .وقد ذكر صاحب الكشاف هذه الأقوال وغيرها فقال : " فإن قلت : ما المراد بالفرقان؟ قلت : جنس الكتب السماوية لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل من كتبه ، أو من هذه الكتب . أو أراد الكتاب الرابع وهو الزبور . أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له من كونه فارقا بين الحق والباطل " .أما الفخر الرازى فإنه لم يرتض كل هذه الأقوال ، بل أتى برأى جديد فقال - ما ملخصه :4- " والمختار عندى أن المراد من هذا الفرقان : المعجزات التى قرنها الله - تعالى - بإنزال هذه الكتب ، وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب ، وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند الله ، افتقروا فى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين ، فلما أظهر الله على وفق دعواهم تلك المعجزات ، حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب . فالمعجزة هى الفرقان . فلما ذكر الله أنه أنزل الكتاب بالحق ، وأنه أنزل التوراة والإِنجيل من قبل ذلك ، بين أنه - تعالى - أنزل معها ما هو الفرقان الحق ، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد بينها وبين سائر الكتب المختلفة " .والذى نراه أقرب إلى القبول أن المراد بالفرقان هنا جنس الكتب السماوية لأنها جميعها فارقة بين الحق والباطل فيندرج تحتها القرآن وغيره من الكتب السماوية .ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المنحرفين عن طريق الحق ، الكافرين بآيات الله ، فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } أى : إن الذين كفروا بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته ، وصدق رسله فيما يبلغون عنه ، لهم عذاب شديد منه - سبحانه - بسبب كفرهم وجحودهم { والله عَزِيزٌ } أى منيع الجانب ، غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .وفى قوله { والله عَزِيزٌ } إشارة إلى القدرة التامة على العاقب ، وفى قوله { ذُو انتقام } إشارة إلى كونه فاعلا للعقاب ، ينزله متى شاء ، وكيف شاء ، بمقتضى قدرته وحكمته وإرادته ، والوصف الأول صفة للذات . والثانى صفة للفعل .
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ
📘 ثم حكى القرآن بعد ذلك ما قاله زكريا بعد أن ساقت له الملائكة تلك البشارات السارة فقال - تعالى : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ } أنى هنا بمعنى كيف . و " عاقر " أى عقيم لا تلد لكبر سنها من العقر وهو العقم . يقال عقرت المرأة تعقر عقراً وعقراً فهى عاقر إذا بلغت سن اليأس من الولادة . أى قال زكريا على سبيل التعجب بعد أن نادته الملائكة وبشرته بما بشرته به : يا رب كيف يكون لي غلام والحال أنني قد أدركني الكبر الكامل الذى أضعفنى ، وفوق ذلك فإن امرأتى عاقر أى عقيم لا تلد لشيخوختها وبلوغها العمر الذى ينقطع معه النسل؟قال بعضهم : وإنما قال ذلك استفهاما عن كيفية حدوث الحمل ، أو استبعادا من حيث العادة ، أو استعظاماً وتعجبا من قدرة الله - تعالى - لا استبعادا أو إنكارا فلا يرد : كيف قال زكريا ذلك ولم يكن شاكاً في قدرة الله - تعالى - .والجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا قال زكريا عندما بشرته الملائكة؟ فكان الجواب : قال رب أنى يكون لى غلام .وقد خاطب زكريا ربه مع أن النداء له صدر من الملائكة ، للإشعار بالمبالغة في التضرع وأنه قد طرح الوسائط واتجه إلى خالقه مباشرة يشكره ويظهر التعجب من قدرته لأنه - سبحانه - أعطاه ما لم تجر العادة به .قال الآلوسي وقوله { يَكُونُ } يجوز أن تكون من كان التامة فيكون فاعلها هو قوله { غُلاَمٌ } ويكون الظرف { أنى } والجار والمجرور { لِي } متعلقان بها .ويجوز أن تكون من كان الناقصة و { لِي } متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة . وفى الخبر حينئذ وجهان : أحدهما { أنى } لأنها بمعنى كيف أو من أين والثانى الخبر الجار والمجرور { أنى } منصوب على الظرفية " .وقوله { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } جملة حالية من ياء المتكلم ، أى أصابنى الكبر وأدركنى فأضعفنى وأفقدني قوتى .والكبر مصدر كبر الرجل إذا أسن . وقد قال زكريا { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } ولم يقل وقد بلغت الكبر للإشارة إلى أن الكبر قد تابعه ولازمه حتى أصابه بالضعف والآلام والأسقام .وقوله { وامرأتي عَاقِرٌ } جملة حالية أيضاً إما من ياء { لِي } أو ياء { بَلَغَنِي } .فأنت ترى أن زكريا - عليه السلام - قد أظهر التعجب عندما بشرته الملائكة بغلامه يحيى لأنه كان شيخا مسنا ولأن امرأته كانت عقيما لا تلد إما لكبر سنها - أيضاً وإما لأنها من الأصل كانت على غير استعداد للحمل والإنجاب .قال ابن عباس : كان زكريا يوم بشر بيحيى ابن عشرين ومائة سنة وكانت أمرأته بنت ثمان وتسعين سنة " .ثم حكى القرآن أن الله تعالى قد رد على زكريا بما يزيل عجبه ويمنع حيرته فقال تعالى ، { قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } .أى قال - سبحانه - : مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذى رأيته من أن يكون لك غلام وأنت شيخ كبير وامرأتك عاقر مثل ذلك الفعل يفعل الله ما يشاء أن يفعله ، لأنه - سبحانه - هو خالق الأسباب والمسببات ولا يعجزه شىء في هذا الكون ، وبقدرته أن يغير ما جرت به العادات بين الناس .فالجملة الكريمة بجانب تضمنها إقناع زكريا وإزالة عجبه ، تتضمن أيضاً تقرير قضية عامة وهى أن الله - تعالى - يفعل ما يشاء أن يفعله بدون تقيد بالأسباب والمسببات والعادات فهو الفعال لما يريد .
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ
📘 ثم حكى القرآن أن زكريا - لشدة لهفته على تحقق البشارة - سأل ربه أن يجعل له علامة تكون دليلا على تحقيق الحمل عند زوجته فقال - تعالى : { قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً } .أى قال زكريا مناجيا ربه : يا رب إنى أسألك أن تجعل لي { آيَةً } آي : علامة تدلنى على حصول الحمل عند زوجتي : لأبادر إلى القيام بشكر هذه النعمة شكراً جزيلا ولأقوم بحقها حق القيام .وقد أجابه - سبحانه - إلى طلبه فقال : { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } . أي قال الله - تعالى - لعبده زكريا : آيتك أى علامتك ألا تقدر على كلام الناس من غير آفة في لسانك لمدة ثلاثة أيام إلا { رَمْزاً } أى إلا عن طريق الإيحاء والإشارة .وأصل الرمز الحركة . يقال ارتمز أى تحرك ، ومنه قيل للبحر الراموز وفعله من باب نصر وضرب . ثم أطلق الرمز على الإيماء بالشفتين أو بالحاجبين وعلى الإشارة باليدين وهو المراد هنا .قال صاحب الكشاف : قال الله - تعالى - لزكريا آيتك ألا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام : وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله . ولذلك قال : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } يعنى فى أيام عجزك عن تكليم الناس وهى من الآيات الباهرة ، فإن قلت : لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت : ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره ، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها الذي طلب الآية من أجله ، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر . وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه { إِلاَّ رَمْزاً } أى : إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما .وعلى رأى صاحب الكشاف يكون احتباس لسان زكريا عن كلام الناس اضطراريا وليس عن اختيار منه .ويمكن أن يقال . إن المراد بقوله - تعالى - { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } . . . أن زكريا - عليه السلام - عندما طلب آية يعرف بها أن زوجته قد حملت بهذا الغلام الذى بشره الله به ، أخبره - سبحانه - أن العلامة على ذلك أن يوفق إلى خلوص نفسه من شواغل الدنيا حتى أنه ليجد نفسه متجها اتجاها كليا إلى ذكر الله وتمجيده وتسبيحه ، دون أن يكون عنده أى دافع إلى كلام الناس أو مخالطتهم مع قدرته على ذلك ، وعلى هذا يكون انصراف زكريا - عليه السلام - عن كلام الناس اختيارا وليس اضطراريا كما يرى صاحب الكشاف .ثم أمره الله - تعالى - بالإكثار وتسبيحه فقال : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } .و { العشي } جمع عشية وقيل : هو واحد وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ، وأما { الإبكار } فمصدر أبكر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار .. . ومنه الباكورة لأول الثمرة . والمراد به هنا الوقت الذى يكون من طلوع الفجر إلى الضحى .أى عليك أن تكثر من ذكر الله - تعالى - ومن تسبيحه فىأول النهار وفى آخره وفى كل وقت لا سيما فى تلك الأيام الثلاثة شكراً لله - تعالى - على ما أعطاك من نعم جليلة لا تحصى ، فقد وهبك الذرية بعد أن بلغت من الكبر عتيا ، وجعل هذا المولود من أنبياء الله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته .وفي هذا الأمر الإلهي لزكريا حصن لكل عاقل على الإكثار من ذكر الله من تسبيحه وتمجيده لن ذكر الله به تطمئن القلوب . وتسكن النفوس وتغسل الخطايا والذنوب ويكفى للدلالة على فضل الذكر أن الله - تعالى - أمر به حتى في حالة الحرب فقال : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا جانبا من قصد زكريا - عليه السلام - فيه الكثير من العبر والعظات لقوم يعقلون .وبعد أن بين - سبحانه - ما يدل على مظاهر قدرته فى ولادة يحيى - عليه السلام - حيث وهبه لوالديه بعد أن بلغا مبلغاً كبيراً من العمر يستبعد معه في العادة الإنجاب . . . بعد أن بين كل ذلك ساق قصة أخرى أدل على قدرة الله ونفاذ إرادته من قصة ولادة يحيى ، وهذه القصة هي قصة ولادة عيسى - عليه السلام - من غير أب . وقد مهد القرآن لولادة عيسى ببيان أن الله - تعالى - قد اصطفى أمه مريم وطهرها من كل فاحشة ، وفضلها على نساء زمانها ، وصانها من كل ما يخدش المروءة والشرف . استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول : { وَإِذْ قَالَتِ . . . . } .
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
📘 قوله - تعالى - { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم . . } إلخ معطوف على قوله : { إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } الخ عطف القصة على القصة ، فإن الله - تعالى - بعد أن ذكر ما قالته امرأة عمران عندما أحست بالحمل . وبعد ولادتها لمريم ، وما كان من شأنها وتربيتها وكفالتها بعد أن ذكر ذلك ، بين - سبحانه - ما كان من أمر مريم بعد أن بلغت رشدها واكتمل تكوينها ، وجاء بقصة زكريا بين قصة الأم وابنتها لما بينهما من مناسبة إذ أن دعاء زكريا ربه كان سببه ما رآه من إكرام الله - سبحانه - لمريم ولأن الكل لبيان اصطفاء آل عمران .والمعنى ، واذكر يا محمد للناس وقت أن قالت الملائكة لمريم - التي تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا - يا مريم { إِنَّ الله اصطفاك } أى اختارك واجتباك لطاعته ، وقبلك لخدمة بيته { وَطَهَّرَكِ } من الأدناس والأقذار ، ومن كل ما يتنافى مع الخلق الحميد ، والطبع السليم { واصطفاك على نِسَآءِ العالمين } بأن وهب لك عيسى من غير أب دون أن يمسسك بشر . وجعلك أنت وهو آية للعالمين .فأنت ترى أن الله - تعالى - قد مدح مريم مدحا عظيما بأن شهد لها بالاصطفاء والطهر والمحبة ، وأكد هذا الخبر للاعتناء بشأنه ، والتنويه بقدره .قال الفخر الرازي ما ملخصه :والاصطفاء الأول إشارة إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها بأن قبل الله - تعالى - تحريرها أى خدمتها لبيته ، مع أنها أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث ، وبأن فرغها لعبادته وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة ، وبأن كفاها أمر معيشتها فكان يأتيها رزقها من عند الله . .وأما الاصطفاء الثاني فالمراد به أنه - تعالى - وهب لها عيسى - عليه السلام من غير أب ، وجعلها وابنها آية للعالمين " .ولا شك أن ولادتها لعيسى من غير أب ودون أن يمسها بشر ، هو أمر اختصت به مريم ولم تشاركها فيه امرأة قط فى أى زمان أو مكان ، فهى أفضل النساء في هذه الحيثية .أما من حيث قوة الإيمان ، وصلاح الأعمال فيجوز أن يحمل اصطفاؤها على نساء العالمين على معنى تفضيلها على عالمى زمانها من النساء وبعضهم يرى أفضليتها على جميع النساء في سائر الأعصار .هذا وقد أورد ابن كثير عدداً من الأحاديث التي وردت في فضل مريم وفي فضل غيرها من النساء ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن علي بن أبي طالب أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد "وروى الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران ، وخديجة بن خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " وأخرج البخارى عن أبى موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون . ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " .وقول الملائكة لمريم إن الله اصطفاك وطهرك . . . إلخ الراجح أنهم قالوه لها مشافهة ، لأن هذا ما يدل عليه ظاهر الاية ، وإليه ذهب صاحب الكشاف فقد قال : روى أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا ، أو إرهاصا لنبوة عيسى - عليه السلام - .وقال الجمل قوله : { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة } أى مشافهة لها بالكلام ، وهذا من باب التربية الروحية بالتكاليف الشرعية المتعلقة بحال كبرها بعد التربية الجسمانية اللائقة بحال صغرها " .وقيل كأن خطابهم لها بالإلهام أو بالرؤيا الصادقة في النوم .والأول أولى لانه هو الظاهر من الآية ، ولأنه الموافق لأقوال جمهور المفسرين ، ولأنه جاء صريحا في آيات أخرى أن الملك قد تمثل لها بشراً سويا وكلمها ، وذلك في قوله - تعالى - في سورة مريم : { واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } قال الآلوسي : " واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم : لأن تكليم الملائكة يقتضيها ومنعها اللقانى وغيره من العلماء ، لأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبى إجماعا ، فقد جاء في الحديث الشريف أنهم كلموا رجال خرج لزيارة أخ له في الله ، وأخبروه بأن الله يحبه كما أحب هو أخاه ، ولم يقل أحد بنبوته - فكلام الملائكة لمريم لا يقتضي نبوتها وهو الصحيح " .
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ
📘 ثم حكى القرآن أن الملائكة أمرت مريم بأن تكثر من عبادة الله - تعالى - ومن المداومة على طاعته شكراً له فقال - تعالى - :{ يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين } .القنوت . لزوم الطاعة والاستمرار عليها ، مع استشعار الخشوع والخضوع لله رب العالمين .أى : قالت الملائكة أيضاً لمريم : يا مريم أخلصى لله وحده وداومى عليها ، وأكثرى من السجود لله ومن الركوع مع الراكعين ، فإن ملازمة الطاعات والصلوات من شانها أن تحفظ النعم وأن تزيد الإنسان قربا وحبا من خالقه - عز وجل - .فالآية الكريمة دعوة قوية من الله - تعالى - لمريم ولعباده جميعا بالمحافظة على العبادات ولا سيما الصلاة في جماعة .قال صاحب الكشاف : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئة الصلاة واركانها ثم قيل لها { واركعي مَعَ الراكعين } بمعنى ولتكن صلاتك مع المصلين أى في الجماعة ، أو انظمى نفسك في جملة المصلين وكونى معهم في عدادهم ولا تكونى في عداد غيرهم .فأنت ترى فى هاتين الآيتين أسمى ألوان المدح والتكريم والتهذيب لمريم البتول ، فلقد أخبر - سبحانه - باصطفائها صغيرة وكبيرة ، وبطهرها من كل سوء ، والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى ، وذلك لما لابس مولد عيسى - عليه السلام - من خوارق ، هذه الخوارق جعلت اليهود يفترون الكذب على مريم ، ويتهمونها زورا وبهتانا بما هى بريئة منه ، ثم بعد ذلك يأمرها - سبحانه - بمداومة الطاعة والعبادة والخضوع لله رب العالمين .وبذلك يتبين لكل ذى عقل سليم أن الإسلام الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الحق ، لأنه قد قال القول الحق في شأن مريم وابنها عيسى - عليه السلام - أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقد اختلفوا في شأنهما اختلافا عظيما أدى بهم إلى الضلال والخسران .
ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - أن ما جاء به القرآن في شأن مريم - بل وفي كل شأن من الشئون - هو الحق الذى لا يحوم حوله باطل ، وهو من أنباء الغيب التى لا يعلمها أحد سواه فقال - تعالى - : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ } .واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى ما تقدم الحديث عنه من قصة امرأة عمران وقصة زكريا وغير ذلك من الأخبار البديعة .والأنباء : جمع نبأ ، وهو الخبر العظيم الشأن .والغيب : مصدر غاب ، وهو الأمر المغيب المستور الذى لا يعلم إلا من قبل الله - تعالى - .ونوحيه : من الإيحاء وهو إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفى ، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء وبمعنى الإلهامأى : ذلك القصص الحكيم الذى قصصناه عليك يا محمد ، فيما يتعلق بما قالته امرأة عمران وما قاله زكريا ، وما قالته الملائكة لمريم وفيما يتعلق بغير ذلك من شئون ذلك القصص الحكيم هو من أنباء الغيب التي لا يعلمها أحد سوى الله - عز وجل - وقد أخبرناك بها لتكون دليلا على صدقك فيما تبلغه عن ربك ولتكون عبرة وذكرى لقوم يعقلون .وقوله { ذلك } مبتدأ وخبره قوله - تعالى - { مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب . وقوله { نُوحِيهِ إِلَيكَ } جملة مستقلة مبينة للأولى . والضمير في { نُوحِيهِ } يعود إلى الغيب أى الأمر والشأن أنا نوحى إليك الغيب ونعلمك به ، ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار .ولذ قال - تعالى - { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } والأقلام جمع قلم وهى التى كانوا يكتبون بها التوراة ، وقيل المراد بها السهام .أى وما كنت - يا محمد - لديهم أى عندهم معاينا لفعلهم وما جرى من أمرهم فى شأن مريم ، { إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ } التى جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون فيما بينهم بسببها تنافسا في كفالتها .وقد سبق أن ذكرنا ما قاله صاحب الكشاف من أن مريم بعد أن ولدتها أمها خرجت بها إلى بيت المقدس فوضعتها عند الأحبار وقالت لهم : دونكم هذه النذيرة!! فقالوا : هذه ابنة إمامنا عمران - وكان في حايته يؤمهم في الصلاة ، فقال لهم زكريا : أدفعوها إلى فأنا أحق بها منكم فإن خالتها عندى - فقالوا لا حتى نقترع عليها فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم ، فتولى كفالتها زكريا - عليه السلام - . فالمضمير فى قوله { لَدَيْهِمْ } يعود على المتنازعين في كفالة مريم لأن السياق قد دل عليهم .والمقصود من هذه الجملة الكريمة { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون } الخ تحقيق كون الإخبار بما ذكر إنما هو عن وحى من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معاصرا لهؤلاء الذين تحدث القرآن عنهم . ولم يقرأ أخبارهم في كتاب من الكتب ، ومع ذلك فقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم بالحق الذى لا يستطيعون تكذيبه إلى على سبيل الحسد والجحود ، فثبت أن القرآن من عند الله - تعالى -
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
📘 { إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } .وهذه الجملة الكريمة بدل اشتمال من جملة { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله اصطفاك } . . الخ قالوا : ولا يضر الفصل إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض جىء به تقريراً لما سبق؛ وتنبيها على استقلاله .والظرف { وَإِذْ } معمول لمحذوف تقديره اذكر ، أى اذكر وقت أن قالت الملائكة لمريم ، يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه .وقوله يبشرك { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } أى يبشرك بمولود يحصل بكلمة منه - سبحانه - وسمى هذا المولود كلمة لأنه وجد بكلمة كن فهو من باب إطلاق السبب على المسبب .والمراد أنه وجد من غير واسطة أب ، لأن غيره وإن وجد بتلك الكلمة لكنه بواسطة أب ، أى أنه - سبحانه - إذا كان قد خلق الناس بطريق التناسل عن ذكر وأنثى وأخرج الأولاد من أصلاب الآباء ، فإن عيسى - عليه السلام - لم يكن كذلك ، بل خلقه الله - تعالى - خلقا آخر ، خلقه { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } وهى " كن " فكان كما أراده الله و " من " فى قوله " منه " لابتداء الغاية والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة : أى بكلمة كائنة منه .فالمراد بقوله " كلمة " أى يبشر بولد حى يسرى عليه حكم الأحياء اسمه المسيح عيسى ابن مريم وعلى هذا التأويل سار كثير من المفسرين .ورجح ابن جرير أن معنى { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } ببشرى منه - سبحانه - فقد قال : وقوله " بكلمة منه " يعنى برسالة من الله وخير من عنده وهو من قول القائل : ألقى إلى فلان كلمة سرنى بها بمعنى أخبرنى خبرا فرحت به . . فتأويل الكلام : وما كنت يا محمد عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده ، هى ولدك اسمه المسيح عيسى ابن مريم " .وعلى كلا التأويلين ففى التعبير عن عيسى - عليه السلام - بأنه كلمة من الله تكريم له وتشريف ، وقوله { اسمه المسيح } مبتدأ وخبر ، والجملة نعت . والضمير في قوله { اسمه } يعود إلى كلمة . وجاء مذكراً رعاية للمعنى لأننا سبق بينا أن المراد بها عند كثير من المفسرين الولد .والمسيح : لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق ، وأصله مشيحاً بالعبرانية ومعناه المبارك . وقد حكى الله - تعالى - أنه قال عن نفسه { قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً } وقيل المسيح فعيل بمعنى فاعل ، للمبالغة في مسحه الأرض بالسياحة للعبادة : أو مسحه ذا العاهة ليبرأ . أو بمعنى مفعول أي ممسوح لأن الله مسحه بالطهر من الذنوب .وعيسى : اسم لهذا الاسم الكريم ، وهو اسم ينبىء عن البياض والصفاء والنقاء .قال الراغب : عيسى اسم علم ، وإذا جعل عربياً أمكن أن يكون من قولهم بعيراً عيسى وناقة عيساء وجمعها عيس وهى أبل بيض يعترى بياضها بعض الظلمة " أى فيها أغبرار قليل يعطى بياضها صفاء ونقاء وجمالا .وابن مريم : هو كنيته ، وهي للإشارة إلى أن نسبه ثاتب لأمه لا لأحد سواها وليس ابنا لله - تعالى - كما قال الضالون .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قيل عيسى بن مريم والخطاب لمريم؟ قلت : لأن الأبناء ينسبون إلى الأباء لا إلى الأمهات ، فأعلمت بنسبه إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه . وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين : فإن قلت لم ذكر ضمير الكلمة . قلت لأن المسمى بها مذكر . فإن قلت : لم قيل اسمه المسيح عيسى بن مريم وهذه ثلاثة أشياء : الاسم منها عيسى وأما المسيح والابن فلقب وصفة؟ قلت : الاسم المسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره ، فكأنه قيل : الذى يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة " .والمعنى الإجمالي للجملة الكريمة : اذكر يا محمد وقت أن قالت الملائكة لمريم : يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه أى بمولود يحصل بكلمة منه بلا واسطة أب ، هذا المولود العجيب اسمه الذى يميزه لقبا المسيح ويميزه علماً عيسى ويميزه كنبة ابن مريم .فأنت ترى أنه - سبحانه - قد عرف هذا المولود العظيم بتعريف واحد جمع ثلاثة أمور كل واحد منها يشيى إلى معنى كريم قد تحقق فى هذا النبى العظيم ومجموع هذه الأمور لا يشاركه فيها أحد من البشر ، ثم بعد ذلك وصفه - سبحانه - بأربعة أوصاف تدل على فضله وعلو منزلته فقال - تعالى -
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ
📘 { وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَمِنَ الصالحين } .أما الصفة الأولى فهي قوله - تعالى - : { وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة } أى ذا جاه وشرف ومنزلة عالية . يقال وجه الرجل يوجه - من باب ظرف - وجاهة فهو وجيه إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس . واشتقاقه من الوجه لأنه أشرف الأعضاء ولأنه هو الذى يواجه الإنسان به غيره .وعيسى عليه السلام ، شهد الله تعالى له ، - وكفى بالله شهيداً - شهد له بالوجاهة وسمو المنزلة في الدنيا والآخرة لما له من آثار عظيمة فى هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، ودعوتهم إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق ، وإقامة التوراة بعد أن اختلفوا فيها .والصفة الثانية من صفاته أنه { المقربين } أى أنه من المقربين عند الله - تعالى - { وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً } وهذه الجملة معطوفة على قوله { وَجِيهاً } وعطف الفعل على الاسم لتأويله به جائز والتقدير وجيها ومكلما ، والمهد اسم لمضجع الطفل أى المكان الذى يهيأ له وهو في الراضاعة . والكهل : هو الشخص الذى اجتمعت قوته وكمل شبابه . وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوى وتم .والمراد أن عيسى - عليه السلام - يكلم الناس فى حال كونه صغيراً قبل أوان الكلام ، كما يكلمهم في حال كهولته واكتمال شبابه ، فهو - عليه السلام - يكلمهم بكلام الأنبياء من غير تفاوت بين حالتى الطفولة والكهولة ، وذلك إحدى معجزاته - عليه السلام - وقد حكى القرآن في سورة مريم ما تكلم به عيسى - عليه السلام - وهو طفل صغير فقال - تعالى - : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } أما الصفة الرابعة من صفاته - عليه السلام - فهى قوله - تعالى - { وَمِنَ الصالحين } أى عباد الله الصالحين لحمل رسالته وتبليغها للناس . أو من الذين يصلحون ولا يفسدون ويطيعون الله - تعالى - ولا يعصونه ، قالوا : ولا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً لأنه لا يكون كذلك إلا إذا كان في جميع الأفعال والتروك مواظبا على المنهج الأصلح ، وذلك يتناول جميع المقامات فى الدين والدنيا ، فى أفعال القلوب وفى أفعال الجوارح ، ولذا قال سليمان - عليه السلام - بعد النبوة{ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } فلما عدد - سبحانه - صفات عيسى أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات " .تلك هي البشارات التي بشرت بها الملائكة مريم ، وتلك هي بعض صفات مولودها فماذا كان موقفها من ذلك؟
قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
📘 لقد حكى القرآن أن موقفها كان يدل على بالغ عجبها ، وشدة تأثرها فقال - تعالى - { قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } .أى : قالت مريم على سبيل التعجب والاستغراب : يا رب كيف يكون لى ولد والحال أنى لم يمسسنى بشر ، أى لست بذات زوج ، ولم يحصل منى قط ما يكون بين الرجل والمرأة مما يسبب عنه وجود الولد .والجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل : فماذا كان منها بعد أن قالت لها الملائكة ذلك؟ فكان الجواب : { قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ } . . . الخ .وصدرت إجابتها بالنداء لله - تعالى - للإشعار بكمال تسليمها للقدرة الإلهة وأن استغرابها وتعجبها إنما هو من الكيفية لا إنكارا لقدرة الله - تعالى - وجملة { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } حالية محققة لما مر ومقوية له .والمسيس يحتمل أن يكون كناية عن المباشرة التي تقع بين الرجل والمرأة ولاتي يترتب عليها وجود النسل غذا شاء الله ذلك ، ويحتمل أن يكون المراد به حقيقته وهو أنها لم يلمسها رجل ، لأنها كانت معتكفة في بيت الله ومنصرفة لعبادته ، ولم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط . وبذلك ينتفى بالأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس ، فموضع عجبها واستنكارها إنما هو وجود ولد منها مع أنها لم يمسسها بشر .وهنا يحكى القرىن أن الله - تعالى - قد أزال عجبها واستنكارها بقوله : { قَالَ كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } .أى قال الله - تعالى - لها بلا واسطة أو بواسطة ملائكته : كهذا الخلق الذى تجدينه ، بأن يكون لك ولد من غير أن يمسسك بشر وهو إبداع ، يخلق الله - تعالى - ويبدع ما يشاء ويريد إبداعه لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه .وبعضهم يجعل الوقوف على " كذلك " فتكون خبرا لمبتدأ محذوف أى قال - سبحانه - فى إجابته على مريم : الأمر كذلك أى يأتى الولد منك على الحالة التى أنت عليها لأن الله - تعالى - يخلق ما يشاء أن يخلقه بدون احتياج إلى وجود الأسباب والمسببات لنه هو خالقه وخالق كل شىء ، ولا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء .وصرح ههنا بقوله { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } ولم يقل " يفعل " كما في قصة زكريا ، لما أن ولادة العذراء من غير أن يمسسها بشر أبدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ كبير ، فكان الخلق المنبىء عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل .ثم أكد - سبحانه - عظيم قدرته ونفاذ إرادته بقوله : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .وقضى هنا بمعنى أراد ، أى إذا اراد - سبحانه - شيئاً ، فإنما يقول لهذا الشىء كن فيكون من غير تأخر ومن غير وجود أسباب ، فهو كقوله - تعالى - { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } أى إنما نأمره مرة واحدة لا تثنية فيها فيكون ذلك الشىء سريعا كلمح البصر .قال الآلوسى : وقوله { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } هذا عند الأكثرين تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة ، فالممثل الشىء المكون بسرعة من غير عمل وآلة ، والممثل به أمر الآمر المطاع - المأمور المطيع على الفور ، وهذا اللفظ مستعار لذلك منه .وأنت تعلم أنه يجوز فيه أن يكون حقيقة ، بأن يراد تعلق الكلام النفسى بالشىء الحادث على أن كيفية الخلق على هذا الوجه .وعلى كلا التقديرين فالمراد من هذا الجواب بيان أن الله - تعالى - لا يعجزه أن يخلق ولدا من غير أب ، لأنه أمر ممكن في نفسه فيصح أن يكون متعلق الإرادة والقدرة .وبذلك تكون الآيات الكريمة قد حكت لنا بعض البشارات التي بشرت بها الملائكة مريم وبعض الصفات التي وصف الله - تعالى - بها عيسى ، وبينت جانباً من مظاهر قدرة الله - تعالى - ونفاذ إرادته ، وفى ذلك ما فيه من العظات والعبر لأولى الألباب .
