🕋 تفسير سورة الصافات
(As-Saffat) • المصدر: AR-TAFSIR-AL-WASIT
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا
📘 الواو فى قوله - تعالى - : ( والصافات ) للقسم . وجوابه قوله : ( إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ )و ( الصافات ) من الصف ، وهو أن تجعل الشئ على خط مستقيم . تقول : صففت القوم فاصطفوا ، إذا أقمتهم على خط مستقيم . سواء أكانوا فى الصلاة ، أم فى الحرب ، أم فى غير ذلك .
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
📘 وقوله : ( إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ) استثناء من الواو فى ( يسمعون ) و " مَنْ فى محل بدل من الواو .والخطف : الأخذ للشئ بسرعة وخفية واختلاس وغفلة من المأخوذ منه .أى : لا يسمع الشياطين إلى الملأ الأعلى ، إلا الشيطان الذى خطف الخطفة من كلام الملائكة بسرعة موخفة ، فيما يتفاوضون فيه من أحوال البشر - دون ما يتعلق بالوحى - فإنه فى هذه الحالة يتبع هذا الشيطان ويلحقه ( شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) أى : شعلة من النار تثقب الجو بضوئها فتهلكه وتحرقه وتثقبه وتمزقه .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً . وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ) ومما يدل على أن استراقهم للسمع ، واختطافهم للخطفة ، إنما يكون فى غير الوحى ، قوله - تعالى - ( إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ) وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال : كانت الشياطين مقاعد من السماء فكانوا يستمعون الوحى قال : وكانت النجوم لا تجرى ، وكانت الشياطين لا ترمى . قال : فإذا سمعوا الوحى نزلوا إلى الأرض ، فزادوا فى الكلمة تسعا . قال : فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشيطان إذا قعد مقعده ، جاءه شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه .
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ
📘 ثم أضاف إلى هذا الأمل الكبير فى هداية الله - تعالى - له ، أملا آخر وهو منحه الذرية الصالحة فقال : ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين ) .أى : وأسألك يا ربى بجانب هذه الهداية إلى الخير والحق ، أن تهب لى ولدا هو من عبادك الصالحين ، الذين أستعين بهم على نشر دعوتك ، وعلى إعلاء كلمتك .
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ
📘 وأجاب الله - تعالى - دعاء عبده إبراهيم ، كما حكى ذلك فى قوله : ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ) .أى : فاستجبنا لإِبراهيم دعاءه فبشرناه على لسان ملائكتنا بغلام موصوف بالحلم وبمكارم الأخلاق .قال صاحب الكشاف : - وقد انطوت البشارة على ثلاثة : على أن الولد غلام ذكر ، وأنه يبلغ أوان الحلم ، وأنه يكون حليما .وهذا الغلام الذى بشره الله - تعالى - به . المقصود به هنا إسماعيل - عليه السلام - .
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ
📘 والفاء فى قوله - تعالى - : ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي ) فصيحة ، أى : بشرناه بهذا الغلام الحليم ، ثم عاش هذا الغلام حتى بلغ السن التى فى إمكانه أن يسعى معه فيها ، ليساعده فى قضاء مصالحه .قيل : كانت سن إسماعيل فى ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة .( قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى ) .أى : فلام بلغ الغلام مع أبيه هذه السن ، قال الأب لابنه : يا بنى إنى رأيت فى منامى أنى أذبحك ، فانظرماذا ترى فى شأن نفسك .قال الآلوسى ما ملخصه : يحتمل أنه - عليه السلام - رأى فى منامه أنه فعل ذلك . . ويحتمل أنه رأى ما تأويله ذلك ، ولكنه لم يذكره وذكر التأويل ، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب سفينة : رأيت فى المنام أنى ناج من هذه المحنة .ورؤيا الأنبياء وحى كالوحى فى اليقظة ، وفى رواية أنه رأى ذلك فى ليلة التروية فأخذ بفكر فى أمره ، فسميت بذلك ، فلما رأى ما رآه سابقا عرف أن هذه الرؤيا من الله ، فسمى بيوم عرفة ، ثم رأى مثل ذلك فى الليلة الثالثة فهمَّ بنحره فسمى بيوم النحر .ولعل السر فى كونه مناما لا يقظة ، أن تكون المبادرة إلى الامتثال ، أدل على كمال الانقياد والإِخلاص .وإنما شاوره بقوله : ( فانظر مَاذَا ترى ) مع أنه سينفذ ما أمره الله - تعالى - به فى منامه سواء رضى إسماعيل أم لم يرض ، لأن فى هذه المشاورة إعلاما له بما رآه ، لكى يتقبله بثبات وصبر ، وليكون نزول هذا الأمر عليه أهون ، وليختبر عزمه وجلده .وقوله : ( قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين ) حكاية لما رد به إسماعيل على أبيه إبراهيم - عليهما السلام - وهو رد يدل على علو كعبه فى الثبات ، وفى احتمال البلاء ، وفى الاستسلام لقضاء الله وقدره .أى : قال الابن لأبيه : يا أبت افعل ما تؤمر به من قبل الله - تعالى - ولا تتردد فى ذلك وستجدنى ن شاء الله من الصابرين على قضائه .وفى هذا الرد ما فيه من سمو الأدب ، حيث قدم مشيئة الله - تعالى - ، ونسب الفضل إليه ، واستعان به - سبحانه - فى أن يجعله من الصابرين على البلاء .وهكذا الأنبياء - عليهم السلام - يلهمهم الله - تعالى - فى جميع مراحل حياتهم ما يجعلهم فى أعلى درجات السمو النفسى ، واليقين القلبى . والكمال الخلقى .
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
📘 ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما كان من الابن وأبيه فقال : ( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) وأسلما : بمعنى استلسلما وانقادا لأمر الله ، فالفعل لازم ، أو بمعنى : سلَّم الذبيح نفسه وسلم الأب ابنه ، فيكون متعديا والمفعول محذوف .وقوله ( وَتَلَّهُ ) أى : صرعه وأسقطه ، وأصل التل : الرمى على التَّل وهو الرمل الكثيف المرتفع ، ثم عمم فى كل رمى ودفع ، يقال : تل فلان فلانا إذا صرعه وألقاه على الأرض .والجبين : أحد جانبى الجبهة ، وللوجه جبينان ، والجبهة بينهما .أى : فلما استسلم الأب والابن لأمر الله - تعالى - وصرع الأب ابنه على شقه ، وجعل جبينه على الأرض ، واستعد الأب لذبح ابنه . . كان ما كان منا من رحمة بهما . ومن إكرام لهما ، ومن إعلاء لقدرهما .
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ
📘 قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أين جواب لما؟ قلت : هو محذوف تقديره : فلما أسلم وتله للجبين ( وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم . قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ) كان ما كان مما تنطق به الحال ، ولا يحيط به الوصف من استبشارها واغتباطهما ، وحمدهما لله ، وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله ، وما اكتسبا فى تضاعيفه من الثواب ، ورضوان الله الذى ليس وراءه مطلوب . .وقد ذكروا هنا آثار منها أن إسماعيل - عليه السلام - لما هم أبوه بذبحه قال له : يا أبت اشدد رباطى حتى لا اضطرب ، واكفف عنى ثيابك حتى لا يتناثر عليها شئ من دمى فتراه أمى فتحزن ، وأسرع مرّ السكين على حلقى ليكون أهون للموت على ، فإذا أتيت أمى فاقرأ عليها السلام منى . . وكان ذلك عند الخصرة التى بمنى . .
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
📘 وقوله - سبحانه - : ( وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم . قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ) أى : وعندما صرع إبراهيم ابنه ليذبحه ، واستسلما لأمرنا . . نادينا إبراهيم بقولنا ( وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم . قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ) أى : قد فعلت ما أمرناك به ، ونفذت ما رأيته فى رؤياك تنفيذا كاملا ، يدل على صدقك فى إيمانك ، وعلى قوة إخلاصك .قال الجمل : فإن قلت : كيف قال الله - تعالى - لإبراهيم : قد صدقت الرؤيا وهو إنما رأى أن يذبح ابنه ، وما كان تصديقها إلا لو حصل منه الذبح .قلت : جعله الله مصدقا لأنه بذل جهده ووسعه ، وأتى بما أمكنه ، وفعل ما يفعله الذابح ، فأتى بالمطلوب ، وهو انقيادها لأمر الله .وجملة ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين ) تعليل لما قبلها . أى : فعلنا ما فعلنا من تفريج الكرب عن إبراهيم وإسماعيل ، لأن سنتنا قد اقتضت أن نجازى المسحنين الجزاء الذى يرفع درجاتهم ، ويفرج كرباتهم ، ويكشف الهم والغم عنهم .
إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ
📘 واسم الإِشارة فى قوله : ( إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين ) يعود إلى ما ابتلى الله - تعالى - نبيه إبراهيم وإسماعيل .أى : إن هذا الذى ابتلينا به هذين النبيين الكريمين ، لهو البلاء الواضح ، والاختبار الظاهر ، الذى به يتميز قوى الإِيمان من ضعيفه ، والذى لا يحتمله إلا أصحاب العزائم العالية ، والقلوب السليمة ، والنفوس المخلصة لله رب العالمين .
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ
📘 ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله على هذين النبيين الكريمين فقال : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) والذبح بمعنى المذبوح فهو مصدر بمعنى اسم المفعول كالطحن بمعنى المطحون .أى : وفدينا إسماعيل - عليه السلام - بمذبوح عظيم فى هيئته ، وفى قدره ، لأنه من عندنا ، وليس من عند غيرنا .قيل : افتداه الله - تعالى - بكبش أبيض ، أقرن ، عظيم القدر .
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ
📘 ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين . سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين )أى : ومن مظاهر فضلنا وإحساننا وتكريمنا لنبينا إبراهيم - أننا أبقينا ذكره الحسن فى الأمم التى ستأتى من بعده.
سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ
📘 وجعلنا التحية والسلام منا ومن المؤمنين عليه إلى يوم الدين .
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا ۚ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ
📘 ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوبخ المنكرين للبعث والحساب ، وحكى جانبا من أقوالهم الباطلة حول هذه القضية ، ورد عليهم ردا يزهق باطلهم . . فقال - تعالى - :( فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ . . . ) .الفاء فى قوله - تعالى - : ( فاستفتهم . . . ) هى الفصيحة ، والاستفتاء : الاستخبار عن الشئ ومعرفة وجه الصواب فيه .والمراد من الاستفهام فى الآية : توبيخ المشركين على إصرارهم على شركهم وجهلهم . وتعجيب العقلاء من أحوالهم .واللازب : أى : الملتصق بعضه ببعض . يقال : لزب الشئ يلزب لزبا ولزوبا ، إذا تداخل بعضه فى بعض ، والتصق بعضه ببعض . والطين اللازب : هو الذى يلزق باليد - مثلا - إذا ما التقت به قال النابغة الذبيانى :فلا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازبأى : ضربة ملازمة لا مفارقة لها .والمعنى : إذا كان الأمر كما أخبرناك أيها الرسول الكريم - من أن كل شئ فى هذا الكون يشهد بوحدانيتنا وقدرتنا ، فاسأله هؤلاء المشركين ( أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ) أى : أهم أقوى خلقة وأمتن بنية ، وأضخم جسادا . . ( أَم مَّنْ خَلَقْنَآ ) من ملائكة غلاظ شداد ، ومن سماوات طباق ، ومن أرض ذات فجاج .لا شك أنهم لن يجدوا جوابا يريدون به عليك ، سوى قولهم : إن خلق الملائكة والسموات والأرض . أشد من خلقنا .وقوله - تعالى - ( إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ ) إشارة إلى المادة الأولى التى خلقوا منها فى ضمن خلق أبيهم آدم - عليه السلام - .أى : إنا خلقناهم من طين ملتصق بعضه ببعض ، ومتداخل بعضه فى بعض .فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ساقت دليلين واضحين على صحة البعث الذى أنكره المشركون .أما الدليل الأول فهو ما يعترفون به من أن خلق السموات والأرض والملائكة . . أعظم وأكبر منهم . . ومن كان قادراً على خلق الأعظم والأكبر كان من باب أولى قادرا على خلق الأقل والأصغر .وقد ذكر - سبحانه - هذه الحقيقة فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - ( لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ) وأما الدليل الثانى فهو قوله - تعالى - : ( إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ ) وذلك لأن من خلقهم أولا من طين لازب ، قادر على أن يعيدهم مرة أخرى بعد أن يصيروا ترابا وعظاما .إذ من المعروف لدى كل عاقل أن الإِعادة أيسر من الابتداء . وقد قرر - سبحانه - هذه الحقيقة فى آيات منها قوله - تعالى - : ( وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم ) .
كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
📘 ومثل هذا الجزاء نجزى المحسنين .
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
📘 أنه - عليه السلام - من عبادنا الصادقين فى إيمانهم .
