🕋 تفسير سورة النجم
(An-Najm) • المصدر: AR-TAFSIR-AL-WASIT
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ
📘 افتتح الله - تعالى - هذه السورة بهذا القسم العظيم ، للدلالة على صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وللرد على أولئك المشركين الجاهلين ، الذين زعموا أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قد اختلق القرآن الكريم .والنجم : هو الكوكب الذى يبدو للناظرين ، لامعا فى جو السماء ليلا .والمراد به هنا : جنسه ، أى : ما يشمل كل نجم بازغ فى السماء ، فأل فيه للجنس .وقيل : أل فيه للعهد والمراد به نجم مخصوص هو : الشعرى ، وهو نجم كان معروفا عند العرب . وقد جاء الحديث عنه فى آخر السورة ، فى قوله - تعالى - : ( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى ) قالوا : وكانت قبيلة خزاعة تعبده .وقيل المراد به : الثريا ، فإنه من النجوم المشهورة عند العرب .وقيل : المراد به هنا : المقدار النازل من القرآن على النبى - صلى الله عليه وسلم - وجمعه نجوم ، وقد فسره بعضهم بذلك فى قوله - تعالى - : ( فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم ) ومعنى " هوى " : سقط وغرب . يقال هو الشىء يهوى - بكسر الواو - - هويا - بضم الهاء وفتحها - إذا سقط من أعلى إلى أسفل .قال الآلوسى : وأظهر الأقوال ، القول بأن المراد بالنجم ، جنس النجم المعروف ، فإن اصله اسم جنس لكل كوكب . وعلى القول بالتعيين ، فالأظهر القول بأنه الثريا ووراء هذين القولين ، القول بأن المراد به : المقدار النازل من القرآن .
فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ
📘 وقوله : ( فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى ) أى : فأوحى جبريل - عليه السلام -إلى عبد الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى من قرآن كريم ، ومن هدى حكيم .فالضمير فى قوله : ( فأوحى ) أى : جبريل ، لأن الحديث فى شأنه وإيحاؤه إنما هو بأمر الله - تعالى - ومشيئته ، ويرى بعضهم أنه يعود إلى الله - تعالى - .قال الآلوسى : قوله : ( فأوحى ) أى : جبريل ( إلى عَبْدِهِ ) أى : عبد الله ، وهو النبى - صلى الله عليه وسلم - ، والإضمار - ولم يجر له - تعالى - ذكر ، لكونه فى غاية الظهور ، ومثله كثير فى الكلام ، ومنه : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ . . ) ( مَآ أوحى ) أى : الذى أوحاه ، والضمير المستتر لجبريل - أيضا - .وقيل : المضير المستتر لله - تعالى - . أى : أوحى جبريل إلى عبد الله ، ما أوحاه الله إلى جبريل .والأول مروى عن الحسن ، وهو الأحسن .وقيل : ضمير أوحى الأول والثانى لله - تعالى - والمراد بالعبد جبريل - عليه السلام - وهو كما ترى . . .وأبهم - سبحانه - ما أوحاه ، لتفخيم شأنه ، وإعلاء قدره ، حتى لكأنه لا تحيط به عبارة ، ولا يحده الوصف ، وشبيه بهذا التعبير قوله - تعالى - : ( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ ) وعبر - سبحانه - عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعبده ، وأضافه إليه ، للتشريف والتكريم ، ولبيان أنه عبد من عباده - تعالى - الذين اصطفاهم لحمل رسالته ، وتبليغ ما أوحاه إليه .
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ
📘 وقوله : ( مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى ) رد على المشركين ، وتكذيب لهم ، فيما زعموه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتلق الوحى عن جبريل ، ولم يشاهده .واللام فى قوله ( الفؤاد ) عوض عن المضاف إليه ، والفؤاد : العقل أو القلب ، ومنه قوله - تعالى - :( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِه . . ) وقراءة الجمهور ( كَذَبَ ) بفتح الذال مع التخفيف ، وقرأ ابن عامر بفتحها مع التشديد ، و " ما " موصولة ، والعائد محذوف .أى : ما كذب فؤاد النبى - صلى الله عليه وسلم - وما أنكر ، الذى رآه ببصره من صورة جبرير - عليه السلام - لأنه لم يكن يجهله ، بل كان معروفا لديه ، وصاحب الوحى إليه ، فهو - صلى الله عليه وسلم - ما رآه ببصره من صورة جبريل - عليه السلام - .أى : ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ، ولو قال ذلك - لعى سبيل الفرض - لكان كاذبا لأنه عرفه ، يعنى أنه رآه بعينه ، وعرفه بقلبه ، ولم يشك فى أن ما رآه حق .وقرىء : ( مَا كَذَّبَ ) - بالتشديد - ، أى : صدقه ولم يشك أنه جبريل بصورته .