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
📘 ثم واصل القرآن حديثه عن صفات عيسى - عليه السلام - وعن معجزاته فقال - تعالى : { وَيُعَلِّمُهُ الكتاب . . . } .فأنت ترى فى هذه الآيات الكريمة بيانا حكيما عن طبيعة رسالة عيسى - عليه السلام - وعن معجزاته التى أكرمه الله - تعالى - بها .وقوله - تعالى - : { وَيُعَلِّمُهُ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } معطوف على ( يُبَشِّرُكِ ) أى : يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه . . . وإن الله يعلم ذلك المولود - المعبر عنه بالكلمة - الكتاب ، وقرأ بعضهم ونعلمه الكتاب . . وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملة معمولة لقوله محذوف من كلام الملائكة أى ويقول الله - تعالى - ونعلمه . . وتكون فى المعنى معطوفة على الحال وهى قوله " وجيها " فكأنه قال : وجيها ومعلماً .وعلى كلتا القراءتين يجوز أن تكون الجملة المستأنفة سيقت تطييبا لقلب مريم ، وإراحة لما أهمها من خوف الملامة حين علمت أنها تلد من غير أن يمسها بشر .ولقد حكى القرآن عنها فى سورة مريم قولها بتحسر وألم عندما جاءها المخاض { ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } والمراد بالكتاب الكتابة والخط ، فإن عيسى - عليه السلام - قد بعثه الله - تعالى - فى أمة ارتقت فيها ألوان العلم والمعرفة فأكرمه الله بأن جعله يفوق غيره فى هذه النواحى . وقيل المراد بالكتاب جنس الكتب الإلهية .قال الفخر الرازى : " والأقرب عندى أن يقال : المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة . ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق ، لأن كمال الإنسان فى أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، ومجموعهما هو المسمى بالحكمة ، ثم بعد أن صار عالما بالخط والكتابة ومحيطاً بالعلوم العقلية والشرعية يعمله التوراة . وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة ، لأن التوراة كتاب إلهى فيه أسرار عظيمة والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض فى البحث عن أسرار الكتب الإلهية . ثم قال فى المرتبة الرابعة والإنجيل . وإنما أخر ذكر الإنجيل عن التوراة لأن من تعلم الخط ، ثم تعلم علوم الحق ، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذى نزل على من قبله من الأبنياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله عليه بعد ذلك كتابا آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو العناية القصوى والمرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية ، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية " .
وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
📘 وبعد أن أشار - سبحانه - إلى علم الرسالة التى هيأ لها عيسى - عليه السلام - عقب ذلك ببيان القوم الذين أرسل إليهم فقال - تعالى - { وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ } أى أن الله - تعالى - سيجعل عيسى - عليه السلام - رسولا إلى بنى إسرائيل لكى يهديهم إلى الصراط المستقيم ، ولكى يبشرهم برسول يأتى من بعده هو خاتم الأنبياء والمرسلين ، ألا وهو محمد صلى الله عليه وسلم .وخص بنى إسرائيل بالذكر مع أن رسالة عيسى كانت إليهم وإلى من علمها من الرومان : لأن بنى إسرائيل خرج عيسى من بينهم فهو منهم ، ولأنهم هم الذين كانوا يدعون أنهم أولى الناس بعلم الرسائل الإلهية ، وكانت دعوته بينهم وانبعث منهم إلى غيرهم ، فكان تخصيصهم بالذكر فيه إشارة إلى حقيقة واقعة وفيه توبيخ لهم ، لأنهم أوتوا العلم برسالات الأنبياء ومع ذلك فقد كفر كثير منهم بعيسى وبغيره من رسل الله ، بل لم يكتفوا بالكفر وإنما آذوا أولئك الرسل الكرام وقتلوا فريقا منهم .وقوله { وَرَسُولاً } منصوب بمضمر يقود إليه المعنى ، معطوف على { وَيُعَلِّمُهُ } أى يعلمه ويجعله رسولا إلى بنى إسرائيل .وقوله { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } معمول لقوله { رَسُولاً } لما فيه من معنى النطق . كأنه قيل : ورسولا ناطقا بأنى قد جئتكم يا بنى إسرائيل بآية من ربكم .والباء للملابسة وهيى مع مدخولها فى محل الحال وقوله { مِّن رَّبِّكُمْ } متعلق بمحذوف صفة لآية . والمراد بالآية هنا المعجزات التى أكرمه الله بها .أى : أن الله - تعالى - قد علم عيسى - عليه السلام - الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعله رسولا إلى بنى إسرائيل مخبرا إياهم بأنى رسول الله إليكم حال كونى ملتبسا مجيئى بالمعجزات الدالة على صدقى ، وهذه المعجزات ليست من عندى وإنما هى من عند ربكم .ثم ذكر - سبحانه - خمسة أنواع من معجزات عيسى - عليه السلام - أما المعجزة الأولى فعبر عنها بقوله : { أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله } .قال الآلوسى : " وقوله { أني أَخْلُقُ لَكُمْ } . . الخ . . بدل من قوله { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } أو من { آيَةٍ } أو منصوب على المفعولية لمحذوف أى أعنى أنى أخلق لكم . . . أو مرفوع على أنه خبر لمقدر أى أنى قد جئتكم بآية من ربكم هى أنى أخلق لكم . وقرأ نافع بكسر الهمزة على الاستئناف ، والمراد بالخلق التصوير والإبراز على مقدار معين لا الايجاد من العدم " .والمعنى أن عيسى - عليه السلام - قد حكى الله - عنه أنه قال لبنى إسرائيل : لقد أرسلنى الله إليكم لابلغكم دعوته ، ولآمركم بإخلاص العبادة له ، وقد أعطانى - سبحانه - من المعجزات ما يقنعكم بصدقى فيما أبلغه عن ربى ، ومن بين هذه المعجزات أنى أقدر على أن أصور لكم من الطين شيئاً صورته مثل صورة الطير ، فأنفخ فى ذلك الشىء المماثل لهيئة الطير فيكون طيرا حقيقا ذا حياة بإذن الله أى بأمره وإرادته .فأنت ترى أن الجملة الكريمة قد اشتملت على ثلاثة أعمال : ثنتان منهما لعيسى وهما تصوير الطين كهيئة الطير ثم النفخ فيه .أما الثالث فهو من صنع الله تعالى - وحده ألا وهو خلق الحياة فى هذه الصورة التى صورها عيسى ونفخ فيها . وهذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس فى عيسى ألوهية ولا أى معنى من معانيها . ولا حكى الله - تعالى - عنه أنه قال : { بِإِذْنِ الله } .أي أنى ما فعلت الذى فعلته إلا بإذن الله وأمره وإرادته وتيسيره ، واللام في قوله { لَكُمْ } للتعليل أى أصور لأجل هدايتكم وتصديقكم بى .والكاف فى قوله { كَهَيْئَةِ الطير } بمعنى مثل وهى نعت لمفعول محذوف أى أخلق شيئاً مثل هيئة الطير ، والهيئة هى الصورة والكيفية .والضمير فى قوله { فَأَنفُخُ فِيهِ } يعود إلى هذا المفعول المحذوف .وقوله { بِإِذْنِ الله } متعلق بيكون ، وجئ به لإظهار العبودية ، ونفى توهم أن يكون عيسى أو غيره شريكا لله فى خلق الكائنات .وأما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات فقد حكاه القرآن فى قوله - تعالى - { وَأُبْرِىءُ } أى أشفى ، يقال : برأ المريض يبرأ أو يبرؤ برءا وبروءا إذا شفى من مرضه .والأكمه : هو الذى يولد أعمى . يقال كمه كمها إذا ولد أعمى ، فهو أكمه وامرأة كمهاء .والأبرص : هو الذى يكون في جلده بياض مشوب بحمرة وهو مرض من الأمراض المنفرة التى عجز الأطباء عن شفائها .والمعنى : أن عيسى - عليه السلام - قال لقومه : والمعجزات التى تدل على صدقى أن أشفى وأعيد الإبصار إلى من ولد أعمى ، وأعيد الشفاء إلى من أصيب بمرض البرص ، وأعيد الحياة إلى من مات . ولا أفعل كل ذلك بقدرتي وعلمى وإنما أفعله بإذن الله وبإرادته وأمره .وخص إبراء الأكمه والأبرص بالذكر لأنهما مرضان عضالان لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منهما فإذا أجرى الله - تعالى - على يد عيسى الشفاء منهما كان ذلك دليلا على أن من وراء الأسباب والمسببات خالقا مختارا لا يعجزه شىء وعلى أن الأسباب ليست مؤثرة بذاتها فى الإيجاد أو الإعدام وإنما المؤثر هو الله - تعالى - .وقوله { وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله } فيه تدرج من الصعب إلى الأصعب ، لأن مما لا شك فيه أن إحياء الموتى خارق عظيم ، يدل دلال قاطعة على أن الأسباب العادية ليست هى المؤثرة وإنما الخالق المكون هو المؤثر وأن الأشياء لم تخلق بالعلية - كما يقول الماديون - وإنما خلقت بالإرادة المختارة والقدرة المبدعة المنشئة المكونة ، وهى إرادة خالق الكون وقدرته سبحانه .وقيد ما يقوم به من إبراء وإحياء بأنه بإذن الله : للتنبيه على أن ما يفعله من خوراق وإنما هو بأمر الله وتيسيره وإرادته .وقد ذكر المفسرون أن إبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياءه للموتى كان عن طريق الدعاء ، وكان دعاؤه يا حى يا قيوم ، وذكروا من بين من أحياهم سام ابن نوح .قال ابن كثير : بعث الله كل نبى بمعجزة تناسب أهل زمانه ، فكان الغالب على زمان موسى السحر وتعظيم السحرة ، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحّار ، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام . وأما عيسى فعبث فى زمن الأطباء واصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيداً من الذى شرع الشريعة فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد ، أو على مداواة الأكمه والأبرص؟ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاويد الشعراء فأتاهم بكتاب من الله لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله ما استطاعوا أبدا ، وماذاك إلى أن كلام الرب لا يشبه كلام الخلق " .وأما المجزة الخامسة فقد حكاها القرآن في قوله - تعالى - { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } .وقوله - تعالى - { وَأُنَبِّئُكُمْ } من الإنباء وهو الإخبار بالخبر العظيم الشأن .وقوله { تَدَّخِرُونَ } من الإدخار وهو إعداد الشىء لوقت الحاجة إليه . يقال : دخرته وادخرته ، إذ أعدته للعقبى . واصله " تذتخرون " بالذال المعجمة - من اذتخر الشىء - بوزن افتعل - فأبدلت التاء دالا ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت .والمعنى : أن عيسى - عليه السلام - قد قال لقومه بنى إسرائيل : وإن من معجزاتى التى تدل على صدقى فيما أبلغه عن ربى أنى أخبركم بالشىء الذى تأكلونه وبالشىء الذى تخبئونه فى بيوتكم لوقت حاجتكم إليه .قال القرطبى : وذلك أنه لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا : أخبرنا بما نأكل فى بيوتنا وما ندخر للغد ، فأخبرهم فقال : يا فلان أنت أكلت كذا وكذا ، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا فذلك قوله { وَأُنَبِّئُكُمْ } .و " ما " في الوضعين موصولة ، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أى بما تأكلونه وتدخرونه .ولا شك أن إخبار عيسى - عليه السلام - لقومه بالشىء الذى يأكلونه وبالشىء الذي يدخرونه يدل على صدقه ، لأن هذا الإخبار الغيبى بما لم يعاينه دليل على أن الله - تعالى - قد أعطاه علم ما أخبر به .ثم ختم الله - تعالى - هذه الآية بقوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } .أى إن فى ذلك المذكور من المعجزات التى أجراها الله - تعالى - على يد عيسى - عليه السلام - لدلالة واضحة وعلامة بينة تشهد بصدقه فيما يبلغه عن ربه ، إن كنتم يا بنى إسرائيل ممن يصدق بآيات الله ويذعن لها .فاسم الإشارة " ذلك " يعود إلى ما سبق ذكره من معجزات عيسى - عليه السلام - وجواب الشرط محذوف والتقدير : إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآيات وأذعنتم للحق الذى جئتكم به نم عند الله .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ
📘 ثم أخبر - سبحانه - عن شمول علمه لكل شئ فقال : { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } .أى أنه سبحانه - هو المطلع على كل صغير وكبير . وجليل وحقير ، فى هذا الكون ، لأنه هو الخالق له ، والمهيمن على شئونه . وصدق - سبحانه - حيث يقول : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } وذكر - سبحانه - السماء والأرض ، للإِشارة إلى أن علمه وسع كل شئ ، وسع السموات والأرض ، وليس الإِنسان بالنسبة لهما إلا كائنا صغيرا فكيف لا يعلم - سبحانه - ما يسره هذا الانسان وما يخفيه؟وفى تكرير حرف النهى " لا " تأكيد لنفى خفاء أى شئ عليه - سبحانه - والآية الكريمة وعيد شديد للكافرين بآياته ، لأنه - سبحانه - وهو العليم بما يسرونه وما يعلنونه ، سيجازيهم بمقتضى علمه بما يستحقونه .
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
📘 وبعد أن حكى القرآن المعجزات الباهرة التى أيد الله بها عيسى - عليه السلام - عقب ذلك بالإشارة إلى طبيعة رسالته فقال - تعالى { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } .وقوله - تعالى - { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة } عطف على المضمر الذى تعلق به قوله تعالى { بِآيَةٍ } أى قد جئتكم محتجا أو ملتبسا بآية من ربكم ، ومصدقا لما بين يدى . . وجوز أن يكون منصوبا بفعل دل عليه " قد جئتكم " . . أى جئتكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ، ومعنى تصديقه - عليه السلام - للتوراة والإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب ، وأن كتابه يدعو إلى الإيمان بها .والمعنى : أن عيسى - عليه السلام - قال لبنى إسرائيل : إن الله - تعالى - قد أرسلني إليكم لهدايتكم وقد جئتكم بالمعجزات التي تثبت صدقى . وجئتكم مصدقا لما بين يدى من التوراة . أي مقررا لها ومؤمناً بها .ومعنى ما بين يدى ما تقدم قبلى : لأن المتقدم السابق يمشي بين يدى الجائي فهو هنا تمثيل لحالة السبق ، وإن كان عيسى - عليه السلام - وبين نزول التوراة أزمنة طويلة لأنها لما اتصل العمل بها إلى مجيئه فكأنها لم تسبقه بزمن طويل ويستعمل بين يدى كذا فى معنى الحاضر المشاهد كما فى قوله - تعالى - { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } وقوله { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } معمول لمقدر بعد الواو ، أى : وجئتكم لأحل لكم بعض الأشياء التى كانت محرمة عليكم فى شريعة موسى - عليه السلام - فهو من عطف الجملة على الجملة .أى أن شريعة عيسى جاءت متممة لشريعة موسى وناسخة لبعض أحكامها ، فلقد حرم الله - تعالى - على بنى إسرائيل بعض الطيبات بسبب ظلمهم وبغيهم كما جاء فى قوله - تعالى - { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } فجاءت شريعة عيسى - عليه السلام - لتحل لهم بعض ما حرمه الله عليهم بسبب ظلمهم وفجورهم .قال ابن كثير : فيه دلالة على أن عيسى - عليه السلام - نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين : ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئا ، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطأوا فكشف لهم عن خطئهم كما قال فى الآية { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ } قالوا . ومن الأطعمة التي أحلها عيسى لبنى إسرائيل بعد أن كانت محرمة عليهم فى شريعة موسى : لحوم الإبل والشحوم وبعض الأسماك والطيور .وقوله { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } تحريض لهم على الاستجابة لما يدعوهم إليه .قال الفخر الرازى " وإنما أعاد قوله - تعالى - { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر ، فأعاد ذكر المعجزات ليكون كلامه ناجعا فى قلوبهم ومؤثرا في طباعهم . ثم خوفهم فقال : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله فبين أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعونى فيما آمركم عن ربى " .
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
📘 ثم حكى القرآن أن عيسى - عليه السلام - قد قرر أن هذه المعجزات الباهرة لن تخرجه عن أن يكون عبداً لله مخلوقا له ، وأن من الواجب على الناس أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً فقال : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أى قال عيسى - عليه السلام - داعيا قومه إلى عبادة الله - تعالى - هو الذى خلقنى وخلقكم وهو الذى ربانى ورباكم ، وما دام الأمر كذلك فأخلصوا له العبادة فإن عبادته - سبحانه - وطاعته هي الطريق المستقيم الذى لا اعوجاج فيه ولا التباس .وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت لنا بعض المعجزات التى أكرم الله بها عيسى - عليه السلام - كما حكت لنا بعض التوجيهات القويمة ، والإرشادات الحكمية التي نصح بها قومه لكى يسعدوا فى دنياهم وآخرتهم .والآن ينساق الذهن إلى سؤال هو : ماذا كان موقف بنى إسرائيل منه بعد أن جاءهم بما جاءهم به من بينات وهدايات؟
۞ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
📘 لقد حكى القرآن أن موقف أكثرهم منه كان موقف الكافر به الجاحد لرسالته فقال تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسَّ . . . . } .قوله - تعالى - { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله } شروع فى بيان مآل أحواله - عليه السلام - وفى بيان موقف قومه منه بعد أن بين - قبل ذلك بعض صفاته ومعجزاته وخصائص رسالته .وأحس : بمعنى علم ووجد وعرف . والإحساس : الإدراك ببعض الحواس الخمس وهى الذوق والشم واللمس والسمع والبصر . يقال أحس الشىء ، علمه بالحس . وأحس بالشىء شعر به بحاسته والمراد أن عيسى عليه السلام ، علم من بنى إسرائيل الكفر علما لا شبهة فيه .والأنصار جمع نصير مثل شريف وأشراف .والمعنى أن عيسى - عليه السلام - قد جاء لقومه بالمعجزات الباهرات التى تشهد بصدقه فى دعوته ولكنه لم يجد منهم أذنا واعية ، فلما رأى تصميمهم على باطلهم ، وأحس منهم الكفر أى علمه يقينا وتحققه تحقق ما يدرك بالحواس ، قال على سبيل التبليغ وطلب النصرة : من أنصارى إلى الله؟ أى من أعوانى في الدعوة إلى الله والتبشير بدينه حتى أبلغ ما كلفنى بتبليغه .قال ابن كثير : وذلك كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى مواسم الحج قبل أن يهاجر " هل من رجل يؤوينى وينصرنى حتى أبلغ كلام ربى فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربى " فقيض الله له الأنصار فآووه ونصروه ومنعوه من الأسود والأحمر " .والفاء في { فَلَمَّآ } تؤذن بالتعقيب على الآيات الباهرة . أى أنهم بعد أن رأوا ما رأوا من معجزات عيسى لم يمتثلوا له ولم يتدبروا عاقبة أمرهم بل كذبوه على الفور ، وحاولوا قتله تخلصا منه واستمروا على كفرهم .والتعبير بأحس - كما أشرنا من قبل - يشعر بأنه علم منهم الكفر علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس .والمقول لهم { مَنْ أنصاري إِلَى الله } هم الحواريون كما يشير إليه قوله - تعالى - في سورة الصف : { ياأيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أنصاري إِلَى الله } وقيل المقول لهم جميع أفراد قومه .وقوله { مِنْهُمُ } متعلق بأحس . ومن لابتداء الغاية أى ابتداء الإحساس من جهتهم . أو متعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أى أحس الكفر حال كونه صادرا منهم . وقوله { إِلَى الله } متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في أنصارى . أى من أنصارى حال كونى ذاهبا إلى الله أى ملتجئا إليه وشارعا في نصرة دينه .وفى قوله { مَنْ أنصاري إِلَى الله } حض لهم على المسارعة إلى نصرة الحق لأنهم لا ينصرونه من أجل متعة زائلة . وإنما هم ينصرونه لأنه يدافع عن دين الله ويبشر به ، ومن نصر دين الله ، نصره الله تعالى .والآية الكريمة تشير إلى أن الكافرين كانوا هم الكثرة الكاثرة من بنى إسرائيل ، بدليل أنه - سبحانه - نسب الكفر إليهم فى قوله { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } وذلك لا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة ، والمؤمنون هم القلى غير الظاهرة حتى لكأن عيسى بقوله { مَنْ أنصاري إِلَى الله } يبحث عنهم من بين تلك الجموع الكثيرة من الكافرين . وهنا يحكى القرآن أن المؤمنين الصادقين - مع قلتهم - لم يتقاعسوا عن تلبية نداء عيسى - عليه السلام - فقال الله - تعالى - { قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } والحواريون جمع حوارى وهم أنصار عيسى الذين آمنوا به وصدقوه ، وأخلصوا له ولازموه وكانوا عونا له فى الدعوة إلى الحق .يقال فلان حوارى فلان أى خاصه من أصحابه ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم فى الزبير بن العوام : " لكل نبى حوارى وحواريى الزبير " .وأصل مادة " حور " هي شدة البياض . أو الخالص من البياض ، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق الحوارى . وقالوا في النساء البيض الحواريات والحوريات .وقد سمى - تعالى - أصفياء عيسى وأنصاره بالحواريين لأنهم أخلصوا لله - تعالى نياتهم ، وطهرت سرائرهم من النفاق والغش فصاروا فى نقائهم وصفائهم كالشىء الأبيض الخالص البياض .والمعنى أن عيسى عليه السلام - لما أحس الكفر من بنى إسرائيل قال لهم من أنصارى إلى الله؟ فأجابه الحواريون الذين آمنوا به وصدقوه وباعوا نفوسهم لله - تعالى - : نحن أنصار الله الذين تبحث عنهم ، ونحن الذين سنقف إلى جانبك لنصرة الحق ، فقد آمنا بالله إيمانا عميقا ، ونريدك أن تشهد على إيماننا هذا ، وأن تشهد لنا يا عيسى بأنا مسلمون حين تشهد الرسل لأقوامهم وعليهم .فأنت ترى أن الحواريين لقوة إيمانهم وصفاء نفوسهم قد لبوا دعوة عيسى - عليه السلام - فى طلب النصرة دون أن يخشوا أحدا إلا الله .وقولهم - كما حكى القرآن عنهم { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } إشعار بأنهم ما وقفوا بجانب عيسى إلا نصرة لدين الله ودفاعا عن الحق الذى أنزله على رسوله عيسى .وقولهم { آمَنَّا بالله } جملة فى معنى العلة للنصرة أى نحن أنصار الله يا عيسى لأننا آمنا بأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأنه هو الخالق لكل شىء والقادر على كل شىء .وقولهم { واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } معطوف على آمنا والشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة فهم يطلبون من عيسى - عليه السلام - أن يكون شاهدا لهم يوم القيامة بأنهم أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة .وأقوالهم هذه التى حكاها القرآن عنهم تدل على أنهم كانوا في الدرجة العليا من قوة الإيمان وصدق اليقين ، ونقاء السريرة .
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
📘 ثم حكى القرآن عنهم أنهم قالوا - أيضاً - { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ } على أنبيائك من كتب { واتبعنا الرسول } أى امتثلنا ما أتى به منك إلينا { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } أى كتبنا بفضلك ورحمتك مع الشاهدين بوحدانيتك العاملين بشريعتك المستحقين لرضاك ورحمتك .فهم قد صدوا ضراعتهم إلى الله - تعالى - بالاعتراف الكامل بربوبيته ثم أعلنوا إيمانهم به وبما أنزل على أنبيائه ، ثم أقروا باتباعهم لرسوله والأخذ بسنته ، ثم التمسوا منه - سبحانه - بعد ذلك أن يجعلهم من عباده الذين رضى عنهم وأرضاهم .وهذا يدل على أنهم فى نهاية الأدب مع الله - تعالى - وعلى أنهم فى أسمى مراتب الإيمان قال بعض العلماء : وكان عدد هؤلاء الحواريين اثنى عشر رجلا آمنوا بعيسى وصدقوه ولازموه فى دعوته إلى الحق .
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
📘 ثم حكى - سبحانه ما كان من بنى إسرائيل فقال : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } والمكرك : التدبير المحكم . أو صرف غيرك عما يريده بحيلة . وهو مذمون إن تحرى به الفاعل الشر والقبيح كما فعل اليهود مع عيسى - عليه السلام - ومحمود أن تحرى به الفاعل الخير والجميل .واملعنى : أن أولئك اليهود الذين أحسن عيسى منهم الكفر دبروا له القتل غيلة واتخذوا كل الوسائل لتنفيذ مآربهم الذميمة . فأحبط الله - تعالى - مكرهم ، وأبطل تدبيرهم بأن نجى نبيه عيسى - عليه السلام - من شرورهم { والله خَيْرُ الماكرين } أى أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا ، وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب .
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
📘 ثم حكى - سبحانه - بعض مظاهر قدرته ، ورعايته لعبده عيسى - عليه السلام - وخذلانه لاعدائه فقال - تعالى . { إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } .وللعلماء فى تفسير هذه الآية الكريمة أقوال كثيرة أشهرها قولان :أما القول الأول : وهو قول جمهور العلماء - فيرى أصحابه أن معنى { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } أى قابضك من الأرض ورافعك إلى السماء بجسدك وروحك لتستوفى حظك من الحياة هناك .وأصحاب هذا الرأىلا يفسرون التوفى بالموت وإنما يقولون : إن التوفى في اللغة معناه أخذ الشىء تاما وافيا . فمعنى { مُتَوَفِّيكَ } آخذك وافيا بروحك وجسدك ومعنى { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } ورافعك إلى محل كرامتى فى السماء فالعطف للتفسير . يقال : وفيت فلانا حقه أى أعطيته إياه وافيا فاستوفاه وتوفاه أى أخذه وافيا كاملا .قال القرطبي : " قال الحسن وبان جريج : معنى متوفيك قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت ، مثل توفيت مالى من فلان أى قبضته " .أما القول الثاني : وهو قول قلة من العلماء - فيرى أصحابه أن معنى { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } أى مميتك ورافع منزلتك وروحك إلى محل كرامتى ومقر ملائكتى كما ترفع أرواح الأنبياء إليه - سبحانه - .فأنت ترى أن أصحاب هذا الرأى يفسرون التوفى بالإماتة ، ويقولون إن هذا التفسير هو الظاهر من معنى التوفى ويفسرون { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } بمعنى رفع الروح إلى السماءأى أن الله - تعالى - قد توفى عيسى كما يتوفى الأنفس كلها ، ورفع روحه إليه كما يرفع أرواح النبيين .والذى تسكن إليه النفس هو القول الأول لأمور :أولها : أن قوله - تعالى - فى سورة النساء { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } يفيد أن الرفع كان بجسم عيسى كوروحه لأن الإضراب مقابل للقتل ولاصلب الذى أرادوه وزعموا حصوله ، ولا يصح مقابلا لهما رفعه بالروح لأن الرفع بالروح يجوز أن يجتمع معهما وما دام الرفع بالروح لا يصح مقابلا لهما إذن يكون المتعين أن المقابل لهما هو الرفع بالجسد والروح .ثانيها : أن هناك أحاديث متعددة ، بلغت في قوتها مبلغ التواتر المعنوى - كما يقول ابن كثير - قد وردت فى شأن نزول عيسى إلى الأرض فى آخر الزمان ليملأها عدلا كما ملئت جوار ، وليكون حاكما بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، يقتل الدجال ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين " .وظاهر هذا الحديث وما يشابهه من الأحاديث الصحيحة فى شأن نزول عيسى ، يفيد أن نزوله يكون بروحه وجسده كما رفعه الله إليه بروحه وجسده .ثالثا : أن هذا القول هو قول جمهور العلماء ، وهو القول الذى يتناسب مع ما أكرم الله - تعالى - به عيسى - عليه السلام - من كرامات ومعجزات .قال بعض العلماء ما ملخصه : وجمهور العلماء على أن عيسى رفع حيا من غير موت ولا غفوة بجسده و روحه إلى السماء . والخصوصية له - عليه السلام - هى فى رفعه بجسده ، وبقاؤه فيها إلى الأمد المقدر له ولا يصح أن يحمل التوفى على الإماتة لأن إماتة عيسى فى وقت حصار أعدائه ليس فيها ما يسوغ الامتنان بها ورفعه إلى السماء جثة هامدة سخف من القول . وقد نزه الله السماء أن تكون قبورا لجثث الموتى . وإن كان الرفع بالروح فقط فأى مزية لعيسى فى ذلك على سائر الأنبياء ، والسماء مستقر أرواحهم الطاهرة . فالحق أنه - عليه السلام - رفع إلى السماء حيا بجسده . وكما كان - عليه السلام - فى مبدأ خلقه آية للناس ومعجزة ظاهرة ، كان فى نهاية أمره آية ومعجزة باهرة والمعجزات بأسرها فوق قدرة البشرة ومدارك العقول ، وهى من متعلقات القدرة الإلهية ومن الأدلة على صدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - " .هذا ، وقد ذكر بعض المفسرين أقوالا أخرى للعلماء فى معنى هذه الآية الكريمة نرى من الخير عدم ذكرها لضعفها وخوف الإطالة .ومعنى الآية الكريمة : واذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ وقت أن قال الله - تعالى - لنبيه عيسى : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } أى آخذك وافياً بورحك وجسدك من الأرض { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } أى ورافعك إلى محل كرامتي فى السماء لتستوفى حظك من الحياة هناك إلى أن آذن لك بالنزول إلى الأرض .{ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } بإبعادك عنهم ، وبإنجائك مما بيتوه لك من مكر سىء وبتبرئتك مما أشاعوه عنك وعن أمك من أكاذيب واباطيل .{ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك } وهم المسلمون الذين آمنوا بك وصدقوك ، وصدقوا بكل نبى بعثه الله - تعالى - بدون تفرقة بين أنبيائه ورسله .{ فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة } أى جاعل هؤلاء المؤمنين فوق الذين كفروا بك وبغيرك من الرسل إلى يوم القيامة .أى فوقهم بحجتهم ، وبسلامة اعتقادهم ، وبقوتهم المادية والروحية إلى يوم القيامة .فالمراد بأتباع عيسى هم الذين أخلصوا لله - تعالى - عبادتهم ، وأقروا بوحدانيته - سبحانه - ونزهوا عيسى عن أن يكون ابن الله أو ثالث ثلاثة أو غير ذلك من الأقاويل الباطلة .والمراد بالفوقية ما يتناول الناحيتين الروحية والمادية ، اي هم فوقهم بقوة إمانهم ، وحسن إدراكهم ، وسلامة عقولهم ، وهم فوقهم كذلك بشجاعتهم وحسن أخذهم للاسباب التي شرعها الله - تعالى - كوسائل للنصر والفوز ولذا قال صاحب الكشاف قوله : { فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة } أي يعلونهم بالحجة وفى أكثر الأحوال بها وبالسيف ومتبعوه هم المسلمون لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع ، دون الذين كذبوه والذين كذبوا عليه من اليهود والنصارى " .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .أى . ثم إلى الله مرجعكم ومصيركم أيها الناس فيتولى - سبحانه - الحكم العادل بينكم فيما كنتم تختلفون فيه فى دنياكم من شئون دينية أو دنيوية ، ثم فصل سبحانه - هذا الحكم الذى سيحكم به على عباده يوم القيامة فقال :
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
📘 { فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ } بى وبما يجب الإيمان به { فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة } .أى فأعذبهم عذابا شديداً فى الدنيا بإيقاع العداوة والبغضاء والحروب بينهم ، وبما يشبه ذلك من هزائم وأمراض وشقاء نفس لا يعلم مقدار ألمه إلى الله - تعالى - وأما فى الآخرة فيساقون إلى عذاب النار وبئس القرار .وقد أكد - سبحانه - شدة هذا العذاب بعدة تاكيدات منها نسبة العذاب إليه - سبحانه - وهو القوى القهار الغالب على كل شىء ، ومنها التأكيد بالمصدر ، ومنها الوصف بالشدة ، ومنها الإخبار بأنه لا ناصر لهم ينصرهم من هذا العذاب الشديد فى قوله - تعالى - { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } أى ليس لهم من ناصر أياً كان هذا الناصر ، وأيا كانت نصرته ولو كانت نصرة ضئيلة لا وزن لها ولا قيمة .هذا هو جزاء الكافرين وأما جزاء المؤمنين فقد بينه - سبحانه - بقوله :
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
📘 { وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } .أى فسيعطيهم - سبحانه - بفضله وإحسانه بسبب إيمانهم وعملهم الصالح ، أجورهم كاملة غير منقوصة ، من ثواب جزيل ، وجنات تجرى من تحتها الأنهار وأزواج مطهرة ، ورضوان من الله أكبر من كل ذلك .ففى هذه الجملة الكريمة بشارة عظمى للمؤمنين الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا على طريقه .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } .أي أنه - سبحانه - عادل في أحكامه ، ويكره الظلم والظالمين الذين لا يضعون الأمور فى مواضعها .ومن أفحش أنواع الظلم ما يقوله أهل الكتاب على عيسى - عليه السلام - فقد زعم بعضهم انه ابن الله ، وزعم فريق آخر أنه ثالث ثلاثة وافترى عليه اليهود وعلى أمه مريم البتول المفتريات التى برأهما الله - تعالى - منها .أما الذين آمنوا فقد قالوا فى عيسى وأمه قولا كريما ، ولذلك كافأهم الله - تعالى - بما يستحقون من ثواب .وبذلك تكون الآيات الكريمة قد حكت لنا جانبا من فضائل عيسى - عليه السلام - وبينت للناس جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين حتى يثوبوا إلى رشدهم ويسلكوا الطريق القويم .وبعد أن حكى الله - تعالى - فى الآيات السابقة ولادة عيسى - عليه السلام - وما أجراه على يديه من معجزات ، وما أكرمه به من مكرمات ، وكيف كان موقف بنى إسرائيل منه ، وكيف أبطل الله مكرهم وخيب سعيهم ، إذ رفعه إليه وطهره من أقوالهم الباطلة وأفعالهم الأثيمة وتوعد أعداءه بالعذاب الشديد ووعد اتباعه بالثواب الجزيل . . . بعد أن حكى القرآن كل ذلك ختم حديثه عن عيسى - عليه السلام - ببيان حقيقة تكوينه ، وبإزالة وجه الغرابة فى ولادته ، وبتلقين النبى صلى الله عليه وسلم الرد الصحيح على كل مجادل فى شأن عيسى - عليه السلام - استمع إلى القرآن وهو يصور كل ذلك بأسلوبه المعجز فيقول : { ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ . . . } .
ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
📘 قوله - تعالى - { ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم } اسم الإشارة فيه وهو " ذلك " مشار به إلى المذكور من قصى آل عمران وقصة مريم وأمها ، وقصة زكريا وندائه لربه ، وقصة عيسى وما أجراه الله - تعالى - على يديه من معجزات وما خصه به من كرامات .أى ذلك القصص الحكيم الذى قصصناه عليك يا محمد { ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } أى نقصه عليك متتابعا بعضه تلو بعض من غير أن يكون لك اطلاع سابق عليه . فأنت لم تكن معاصراً لهؤلاء الذين ذكرنا لك قصصهم وأحوالهم وهذا من أكبر الأدلة على صدقك فيما تبلغه عن ربك .وقوله { ذلك } مبتدأ وقوله { نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } خبره .وقوله { مِنَ الآيَاتِ } حال من الضمير المنصوب في { نَتْلُوهُ } .والمراد بالآيات الحجج الدالة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم وقوله { والذكر الحكيم } أى والقرآن المحكم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمشتمل على الحكم التى من شأنها أن تهدى الناس إلى ما يسعدهم متى اتبعوها وقيل المراد بالذكر الحكيم اللوح المحفوظ الذى نقلت منه جميع الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- .
إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
📘 ثم بين - سبحانه - أن خلق عيسى من غير أب ليس مستبعدا على الله - تعالى - فقد خلق آدم كذلك فقال : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } .والمثل هنا : بمعنى الصفة والحال والعجيبة الشأن ، ومحل التمثيل كون كليهما قد خلق بدون أب ، والشىء قد يشبه بالشىء متى اجتمعا ولو في وصف واحد .والمعنى : إن شأن عيسى وحاله الغريبة { عِندَ الله } أى فى تقديره وحكمه { كَمَثَلِ ءَادَمَ } أى كصفته وحاله العجيبة في أن كليهما قد خلقه الله - تعالى - من غير أب ، ويزيد آدم على عيسى أنه خلق بدون أم - أيضا - .فالآية الكريمة ترد رداً منطقيا حكيما يهدم زعم كل من قال بألوهية المسيح أو اعتبره ابن الله .وكأن الآية الكريمة تقول لمن ادعى ألوهية عيسى لأنه خلق من غير أب : أنه إذا كان وجود عيسى بدون أب يسوغ لكم أن تجعلوه إلها أو ابن إله فأولى بذلك ثم أولى آدم لأنه خلق من غير أب ولا أم . وما دام لم يدع أحد من الناس ألوهية آدم لهذا السبب فبطل حينئذ القول بألوهية عيسى لانهيار الأساس الذى قام عليه وهو خلقه من غير أب .ولأنه إذا كان الله - تعالى - قادرا على أن يخلق إنساناً بدون أب ولا أم . فأولى ثم أولى أن يكون قادراً على خلق إنسان من غير أب فقط .ومن أم هى مريم التى تولاها - سبحانه - برعايته وصيانته لها من كل سوء وجعلها وعاء لهذا النبى الكريم عيسى - عليه السلام - .قال صاحب الكشاف : وقوله { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم - أى للأمر الذى لأجله كان ذلك التشبيه - أى خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم وكذلك حال عيسى . فإن قلت : كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب ووجد آدم ن غير أب وأم؟ قلت : هو مثيله فى أحد الطرفين ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، ولأنه شبه به لأنه وجد وجوداً خارجا عن العادة المستمرة وهما فى ذلك نظيران . ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ، ليكون أقطع للخصم ، وأحسن لمادة شبهته إذا نظر فيم هو أغرب مما استغربه " .وقوله { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } تصوير لخلق الله - تعالى - آدم من تراب أى أراد - سبحانه - أن يوجد آدم فصوره من طين ثم قال له حين صوره كن بشرا فصار بشرا كاملا روحا وجسدا كما أمر - سبحانه - .فالجملة الكريمة تصور نفاذ قدرة الله ، تصويرا بديعا يدل على أنه - سبحانه - لا يعجزه شىء في هذا الكون .وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في " يكون " دون الماضى بأن يقول " فكان " لأن العبير بالمضارع فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت ، ومن وجهة أخرى فإن صيغة المضارع فى هذا المقام تنبىء عما كان ، وتومىء إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله - تعالى - المستمر فى المستقبل كما كان فى الماضى .
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
📘 ثم ساق - سبحانه - ما يشهد بشمول قدرته وعلمه فقال : { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } .وقوله { يُصَوِّرُكُمْ } من التصوير وهو جعل الشئ على صورة لم يكن عليها . وهو مأخوذ من مادة صار إلى كذا بمعنى تحول إليه . أو من صاره إلى كذا بمعنى أماله وحوله .والله - تعالى - القادر على كل شئ قد حكى لنا أطوار خلق الإِنسان فى آيات متعددة منها قوله - تعالى - { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } والأرحام : جمع رحم ، وهو مستودع النطفة فى بطن المرأة ، ومكان تربية الجنين ونموه وتكوينه بالطريقة التى يشاؤها الله ، حتى يبرزه إلى الوجود بشرا سويا .والمعنى : الله الذى لا إله إلا هو والذى هو الحى القيوم ، هو الذى يصوركم فى أرحام أمهاتكم كيف يشاء ، بأن جعل بعضكم طويلا وبعضكم قصيراً ، وهذا أبيض وذاك أسود ، وهذا ذكر وتلك أنثى ، فهو وحده القادر على تصوير خلقه بتلك الصور المختلفة المتفاوتة ، ومن كان شأنه كذلك . فهو المستحق للعبادة والخضوع ، لا إله إلا هو { العزيز } الذى يقهر كل شئ بقوته وقدرته { الحكيم } فى كل شئونه وتصرفاته .وهذه الآية الكريمة فى مقام التعليل للتى قبلها ، لأن قبلها بينت أن الله لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء ، إذ هو العليم بما يسره الإِنسان من كفر أو إيمان أو غيرهما . وهذه الآية تفيد أنه - سبحانه - يعلم أحوال الإِنسان لا بعد استوائه بشراً سوياً ، بل يعلم أحواله وهو نطفة فى الأرحام ، بل إنه - سبحانه - ليعلم أحواله قبل أن يكون شيئاً مذكوراً ، فهو - كما يقول القرطبى - العالم بما كان وما يكون ومالا يكون .ومن كان ذلك شأنه فمن الواجب على الذين أوجدهم - سبحانه - فى بطون أمهاتهم ، ورباهم ورعاهم وخلقهم خلقا من بعد خلق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً .وقوله - تعالى - { كَيْفَ يَشَآءُ } إخبار منه - سبحانه - بأن هذا التكوين والتصوير فى الأرحام تبع لمشيئته وقدرته وليس خاضعا لقانون الأسباب والمسببات ، إذ هو الفعال لما يريد . فمن شاء هدايته هداه ، ومن شاء إضلاله أضله .و { كَيْفَ } فى موضع نصب على أنه حال ، وناصبه الفعل الذى بعده وهو { يَشَآءُ } ومفعول المشيئة محذوف والتقدير : هو الذى يصوركم فى الأرحام كيف يشاء تصويركم ، من ذكر وأنثى ، وجميل ودميم ، وغير ذلك من مظاهر التفاوت والاختلاف فى الصور والأشكال والعقول والميول .وقوله - تعالى - { لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } تأكيد لما قبله ، من انفراده بالألوهية ، وحقيقة المعبودية ، بعد أن أقام الأدلة الساطعة على ذلك من كونه حيا قيوما ، منزلا للكتب الهادية للناس إلى الحق عالما بكل شئ ، مصوراً لخلقه وهم فى أرحام أمهاتهم كيف يشاء . وكل ذى عقل سليم يتدبر هذه الآيات الكريمة ، يقبل على الإِيمان بالحق بقوة وإخلاص ، ويسارع إلى العمل الصالح بقلب منيب ونية صادقة .هذا ، وقد ذكر كثير من المفسرين أن سورة آل عمران من مطلعها إلى بضع وثمانين آية منها قد نزل فى وفد نصارى نجران الذين قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم فى السنة التاسعة من الهجرة ، ليناقشوه فى شأن عيسى - عليه السلام - وقد رد عليهم صلى الله عليه وسلم بما يبطل أقوالهم التى تخالف الحق ، وأرشدهم إلى الطريق المستقيم وهو طريق الإِسلام الذى ارتضاه الله لعباده دينا . وسنذكر قصة هذا الوفد عند تفسيرنا لآية المباهلة وهى قوله - تعالى - فى هذه السورة { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين } .وبعد أن أقام - سبحانه - الأدلة الواضحة على أنه هو المستحق للعبادة ، عقب ذلك ببيان أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه ، وبيان موقف الناس منهما فقال - تعالى - : { هُوَ الذي أَنزَلَ . . . } .
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - أن ما أخبر به عباده فى شأن عيسى وغيره هو الحق الذى لا يحوم حوله باطل فقال - تعالى - { الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين } .والامتراء هو الشك الذى يدفع الإنسان إلى المجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق .وهو - كما يقول الرازى - مأخوذ من قول العرب مريت الناقة والشاة إذا أردت حلبها فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء كاللبن الذى يجتذب عند الحلب . يقال : قد مارى فلان فلانا إذا جادله كأنه يستخرج غضبه .والمعنى : هذا الذى أخبرناك عنه يا محمد من شأن عيسى ومن شأن غيره هو الحق الثاتب اليقينى الذى لا مجال للشك فيه ، وما دام الأمر كذلك فاثبت على ما أنت عليه من حق ، ولا تكونن من الشاكين فى أى شىء مما أخبرناك به .وقد أكد - سبحانه - أن ما أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم هو الحق بثلاثة تأكيدات :أولها : بالتعريف فى كلمة { الحق } أى ما أخبرناك به هو الحق الثابت الذى لا يخالطه باطل .ثانيها : بكونه من عنده - سبحانه - وكل شىء من عنده فهو صدق لا ريب فيه .ثالثها : بالنهى عن الامتراء والشك فى ذلك الحق ، لأن من شأن الأمور الثابتة أن يتقبلها العقلاء بإذعان وتسليم وبدون جدل أو امتراء .قال الآلوسى : وقوله { فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين } خطاب له صلى الله عليه وسلم ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه صلى الله عليه وسلم بل ذكروا فى هذا الأسلوب فائدتين :إحداهما : أنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحكرت منه الأريحية فيزداد فى الثبات على اليقين نورا على نور .وثانيتهما : أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله عليه وسلم مع جلالته التى لا تصل إليها الأمانى - إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره؟ ففى ذلك ثبات له صلى الله عليه وسلم ولطف بغيره " .
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
📘 لقد لقن الله تعالى ، نبيه صلى الله عليه وسلم ، الجواب الذى يقطع لسان المجادلين بالباطل فى شأن عيسى عليه السلام ، فقال تعالى { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } . . . إلخ .قال الفخر الرازى : اعمل أنه " سبحانه " بين أول هذه السورة وجوها من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد وأتبعهما بذكر الجواب على جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم أن يكون ابنا لله فكذلك لا يلزم من عدم الأب البشرى لعيسى أن يكون ابنا لله . ولما لم يبعد خلق آدم من التراب لم يبعد أيضاً خلق عيسى من الدم الذى كان يجتمع فى رحم أم عيسى . ومن أنصف وطلب الحق علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى - فعند ذلك - قال سبحانه - { فَمَنْ حَآجَّكَ } بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند ، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة .والفاء في قوله { فَمَنْ حَآجَّكَ } للتفريع على قوله - تعالى - { الحق مِن رَّبِّكَ } . . وقوله { مِن } الراجح فيها أنها شرطية . وقوله { حَآجَّكَ } من المحاجة وهى تبادل الحجة والمجادلة بين شخص وآخر .والمعنى : فمن جادلك وخاصمك " يا محمد " من أهل الكتاب " فيه " أى فى شأن عيسى - عليه السلام - بأن زعموا أنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلاثة أو غير ذلك من الأقاويل الكاذبة في شأنه .وقوله { مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } أى فمن جادلك فى شأن عيسى من بعد الذى أنزلناه إليك وقصصناه عليك فى أمره ، فلا تبادله المجادلة ، فإنه معاند لا يقعنه الدليل مهما كان واضحا ، ولكن قل له ولأمثاله من الضالين :{ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين } .وقوله { تَعَالَوْاْ } اسم فعل أمر لطلب القدوم . وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى " كترامى يترامى " إذا قصد العلو . فكأنهم أرادوا به فى الأصل أمرا بالصعود إلى مكان عال تشريفا للمدعو ، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور .وقوله { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أى نتباهل ونتلاعن . فالافتعال هنا بمعنى الفاعلة أى بأن نقول : بهلة الله على الكاذب منا ومنكم . والبهلة بفتح الباء وضمها : اللعنة . يقال بهله الله يبهله بهلا لعنه الله وأبعده من رحمته ثم شاعت فى كل دعاء مجتهد فيه وإن لم يكن التعانا .والمعنى : فإن جادلك أهل الكتاب فى شأن عيسى من بعد أن أخبرك ربك بما هو الحق من أمره فقل لهم { تَعَالَوْاْ } أى أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه الحق من الباطل ، وهو أن ندعو نحن وأنتم الأبناء والنساء ثم نجتمع جميعا في مكان واحد ، ثم نتضرع إلى الله ونبتهل إليه بأن يجعل لعنته على الكاذبين فى دعواهم المنحرفين عن الحق فى اعتقادهم .فأنت ترى أن الآية الكريمة قد لقنت النبى صلى الله عليه وسلم الجواب الحاسم الذى يخرس ألسنة المجادلين في عيسى ، ويتحداهم - إن كانوا صادقين - أن يقبلوا هذه المباهلة ، ولكنهم نكصوا على أعقابهم فثبت كذبهم وضلالهم .وهذه الآية الكريمة تسمى بآية المباهلة ، وقد ذكر العلماء أنها نزلت للرد على نصارى نجران الذين جادلوا النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن عيسى - عليه السلام - .قال ابن كثير ما ملخصه . وكان نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا فى وفد نصارى نجران حين قدموا المدينة فجعلوا يحاجون فى عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوة والألوهية فأنزل صدر هذه السورة رداً عليهم . . وكانوا ستين راكبا منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم وهم : العاقب أميرهم واسمه عبد المسيح ، والسيد صاحب رحلهم واسمه الأبهم ، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم . وفى القصة أن النبى صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر من الله تعالى ، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم . دعاهم إلى المباهلة فقالوا : يا أبا القاسم دعنا ننظر فى أمرنا . . . ثم خلوا بالعاقب فقالوا . يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم ان محمدا لنبى مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط ، فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم .. فأتوا النبى صلى الله عليه وسلم . فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا ، فلم يلاعنهم صلى الله عليه وسلم وأقرهم لعى خراج يؤدونه إليه .وروى الحافظ ابن مردويه عن جابر قال : قدم على النبى صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده على وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج .قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذى بعثنى بالحق لو لاعنا لأمطر عليهم الوادى ناراً " .ثم قال : وروى البخارى عن حذيفة قال : " جاء العاقب والسيد صاحب نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، ثم قالا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا . . فقال : " لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين " . فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : " قم يا أبا عبيدة بن الجراح " . فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا أمين هذه الأمة " " .وقال صاحب الكشاف : إن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه؛ وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه فما معنى ضم الأبناء والنساء؟قلت : ذلك آكد فى الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له . وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل . ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن فى الحروب لتمنعهم من الهرب . . . وفى الآية دليل واضح على صحة نبوة النبى صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك؟ .
إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ۚ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
📘 ثم أحد - سبحانه - صدق ما أخبر به عن عيسى وغيره فقال : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم } .أى إن الذى قصصناه عليك وأخبرناك به يا محمد من شأن عيسى ومن كل شأن من الشئون لهو القصص الثابت الذى لا مجال فيه لإنكار منكر ، ولا لتشكيك متشكك .وقد أكد - سبحانه - صدق هذا القصص بحرف إن وباللام فى قوله { لَهُوَ } وبضمير الفصل " هو " وبالقصر الذى تضمنه تعريف الطرفين وذلك ليكون الرد حاسما على كل منكر ما أخبر الله به فى شأن عيسى - عليه السلام - وفى كل ما قصه على نبيه صلى الله عليه وسلم .وقوله { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } نفى قاطع لأن يكون هناك إله سوى الله - تعالى - وإثبات بأن الألوهية الحقة إنما هي لله رب العالمين .وقد أكد - سبحانه - نفى الألوهية عن غيره بكلمة { مِنْ } المفيدة لاستغراق النفى استغراقا مستمرا ثابتا مؤكدا .وقوله { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } " ما " النافية ، و " إله " فى قوله { مِنْ إله } مبتدأ و { مِنْ } مزيدة فيه ، و { إِلاَّ الله } خبره والتقدير : وما إله إلا الله ، وزيدت من للاستغراق والعموم .وقوله { وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم } تذييل قصد به تأكيد قصر الألوهية على الله - تعالى - وحده ، أى وإن الله - تعالى - لهو المنفرد بالألوهية وحده؛ لأنه هو الغالب الذى يقهر ولا يقهر ، الحكيم في كل ما يخلقه ويدبره .وفى هذا التذييل أيضاً رد على أولئك الضالين الذين يزعمون أن المسيح إله ويعتقدون مع ذلك أنه صلب ولم يستطع أن يدافع عن نفسه .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ
📘 ثم ختم - سبحانه - تلك المحاجة بقوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } .أى فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات والحجج الواضحات التى أخبرناك بها ققصناها عليك ، فأنذرهم بسوء العاقبة ، وأخبرهم أن الله - تعالى - عليم بهم ، وبما يقولونه ويفعلونه من فساد في الأرض . وسيعاقبهم على ذلك العقاب الأليم .فقوله { فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } قائم مقام جواب الشرط ، أى فإن تولوا فأخبرهم بأنهم مفسدون وأن لهم سوء العقبى لأن الله عليم بإفسادهم ولن يتركهم بدون عقوبة .وهذه الجملة الكريمة تتضمن فى ذاتها تهديدا شديداً لهؤلاء المجادلين بالباطل فى شأن عيسى - عليه السلام - ولكل من أعرض عن الحق الذى جاء به النبى صلى الله عليه وسلم لأن الله - تعالى - ليس غافلا عن إفساد المفسدين ، وإنما يأخذهم أخذ عيز مقتدر .وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد بينت بأسلوب معجز حكيم جانبا من قصة آل عمران فحدثتنا عما كان من امرأته أم مريم ، وما قالته عندما حملت بها ، وما قالته بعد ولادتها ، وما أكرم الله به مريم من رعايتها بالتربية الحسنة وبالرزق الحسن ، ثم ما كان من شأن زكريا وتضرعه إلى الله أن يهبه الذرية الصالحة واستجابة الله له وتبشيره بولادة يحيى ، ثم ما كان من شأن مريم وتبشيرها باصطفاء الله لها وأمرها بالمداومة على طاعته ، ثم تبشيرها بعيسى وتعجبها لذلك والرد عليها بما يزيل هذا العجب ، ثم ما كان من شأن عيسى - عليه السلام - وما وصفه به من صفات كريمة ، وما منحه من معجزات باهرة تشهد بصدقه فى رسالته ، مما جعل الحواريين يؤمنون به ، أما الأكثرون من بنى إسرائيل فقد كفروا به ودبروا له المكايد فأنجاه الله من مكرهم ورفعه إليه وطهره منهم .ثم بين القرآن أن عيسى عبد الله ورسوله ، وأن هذا هو الحق ، وقد تحدى الرسول صلى الله عليه وسلم كل من نازعه فى ذلك بالمباهلة ولكن المجادلين نكصوا على أعقابهم ، فثبت صدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه .وبذلك يكون القرآن قد بين الحق فى شأن عيسى - عليه السلام - بيانا يهدى القلوب ويقنع العقول ويحمل النفوس على التدبر والاعتبار ، وإخلاص العبادة لله رب العالمين .ثم وجه القرآن بعد ذلك نداء عاما إلى أهل الكتاب دعاهم فيه - فى بضع آيات متوالية - إلى عبادة الله وحده ، وإلى ترك المحاجة الباطلة فى شأن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وإلى الإقلاع عن الكفر بىيات الله وعن تلبيس الحق بالباطل ، وعن كتمان الحق مع علمهم بأنه حق . .استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه النداءات داعيا أهل الكتاب إلى كلمة الحق فيقول : { قُلْ ياأهل . . . } .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
📘 أنت ترى أن القرآن الكريم قد وجه إلى أهل الكتاب أربع نداءات فى هذه الآيات الكريمة أما النداء الأول فقد طلب منهم فيه أن يثوبوا إلى رشدهم ، وأن يخلصوا لله العبادة فقال { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } .والسواء : العدل والنصفة ، أى قل يا محمد لأهل الكتاب : هلموا وأقبلوا إلى كلمة ذات عدل وإنصاف بيننا وبينكم .أو السواء : مصدر مستوية أى هلموا إلى كلمة لا تختلف فيها الرسل والكتب المنزلة والعقول السليمة ، لأنها كلمة عادلة مستقيمة ليس فيها ميل عن الحق .ثم بين - سبحانه - هذه الكلمة العادلة المستقيمة التى هى محل اتفاق بين الأنبياء فقال : { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله } أى نترك نحن وأنتم عبادة غير الله ، بأن نفرده وحده بالعبادة والطاعة والإذعان .{ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } أى ولا نشرك معه أحدا فى العبادة والخضوع ، بأن نقول : فلان إله ، أو فلان ابن إله ، أو أن الله ثالث ثلاثة .{ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } أى ولا يطيع بعضنا بعضا فى معصية الله . قال الآلوسى : ويؤيده ما أخرجه الترمذى وحسنه من حديث عدى بن حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قال : ما كنا نعبدهم يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : " أما كانوا يحلون منكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال : نعم . فقال صلى الله عليه وسلم هو ذاك " قيل إلى هذا أشار - سبحانه - بقوله : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } فالآية الكريمة قد نهت الناس جميعا عن عبادة غير الله ، وعن أن يشرك معه فى الألوهية أحد من بشر أو حجر أو غير ذلك ، وعن أن يتخذ أحد من البشر فى مقام الرب - عز وجل - بأن يتبع فى تحليل شىء أو تحريمه إلا فيما حلله الله أو حرمه .ولقد كانت رسالة الأنبياء جميعا متفقة فى دعوة الناس إلى عبادة الله وحده ، وقد حكى القرآن فى كثير من الآيات هذا المعنى ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } ثم أرشد الله - تعالى - المؤمنين إلى ما يجب عليهم أن يقولوه إذا مالج الجاحدون فى طغيانهم فقال : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } .أى فإن أعرض هؤلاء الكفاء عن دعوة الحق ، وانصرفوا عن موافقتكم بسبب ما هم عليه من عناد وجحود فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم ، بل قولوا لهم : اشهدوا : بأنا مسملون مذعنون لكلمة الحق ، بخلافكم أنتم فقد رضيتم بما أنتم فيه من باطل .قال صاحب الكشاف وقوله { فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أى لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم . وذلك كما يقول الغالب للمغلوب فى جدال وصراع أو غيرهما : اعترف بأنى أنا الغالب وسلم لى بالغلبة . ويجوز أن يكون من باب التعريض ومعنا : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره " .هذا وتعتبر هذه الآية الكريمة من أجمع الآيات التى تهدى الناس إلى طريق الحق بأسلوب منطقى رصين ، ولذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يكتبها في بعض رسائله التى أرسلها إلى الملكوك والرؤساء ليدعوهم إلى الإسلام - .فقد جاء فى كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى هرقل - ملك الروم - " من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى .أما بعد : فإنى أدعوك بدعاية الإسلام . أسلم تسليم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، { ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } إلخ الآية " .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
📘 وأما النداء الثانى الذى اشتملت عليه هذه الايات فقد تضمن نهى أهل الكتاب عن الجدال بالباطل فى شأن إبراهيم - عليه السلام - قال - تعالى - { ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .قال ابن جرير : عن ابن عباس قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله فتنازعوا عنده ، قالت الأحبار : ما كان إبراهم إلا يهوديا وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا ، فأنزل الله - تعالى - فيهم : { ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ } .وقوله { تُحَآجُّونَ } من المحاجة ومعناها أن يبتادل المتخاصمان الحجة بأن يقدم كل واحد حجة ويطلب من الآخر أن يرد عليها .والمعنى : لا يسوغ لكم يا معشر اليهود والنصارى أن تجادلوا فى دين إبراهيم وشريعته فيدعى بعضكم أنه كان على الديانة اليهودية ، ويدعى البعض الآخر أنه كان على الديانة النصرانية ، فإن التوارة والإنجيل ما نزلا إلا من بعده بأزمان طويلة ، فكيف يكون يهوديا يدين بالتوراة مع أنها ما نزلت إلا من بعده ، أو كيف يكون نصرانيا يدين بالإنجيل مع أنه ما نزل إلا من بعده ، بآلاف السنين؟ إن هذه المحاجة منكم فى شأن إبراهيم ظاهرة البطلان واضحة الفساد .وقوله { أَفَلاَ تَعْقِلُونَْ } أى أفلا تعقلون يا أهل الكتاب هذا الأمر البدهى وهو أن المتقدم على الشىء لا يمكن أن يكون تابعا للشىء المتأخر عنه؟فالاستفهام لتوبيخهم وتجهيلهم فى دعواهم أن إبراهيم - عليه السلام - كان يهوديا أو نصرانيا .
هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - مظهرا آخر من مظاهر مخالفة أهل الكتاب لمقتضيات العقول السليمة وهو أنهم يجادلون فى أمر ليس عندهم أسباب العلم به فقال - تعالى - { هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } .والمعنى : أنتم يا معشر أهل الكتاب جادلتم وبادلتم الحجة - سواء أكانت صحيحة أم فاسدة فى أمر لكم به علم فى الجملة ، كجدالكم فيما وجدتموه فى كتبكم من أمر موسى وعيسى - عليهما السلام - أو كجدالكم فيما جاء فى التوراة والإنجيل من أحكام ، ولكن كيف أبحتم لأنفسكم أن تجادلوا فى أمر ليس لكم به علم أصلا ، وهو جدالكم فى دين إبراهيم وشريعته؟ لأنه من البديهى أن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا إذ وجوده سابق على وجودهما بأزمان طويلة .وإذن فجدالكم فى شأن إبراهيم هو لون من ألوان جهلكم ومخالفتكم لكل ما تقتضيه العقول السليمة ، والنفوس المستقيمة .وقوله - تعالى - { هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ } ها حرف تنبيه ، وأنتم مبتدأ ، وهؤلاء منادى بحرف نداء محذوف و { حَاجَجْتُمْ } جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى . والمعنى : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم " فيما لكم به علم " مما نطق به التوراة والإنجيل . { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } ولا ذكر له . فى كتابيكم من دين إبراهيم . . . ومعنى الاستفهام التعجب من حماقتهم " .وتكرير هاء التنبيه فى قوله { هاأنتم هؤلاء } يشعر بغرابة ما هم عليه من جهل ، ومجافاته لكل منطق سليم .قال الرازي : وقوله { هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } يحتمل أنه لم يصفهم بالعلم حقيقة وإنما أراد أنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون عمله ، فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به ألبته " .وقوله - تعالى - { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } تذييل قصد به تأكيد علم الله الشامل ، ونفى العلم عن أهل الكتاب فى شأن إبراهيم .أى والله - تعالى - يعلم حال إبراهيم ودينه ، ويعمل كل شىء فى هذا الوجود ، وأنتم لا تعلمون ذلك .