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - مظهرا آخر من مظاهر فضله على نبيه إبراهيم فقال : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين . وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ )أى : ومن مظاهر تكريمنا لإبراهيم ، أننا بشرناه بولد آخر هو إسحاق ، الذى جعلناه نبيا من أنبيائنا الصالحين لحمل رسالتنا ، وأفضنا على إبراهيم وعلى إسحاق الكثير من بركاتنا الدينية والدنيوية ، بأن جعلنا عدداً كبيراً من الأنبياء من نسلهما .ومع ذلك فقد اقتضت حكمتنا أن نجعل من ذريتهما من هو محسن فى قوله وعمله ، ومن هو ظالم لنفسه بالكفر والمعاصى ظلما واضحا بينا ، وسنجازى كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب .هذا ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :1 - أن الرسل جميعا قد جاءوا من عند الله - تعالى - بدين واحد فى أصوله ، وأن كل واحد منهم قد سار على نهج سابقه فى الدعوة إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق ، وقد بين - سبحانه - فى مطلق هذه القصة ، أن إبراهيم كان من شيعة نوح - عليه السلام - أى : من أتباعه الذين ساروا على سنته فى دعوة الناس إلى عبادة الله وحده .وقد أمر - عز وجل - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدى بإخوانه السابقين من الأنبياء ، فقال : ( أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده ) 2 - أن تعاطى الحيل الشرعية من أجل إزالة المنكر ، أمر مشروع ، فإن إبراهيم - عليه السلام - لكى يقضى على الأصنام ، اعتذر لقومه عن الخروج معهم فى يوم عيدهم ، وقال لهم : إنى سقيم - بعد أن نظر فى النجوم .وكان مقصده من وراء ذلك ، أن يختلى بالأصنام ليحطمها ، ويثبت لقومه أنها لا تصلح للألوهية .3 - أن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أن يراعى - بفضله وكرمه - عباده المخلصين ، وأن ينصرهم على أعدائهم ، الذين يبيتون لهم الشرور والسوء .ونرى ذلك جليا فى هذه القصة ، فقد أضمر الكافرون لإِبراهيم الكيد والإِهلاك . فأنجاه الله - تعالى - من مكرهم ، كما قال - تعالى - : ( فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين ) .4 - أن على المؤمن إذا لم يتمكن من نشر دعوة الحق فى مكان معين أن ينتقل منه إلى مكان آخر متى كان قادرا على ذلك .وهذا ما فعله إبراهيم - عليه السلام - فقد قال لقومه بعد أن يئس من صلاحهم ، وبعد أن نجاه الله من كيدهم : ( إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .5 - أن الدعاء متى صدر من نفس عامرة بالإِيمان والتقوى ، ومن قلب سليم من الهوى . . كان جديراً بالإِجابة .فلقد تضرع إبراهيم إلى ربه أن يرزقه الذرية الصالحة ، فأجاب الله دعاءه .كما حكى - سبحانه - ذلك فى قوله : ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين . فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ )ثم قال - سبحانه - بعد ذلك : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين ) .6 - أن إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - قد ضربا أروع الأمثال فى صدق الإِيمان ، وفى الاستسلام لأمر الله - تعالى - وفى الرضاء بقضائه .فكافأهما - عز وجل - على ذلك مكافأة جزيلة ، بأن جعل الذكر الحسن باقيا لإِبراهيم إلى يوم القيامة ، وبأن افتدى الذبيح بذبح عظيم .قال - تعالى - : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين . سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين ) .7 - أن الذبيح الذى ورد ذكره فى هذه القصة ، والذى افتداه الله - تعالى - بذبح عظيم ، هو إسماعيل - عليه السلام - وعلى ذلك سار جمهورالعلماء ، وم أدلتهم على ما ذهبوا إليه ما يأتى :( أ ) أن سياق القصة يدل دلالة واضحة على أن الذبيح إسماعيل ، لأن الله - تعالى - حكى عن إبراهيم أنه تضرع إليه - تعالى -بقوله : ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين ) فبشره - سبحانه - ( بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ) ، وهذا الغلام عندما بلغ السن التى يمكنه معها مساعدة أبيه فى أعماله .قال له أبوه : ( يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى ) ثم افتدى الله - تعالى - هذا الغلام بذبح عظيم .ثم قال - تعالى - بعد كل ذلك : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين ) .وهذا يدل على أن المبشر به الأول وهو إسماعيل ، غير المبشر به الثانى وهو إسحاق .( ب ) أن البشارة بمولد إسحاق - عليه السلام - قد جاء الحديث عنها مفصلا فى سورة هود . وظروف هذه البشارة وملابساتها ، تختلف عن الظروف والملابسات التى وردت هنا فى سورة الصافات ، وقد أشار إلى ذلك الإِمام السيوطى فقال :وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضى القطع - أو ما يقرب منه - على أن الذبيح إسماعيل ، وذلك لأن البشارة وقعت مرتين :مرة فى قوله - تعالى - ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين . فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ . فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ . . ) .فهذه الآية قاطعة فى أن المبشر به هو الذبيح .ومرة فى قوله - فى سورة هود - ( وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ ) فقد صرح فيها بأن المبشر به إٍسحاق ، ولم يكن بسؤال من إبراهيم ، بل قالت امرأته إنها عجوز ، وأنه شيخ ، وكان ذلك فى بلاد الشام ، لما جاءت الملائكة إليه ، بسبب قوم لوط ، وكان إبراهيم فى آخره عمره .أما البشارة الأولى فكانت حين انتقل من العراق إلى الشام ، وحين كان سنه لا يستغرب فيه الولد ، ولذلك سأله ، فعلمنا بذلك أنهما بشارتان فى وقتين بغلامين ، أحدهما بغير سؤال وهو إسحاق ، والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره ، فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح .ج - أن القول بأن الذبيح إسماعيل قد ورد - كما قال الإِمام ابن القيم - عن كثير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها .ثم قال الإِمام ابن القيم : وسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول : هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم فإن فيه : إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه " بكره " وفى لفظ " وحيده " ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاد إبراهيم .ومن العلماء الذين فصلوا القول فى هذه المسألة ، الإِمام ابن كثير ، فقد قال رحمه الله : " وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق ، وحكى ذلك عن طائفة من السلف ، حتى نقل عن بعض الصحابة - أيضاً - وليس ذلك فى كتاب ولا سنة ، وما أظن ذلك تُلُقَّى إلا عن أحبار أهل الكتاب ، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل ، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم ، وذكر أنه الذبيح ، ثم قال بعد ذلك : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين ) .ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا ( إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) وقال - تعالى - : ( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) أى : يولد له فى حياتهما ولد يسمى يعقوب ، فيكون من ذريته عقب ونسل .وقد قدمنا أنه لا يجوز بعد ذلك أن يؤمر بذبحه وهو صغير ، لأن الله قد وعدهما بأنه سيعقب ، ويكون له نسل ، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيراً ، وإسماعيل وصف هنا بالحلم ، لأنه مناسب لهذا المقام .قال الآلوسى - رحمه الله - بعد أن ساق أقوال العلماء فى ذلك بالتفصيل : " والذى أميل إليه أنه - أى الذبيح - إسماعيل - عليه السلام - ، بناء على أن ظاهر الآية يقتضيه ، وأنه المروى عن كثير من أئمة أهل البيت ، ولم أتيقن صحة حديث مرفوع يقتضى خلاف ذلك ، وحال أهل الكتاب لا يخفى على ذوى الألباب " .هذه بعض الأحكام والآداب التى يمكن أن نأخذها من هذه القصة ، التى حكاها - سبحانه - عن نبيه إبراهيم - عليه السلام - فى هذه السورة الكريمة ، وهناك أحكام وآداب أخرى يستطيع أن يستخلصها المتدبر فى هذه الآيات الكريمة .
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ
📘 ثم بين - سبحانه - مظهرا آخر من مظاهر فضله على نبيه إبراهيم فقال : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين . وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ )أى : ومن مظاهر تكريمنا لإبراهيم ، أننا بشرناه بولد آخر هو إسحاق ، الذى جعلناه نبيا من أنبيائنا الصالحين لحمل رسالتنا ، وأفضنا على إبراهيم وعلى إسحاق الكثير من بركاتنا الدينية والدنيوية ، بأن جعلنا عدداً كبيراً من الأنبياء من نسلهما .ومع ذلك فقد اقتضت حكمتنا أن نجعل من ذريتهما من هو محسن فى قوله وعمله ، ومن هو ظالم لنفسه بالكفر والمعاصى ظلما واضحا بينا ، وسنجازى كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب .هذا ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :1 - أن الرسل جميعا قد جاءوا من عند الله - تعالى - بدين واحد فى أصوله ، وأن كل واحد منهم قد سار على نهج سابقه فى الدعوة إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق ، وقد بين - سبحانه - فى مطلق هذه القصة ، أن إبراهيم كان من شيعة نوح - عليه السلام - أى : من أتباعه الذين ساروا على سنته فى دعوة الناس إلى عبادة الله وحده .وقد أمر - عز وجل - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدى بإخوانه السابقين من الأنبياء ، فقال : ( أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده ) 2 - أن تعاطى الحيل الشرعية من أجل إزالة المنكر ، أمر مشروع ، فإن إبراهيم - عليه السلام - لكى يقضى على الأصنام ، اعتذر لقومه عن الخروج معهم فى يوم عيدهم ، وقال لهم : إنى سقيم - بعد أن نظر فى النجوم .وكان مقصده من وراء ذلك ، أن يختلى بالأصنام ليحطمها ، ويثبت لقومه أنها لا تصلح للألوهية .3 - أن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أن يراعى - بفضله وكرمه - عباده المخلصين ، وأن ينصرهم على أعدائهم ، الذين يبيتون لهم الشرور والسوء .ونرى ذلك جليا فى هذه القصة ، فقد أضمر الكافرون لإِبراهيم الكيد والإِهلاك . فأنجاه الله - تعالى - من مكرهم ، كما قال - تعالى - : ( فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين ) .4 - أن على المؤمن إذا لم يتمكن من نشر دعوة الحق فى مكان معين أن ينتقل منه إلى مكان آخر متى كان قادرا على ذلك .وهذا ما فعله إبراهيم - عليه السلام - فقد قال لقومه بعد أن يئس من صلاحهم ، وبعد أن نجاه الله من كيدهم : ( إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .5 - أن الدعاء متى صدر من نفس عامرة بالإِيمان والتقوى ، ومن قلب سليم من الهوى . . كان جديراً بالإِجابة .فلقد تضرع إبراهيم إلى ربه أن يرزقه الذرية الصالحة ، فأجاب الله دعاءه .كما حكى - سبحانه - ذلك فى قوله : ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين . فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ )ثم قال - سبحانه - بعد ذلك : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين ) .6 - أن إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - قد ضربا أروع الأمثال فى صدق الإِيمان ، وفى الاستسلام لأمر الله - تعالى - وفى الرضاء بقضائه .فكافأهما - عز وجل - على ذلك مكافأة جزيلة ، بأن جعل الذكر الحسن باقيا لإِبراهيم إلى يوم القيامة ، وبأن افتدى الذبيح بذبح عظيم .قال - تعالى - : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين . سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين ) .7 - أن الذبيح الذى ورد ذكره فى هذه القصة ، والذى افتداه الله - تعالى - بذبح عظيم ، هو إسماعيل - عليه السلام - وعلى ذلك سار جمهورالعلماء ، وم أدلتهم على ما ذهبوا إليه ما يأتى :( أ ) أن سياق القصة يدل دلالة واضحة على أن الذبيح إسماعيل ، لأن الله - تعالى - حكى عن إبراهيم أنه تضرع إليه - تعالى -بقوله : ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين ) فبشره - سبحانه - ( بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ) ، وهذا الغلام عندما بلغ السن التى يمكنه معها مساعدة أبيه فى أعماله .قال له أبوه : ( يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى ) ثم افتدى الله - تعالى - هذا الغلام بذبح عظيم .ثم قال - تعالى - بعد كل ذلك : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين ) .وهذا يدل على أن المبشر به الأول وهو إسماعيل ، غير المبشر به الثانى وهو إسحاق .( ب ) أن البشارة بمولد إسحاق - عليه السلام - قد جاء الحديث عنها مفصلا فى سورة هود . وظروف هذه البشارة وملابساتها ، تختلف عن الظروف والملابسات التى وردت هنا فى سورة الصافات ، وقد أشار إلى ذلك الإِمام السيوطى فقال :وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضى القطع - أو ما يقرب منه - على أن الذبيح إسماعيل ، وذلك لأن البشارة وقعت مرتين :مرة فى قوله - تعالى - ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين . فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ . فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ . . ) .فهذه الآية قاطعة فى أن المبشر به هو الذبيح .ومرة فى قوله - فى سورة هود - ( وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ ) فقد صرح فيها بأن المبشر به إٍسحاق ، ولم يكن بسؤال من إبراهيم ، بل قالت امرأته إنها عجوز ، وأنه شيخ ، وكان ذلك فى بلاد الشام ، لما جاءت الملائكة إليه ، بسبب قوم لوط ، وكان إبراهيم فى آخره عمره .أما البشارة الأولى فكانت حين انتقل من العراق إلى الشام ، وحين كان سنه لا يستغرب فيه الولد ، ولذلك سأله ، فعلمنا بذلك أنهما بشارتان فى وقتين بغلامين ، أحدهما بغير سؤال وهو إسحاق ، والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره ، فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح .ج - أن القول بأن الذبيح إسماعيل قد ورد - كما قال الإِمام ابن القيم - عن كثير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها .ثم قال الإِمام ابن القيم : وسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول : هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم فإن فيه : إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه " بكره " وفى لفظ " وحيده " ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاد إبراهيم .ومن العلماء الذين فصلوا القول فى هذه المسألة ، الإِمام ابن كثير ، فقد قال رحمه الله : " وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق ، وحكى ذلك عن طائفة من السلف ، حتى نقل عن بعض الصحابة - أيضاً - وليس ذلك فى كتاب ولا سنة ، وما أظن ذلك تُلُقَّى إلا عن أحبار أهل الكتاب ، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل ، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم ، وذكر أنه الذبيح ، ثم قال بعد ذلك : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين ) .ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا ( إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) وقال - تعالى - : ( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) أى : يولد له فى حياتهما ولد يسمى يعقوب ، فيكون من ذريته عقب ونسل .وقد قدمنا أنه لا يجوز بعد ذلك أن يؤمر بذبحه وهو صغير ، لأن الله قد وعدهما بأنه سيعقب ، ويكون له نسل ، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيراً ، وإسماعيل وصف هنا بالحلم ، لأنه مناسب لهذا المقام .قال الآلوسى - رحمه الله - بعد أن ساق أقوال العلماء فى ذلك بالتفصيل : " والذى أميل إليه أنه - أى الذبيح - إسماعيل - عليه السلام - ، بناء على أن ظاهر الآية يقتضيه ، وأنه المروى عن كثير من أئمة أهل البيت ، ولم أتيقن صحة حديث مرفوع يقتضى خلاف ذلك ، وحال أهل الكتاب لا يخفى على ذوى الألباب " .هذه بعض الأحكام والآداب التى يمكن أن نأخذها من هذه القصة ، التى حكاها - سبحانه - عن نبيه إبراهيم - عليه السلام - فى هذه السورة الكريمة ، وهناك أحكام وآداب أخرى يستطيع أن يستخلصها المتدبر فى هذه الآيات الكريمة .
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ
📘 ثم ذكر - سبحانه - جانباً من قصة موسى وهارون - عليهما السلام - وهما من ذرية إبراهيم وإسحاق ، فقال - تعالى - :( وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى . . . ) .موسى : هو ابن عمران بن يصهر بن ماهيث بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق ، وكانت ولادته فى حوالى القرن الثالث عشر ق م .وهارون : أخو موسى ، قيل كان شقيقا له ، وقيل كان أخا له لأمه . .والمعنى : لقد أنعمنا على موسى - وهارون - عليهما السلام بنعمة النبوة ، وبغيرها من النعم الأخرى .
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ
📘 والتى من بينها أننا نجيناهما وقومهما المؤمنين ، من استعباد فرعون إياهم ، ومن ظلمه لهم .
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ
📘 ( وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الغالبين ) أى : ونصرنا موسى وهارون ومن آمن بهما . فكانوا بسبب هذا النصر الذى منحناهم إياه ، هم الغالبين لأعدائهم ، بعد أن كانوا تحت أسرهم وقهرهم .
وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ
📘 ( وَآتَيْنَاهُمَا ) بعد كل ذلك ( الكتاب المستبين ) أى : الكتاب المبين الواضح وهو التوراة .يقال : استيان الشئ ، إذا ظهر ووضح وضوحا تاما .
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
📘 ( وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم ) أى : وهديناهما وأرشدناهما - بفضلنا وإحساننا - إلى الطريق الواضح الذى لا عوج فيه .
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ
📘 ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين . سَلاَمٌ على موسى وَهَارُونَ ) أى : وأبقينا عليهما فى الأمم المتأخرة الثناء الجميل ، والذكر الحسن .
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - أن حال هؤلاء المشركين تدعو إلى العجب فقال : ( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) .قال الجمل : وقوله ( بَلْ عَجِبْتَ ) إضراب إما عن مقدر دل عليه قوله : ( فاستفتهم ) أى : هم لا يقرون بل عجبت ، وإما عن الأمر بالاستفتاء ، أى : لا تستفتهم فإنهم معاندون ، بل انظر إلى تفاوت حالك وحالهم .أى : بل عجبت - أيها الرسول الكريم - ومن حقك أن تعجب ، من إنكار هؤلاء الجاحدين لإِمكانية البعث ، مع هذه الأدلة الساطعة التى سقناها لهم على أن البعث حق .وجملة ( وَيَسْخَرُونَ ) حالية . أى : والحال أنهم يسخرون من تعجبك ومن إنكارك عليهم ذلك ، ومن إيمانك العميق بهذه الحقيقة ، حتى إنك لترددها على مسامعهم صباح مساء .قال الآلوسى : وقرأ حمزة والكسائى : ( بل عجبتُ ) - بضم التاء - . . وأولت هذه القراءة بأن ذلك من باب الفرض ، أى : لو كان العجب مما يجوز علىَّ لعجبت من هذه الحال .ثم قال : والذى يقتضيه كلام السلف أن العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل للسبب ، ولذا قيل : إذا ظهر السبب بطل العجب ، وهو فى الله - تعالى - بمعنى يليق لذاته - تعالى - وهو - سبحانه - أعلم به ، فلا يعينون معناه .
سَلَامٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ
📘 ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين . سَلاَمٌ على موسى وَهَارُونَ ) أى : وأبقينا عليهما فى الأمم المتأخرة الثناء الجميل ، والذكر الحسن .
إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
📘 ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين ) أى : مثل هذا التكريم نجازى عبادنا المسحنين.
إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
📘 ( إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين ) أى الذين صدقوا فى إيمانهم ، وفى طاعتهم لنا .