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ
📘 ثم وبخ - سبحانه - المشركين على تكذيبهم للنبى - صلى الله عليه وسلم - فيما يخبرهم عنه من شئون الوحى ، فقال : ( أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى ) .والمماراة : المجادلة والملاحاة بالباطل . يقال : مارَى فلان فلانا مماراة ومِرَاء ، إذا جادله ، مأخوذ من مَرَى الناقة يَمْريها . إذا مسح ضرعها ليستدر لبنها ، ويأخذه كاملا ، فشبه الجدال بذلك ، لأن كل واحد من المتجادلين يَمرِّى ما عند صاحبه ، أى : يسعى لاستخراج كل ما عنده ، حتى يقيم الحجة عليه .وعدى الفعل بعلى لتضمنه معنى المغالبة .أى : أفتجادلون نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيما رآه بعينيه ، وتجادلونه فى شىء هو تحقق منه بعقله وبصره ، وهو ملاقاته ورؤيته لأمين وحينا جبريل - عليه السلام -؟ إن مجادلتكم له فى ذلك ، هو من قبيل التعنت الواضح ، والجهل الفاضح ، لأنكم كذبتموه وجادلتموه فى شىء هو قد رآه وتحقق منه ، وأنتم تعلمون أنه صادق أمين .فالمقصود بالاستفهام تبكيتهم وتجهيلهم على جدالهم بالباطل .هذا وقد ذكر العلماء ، أن هذه الآيات ، تشير إلى رؤية النبى - صلى الله عليه وسلم - لجبريل ، على الهيئة التى خلقه الله - تعالى - عليها ، فقد كان جبريل يأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فى صورة آدمى ، فسأله أن يريه نفسه على صورته التى خلق عليها ، فأراه نفسه مرتين : مرة فى الأرض وهى التى تشير إليها هذا الآيات ، ومرة فى السماء ، وهى التى تشير إليها الآيات التالية .وقد توسع الإمام ابن كثير فى ذكر الأحاديث التى وردت فى ذلك فقال ما ملخصه :عن عبد الله بن مسعود ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ير جبريل فى صورته إلى مرتين ، أما واحدة فإنه سأله أن يراه فى صورته ، فسد الأفق ، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد ..
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ
📘 وقوله - سبحانه - : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى . . ) إشارة إلى المرة الثانية التى رأى فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - جبريل على هيئته التى خلقه الله - تعالى - عليها ، وكان ذلك فى ليلة الإسراء والمعراج . أى : والله لقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - جبريل فى صورته التى خلق عليها ، حالة كونه نازلا من السماء نزلة أخرى .وقد جاء الإخبار عن هذه الرؤية بصيغة مؤكدة بلام القسم وبقد . . . للرد على المشركين الذين أنكروا ذلك ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : لئن كنتم قد أنكرتم هذه الرؤية فى الأرض ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يره فى الأرض فقط ، بل رآه رؤة أعظم من لك ، وهى رؤيته له فى السماء ، حين كان مصاحبا له فى رحلته ليلة الإسلاء والمعراج .قال الآلوسى : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى ) أى : رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - جبريل فى صورته التى خلقه الله عليها ( نَزْلَةً أخرى ) أى : مرة أخرى ، وهى فعلة من النزول ، أقيمت مقام المرة ، ونصبت نصبها على الظرفية ، لأن أصل المرة مصدر مر يمر ، ولشدة اتصال الفعل بالزمان يعبر به عنه . ولم يقل مرة بدل نزلة ، ليفيد أن الرؤية فى هذه المرة ، كانت بنزول ودنو ، كالرؤية فى المرة الأولى ، الدال عليها ما مر . .والمراد من الجملة القسمية ، نفى الريبة والشك عن المرة الأخيرة ، وكانت ليلة الإسراء .