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
📘 ثم صرح - سبحانه - ببراءة إبراهيم من كل دين يخالف دين الإسلام فقال - تعالى - : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } .وقوله { حَنِيفاً } من الحنف وهو ميل عن الضلال إلى الاستقامة ، بعكس الجنف فهو ميل عن الاستقامة إلى الضلال ويقال : تحنف الرجل أى تحرى طريق الاستقامة .أى : ما كان إبراهيم - عليه السلام - فى يوم من الأيام يهوديا كما قال اليهود ، ولا نصرانيا كما قال النصارى ولكنه كان حنيفا أى مائلا عن العقائد الزائفة متحريا طريق الاستقامة وكان " مسلما " أى مستسلما لله - تعالى - منقادا له مخلصا له العبادة { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } الذين يشركون مع الله آلهة أخرى بأن يقولوا إن الله ثالث ثلاثة ، أو يقولوا عزير ابن الله أو المسيح ابن الله أو غير ذلك من الأقوال الباطلة والأفعال الفاسدة .ففى هذه الآية الكريمة تنويه بشأن إبراهيم ، وتعريض بأولئك الكافرين من أهل الكتاب الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهودياً او نصرانياً بأنهم هم المشركون بخلاف إبراهيم فقد كان مبرأ من ذلك .أخرج الإمام مسلم والترمذى وأبو داود عن أنس رضى الله عنه قال : " جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا خير البرية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذاك إبراهيم عليه السلام " " .
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ
📘 ثم أصدر - سبحانه - حكمه الحاسم العادل فى هذه القضية التى كثر الجدل فيها فقال : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين } .وقوله - تعالى - { أَوْلَى } أفعل تفضيل من الولى وهو القرب .والمعنى : إن أقرب الناس من إبراهيم ، وأخصهم به ، وأحقهم بالانتساب إليه أصناف ثلاثة :أولهم : بينه الله بقوله { لَلَّذِينَ اتبعوه } ليرد على أقاويل أهل الكتاب ومفترياتهم حيث زعموا أنه كان يهوديا أو نصرانيا .وثاني هذه الأصناف : بينه - سبحانه - بقوله { وهذا النبي } والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم الداعى إلى التوحيد الذى دعا إليه إبراهيم .والجملة الكريمة من عطف الخاص على العام للاهتمام به . وللإشعار بأنه صلى الله عليه وسلم قد تلقى الهداية من السماء كما تلقاها إبراهيم - عليه السلام- .وثالث هذه الأصناف : بينه الله - تعالى - بقوله { والذين آمَنُواْ } أى : والذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعوه .وفى هذا تنويه بشأن الأمة الإسلامية ، وتقرير بأن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أحق بالانتساب إلى إبراهيم من أهل الكتاب لأن المؤمنين طلبوا الحق وآمنوا به ، أما أهل الكتاب فقد باعوا دينهم بدنياهم ، وتركوا الحق جريا وراء شهواتهم .وقوله { والله وَلِيُّ المؤمنين } تذييل مقصود به تبير المؤمنين بأن الله - تعالى - هو ناصرهم ومتولى أمورهم .قال ابن كثر عند تفسيره لهذه الآية : يقول الله - تعالى - إن أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه ، وهذا النبى يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم . فعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن لكل نبى ولاية من النبيين ، وإن وليى منهم أبى خليل ربى عز وجل إبراهيم عليه السلام . ثم قرأ : ( إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه ) الآية " .
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
📘 ثم حكى - سبحانه - أن بعض أهل الكتاب لا يكتفون بما هم فيه من ضلال ، بل يحاولون أن يضلوا غيرهم فقال - تعالى - { وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } .وقوله - تعالى - { وَدَّت } من الود وهو محبة الشىء وتمنى حصوله ووقوعه .أى تمنت وأحبت جماعة من أهل الكتاب إضلالكم وإهلاككم عن الحق - أيها المؤمنون - وذلك بأن ترجعوا عن دين الإسلام الذى هداكم الله إليه ، إلى دين الكفر الذى يعتنقه أولئك الكافرون من أهل الكتاب .ولم يقف بغى بعض أهل الكتاب وحسدهم عند هذا التمنى ، بل تجاوزوه إلى إلقاء الشبهات حول دين الإسلام ، وإلى محاولة صرف بعض المسلمين عن دينهم .قال القرطبى : نزلت هذه الآية - فى معاذ بن جبل ، وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ، حين دعاهم اليهود من بنى النضير وقريظة وبنى قينقاع إلى اليهودية .والمراد بالطائفة رؤساء أهل الكتاب وأحبارهم ومن للتبعيض وهى مع مجرورها فى محل رفع نعت لطائفة .و { لَوْ } فى قوله { لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } مصدرية أى ودت طائفة من أهل الكتاب إضلالكم . وقوله { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } جملة حالية .أى : والحال أنهم ما يضلون أى ما يهلكون إلا أنفسهم بسبب غوايتهم واستيلاء الأهواء على قلوبهم ، وإبثارهم العمى على الهدى ولكنهم لا يشعرون بذلك ولا يفطنون له ، لأنهم قد زين لهم الشيطان سوء عملهم فرأوة حسنا .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
📘 قوله - تعالى - : { مُّحْكَمَاتٌ } من الإِحكام - بكسر الهمزة - وهذه المادة تستعمل فى اللغة لمعان متعددة ، ترجع إلى شئ واحد هو المنع يقال : أحكم الأمر أى أتقنه ومنعه عن الفساد ويقال : أحكمه عن الشئ أى أرجعه عنه ومنعه منه . ويقال حكم نفسه وحكم الناس ، أى منع نفسه ومنع الناس عما لا يليق . ويقال أحكم الفرس أى جعل له حكمة تمنعه من الجموح والاضطراب .وقوله : { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أى أصله الذى فيه عماد الدين وفرائضه وحدوده وما يحتاج إليه الناس فى دنياهم وآخرتهم . وأم كل شئ : أصله وعماده .قال ابن جرير : والعرب تسمى الأمر الجامع لمعظم الشئ أماً له . فيسمون راية القوم التى تجمعهم فى العساكر أمهم . ويسمون المدبر لمعظم أمر البلدة والقرية أمها " .وقوله { مُتَشَابِهَاتٌ } من التشابه بمعنى أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر ومماثلا ومشاكلا له مشاكلة تؤدى إلى الالتباء غالباً . قال : أمور مشتبة ومشبهة - كمعظمة - : أى مشكلة . ويقال : شبه عليه الأمر تشبيها : لبس عليه .ولقد جاء فى القرآن ما يدل على أنه كله محكم كما فى قوله - تعالى - { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } وجاء فيه ما يدل على أنه كله متشابه كما فى قوله - تعالى - { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } وجاء فيه ما يدل على أن بعضه متشابه كما فى الآية التى نحن بصدد تفسيرها . ولا تعارض بين هذه الإِطلاقات الثلاثة ، لأن معنى إحكامه كله : أنه متقن متين لا يتطرق إليه خلل أو اضطراب . ومعنى كونه كله متشابها أنه يشبه بعضه بعضا فى بلاغته وفصاحته وإعجازه وهدايته ، ومعنى أن بعضه محكم وبعضه متشابه ، فسنبينه بعد سرد بعض الأقوال التى قالها العلماء فى تحديد معنى كل منهما .فمنهم من يرى أن المحكم هو الواضح الدلالة الذى لا يحتمل النسخ ، والمتشابه هو الخفى الذى لا يدرك معناه وهو ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة والروح .ومنهم من يرى أن المحكم هو الواضح الدلالة الذى لا يحتمل النسخ ، والمتشابه هو الخفى الذى لا يدرك معناه وهو ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة والروح .ومنهم من يرى أن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان . والمتشابه هو الذى لا يستقل بنفسه ، بل يحتاج إلى بيان ، فتارة يبين بكذا ، وتارة يبين بكذا ، لحصول الاختلاف فى تأويله .ومنهم من يرى أن المحكم هو الذى لا يحتمل فى تأويله إلا وجها واحداً والمتشابه هو الذى يحتمل أوجها . ومنهم من يرى أن المحكم ما كانت دلالته راجحة وهو النص والظاهر . أما المتشابه فهو ما كانت دلالته غير راجحة ، وهو المجمل والمؤول والمشكل .هذه بعض الأقوال فى تحديد معنى المحكم والمتشابه . وقد اختار كثير من المحققين هذا القول الأخير ، ومعنى الآية الكريمة - بعد هذا التهميد الموجز :الله - عز وجل - الذى لا إله إلا هو الحى القيوم ، والذى أنزل الكتب السماوية لهداية الناس ، والذى صورهم فى الأرحام كيف يشاء ، وهو الذى أنزل عليك - يا محمد - هذا الكتاب الكريم المعجز العظيم الشأن ، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وقد اقتضت حكمة الله - تعالى - أن يجعل هذا الكتاب { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } أى واضحات الدلالة ، محكمات التراكيب ، جليات المعانى ، متقنات النظم والتعبير حاويات لكل ما يسعد الناس فى معاشهم ومعادهم ، بينات لا التباس فيها ولا اشتابه .وقوله { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أى هذه الآيات المحكمات الواضحات الدلالة المانعات من الوقوع فى الالتباس لانكشاف معانيها لكل ذى عقل سليم ، هن أصل الكتاب الذى يعول عليه فى معرفة الأحكام ، ويرجع إليه فى التمييز بين الحلال والحرام ، ويرد إليه ما تشابه من آياته ، وما استشكل من معانيها .والجار والمجرور { مِنْهُ } خبر مقدم ، و { آيَاتٌ } مبتدأ مؤخر ، و { مُّحْكَمَاتٌ } صفة لآيات . وقوله { هُنَّ أُمُّ الكتاب } صفة ثانية للآيات .قال الجمل : وأخبر بلفظ الواحد وهو { أُمُّ } عن الجمع وهو { هُنَّ } لأن الآيات كلها فى تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام الله واحد . أو أن كل واحدة منهن أم الكتاب كما قال - تعالى - : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } أى كل واحد منهما . أو لأنه مفرد واقع موقع الجمع " .وقوله { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } أى ومنه آيات أخر متشابهات وذلك كالآيات التى تتحدث عن صفات الله - تعالى - مثل : الاستواء ، واليد والغضب ، ونحو ذلك من الآيات التى تحدثت عن صفاته - سبحانه - وكالآيات التى تتحدث عن وقت الساعة ، وعن الروح وعن حقيقة الجن والملائكة وكالحروف المقطعة فى أوائل السور .قال الشيخ الزرقانى ما ملخصه : ومنشأ التشابه إجمالا هو خفاء مراد الشارع من كلامه . أما تفصيلا فنذكر أن منه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ من جهة غرابته كلفظ الأب فى قوله تعالى : { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } أو من جهة اشتراكه بين معان عدة كما فى قوله - تعالى - { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين } أى فأقبل إبراهيم على الأصنام يضربها بيمينه ، أو بقوة ، أو بسبب اليمين التى حلفها . ومن هذا النوع فواتح السور المبدوءة بحروف التهجى لأن التشابه والخفاء فى المراد منها جاء من ناحية ألفاظها .ومنه ما يرجع خفاؤه إلى المعنى ، ومثاله كل ما جاء فى القرآن وصفا لله - تعالى - أو لأهوال القيامة ، أو لنعيم الجنة . . فإن العقل البشرى لا يمكن أن يحيط بحقائق صفات الخالق ، ولا بأهوال يوم القيامة ، ولا بنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار .ثم قال - رحمه الله - ويمكننا أن ننوع المتشابهات ثلاثة أنواع :النوع الأول : مالا يستطيع البشر جميعا أن يصلوا إليه كالعلم بذات الله وحقائق صفاته ، وكالعلم بوقت القيامة ونحوه مما استأثر الله بعلمه .النوع الثانى : ما يستطيع كل إنسان أن يعرفه عن طريق البحث والدرس ، كالمتشابهات التى نشأ التشابه فيها من جهة الإِجمال والبسط والترتيب . والأمثلة على ذلك كثيرة ، فمثال التشابه بسبب الإِجمال قوله - تعالى :{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } فإن خفاء المراد فيه جاء من ناحية إيجازه . والأصل : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } لو تزوجتموهن فانكحوا من غيرهن { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } .النوع الثالث : ما يعلمه خواص العلماء دون عامتهم ولذلك أمثلة كثيرة من المعانى العالية التى تفيض على قلوب أهل الصفاء والاجتهاد عند تدبرهم لكتاب الله " .ثم بين - سبحانه - موقف الذي فى قلوبهم مرض وانحراف عن الحق من متشابه القرآن فقال : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ } فالجملة الكريمة تفصيل لإِجمال اقتضاه الكلام السابق .والزيغ - كما يقول القرطبى - الميل ، ومنه زاغت الشمس ، وزاغت الأبصار ، ويقال : زاغ يزيغ زيغاً إذا ترك القصد ، ومنه قوله - تعالى - : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة ، وإن كانت الإِشارة بها فى ذلك الوقت إلى نصارى نجران .والابتغاء : الاجتهاد فى الطلب . يقال : بغيت الشئ وابتغيته ، إذا طلبته بجد ونشاط . والفتنة : من الفتن : وأصل الفتن إدخال الذهب للنار لتظهر جودته من رداءته . والمراد بها هنا الإِضلال وإثارة الشكوك حول الحق .والتأويل : يطلق بمعنى التفسير والتوضيح والبيان . ويطلق بمعنى حقيقة الشئ وما يؤول إليه أمره ، مأخوذ من الأول وهو الرجوع إلى الأصل .يقال : آل الأمر إلى كذا يؤول أولاً أى رجع . وأولته إليه : رجعته .المعنى : لقد اقتضت حكمتنا - يا محمد - أن ننزل عليك القرآن مشتملا على آيات محكمات هن أم الكتاب ، وعلى أخر متشابهات . فأما الفاسقون الذين فى قلوبهم انحراف عن طلب الحق ، وميل عن المنهج القويم ، وانصراف عن القصد السوى فيتبعون ما تشابه منه ، أى : يتعلقون بذلك وحده . ويعكفون على الخوض فيه . ولا تتجه عقولهم إلى المحكم ليردوا المتشابه إليه ، وإنما يلازمون الأخذ بالمتشابه كما يلازم التابع متبوعه ، لأنه يوافق اعوجاج نفوسهم وسوء نياتهم . وتحكم أهوائهم وشهواتهم .وقد بين - سبحانه - أن اتباع هؤلاء الزائغين للمتشابه إنما يقصدون من ورائه أمرين :أولهما : { ابتغاء الفتنة } أى طلبا لفتنة المؤمنين فى دينهم . وتشكيكهم فى عقيدتهم ، وإثارة الريب فى قلوبهم بأوهام يلقونها حول المتشابه الذى جاء به القرآن ، بأن يقولوا - كما حكى القرآن عنهم -{ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } وبأن يقولوا : كيف يكون نعيم الجنة ، وما حقيقة الروح ولماذا يعذبنا الله على أعمالنا مع أنه هو الخالق لكل شئ ، إلى غير ذلك من الشبهات الزائفة التى يثيرها الذين فى قلوبهم زيغ طلبا لتشكيك المؤمنين فى دينهم .وثانيهما : { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } أى : ويتعلقون بالمتشابه ويتبعونه طلبا لتأويل آيات القرآن تأويلا باطلا ، وتفسيرها تفسيرا فاسداً بعيداً عن الحق زاعمين أن تفسيرهم هذا هو الحق بعينه ، لأنه يتفق مع أهوائهم وشهواتهم وميولهم الأثيمة .وفى جعل قلوبهم مقراً للزيغ مبالغة فى عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد .وفى تعليل الاتباع - كما يقول الآلوسى - " بابتغاء تأويله دون نفس تأويله وتجريد التأويل عن الوصف بالصحة أو الحقيقة . إيذان بأنهم ليسوا من أهل التأويل - فى عير ولا نفير ولا قبيل ولا دبير - وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه " .وقد ذم النبى صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين يتبعون ما تشابه من القرآن طلبا للفتنة والتأويل الباطل ، وحذر منهم فى أحاديث كثيرة . ومن ذلك ما رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } . . إلخ الآيات قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " .وقد استجاب الصحابة - رضى الله عنهم - لوصايا الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا يتباعدون عن الذين فى قلوبهم زيغ . ويزجرونهم ويشفون عن أباطيلهم .قال القرطبى : " حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضى : قال : أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم ، عن سليمان بن يسار أن صَبِيغ بن عِسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء : فبلغ ذلك عمر - رضى الله عنه - فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل . فلما حضر قال له عمر : من أنت؟ قال : أنا عبد الله صبيغ . فقال عمر - وانا عبد الله عمر : ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه ، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه فقال حسبك يا أمير المؤمنين!! فقد والله ذهب ما كنت أجد فى رأسى " .ثم بين - سبحانه - أن تأويل المتشابه مرده إلى الله - تعالى - وأن الراسخين فى العلم يعلمون منه ما يوفقهم الله لمعرفته فقال ، { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } .وقوله - تعالى - { والراسخون فِي العلم } من الرسوخ وهو الثبات والتمكن وأصله فى الأجرام ، أن يرسخ الجبل والشجر فى الأرض ، واستعمل فى المعانى ومنه رسخ الإِيمان فى القلب . أى ثبت واستقر وتمكن .والألباب ، جمع لب وهو - كما يقول الراغب - العقل الخالص من الشوائب وسمى بذلك لكونه خالص ما فى الإِنسان من معانيه ، كاللباب واللب من الشئ وقيل هو ما زكا من العقل ، فكل لب عقل وليس كل عقل لبا ، ولهذا علق الله - تعالى - الأحكام التى لا يدركها إلا العقول الزكية بأولى الألباب " .قال الآلوسى : " وقوله { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم } فى موضع الحال من ضمير يتبعون باعتبار العلة الأخيرة . أى يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله - تأويلا فاسداً - والحال أن التأويل المطابق للواقع - كما يشعر به التعبير بالعلم والإِضافة إلى الله - تعالى - مخصوص به - سبحانه - وبمن وفقه - عز شأنه - من عباده الراسخين فى العلم . أى الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا فى مزال الأقدام ، ومداحض الأفهام ، دونهم حيث إنهم بمعزل عن تلك الرتبة ، هذا ما يقتضيه الظاهر فى تفسير الراسخين " .وقوله . { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } جملة موضحة لحال الراسخين فى العلم ، ومبينة لما هم عليهم من قوة الإِيمان ، وصدق اليقين .أى يقول الراسخون فى العلم عندما يقرءون ما تشابه من آيات القرآن آمنا به وصدقنا وأذعنا فنحن لا نشك فى أن كلا من الآيات المتشابهة والآيات المحكمة من عند الله وحده فهو الذى أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم بمقتضى حكمته ومشيئته .وقوله { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } ، معطوف على جملة { يَقُولُونَ } وقد ختم به - سبحانه - هذه الآية على سبيل المدح لهؤلاء الراسخين فى العلم .أى : وما يدرك هذه الحقائق الدينية ويعتبر بها ويتذكر ما اشتمل عليه القرآن من أحكام وآداب وهدايات وتشريعات إلا أصحاب العقول السليمة ، والألباب المستنيرة التى لا تتأثر بالأهواء والشهوات ، ولا تركن إلى البدع الزائفة والأفكار الفاسدة .قال ابن كثير : " وقوله - تعالى - { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } اختلف القراء فى الوقف هنا فقيل الوقف على لفظ الجلالة ، فقد ورد عن ابن عباس أنه قال : " التفسير على أربعة انحاء فتفسير لا يعذر أحد فى فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه الراسخون فى العلم ، وتفسير لا يعلمه إلا الله " . وعن أبى مالك الأشعرى أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا أخاف على أمتى إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تأويله { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } الآية وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يسألون عنه " .وحكى ابن جرير أن قراءة عبد الله بن مسعود ، إن تأويله إلا عند الله ، والراسخون فى العلم يقولون آمنا به . واختار هذا القول ابن جرير - وهو مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين وأتباعهم خصوصا أهل السنة .ومنهم من يقف على قوله { والراسخون فِي العلم } وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول ، وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد . وقد روى عن ابن عباس أنه قال . أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله ، وروى عن مجاهد أنه قال والراسخون فى العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به .وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال : " اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل " .والذى نراه أنه إذا فسر المتشابه بما استأثر الله - تعالى - بعلمه كقيام الساعة وحقيقة الروح ، كان الوقف على لفظ الجلالة وكانت الواو فى قوله { والراسخون } للاستئناف ، والراسخون مبتدأ وجملة " يقولون " خبر عنه .أى والراسخون فى العلم يقولون آمنا به ويفوضون علمه إليه - سبحانه - ولا يقتحمون أسواره ، كأهل الزيغ والضلال الذين أولوه تأويلا فاسدا . . وإذا فسر المتشابه بما لا يتبين معناه إلا بعد نظر دقيق بحيث يتناول المجمل ونحوه كان الوقف على لفظ العلم ، وكانت الواو فى قوله { والراسخون } للعطف .أى : لا يعلم تأويل المتشابه تأويلا حقا سليما إلا الله والراسخون فى العلم أما أولئك الذين فى قلوبهم زيغ فهم أبعد ما يكونون عن ذلك .ويجوز الوقف على هذا الرأى أيضاً على لفظ الجلالة؛ لأنه لا يعلم تأويل هذا المتشابه علما كاملا إلا الله . أولا يعلم كنهه وحقيقته أحد سواه .وإذا فسر المتشابه بما قام الدليل القاطع على أن ظاهره غير مراد . مع عدم قيام الدليل على تعيينه ، كمتشابه الصفات أو ما يسمى بآيات الصفات مثل قوله - تعالى - { الرحمن عَلَى العرش استوى } جاز الوقف والعطف عند من يؤولون هذه الصفات تأويلا يليق بذاته - تعالى - وهم جمهور علماء الخلف ووجب الوقف على لفظ الجلالة عند من يفوض معاني هذه المتشابهات إلى الله - تعالى - مع تنزيهه عن ظواهرها المستحيلة وهم جمهور علماء السلف وهذه المسألة من المسائل التي أفاض القول فيها الباحثون في علم الكلام .هذا وقد ذكر العلماء حكما متعددة لاشتمال القرآن على المحكم والمتشابه ، منها : الابتلاء والاختبار ، لأن الراسخون في العلم سيؤمنون به وإن لم يعرفوا تأويله ، ويخضعون لسلطان الربوبية ، ويقرون بالعجز والقصور ، وفي ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة . وأما الذين في قلوبهم زيغ فيؤولونه تأويلا باطلا لإضلال الناس وتشكيكهم في دينهم .ومنها : رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف الذي لا يطيق معرفة كل شيء . فقد أخفى - سبحانه - على الناس معرفة وقت قيام الساعة لكيلا يتكاسلوا ويقعدوا عن الاستعداد لها ، ولكيلا يفتك بهم الخوف فيما لو أدركوا بالتحديد قرب قيامها .ومنها - كما يقول الفخر الرازي : " أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب ، ومنها : أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل ، وحينئذ يتخلص من ظلمة التقليد ، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة ، أما لو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية ، فحينئذ يبقى في الجهل والتقليد . ومنها أن اشتماله على المحكم والمتشابه يحمل الإنسان على تعلم علوم كثيرة كعلم اللغة والنحو وأصول الفقه وغير ذلك من أنواع العلوم ، ومنها : أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام ، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه ، ظن أن هذا عدم ونفى فوقع في العطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه ، وبذلك يكون مخلوطا بما يدل على الحق الصريح . فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من المتشابهات ، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات " .ومنها - كما يقول الجمل نقلا عن الخازن : " فإن قيل القرآن نزل لإرشاد الناس فهلا كان كله محكما؟ فالجواب أنه نزل بألفاظ العرب وعلى أسلوبهم . وكلامهم على ضربين : الموجز الذي لا يخفى على سامع هذا هو الضرب الأول ، والثاني المجاز والكنايات والإرشادات والتلويحات وهذا هو المستحسن عندهم ، فأنزل القرآن على ضربين ليتحقق عجزهم فكأنه قال : عارضوه بأي الضربين شئتم ، ولو نزل كله محكما لقالوا : هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا " .قال بعض العلماء : والذي يستخلص من مصادر الشريعة ومواردها ، أن الآيات المتشابهة لا يمكن أن يكون موضوعها حكما تكليفيا من الأحكام التي كلف عامة المسلمين أن يقوموا بها ، وأنه لا يمكن أن تكون آية من آيات الأحكام التكليفية قد انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى دون أن يبينها ، ولا تشابه فيها بعد أن بينتها السنة النبوية ، لأن الله - تعالى - يقول : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ولا شك من أول بيان ما نزل إليهم بيان الأحكام التكليفية .لذلك نقول جازمين : إنه ليس في آيات الأحكام آية متشابهة ، وإن اشتبه فهمها على بعض العقول ، لأنه لم يطلع على موضوعها ، فليس ذلك لأنها متشابهة في ذاتها ، بل لاشتباه عند من لا يعلم ، واشتباه من لا يعلم لا يجعل آية في القرآن متشابهة " .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
📘 وأما النداء الثالث الذى اشتملت عليه هذه الآيات فهو قوله : { ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } .أى : لماذا تكفرون بآيات الله - تعالى - التى يتلوها عليكم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والحال أنكم تعلمون صدقها وصحتها علما يقينا كعلم المشاهدة والعيان ، وتعرفون أنه نبى حقا كما تعرفون أبناءكم .والاستفهام فى قوله { لِمَ تَكْفُرُونَ } لتوبيخهم والتعجيب من شأنهم ، وإنكار ما هم عليه من كفر بأيات الله مع علمهم بصدقها .وفى هذا النداء إشارة إلى أن ما أعطوه من علم كان يقتضى منهم أن يسارعوا إلى الإيمان لا أن يكفروا بآيات الله الدالة على صدق نبيه صلى الله عليه وسلم والتى تتناول القرآن الكريم ، والحجج والمعجزات التى جاءهم بها صلى الله عليه وسلم .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
📘 ثم وجه إليهم - سبحانه - نداء رابعا نهاهم فيه عن الخلط بين الحق والباطل وعن كتمان الحق بعد أن نهاهم قبل ذلك عن الكفر بالآيات فقال - تعالى - : { ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل وَتَكْتُمُونَ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .وقوله : { تَلْبِسُونَ } أى تخلطون من اللبس - بفتح اللام - أى الخلط وفعله ليس من باب ضرب .تقول : ليست عليه الأمر ألبسه إذا مزجت بينه بمشكلة وحقه بباطله فى ستر وخفاء .أى : يا أهل الكتب لماذا تخاطلون الحق الواضح الذى نطقت به الكتب السماوية ، وأيدته العقول السليمة ، بالباطل الذى تخترعونه من عند أنفسكم إرضاء لأهوائكم؟ ولماذا تكتمون الحق الذى تعرفونه كما تعرفون أبناءكم بغية انصراف الناس عنه ، لأن من جهل شيئاً عاداه .وفى تكرير النداء والاستفهام زيادة في توبيخهم ولإنكار ما هم عليه ، والتعجيب من شأنهم ، ذلك لأنهم جمعوا أفحش أنواع الرذائل التى على رأسها كفرهم بآيات الله وخلطهم الحق بالباطل وكتمان الحق عمن يريده .ولدعاة الضلالة طريقتان فى إغواء الناس .إحداهما : طريقة خلط الحق بالباطل حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر وهى المشار إليها بقوله - تعالى { لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل } .والثانية : طريقة جحد الحق وإخفائه حتى لا يظهر ، وهى المشار إليها بقوله - تعالى - : { وَتَكْتُمُونَ الحق } .وقد استعمل أهل الكتاب الطريقتين لصرف الناس عن الإسلام فقد كان بعضهم يؤول نصوص كتبهم الدالة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم تأويلا فاسداً يخلط فيه الحق بالباطل ليوهموا العامة أنه ليس هو النبى المنتظر ، وكان بعضهم يلقى حول الحق شبها ليوقع ضعفاء الإيمان فى حيرة وتردد ، وكان بعضهم يخفى أو يحذف النصوص الدالة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم أو التى لا توافق أهواءهم .وقوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية . أى وأنتم تعلمون أن ما أخفيتموه وما لبستموه هو الحق ، أو وأنتم من ذوى العلم ولا يناسب من كان كذلك أن يكتم الحق ويخلطه بالباطل ، وإذا كان هذا الفعل يعد من كبائر الذنوب حتى ولو وقع من شخص عادى فإن وقعه يكون أقبح وفساده أكبر وعاقبه أشأم متى صدر من عالم فاهم يميز بين الحق والباطل .قال أبو حيان : وهذه الحال وإن كان ظاهرها أنها قيد فى النهى عن اللبس والكتم ، إلا أنها لا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل إذا الجاهل بحال الشىء لا يدرى كونه حقا أو باطلا . وإنما فائدتها بيان أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل .وبعد هذه النداءات المتكررة لأهل الكتاب ، والحجج الباهرة التى ساقها لهم على صحة هذا الدين والتوبيخات المتعددة التى وبخهم بها لانصرافهم عن الحق ومحاولتهم صرف غيرهم عنه بعد كل ذلك ، أخذ القرآن فى سرد بعض المسالك الخبيثة التى سلكها اليهود لكيد الإسلام والمسلمين فبدأ ببيان مسلك لئيم من مسالكهم الكثيرة ، وهو أن بعضهم كان يظهر الإيمان لفترة من الوقت ثم يرجع عنه إلى الكفر ، ليوهم ضعاف العقول أنه ما رجع عن الإسلام إلا بعد أن دخله فوجده دينا ليس بشىء - فى زعمه - .استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك لكى يطلع أتباعه على مسالك اليهود ومكرهم حتى يحذروهم ، فيقول : { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ . . . } .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
📘 أنت إذا تأملت فى هذه الآيات الكريمة تراها قد حكت عن طائفة من أهل الكتاب طريقة ماكرة لئيمة ، هى تظاهرهم بالإسلام لفترة من الوقت ليحسن الظن بهم من ليس خبيرا بمكرهم وخداعهم ، حتى إذا ما اطمأن الناس إليهم جاهروا بكفرهم ورجعوا إلى ما كانوا عليه ، ليوهموا حديثى العهد بالإسلام أو ضعاف الإيمان ، أنهم قوم يبحثون عن الحقيقة ، وأنهم ليس عندهم أى عداء للنبى صلى الله عليه وسلم بل إن الذى حصل منهم هو أنهم بعد دخولهم فى الإسلام وجدوه دينا باطلا وأنهم ما عادوا إلى دينهم القديم إلا بعد الفحص والاختبار وإمعان النظر في دين الإسلام .ولا شك أن هذه الطريقة التى سلكها بعض اليهود لصرف بعض المسلمين عن الإسلام من أقوى ما تفتق عنه تديبرهم الشيطانى ، لأن إعلانهم الكفر بعد الإسلام ، وبعد إظهارهم الإيمان به ، من شأنه أن يدخل الشك فى القلوب ويوقع ضعاف الإيمان فى حيرة واضطراب ، خاصة وأن العرب - فى مجموعهم - قوم أميون ومنهم من كان يعتقد أن اليهود أعرف منهم بمسائل العقيدة والدين . فيظن أنهم ما ارتدوا عن الإسلام إلا بعد اطلاعهم على نقص فى تعاليمه .والمتتبع لمراحل التاريخ قديما وحديثا يرى أن الدهاة فى السياسة والحرب يتخذ هذه الخدعة ذريعة لإشاعة الخلل والاضطراب فى صفوف أعدائه .قال الأستاذ الشيخ محمد عبده - رحمه الله : " هذا النوع الذى تحكيه الآيات من صد اليهود عن الإسلام مبنى على قاعدة طبيعية فى البشر ، وهى أن من علامة الحق أن لا يرجع عنه من يعرفه . وقد وفقه هذا ، هرقل ، ملك الروم ، فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شئون النبى صلى الله عليه وسلم أ ، قال له : " هل يرتد أحد ن أتباع محمد سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال أبو سفيان : لا . وقد أرادت هذه الطائفة أن تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا : لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه ، واطلعوا على بواطنه وخوافيه ، إذ لا يعقل أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته ، ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب " .هذا ، وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات الكريمة روايات متعددة كلها تدور حول المعنى الذى قررناه .ومن هذه الروايات ما أخرجه ابن جرير عن قتادة قال فى قوله - تعالى - { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ } . . ألخ قال بعض أهل الكتاب لبعض : " أعطوهم الرضا بدينهم أول النهار ، واكفروا آخره فغنه أجدر أن يصدقوكم ويعلموا أنكم قد رأيتم ما تكرهونه فى دينهم ، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم " .وعن السدى : كان - هؤلاء - أحبار قرى عربية ، اثنى عشر حبرا ، فقالوا لبعضهم : ادخلوا فى دين محمد أول النهار ، وقولوا : نشهد أن محمدا حق صادق . فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا : إنا رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم ، لعلهم يشكون ، يقولون : هؤلاء كانوا معنا أول النهار فما بالهم؟ فأخبر الله - عز وجل - رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك " .والمعنى : { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب } أى : فيما بينهم ليلبسوا على الضعفاء أمر دينهم { آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار } أى قال بعضهم لبعض : نافقوا وأظهروا التصديق بالإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - وبما أنزل عليه وعلى أصحابه من قرآن { وَجْهَ النهار } أى فى أول النهار .وسمى أول النهار وجها ، لأنه أول ما يواجهك منه ، وأول وقت ظهوره ووضوحه . وقوله { واكفروا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } معطوف على { آمَنُواْ } .أى : آمنوا فى أول النهار واكفروا فى آخره ، بأن تعودوا إلى اليهودية ، أملا فى أن ينخدع بحيلتكم هذه بعض المسلمين ، فيشكوا في دينهم ، ويعودوا إلى الكفر بعد دخولهم فى الإسلام .وقوله { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } كشف عن مقصدهم الخبيث ، وهو ابتغاؤهم رجوع بعض المؤمنين عن دينهم الحق إلى ما كانوا عليه من باطل .قال الفخر الرازي : " والفائدة فى إخبار الله - تعالى - عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه :الأول : أن هذه الحيلة كانت مخيفة فيما بينهم ، وما أطلعوا عليها أحداً من الأجانب ، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخبارا عن الغيب فيكون معجزاً .الثانى : أنه - تعالى - لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر فى قلوب المؤمنين ، ولولا هذا الإعلام لكان ربما أثرت هذه الحيلة فى قلب بعض من كان في إيمانه ضعف .الثالث : أن القوم لما افتضحوا فى هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس " .
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ۗ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
📘 ثم حكى - سبحانه - لونا من عصبيتهم وتعاونهم على الإثم والعدوان فقال تعالى : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } .وقوله - سبحانه - حكاية عنهم { وَلاَ تؤمنوا } معطوف على قوله - تعالى - فى الآية السابقة { آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ } .وقد فسر بعضهم { وَلاَ تؤمنوا } بمعنى ولا تقروا ، أو ولا تعترفوا؛ فتكون اللام فى قوله { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } أصلية .وعليه يكون المعنى : أن بعض اليهود قد قالوا لبعض : أظهروا إسلامكم أول النهار واكفروا آخره ، لعل هذا العمل منكم يحمل بعض المسلمين على أن يتركوا دينهم الإسلام ، ويعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ولم يكتفوا بهذا القول بل قالوا أيضا على سبيل المكر والخديعة ، ولا تقروا ولا تعترفوا بأن أحداً من المسلمين أو من غيرهم يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة والفضائل ، أو بأن أحدا فى قدرته أن يحاججكم أى يبادلكم الحجة عند ربكم يوم القيامة ، ولا تقروا ولا تعترفوا بشىء من ذلك " إلا لن تبع دينكم " أى إلا لمن كان على ملتكم اليهودية دون غيرها .فالمستثنى منه على هذا التفسير محذوف ، والتقدير : ولا تؤمنوا أى تقروا وتعترفوا لأحد من الناس بأن أحداً يؤتى مثل ما أوتيتم أو بأن أحداً يحاججكم عند ربكم إلا لمن تبع دينكم ، لأن إقراركم بذلك أمام المسلمين أو غيرهم ممن هو على غير ملتكم سيؤدى إلى ضعفكم وإلى قوة المسلمين .فهم على هذا التفسير يعلمون ويعتقدون بأن المؤمنين قد أوتوا مثلهم من الدين والفضائل عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم الذى أرسله الله رحمة للعالمين ، ولكنهم لشدة حسدهم وبغضهم للنبى صلى الله عليه وسلم ولأتباعه ، قد تواصوا فيما بينهم بأن يكتموا هذا العلم وتلك المعرفة ، ولا يظهروا ذلك إلا فيما بينهم ، وصدق الله إذ يقول فى شأنهم { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وقد صدر صاحب الكشاف تفسيره لللآية بهذا الوجه فقال : " قوله { وَلاَ تؤمنوا } بمعنى ولا تصدقوا أو ولا تعتقدوا ، فتكون اللام فى قوله { لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } زائدة للتقوية .فيصير المعنى على هذا الوجه : أن بعض اليهود قد قالوا لبعض : أظهروا الإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل عملكم هذا يجعل بعض المسلمين يترك دينه ويعود إلى الكفر الذى كان عليه ، ولا تصدقوا أن أحدا من البشر يؤتى مثل ما أتيتم يا بنى إسرائيل من الكتاب والنبوة ، أو أن أحدا في قدرته أن يحاججكم عند ربكم فأنتم الأعلون فى الدنيا والآخرة وأنتم الذين لا تخرج النبوة من بينكم إلى العرب ، وما دام الأمر كذلك فلا تتبعوا إلا نبياً منكم يقرر شرائع التوراة ، أما من جاء بتغيير شىء من أحكامها أو كان من غير بنى إسرائيل كمحمد صلى الله عليه وسلم فلا تصدقوه .فالمستثنى منه على هذا الوجه هو قوله " أحد " المذكور في الآية ، والمستثنى هو قوله { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } .والتقدير : ولا تصدقوا أن أحدا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم أو يمكنه أن يحاججكم عند ربكم { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } أى إلا من كان على ملتكم اليهودية ، أما أن يكون من غيركم كهذا النبى العربى فلا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة ، لأنهما - فى زعمهم - حكر على بنى إسرائيل .فهم على هذا الوجه من التفسير يزعمون أنهم غير مصدقين ولا معتقدين بأن المسلمين قد أوتوا كتاباً وديناً وفضائل مثل ما أوتوا هم أى اليهود ، ويرون أنفسهم - لغرورهم وانطماس بصيرتهم - أنهم أهدى سبيلا من كل من سواهم من البشر .وعلى كل من الوجهين يكون قوله - تعالى - { أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } حكاية من الله - تعالى - لما تواصى به بعض اليهود فيما بينهم من أقوال خبيثة ، وأفكار ماكرة .ويكون قوله - تعالى - { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } كلاما معترضا بين أقوالهم ساقه الله - تعالى - للمسارعة بالرد على أقوالهم الذميمة حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ويزدادوا هم رجسا إلى رجسهم ، وينكشف ما أضمروه وما بيتوه للمؤمنين من سوء وحقد .أى قل لهم يا محمد إن هداية الله - تعالى - ملك له وحده ، وهو الذى يهبها لمن يشاء من عباده ، فهى ليست حكراً على أحد ، ولا أمرا مقصورا على قوم دون قوم ، وإذا كانت النبوة قد ظلت فترة من الزمان فى بنى إسرائيل ، فالله - تعالى - قادر على أن يسلبها منهم لأنهم لم يشكروه عليها وأن يجعلها فى محمد العربى صلى الله عليه وسلم لأنه أهل لها وهو - سبحانه - أعلم حيث يجعل رسالته .هذا ، ويرى بعض المفسرين أن أقوال اليهود التى حكاها القرآن عنهم قد انتهت بنهاية قوله - تعاىل - { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } وأما قوله - تعالى - { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } فهو من كلام الله - تعالى - وقد ساقه - سبحانه - للرد عليهم .فيكون المعنى عليه : أن بعض اليهود قد قال لبعض : أظهروا إسلامكم أول النهار واكفروا آخره لعل بعض المسلمين يرجع عن دينه بسبب فعلكم هذا ، ولا تعترفوا بفعلكم هذا إلا لأهل دينكم من اليهود حتى يبقى عملكم هذا سرا له أثره فى بلبلة أفكار المسلمين ورجوع بعضهم عن الإسلام .وهنا يأمر الله - تعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم وبالكشف عن مكرهم فيقول : قل لهم يا محمد إن الهدى هدى الله ، أى إن هداية الله ملك له وحده فهو الذى يهدى من يشاء وهو الذى يضل من يشاء ، وقد هدانا - سبحانه - إلى الإسلام وارتضيناه دينا لنا ولن نرجع عنه .وقل لهم كذلك على سبيل التوبيخ والتهكم بعقولهم : أمخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة : أو مخافة أن يحاججكم المسلمون عند ربكم يوم القيامة حيث آمنوا بالحق وأنتم كفرتم به ، أمخافة ذلك دبرتم ما دبرتم من هذه الأقوال السيئة والأفعال الخبيثة؟ لا شك أنه لم يحملكم على ذلك المنكر السىء إلا الحسد لمحمد صلى الله عليه وسلم ولقومه وزعمكم أنكم أفضل منهم لأنكم - كما تدعون - أبناء الله وأحباؤه فدفعكم ذلك كله إلى كراهية دينه والكيد لأتباعه .قالوا : ويؤيد هذا الوجه من التفسير للآية قراءة ابن كثير " أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم . . . " بهمزتين أولاهما للاستفهما الذى قصد به التوبيخ والإنكار ، والثانية هى همزة أن المصدرية .وقد أشار إلى هذا الوجه الفخر الرازي فقال ما ملخصه : " واعمل أن هذه الآية من المشكلات الصعبة . . ويحتمل أن يكون قوله - تعالى - { أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } من كلام الله - تعالى - فقد قرا ابن كثير { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } . والمعنى أمن أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع تنكرون اتباعه ، ثم حذف الجواب للاختصار ، وهذا الحذف كثير .يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه . وبعد كثرة إحسانه إليه : أمن قلة إحسانى إليك؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت " .ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم مرة ثانية حتى يبطل مزاعمهم ويفضحهم على رؤس الأشهاد فقال : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أى قل لهم يا محمد : إن الفضل - الذى يتناول النبوة وغيرها من نعم الله على عباده - هذا الفضل وذلك العطاء بيد الله - تعالى- وحده ، وهو - سبحانه - المتفضل به على من يشاء التفضل عليه من عباده ، وإذا كان - سبحانه - قد جعل النبوة فى بنى إسرائيل لفترة من الزمان ، فذلك بفضل منه وبرحمته ، وإذا كان قد سلبها عنهم لأنهم لم يرعوها حق رعايتها وجعلها فى هذا النبى العربى فذلك - أيضا - بفضله ورحمته ، وهو - سبحانه - أعلم حيث يجعل رسالته ، وهو - سبحانه - صاحب الاختيار المطلق في أن يؤتى فضله لمن يشاء من عباده . وهو - سبحانه - { وَاسِعٌ } الرحمة والفضل { عَلِيمٌ } بمن يستحقها وبمن لا يستحقها .
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
📘 ثم قال - تعالى - { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } أي يختص بالنبوة وما يترتب عليها من الهداية والنعم من يشاء من عباده .وقوله { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } أى هو - سبحانه - صاحب الجود العميم والفضل العظيم ، فلا عظمة تساوى عظمة فضل الله - تعالى - على خلقه ، وإنما هو وحده صاحب النعم التى لا تحصى على عباده ، فعليهم أن يشكروه وأن يفردوه بالعبادة والخضوع .وبذلك تكون الآيات الكريمة قد كشفت عن مسلك من مسالك اليهود الماكرة التى أرادوا من ورائها كيد الإسلام والمسلمين ، وفى هذا الكشف تنبيه للمسلمين إلى ما يبيته لهم هؤلاء الأعداء من شرور وآثام حتى يحذروهم .ثم حكى القرآن لونا آخر من ألوان مزاعم اليهود الباطلة ، وأقاويلهم الكاذبة ، وهو دعواهم أنهم ليس عليهم في الأميين سبيل ، أى أن كل من كان على غير ملتهم فإنه مهدور الحقوق ، ثم رد عليهم بما يدحض مزاعمهم ويثبت أنهم ليسوا أهلا لاختصاصهم بالنبوة والرحمة فقال تعالى : { وَمِنْ أَهْلِ . . . } .
۞ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
📘 قال الإمام الرازى : اعلم أن تعلق هذه الآية - وهى قوله - ومن أهل الكتاب . . . بما قبلها من وجهين :الأول : أنه - تعالى - حكى عنهم فى الآية المتقدمة أنهم أدعوا أنهم أوتوا من المناصب الدينية ما لم يؤت أحد غيرهم مثله ، ثم إنه - تعالى - بين أن الخيانة مستقبحة عند جميع أرباب الأديان وهم مصرون عليها فدل هذا على كذبهم .والثاني : أنه - تعالى - لما حكى عنهم فى الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا { لاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } حكى فى هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس ، وهو إصرارهم على الخياننة والظلم وأخذ أموال الناس فى القليل والكثير .قال ابن عباس : أودع رجل عند عبد الله بن سلام ألفا ومائتى أوقية من ذهب فأداها إليه . وأودع رجل آخر عند فنحاص بن عازوراء اليهودى دينارا فخانه فنزلت الآية .والمعنى : إن من أهل الكتاب فريقاً أن تأتمنه على الكثير والنفيس من الأموال يؤده إليك عند طلبه كاملا غير منقوص ، وإن منهم فريقاً آخر إن تأتمنه على القليل والحقير من حطام الدنيا يستحله ويجحده ولا يؤديه إليك إلا إذا داوم صاحب الحق على المطالبة بحقه واستعمل كل الوسائل فى الحصول عليه .فالآية الكريمة قد مدحت من يستحق المدح من أهل الكتاب وهو الفريق الذى استجاب للحق وآمن بالنبى صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأمثاله من مؤمنى أهل الكتاب . وذمت من يستحق الذم منهم وهو الفريق الذى لا يؤدى الأمانة ، ولم يستجب للحق ، بل استمر على كفره وجحوده ، وهذا القسم يمثل أكثرية أهل الكتاب .والمراد من ذكر القنطار والدينار هنا العدد الكثير والعدد القليل . أى أن منهم من هو فى غاية الأمانة حتى أنه لو اؤتمن على الأموال الكثيرة لأداها ، ومنهم من هو فى غاية الخيانة حتى أنه لو اؤتمن على الشىء القليل لجحده .وقوله { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } استثناء من أعم الأحوال أو الأوقات . أى لا يؤده إليك فى حال من الأحوال أو فى وقت من الأوقات إلا في حال أو فى وقت مداومتك على طلبه ، والإلحاح فى ذلك ، واستعمال كل الوسائل للوصول إلى حقك .قال الجمل : و " دمت " هذه هى الناقصة ، ترفع وتنصب ، وشرط أعمالها أن يتقدمها ما الظرفية كهذه الآية : إذ التقدير إلا مدة دوامك . وأصل هذه المادة للدلالة على الثبوت والسكون . يقال : دام الماء ، أى سكن . وفى الحديث : " لا يبولن أحدكم فىالماء الدائم " أى الذى لا يجرى . . . ومنه دام الشىء إذا امتد عليه زمان .ودامت الشمس إذا وقفت فى كبد السماء وقوله { عَلَيْهِ } متعلق بقوله { قَآئِماً } والمراد بالقيام الملازمة ، لأن الأغلب أن المطالب يقوم على رأس المطالب ، ثم جعل عبارة عن الملازمة وإن لم يكن ثمة قيام .قال ابن جرير : فإن قال قائل : وما وجه إخبار الله بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم وقد علمت أن الناس لم يزالوا كذلك ، منهم المؤدى أمانته ومنهم الخائن لها؟ قيل : إنما أراد - عز وجل - بإخباره المؤمنين خبرهم على ما بينه فى كتابه بهذه الآية ، تحذير المؤمنين من أن يأتمنوهم على أموالهم ، وتخويفهم من الاغترار بهم ، لاستحلال كثير منهم أموال المؤمنين .ثم حكى - سبحانه - بعض الأسباب التى جعلتهم يبررون خيانتهم وجحودهم لحقوق غيرهم فقال - تعالى - : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } .وقوله { ذلك } إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله - سبحانه - { لاَّ يُؤَدِّهِ } .والمراد بالأميين : العرب ، خصوصا من آمن منهم ، وسمى العرب بالأميين نسبة إلى الأم ، وذلك لغلبة الأمية عليهم لكأن الواحد منهم قد بقى على الحالة التى ولدتهم عليها أمهاتهم من عدم القراءة والكتابة .والسبيل : المراد به ، الحجة الملزمة والحرج . وأصله الطريق ، ثم أطلق على الحجة باعتبارها طريقا ووسيلة للإلزام وتحمل التبعات .أى : ذلك الامتناع عن الوفاء بالعهود ، وجحود الأمانات والحقوق من الفريق الخائن . سببه زعمهم الباطل أنهم ليس عليهم حرج أو إثم أو تبعة فى استحلال أموال العرب الأميين واستلابها منهم بأية طريقة ، لأن الأميين ليسوا على ملتهم .واليهود يزعمون أن كتابهم يحل لهم قتل من خالفهم ، كما يحل لهم أخذ ما له بأى وسيلة . وهذا الخلق الذميم معرق فى اليهود ، لأن أنانيتهم جعلتهم يحرفون كتبهم على حسب ما تهوى نفوسهم ، فقد كانت التوراة تحرم الربا تحريما مطلقا فتقول : " لا تأخذ ربا من أخيك إذا أقرضته " فحرف اليهود هذا النص : إذا زادوا فيه كلمة الإسرائيلي فأصبح النص هكذا " لا تأخذ ربا من أخيك الإسرائيلي إذا أقرضته " وبذلك أصبحوا يحرمون الربا عند تعاملهم مع أنفسهم ويحلونه عند تعاملهم مع غيرهم ، لأنهم لا يشعرون بالأخوة الإنسانية العامة .قال الآلوسى : أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : بايع اليهود رجال من المسلمين فى الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم عن بيوعهم فقال اليهود : ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا ، لأنكم تركتم دينكم الذى كنتم عليه ، وادعوا أنهم وجدوا ذلك فى كتابهم .وقال الكلبى : قالت اليهود : " الأموال كلها كانت لنا ، فما فى أيدى العرب منها فهو لنا ، وأنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا فى أخذ أموالنا منهم " .وقوله - تعالى - { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } رد عليهم فيما قالوه من أنهم ليس عليهم فى الأميين سبيل ، وتكذيب لهم فيما زعموه ، لأن قولهم هذا ما أنزل الله به من سلطان ، ولا يؤيده عقل سليم ، إذ المبادئ الخلقية الفاضلة يجب أن تطبق على جميع الناس بدون تفرقة بينهم .والمعنى : أن هؤلاء اليهود الذين يجحدون الأمانات متذرعين بقولهم { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } ، يفترون على الله الكذب فى قولهم هذا ، وهم يعلمون أنه كاذبون ، لأنهم ليس عندهم فى كتبهم نص يبيح لهم استحلال أموال العرب وخيانتهم ، وإنما الذى تأمرهم به كتبهم هو أداء الأمانة لمستحقيها بالمعروف .وقوله { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية من الضمير في { وَيَقُولُونَ } ومفعول العلم محذوف اقتصارا ، أى وهم من ذوى العلم . أو اختصارا ، أى يعلمون كذبهم وافتراءهم .ولقد بين النبى صلى الله عليه وسلم فى أحاديث متعددة أن الأمانة يجب أن تؤدى إلى البار والفاجر ، ومن ذلك ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنه قال : لما نزلت : { وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ } الآية . قال النبى صلى الله عليه وسلم : " كذب أعداء الله!! ما من شىء كان فى الجاهلية إلا وهو تحت قدمى ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البار والفاجر " .ولقد سار أتباع النبى صلى الله عليه وسلم على مبدأ أداء الأمانة ، وعدم أخذ شىء من أموال الغير إلا بوجه مشروع .قال ابن كثير : " قال عبد الرازق : أنبأنا معمر عن أبى إسحاق الهمدانى عن أبي صعصعة بن يزيد . أن رجلا سأل ابن عباس : إنا نصيب فى الغزو من أموال أهل الذمة : الدجاجة والشاة . قال ابن عباس : فتقولون ماذا؟ قال نقول : ليس علينا بذلك بأس . قال ابن عباس : هذا كما قال أهل الكتاب { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم " .
بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
📘 ثم أكد الله - تعالى - كذب هؤلاء اليهود الذين قالوا : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } بجملة أخرى فيها الرد الذى يخرس ألسنتهم ، ويدحض مزاعمهم فقال - تعالى - : { بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .و { بلى } حرف يذكر فى الجواب لإثبات المنفى فى كلام سابق ، ولقد حكى القرآن قبل ذلك أن اليهود قد نفوا أن يكون عليهم فى الأميين سبيل . فجاء - سبحانه - بهذا الرد الذى يثبت ما نفوه . ويبطل ما زعموه .والمعنى : ليس الأمر كما زعمتم أيها اليهود من أنه ليس عليكم فى الأميين سبيل ، بل الحق أن علكيم فيهم سبيل . وأنكم معذبون بسبب كفركم واستحلالكم لأموالهم بدون حق ومثابون إن آمنتم بالله ورسوله ووفيتم بعهودكم ، وصنتم أنفسكم من كل ما يغضب الله - تعالى - .وقد علل - سبحانه - هذا الحكم العادل بجملة مستأنفة عامة فقال : { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .أي كل من أوفى بعهد الله فآمن بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم واستقام على دينه ، واتقى ما نهى الله عنه من ترك الخيانة والغدر وما إلى ذلك من المحرمات ، فإن الله يحبه ويرضى عنه ، ومن لم يفعل ذلك فإن الله يبغضه ولا يحبه ويعذبه العذاب الأليم .وبذلك تكون الآية الكريمة قد بينت أن محبة الله لعبده تتوفر بأمرين :أولهما : الوفاء بالعهد . فكل ما يلتزمه الإنسان من عهود فالوفاء بها واجب . وفى مقدمة هذه العهود ، العهد الذى أخذه الله على عباده بتوحيده والإيمان برسله وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم .وثانيهما : تقوى الله بمعنى أن يجتنب ما نهى الله عنه وحرمه عليه ، ولا يفعل إلا ما أحله الله وأذن له فيه .وقد خلا اليهود من هذين الأمرين ، لأنهم لم يفوا بعهودهم ، ولم يتقوا نالله ، فسلبت عنهم محبته ، واستحقوا غضبه - سبحانه - ونقمته .قال صاحب الكشاف : قوله - تعالى - { بلى } إثبات لما نفوه من السبيل عليهم فى الأميين ، أى بلى عليهم سبيل فيهم . وقوله { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى } جملة مستأنفة مقررة للجملة التى سدّت { بلى } مسدها . والضمير فى { بِعَهْدِهِ } راجع إلى { مَنْ أوفى } على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقى الله بأن ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه .فإن قلت : فهذا عام يخيل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله . قلت : أجل ، لأنهم إذا وفوا بالعهود ، وفوا أول شىء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم .ولو اتقوا الله فى ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه ، ويجوز أن يرجع الضمير فى " بعهده " إلى الله ، على أن كل من وفى بعهد الله واتقاه فإن الله يحبه ويدخل فى ذلك الإيمان وغيره من الصالحات ، وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء .فإن قلت : فأين الضمير الراجع من الجزاء إل من؟ قلت : عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير " .وبهذا يكون القرآن قد كشف عن مكر اليهود وخداعهم ، ورد عليهم فيما افتروه من أقوال باطلة ، وأثبت أنهم يكذبون فيما يدعون عن تعمد وإصرار ، وبين أن أداء الأمانة واجب على كل إنسان ، وأن كل من وفى بعهود الله واتقاه فهو أهل لمحبته ورضاه .
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
📘 ثم توعد الله - تعالى - الذين يخونون العهود ، ويحلفون كذبا بالعذاب الأليم ، ونعى على فريق من اليهود تحريفهم للكلم عن مواضعه ، وأنذرهم بسوء المصير فقال - تعالى - : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ . . . . } .روى المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ } الآية روايات منها : ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حلف على مال امرىء مسلم بغير حقه لقى الله وهو عليه غضبان " قال عبد الله . ثم قرأ علينا رسول الله مصداقه من كتاب الله ، { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ } إلخ .وفى رواية قال : " من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقى الله وهو عليه غضبان ، فأنزل الله - تعالى - تصديق ذلك { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ } . قال عبد الله : فدخل الأشعث بن قيس فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن قلنا : كذا وكذا . فقال : صدق . فى نزلت ، كان بينى وبين رجل خصومة فى بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شاهداك أو يمينه؟ قلت : إنه إذاً يحلف ولا يبالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان " ، ونزلت : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ } .وروى البخارى عن عبد الله بن أوفى أن رجلا أقام سلعة فى السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين ، فنزلت { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ } .وقال الفخر الرازى : قال عكرمة إنها نزلت فى أحبار اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم فى التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا بأيديهم غيره ، وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا " .هذه ثلاث روايات فى سبب نزول تلك الآية الكريمة ، وأرجحها رواية الشيخيين ، ولذا وجب الأخذ بها إلا أن نزول الآية فى قصة معينة لا يمنع شمول حكمها لكل ما يشبه هذه القصة أو الحادثة ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب - كما يرى جمهور العلماء - .فكل من حلف بالله كاذبا ، واشترى بعهده - سبحانه - ثمنا قليلا حقت عليه العقوبة التى بينتها الآية الكريمة . ويدخل تحت هذه العقوبة دخولا أوليا أولئك اليهود الذين خانوا عهد الله بإنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم يعرفون صدقه معرفة جليلة .والمراد بقوله { يَشْتَرُونَ } أى يستبدلون ، وذلك لان المشترى يأخذ شيئاً ويعطى شيئاً . فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر . والمراد { بِعَهْدِ الله } كل ما يجب الوفاء به ، فيدخل فيه ما أوجبه الله - تعالى - على عباده من فرائض وتكاليف ، ومن إيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، كما يدخل فيه - أيضاً - ما أوجبه الله على أهل الكتاب من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم الذى يجدون نعته فى كتبهم ، ويعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم .والباء فى قوله - تعالى - { بِعَهْدِ الله } داخلة على المتروك الذى تركوه وأخذوا فى مقابله الثمن القليل .وقوله { وَأَيْمَانِهِمْ } معطوف على عهد الله .والمراد بأيمانهم تلك : الأيمان الكاذبة التى يحلفونها ليؤكدوا ما يريدون تأكيده من أقوال أو أفعال .والمراد بالثمن القليل : حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو المال والمنافع الزائلة ، التى أخذوها نظير تركهم لعهود الله ، وحلفهم الكاذب .وليس وصف الثمن بالقلة هنا من الأوصاف المخصصة للنكرات ، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل المحصل نظير خيانة عهود الله تحقيراً له ، إذ أنه لا يكون إلا قليلا وإن بلغ ما بلغ من أغراض الدنيا بجانب رضا الله والوفاء بعهوده .وقوله { أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة } أى الذين يخونون عهد الله ويحلفون الأيمان الكاذبة في مقابل عرض من أعراض الدنيا ، لا نصيب لهم ولاحظ من نعيم الآخرة بسبب ما ارتكبوه من غدر وافتراء .وقوله { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله } أى لا يكلمهم بما يسرهم بل يكلمهم بما يسوؤهم ويخزيهم يوم القيامة بسبب أعمالهم السيئة .أو أن عدم كلام الله - تعالى -لهم : كناية عن عدم محبته لهم ، لأن من عادة المحب أن يقبل على حبيبه ويتحدث إليه ، أما المبغض لشىء ، فإنه ينصرف عنه .وإلى هذا المعنى ذهب الإمام الرازى فقد قال ما ملخصه : " وقوله - تعالى - { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله } فيه سؤال وهو أنه - تعالى - قال : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فكيف الجمع بين الآية التى معنا وبين قوله { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } والجواب : أن المقصود من كل هذه الكلمات : بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره كلامه ، فإنما ذلك بسخط عليه ، وإذا سخط إنسان على آخر قال له : لا أكلمك ، وقد يأمر بحجبه عنه ويقول : لا ارى وجه فلان ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ، فثبت أن الآية كناية عن شدة الغضب نعوذ بالله منه . وهذا هو الجواب الصحيح " .وقوله { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ } أى لا يعطف عليهم ولا يرحمهم ولا يحسن إليهم ، وذلك كما يقول القائل لغيره : انظر إلى ، يريد : ارحمنى واعطف على .ويقال : فلان لا ينظر إلى فلان ، والمراد من ذلك نفى الإحسان إليه وترك الاعتداد به ، فقد جرت العادة بأن من اعتد بإنسان وعطف عليه التفت إليه .قالوا : فلهذا السبب صار المراد بعدم نظر الله - تعالى - إلى هؤلاء الخائنين عبارة عن ترك العطف عليهم والإحسان إليهم والرحمة بهم .ولا يجوز أن يكون المراد من عدم النظر إليهم ، وعدم رؤيتهم ، لأنه - سبحانه - يراهم كما يرى غيرهم من خلقه .وقوله - تعالى - { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أى أنه - سبحانه - لا يطهرهم من دنس ذنوبهم وأوزارهم بالمغفرة ، بل يعاقبهم عليها . أو أنه - سبحانه - لا يثنى عليهم كما يثنى على الصالحين من عباده ، بل يسخط عليهم وينتقم منهم جزاء غدرهم .ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان النتيجة المترتبة على هذا الغضب منه عليهم ، فقال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .أى ولهم عذاب مؤلم موجع بسبب ما ارتكبوه من آثام وسيئات .فانت ترى أن الآية الكريمة قد توعدت هؤلاء الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمناً قليلا بأنهم لاحظ لهم من نعيم الآخرة ، وأنهم ليسوا أهلا لرضا الله ورحمته وإحسانه ، وأنهم سينالون العذاب المؤلم الموجع بسبب ما قدمت أيديهم .