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
📘 ثم ساق - سبحانه - جانبا من قصة إلياس - عليه السلام - وهو أيضاً من ذرية إبراهيم وإسحاق ، فقال - تعالى - :( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ . . . ) .إلياس - عليه السلام - هو ابن فنحاص بن العيزار بن هارون - عليه السلام - فهو ينتهى نسبه - أيضا - إلى إبراهيم وإسحاق .ويعرف إلياس فى كتب الإِسرائيليين باسم ( إيليا ) وقد أرسله الله - تعالى - إلى قوم كانوا يعبدون صنما يسمونه بعلا .ويقال : إن رسالته كانت فى عهد " آخاب " أحد ملوك بنى إسرائيل فى حوالى القرن العاشر ق م .والمعنى : ( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين ) الذين أرسلناهم إلى الناس ليخرجوهم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان .
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ
📘 وقوله : ( إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ ) شروع فى بيان ما نصح به إلياس قومه ، والظرف مفعول لفعل محذوف ، والتقدير اذكر وقت أن قال لقومه ألا تتقون الله . وتخشون عذابه ونقمته . والاستفهام للحض على تقوى الله - تعالى - واجتناب ما يغضبه .
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ
📘 ثم أنكر عليهم عبادتهم لغيره - سبحانه - فقال : ( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين ) .والبعل : اسم للصنم الذى كان يعبده قومه ، وهو صنم قيل : سميت باسمه مدينة بعلبك بالشام ، وكان قومه يسكنون فيها ، وقيل : البعل : الرب بلغة اليمن .أى : قال لهم على سبيل التوبيخ والزجر : أتعبدون صنما لا يضر ولا ينفع وتتركون عبادة أحسن ما يقال له خالق ، وهو الله - عز وجل - الذى خلقكم ورزقكم .
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ
📘 ولفظ الجلالة فى قوله : ( الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ الأولين ) بدل من ( أَحْسَنَ الخالقين ) .أى : أتعبدون صنما صنعتموه بأيديكم ، وتذرون عبادة الله - تعالى - الذى هو ربكم ورب آبائكم الأولين .وقرأ غير واحد من القراء السبعة ( الله ) - بالرفع - على أنه مبتدأ ، و ( ربكم ) خبره .والتعرض لذكر ربوبيته - تعالى - لآبائهم الأولين ، الغرض منه التأكيد على بطلان عبادتهم لغيره - سبحانه - فكأنه يقول لهم : إن الله - تعالى - الذى أدعوكم لعبادته وحده ليس هو ربكم وحدكم بل - أيضاً - رب آبائكم الأولين ، الذين من طريقهم أتيتم إلى هذه الحياة .
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
📘 وقوله - تعالى - ( فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) بيان لموقفهم من نبيهم ، ولما حل بهم من عذاب بسبب إعراضهم عن دعوته .أى : دعا إلياس قومه على عبادة الله - تعالى - وحده ، فكذبوه وأعرضوا عن دعوته ، وسيترتب على تكذيبهم هذا ، إحضارهم إلى جهنم إحضارا فيه ذلهم وهوانهم .
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
📘 ( إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين ) فإنهم ناجون من الإِحضار الأليم ، لأنهم سيكونون يوم القيامة محل تكريمنا وإحساننا .
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ
📘 ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين ) أى : وأبقينا على إلياس فى الأمم الآخرين .
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ
📘 وقوله - تعالى - ( وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ . وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ) بيان لشدة تماديهم فى الباطل ، وإصرارهم عليه .أى : أن هؤلاء القوم من دأبهم ومن صفاتهم الملازمة لهم ، أنهم إذا وعظوا بما ينفعهم لا يتعظون .
سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ
📘 ( سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ ) أى : أمان وتحية منا ومنهم على إلياس ومن آمن معه .( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين ) َ
إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
📘 ( سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ ) أى : أمان وتحية منا ومنهم على إلياس ومن آمن معه .( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين ) َ
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
📘 ( سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ ) أى : أمان وتحية منا ومنهم على إلياس ومن آمن معه .( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين ) َ
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
📘 ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانبا من قصة لوط مع قوم . فقال - تعالى - :( وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ . . . ) .لوط - عليه السلام - هو ابن أخ لسيدنا إبراهيم - عليه السلام - وكان قد آمن به وهاجر معه ، كما فى قوله - تعالى - ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي ) وقد أرسل الله - تعالى - لوطا إلى قرية سدوم - من قرى الشام - وكان أهلها يعبدون الأصنام ويرتكبون الفاحشة ، التى لم يسبقهم إليها أحد من العالمين .أى : ( لَّمِنَ المرسلين ) الذين أرسلناهم لهداية الناس .
إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ
📘 ( إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ) أى : اذكر - أيها العاقل - وقت أن نجيناه وجميع المؤمنين معه ، بفضلنا ورحمتنا .
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ
📘 ( إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين ) والمراد بالعجوز : أمرأته التى بقيت على كفرها وكانت تفشى أسرار زوجها ، أى : نجينا لوطا والمؤمنين معه من أهله ، إلا عجوزا بقيت فى العذاب مع القوم الغابرين أى : مع الباقين فى العذاب .
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
📘 ( ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين ) أى : ثم دمرنا القوم الآخرين الباقين على كفرهم ، كما دمرنا من بقى على كفره من أهل لوط ، كامرأته التى أعرضت عن دعوة الحق ، وانحازت إلى قومها المفسدين .
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
📘 ثم وجه - سبحانه - الخطاب لمشركى قريش فقال : ( وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ . وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ؟أى : وإنكم يا أهل مكة لتمرون على مساكن قوم لوط المهلكين ، وأنتم سائرون إلى بلاد الشام ، تارة تمرون عليهم وأنتم داخلون فى وقت الصباح ، تارة تمرون عليهم وأنتم داخلونفى وقت الليل ، وترون بأعينكم ما حل بهم من دمار .
وَبِاللَّيْلِ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
📘 وقوله ( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) معطوف على مقدر ، أى : أتشاهدون ذلك فلا تعقلون ، فالاستفهام للتوبيخ والحض على الاعتبار بأحوال الماضين .
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
📘 ثم ختم - سبحانه - هذه القصص ، بذكر جانب من قصة يونس - عليه السلام - فقال :( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ . . . ) .يونس - عليه السلام - : هو ابن متى ، وقد ثبت فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما ينبغى لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى " .وملخص قصته أن الله - تعالى - أرسله إلى أهل نينوى بالعراق ، وفى حوالى القرن الثامن قبل الميلاد ، فدعاهم إلى إخلاص العبادة لله - فاستعصوا عليه ، فضاق بهم ذرعا ، وأخبرهم أن العذاب سيأتيهم خلال ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الثالث خرج يونس من بلدة قومه ، قبل أن يأذن الله له بالخروج ، فلما افتقده قومه ، آمنوا وتابوا ، وتضرعوا بالدعاء إلى الله قبل أن ينزل بهم العذاب .فلما لم ير يونس نزول العذاب ، استحى أن يرجع إليهم وقال : لا أرجع إليهم كذابا أبدا ، ومضى على وجهه فأتى سفينة فركبها فلما وصلت اللجنة وقفت ولم تتحرك .فقال صاحبها : ما يمنعها أن تسير إلا أن فيكم رجلا مشئوما ، فاقترعوا ليلقوا فى البحر من وقعت عليه القرعة ، فكانت على يونس ثم أعادوها فوقعت عليه ، فلما رأى ذلك ألقى بنفسه فى البحر ، فالتقمه الحوت .والمعنى : وإن يونس - عليه السلام - لمن المرسلين الذين اصطفيناهم لحمل رسالتنا وتبليغها إلى الناس .
وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ
📘 وإذا رأوى آية واضحة فى دلالتها على الحق ( يَسْتَسْخِرُونَ ) أى : يبالغون فى السخرية وفى الاستهزاء بها ، يقال : استسخر القوم من الشئ ، إذا استدعى بعضهم بعضا للاستهزاء به .
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
📘 ( إِذْ أَبَقَ ) أى : هرب من قومه بغير إذن من ربه - يقال : أبق العبد - كضرب ومنع - إذا هرب من سيده فهو آبق .( إِلَى الفلك المشحون ) أى : هرب من قومه إلى الفلك الملئ بالناس والأمتعة.
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
📘 ( فَسَاهَمَ ) أى : فقارع من فى السفينة بالسهام ، يقال : استهم القوم إذا اقترعوا ( فَكَانَ مِنَ المدحضين ) .أى : من المغلوبين حيث وقعت عليه القرعة دون سواء . يقال : دحضت حجة فلان ، إذا بطلت وخسرت .
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ
📘 ( فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ ) أى بعد أن وقعت القرعة عليه ، ألقى بنفسه فى البحر ، ( فالتقمه الحوت ) أى : ابتلعه بسرعة : يقال : لَقِم فلان الطعام - كسمع - والتقمه ، إذا ابتلعه بسرعة ، وتَلَّقمه إذا ابتلعه على مهل .وجملة ( وَهُوَ مُلِيمٌ ) حالية فى محل نصب ، أى : فالتقمه الحوت وهو مكتسب من الأفعال ما يلام عليه ، حيث غادر قومه بدون إذن من ربه .يقال : رجل مليم ، إذا أتى من الأقوال أو الأفعال ما يلام عليه ، وهو اسم فاعل من ألاَم الرجل ، إذا أتى ما يلام عليه .
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ
📘 ( فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين . لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) أى : فلولا أن يونس - عليه السلام - كان من المسبحين لله - تعالى - المداومين على ذكره . لولا هذا التسبيح للبث يونس فى تفريج الكروب ، وإزالة الهموم ، بإذن الله ورحمته . وفى الحديث الشريف : " تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة " .ورحم الله الإِمام القرطبى فقد قال : " أخبر الله - عز وجل - أن يونس كان من المسبحين ، وأن تسبيحه كان سبب نجاته ، ولذا قيل : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثَر .وفى الحديث الشريف : " من استطاع منكم أن تكون له خبيثة من عمل صالح فليفعل " فليجتهد العبد ، ويحرص على خصلة من صالح عمله ، يخلص فيها بينه وبين ربه ، ويدخرها ليوم فاقته وفقره ، ويسترها عن خلق الله ، لكى يصل إليه نفعها وهو أحوج ما يكون إليه .
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
📘 ( فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين . لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) أى : فلولا أن يونس - عليه السلام - كان من المسبحين لله - تعالى - المداومين على ذكره . لولا هذا التسبيح للبث يونس فى تفريج الكروب ، وإزالة الهموم ، بإذن الله ورحمته . وفى الحديث الشريف : " تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة " .ورحم الله الإِمام القرطبى فقد قال : " أخبر الله - عز وجل - أن يونس كان من المسبحين ، وأن تسبيحه كان سبب نجاته ، ولذا قيل : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثَر .وفى الحديث الشريف : " من استطاع منكم أن تكون له خبيثة من عمل صالح فليفعل " فليجتهد العبد ، ويحرص على خصلة من صالح عمله ، يخلص فيها بينه وبين ربه ، ويدخرها ليوم فاقته وفقره ، ويسترها عن خلق الله ، لكى يصل إليه نفعها وهو أحوج ما يكون إليه .
۞ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ
📘 فنبذناه بالعراء وهو سقيم ، والنبذ : الطرح ، والعراء ، الخلاء .أى : أن يونس - عليه السلام - بعد أن التقمه الحوت أخذ فى الإِكثار من تسبيحنا ومن دعائنا ، فاستجبنا له دعاءه ، وأمرنا الحوت بطرحه فى الفضاء الواسع من الأرض .وجملة ( وَهُوَ سَقِيمٌ ) حالية . أى : ألقيناه بالأرض الفضاء حالة كونه عليلا سقيما ، لشدة ما لحقه من تعب وهو فى بطن الحوت .
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ
📘 ( وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ) أى : ومن مظاهر رحمتنا به ، أننا جعلنا فوقه شجرة من يقطين لكى تظلل عليه وتمنع عنه الحر .واليقطين : يطلق على كل شجر لا يقوم على ساق ، كالبطيخ والقثاي والقرع وهو مأخذو من قطن بالمكان إذا أقام به .وقد قالوا إن المراد بهذه الشجرة ، هى شجرة القرع ، وقيل غير ذلك .
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ
📘 ( وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ . فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ ) أى : وبعد أن تداركته رحمتنا ، وأخرجناه من بطن الحوت ، ورعيناه برعايتنا ، أرسلناه إلى مائة ألف من الناس أو يزيدون على ذلك فى نظر الناظر إليهم .
فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ
📘 فآمنوا جميعا ( فَمَتَّعْنَاهُمْ ) بالحياة ( إلى حِينٍ ) انتهاء آجالهم .قال الإِمام ابن كثير : ولا مانع من أن يكون الذين أرسل إليهم أولا ، أمر بالعودة إليهم بعد خروجه من بطن الحوت ، فصدقوه كلهم ، وآمنوا به ، وحكى البغوى أنه أرسل إلى أة أخرى بعد خروجه من بطن الحوت ، فصدقوه كلهم ، وآمنوا به ، وحكى البغى أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت ، كانوا مائة ألف ما أو يزيدون .هذا ومن العبر التى نأخذها من هذه القصة ، أن رحمة الله - تعالى - قريب من المحسنين ، وأن العبد إذا تاب توبة صادقة نصوحا ، وفى الوقت الذى تقبل فيه التوبة ، قبل الله - تعالى - توبته ، وفرج عنه كربه ، وأن التسبيح يكون سببا فى رفع البلاء .وبعد هذه الجولة مع قصص بعض الأنبياء ، أمر الله - تعالى - قريب من المحسنين ، وأن العبد إذا تاب توبة صادقة نصوحا ، وفى الوقت الذى تقبل فيه التوبة ، قبل الله - تعالى - توبته ، وفرج عنه كربه ، وأن التسبيح يكون سببا فى رفع البلاء .
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ
📘 وبعد هذه الجولة مع قصص بعض الأنبياء ، أمر الله - تعالى - رسولة صلى الله عليه وسلم أن يسأل هؤلاء المشركين ، سؤال توبيخ وتأنيب ، عما قالوه فى شأن الملائكة من باطل وزور ، وأن يرد على أكاذيبهم ردا يخرص ألسنتهم فقال - تعالى - :( فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات . . . ) .قوله - تعالى - ( فاستفتهم . . . ) معطوف على قوله - تعالى - فى أوائل السورة ( فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ . . . ) عطف جملة على جملة . والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والاستفتاء : الاستخبار والاستفهام وطلب الفتيا من المفتى .أى : أسأل - أيها الرسول - هؤلاء المشركين سؤال تقريع وتأنيب : ( أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون ) أى : أسأله بأى وجه من وجوه القسمة جعلوا لربك البنات وجعلوا لأنفسهم البنين؟ إن قسمتهم هذه لهى قسمة جائرة وفاسدة عند كل عاقل ، لأنه لا يليق فى أى عقل أن يجعلوا لله - تعالى - الجنس الأدنى وهو جنس الإِناث ، بينما يجعلون لأنفسهم الجنس الأعلى .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - ( أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى . تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى ) قال صاحب الكشاف : ( فاستفتهم ) معطوف على مثله فى أول السورة ، وإن تباعدت بينهما المسافة ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث أولا . ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التى قسموها ، حيث جعلوا لله الإِناث ولأنفسهم الذكور ، فى قولهم الملائكة بنات الله ، مع كراهتهم الشديدة لهن . ولقد ارتكبوا فى ذلك ثلاثة أنواع من الكفر :أحدها : التجسيم ، لأن الولادة مختصة بالأجسام .والثانى : تفضيل أنفسهم على ربهم ، حيث جعلوا أوضع الجنسين له ، وأرفعهما لهم .والثالث : أنهم استهانوا بأكرم خلق الله ، وأقربهم إليه ، حيث أنثوهم . ولو قيل لأقلهم وأدناهم : فيك أنوثة ، أو شكلك شكل النساء ، للبس لقائله جلد النمور ، ولا نقلبت حماليقه - أى : أجفان عينيه .
وَقَالُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
📘 ثم بين - سبحانه - أنهم لا يكتفون بالسخرية ، بل قالوا أقوالا تدل على جحودهم وجهلهم ، فقال - تعالى - ( وقالوا إِن هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ) .أى : وقالوا - على سبيل الجحود والعناد - ما هذا الذى أتانا به محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا سحر واضح بين ، ولا يشك أحد منا فى كونه كذلك .
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ
📘 وقوله - سبحانه - : ( أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ) تقريع آخر لهم على جهالاتهم وسفههم ، حيث أضرب - سبحانه - عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه فى التبكيت والتأنيب .أى : إنهم زعموا أنه لربك البنات ولهم البنون ، فهل كانوا حاضرين وقت أن خلقنا الملائكة حتى يعرفوا أنهم إناث؟ كلا إنهم لم يكونوا حاضرين وإنما هم يهرفون بما لا يعرفون .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : ( وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قال : ( وَهُمْ شَاهِدُونَ ) فخص علم المشاهدة .قلت : ما هو إلا الاستهزاء بهم وتجهيل . . وذلك لأنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة ، لم يعلموه بخلق علمه فى قلوبهم ، ولا بإخبار صادق ، ولا بطريق استدلال ونظر .
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ
📘 ثم أخبر - سبحانه - عن كذبهم فقال : ( أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ . وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) والإِفك : أشنع الكذب وأقبحه . يقال : أفِك فلان كضرب وعلم - إِفْكا وأَفْكاً ، إذا كذب كذبا فاحشا .أى : ألا إن هؤلاء الكافرين .
وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
📘 من شدة كذبهم ، وشناعة جهلهم ليقولون زوراً وبهتانا : ( وَلَدَ الله ) أى : اتخذ الله ولدا ( وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) فى ذلك كذبا ( تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً ) وافتتحت الآية الكريمة بأداة الاستفتاح " ألا " لتأكيد قولهم ، وأ ، هم كانوا مصرين على هذا القول الذى لا نهاية لبطلانه .
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ
📘 ثم كرر - سبحانه - توبيخهم وتقريعهم فقال : ( أَصْطَفَى البنات على البنين ) والاصطفاء : الاختيار والانتفاء . والاستفهام للإِنكار والنفى ، أى : هل اختار الله البنات على البنين فى زعمهم؟ كلا إن الله - تعالى - لم : يفعل شيئا من ذلك لأنه - سبحانه - غنى عن العالمين .
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
📘 ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) أى : أى شئ حدث لكم ، وكيف أصدرتم هذه الأحكام الظاهرة البطلان عند كل من كان عنده أثر من عقل .
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
📘 ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) أى : أى شئ حدث لكم ، وكيف أصدرتم هذه الأحكام الظاهرة البطلان عند كل من كان عنده أثر من عقل .
أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ
📘 ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) أى : أى شئ حدث لكم ، وكيف أصدرتم هذه الأحكام الظاهرة البطلان عند كل من كان عنده أثر من عقل .
فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
📘 ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) أى : أى شئ حدث لكم ، وكيف أصدرتم هذه الأحكام الظاهرة البطلان عند كل من كان عنده أثر من عقل .
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ۚ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
📘 ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) أى : أى شئ حدث لكم ، وكيف أصدرتم هذه الأحكام الظاهرة البطلان عند كل من كان عنده أثر من عقل .
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ
📘 ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) أى : أى شئ حدث لكم ، وكيف أصدرتم هذه الأحكام الظاهرة البطلان عند كل من كان عنده أثر من عقل .
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
📘 ( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ . أَوَ آبَآؤُنَا الأولون ) .أى : أنهم لم يكتفوا بقولهم : إن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم سحر واضح ، بل أضافوا إلى ذلك على سبيل المبالغة فى الإِنكار لما جاءهم به قولهم : أئذا متنا وانتهت حياتنا ووضعنا فى قبورنا ، وصرنا تراباً وعظاما أئنا لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى؟ وهل آباؤنا الأولون الذين صاروا من قبلنا عظاما ورفاتا يبعثون أيضاً؟ولا شك أن قولهم هذا دليل واضح على انطماس بصائرهم ، وعلى شدة غفلتهم عن آثار قدرة الله - تعالى - التى لا يعجزها شئ . والتى من آثارها إيجادهم من العدم .
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
📘 ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) أى : أى شئ حدث لكم ، وكيف أصدرتم هذه الأحكام الظاهرة البطلان عند كل من كان عنده أثر من عقل .
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ
📘 ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) أى : أى شئ حدث لكم ، وكيف أصدرتم هذه الأحكام الظاهرة البطلان عند كل من كان عنده أثر من عقل .
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ
📘 وقوله : ( مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ) نافية والضمير فى " عليه " يعود على الله - عز وجل - والجار والمجرور متعلق ( بفاتنين ) والمراد بالفتن : هنا الإِفساد ، من قولهم : فلا نفتن على فلان خادمة . إذا أفسده . وجملة ( مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ) خبر إن .
إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ
📘 و ( صال ) - بكسر اللام - اسم فاعل منقوص - كقاض - مضاف إلى ما بعده . وحذفت ياؤه لالتقاء الساكنين .والمعنى : إذا أدركتم - أيها المشركون - ما قلناه لكم . فثقوا أنكم أنتم وآلهتكم لن تستطيعوا أن تضلوا أحدا هداه الله - تعالى - لكنكم تستطيعون أن تضلوا من كان من أهل الجحيم مثلكم .فالمقصود بهذه الآيات الكريمة ، الاستخفاف بالمشركين وبآلهتهم ، وبيان أن من هداه الله ، تعالى - لا سلطان لهم عليه فى إغوائه أو إضلاله .قال صاحب الكشاف : والضمير فى " عليه " لله - تعالى - ومعناه : فإنكم ومعبوديكم ما أنتم وهم جميعا بفاتنين على الله ، إلا أصحاب النار الذين سبق فى علمه أنهم لسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها .فإن قلت : كيف يتفنونهم على الله؟ قلت : يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم .من قولك : فتن فلان على فلان امرأته ، كما تقول : أفسدها وخيبها عليه . .
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ
📘 ثم بين - سبحانه - أن الملائكة معترفون اعترافا تاما بطاعتهم لله - تعالى - وبمداومتهم على عبادته وتسبيحه فقال : ( وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ . وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون . وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون )أى : لقد اعترف الملائكة بطاعتهم الكاملة لله - تعالى - وقالوا : وما منا أحد إلا له مقام معلوم فى عبادة الله - تعالى - وطاعته .
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ
📘 وإنا لنحن الصافون أنفسنا فى مواقف العبودية والطاعة لله - عز وجل .
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ
📘 وإنا لنحن المسبحون والمنزهون له - تعالى - عن كل مالا يليق به .وقد ذكر الإِمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه : " أطَّتْ اسماء وحق لها أن تَئِط - أى سمع لها صوت شديد - ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد "، ثم قرأ : ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون . وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون )
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ
📘 ثم أخبر - سبحانه - عن حال المشركين قبل أن يأتيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ . لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين . لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين . فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) .و " إن " فى قوله ( وَإِن كَانُواْ . . . ) هى المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير محذوف .والقائلون هم كفار مكة ، والفاء فى قوله ( فَكَفَرُواْ بِهِ ) وهى الفصيحة الدالة على محذوف مقدر .والمعنى إن حال هؤلاء الكافرين وشأنهم ، أنهم كانوا يقولون قبل مجئ الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم.
لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ
📘 ( لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين ) أى : لو أن عندنا كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإِنجيل لكنا عباد الله المخلصين
لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
📘 لكنا عباد الله المخلصين: أى : لكنا بسبب وجود هذا الكتاب من عباد الله الذين يخلصون له العبادة والطاعة .
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ
📘 ( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ . أَوَ آبَآؤُنَا الأولون ) .أى : أنهم لم يكتفوا بقولهم : إن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم سحر واضح ، بل أضافوا إلى ذلك على سبيل المبالغة فى الإِنكار لما جاءهم به قولهم : أئذا متنا وانتهت حياتنا ووضعنا فى قبورنا ، وصرنا تراباً وعظاما أئنا لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى؟ وهل آباؤنا الأولون الذين صاروا من قبلنا عظاما ورفاتا يبعثون أيضاً؟ولا شك أن قولهم هذا دليل واضح على انطماس بصائرهم ، وعلى شدة غفلتهم عن آثار قدرة الله - تعالى - التى لا يعجزها شئ . والتى من آثارها إيجادهم من العدم .
فَكَفَرُوا بِهِ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
📘 فجاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالكتاب المبين كما تمنوا وطلبوا ، فكانت النتيجة أن كفروا به ، فسوف يعلمون سوء عاقبة هذا الكفر ، ( يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ).
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ
📘 ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببشارة المؤمنين بنصره ، وبتسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه ، فقال - تعالى - :( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا . . . ) .المراد بكلمتنا فى قوله : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا . . ) ما وعد الله - تعالى - به رسله وعباده الصالحين من جعل العاقبة الطيبة لهم .
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ
📘 ومن الآيات التى ودرت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد ) وقوله - سبحانه - ( كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) أى : والله لقد سبق وعدنا لعبادنا المرسلين بالنصر والفوز ( إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون ) على أعدائهم.
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ
📘 ( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون ) لمن عاداهم وناوأهم .وهذا الوعد بالنصر لا يتعارض مع هزيمتهم فى بعض المواطن - كيوم أحد مثلا - لأن هذه الهزيمة إنما هى لون من الابتلاء الذى اقتضته حكمة الله - تعالى - ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه ، أما النصر فى النهاية فهو للمؤمنين وهذا ما حكاه لنا التاريخ الصحيح ، فقد تم فتح مكة ، ودخل الناس فى دين الله أفواجا ، بعد أن جاهد النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهزموا الكافرين ، ولم يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا إلا بعد أن صارت كلمة الله هى العليا ، وكلمة الذين كفروا هى السفلى .
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ
📘 ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين ، وبالصبر على أذاهم ، فقال : ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ ) أى : فأعرض عنهم إلى وقت الذى يأذن الله لك فيه بقتالهم.
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ
📘 ( وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) أى : وانظر إليهم وراقبهم عندما ينزل بهم عذابنا ، فسوف يبصرون هم ذلك فى دنياهم وفى آخرتهم .والأمر بمشاهدة ذلك : إشعار بأن نصره صلى الله عليه وسلم عليهم ، آت لا ريب فيه حتى لكأنه وواقع بين يديه ، مشاهد أمامه .
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ
📘 والاستفهام فى قوله - سبحانه - : ( أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ) للتوبيخ والتأنيب .أى أبلغ الجهل وانطماس البصيرة بهؤلاء المشركين ، أنهم يستعجلون عذابنا .عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن المشركين قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم : يا محمد أرنا العذاب الذى تخوفنا به ، فنزلت هذه الآية .
فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - حالهم عندما ينزل بهم هذا العذاب الذى استعجلوا نزوله فقال ( فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين ) .والساحة فى الأصل تطلق على الفتاء الواسع للدار والمراد بها هنا القوم الذين يكونون فيها والمخصوص بالذم محذوف .أى : فإذا نزل العذاب بهؤلاء المشركين ، فبئس الصباح صباحهم . ولن ينفعهم حينئذ ندم أو توبة ، وخص الصباح بالذكر ، لأن العذاب كان يأتيهم فيه فى الغالب .أخرج الشيخان عن أنس ، رضى الله عنه . قال : " صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش ، رجعوا يقولون : محمد والله ، محمد والخميس - أى : والجيش فقال صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " " .
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ
📘 ثم كرر - سبحانه - تهديده ووعيده لهم على سبيل التأكيد لعلهم يعتبرون فقال : ( وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ . وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) أى : وأعرض عنهم حتى حين .
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ
📘 وأبصر ما توعدناهم به من عذاب أليم ، فسوف يبصرون هم ذلك .
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ
📘 ولذا لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يخرس ألسنتهم فقال : ( قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ) .أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - ستبعثون أنتم وآباؤكم الأقدمون ، وأنتم جميعا ( دَاخِرُونَ ) أى : صاغرون مستسلمون ، لا تستطيعون التأخر أو التردد . . يقال : دخر الشخص يدخر - بفتح الخاء - دخورا ، إذا ذل وصغر وهان .
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ
📘 ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ ) أى : تنزه وتقدس ربك - أيها الرسول الكريم - عما وصفه به الواصفون الجاهلون من صفات لا تليق بذاته .وقوله ( رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ ) بدل من ربك : أى هو صاحب العزة والغلبة والقوة التى لا يقف أمام قوتها شئ والتى لا يملكها أحد سواه .
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ
📘 ( وَسَلاَمٌ على المرسلين ) أى : سلام وأمان وتحية منا على المرسلين.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
📘 ( والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ) أى : والثناء الكامل لله - تعالى - رب العالمين جميعا وخالقهم ورازقهم ، ومحييهم ومميتهم .
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - أن بعثهم من قبورهم إنما يقع بصيحة واحدة فقال : ( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ )والزجرة واحدة من الزجر ، يقال : زجر الراعى غنمه إذا صاح عليها ، ومنعها من شئ معين . والضمير راجع إلى البعثة المدلول عليها بسياق الكلام ، والفاء : هى الفصيحة .أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا . فإنما بعثهم من مرقدهم يكون بصيحة واحدة يصيحها إسرافيل فيهم بأمرنا ، فإذا هم قيام من قبورهم ينظرون إلى ما حولهم فى ذهول ، وينتظرون فى استسلام وذلة حكم الله - تعالى - فيهم .والمراد بهذه الزجرة : النفخة الثانية التى يقوم بها إسرافيل بأمر الله - تعالى - كما قال - تعالى - : ( وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) والتعبير عن الصيحة بالزجرة للدلالة على شدتها وعنفها على هؤلاء المشركين ، وأنها قد أتتهم ممن لا يستطيعون معصية أمره .
فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا
📘 و ( الزاجرات ) : من الزجر ، وهو الدفع بقوة . تقول : زجرت الإِبل زجرا - من باب قتل - إذا منعتها من الدخول فى شئ ودفعتها إلى غيره .
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَٰذَا يَوْمُ الدِّينِ
📘 ثم بين - سبحانه - أحوالهم بعد هذه الزجرة فقال : ( وَقَالُواْ ياويلنا ) أى : وقالوا بعد أن خرجوا من قبورهم فى ذهول : ( ياويلنا ) أى : يا هلا كنا أحضر فهذا أوان حضورك .وقولهك ( هذا يَوْمُ الدين ) يصح أن يكون من كلام بعضهم مع بعض بعد أن رأوا أن ما كانوا ينكرونه ، قد أصبح حقيقة واقعة أمام أعينهم .أى : قال بعضهم لبعضهم فى ذعر وفزع : يا ويلنا هذا يوم الجزاء على الأعمال . الذى كنا ننكره فى الدنيا ، قد أصبح حقيقة ماثلة أمام أعيننا .
هَٰذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
📘 ويصح أن يكون هو وما بعده ، وهو قوله - تعالى - : ( هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) من كلام الملائكة على سبيل التأنيب لهم .أى : تقول لهم الملائكة : اطلبوا ما شئتم من الويل والهلاك ، فهذا اليوم هو يوم الجزاء على الأعمال ، وهو يوم الفصل والقضاء الذى كنتم تكذبون به فى الدنيا ، وتستهزئون ممن يأمركم بحسن الاستعداد له ، وينذركم بسوء المصير إذا ما سرتم فى طريق الكفر به ، والإِنكار له .