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ
📘 وقوله : ( عِندَ سِدْرَةِ المنتهى ) بيان للمكان الذى تمت عنده الرؤية الثانية .والسدرة فى الأصل : تطلق على شجرة النَّبِق ، وهو ثمر معروف فى بلاد العرب .والمنتهى : اسم مكان ، أو مصدر ميمى بمعنى الانتهاء . وإضافة السدرة إليه ، من باب إضافة الشىء إلى مكانه ، كما فى قولهم : أشجار البستان . أو من إضافة المحل إلى الحال ، كما فى قولك : كتاب الفقه أو النحو .وسمى هذا المكان بسدرة المنتهى ، لانتهاء علوم الخلائق عنده ، وما وراءه لا يعلمه إلا الله - تعالى - .أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : لما أسرى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى به إلى سدرة المنتهى ، وهى فى السماء السابعة وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض فيقبض منها . وإليها ينتهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها .
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ
📘 ثم بين - سبحانه - ما يدل على شرف هذا المكان فقال : ( عِندَهَا جَنَّةُ المأوى ) .أى : عند سدرة المنتهى ، جنة المأوى . أى : الجنة التى تأوى وتسكن إليها أرواح المؤمنين الصادقين ، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه .
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ
📘 ثم نوه - سبحانه - بما يحيط بذلك المكان من جلال وجمال لا تحيط العبارة بوصفه فقال : ( إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى ) .والظرف " إذ " . فى موضع الحال من " سدرة المنتهى " ، لقصد الإشادة بما أحاط بذلك المكان من شرف وبهاء .. . أو هو متعلق بقوله : ( رَآهُ ) .أى : ولقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - على هيئته التى خلقه الله عليها مرة أخرى ، عند ذلك المكان الجليل المسمى بسدرة المنتهى ، حالة كون هذا المكان ينزل به ما ينزل ، ويغشاه ما يغشاه من الفيوضات الربانية ، والأنوار القدسية ، والخيرات التى لا يحيط بها الوصف . . .فهذا الإبهام فى قوله ( مَا يغشى ) المقصود به التهويل والتعظيم والتكثير ، لما يغشى هذا المكان من خيرات وبركات . .
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ
📘 وقوله - تعالى - ( مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى ) بيان لما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - من ثبات واطمئنان عند رؤيته لما أذن الله - تعالى - له فى رؤيته .والزيغ : هو الميل عن حدود الاستقامة . والطغيان : تجاوز الحدود المشروعة .أى : ما مال بصر النبى - صلى الله عليه وسلم - عما أنذ الله - تعالى - له فى رؤيته . وما تجاوزه إلى ما لم يؤذن له فى رؤيته ، بل كان بصره - صلى الله عليه وسلم - منصبا على ما أبيح له النظر إليه .فالمقصود من الآية الكريمة ، الثناء على النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ووصفه بما هو أهله من أدب وطاعة لخالقه - عز وجل - .قال ابن كثير : قوله : ( مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى ) قال ابن عباس : ما ذهب يمينا ولا شمالا ، وما جاوز ما أمر به ، وهذه صفة عظيمة فى الثبات والطاعة . فإنه ما فعل إلا ما أمر به ، ولا سأل فوق ما أعطى ، وما أحسن قول القائل :رأى جنة المأوى وما فوقها ولو ... رأى غيره ما قد رآه لتاها
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ
📘 ثم عظم - سبحانه - من شأن ما أراه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى ) .والكلام جواب لقسم محذوف ، والآيات جمع آية ، والمراد بها العجائب التى أطلع الله - تعالى - عليها نبيه - صلى الله عليه وسلم - فى تلك الليلة ، وهى ليلة الإسراء والمعراج .والكبرى : صفة لهذه الآيات ، وحذف المرئى : لتفخيم أمره وتعظيمه .أى : والله لقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - فى تلك الليلة أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف ، وقد أكرمناه برؤيتها ليزداد يقينا على يقينه ، وثباتا على ثباته ، وقوة على قوته فى تبليغ رسالتنا ، وحمل أمانتنا .هذا ، وقد جرينا فى تفسيرنا لهذه الآيات على الرأى الذى سار عليه المحققون من العلماء وهو أن هذه الآيات تحكى رؤية النبى - صلى الله عليه وسلم - لجبريل مرتين ، كما سبق أن بينا ، وأن الضمائر فى تلك الآيات منها ما يرجع إلى جبريل ، ومنها ما يرجع إلى الله - عز وجل - .