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - بعض الرذائل التى صدرت عن فريق من أهل الكتاب فقال - تعالى - : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } والضمير فى قوله - تعالى - { مِنْهُمْ } يعود إلى أهل الكتاب الذين ذكر القرآن طرفاً من رذائلهم ومسالكهم الخبيثة فيما سبق .قال الفخر الرازي : اعلم أن هذه الآية { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً } تدل على أن الآية المتقدمة وهى قوله - تعالى - { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ } نازلة فى اليهود بلا شك ، لأن هذه الآية نازلة فى حق اليهود وهى معطوفة على ما قبلها ، فهذا يقتضى كون تلك الآية المتقدمة نازلة فى اليهود أيضا " .وقال ابن كثير : يخبر - سبحانه - عن اليهود - عليهم لعائن الله - أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويبدلون كلام الله ، ويزيلونه عن المراد ليوهموا الجهلة أنه فى كتاب الله كذلك وينسبونه إلى الله . وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا فى ذلك كله " .وقوله { يَلْوُونَ } مأخوذ من اللى . واصل اللى الميل يقال : لوى بيده و لوى براسه إذا أماله . والتوى الشىء إذا انحرف ومال عن الاستقامة إلى الاعوجاج والمعنى : " وإن من هؤلاء اليهود الذين كتموا الحق واشتروا بعهد الله وبأيمانهم ثمناً قليلا . إن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب " أي يعمدون إلى كتاب الله فينطقون ببعض ألفاظه نطقا مائلا محرفا يتغير به المعنى من الوجه الصحيح الذى يفيده ظاهر اللفظ إلى معنى آخر سقيم لا يدل عليه اللفظ ولكنه يوافق أهواءهم ونواياهم السيئة ، ومقاصدهم الذميمة .وذلك كأن ينطقوا بكلمة ( رَاعِنَا ) نطقا ملتويا يوافق فى لغتهم كلمة قبيحة يقصدون بها الإساءة إلى النبى صلى الله عليه وسلم . وقد نهى الله - تعالى - المؤمنين عن مخاطبة النبى صلى الله عليه وسلم بأمثال هذه الألفاظ حتى لا يتخذها اليهود ذريعة للإساءة إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى -{ يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا } وكأن ينطقوا بكلمة " السلام عليكم " بقولهم : " السام عليكم " بحذف اللام يعنون الموت عليكم لأن السام معناه الموت .وكأن يغيروا لفظاً من كتابهم فيه ما يشهد بصدق النبى صلى الله عليه وسلم بلفظ آخر ، أو يؤولوا المعانى تأويلا فاسدا ، وقد وبخهم الله - تعالى - على هذا التحريف فى كثير من آيات القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله - تعالى - { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وقوله - تعالى - { مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وقوله - تعالى - { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً } إنصاف منه - سبحانه - للفريق الذى لم يرتكب هذا الفعل الشنيع وهو تحريف كلامه - عز وجل - وتلك عادة القرآن فى أحكامه لا يظلم أحداً ولكنه يمدح من يستحق المدح ويذم من يستحق الذم .وقوله { يَلْوُونَ } صفة لقوله { فَرِيقاً } .والباء في قوله { بالكتاب } بمعنى " فى " مع حذف المضاف . أى وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم في حال قراءتهم للكتاب ، إما بحذف حروف يتغير لامعنى بحذفها ، أو بزيادة تفسد المعنى ، أو بغير ذلك من وجوه التغيير والتبديل .وقوله - تعالى - { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } بيان للدوافع السيئة التى دفعتهم إلى ارتكاب هذا التحريف الذميم .والضمير المنصوب فى قوله { لِتَحْسَبُوهُ } وكذلك ضمير الغائب { هُوَ } : يعودان إلى الكلام المحرف الذى لووا به ألسنتهم والمدلول عليه بقوله { يَلْوُونَ } .أى أن من هؤلاء اليهود فريقاً يلوون ألسنتهم فى نطقهم بالكتاب ويحرفونه عن وجهه الصحيح ، لتظنوا أيها المسلمون أن هذا المحرف الذى لووا به ألسنتهم من كتاب الله الذى أنزله على أنبيائه ، والحق بأن هذا المحرف ليس من كتاب الله فى شىء ، وإنما هو من عند أنفسهم نطقوا به زورا بهتاناً إرضاء لأهوائهم . وقوله { مِنَ الْكِتَابِ } هو المفعول الثانى لقوله مِنَ الْكِتَابِ { لِتَحْسَبُوهُ } .والمخاطب بقوله { لِتَحْسَبُوهُ } هم المسلمون وقال { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } بتكرار لفظ الكتاب ، ولم يقل وما هو منه ، للتنبيه على أن كتاب الله المنزل على موسى وعيسى - عليهما السلام - برىء كل البراءة من تحريفهم وتبديلهم ، ومما يزعمونه ويفترونه عليه . ثم بين - سبحانه - أنهم قد بلغت بهم الجرأة في الكذب والافتراء أنهم نسبوا هذا الذى حرفوه وغيره من كتبهم إلى الله - تعالى - فقال : { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .أى أن هؤلاء الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب؛ ليوهموا غيرهم بأن هذا المحرف من الكتاب ، لا يكتفون بهذا التحريف ، بل يقولون { هُوَ مِنْ عِندِ الله } أى هذا المحرف هو نزل من عند الله هكذا ، لم ننقص منه حرفا ولم نزد عليه حرفا ، والحق أن هذا المحرف ليس من عند الله ولكنهم قوم ضالون يقولون على الله الكذب وهم يعلمون أنهم كاذبون .ففى هذه الجملة الكريمة بيان لإصرارهم على الباطل ، ولتعمدهم الكذب على الله ، وتوبيخ لهم على هذا الافتراء العجيب . وقد أكد الله جرأتهم فى النطق بالزور والبهتان بمؤكدات منها :أن كذبهم لم يكن تعريضا وإنما كان فى غاية الصراحة ، فهم يقولون عن المحرف { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله } .وأن كذبهم لم يكن على البشر فحسب وإنما على الله الذى خلقهم والذى يعلم ما يسرون وما يعلنون { وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب } .وأن كذبهم لم يكن عن جهل أو عن نسيان وإنما عن علم وإصرار على هذا الكذب ، وهذا ما يشهد به قوله - تعالى - { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .وهكذا القلوب إذا فسدت ، واستولى عليها السحد والجحود ، ارتكبت كل رذيلة ومنكر بدون تفكر في العواقب ، أو تدبر لما جاءت به الشرائع ، وأمرت به العقول السليمة .وفى هذه الآية ترى أن لفظ الجلالة { الله } قد تكرر ثلاث مرات ، كذلك لفظ { الْكِتَابِ } تكرر ثلاث مرات ، ولم يكتف بالضمير الذى يدل عليهما ، وذلك لقصد الاهتمام باسم الله - تعالى - وباسم كتابه ، والخبر المتعلق بهما ، ولأن من عادة العرب أنهم إذا عظموا شيئا أعادوا ذكره ، وقد جاء ذلك كثيرا فى أشعارهم ، ومنه قول الشاعر :لا أرى الموت يسبق الموت شىء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرافقصد الشاعر من تكرار لفظ الموت تفخيم شأنه وتهويل أمره .وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد توعد الذين يشترون بعهد الله وبأيمانهم ثمنا قليلا بأشد ألوان الوعيد ، وكشف عن لون آخر من ألوان مكر بعض اليهود ، وعن جرأتهم فى النطق بالكذب عن تعمد وإصرار ، حتى يحذرهم المسلمون .ثم نزه الله - تعالى - أنبياءه - عليهم الصلاة والسلام - وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم عن أن يطلبوا من الناس أن يعبدوهم ، عقب تنزيهه - لذاته عما تقوله المفترون فقال - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ . . . . } .
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ
📘 قال ابن كثير : " عن ابن عباس قال : " قال أبو رافع القرظى حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل نصرانى من أهل نجران يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟ - أو كما قال - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله ، ما بذلك أمرنى ولا بذلك بعثنى " - أو كما قال صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله فى ذلك قوله - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } إلى قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } .فقوله - تعالى - { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } رد على أولئك الجاهلين الذين زعموا أن بعض النبيين يصح له أن يطلب من الناس أن يعبدوه من دون الله والمعنى : لا يصح ولا ينبغى ولا يستقيم عقلا لبشر آتاه الله - تعالى - وأعطاه { الكتاب } الناطق بالحق ، الآمر بالتوحيد ، الناهى عن الإشراك ، وآتاه { الحكم } أى العلم النافع والعمل به . وآتاه { النبوة } أى الرسالة التى يبلغها عنه - سبحانه - إلى الناس ، ليدعوهم إلى عبادته وحده ، وإلى مكارم الأخلاق ، لا يصحل له ولا ينبغى بعد كل هذه النعم أن يكفرها { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } بعد هذا العطاء العظيم الذى وهبه الله له { كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } أى : لا ينبغى ولا يعقل من بشر آتاه الله كل هذه النعم أن يقول للناس هذا القول الشنيع وهو { كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } لأن الأنبياء الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة يحجزهم خوفهم من الله ، وإخلاصهم له ، عن أن يقولوا هذا القول المنكر ، كما يحجزهم عنه - أيضا - ما امتازوا به من نفوس طاهرة ، وقلوب نقية ، وعقول سليمة . . . لأنهم لو فرض أنهم قالوا ذلك لأخذهم الله - تعالى - أخذ عزيز مقتدر فهو - سبحانه - القائل : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } والتعبير بقوله - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } تعبير قرآنى بليغ ، إذ يفيد نفى الشأن وعدم اتفاق هذا المعنى مع الحقيقة المفروضة في الرسل الكرام - عليهم الصلاة والسلام - وشبيه بهذا التعبير قوله - تعالى - : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } و{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } وجاء العطف بثم فى قوله { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } للإشعار بالتفاوت العظيم بين ما أعطاه الله - تعالى - لأنبيائه من نعم ، وبين هذا القول المنكر الذى نفاه - سبحانه - عنهم ، وهو أن يقولوا للناس : اجعلوا عبادتكم لنا ولا تجعلوها لله - تعالى - .ثم بين - سبحانه - ما يصح للأنبياء أن يقولوه للناس فقال - تعالى - { ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } .وقوله { رَبَّانِيِّينَ } جمع ربانى نسبة إلى الرب - عز وجل - بزيادة الألف والنون سماعا للمبالغة كما يقال فى غليظ الرقبة رقبانى وللعظيم اللحية : لحيانى .والمراد بالربانى : الإنسان الذى أخلص لله - تعالى - فى عبادته ، وراقبه فى كل أقواله وأفعاله ، واتقاه حق التقوى ، وجمع بين العلم النافع والعمل به ، وقضى حياته فى تعليم الناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم .والمعنى : لا يصح لبشر آتاه الله ما آتاه من النعم أن يقول للناس اعبدونى من دون الله ، ولكن الذى يعقل أن يصدر منه هو أن يقول لهم : كونوا { رَبَّانِيِّينَ } أى منقلبين على طاعة الله - تعالى - وعبادته وحده بجد ونشاط وإخلاص ، بسبب كونكم تعلمون غيركم الكتاب الذى أنزله الله لهداية الناس وبسبب كونكم دارسين له ، أى قارئين له بتمهل وتدبر .وقوله - تعالى - { ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ } استدراك قصد به إثبات ما ينبغى للرسل أن يقولوه . بعد أن نفى عنهم ما لا ينبغى لهم أن ينطقوا به ، أى : لا ينبغى لبشر آتاه الله نعماً لا تحصى أن يقول للناس كونوا عباداً لى من دون الله ، ولكن الذى ينبغى له أن يقوله لهم هو قوله : كونوا ربانيين أى مخلصين له - سبحانه - العبادة إخلاصا تاما .ففى الجملة الكريمة إضمار ، والتقدير : " ولكن يقول لهم كونوا ربانيين " فأضمر القول على حسب مذهب العرب فى جواز الإضمار إذا كان فى الكلام ما يدل عليه ، ونظيره قوله - تعالى - { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ } أى فيقال لهم : أكفرتم ، والباء فى قوله { بِمَا كُنْتُمْ } للسببية . وما مصدرية أى بسبب كونكم معلمين الكتاب وبسبب كونكم دارسين له .وقرأ أبو عمروا وابن كثير ونافع " تعلمون " بإسكان العين وفتح اللام - من العلم أى بسبب كونكم عالمين بالكتاب ودارسين له .قال الرازى : دلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا ، فمن اشتغل بذلك لا لهذا المقصد ضاع سعيه وخاب عمله ، وكان مثله كمثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع " .
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
📘 وبعد أن بين - سبحانه - موقف الناس من محكم القرآن ومتاشبهه ، شرع في بيان ما يتضرع به المؤمنون الصادقون الذين يؤمنون بكل ما أنزله الله - تعالى - فقال : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا . . . } .اشتملت هاتان الآيتان على دعوات طيبات . ويرى بعض العلماء أن هذه الدعوات من مقول الراسخين في العلم ، فهم يقولون : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } ويقولون أيضا { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } ويرى بعضهم أن هذا الكلام جديد ، وهو تعليم من الله - تعالى - لعباده ليكثروا من التضرع إليه بهذه الدعوات وأمثالها .والزيغ - كما أشرنا في الآية السابقة - الميل عن الاستقامة ، والانحراف عن الحق ، يقال : زاغ يزيغ أي مال ومنه زاغت الشمس إذا مالت .والمعنى : نسألك يا ربنا ونضرع إليك ألا تميل قلوبنا عن الهدى بعد إذ ثبتنا عليه ومكنتنا منه . وأن تباعد بيننا وبين الزيغ الذي لا يرضيك . وبين الضلال الذي يفسد القلوب ، ويعمى البصائر . { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً } أي وامنحنا من عندك ومن جهتك إنعاما وإحسانا تشرح بهما صدورنا . وتصلح بهما أحوالنا { إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب } لا غيرك ، فأنت مالك الملك وأنت القائل { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد تضمنت سؤال المؤمنين ربهم تثبيت الإيمان في قلوبهم ومنحهم المزيد من فضله وإنعامه وإحسانه .قال الفخر الرازي - ما ملخصه - : وقال - سبحانه - { رَحْمَةً } ليكون ذلك شاملا لجميع أنواعها التي تتناول حصول نور الإيمان والتوحيد والمعرفة في القلب ، وحصول الطاعة في الأعضاء والجوارح ، وحصول سهولة المعيشة والأمن والصحة والكفاية في الدينا وحصول سهولة سكرات الموت عند حضوره ، وحصول سهولة السؤال في القبر ، وغفران السيئات والفوز بالجنات في الآخرة . وقوله { لَّدُنْكَ } يتناول كل هذه الأقسام . لأنه لما ثبت بالبراهين الباهرة أنه لا رحيم إلا هو أكد ذلك بقوله " من لدنك " تنبيها للعقل والقلب والروح على أن هذا المقصود لا يحصل إلا منه - سبحانه - ثم قال : { إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب } كأن العبد يقول : إليه هذا الذى طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلى ، حقير بالنسبة إلى كمال كرمك ، فأنت الوهاب الذى من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها ، فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك فلا تخيب رجاء هذا المسكين ، ولا ترد دعاءه واجعله أهلا لرحمتك " .هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير وغيره بعض الأحاديث النبوية عند تفسيرهم لهذه الآية ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن مردويه عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال " لا إله إلى أنت سبحانك أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك . اللهم زدني علما ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لى من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " .وروى الترمذي عن شهر بن حوشب قال : " قلت لأم سلمة : يا أم المؤمنين ، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت : كان أكثر دعائه " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " فقلت : يا رسول الله ، ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال : " يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ " فتلا معاذ - أحد رجال سند هذا الحديث - { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } .وعن أنس - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، قلنا : يا رسول الله قد آمنا بك ، وصدقنا بما جئت به ، أفيخاف علينا؟ قال : نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها تبارك -وتعالى- " .
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ۗ أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
📘 وقوله - تعالى - { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً } تأكيد لنفى أن يقول أحد من البشر الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة للناس اعبدونى من دون الله ، وتنزيه لساحتهم عن أن يأمروهم بعبادة غير الله .وقوله { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } وردت فيه قراءتان مشهورتان .أما القراءة الأولى فبفتح الراء عطفا على { يَقُولَ } فى قوله { ثُمَّ يَقُولَ } وتكون " لا " مزيدة لتأكيد معنى النفى فى قوله { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } ويكون فى الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب .والمعنى على هذه القراءة : ما كان لبشر أن يؤتية الله ما ذكر ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ، أو يأمرهم باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، وذلك كقولك ما كان لزيد أن أكره ثم يهيننى ويستخف بى . وبهذه القراءة قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم .وعلى هذه القراءة يكون توسيط الاستدراك بين المعطوف والمعطوف عليه ، للمسارعة إلى تحقيق الحق ، ولبيان ما يليق بشأنه ويحق صدوره عنه .وأما القراءة الثانية فقد قرأها الباقون برفع الراء فى { يَأْمُرَكُمْ } فتكون الجملة مستأنفة ، والمعنى : ولا يأمركم هذا البشر الذى أعطاه الله ما أعطاه من نعمة أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا .وخصص الملائكة والنبيين بالذكر لأن عبادتهما قد شاعت عند كثير من الناس ، فقد وقع فى عبادة الملائكة " الصابئة " الذين كانوا يقيمون فى بلاد الكلدان ، وتبعهم بعض المشركين من العرب . ووقع فى عبادة بعض النبيين كثير من النصارى فقد اتخذوا المسيح إلها يعبد وزعموه ابن الله وكثير من اليهود عبدوا عزيزاً وزعموه ابن الله .والاستفهام فى قوله { أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } للإنكار الذى بمعنى النفى .أى : أن الرسل الكرام لا يمكن أن يأمروا الناس بالكفر بالله بعد أن هداهم الله - تعالى - عن طريق هؤلاء الرسل إلى أن يكونوا مسلمين .فالجملة الكريمة تأكيد بأبلغ وجه لنفى أن يأمر الرسل الناس بعبادة غير الله ، وتنزيه لساحتهم عن أن يقولوا قولا أو يأمروا بأمر يخالف ما تلقوه عن له - تعالى - من إفراده بالعبادة والطاعة والخضوع .قال بعضهم : وإذا كان ما ذكر في الآيتين لا يصلح لنبى ولا لمرسل ، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ، ولهذا قال الحسن البصرى : لا ينبغى هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته . ثم قال : وذلك أن القوم - يعنى أهل الكتاب - كان يعبد بعضهم بعضا كما قال - تعالى - { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } .فالجهلة من الأحبار والرهبان يدخلون فى هذا الذم ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين ، فإنهم إنما يأمرون بما أمر الله به ، وينهون عما نهى الله - تعالى - عنه ولذلك سعدوا وفازوا " .وبعد أن نزه - سبحانه - الأنبياء عن أن يقولوا قولا أو يأمروا بأمر لم يأذن به الله ، أتبع ذلك ببيان الميثاق الذى أخذه الله - تعالى - عليهم ، فقال - سبحانه - : { وَإِذْ أَخَذَ . . . . } .
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ
📘 قوله - تعالى - { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } الظرف " إذ " منصوب بفعل مقدر تقديره اذكر ، والخطاب فيه للنبى صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب .والميثاق : هو العقد المؤكد بيمين .اى : اذكر يا محمد أو أيها المخاطب وقت أن أخذ الله الميثاق من النبيين .وللمفسرين فى تفسير هذه الآية الكريمة أقوال أشهرها قولان :أولهما : وهو رأى جمهور العلماء - أن المراد أن الله - تعالى - أخذ الميثاق من النبيين .وثانيهما : وهو رأى بعض العلماء - أن المراد أن الأنبياء هم الذين أخذوا الميثاق من غيرهم .والمعنى على رأى فريق من أصحاب القول الول - منهم الحسن والسدى وسعيد بن جبير - :أن الله - تعالى - أخذ الميثاق من النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً ، وأخذ العهد على كل نبى ان يؤمن بمن يأتى بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه؛ فغن لم يدركه يأمر قومه بنصرته إن أدركوه . فأخذ - سبحانه - الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى ، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد - صلوات الله وسلامه عليهم جميعا - وإذا كان حكم الأنبياء ، كانت الأمم بذلك أولى وأحرى .والمعنى على رأى فريق من أصحاب هذا القول منهم على وابن عباس وقتادة : أن الله - تعالى - أخذ الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا أدركوه ، وأن يأمروا أقوامهم بالإيمان به .قالوا : يؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير عن على بن أبى طالب قال : لم يبعث الله بنياً : آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه ، ويأمره فيأخذ العهد على قومه . ثم تلا الآية " .فكأن اصحاب هذا القول الأول متفقون فيما بينهم عن أن الميثاق إنما أخذه الله من النبيين إلا أن بعضهم يرى أن هذا الميثاق أخذه الله منهم لكى يصدق بعضهم بعضا والبعض الآخر يرى أن هذا الميثاق أخذه الله منهم فى شأن محمد صلى الله عليه وسلم خاصة .قال ابن كثير ما ملخصه . وما قاله الحسن ومن معه لا يضاد ما قاله على وابن عباس ولا ينفيه ، بل يستلزمه ويقتضيه . . . . وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن ثابت قال : " جاء عمر إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : إنى مررت بأخ لى من بنى قريظة ، فكتب لى جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغير وجه النبى صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن ثابت : فقلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا . قال : فسرى عن النبى صلى الله عليه وسلم وقال : " والذى نفسى بيده لو أصبح فيكم موسى - عليه السلام - ثم اتبعتموه وتركتمونى لضللتم ، إنكم حظى من الأمم وأنا حظكم من النبيين " " .وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسألوا أهل الكتاب عن شىء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا . وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق ، وإنه والله لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعنى " وفى بعض الأحاديث : " لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعى " .فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم " هو الإمام الاعظم الذى لو وجد فى أى عصر وجد - كان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم " .هذا هو معنى الجملة الكريمة عند أصحاب الرأى الأول الذين يرون أن الله - تعالى - أخذ الميثاق من النبيين . وأصحاب هذا الرأى كما سبق أن بيناهم جمهور العلماء .أما أصحاب الرأى الثانى الذين يرون أن المراد من الآية أن الأنبياء هم الذين أخذوا الميثاق من غيرهم ، فالمعنى عليه .واذكر يا محمد أو ايها المخاطب وقت أن أخذ الأنبياء العهد على أقوامهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأدركوه فعليهم أن يؤمنوا به ويصدقوه وينصروه فكأن معنى الآية : واذكر وقت أن أخذ الله الميثاق الذى وثق الأنبياء على أقوامهم .هذا ، وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذين الرأيين وغيرهما فقال :" ميثاق النبيين " فيه غير وجه :أحدهما : أن يكون على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين بذلك .والثانى : أن يضيف الميثاق إلى النبيين إلى الموثق لا إلى الموثق عليه ، كما تقول : ميثاق الله وعهد الله كأنه قيل : وإذ أخذ الله الميثاق الذى وثقه النبيون على أممهم .والثالث : أن يراد ميثاق أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف .والرابع : أن يراد أهل الكتاب وأن يرد زعمهم تهكما بهم؛ لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب ، ومنا كان النبيون " .والذى تسكن إليه النفس فى معنى الآية . هو الرأى الأول الذى قال به جمهور العلماء ، وذلك لأن الآيات الكريمة مسوقة - كما يقول الفخر الرازى لتعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب ، مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قطعاً لعذرهم ، وإظهاراص لعنادهم ، ومن جملة هذه الأشياء ما ذكره - سبحانه - فى هذه الآية . وهو أنه - تعالى - أخذ الميثاق من الأنبياء بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه ، وأخبر أنهم قبلوا ذلك ، وحكم - سبحانه - بأنه من رجع عن ذلك كان من الفاسقين .. فحاصل الكلام أنه - تعالى - أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكل رسول جاء مصدقا لما معهم ، ولا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد جاء مصدقا لما معهم فوجب على الجميع أن يؤمنوا به " .ولأن هذا المعنى هو الظاهر من الآية الكريمة . ولا تحتاج إلى تقدير مضاف أو غيره ، والأخذ بالمعنى الظاهر الذى لا يحتاج إلى تقدير أولى من الأخذ بغيره .ولأن أخذ العهد على الأنبياء بأن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أعلى وأشرف لقدره صلى الله عليه وسلم من أخذه على أممهم وأقوامهم .ولأن أخذ العهد على الأنبياء أخذ له على الأمم ، إذ كل أمة يجب أن تصدق بما جاءها به نبيها .واللام فى قوله - تعالى - { لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } قرأها الجمهور بالفتح . وقرأها حمزة بالكسر .أما قراءة الفتح فلها وجهان :أولهما : أن تجعل " ما " اسم موصول مبتدأ ، وما بعده صلة له ، وخبر قوله { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } .والتقدير : واذكر وقت أن أخذ الله ميثاق النبيين قائلا لهم : الذى آتيتكم إياه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما أوتيتموه لتؤمنن بهذا الرسول ولتنصرنه . وعلى هذا الوجه تكون اللام فى قوله " لما " للابتداء وحسن دخولها هنا لأن قوله { لَمَآ آتَيْتُكُم } فى مقام المقسم عليه ، وقوله { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } فى مقام القسم ، إذ هو بمنزلة الاستحلاف تقول : أخذت ميثاقك لتفعلن كذا فكأنك قلت : استحلفتك لتفعلن كذا . .وثانيهما : أن تجعل " ما " ههنا ، اسم شرط جازم في موضع نصب بآتيتكم .والتقدير : ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ، لتؤمنن به ولتنصرنه .وعلى هذا الوجه يكون فعل الشرط مكونا من جملتين :الأولى : { آتَيْتُكُم } .والثانية : { ثُمَّ جَآءَكُمْ } وهما معا فى محل جزم بما الشرطية . وقوله { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } جواب القسم الذى تضمنه قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } وجواب الشرط محذوف ، لأن القاعدة النحوية أنه إذا اجتمع شرط . وقسم فالجواب المذكور للسابق منهما وجواب اللاحق محذوف وهنا السابق هو القسم . قال ابن مالك :واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزموأما على قراءة الكسر التى قرأها حمزة فتكون اللام للتعليل كأنه قيل : اذكر وقت أن أخذ الله ميثاق النبيين ، لأن إيتاءهم الكتاب والحكمة ، ثم مجىء من يصدقهم يوجب عليهم الإيمان بهذا الرسول المصدق لما معهم ويوجب عليهم نصرته .والمراد بالكتاب : ما أنزله الله - تعالى - على هؤلاء النبيين من كتب تنطق بالحق .والمراد بالحكمة : الوحى الوارد بالتكاليف المفصلة التى لم يشتمل عليها الكتاب .أو المراد بها العلم النافع الذى أعطاه - سبحانه - لهم ، ووفقهم للعمل به .و { مِّن } فى قوله { مِّن كِتَابٍ } للبيان .قال القرطبى : والمراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلى معين ، كقوله - تعالى - { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } إلى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ } فأخذ الله ميثاق النبيين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصروه إن أدركوه ، وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم " .ثم حكى - سبحانه - ما قاله لهم بعد أن أمرهم بالإيمان بهذا الرسول وبنصرته فقال : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي } ؟ .والإصر : العهد . وأصله من الإصار - أى الحبال التى يعقد بها الشىء ويشد - وسمى العهد إصرا لأنه تقوى به الأقوال والعقود .أى - قال الله - تعالى - لنبيين : أأقررتم بهذا الذى أمرتكم به وقبلتم عهدى؟ والاستفهام للتقرير والتوكيد عليهم لاستحالة معناه الحقيقي فى حقه - سبحانه - .ثم حكى - سبحانه - ما أجاب به الرسل وما ورد به عليهم فقال : { قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } .أى : قال الرسل مجيبين لخالقهم - عز وجل - أقررنا يا ربنا وقبلنا عهدك وأطعناه .فرد عليهم - سبحانه - بقوله : { فاشهدوا } أى فليشهد بعضكم على بعض بهذا الإقرار ، وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم على بعض من الشاهدين .وهذا توكيد عليهم ، وتحذير من الرجوع .