۞ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - حكمه العادل فيهم ، وصور أحوالهم البائسة تصويرا تقشعر من هوله الجلود ، وحكى جانبا من حسراتهم خلال تساؤلهم فيما بينهم فقال - تعالى - :( احشروا الذين . . . ) .قوله - تعالى - : ( احشروا ) من الحشر بمعنى الجمع مع السوق يقال : حشر القائد جنده حشرا - من باب قتل - إذا جمعهم . والمحشر : المكان الذى يجتمع فيه الخلائق .والمراد بالذين ظلموا : المشركون الذين أشركوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة ومن الآيات التى وردت وأطلق فيها الظلم على الشرك والكفر ، قوله - تعالى - : ( إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) وقوله - سبحانه - ( والكافرون هُمُ الظالمون ) وقد ثبت فى الحديث الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم فسر الظلم بالشرك فى قوله - تعالى - : ( الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ) والمراد بأزواجهم : أشباههم ، ونظراؤهم وأمثالهم فى الشرك والكفر ، وهذا التفسير مأثور عن عدد من الصحابة والتابعين ، منهم عمر بن الخطاب ، والنعمان بن بشير ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ومجاهد ، وأبو العالية .وقيل المراد بأزواجهم . قرناؤهم من الشياطين ، بأن يحشر كل كافر مع شيطانه .وقيل المراد بهم : نساؤهم اللائى كن على دينهم ، بأن كن مشركات فى الدنيا كأزواجهن ، ويبدو لنا أن جميع من ذكروا محشور . والعياذ بالله . إلى جهنم . إلا أن تفسير الأزواج هنا : بالأشباه والنظائر والأصناف أولى ، خصوصا وأن إطلاق الأزواج على الأصناف والأشباه جاء كثيرا فى القرآن الكريم ومن ذلك قوله - تعالى - : ( سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ) والمراد بما كانوا يعبدونه : الآلهة الباطلة التى كانوا فى الدنيا يعبدونها من دون الله ، كالأصنام والأوثان .والأمر من الله - تعالى - للملائكة فى هذا اليوم الشديد ، وهو يوم القيامة .أى : احشروا واجمعوا الذين كانوا مشركين فى الدنيا ، واجمعوا معهم كل من كان على شاكلتهم فى الكفر والضلال ، ثم اجمعوا معهم - أيضا - آلهتهم الباطلة التى عبدوها من دون الله - تعالى - ثم ألقوا بها جميعا فى جهنم ، ليذوقوا سعيرها وحرها .وفى حشر الآلهة الباطلة مع عابديها ، زيادة تحسؤر وتخجيل لهؤلاء العابدين لأنهم رأوا بأعينهم بطلان وخسران ما كانوا يفعلونه فى الدنيا .
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْجَحِيمِ
📘 والضمير فى قوله : ( فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم ) يعود إلى المشركين وأشباههم وآلهتهم . وقوله ( فاهدوهم ) من الهداية بمعنى الدلالة على الشئ والإرشاد إليه .أى : احشروهم جميعا إلى جهنم ، وعرفوهم طريقها إن كانوا لا يعرفونه ، وأروهم إياه إن كانوا لا يرونه .والتعبير بالهداية والصراط فيه ما فيه من التهكم بهم ، والتأنيب لهم فكأنه - سبحانه - يقول : بما أنهم لم يهتدوا فى الدنيا إلى الخير وإلى الحق ، وإلى الصراط المستقيم ، فليهتدوا فى الآخرة إلى صراط الجحيم .
وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ
📘 وقوله - سبحانه - ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ) زيادة فى توبيخهم وإذلالهم ، والوقف هنا : بمعنى الحبس .قال القرطبى : يقال : وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هى وقوفا : أى : احبسوهم ، وهذا يكون قبل السوق إلى الجحيم ، وفيه تقديم وتأخير أى : قفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار . . أى : واحبسوهم فى موقف الحساب ، لأنهم مسئولون عما كانوا يقترفونه فى الدنيا من عقائد زائفة ، وأفعال منكرة ، وأقوال باطلة .ولا تعارض بين هذه الآية وأمثالها من الآيات التى صرحت بأن المجرمين يسألون يوم القيامة ، وبين آيات أخرى صرحت بأنهم لا يسألون كما فى قوله - تعالى - : ( فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ) أقول لا تعارض بين هذه الآيات ، لأن فى يوم القيامة مواقف متعددة ، فقد يسألون فى موقف ولا يسألون فى آخر . . أو أن السؤال المثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع والسؤال المنفى هو سؤال الاستعلام والاستخبار .
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ
📘 قوله - تعالى - ( مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ) تقريع آخر لهم ، أى : ما الذى جعلكم فى هذا اليوم عاجزين عن التناصر فيما بينكم - أيها الكافرون - مع أنكم فى الدنيا كنتم تزعمون أنكم جميع منتصر؟
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ
📘 ثم أضرب - سبحانه - عما تقدم إلى بيان حالهم يوم القيامة فقال : ( بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ ) .والاستسلام : أصله طلب السلامة ، والمراد به هنا : الانقياد التام ، والخضوع المطلق ، يقال : استسلم العدو لعدوه ، إذا انقاد له وخضع لأمره .أى : ليسوا فى هذا اليوم بقادرين على التناصر ، بل هم اليوم خاضعون ومستسلمون ، لعجزهم عن أى حيلة تنقذهم مما هم فيه من بلاء .
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ
📘 ثم يحكى - سبحانه - ما يدور بينهم من مجادلات يوم القيامة فيقول : ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ )ويبدو أن التساؤل والتجادل هنا ، يكون بين الأتباع والمتبوعين ، أو بين العامة والزعماء .كما تدل عليه آيات منها قوله - تعالى - : ( وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ) .
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ
📘 ثم حكى - سبحانه - ما قاله الضعفاء للزعماء فقال : ( قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين ) وللمفسرين فى تأويل معنى اليمين هنا اتجاهات منها :أن المراد باليمين هنا : الجهة التى هى جهة الخير واليمن : أى : قال الضعفاء للرؤساء : إنكم كنتم فى الدنيا توهموننا وتخدعوننا بالبقاء على ما نحن عليه من عبادة الأصنام والأوثان ، لأن بقاءنا على ذلك فيه الخير واليمن والسلامة . فأين مصداق ما قلتموه لنا وقد نزل بنا ما نزل من أهوال وآلام؟فالمقصود بالآية الكريمة بيان ما يقوله الأتباع للمتبوعين على سبيل الحسرة والندامة ، لأنهم خدعوا بوسوستهم ، وأصيبوا بالخيبة بسبب اتباعهم لهم .وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : اليمين لما كانت أشرف العضورين وأمتنهما ، وكانوا يتيمنون بها ، فبها يصافحون ، ويماسحون ، ويناولون ويتناولون ، ويزاولون أكثر الأمور .لما كانت استعيرت لجهة الخير وجانبه ، فقيل : أتاه عن اليمين ، أى من الخير وناحيته . .ومنهم من يرى أن المراد باليمين هنا : اليمين الشرعية التى هى القسم ، وعن بمعنى الباء .أى : قالوا لهم : إنكم كنتم فى الدنيا تأتوننا بالأيمان المغلظة على أننا وأنتم على الحق فصدقناكم ، فأين نحن وأنتم الآن من هذه الآيمان المغلظة؟ لقد ظهر كذبها وبطلانها ، وأنتم اليوم مسئولون عما نحن فيه من كرب .ومنهم من يرى أن المراد باليمين هنا : القوة والغلبة . أى : أنكم كنتم فى الدنيا تجبروننا وتقسرونا على أتباعكم لأننا كنا ضعفاء وكنتم أقوياء .والذى نراه أن الآية الكريمة تسع كل هذه الأقوال ، لأن الرؤساء أوهموا الضعفاء بأنهم على الحق ، وأقسموا لهم على ذلك ، وهددوهم بالقتل أو الطرد إن هم اتبعوا ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم .ومقصود الضعفاء من هذا القول ، إلقاء المسئولية كاملة على الرؤساء ، توهما منهم أن هذا الإِلقاء سيخفف عنهم شيئا من العذاب .
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
📘 ثم يحكى القرآن بعد ذلك : أن الرؤساء قد ردوا عليهم بخمسة أجوبة .أولها : ( قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ) أى : قال الرؤساء للأتباع : نحن لم نتسبب فى كفركم فى الدنيا ، بل أنتم الذين أبيتم الإِيمان باختياركم ، وآثرتم عليه الكفر باختياركم - أيضا - فكفركم نابع من ذواتكم ، وليس من شئ خارج عنكم ، ولم يدخل الإِيمان قلوبكم فى وقت من الأوقات .فالجلمة الكريمة إضراب إبطالى من المتبوعين ، عما ادعاه التابعون .
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا
📘 و ( التاليات ) : من التلاوة ، بمعنى القراءة فى تدبر وتأمل .وأكثر المفسرين على أن المراد بالصفات والزاجرات والتاليات : جماعة من الملائكة موصوفة بهذه الصفات .فيكون المعنى : وحق الملائكة الذين يصفون أنفسهم صفا لعبادة الله - تعالى - وطاعته ، أو الذين يصفون أجنحتهم فى السماء انتظاراً لأمر الله ، والذين يزجرون غيرهم عن ارتكاب المعاصى ، أو يزجرون السحاب إلى الجهات التى كلفهم الله - تعالى - بدفعه إليها ، والذين يتلون آيات الله المنزلة على أنبيائه تقربا إليه - تعالى - وطاعة له .وقد جاء وصف الملائكة بأنهم صافون فى قوله - تعالى - فى السورة نفسها : ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون . وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون ) كما جاء وصفهم بذلك فيما رواه مسلم فى صحيحه عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدا . وجعلت لنا تربتها طهورا إذا لم نجد الماء " .وفى حديث آخر رواه مسلم وغيره عن جابر بن سَمُرَه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم "؟ قلنا : وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال : " يتمون الصفوف المتقدم’ ، ويتراصون فى الصف " " .وجاء وصفهم بما يدل على أنهم يلقون الذكر على غيرهم من الأنبياء ، لأجل الإِعذار والإِنذار به . كما فى قوله - تعالى - فى أوائل المرسلات : ( فالملقيات ذِكْراً . عُذْراً أَوْ نُذْراً ) قال الإِمام ابن كثير : قوله : ( فالتاليات ذِكْراً ) هم الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس ، وهذه الآية كقوله - تعالى - : ( فالملقيات ذِكْراً . عُذْراً أَوْ نُذْراً ) ومنهم من يرى أن المراد بالصافات والزاجرات والتاليات هنا : العلماء الذين يصفون أقدامهم عند الصلاة وغيرها من الطاعات ، ويزجرون غيرهم عن المعاصى ، ويتلون كلام الله - تعالى - .ومنهم من يرى أن المراد بالصافات : الطيور التى تصف أجنحتها فى الهواء بالزاجرات وبالتاليات : جماعات الغزاة فى سبيل الله ، الذين يزجرون أعداء الله - تعالى - : ويكثرون من ذكره .ويبدو لنا أن القول الأول هو الأظهر والأرجح ، لأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى سقناها قبل ذلك تؤيده ، ويؤيده - أيضا - ما يجئ بعد ذلك من أوصاف للملائكة كما فى قوله - تعالى - :( لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ) والمراد بالملأ الأعلى هنا . والملائكة .ولأن هذا القول هو المأثور عن جماعة من الصحابة والتابعين ، كابن مسعود وابن عباس ، ومسروق ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ومجاهد .وإنما أقسم الله - تعالى - هنا بالملائكة ، لشرفهم ، وسمو منزلتهم وامتثالهم لأوامره - سبحانه - امتثالا تاما وله - تعالى - أن يقسم بما شاء من خلقه ، تنويها بشأن المقسم ، ولفتا لأنظار الناس إلى ما فيه من منافع .ولفظ ( الصافات ) مفعوله محذوف . والتقدير ، وحق الملائكة الصافات نفوسها أو أجنحتها طاعة وامتثالا لأمر الله - تعالى - .والترتيب بالفاء فى هذه الصفات ، على سبيل الترقى ، إذ الأولى كمال ، والثانية أكمل ، لتعدى منفعتها إلى الغير ، والثالثة أكمل وأكمل ، لتضمنها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتخلى عن الرذائل ، والتحلى بالفضائل .وقوله " صفا ، وزجرا " وذكرا " مصادر مؤكدة لما قبلها .
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ۖ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ
📘 وثانيها : يتجلى فى قوله - تعالى - : ( وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ ) أى : وما كان لنا عليكم من قوة أو غلبة تجبركم على البقاء فى الكفر والضلال ، ولكنكم أنتم الذين رضيتم بالكفر عن اختيار واقتناع منكم به .وثالثها قوله - تعالى - : ( بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ ) أى : نحن لم يكن لنا سلطان عليكم ، بل أنتم الذين كنتم فى الدنيا قوما طاغين وضالين مثلنا . والطغيان مجاوزة الحد فى كل شئ .
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا ۖ إِنَّا لَذَائِقُونَ
📘 ورابعها : نراه فى قوله - سبحانه - : ( فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ ) والفاء للتفريع على ما تقدم ، من كون الرؤساء لم يجبروا الضعفاء على البقاء فى الكفر .أى : نحن وأنتم لم تكونوا مؤمنين أصلا . فكانت نتيجتنا جميعا ، أن استحققنا العذاب ، وأن لزمنا ما توعدنا به خالقنا من ذوق العذاب ، جزاء كفرنا وشركنا به - تعالى - .
فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ
📘 وخامس هذه الأجوبة : بينه - سبحانه - فى قوله - حكاية عنهم - : ( فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ) .أى : فدعوناكم للغواية والضلالة دعوة غير ملجئة ، فاستجبتم لنا باختياركم الغى على الرشد ( إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ) مثلكم ، فلا تلومونا ولومووا أنفسكم فنحن ما أجبرناكم على اتباعنا ولكن أنتم الذين اتبعتمونا باختياركم .وهكذا رد الرؤساء على الضعفاء فيما اتهموهم به من أنهم السبب فيما حل بهم من عذاب أليم يوم القيامة .
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
📘 وهنا - بين - سبحانه - حكمه العادل فى الجميع ، فى الرؤساء والأتباع فيقول ( فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ )أى : كما كانوا متشاركين فى الدنيا فى الغواية والضلالة ، فإنهم فى الآخرة مشتركون جميعا فى حلول العذاب بهم ، وذوقهم لآلامه وسعيره .فالضمير فى قوله ( فَإِنَّهُمْ ) يعود للتابعين والمتبوعين ، لأنهم جميعا مستحقون للعذاب .
إِنَّا كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أدت بالكافرين جميعا إلى هذا المصير السيئ فقال : ( إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين ) أى : مثل هذا العذاب الأليم نفعل بالمجرمين ، لأنهم أشركوا معنا غيرنا فى العبادة ، وآذوا رسلنا الذين جاءوا لهدايتهم وإرشادهم .
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ
📘 ( إِنَّهُمْ كانوا ) فى الدنيا ( إِذَا قِيلَ لَهُمْ ) على سبيل النصيحة والدعوة إلى الحق ( لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ ) عن قبول هذه النصيحة ، ويعرضون عنها ، ويصرون على كفرهم وجحودهم للحق ، ويستكبرون عن النطق بكلمة الإِيمان .
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ
📘 ( وَيَقُولُونَ ) لمن نصحهم : ( أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ) .أى : ويقولون باستهزاء وغرور لمن دعاهم إلى الإيمان وإلى قول لا إله إلا الله ، يقولون له أتدعونا إلى أن نترك ما عليه آباؤنا وأجدادنا عن عقائد وأفعال ، وإلى أن نتبع ما جاءنا به هذا الشاعر المجنون .ويعنون بالشاعر المجنون - قبحهم الله - رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أرسله الله - تعالى - لهدايتهم .
بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ
📘 ولذا رد الله - تعالى -عليهم بقوله : ( بَلْ جَآءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين ) .أى : ليس الرسول صلى الله عليه وسلم شاعرا أو مجنونا ، كما زعمتم - أيها الجاهلون - بل هو رسول صادق فيما يبلغه عن ربه ، وقد جاءكم بالحق وهو دين التوحيد الذى دعا إليه جميع الرسل ، فكان مصدقا لهم فى الدعوة إليه ، فكيف تزعمون أنه شاعر مجنون؟
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ
📘 ( إِنَّكُمْ ) . . أيها المشركون بسبب هذه المزاعم ( لَذَآئِقُو ) فى هذا اليوم ( العذاب الأليم ) الذى يذلكم ويخزيكم ويجعلكم فى حزن دائم .
وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
📘 ( وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أى : وما نجازيكم بهذا الجزاء الموجع المؤلم . إلا بسبب أعمالكم القبيحة فى الدنيا .وهكذا نجد الآيات الكريمة قد بينت لنا بأسلوب مؤثر بديع ، سوء عاقبة الكافرين ، بسبب إعراضهم عن الحق . واستكبارهم عن الدخول فيه ، ووصفهم للرسول صلى الله عليه وسلم بما هو برئ منه .
إِنَّ إِلَٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ
📘 وقوله - سبحانه : ( إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ ) جواب للقسم ، وهو المقسم عليه . أى : وحق الملائكة الذين تلك صفاتهم ، إن ربكم - أيها الناس - لواحد لا شريك له فى ذاته ، ولا فى صفاته ولا فى أفعاله ، ولا فى خلقه .
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
📘 وكعادة القرآن الكرمي فى المقارنة بين مصير الأشرار ومصير الأخيار - ليهلك ن هكل عن بينة ويحيا من حى عن بينة - أتبع - سبحانه - الحديث عن سوء عاقبة الكافرين - بالحديث عن حسن عاقبة المؤمنين ، فقال - تعالى - :( إِلاَّ عِبَادَ الله . . . ) .قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : ( إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين ) استثناء منقطع من ضمير ( ذائقو ) وما بينهما اعتراض جئبه مسارعة إلى تحقيق الحق . ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلا . فإلا مؤولة بلكن .فالمعنى : إنكم - أيها المشركون - لذائقو العذاب الأليم ، لكن عباد المخلصين - ليسو كذلك - أولئك لهم رزق معلوم . .ولفظ ( المخلصين ) قرأه بعض القراء السبعة - بفتح اللام - أى : لكن عباد الله - تعالى - الذين أخلصهم الله - تعالى - لطاعته وتوحيده ليسوا كذلك .وقرأه البعض الآخر بكسر اللام . أى : لكن عباد الله الذين أخلصوا له العبادة والطاعة ، لا يذوقون حر النار كالمشركين .
أُولَٰئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ
📘 واسم الإِشارة فى قوله : ( أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ ) يعود إلى هؤلاء العباد المخلصين .أى : أولئك العباد المتصفون بتلك الصفة الكريمة وهى الإِخلاص ، لهم رزق عظيم معلوم فى وقته ، كما قال - تعالى - : ( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) ومعلوم فى خصائصه الكريمة وصفاته الحسنة ككونه لذيذ الطعم ، حسن المنظر ، غير مقطوع ولا ممنوع إلى غير ذلك من الصفات التى تجعله محل الرغبة والاشتهاء .
فَوَاكِهُ ۖ وَهُمْ مُكْرَمُونَ
📘 وقوله - تعالى - : ( فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ ) بدل مما قبله ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، أى هذا الرزق المعلوم ، هو فواكه .والمراد بهذه الفواكه : ما يأكله الآكل على سبيل التلذذ والتفكه ، وجميع ما يأكله أهل الجنة كذلك حتى اللحم والخبز ، لأنهم فى الجنة فى غنى عن القوت الذى يحفظون به حياتهم . وخصت الفاكهة بالذكر لأنها أطيب ما يأكله الآكلون .وفضلا عن كل ذلك فهم فيها منعمون مكرمون ، لا يحتاجون إلى شئ إلا ويجدونه بين أيديهم ، بفضل الله - تعالى - ورحمته .
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
📘 ثم بين - سبحانه - مكانهم وهيئتهم فقال : ( فِي جَنَّاتِ النعيم . على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ )أى : هم فى جنات ليس فيها إلا النعيم الدائم .
عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ
📘 وهم فى الوقت نفسه يجلسون على سرر متقابلين ، بأن تكون وجوههم متقابلة لا متدابرة ، فإن من شأن المتصافين أن يجلسوا متقابلين .
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ
📘 ( يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ) والكأس . هو الإِناء الذى فيه شراب ، فإن لم يكن فيه شراب فهو قدح ، وقد يسمى الشراب ذاته كأسا ، فيقال : شربت كأسا ، وذلك من باب تسمةي الشئ باسم محله .و ( مَّعِينٍ ) اسم فاعل من معن وهو صفة لكأس مأخوذ من عان الماء إذا نبع وظهر على الأرض . أى : يطاف على هؤلاء العباد المخلصين وهم فى الجنة ، بكأس ملئ بخمر لذة للشاربين ، نابعة من العيون ، وظاهرة للأبصار ، تجرى فى أنهار الجنة كما تجرى المياه فى الأنهار .فالتعبير بقوله - تعالى - ( بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ) يشعر بكثرتها ، وقربها ممن يريدها .
بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
📘 وقوله - تعالى - : ( بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ) صفتان للكأس باعتبار ما فيه .أى هذه الخمر التى يطاف بها عليهم ، بيضاء اللون ، لذيذة الطعم والراحئة عند الشاربين .
لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ
📘 ( لاَ فِيهَا غَوْلٌ ) أى : أذى أو مضرة ، والغَوْل . إهلاك الشئ - على غرة وغفلة .يقال : غاله يغوله غولا ، واغتاله اغتيالا ، إذا قضى عليه بغتة ، وأخذه من حيث لا يشعر .أى : أن خمر الآخرة ليس فيها ما يضر أو يؤذى ، كما هو الحال بالنسبة لخمر الدنيا ( وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ) و ( عن ) هنا للسببية ، فهى بمعنى الباء ، أى : ولا هم بسبب شربها تذهب عقولهم ، وتختل أفكارهم ، كما هو الحال فى خمر الدنيا .وأصل النَّزْف : نَزْعُ الشئ من مكانه وإذهابه بالتدريج ، يقال : نزف فلان ماء البئر ينزفه - من باب ضرب - إذا نزحه شيئا فشيئا إلى نهايته ، ويقال : نُزف الرجل - كعُنَى - إذا سكر حتى اختل عقله ، وخصت هذه المفسدة بالذكر مع عموم ما قبلها ، لكونها من أعظم مفاسد الخمر .
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ
📘 وقوله - تعالى - : ( وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ ) بيان لمتعة أخرى من المتع التى أحلها الله - تعالى - لهم .وقاصرات : من القصر بمعنى الحبس ، وعين ، جمع عيناء ، وهى المرأة الواسعة العين فى جمال . أى وفضلا عن ذلك ، فقد متعنا هؤلاء العباد بمتع أخرى . وهى أننا جعلنا عندهم اللمؤانسة نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمدونها إلى غيرهم ، لشدة محبتهن لهم ، ومن صفات هؤلاء النساء - أيضا أنهن جميلات العيون .
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ
📘 ( كَأَنَّهُنَّ ) أى : هؤلاء النسوة ( بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ) ، أى : كأنهن كبيض النعام . الذى أخفاه الريش فى العش ، فلم تمسه الأيدى ، ولم يصبه الغبار ، فى صفاء البشرة ، ونقاء الجسد .وشبههن ببيض النعام ، لأن لونه مع بياضه وصفائه يخالطه شئ من الصرة وهو لون محبوب فى النساء عند العرب ولذا قالوا فى النساء الجميلات : بيضات الخدور .وإلى هنا تجد الآيات الكريمة قد بشرت عباد الله المخلصيو . بالعطاء المتنوع الجزيل ، الذى تنشرح له الصدور ، وتقر به العيون ، وتبتهج له النفوس .
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ
📘 وقوله : ( رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق ) بدل من قوله ( لواحد ) أو خبر بعد خبر لمبتدأ محذوف .أى : إن إلهكم - أيها الناس - لواحد : هو - سبحانه - رب السموات والأرض ، ورب ما بينهما من مخلوقات كالهواء وغيره ، ورب المشارق التى تشرق منها الشمس فى كل يوم على مدار العام ، إذ لها فى كل يوم مشرق معين تشرق منه . ولها فى كل يوم - أيضا مغرب تغرب فيه .واكتفى هنا بذكر المشارق والمغارب ، لأن كل واحد منهما يستلزم الآخر ، ولأن الشروق أدل على القدرة ، وأبلغ فى النعمة ، ولأن الشروق سابق على الغروب ، وقد قال - تعالى - فى آية أخرى : ( رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً ) والمراد بهما هنا جنسهما ، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس التى هى ثلاثمائة وستون مشرقا - كما يقول العلماء - وعلى كل مغرب من مغاربها التى هى كذلك .وقال فى سورة الرحمن : ( رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين ) أى : مشرق الشتاء ومشرق الصيف ومغربهما ، أو مشرق الشمس والقمر ومغربهما .وبذلك يتبين أنه لا تعارض بين مجئ هذه الألفاظ تارة مفردة ، وتارة على سبيل التثنية وتارة على سبيل الجمع .قال بعض العلماء : قوله ( وَرَبُّ المشارق ) أى : ولكل نجم مشرق ، ولكل كوكب مشرق فهى مشارق كثيرة فى كل جانب من جوانب السموات الفسيحة .وللتعبير دلالة أخرى دقيقة فى التعبير عن الواقع فى هذه الأرض التى نعيش عليها كذلك ، فالأرض فى دورتها أمام الشمس تتوالى المشارق على بقاعها المختلفة - كما تتوالى المغارب ، فكلما جاء قطاع منها أمام الشمس ، كان هناك مشرق على هذا القطاع .وكان هناك مغرب على القطاع المقابل له فى الكرة الأرضية . . وهى حقيقة ما كان يعرفها الناس فى زمان نزول القرآن الكريمن أخبرهم الله - تعالى - بها فى ذلك الزمان القديم . .
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ
📘 ثم حكى - سبحانه - بعض المحاورات التى تدور بين عباده المخلصين ، بعد أن رأوا ما أعده - سبحانه - لهم من نعيم مقيم . . فقال - تعالى - :( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ . . . ) .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : علام عطف قوله : ( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ ) ؟قلت؛ هو معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك : ( يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ) والمعنى : يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشاربين .قال الشاعر :وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدامفيقبل بعضهم على بعض ( يَتَسَآءَلُونَ ) عما جرى لهم وعليهم فى الدنيا . إلا أن جئ به ماضيا على عادة الله فى أخباره .أى : أن هؤلاء العباد المخلصين ، بعد أن أعطاهم الله ما أعطاهم من النعم ، أقبل بعضهم على بعض ( يَتَسَآءَلُونَ ) فيما بينهم عن ذكرياتهم .
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ
📘 وإذا بواحد منهم يقول لإخوانه - من باب التحدث بنعمة الله :( إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ) أى : إنى فى الدنيا كان لى صديق ملازم لى ، ينهانى عن الإِيمان - بالبعث والحساب .
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ
📘 ويقول لى - بأسلوب التهكم والاستهزاء :( أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين ) أى : أئنك - أيها الرجل - لمن المصدقين بأن هناك بعثا وحسابا ، وثوابا وعقابا ، وجنة ونارا .
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ
📘 ثم يضيف إلى ذلك قوله : ( أَإِذَا مِتْنَا ) وانتهت حياتنا فى هذه الدنيا ، ووضعنا فى قبورنا ( وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً ) أى : وصارت أجسادنا مثل التراب ومثل العظام البالية .( أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ) أى : أئنا بعد كل ذلك لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى ، ومجزيون بأعمالنا . فقوله - تعالى - : ( لَمَدِينُونَ ) من الدين بمعنى الجزاء ، ومنه قوله - تعالى - : ( مالك يَوْمِ الدين ) والاستفهام : للاستبعاد والإِنكار من ذلك القرين للبعث والحساب .
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ
📘 وهنا يعرض هذا المؤمن على إخوانه ، أن يشاركوه فى الاطلاع على مصير هذا القرين الكافر بالبعث فيقول لهم : ( هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ ) أى : أنتم مطلعون معى على أهل النار لنرى جميعا حال ذلك القرين الذى حكيت لكم حاله؟ والاستفهام للتخصيص ، أى : هنا صاحبونى فى الاطلاع على هذا القرين الكافر .
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ
📘 ( فاطلع ) ذلك الرجل المؤمن ومعه إخوانه على أهل النار . فرآه فى سواء الجحيم ، أى : فرأى ذلك الرجل الذى كان قرينه وصاحبه الملازم له فى الدنيا ، ملقى به فى ( سَوَآءِ الجحيم ) أى : فى وسط النار ، وسمى الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى باقى الجوانب .قال الآلوسى : واطلاع أهل الجنة على أهل النار ، ومعرفة من فيها ، مع ما بينهما من التباعد غير بعيد بأن يخلق الله - تعالى - فيهم حدة النظر ، ويعرفهم من أرادوا الاطلاع عليه .ولعلهم - إن أرادوا ذلك - وقفوا على الأعراف . فاطعلوا على من أرادوا الاطلاع عليه من أهل النار . وقبل : إن لهم طاقات فى الجنة ينظرون منها من علو إلى أهل النار ، وعلم القائل بأن القرين من أهل النار ، لأنه كان منكرا للبعث .
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ
📘 ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما قاله ذلك الرجل المؤمن لقرينه فى الدنيا بعد أن رآه فى وسط الجحيم فيقول .( قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ . وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين ) .وقوله : ( تالله ) قسم فيه معنى التعجب ، و ( إن ) مخففة من الثقيلة . واللام فى قوله : ( لَتُرْدِينِ ) هى الفارقة بين إن المخففة والنافية ، والجملة جواب القسم ، وتردين : أى تهلكنى يقال : أردى فلان فلانا إذا أهلكه . ورَدِىَ فلان - من باب رَضِىَ - إذا هلك .
وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
📘 و ( المحضرين ) من الإحضار ، يقال : أُحْضِر المجرم ليلقى جزاءه ، وهذا اللفظ يستعمل عند الإِطلاق فى الشر ، إذ يدل على السوق مع الإِكراه والقسر .أى : قال الرجل المؤمن لقرينه الملقى فى وسط جهنم ، وحق الله - تعالى - لقد كدت أيها القرين أن تهلكنى بصدك إياى عن الإِيمان بالبعث والحساب ولولا نعمة ربى علىّ ، حيث عصمنى من طاعتك ، ووفقنى للإِيمان . . لكنت اليوم من الذين أحضروا للعذاب مثلك ومثل أشباهك ، ولساقنى ملائكة العذاب إلى هذا المصير الأليم الذى أنت فيه اليوم ، فحمدا لله - تعالى - على الإِيمان والهداية .
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ
📘 وقوله - تعالى - : ( أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ . إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) بيان لما يقوله هذا الرجل المؤمن لأصحابه الذين معه فى الجنة ، وبعد أن انتهى من كلامه مع قرينه .وهذا الكلام يقوله على سبيل التلذذ والتحدث بنعمة الله عليهم .والاستفهام للتقرير ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام ، والمعطوف عليه محذوف .والمعنى : أنحن مخلدون فى هذا النعيم ، ولن يلحقنا موت مرة أخرى بعد موتتنا الأولى التى لحقتنا فى الدنيا ، ولن يصيبنا شئ من العذاب كما أصاب غيرنا؟إننا لنشعر جميعا بأننا لن نموت مرة أخرى ، وسنبقى فى هذا النعيم الدائم بفضل الله ورحمته .وبعضهم يرى أن هذا السؤال من أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت .قال القرطبى : قوله : ( أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ . إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى ) : هو من قول أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت ، ويقال : " يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت " .
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
📘 وقوله - تعالى - : ( أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ . إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) بيان لما يقوله هذا الرجل المؤمن لأصحابه الذين معه فى الجنة ، وبعد أن انتهى من كلامه مع قرينه .وهذا الكلام يقوله على سبيل التلذذ والتحدث بنعمة الله عليهم .والاستفهام للتقرير ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام ، والمعطوف عليه محذوف .والمعنى : أنحن مخلدون فى هذا النعيم ، ولن يلحقنا موت مرة أخرى بعد موتتنا الأولى التى لحقتنا فى الدنيا ، ولن يصيبنا شئ من العذاب كما أصاب غيرنا؟إننا لنشعر جميعا بأننا لن نموت مرة أخرى ، وسنبقى فى هذا النعيم الدائم بفضل الله ورحمته .وبعضهم يرى أن هذا السؤال من أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت .قال القرطبى : قوله : ( أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ . إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى ) : هو من قول أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت ، ويقال : " يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت " .
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ
📘 ثم بين - سبحانه - بعد ذلك بعض مظاهر قدرته فى خلقه لهذه السموات وكيف أنه - تعالى - قد زين السماء الدنيا بالكواكب . وحفظها من تسلل أى شيطان إليها فقال تعالى :( إِنَّا زَيَّنَّا السمآء . . . ) .قوله - تعالى - ( زَيَّنَّا ) من التزيين بمعنى التحسين والتجميل . والمراد بالسماء الدنيا : السماء التى هى أقرب سماء إلى الأرض . فالدنيا مؤنث أدنى بمعنى أقرب .والكواكب : جمع كوكب وهو النجم الذى يرى فى السماء .وقوله : ( بِزِينَةٍ الكواكب ) فيه ثلاث قراءات سبعية ، فقد قرأ الجمهور بإضافة زينة إلى الكواكب . أى : بلا تنوين فى لفظ " بزينة " . وقرأ بعضهم بتنوين لفظ " زينة " وخفض لفظ الكواكب على أنه بدل منه . وقرأ بعضهم بتنوين لفظ ( بزينة ) ونصب لفظ الكواكب ، على أنه مفعول لفعل محذوف أى : أعنى الكواكب .والمعنى : إنا بقدرتنا وفضلنا زينا السماء الدنيا التى ترونها بأعينكم - أيها الناس - بالكواكب ، فجعلناها مضيئة بحيث تهتدون بها فى سيركم من مكان إلى مكان .كما قال - تعالى - فى آية أخرى : ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ) ومما لا شك أن منظر السماء وهى مليئة بالنجوم ، يشرح الصدور ، ويؤنس النفوس ، وخصوصا للسائرين فى فجاح الأرض ، أو ظلمات البحر .
إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
📘 والإِشارة فى قوله - تعالى - : ( إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم ) لما سبق الإِخبار به من نفى الموت والعذاب عن أهل الجنة ، وهذا القول - أيضا - حكاية لما يقوله ذلك المؤمن لمن معه فى الجنة ، أى : إن هذا النعيم الدائم الذى نحن فيه - يا أهل الجنة - لهو الفوز العظيم ، الذى لا يدانيه فوز ، ولا يقاربه فلاح .
لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ
📘 ثم يقول لهم - أيضا - : ( لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون ) أى : لمثل هذا العطاء الجزيل ، والنعيم المقيم ، فليعمل العاملون ، لا لغير ذلك من الأعمال الدنيوية الزائلة الفانية .
أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ
📘 ثم ساق - سبحانه - ما يدل على البون الشاسع . بين النعيم المقيم الذى يعيش فيه عباد الله الملخصون . وبين الشقاء الدائم الذى يعيش فيه الكافرون ، فقال - تعالى - :( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ . . . ) .اسم الإِشارة " ذلك " فى قوله - تعالى - : ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم ) يعود إلى نعيم الجنة الذى سبق الحديث عنه ، والذى يشمل الرزق المعلوم وما عطف عليه .والاستفهام للتوبيخ والتأنيب . والنزل : ما يقدم للضيف وغيره من طعام ومكان ينزل به .و " ذلك " مبتد ، و ( خير ) خبره ، و ( نزلا ) : تمييز لخير ، والخيرية بالنسبة لما اختاره الكفار على غيره ، والجملة مقول لقول محذوف .وشجرة الزقوم هى شجرة لا وجود لها فى الدنيا ، وإنما يخلقها الله - تعالى - فى النار ، كما يخلق غيرها من أصناف العذاب كالحيات والعقاب .وقيل : هى شجرة سامة متى مست جسد أحد تورم ومات ، وتوجد فى الأراضى المجدبة المجاورة للصحراء .والزقوم : من التزقم ، وهو ابتلاع الشئ الكريه ، بمشقة شديدة .والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الكافرين أذلك النعيم الدائم الذى ينزل به المؤمنون فى الجنة خير ، أم شجرة الزقوم التى يتبلغ بها الكافرون وهم فى النار ، فلا يجدون من ورائها إلا الغم والكرب لمرارة طعمها ، وقبح رائحتها وهيئتها .ومعلوم نه لا خير فى شجرة الزقوم ، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى بهم إلى نعيم الجنة وهو الإِيمان والعمل الصالح ، واختار الكافرون ما أدى بهم إلى النار وبئس القرار ، قيل لهم ذلك على سبيل التوبيخ والتقريع ، لسوء اختيارهم .
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - شيئا عن هذه الشجرة فقال : ( إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ) أى : إنا جعلنا هذه الشجرة محنة وابتلاء وامتحانا لهؤلاء الكافرين الظالمين ، لأنهم لما لما أخبرهم رسولنا صلى الله عليه وسلم بوجود هذه الشجرة فى النار . كذبوه واستهزأوا به ، فحق عليهم عذابنا بسبب هذا التكذيب والاستهزاء .قال القرطبى ما ملخصه قوله - تعالى - ( إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ) أى ، المشركين . وذلك أنهم قالوا . كيف تكون فى النار شجرة مع أن النار تحرق الشجر . . ؟وكان هذا القول جهلا منهم ، إذ لا يستحيل فى العقل أن يخلق الله فى النار شجرا من جنسها لا تأكله النار ، كما يخلق الله فيها الأغلال والقيود والحياة والعقارب .
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ
📘 ثم بين - سبحانه - أصل هذه الشجرة ومنبتها فقالك ( إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم ) أى : منبتها وأصلها يخرج من أسفل الجحيم ، أما أغصانها وفروعها فترتفع إلى دركاتها .
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ
📘 ثم بين - سبحانه - ثمرها فقال : ( طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين ) أى : ثمرها الذى يخرج منها ، وحملها الذى يتولد عنها ، يشبه فى تناهى قبحه وكراهيته ، رؤوس الشياطين التى هى أقبح ما يتصوره العقل ، وأبغض شئ يرد على الخاطر .قال صاحب الكشاف ما ملخصه : شبه حمل شجرة الزقوم برؤوس الشياطين ، للدلالة على تناهيه فى الكراهة وقبح المنظر ، لأن الشيطان مكروه مستقبح فى طباع الناس ، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخالطه خير ، فيقولون فى القبيح الصورة : كأنه وجه شيطان ، أو كأنه رأس شيطان ، وإذا صوره المصورون صوروه على أقبح صورة .كما أنهم اعتقدوا فى الملك أنه خير محضلا شر فيه ، فشبهوا به الصورة الحسنة ، قال الله - تعالى - : ( مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) وهذا تشبيه تخييلى .وقيل : الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر . . فجاء التشبيه بها . .
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ
📘 وقوله - تعالى - : ( فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون ) تقريع على ما تقدم من كونها فتنة لهم .أى : هذا هو حال تلك الشجرة ، وهاذ هو أصلها وثمرها ، وإن هؤلاء الكفار الذين يستهزئون بمن يحدثهم عنها لآكلون من ثمارها حتى تمتلئ بطونهم ، رغما عنهم ، وإذلالا لهم .
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ
📘 ( ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا ) أى : على ما يأكلونه منها ( لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ) أى : لشرابا مخلوطا بماء شديد الحرارة يقطع الأحشاء ، كما قال - تعالى - : ( وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ) فالشوب : الخلط يقال : شاب فلان طعامه ، إذا خلطه بغيره .والحميم : الماء الذى بلغ الغاية فى الحرارة . فطعامهم - والعياذ بالله - قد اجتمع فيه مرارة الزقوم وحرارة الماء وهذا أشنع ما يكون عليه الطعام .
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ
📘 ثم بين - سبحانه - مصيرهم الدائم فقال . ( ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم ) أى : ثم إن مرجعهم ومصيرهم ومقرهم الدائم بعد كل ذلك لإِلى دركات الجحيم لا إلى غيرها .
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ
📘 ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الأسباب التى أدت بهم إلى هذا المصير السيئ فقال - تعالى - : ( إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ . فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ )وقوله : ( أَلْفَوْاْ ) من الإِلْفِ للشئ بمعنى التعود عليه بعد وجوده وحصوله .
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ
📘 قوله - سبحانه - : ( وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ) ينان لبما أحاط به - سبحانه - السماء الدنيا من حفظ ورعاية .ولفظ " حفظا " منصوب على المصدرية بإضمار فعل قبله . أى وحفظناها حفظا ، أو معطوف على محل " بزينة " .والشيطان : كل متمرد من الجن والإِنس والدواب . والمراد به هنا : المتمرد من الجن .والمارد : الشديد العتو والخروج عن طاعة الله - تعالى - المتعرى من كل خير .أى : إنا جعلنا السماء الدنيا مزينة بالكواكب وضيائها ، وجعلناها كذلك محفوظة من كل شيطان متجرد من الخير ، خارج عن طاعتنا ورحمتنا .
فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ
📘 وقوله : ( يُهْرَعُونَ ) من الإِهراع بمعنى الإِسراع الشديد ، أو الإِسراع الذى تصحبه رعدة وفزع ، يقال : هُرِع وأُهْرِع - بالبناء للمجهول فيهما - إذا استحث وأزعج ، ويقال : فلان يُهرع - بضم الياء - إذا جاء مسرعا فى غضب أو ضعف أو خوف .أى : إن ما أصاب هؤلاء الكافرين من عذاب أليم ، سببه أنهم وجدوا آباءهم مقيمين على الضلال ، فاقتدوا بهم اقتداء أعمى ، وساروا خلفهم وعلى آثارهم بسرعة وبغير تدبر أو تعقل ، كما يسير الأعمى خلف من يذهب به إلى طريق هلاكه .فالآيتان الكريمتان توبيخ شديد لهؤلاء الكافرين ، لأنهم لم يكتفوا بتقليد آبائهم فى الضلال ، بل أسرعوا إلى ذلك إسراعا لا تمهل معه ولا تدبر .
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - أحوال السابقين عليهم فقال : ( وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين ) .أى : ولقد ضل قبل هؤلاء الظالمين من قومك - أيها الرسول الكريم - أكثر الأقوام السابقين الذين أرسلنا إليهم رسلنا لهدايتهم .وفى التعبير بقوله : ( أكثر ) إنصاف ومدح للقلة المؤمنة التى اتبعت الحق .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ
📘 ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ ) أى : ولقد أرسلنا فى هؤلاء السابقين أنبياء كثيرين . ينذرونهم ويخوفونهم من عاقبة الكفر والشرك ، ولكن أكثر هؤلاء الأقوام لم يستيجبوا للحق .
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ
📘 ( فانظر ) - أيها الرسول الكريم - ( فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين ) أى : فانظر وتأمل كيف كانت عاقبة هؤلاء الذين أنذروا فلم يستجيبوا للحق ، لقد كانت عاقبتهم أن دمرناهم تدميرا.
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
📘 ( إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين ) أى : دمرنا هؤلاء الأقوام إلا عبادنا الذين أخلصوا لنا العبادة والطاعة فقد أنجيناهم بفضلنا ورحمتنا .
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ
📘 ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك قصص بعض الأنبياء السابقين مع أقوامهم لتثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم وتسليته عما أصابه من قومه ، وابتدأ تلك القصص ببيان جانب من قصة نوح - عليه السلام - مع قومه فقال - تعالى - :( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ . . . ) .قصة نوح - عليه السلام - قد وردت فى القرآن الكريم فى سور متعددة منها : سورة الأعراف ، وسورة هود ، وسورة نوح ، وسورة المؤمنون .وهنا يحدثنا القرآن عن جانب من النعم التى أنعم بها الله - تعالى - على نبيه نوح - عليه السلام - حيث أجاب له دعاءه ، ونجاه وأهله من الكرب العظيم وأهلك أعداءه المكذبين .واللام فى قوله : ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ . . . ) واقعة فى جواب القسم محذوف والمراد بالنداء الدعاء الذى تضرع به نوح - عليه السلام - وطلب منا أن ننصره على قومه الكافرين فاستجبنا له أحسن إجابة ، ونعم المجيبون نحن ، فقد أهلكنا أعداءه بالطوفان .أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : كان النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى فى بيتى فمر بهذه الآية ، قال : " صدقت ربنا ، أنت أقرب من دعى ، وأقرب من بُغِى - أى طُلِب لإِجابة الدعاء - فنعم المدعو أنت ، ونعم المعطى أنت ، ونعم المسئول أنت ربنا ونعم المصير " .
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ
📘 والمراد بأهله فى قوله - تعالى - : ( وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم ) الذين آمنوا معه .أى : ونجيناه وأهله الذين آمنوا معه - بفضلنا وإحساننا - من الكرب العظيم ، الذى حل بأعدائه الكافرين ، حيث أغرقناهم أجمعين .
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ
📘 ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين ) أى : وجعلنا ذريته من بعده هم الذين بقوا وبقى نسلهم من بعدهم ، وذلك لأن الله - تعالى - أهكل جميع الكافرين من قومه ، أما من كان معه من المؤمنين من غير ذريته ، فقد قيل إنهم ماتوا ، ولم يبق سوى أولاده .قال ابن كثير : قوله - تعالى - ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين ) قال ابن عباس : لم تبق إلا ذرية نوح .وقال قتادة : الناس كلهم من ذرية نوح .وروى الترمذى وابن جرير وابن أبى حاتم عن سمرة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله : ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين ) قال : " هم سام ، وحام ، ويافث " .وروى الإِمام أحمد - بسنده - عن سمرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سام أبو العرب ، وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم " .
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ
📘 ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين . سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين ) أى : وأبقينا عليه فى الأمم التى ستأتى من بعده إلى يوم القيامة ، الذكر الحسن ، والكلمة الطيبة ألا وهى قولهم : سلام على نوح فى العالمين .
سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ
📘 سلام على نوح فى العالمين: أى تحية وأمان وثناء جميل على نوح فى العالمين .
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ
📘 وقوله - سبحانه - : ( لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ . دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ ) جملة مستأنفة لبيان حالهم عند حفظ السماء ، وبيان كيفية الحفظ ، وما يصيبهم من عذاب وهلاك إذا ما حاولوا استراق السمع منها .ولفظ " يسَّمَّعوُن " بتشديد السين - وأصله يتسمعون . فأدغمت التاء فى السين والضمير للشياطين ، وقرأ الجمهور ( لا يَسْمعون ) بإسكان السين .قال صاحب الكشاف : الضمير فى ( لاَّ يَسَّمَّعُونَ ) لكل شيطان ، لأنه فى معنى الشياطين ، وقرئ بالتخفيف والتشديد . وأصله " يتسمعون " . والتسمع : تطلب السماع . يقال : تسمع فسمع . أو فلم يسمع .فإن قلت : أى فرق بين سمعت فلانا يتحدث ، وسمعت إليه يتحدث . وسمعت حديثه ، وإلى حديثه؟قلت : المعدى بنفسه يفيد الإِدراك ، والمعد بإلى يفيد الإِصغاء مع الإِدراك .والملأ فى الأصل : الجماعة يجتمعون علىا أمر فيملأون النفوس هيبة ، والمراد بالملأ الأعلى هنا : الملائكة الذين يسكنون السماء .وسموا بذلك لشرفهم ، ولأنهم فى جهة العلو ، بخلاف غيرهم فإنهم يسكنون الأرض .وقوله : ( وَيُقْذَفُونَ ) من القذف بمعنى الرجم والرمى .
إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
📘 وقوله : ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين ) تعليل لما منحه - سبحانه - لعبده نوح من نعم وفضل وإجابة دعاء .أى : مثل ذلك الجزاء الكريم الذى جازينا به نوحا - عليه السلام - نجازى كل من كان محسنا فى أقواله وأفعاله .
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
📘 وإن عبدنا نوحا قد كان من عبادنا الذين بلغو درجة الكمال فى إيمانهم وإحسانهم .قال صاحب الكشاف : قوله : ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين ) أى من الأمم هذه الكلمة ، وهى : " سلام على نوح " يعنى : يسلمون عليه تسليما ويدعون له . فإن قلت : فما معنى قوله : ( فِي العالمين ) .قلت : معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعا ، وأن لا يخلو أحد منهم منها ، كأنه قيل : ثبت الله التسليم على نوح وأدامه فى الملائكة والثقلين ، يسلمون عليه عن آخرهم .علل - سبحانه - مجازاة نوح بتلك التكرمة السنية ، من تبقية ذكره ، وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر ، بأنه كان محسناً ، ثم علل كونه محسناً ، بأنه كان عبداً مؤمناً ، ليريك جلالة محل الإِيمان ، وأنه لقصارى من صفات المدح والتعظيم ، ويرغبك فى تحصيله وفى الازدياد منه .