فَمَنْ تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - عاقبة الناكثين لعودهم فقال : { فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون }أى فمن أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وعن نصرته ، بعد أخذ الميثاق المؤكد عليه ، فأولئك المعرضون " هم الفاسقون " أى الخارجون عن الإيمان إلى أفحش دركات الكفر والخيانة .والفاء فى قوله { فَمَنْ تولى } للتفريع ، و { مَنْ } يجوز أن تكون شرطية ويكون قوله { فأولئك هُمُ الفاسقون } جوابها .ويجوز أن تكون موصولة ، ويكون قوله { فأولئك هُمُ الفاسقون } هو الخبر .والضمير في قوله { تولى } يعود على " من " بالإفراد باعتبار لفظها ، ويعود عليها بصيغة الجمع فى قوله " فأولئك " باعتبار معناها .وبعد أن بين - سبحانه - أن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم حق لا ريب فيه ، وأنه واجب على جميع من مضى من الأنبياء والأمم ، عقب ذلك ببيان أن كل من كره الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يكون بعيدا عن الدين الحق ، مستحقا للعقاب الأليم فقال - تعالى -
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
📘 { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } .والاستفهام للإنكار والتوبيخ ، وهمزة الاستفهام داخلة على فعل محذوف ، والفاء الداخلة على " غير " عاطفة لجملة { يَبْغُونَ } على ذلك المحذوف الذى دل عليه الاستفهام وعينه المقام .والمعنى : أيتولون عن الإيمان بعد هذا البيان فيبغون دينا غير دين الله الذى هو الإسلام .ومعنى { يَبْغُونَ } يطلبون . يقال بغى الأمر يبغيه بغاء - بضم الباء - أى طلبه . وقوله - تعالى - { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } جملة حالية . أى أيبغون دينا غير دين الله والحال أن الله - تعالى - استسلم وانقاد وخضع له من فى السموات والأرض طوعا وكرها . أى طائعين وكارهين فهما مصدران فى موضع الحال .والمراد أن كل من فى السموات والأرض قد انقادوا وخضعوا لله - تعالى - إما عن طواعية واختيار وهم المؤمنون لأنهم راضون فى كل الأحوال بقضائه وقدره ، ومستجيبون له فى المنشط والمكره والعسر واليسر . وإما عن تسخير وقهر وهم الكافرون لأنهم واقعون تحت سلطانه العظيم وقدرته النافذة ، فهم مع كفرهم لا يستطيعون دفع قضائه - سبحانه - وإذن فهم خاضعون لسلطانه - عز وجل - لأنهم لا سبيل لهم ولا لغيرهم إلى الامتناع عن دفع ما يريده بهم .هذا ، وقد ساق الفخر الرازى جملة آراء فى معنى الآية الكريمة ثم اختار أحدها فقال ما ملخصه : فى خضوع من فى السموات والأرض لله وجوه : أصحها عندى أن كل ما سوى الله - سبحانه - ممكن لذاته ، ولك ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ، ولا يعدم إلا بإعدامه ، فإن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله فى طرفى وجوده وعدمه . وهذا هو نهاية الخضوع والانقياد . ثم إن فى هذا الوجه لطيفة آخرى : وهى أن قوله { وَلَهُ أَسْلَمَ } يفيد الحصر ، أى وله كل ما فى السموات والأرض لا لغيره .فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد ، وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ، ولا يفنى إلا بإفنائه والآيات فى هذا المعنى كثيرة .وقوله { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } أى إليه وحده يرجع الخلق فيجازى كل مخلوق بما يستحقه من خير أو شر .ففى الجملة الكريمة تحذير من الإعراض عن دينه ، لأنه ما دام مرجع الخلق جميعا إليه - سبحانه - فعلى العاقل أن يسلم نفسه إلى خالقه اختياراً قبل أن يسلمها اضطرارا ، وأن يستجيب لأوامره ونواهيه ، حتى ينال رضاه .وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد أقامت للناس الأدلة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم وأمرتهم بالدخول فى دينه ، وحذرتهم من الإعراض عنه بأجلى بيان وأقوى برهان .وبعد هذا البيان الواضح والبرهان الساطع على صدق النبى صلى الله عليه وسلم أمر الله - تعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يعلن على الدنيا كلمة الحق التى يؤمن بها ، وأن يخبر كل من يتأتى له الخطاب بأن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام وأن كل دين سواه فهو باطل . لأن رسالته صلى الله عليه وسلم هى خاتمة الرسالات؛ ودين الإسلام الذى أتى به ناسخ لكل دين سواه . استمع إلى القرآن وهو يبين ذلك فيقول : ( قُلْ آمَنَّا . . . } .
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
📘 قوله { والأسباط } جمع سبط وهو الحفيد ، والراد بهم أولاد يعقوب - عليه السلام - وكانوا اثنى عشر ولدا قال - تعاىل - : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } وسموا بذلك لكونهم حفدة إبراهيم وإسحاق - عليهم السلام - .والمعنى : { قُلْ } يا محمد لأهل الكتاب الذين جادلوك بالباطل كوجحدوا الحق مع علمهم به ، قل لهم ولغيرهم { آمَنَّا بالله } أى آمنت أنا وأتباعى بوجود الله ووحدانيته ، واستجبنا له فى كل ما أمرنا به ، أو نهانا عنه .وآمنا كذلك بما { أُنزِلَ عَلَيْنَا } من قرآن يهدى إلى الرشد ، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم .وآمنا أيضاً بما أنزله الله - تعالى - من وحى وصحف على { ا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط } .وآمنا - أيضاً - بما آتاه الله لموسى وعيسى من التوراة والإنجيل وغيرهما من المعجزات ، وبما آتاه لسائر أنبيائه من وحى وآيات تدل على صدقهم .{ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } أى لا نفرق بين جماعة الرسل فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتاب ، إذ فرقوا بين أنبياء الله وميزوا بينهم وقالوا - كما حكى القرآن عنهم - { نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } وهم فى الحقيقة كافورن بهم جميعاً ، لأن الكفر بواحد من الأنبياء يؤدى إلى الكفر بهم جميعاً ، ولذا فنحن معاشر المسلمين نؤمن بجميع الأنبياء بلا تفرقة أو استثناء .{ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أى خاضعون له وحده بالطاعة والعبودية . مستجيبون له فى كل ما أمرنا به وما نهانا عنه .فالآية الكريمة تأمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وعمن معه بأنهم آمنوا بالله وبكتبه وبرسله جميعا بدون تفرقة بينهم ، لأنها شرائع الله - تعالى - التى أنزلها على أنبيائه ، كلها مرتبط بعضها ببعض ، وكلها تتفق على كلمة واحدة هى إفراد الله - تعالى - بالعبودية والطاعة .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم عدى أنزل فى هذه الآية بحرف الاستعلاء { أُنزِلَ عَلَيْنَا } ، وفيما تقدم من مثلها - فى سورة البقرة - بحرف الانتهاء؟ { أُنْزِلَ إِلَيْنَا } قلت : لوجود المعنيين جميعا ، لأن الوحى ينزل من فوق وينتهى إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر .ومن قال إنما قيل هنا { عَلَيْنَا } لقوله ( إِلَيْنَا ) وقيل هناك ( قولوا ) تفرقة بين الرسل والمؤمنين ، لأن الرسول يأتيه الوحى على طريق الاستعلاء ، ويأتيهم على وجه الانتهاء ، من قال ذلك تعسف . ألا ترى إلى قوله ( أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) وإلى قوله { آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ } وخص هؤلاء الأنبياء الذين ذكرتهم الآية بالذكر ، لأن أهل الكتاب يزعمون أنهم يؤمنون بهم ويتبعونهم ، فاراد القرآن أن يبين لهم أن زعمهم باطل ، لأنهم لن يكونوا مؤمنين بهم إلا إذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .وقوله - تعالى - { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } بيان لثمرة الإيمان الحق الذى رسخ فى قلوب المؤمنين وعلى رأسهم هاديهم ومرشدهم محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن هذا الإيمان الحق جعلهم يصدقون بأن رسل الله جميعا قد أرسلهم - سبحانه - بالدعوة إلى توحيده وإخلاص العبادة له ، وإذا وجد تفاضل أو اختلاف فهذا التفاضل والاختلاف يكون فى أمور أخرى سوى الإيمان بالله وإفراده بالعبودية ، سوى ما اتفقت عليه الشرائع جميعها من الدعوة إلى الحق وإلى مكارم الأخلاق . وقد جاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة للرسالات ، وجامعة لكل ما فيها من محاسن فوجب الإيمان بها ، وإلا كان الكفر بها كفراً بجميع الرسالات السابقة عليها .وقوله { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } يفيد الحصر ، نحن له وحده أسلمنا وجوهنا ، وأخلصنا عبادتنا . لا لغيره كائنا من كان هذا الغير .وهذا يدل على أنهم بلغوا أعلى مراتب الإخلاص والطاعة لله رب العالمين .
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - أن كل من يطلب دينا سوى دين الإسلام فهو خاسر فقال - تعالى - : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } .أى : ومن يطلب دينا سوى دين الإسلام الذى أتى به - عليه الصلاة والسلام - فلن يقبل منه هذا الدين المخالف لدين الإسلام ، لأن دين الإسلام الذى جاء به محمد ، هو الدين الذى ارتضاه الله لعباده قال - تعالى - { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } ولأنه هو الدين الذى ختم الله به الديانات ، وجمع فيه محاسنها .أما عاقبة هذا الطالب لدين سوى دين الإسلام فقد بينها - سبحانه - بقوله : { وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } .أى وهو فى الآخرة من الذين خسروا أنفسهم بحرمانهم من ثواب الله ، واستحقاقهم لعقابه جزاء ما قدمت أيديهم من كفر وضلال .وفى الحديث الشريف " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " أى مردود عليه ، وغير مقبول منه .وفى الإخبار بالخسران عن الذى يبتغى أى يطلب دينا سوى الإسلام ، إشعار بأن من يتبع دينا سوى دين الإسلام يكون أشد خسرانا ، وأسوأ حالا ، لأن الطلب أقل شرا من الاتباع الفعلى .وبعد أن عظم - سبحانه - شأن الإسلام ، وبين أنه هو الدين المقبول عنده ، أتبع ذلك ببيان أن سنته جرت فى خلقه بأن يزيد الذين اهتدوا هدى ، أما الجاحدون للحق عن علم ، والمتبعون لأهوائهم وشهواتهم فهم بعيدون عن هداية الله ، ولن يقبلهم - سبحانه - إلا إذا تابوا عن ضلالهم ، وأصلحوا ما فسد منهم ، استمع إلى القرآن وهو يصور هذا المعنى بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول : { كَيْفَ يَهْدِي . . . } .
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
📘 روى المفسرون روايات فى سبب نزول هذه الآيات الكريمة منها ما أخرجه النسائي عن ابن عباس قال . إن رجلا من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم؛ فأرسل إلى قومه : سلوا لى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لى من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا . هل له من توبة؟ فنزلت هذه الآيات ، فأرسل إليه قومه فأسلم .وعن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبى صلى الله عليه وسلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله هذه الآيات . قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه . فقال الحارث : إنك والله - ما علمت - لصدوق ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك ، وإن الله - عز وجل - لأصدق الثلاثة ، قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه وعن الحسن البصرى أنه قال : إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رأوا نعت النبى صلى الله عليه وسلم فى كتابهم وأقروا به ، وشهدوا أنه حق ، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسداً للعرب حين بعث من غيرهم .هذه بعض الروايات التى وردت فى سبب نزول هذه الآيات ، ويبدو لنا أن أقربها إلى سياق الآيات هى الرواية التى جاءت عن الحسن البصرى بأن المقصود بالآيات أهل الكتاب ، وذلك لأن الحديث معهم من أول السورة ولأن القرآن قد ذكر فى غير موضع أن أهل الكتاب كانوا يعرفون صدق النبى صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، وأنهم كانوا يستفتحون به { عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } ومع هذا فليس هناك ما يمنع من أن يكون حكم هذه الآيات شاملا لكل من ذكرتهم الروايات ولكل من يشابههم ، إن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب .قال ابن جرير - بعد أن ساق هذه الروايات - ما ملخصه : وأشبه هذه الأقوال بظاهر التنزيل ما قاله الحسن : من أن هذه الآيات معنى بها أهل الكتاب على ما قال ، وجائز أن يكون الله - تعالى - أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا ارتدوا عن الإسلام ، فجمع قصتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم فى ارتداده عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فى هذه الآيات ، ثم عرف عباده سنته فيهم فيكون داخلا فى ذلك كل من كان مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ثم كفى به بعد أن بعث ، وكل من كان كافرا ثم أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم ثم ارتد وهو حى عن إسلامه ، فيكون معينا بالآيات جميع هذين الصنفين وغيهرما ممن كان بمثل معناهما ، بل ذلك كذلك إن شاء الله .والاستفهام فى قوله - تعالى - { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } للنفى ولاستبعاد هدايتهم إلى الصراط المستقيم وهم على هذا الحال من الارتكاس فى الكفر والضلال ، مع علمهم بالحق ، وإيمانهم به لفترة من الوقت .والمعنى : أن الله - تعالى - جرت سنته فى خلقه ألا يهدى إلى الصراط المستقيم ، قوما { كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } أى ارتدوا إلى الكفر بعد أن آمنوا ، وبعد أن { شهدوا أَنَّ الرسول } وهو محمد صلى الله عليه وسلم " حق " وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، وبعد أن { جَآءَهُمُ البينات } أى البراهين والحجج الناطقة بحقيقة ما يدعيه ، من قرآن كريم عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله ، ومن معجزات باهرة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم .فأنت ترى أن حالهم التى أوجبت هذا النفى والاستبعاد تتمثل فى أنهم كانوا مؤمنين ، وكانوا يشهدون بأن الرسول حق ، وجاءتهم البينات اليقينية الملزمة التى تؤيد إيمانهم وشهادتهم ، ومع كل ذلك استحبوا العمى على الهدى ، واختاروا الكفر على الإيمان ، واستولى عليهم التعصب بالباطل فأرداهم وحرمهم من هداية الله حتى يغيروا ما بأنفسهم ويتوبوا عن غيهم ، ويصلحوا ما أفسدوه ، ويخلصوا وينيبوا إلى خالقهم وبارئهم .قال صاحب الكشاف : " قوله { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً } أى كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف ، لما علم الله من تصميمهم على كفرهم ، ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم ، وبعد ما شهدوا بأن الرسول حق وبعد ما جاءته الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التى تثبت بمثلها النبوة - وهم اليهود - كفروا بالنبى صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به ، وذلك حين عاينوا ما يوجب قوة إيمانهم من البينات .فإن قلت : علام عطف قوله { وشهدوا } ؟ قلت : فيه وجهان : أن يعطف على ما فى إيمانهم من معنى الفعل ، لأن معناه بعد أن آمنوا . ويجوز أن تكون الواو للحال بإضمار " قد " . بمعنى كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق " .وقوله - تعالى - { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } جملة حالية أو معترضة .والمعنى : أنه - سبحانه - قد مضت سنته فى خلقه أنه لا يهدى إلى الحق أولئك الذين آثروا الكفر على الإيمان ، عن تعمد وإصرار ، ووضعوا الشىء فى غير موضعه مع علمهم بسوء صنيعهم .وفى تذييل الآية الكريمة بهذه الجملة مع إطلاق لفظ الظلم ، إشعار بأنهم قد ظلموا أنفسهم بإيقاعها فى مهاوى الردى والعذاب وظلموا الرسول الذى شهدوا له بأن ما جاء به هو الحق ثم كفروا به ، وظلموا الحقائق والبراهين التى نطقت بأحقية الإيمان وببطلان الكفر ثم تركوا هذه الحقائق والبراهين وانقادوا لأهوائهم وشهواتهم ومطامعهم .وإن الظلم متى سيطر على النفوس أفقدها رشدها وإدراكها للأمور إدراكا سليما ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة " .
أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - عاقبة هؤلاء الظالمين فقال : { أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } .قال الراغب : اللعن : الطرد والإبعاد على سبيل السخط ، وذلك من الله - تعالى - فى الآخرة عقوبة وفى الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه ، ومن الإنسان دعاء على غيره " .والمعنى : أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة { جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله } أى جزاؤهم أن عليهم غضب الله وسخطه بسبب استحبابهم الكفر على الإيمان { والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } أى وعليهم كذلك سخط الملائكة والناس أجمعين وغضبهم ، ودعاؤهم عليهم باللعنة والطرد من رحمة الله .وقوله { أولئك } مبتدأ . وقوله { جَزَآؤُهُمْ } مبتدأ ثان ، وقوله { أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله } إلخ . . خبر المبتدأ الثانى ، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول .والآية الكريمة قد بينت أن اللعنة على هؤلاء القوم ، صادرة من الله وهى أشد ألوان اللعن ، وصادرة من الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وصادرة من الناس أجمعين ، أى أن الفطر الإنسانية تلعنهم لنبذهم الحق بعد أن عرفوه وشهدوا به ، وقامت بين أيديهم الأدلة على أنه حق .قال الفخر الرازى ما ملخصه : فإن قيل : لم عم جميع الناس مع أن من وافقهم فى كفرهم لا يلعنهم؟ قلنا فيه وجوه : منها أنهم فى الآخرة يلعن بعضهم بعضا كما قال - تعالى - { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } فعلى هذا التقدير يكون اللعن قد حصل للكفار من الكفار . ومنها كأن الناس هم المؤمنون ، والكفار ليسوا من الناس ، ثم لما ذرك لعن الثلاث قال { أَجْمَعِينَ } . ومنها وهو الأصح عندى : أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ، ولكنه يعتقد فى نفسه أنه ليس بمبطل ولا كافر ، فإذا لعن الكافر وكان هو فى علم الله كافرا فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك " .
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ
📘 ثم أكد - سبحانه - تلك العقوبة بعقوبة أخرى لازمة لها ما داموا على تلك الحالة الشنيعة فقال - تعالى - { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب } بسبب إصرارهم على الكفر فى الدنيا ، وانعماسهم فيما يغضب الله { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أى ولا هم يمهلون ولا يؤخر عنهم العذاب بل عذابهم عاجل لا يقبل الإمهال أو التأخير بسبب ما ارتكبوه فى الدنيا من شرور وآثام .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
📘 ولكن القبرآن - مع هذا - يفتح باب التوبة لمن أراد أن يتوب ، وينهى الناس عن أن يقنطوا من رحمة الله متى تابوا وأنابوا وأصلحوا فيقول - بعد تلك الحملة المرعبة التي شنها على الكفر والكافرين : - { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .أى : أن اللعنة مستمرة على هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ، وهم خالدون فى العذاب يوم القيامة بدون إمهال أو تأخير ، إلا الذين تابوا منهم عن الكفر الذى ارتكبوه ، وعن الظلم الذى اقترفوه ، وأصلحوا ما أفسدوه بأن قالوا ربنا الله ثم استقاموا على طريق الحق ، وحافظوا على أداء الأعمال الصالحة " فإن الله - تعالى - غفور رحيم " أى فإنه سبحانه يغفر لهم ما سلف منهم من كفر وظلم .ففى هذه الآية الكريمة إغراء للكافرين بأن يقلعوا عن كفرهم وللمذنبين بأن يثوبوا إلى رشدهم وبأن يتوبوا إلى ربهم ، فإنه - سبحانه - يغفر الذنوب جميعا لمن يتوب ويحسن التوبة ، فهو القائل { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ } أما الذين لا يتوبون ولا يستغفرون ولا يثوبون إلى رشدهم . بل يصرون على الكفر فيزدادون كفراً . والذين يرتكسون فى كفرهم وضلالهم حتى تفلت منهم الفرصة ، وينتهى أمد الاختبار ، ويأتى دور الجزاء ، فهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة ، فقد قال - تعالى - بعد هذه الآيات : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . . } .
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
📘 ثم حكى - سبحانه - ضراعة أخرى تضرع بها المؤمنون إلى خالقهم فقال : { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } .أي : يا ربنا إنك جامع الناس : محسنهم ومسيئهم ، مؤمنهم وكافرهم . ليوم لا شك في وقوعه وحصوله وهو يوم الحساب والجزاء ، لتجازى الذين أساءوا بما عملوا وتجازى الذين أحسنوا بالحسنى . فأنت - سبحانك - لم تخلق الخلق عبثا ، ولن تتركهم سدى ، وإنما خلقتهم لرسالة عظمى هي عبادتك وطاعتك . فمن استجاب لك تفضلت عليه بالثواب العظيم ، ومن أعرض عن طاعتك عاقبته بما يستحقه .وقوله { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب في وقوع يوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب .أي إنك يا مولانا لا تخلف ما أخبرت به عبادك من أن هناك يوما لا شك في وقوعه ، تجازى فيه الناس على أعمالهم بمقتضى إرادتك ومشيئتك .وفي هذه الآية الكريمة إشعار بأن نهاية أمل المؤمنين أن يظفروا بالجزاء الحسن من خالقهم يوم القيامة ، لأنهم بعد أن سألوه تثبيت الإيمان وسعة الرحمة ، توجوا إليه بالمقصود الأعظم وهو حسن الثواب يوم القيامة . فكأنهم قالوا - كما يقول الرازي - : ليس الغرض من تلك الدعوات ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها فانية؛ وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفا ، وكلامك لا يكون كذبا فمن زاغ قلبه بقى هناك في العذاب أبد الآباد ، ومن أعطيته التوفيق والهداية والرحمة وجعلته من المؤمنين ، بقى هناك في السعادة والكرامة أبد الآبدين فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ما يتعلق بالآخرة " .وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملنا على دعوات كريمات بليغات ، من شأنها أن تسعد الناس في دينهم ودنياهم . والله نسأل أن ينفعنا بها إنه مجيب الدعاء ، وأرحم الراحمين .وبعد هذا الدعاء الجامع الحكيم الذي حكاه الله - تعالى - عن عباده المؤمنين عقب ذلك بالحديث عن الكافرين ، وعن أسباب كفرهم وغرورهم ، وعن سوء عاقبتهم فقال تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ . . . . } .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ
📘 قوله - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } .قال قتادة وعطاء : نزلت فى اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم . بموسى والتوراة . ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن .وقال أبو العالية والحسن : نزلت فى أهل الكتاب جميعا ، آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ثم كفروا به بعد مبعثه ، ثم ازدادوا كفرا بإصرارهم على ذلك ، وطعنهم فى نبوته فى كل وقت ، وعداوتهم له ، ونقضهم لعهودهم وصدهم الناس عن طريق الحق ، وسخريتهم بآيات الله .ويمكن أن يقال : إن الآية الكريمة على عمومها فهى تتناول كل من آمن ثم ارتد عن الإيمان إلى الكفر ، وزداد كفرا بمقاومته للحق ، وإيذائه لأتباعه ، وإصراره على كفره وعناده وجحوده .ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأولئك هُمُ الضآلون } .أى أن هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا وعنادا وجحودا للحق { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } أى لن تتوقع منهم توبة حتى تقبل ، لأنهم بإصرارهم على كفرهم ، ورسوخهم فيه ، وتلاعبهم بالإيمان ، قد صاروا غير أهل للتوفيق لها ، ولأنهم حتى لو تابوا فتوبتهم إنما هى بألسنتهم فحسب ، أما قلوبهم فمليئة بالكفر والنفاق ولذا تعتبر توبتهم كلا توبة .وبعضهم حمل عدم قبول توبتهم على أنهم تابوا عند حضور الموت ، والتوبة في هذا الوقت لا قيمة لها .قال القرطبى : وهذا قول حسن كما قال - تعالى - : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن } وبعضهم حمل عدم قبول توبتهم على أنهم ماتوا على الكفر ، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقد قال . فإن قلت : قد علم أن المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } ؟ قلت : جعلت عبارة عن الموت على الكفر ، لأن الذى لا تقبل توبته من الكفار هو الذى يموت على الكفر . كأنه قيل إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر ، داخلون فى جملة من لا تقبل توبتهم .فإن قلت : فأى فائدة فى هذه الكناية؟ أعنى أن كنى الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة؟ .قلت : الفائدة فيها جليلة وهى التغليظ فى شأن أولئك الفريق من الكفار ، وإبراز حالهم فى صورة حالة الآيسين من الرحمى التى هى أغلظ الأحوال وأشدها ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة " .والذى يبدو لنا أن الآية الكريمة أشد ما تكون انطباقا على أولئك الذين تتكرر منهم الردة من الإيمان إلى الكفر فهم لفساد قلوبهم ، وانطماس بصيرتهم واستيلاء الأهواء والمطامع على نفوسهم أصبح الإيمان لا استقرار له في قلوبهم بل يتلاعبون به ، ويبيعونه نظير عرض قليل من أعراض الدنيا ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى سورة النساء{ إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } وقوله { وأولئك هُمُ الضآلون } أى الكاملون في الضلال ، البعيدون عن طريق الحق ، المستحقون لسخط الله وعذابه .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
📘 ثم صرح - سبحانه - ببيان عاقبة الذين يموتون على الكفر فقال - تعالى - : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } .أى استمروا على كفرهم وضلالهم حتى ماتوا على هذا الكفر والضلال فكأن الآيات الكريمة قد ذكرت لنا ثلاث أصناف من الكافرين : قسم كان كافرا ثم تاب عن كفره توبة صادقة بأن آمن وعمل صالحا فقبل الله توبته . وهذا القسم هو الذى استثناه الله بقوله { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقسم كان كافراً ثم تاب عن كفره توبة ليست صادقة ، فلم يقبلها الله - تعالى - منه .وهو الذى قال الله فى شأنه فى الآية السابقة { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأولئك هُمُ الضآلون } .وقسم كان كافراً واستمر على كفره حتى مات عليه دون أن تحدث منه أية توبة ، وهو الذى أخبر عنه - سبحانه - فى هذه الآية بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } .أى ماتوا على كفرهم دون أن يتوبوا منه . وقد بين الله - تعالى - سوء مصيرهم بقوله : { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ } .أى أن هؤلاء الذين ماتوا على الكفر دون أن يتوبوا منه . لن يقبل الله - تعالى - من أحدهم ما كان قد أنفقه فى الدنيا ولو كان هذا المنفق ملء الأرض ذهبا ، لأن كفره قد أحبط أعماله وأفسدها كما قال - تعالى - { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } وكذلك لن يقبل الله - تعالى - عن أحدهم فدية عن عقابه الشديد له بسبب موته على الكفر . ولو كان ما يفتدى به نفسه ملء الأرض ذهباً ، لأن الله - تعالى - غنى عنه وعن فديته - مهما عظمت - وسيعاقبه على كفره بما يستحق من عقاب .قال ابن كثير : قوله - تعالى - { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ } .أى من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدا ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قربة كما سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان - وكان يقرى الضيف ، ويفك العانى ، ويطعم الطعام - هل ينفعه ذلك؟ فقال : " لا ، إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين " وكذلك لو افتدى - نفسه فى الآخرة - بملء الأرض ايضاً ذهباً ما قبل منه ، كما قال - تعالى -{ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } وقال - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ثم قال : وروى الشيخان والإمام أحمد عن أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شىء أكنت مفتديا به؟ قال : فيقول نعم ، فيقول الله له ، قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك فى ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بى شيئا فأبيت إلا أن تشرك " .وفى رواية للإمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول : أى رب ، خير منزل . فيقول الله - تعالى - له : سل وتمن ، فيقول : ما اسأل ولا أتمنى إلا أن تردنى إلى الدنيا فأقتل فى سبيلك عشر مرار - لما يرى من فضل الشهادة - ويؤتى بالرجل ن أهل النار فيقول له : كيف وجدت منزلك؟ فيقول : أى رب! شر منزل ، فيقول له : أتفتدى منه بطلاع الأرض ذهبا؟ فيقول أى رب! نعم فيقول : كذبت! قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل فيرد إلى النار " .وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : فلم قيل فى الآية السابقة { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } بغير فاء . وقيل هنا { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم } بوجود الفاء -؟ قلت : قد أوذن بالفاء أن الكلام بنى على الشرط والجزاء ، وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر ، وبترك الفاء أن الكلام متبدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب ، كما تقول : الذى جاءنى له درهم ، لم تجعل المجىء سببا فى استحقاق الدرهم ، بخلاف قولك : فله درهم " .وقوله { ذَهَباً } منصوب على أنه تمييز .وعبر بالذهب لأنه أنفس الأشياء وأعزها على النفس .وقوله { وَلَوِ افتدى بِهِ } جملة حالية ، والواو للحال . أى لا يقبل من الذى مات على كفره هذا الفداء ولو فى حال افتراض تحقق هذا الفداء فى يده وتقديمه إياه لكى يدفعه لخالقه وينجو من العقوبة الى توعده بها .أى أن العذاب الأليم نازل قطعا على هذا الذى مات على كفره ، حتى ولو فرضنا أنه تصدق فى الدنيا بملء الأرض ذهبا . وحتى لو فرضنا أنه ملك هذا المقدار النفيس الكثير من الأموال فى الآخرة وقدمه فدية لنفسه من العذاب ، فإن كل ذلك غير مقبول منه ، ولا بد من نزول العذاب به .وقد أشار ابن المنير إلى هذا المعنى بقوله : " قبول الفدية التى هى ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال : منها : أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية من نفسه كما تؤخذ الدية قهرا من مال القاتل على قول . ومنها أن يقول المفتدى فى التقدير : أفدى نفسى بكذا وقد لا يفعل . ومنها أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذى يفدى به نفسه ويجعله حاضرا عتيدا ، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته . وإذا تعددت الأحوال فالمراد من الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول ، وهو أن يفتدى بملء الأرض ذهبا افتداء محققا بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا ومع ذلك لا يقبل منه ، فمجرد قوله أبذل المال وأقدر عليه أو ما يجرى هذا المجرى بطريق الأولى . فيكون دخول الواو والحالة المذكورة . وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من العذاب ، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس فى ذلك اليوم ، ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل : لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إلى فى يدى هذه " .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } .أى أولئك الذين ماتوا على كفرهم لهم عذاب أليم ، وما لهم من ناصرين ينصرونهم بدفع العذاب عنهم ، أو تخفيف وقعه عليهم .ومن مزيدة لاستغراق النفى وتأكيده ، أى لا يوجد أحد كائناً من كان ينقذهم من عذاب الله ، أو يجيرهم من أليم عقابه .وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد توعدتا الكافرين بأشد ألوان العذاب ، وأقسى أنواع العقاب ، حتى يقلعوا عن كفرهم ، ويثوبوا إلى رشدهم .
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
📘 وبعد هذا الحديث المشتمل على أشد صنوف الترهيب من الكفر ، وعلى بيان سوء عاقبة الكافرين ، أتبعه بالحديث عن الطريق الذى يوصل المؤمنين إلى رضا الله وحسن مثوبته فقال - تعالى - : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } .تنالوا : من النيل وهو إصابة الشىء والحصول عليه . يقال نال ينال نيلا ، إذا أصاب الشىء ووجده وحصل عليه .والبر : الإحسان وكمال الخير . وأصله التوسع فى فعل الخير . يقال : بر العبد ربه أى توسع فى طاعته .والإنفاق البذل ، ومنه إنفاق المار . وعن الحسن : كل شىء أنفقه المسلم من ماله يبتغى به وجه الله ويطلب ثوابه حتى التمرة يدخل فى هذه الآية .والمعنى : لن تنالوا حقيقة البر ، ولن تبلغوا ثوابه الجزيل الذى يوصلكم إلى رضا الله ، وإلى جنته التى أعدها لعباده الصالحين ، إلا إذا بذلتم مما تحبونه وتؤثرونه من الأموال وغيرها فى سبيل الله ، وما تنفقوا من شىء - ولو قليلا - فإن الله به عليم ، وسيجازيكم عليه بأكثر مما أنفقتم وبذلتم .ولقد حكى لنا التاريخ كثيرا من صور البذل والإنفاق التى قام بها السلف الصالح من أجل رضا الله وإعلاء كلمته ، ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بير حاء - موضع بالمدينة - وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء طيب فيها . قال أنس : " فلما أنزلت هذه الآية : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون . . . ، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن الله - تعالى - يقول في كتابه { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } وإن أحب أموالى إلى بير حاء ، وإنها صدقة لله - تعالى - أرجو برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بخ بخ - كلمة استحسان ومدح - ذلك مال رابح - أى ذو ربح - ذلك مال رباح . وقد سمعت ما قلت . وإنى أرى أن تجعلها فى الأقربين . قال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة فى أقاربه وبنى عمه " .قال القرطبى : " وكذلك فعل زيد بن حارثة ، عمد مما يحب إلى فرس له يقال له " سَبل " وقال : اللهم إنك تعلم أنه ليس لى مال أحب إلى من فرسى هذه ، فجاء بها إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : هذا في سبيل الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد : أقبضه ، فكأن زيدا وجد من ذلك فى نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله قد قبلها منك " " .وأعتق عبد الله بن عمر نافعاً مولاه ، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار ، قالت صفية بنت أبى عبيد : أظنه تأول قول الله - تعالى - { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } .وقال الحسن البصرى : إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون ، ولا تدركون ما تؤملون إلا بالصبر على ما تكرهون .وهكذا نرى أن السلف الصالح قد قدموا ما يحبون من أموالهم وغيرها تقربا إلى الله - تعالى - وشكراً له على نعمائه وعطائه ، فرضى الله عنهم وأرضاهم .ثم عاد القرآن الكريم إلى الرد على اليهود الذين جادلوا النبى صلى الله عليه وسلم فى كثير من القضايا ، بعد أن ذكر فى الآيات السابقة طرفا من مسالكهم الخبيثة التى منها تواصيهم فيما بينهم بأن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره ، وقد حكى هنا جدلهم فيما أحله الله وحرمه من الأطعمة فقال - تعالى - : { كُلُّ الطعام . . . } .
۞ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
📘 ذكر بعض المفسرين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لليهود فى معرض مناقشته لهم : أنا على ملة إبراهيم . فقال بعض اليهود : كيف تدعى ذلك وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم ، كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله . فقالوا : كل شىء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله هذه الآيات تكذيبا لهم " .والطعام : مصدر بمعنى المطعوم ، والمراد به هنا كل ما يطعم ويؤكل .وحلا : مصدر أيضاً بمعنى حلالا ، والمراد الإخبار عن أكل الطعام بكونه حلالا ، لا نفس الطعام ، لان الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات .وإسرائيل : هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - .والمعنى : كل أنواع الأطعمة كانت حلالا لبنى إسرائيل قبل نزول التوراة إلا شيئا واحدا كان محرما عليهم قبل نزولها وهو ما حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فإنهم حرموه على أنفسهم اقتداء به ، فلما أنزل الله التوراة حرم عليهم فيها بعض الطيبات بسبب بغيهم وظلمهم .هذا هو الحق الذى لا شك فيه ، فإن جادلوك يا محمد فى هذه المسألة فقل لهم على سبيل التحدى : أحضروا التوراة فاقرءوها ليتبين الصادق منا من الكاذب ، إن كنتم صادقين فى زعمكم أن ما حرمه الله عليكم فيها كان محرما على نوح وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - .فالآية الكريمة قد تضمنت أموراً من أهمها :أولاً : إبطال حجتهم فيما يتعلق بقضية النسخ ، إذ زعموا أن النسخ محال ، واتخذوا من كون النسخ مشروعا في الإسلام ذريعة للطعن فى نبوة النبى صلى الله عليه وسلم فدحض القرآن مدعاهم وألزمهم الحجة عن طريق كتابهم .ولذا قال الإمام ابن كثير : الآية مشروع فى الرد على اليهود ، وبيان بأن النسخ الذى أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع ، فإن الله - تعالى - قد نص فى كتابهم التوراة أن نوحا - عليه السلام - لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ، ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل وألبانها فاتبعه بنوه فيما حرم على نفسه ، وجاءت التوراة بتحريم ذلك ، وبتحريم أشياء زيادة على ذلك - عقوبة لهم بسبب بغيهم وظلمهم . وهذا هو النسخ بعينه " .وقد صرح ابن كثير وغيره من المفسرين أن ما حرمه إسرائيل على نفسه هو لحوم الإبل وألبانها ، وبذلك جاءت بعض الروايات عن النبى صلى الله عليه وسلم وكان تحريمه لها تعبدا وزهادة وقهرا للنفس طلبا لمرضاة الله - تعالى - .وقيل إن ما حرمه على نفسه هو العروق . روى ذلك عن ابن عباس والضحاك والسدى موقوفا عليهم .قالوا : كان يعتريه عرق النسا وهو عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين ويسبب آلاما شديدة - فنذر إن عوفى منه لا يأكل عرقا ، فلما شفاه الله ترك كل العروق وفاء بنذره .ثانيا : تضمنت أيضا تكذيبهم فى دعواهم أن ما حرم عليهم لم يكن سبب تحريمه ظملهم أو بغيهم ، وإنما كان محرما على غيرهم ممن سبقهم من الأمم .وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : " وهو - أى ما اشتملت عليه الآية - رد على اليهود وتكذيب لهم ، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم فى قوله - تعالى - { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وحيث أرادوا جحود ما غاظهم بسبب ما نطق به القرآن من أن تحريم الطيبات عليهم كان لأجل بغيهم وظلمهم فقالوا : لسنا بأول من حرمت عليه هذه الأشياء ، وما هو إلا تحريم قديم ، كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بنى إسرائيل وهلم جرا ، إلى أن انتهى التحريم إلينا ، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا .وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغى والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا . وما عدد من مساويهم التى كلما ارتكبوا منها كبيرة حرم الله عليهم نوعا من الطيبات عقوبة لهم " .ثالثاً : تضمنت الآية كذلك أمراً من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتحداهم بالتوراة ويبكتهم بما نطقت به ، وذلك بقوله - تعالى - فى الآية الكريمة { قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .فكأنه - سبحانه - يقول لهم : ما دمتم - يا معشر اليهود - قد زعمتم أن ما حرم عليكم بسبب بغيكم وظلمكم ليس تحريما حادثا ، وإنما هو تحريم قديم على الأمم قبلكم ، فها هى ذى التوراة قريبة منكم فأحضروها واتلوها بإمعان وتدبر إن كنتم صادقين فى مدعاكم .والتعبير ب " إن " يشير إلى عدم صدقهم ، لأنها تدل على الشك فى الشرط .أى : هم ليسوا صادقين فيما يزعمون ، ولذلك لا يتلون ولا يقرؤون ، ولو جاءوا بها لكانت مؤيدة لما أخبر به القرآن الكريم ، ولذلك لم يجسروا على إخراج التوراة ، وبهتوا وانقلبوا صاغرين . وفى ذلك الحجة البينة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم .وقوله { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } مستثنى من اسم كان ، والتقدير : كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل إلا ما حرم نفسه فإنه قد حرم عليهم فى التوراة ، وليس منه ما زادوه من محرمات وادعوا صحة ذلك .
فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
📘 ثم توعدهم - سبحانه - على كذبهم وجحودهم فقال - تعالى : { فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب مِن بَعْدِ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الظالمون } .افترى : من الافتراء وهو اختلاق الكذب ، وأصلى من فرى الأيم إذا قطعه؛ لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له فى الوجود .أى : فمن تعمد الكذب على الله - تعالى - بأن زعم بأن ما حرمته التوراة على بنى إسرائيل من المطاعم بسبب ظلمهم وبغيهم ، كان محرما عليهم وعلى غيرهم قبل نزولها ، فأولئك الذين قالوا هذا القول الكاذب هم المتناهون فى الظلم : المتجاوزون للحدود التى شرعها الله - تعالى - ، وسيعاقبهم - سبحانه - على هذا الظلم والافتراء عذاباً أليما لا مهرب لهم منه ولا نصير .والفاء فى قوله { مَنِ } يحتمل أن تكون شرطية وأن تكون موصولة ، وقد روعى فى الآية الكريمة لفظها ومعناها .وقوله { مِن بَعْدِ ذَلِكَ } متعلق بافترى ، واسم الإشارة ذلك يعود إلى أمرهم بإحضار التوراة وما يترتب عليه من قيام الحجة وظهور البينة .واسم الإشارة " أولئك " يعود إلى " من " وهو عبارة عن هؤلاء اليهود الذين جادلوا النبى صلى الله عليه وسلم بالباطل وافتروا على الله الكذب .ويحتمل أن يكون المشار إليه وهو { مَنِ } عاما لكل كاذب ويدخل فيه اليهود دخولا أوليا .وقد أكد الله - تعالى - وصفهم بالظلم بضمير الفصل الدال على أنهم كاملون فيه ، وموغلون فى اقترافه والتمسك به .
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
📘 ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى اتباع ملة إبراهيم إن كانوا حقا يريدون اتباعها فقال - تعالى - : { قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } أي : قل - يا محمد - لهؤلاء اليهود الذين جادلوك بالباطل ولكل من كان على شاكلتهم فى الكذب والظلم ، قل لهم جميعا : صدق الله فيما أخبرنا به فى قوله - تعالى - كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } وفى كل ما أخبرنا به فى كتابه وعلى لسان رسوله . وأنتم الكاذبون فى دعواكم .وإذا كنتم تريدون الوصول إلى الطريق القويم حقا { فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } أى فاتبعوا ملة الإسلام التى عليها محمد صلى الله عليه وسلم وعليها من آمن به ، فهم المتبعون حقا لإبراهيم - عليه السلام - وهم أولى الناس به ، لأن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما .أى كان متجها إلى الحق لا ينحرف عنه إلى غيره من الأديان أو الأقوال أو الأفعال الباطلة .وكان مسلما ، أى كان مسلما وجهه لله ، مفردا إياه بالعبادة والطاعة والخضوع ثم نفى الله - تعالى - عن إبراهيم كل لون من ألوان الشرك بأبلغ وجه فقال { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } .أى ما كان إبراهيم فى أى أمر من أموره من الذين يشركون مع الله آلهة أخرى ، وإنما كان مخلصا عبادته لله وحده .وفى ذلك تعريض بشرك اليهود وغيرهم من أهل الكفر والضلال ، وتنبيه إلى أن النبى صلى الله عليه وسلم وأتباعه هم المتبعون حقا لإبراهيم ، فقد أمر الله - محمداً صلى الله عليه وسلم أن يسير على طريقة أبيه إبراهيم فقال :{ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد حكت قضية من القضايا الكثيرة التى جادل اليهود فيها النبى صلى الله عليه وسلم ، وقد لقنت الآيات النبى صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يخرس ألسنتهم ، ويكشف عن كذبهم وافترائهم وظلمهم ، ويرشدهم ويرشد كل من يتأتى له الخطاب إلى الملة القويمة إن كانوا حقاً يريدون الاهتداء إلى الصراط المستقيم .ثم أخبر القرآن عن مسألة أخرى جادل اليهود فيها النبى صلى الله عليه وسلم وهى مسألة أفضلية المسجد الحرام على غيره من المساجد ، وقد رد القرآن عليهم وعلى أمثالهم فى الكفر والعناد بما يثبت أن المسجد الحرام الذى نازعوا فى أفضليته هو أفضل المساجد على الإطلاق فقال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ . . . } .
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ
📘 قال الفخر الرازى ما ملخصه : فى اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما وجوه :الأول : أن المراد منهما الجواب عن شبهة أخرى من شبهات اليهود فى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعن اليهود فى نبوته وقالوا : إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال ، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة وهو أرض الحشر ، وقبلة جملة الأنبياء ، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة إلى الكعبة باطلا ، فأجاب الله عنه بقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } فبين - سبحانه - أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف فكان جعلها قبلة أولى " .والمراد بالأولية أنه أول بيت وضعه الله لعبادته فى الأرض ، وقيل المراد بها كونه أولا فى الوضع وفى البناء ، ورووا فى ذلك آثارا ليس فيها ما يعتمد عليه .وبكة : لغة فى مكة عند الأكثرين ، والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيراً ، ومنه النميط والنبيط فهما اسم لموضع . وقيل هما متغايران : فبكة موضع المسجد ومكة اسم البلد بأسرها . وأصل كلمة بكة من البك وهو الازدحام . يقال تباك القوم إذا تزاحموا ، وكأنها سميت بذلك لازدحام الحجيج فيها . والبك أيضاً دق العنق ، وكأنها سميت بكة لأن الجبابرة تندق أعناقهم إذا أرادوها بسوء . وقيل إنها مأخوذة من بكأت الناقة أو الشاة إذا قل لبنها ، وكأنها إنما سميت بذلك لقلة مائها وخصبها .والمعنى : إن أول بيت وضعه الله - تعالى - للناس فى الأرض ليكون متعبداً لهم ، هو البيت الحرام الذى بمكة ، حيث يزدحم الناس أثناء طوافهم حوله ، وقد أتوا إليه رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم .روى الشيخان عن أبى ذر قال : " قلت يا رسول الله : أي مسجد وضع فى الأرض أول؟ قال : المسجد الحرام . قلت : ثم آي؟ قال المسجد الأقصى . قلت : كم بينهما؟ قال : أربعون سنة ، ثم قال : حيثما أدركتك الصلاة فصل . والأرض لك مسجد " .قالوا : وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد منه فقال : معلوم أن سليمان بن داود هو الذى بنى المسجد الأقصى ، والذى بنى المسجد الحرام هو إبراهيم وابنه إسماعيل ، وبينهما وبين سليمان أكثر من ألف سنة فيكف قال صلى الله عليه وسلم : إن بين بناء المسجدين أربعين سنة!والجواب أن الوضع غير البناء ، فالذى أسس المسجد الأقصى ووضعه فى الأرض بأمر الله سيدنا يعقوبن بن إسحاق بن إبراهيم ويعقوب هذه المدة التى جاءت في الحديث ، أما سليمان فلم يكن مؤسساً للمسجد الأقصى أو واضعاً له وإنما كان مجددا فلا إشكال ولا منافاة .وإذن فالبيت الحرام أسبق بناء من المسجد الأقصى ، وأجمع منه للديانات السماوية ، وهو - أى البيت الحرام - أول بيت جعل الله الحج إليه عبادة مفروضة على كل قادر على الحج ، وجعل الطوف حوله عبادة ، وتقبيل الحجر الأسود الذى هو ضمن بنائه عبادة .. . ولا يوجد بيت سواه فى الأرض له من المزايا والخصائص ما لهذا البيت الحرام .وبذلك ثبت كذب اليهود فى دعواهم أن المسجد الأقصى أفضل من المسجد الحرام ، وأن فى تحول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فى صلاته مخالفة للأنبياء قبله .ثم مدح الله - تعالى - بيته بكونه { مُبَارَكاً } أى كثير الخير دائمه ، من البركة وهى النماء والزيادة والدوام .أى أن هذا البيت كثير الخير والنفع لمن حجه أو اعتمره أو اعتكف فيه ، أو طاف حوله ، بسبب مضاعفة الأجر ، وإجابة الدعاء ، وتكفير الخطايا لمن قصده بإيمان وإخلاص وطاعة لله رب العالمين .وإن هذا البيت فى الوقت ذاته وفير البركات المادية والمعنوية .فمن بركاتع المادية : قدوم الناس إليه من مشارق الإرض ومغاربها ومعهم خيرات الأرض ، يقدمونها على سبيل تبادل المنفعة تارة وعلى سبيل الصدقة تارة أخرى لمن يسكنون حول هذا البيت الحرام ، إجابة لدعوة سيدنا إبراهيم حيث قال : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } ومن بركاته المعنوية : أنه مكان لأكبر عبادة جامعة للمسلمين وهى فريضة الحج ، وإليه يتجه المسلمون فى صلاتهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم .وقوله { مُبَارَكاً } حال من الضمير فى " وضع " .ثم مدحه بأنه { هُدًى لِّلْعَالَمِينَ } آي بذاته مصدر هداية للعالمين ، لأنه قبلتهم ومتعبدهم ، وفى استقباله توجيه للقلوب والعقول إلى الخير وإلى ما يوصلهم إلى رضا الله وجنته .ثم مدحه - ثالثا - بقوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أى فيه علامات ظاهرات ، ودلائل واضحات تدل على شرف منزلته ، وعلو مكانته .وهذه الجملة الكريمة مستأنفة لبيان وتفسير بركته وهداه .
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - بعض هذه الآيات البينات الدالة على عظمه وشرفه فقال : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .فالآية الأولى الدالة على عظم وشرف البيت الحرام { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } أى المقام المعروف بهذا الاسم . وهو الموضع الذى كان يقوم فيه إبراهيم تجاه الكعبة لعبادة الله - تعالى - ولإتمام بناء الكعبة ومعنى أن فى البيت مقام إبراهيم أى أنه فى فنائه ومتصل به .قال ابن كثير : عن جابر - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين .والمراد بالمقام إنما هو الحجر الذى كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل بهذا الحجر ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار . . .ثم قال : وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما . ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلى الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك . وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى ناحية المشرق حيث هو الآن . ليتمكن الطائفون من الطواف ، وليصلى المصلون عنده دون تشويش عليهم من الطائفين .وقوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } مبتدأ محذوف الخبر أى مقام إبراهيم منها أى من هذه الآيات البينات . أو خبر لمبتدأ محذوف أى فيه آيات بينات أحدها مقام إبراهيم .وقد رجح ابن جرير أن قوله - تعالى - { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } هو بعض الآيات البينات التى فى البيت الحرام فقال : وأولى الأقوال فى تأويل ذلك بالصواب قول من قال : الآيات البينات منهن مقام إبراهيم . وهو قول قتادة ومجاهد الذى رواه معمر عنهما فيكون الكلام مرادا فيه منهن فترك ذكره اكتفاء بدلالة الكلام عليها . فإن قال القائل : فهذا المقام من الآيات البينات فما سائر الآيات التى من أجلها قيل { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } ؟ قيل : منهن المقام ، ومنهن الحجر ، ومنهن الحطيم " .وقال ابن عطية : والراجح عندى أن المقام وآمن الداخلين جعلا مثالا لما فى حرم الله من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم .وأما الآية الثانية التى تدل على فضل هذا البيت وشرفه فقد بينها القرآن بقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .أى من التجأ إليه أمن من التعرض له بالأذى أو القتل قال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } وفي ذلك إجابة لسيدنا إبراهيم حيث قال - كما حكى القرآن عنه - : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } ولا شك أن فى أمن من دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلى علو مكانته عند الله؛ لأنه موضع أمان الناس فى بيئة تغرى بالاعتداء لخلوها من الزرع والنبات .وفى الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن أبى شريح العدوى أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث لمكة - يعنى لقتال عبد الله بن الزبير - : ائذن لى أيها الأمير أن أحدثك قولا قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح ، - سمعته أذناى ووعاه قلبى ، وأبصرته عيناى - حين تكلم به - : إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها - أى أخذ فيه بالرخصة - فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لى فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب .فقيل لأبى شريح : ما قال لك عمرو؟ فقال أبو شريح : قال لى يا أبا شريح أنا أعلم بذلك منك . إن الحرم لا يعيذ عاصيا - أى لا يجيره ولا يعصم دمه - ولا فاراً بدم - أى أن الحرم لا يجير إنساناً هارباً إليه لسبب من الأسباب الموجبة للتقل - ولا فاراً بخربة - أى بسبب سرقة أو خيانة .ولقد كان أهل الجاهلية يعظمون المسجد الحرام - وخصوصا أهل مكة - فلما جاء الإسلام أقر له هذه الميزة وزكاها ، ووضع لها الضوابط والأحكام التى تضمن استعمالها فى الوجوه التى شرعها الله .فقد اتفق الفقهاء على أن من جنى فى الحرم جناية فهو مأخوذ بجنايته سواء أكانت فى النفس أم فيما دونها .واختلفوا فيمن جنى فى غير الحرم ثم لاذ إليه . فقال أبو حنيفة وابن حنبل : إذا قتل فى غير الحرم ثم دخل الحرم لا يقتص منه ما دام فيه ، ولكن لا يجالس ولا يعامل ولا يؤاكل غلى أن يخرج منه فيقتص منه . وإن كانت جنايته فيما دون النفس فى غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه .وقال مالك والشافعي يقتص منه فى الحرم لذلك كله كما يقتص منه فى الحل . ولكل فريق أدلته المبسوطة فى كتب الفقه .ثم أخبر - سبحانه - عن وجوب الحج على كل قادر عليه فقال : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } .أى أن الله - تعالى - فرض على الناس أن يحجوا بيته فى أوقات معينة وبكيفية مخصوصة متى كان فى استطاعتهم أداء هذه الفريضة .{ وَمَن كَفَرَ } أى من جحد فرضية الحج وأنكرها ، ولم يؤدها مع استطاعته وقدرته على أدائها فإن الله غنى عنه وعن حجه وعن الناس جميعاً .قال صاحب الكشاف : وفى هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد منها قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } يعنى أنه حق واجب لله فى رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد :أحدهما : أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له .والثاني : إن الإيضاح بعد الإيهام ، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له فى صورتين مختلفتين . ومنها قوله : { وَمَن كَفَرَ } مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج فليمت إن شاء الله يهودياً أو نصرانياً "ومنها ذكر الاستغناء عنه ، لأن فيه الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط .وقوله : { وَللَّهِ } خبر مقدم متعلق بمحذوف أى واجب . { عَلَى الناس } متعلق بهذا المحذوف . وقوله : { حِجُّ البيت } مبتدأ مؤخر .والناس عام مخصوص بالمتسطيع ، وقد خصص ببدل البعض فى قوله : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } إذ هذه الجملة بدل من الناس بدل البعض من الكل . والضمير فى البدل مقدر أى من استطاع منهم إليه سبيلا .و " من " فى قوله : { وَمَن كَفَرَ } يحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، وعلى الاحتمالين استغنى فيا بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل ومن كفر فغن الله غنى عنه فاستغنى بالظاهر عن المضمر .قال ابن كثير : والجمهور يرى أن هذه الآية هى آية وجوب الحج . وقيل بل هى آية ( وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ ) والأول أظهر . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقوائمه ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروياً وإنما يجب على المكلف فى العمرة مرة واحدة بالنص والإجماع فعن ابيى هريرة قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، وإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فدعوه " .وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما السبيل يا رسول الله ، فقال : الزاد والراحلة " .وبذلك تكون هاتان الآيتان والآيات التى قبلهما قد ردت على اليهود فى دعواهم أن ما حرمه الله عليهم من طيبات لم يكن عقوبة لهم بسبب ظلمهم وبغيهم ، وكذبتهم فى دعواهم أن بيت المقدس أفضل من المسجد الحرام .وقد اشتمل هذا الرد على ما يثبت افتراءهم من واقع التاريخ ، فقد أمر الله - تعالى - النبى صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بإحضار التوراة إن كانوا صادقين فى دعواهم ، فبهوتوا وانقلبوا صاغرين ، واثبت القرآن أن البيت الحرام أول بيت وضع فى الأرض لعبادة الله ، فهو يسبق بيت المقدس فى أولوية الشرف والزمان . وإذن فجدال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الأمور ما هو إلا نوع من عنادهم وجحودهم للحق ، والمعاند والجاحد لا ينفع معهما دليل أو برهان .وبعد هذا الرد المفحم من القرآن على اليهود فى هاتين القضيتين - قضية ما حرم عليهم من الأطعمة وقضية نزاعهم فى أفضلية البيت الحرام - بعد كل ذلك ساق القرآن طرفا من مسالكهم الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين عن طريق محاولتهم الدس والوقيعة وإثارة الفتنة بين المؤمنين . وقد حذر الله المؤمنين من شرورهم بعد أن وبخ اليهود على مكرهم ، وتوعدهم بسوء المصير . استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه المعانى بأسلوبه الحكيم فيقول : { قُلْ ياأهل . . . } .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ
📘 أخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال : مر شاس بن قيس - وكان شيخاً قد عسا فى الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم - مر على نفر من الصحابة من الأوس والخزرج فى مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذى كان بينهم من العداوة فى الجاهلية . فقال : قد اجتمع ملأ بنى قيلة بهذه البلاد ، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار . فأمر شابا من اليهود كان معه فقال له : اعمد إليهم فاجلس معهم ، وذكرهم يوم بعاث ، وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار - وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج - ففعل . فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب : أوس بن قيظى من الأوس ، وجبار بن صخر من الخزرج . فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله ردناها الآن جذعة ، وغضب الفريقان وقالوا : قد فعلنا ، السلاح موعدكم الظاهرة - والظاهرة : الحرة - فخرجوا إليها وتحاور الناس . فانضمت الأوس بعضها إلى بعض والخزرج بعضها إلى بعض ، على دعواهم التى كانوا عليها في الجاهلية . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم . فقال يا معشر المسلمين : الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، وساتنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا ، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس ، وما صنع .فأنزل الله فى شاس بن قيس وما صنع { قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ } الآية وأنزل فى أوس بن قيظى وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا { ياأيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } . . . إلى قوله { وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } - فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم - .وقوله - تعالى - : { قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } أمر من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يوبخ هؤلاء اليهود ومن لف لفهم على مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية وإيذاء أتباعها ومحاولتهم صرف الناس عنها .أى : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين كفروا بالحق بعد أن جاءتهم البينات : لم تعاندون الحق وتكفرون بآيات الله السمعية والعقلية الدالة على صدقى فيما أبلغه عن ربى ، والحال أن الله مطلع عليكم وعالم علم المعاين المشاهد أعمالكم الظاهرة والخفية ، وسيجازيكم عليها بما تستحقونه من عقاب أليم .فالآية الكر يمة قد تضمنت تأنيبهم على الكفر ، وتهديدهم بالعقاب إذا استمروا فى مسالكهم الأثيمة .ولكى يكون التأنيب أوجع ، أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يناديهم بقوله : { ياأهل الكتاب } لأن علمهم بالكتاب يستلزم منهم الإيمان ، والإذعان للحق ، ولكنهم اتخذوا علمهم وسيلة للشرور والتضليل فكان مسلكهم هذا دليلاً على فساد فطرتهم ، وخبث طويتهم ، وسوء طباعهم .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
📘 وبعد أن أنبهم القرآن الكريم فى هذه الآيى على كفرهم وضلالهم ، أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم فى آية ثانية أن يوبخهم على محاولتهم إضلال غيرهم فقال - تعالى - : { قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } وقوله : { تَصُدُّونَ } من الصد وهو صرف الغير عن الشىء ومنعه منه . يقال : صد يصد صدودا ، وصدا .وقوله : { سَبِيلِ الله } أى طريقه الموصلة إليه وهى ملة الإسلام .وقوله : { تَبْغُونَهَا عِوَجاً } أى تطلبون العوج والميل لسبيل الله الواضحة والميل بها عن القصد والاستقامة ، وتريدون أن تكون ملتوية غير واضحة فى أعين المهتدين ، كما التوت نفوسكم ، وانحرفت عقولكم .قال صاحب الكشاف : فإن قلت كيف قال تبغونها عوجا وهو محال؟ قلت : فيه معنيان : أحدهما : أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها اعوجاجا بقولكم إن شريعة موسى لا تنسخ ، وبتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها وغير ذلك .والثانى : أنكم تتعبون أنفسكم فى إخفاء الحق ابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم " .وقوله : { مَنْ آمَنَ } مفعول به لتصدون . والضمير المنصوب فى قوله : { تَبْغُونَهَا } يعود إلى سبيل الله أى تبغون لها فحذفت اللام كما فى قوله - تعالى - : ( وَإِذَا كَالُوهُمْ ) أى كالوا لهم . وقوله : { عِوَجاً } مفعول به لتبغون .وبعضهم جعل الضمير المنصوب فى { تَبْغُونَهَا } وهو الهاء هو المفعول . وجعل عوجا حال من سبيل الله . أى تبغونها أن تكون معوجة وتريدونها فى حال عوج واضطراب .وقوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } حال من فاعل { تَصُدُّونَ } أو { تَبْغُونَ } .أى والحال أنكم تعلمون بأن سبيل الإسلام هى السبيل الحق علم من يعاين ويشاهد الشىء على حقيقته فجحودكم عن علم وكفركم ليس عن جهل ، ولقد كان المتوقع منكم يا من ترون الحق الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فى كتابكم ، أن تكونوا أول الساعين إلى الإيمان به ، ولكن الحسد والعناد حالا بينكم وبين الانتفاع بالنور الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .وقوله : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } تهديد لهم ووعيد على ضلالهم ومحاولتهم إضلال غيرهم ، لأنه - سبحانه - ليس غافلا عن أعمالهم ، بل هو سيجازيهم على هذه المسالك الخبيثة بالفشل والذلة فى الدنيا ، وبالعذاب والهوان فى الآخرة ولما كان صدهم المؤمنين بطريق الخفية ختمت الآية الكريمة بما يحسم مادة حياتهم ، ببيان أن الله - تعالى - محيط بكل ما يصدر عنهم من أقوال أو أعمال وليس غافلا عنها . بخلاف الآية الأولى فقد كان كفرهم بطريق العلانية إذ ختمت ببيان أن الله مشاهد لما يعملونه ولما يجاهرون به .