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ
📘 ثم ختم - سبحانه - القصة بقوله : ( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين ) أى : لقد أضفنا إلى تلك النعم التى أعطيناها لنبينا نوح - عليه السلام - أننا أغرقنا أعداءه الذين آذوه ، وأعرضوا عن دعوته .وتلك سنتنا لا تتخلف ، أننا ننجى المؤمنين ، ونهلك الكافرين .
۞ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ
📘 وجاءت بعد قصة نوح - عليه السلام - قصة إبراهيم - عليه السلام - وقد حكى الله - تعالى - ما دار بين إبراهيم وبين قومه ، كما حكى بعض النعم التى أنعمها - سبحانه - عليه ، بسبب إيمانه وإحسانه ، فقال - تعالى - :( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ . . . ) .الضمير فى قوله : ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ) يعود على نوح - عليه السلام - وشيعة الرجل : أعوانه وأنصاره وأتباعه ، وكل جماعة اجتمعوا على أمر واحد أو رأى واحد فهم شيعة ، والجمع شِيعَ مثل سِدرة وسِدَر .قال القرطبى : الشيعة : الأعوان ، وهو مأخوذ من الشياع ، وهو الحطب الصغار الذى يقود مع الكبار حتى يستوقد .والمعنى : وإن من شيعة نوح لإبراهيم - عليهما السلام - لأنه تابعه فى الدعوة إلى الدين الحق ، وفى الصبر على الأذى من أجل إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة شريعته . . وهكذا جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -اللاحق منهم يؤيد السابق ، ويناصره فى دعوته التى جاء بها من عند ربه ، وإن اختلفت شرائعهم فى التفاصيل والجزئيات ، فهى متحدة فى الأصول والأركان .
إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
📘 وكان بين نوح وإبراهيم ، نبيان كريمان هما : هود ، وصالح - عليهما السلام - والظرف فى قوله - تعالى - : ( إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) متعلق بمحذوف تقديره : اذكر أى : اذكر - أيها العاقل لتعتبر وتتعظ - وقت أن جاء إبراهيم إلى ربه بقلب سليم من الشرك ومن غيره من الآفات كالحسد والغل والخديعة والرياء .والمراد بمجيئه ربه بقلبه : إخلاص لقلبه لدعوة الحق ، واستعداده لبذل نفسه وكل شئ يملكه فى سبيل رضا ربه - عز وجل - .فهذا التعبير يفيد الاستسلام المطلق لربه والسعى الحثيث فى كل ما يرضيه .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى المجئ بقلبه ربه؟ قلت : معناه أنه أخلص لله قلبه ، وعرف ذلك منه فضرب المجئ مثلا لذلك .
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ
📘 وقوله : ( إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ) شروع فى حكاية ما دار بينه وبين أبيه وقومه . والجملة بدل من الجملة السابقة عليها ، أو هى ظرف لقوله ( سليم ) أى : لقد كان إبراهيم - عليه السلام - سليم القلب ، نفى السريرة ، صادق الإيمان ، وقت أن جادل أباه وقومه قائلا لهم : أى شئ هذا الذى تعبدونه من دون الله - تعالى .
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ
📘 ثم أضاف إلى هذا التوبيخ لهم توبيخا آخر فقال لهم : ( أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ ) ؟ والإِفك أسوأ الكذب . يقال أفِكَ فلان يأْفِكُ إفكا فهو أفوك . . إذا اشتد كذبه . وهو مفعول به لقوله ( تريدون ) وقوله ( آلهة ) بدل منه . وجعلت الآلهة نفس الإِفك على سبيل المبالغة .أى : أتريدون إفكا آلهة دون الله؟ إن أردتكم هذه يمجها ويحتقرها كل عقل سليم .
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
📘 ثم حذرهم من السير فى طريق الشرك فقال : ( فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين ) .والاستفهام للإِنكار والتحذير من سوء عاقبتهم إذا ما استمروا فى عبادتهم لغيره - تعالى - أى : فما الذى تظنون أن يفعله بكم خالقكم ورازقكم إذا ما عبدتم غيره؟ إنه لاشك سيحاسبكم على ذلك حسابا عسيرا ، ويعذبكم عذابا أليما ، وما دام الأمر كذلك فاتركوا عبادة هذه الآلهة الزائفة .وأخلصوا عبادتكم لخالقكم ورازقكم .قال الآلوسى : قوله : ( فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين ) أى : أى شئ ظنكم بمن هو حقيق بالعبادة ، لكونه ربا للعالمين؟ أشككتم فيه حتى تركتم عبادته - سبحانه - بالكلية ، أو أعلمتم أى شئ هو حتى جعلتم الأصنام شركاءه أو أى شئ ظنكم بعقابه - عز وجل - حتى اجترأتم على الإِفك عليه ، ولم تخافوا عذابه .وعلى أية حال فالآية تدل دلالة على واضحة على استنكاره لما كان عليه أبوه وقومه من عباده لغير الله - تعالى - وعلى نفور فطرته لما هم عليه من باطل .
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ
📘 ويهمل القرآن الكريم هنا ردهم عليه لتفاهته . وتنتقل السورة للإِشارة إلى ما أضمره إبراهيم - عليه السلام - لتلك الآلهة الباطلة فتقول : ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ . فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ ) .قالوا : كان قوم إبراهيم يعظمون الكواكب ، ويعتقدون تأثيرها فى العالم . . وتصادف أن حل أوان عيد لهم . فدعوه إلى الخروج معهم كما هى عادتهم فى ذلك العبد .فتطلع إلى السماء ، وقلب نظره فى نجومها .
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ
📘 ثم قال لهم معتذرا عن الخروج معهم - ليخلوا بالأصنام فيحطمها - : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) أى مريض مرضا بمنعنى من مصاحبتكم .
دُحُورًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ
📘 و ( دُحُوراً ) مفعولا لأجله ، أى : يقذفون لأجل الدُّحور ، وهو الطرد والإِبعاد ، مصدر دَحَرَه يدْحَرُهُ دَحْراً ودُحُوراً : إذا طرده وأبعده .والواصب : الدائم ، من الوصوب بمعنى الدوام ، يقال : وَصَب الشئ يَصِبُ وصُوباً ، إذا دام وثبت ، ومنه قوله : ( وَلَهُ الدين وَاصِباً ) أى : دائما ثابتا .والمعنى : إنا زينا السماء الدنيا بنور الكواكب ، وحفظناها - بقدرتنا ورعايتنا - من كل شيطان متجرد من الخير ، فإن هذا الشيطان وأمثاله كلما حاولوا الاستماع إلى الملائكة فى السماء لم نمكنهم من ذلك ، بل قذفناهم ورجمناهم بالشهب والنيران من كل جانب من جوانب السماء ، من أجل أن ندمرهم ونطردهم ونبعدهم عنها ، ولهم منا - فوق كل ذلك - عذاب دائم ثابت لا نهاية له .
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ
📘 ( فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ ) أى : فتركوه وحده وانصرفوا إلى خارج بلدتهم .قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : وإنما قال إبراهيم لقومه ذلك ليقيم فى البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم ، فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيد لهم ، فأحب أن يختلى بآلهتهم ليكسرها ، فقال لهم كلاما هو حق فى نفس الأمر فهموا منه أنه سقيم على ما يعتقدونه ، فتولوا عنه مدبرين .قال قتادة : والعرب تقول لمن تفكر فى أمر : نظر فى النجوم ، يعنى قيادة : أنه نظر فى السماء متفكرا فيما يلهيهم به فقال : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) أى : ضعيف .وقول النبى صلى الله عليه وسلم " لم يكذب إبراهيم غير ثلاث كذبات : اثنتين فى ذات الله ، قوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) وقوله فى سارة " هى أختى " " .ليس المراد بالكذب هنا الكذب الحقيقى الذى يذم فاعله ، حاشا وكلا ، وِإنما أطلق الكذب على هذا تجوزاً ، وإنما هو من المعارض فى الكلام لمقصد شرعى دينى ، كما جاء فى الحديث : " إن من المعاريض لمندوحة عن الكذب " .وقيل قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) أى ، مريض القلب من عبادتكم للأوثان من دون الله - تعالى - . .ويبدو لنا أى نظر إبراهيم - عليه السلام - فى النجوم ، إنما هو نظر المؤمن المتأمل فى ملكوت الله - تعالى - المستدل بذلك على وحدانية الله وقدرته ، وأنه إنما فعل ذلك أمامهم - وهم قوم يعظمون النجوم - ليقنعهم بصدق اعتذاره عن الخروج معهم ، ويتم له ما يريده من تحطيم الأصنام .كما يبدو لنا أن قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) المقصود منه : إنى سقيم القلب بسبب ما أنتم فيه من كفر وضلال ، فإن العاقل يقلقه ويزعجه ويسقمه ما أنتم فيه من عكوف على عبادة الأصنام .وقال لهم ذلك ليتركوه وشأنه ، حتى ينفذ ما أقسم عليه بالنسبة لتلك الأصنام .فكلام إبراهيم حق فى نفس الأمر - كما قال الإِمام ابن كثير - وقد ترك لقومه أن يفهموه على حسب ما يعتقدون .
فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ
📘 ثم حكى - سبحانه - ما فعله إبراهيم بالأصنام بعد أن انفرد بها فقال : ( فَرَاغَ إلى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) .وأصل الروغ : الميل إلى الشئ بسرعة على سبيل الاحتيال . يقال : راغ فلان نحو فلان . إذا مال إليه لأمر يريده منه على سبيل الاحتيال .أى : فذهب إبراهيم مسرعاً إلى الأصنام بعد أن تركها القوم وانصرفوا إلى عبدهم ، فقال لها على سبيل التهكم والاستهزاء : أيتها الأصنام ألا تأكلين تلك الأطعمة التى قدمها لك الجاهلون على سبيل التبرك؟وخاطبها كما يخاطب من يعقل فقال : ( أَلا تَأْكُلُونَ ) ، لأن قومه أنزلوها تلك المنزلة .
مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ
📘 وقوله : ( مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ ) زيادة فى السخرية بتلك الأصنام ، وفى إظهار الغيظ منها ، والضيق بها ، والغضب عليها .
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ
📘 هذا الغضب الذى كان من آثاره ما بينه القرآن فى قوله : ( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين ) أى : فمال عليهم ضاربا إياهم بيده اليمنى ، حتى حطمهم كما قال - تعالى - فى آية أخرى : ( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ) وقال - سبحانه - : ( ضَرْباً باليمين ) للدلالة على أن إبراهيم - عليه السلام - لشدة حنقه وغضبه على الأصنام - قد استعمل فى تحطيمها أقوى جارحة يملكهها وهى يده اليمنى . وقيل : يجوز أن يراد باليمين : اليمين التى حلفها حين قال : ( وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ ) وانتهى إبراهيم من تحطيم الأصنام ، وارتاحت نفسه لما فعله بها ، وشفى قلبه من الهم والضيق الذى كان يجده حين رؤيتها . .
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ
📘 وجاء قومه من رحلتهم ، ووجدوا أصنامهم قد تحطمت ، ويترك القرآن هنا ما قالوه لإبراهيم عندما رأوا منظر آلهتهم بهذه الصورة المفزعة لهم ، مكتفياً بإبراز حالهم فيقول : ( فأقبلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) .أى : فحين رأوا آلهتهم بهذه الصورة . أقبلوا نحو إبراهيم يسرعون الخطا ولهم جلية وضوضاء تدل على شدة غضبهم لما أصاب آلهتهم .يقال : زَفَّ النعام يَزِفُّ زََفَّا وزفيفا ، إذا جرى بسرعة حتى لكأنه يطير .
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ
📘 ولم يأبه إبراهيم - عليه السلام - لهياج قومه ، وإقبالهم نحوه بسرعة وغضب ، بل رد عليهم رداً منطقياً سليما ، فقال لهم : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ . والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ )أى : قال لهم موبخا ومؤنبا : أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها وتقطعونها من الحجارة أو من الخشب بأيديكم ، وتتركون عبادة الله - تعالى - الذى خلقكم وخلق الذى تعملونه من الأصنام وغيرها .
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ
📘 قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : ( والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) " ما " فى موضع نصب ، أى : خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام ، يعنى الخشب والحجارة وغيرها .وقيل إن " ما " استفهام ، ومعناه : التحقير لعملهم . وقيل : هى نفى أى : أنتم لا تعملون ذلك لكن الله خالقه والأحسن أن تكون " ما " مع الفعل مصدرا . والتقدير : والله خلقكم وعملكم ، وهذا مذهب أهل السنة ، أن الأفعال خلق الله - عز وجل - واكتساب للعباد .وروى أبو هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله خالق كل صانع وصنعته " .
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ
📘 ولكن هذا المنطق الرصين من إبراهيم ، لم يجد أذنا واعية من قومه ، بل قابلوا قوله هذا بالتهديد والوعيد الذى حكاه - سبحانه - فى قوله : ( قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم ) أى قالوا فيما بينهم : انبوا لإِبراهيم بنيانا ، ثم املأوه بالنار المشتعلة ، ثم ألقوا به فيها فتحرقه وتهلكه .فالمراد بالجحيم : النار الشديدة التأجج . وكل نا رعضها فوق بعض فهى جحيم ، وهذا اللفظ مأخوذ من الجَحْمة وهى شدة التأجج والاتقاد - يقال : حجم فلان النار - كمنع - إذا أوقدها وأشعلها ، واللام فيه عوض عن المضاف إليه - أى - ألقوه فى جحيم ذلك البنيان الملئ بالنار .
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ
📘 وبنوا البنيان ، وأضرموه بالنار ، وألقوا بإبراهيم فيها ، فماذا كانت النتيجة؟كانت كما قال - سبحانه - بعد ذلك : ( فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً ) أى : شرا وهلاكا عن طريق إحراقه بالنار ( فَجَعَلْنَاهُمُ ) - بقدرتنا التى لا يعجزها شئ - الأسفلين أى : الأذلين المقهورين ، حيث أبطلنا كيدهم ، وحولنا النار إلى برد وسلام على عبدنا إبراهيم - عليه السلام - .وهكذا رعاية الله - تعالى - تحرس عباده المخلصين ، وتجعل العاقبة لهم على القوم الكافرين .
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ
📘 ثم تسوق لنا السورة الكريمة بعد ذلك جانبا آخر من قصة إبراهيم - عليه السلام - هذا الجانب يتمثل فى هجرته من أجل نشر دعوة الحق وفى تضرعه إلى ربه أن يرزقه الذرية الصالحة ، فتقول : ( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين . . )أى : قال إبراهيم بعد أن نجاه الله - تعالى - من كيد أعدائه ( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي ) أى : إلى المكان الذى أمرنى ربى بالسير إليه ، وهو بلاد الشام ، وقد تكفل - سبحانه - بهدايتى إلى ما فيه صلاح دينى ودنياى .قال القرطبى : " هذه الآية أصل فى الهجرة والعزلة . وأول من فعل ذلك إبراهيم - عليه السلام - وذلك حين خلصه الله من النار ( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي ) أى : مهاجر من بدل قومى ومولدى ، إلى حيث أتمكن من عبادة ربى ، فإنه ( سَيَهْدِينِ ) فيما نويت إلى الصواب .قال مقاتل : هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة . إلى الأرض المقدسة وهى أرض الشام . .والسين فى قوله : ( سَيَهْدِينِ ) لتأكيد وقوع الهداية فى المستقبل ، بناء على شدة توكله ، وعظيم أمله فى تحقيق ما يرجوه من ربه ، لأنه ما هاجر من موطنه إلا من أجل نشر دينه وشريعته - سبحانه - .