وقد أعدنا كل ضمير إلى مرجعه الذى نراه مناسبا للمقام .فمثلا : الضمير المنصوب فى قوله - تعالى - : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى ) قلنا : إنه يعود إلى جبريل . أى : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل على هيئته التى خلقه الله عليها مرة أخرى ، غير المرة الأولى التى كانت فى أوائل بعثته - صلى الله عليه وسلم - .ولكن بعض المفسرين يرون أن مرجع الضمير فى هذه الآية وغيرها ، يعود إلى الله - تعالى - ، ويستدلون بذلك على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه .وقد فصل القول فى هذه المسألة الإمام الآلوسى فقال ما ملخصه : فالضمائر فى " دنا " " وتدلى " " وأوحى . . " وكذلك المضير المنصوب فى " رآه " لله - عز وجل - .واستدل بذلك مثبتو رؤية النبى - صلى الله عليه وسلم - لله - عز وجل - كابن عباس وغيره .وخالفت فى ذلك عائشة - رضى الله عنها - فقد أخرج مسلم عن مسروق قال : " كنت عند عائشة فقالت : ثلاث من تكلم بواحدة منهن ، فقد أعظم على الله - تعالى - الفرية .قلت : ما هن؟ قالت : من زعم أن محمدا يعلم الغيب فقد كذب . ومن زعم أن محمدا كتم شيئا فقد كذب ، ومن زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، فقلت : يا أم المؤمنين : ألم يقل الله - تعالى - : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى ) ؟ . فقالت : أنا أول من سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : " لا ، إنما هو جبريل ، لم أره على صورته التى خلق عليها سوى هاتين المرتين . رأيته منهبطا من السماء سادا ما بين السماء إلى الأرض " " .ثم قال الآلوسى : ولا يخفى أن جواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عائشة ، ظاهر فى أن الضمير المنصوب فى ( رَآهُ ) ليس راجعا إليه - تعالى - ، بل إلى جبريل - عليه السلام - .والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يراها ترد على المشركين مزاعمهم ، بأبلغ أسلوب ، وأقوى بيان ، وتثبت أن هذا القرآن ، قد بلغه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - دون أن يزيد فيه شيئا ، أو ينقص منه شيئا ، وأنه - سبحانه - قد أعطى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات ، ومن الخيرات والبركات . . . . ما لم يعط غيره .
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ
📘 وبعد هذا التصوير البديع لما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - من حق واضح ، ومن تكريم عظيم ومن طاعة تامة لخالقه - عز وجل - بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة ، فى تصوير ما عليه المشركون من باطل وجهل وفى تبكيتهم على عبادتهم لأصنام لا تسمع ولا تبصر ، ولا تملك الدفاع عن نفسها فضلا عن غيرها . . . فقال - تعالى - :( أَفَرَأَيْتُمُ اللات . . . ) .والهمزة فى قوله : ( أَفَرَأَيْتُمُ ) للإنكار والتهكم ، والفاء لترتيب الرؤية على ما سبق ذكره من صفات جليلة لله - تعالى - تدل على وحدانيته ، وكمال قدرته ، ومن ثناء على النبى - صلى الله عليه وسلم - والرؤية هنا ، علمية ومفعلوها الثانى محذوف ، لدلالة قوله - سبحانه - ( أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى ) عليه .و " اللات " اسم لصنم كان لثقيف بالطائف . قال الشاعر :وفرت ثقيف إلى " لاتها " ... بمنقلب الخائب الخاسروكان هذا الصنم على هيئة صخرة مربعة ، قد بنوا عليه بناء ونقشوا عليه نقوشا ، وكانت قريش وجمهور العرب ، يعظمونه ويعبدونه . . .وكأنهم قد سموه بهذا الاسم ، على سبيل الاشتقاق من اسم الله - تعالى - فقالوا " اللات " قصداً للتأنيث .و ( والعزى ) : فُعْلَى من العز . وهى اسم لصنم ، وقيل لشجرة حولها بناء وأستار ، وكانت بمكان يقال له نخلة ، بين مكة والطائف ، وكانت قريش تعظمها ، كما قال أبو سفيان يوم أحد " لنا العزى ولا عزى لكم " .فقال - صلى الله عليه وسلم - قولوا له : " الله مولانا ولا مولى لكم " .ولعلهم قد سموها بذلك . أخذا من لفظ العزيز ، أو من لفظ العز ، فهى تأنيث الأعز ، كالفضلى والأفضل .
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ
📘 وقوله - سبحانه - : ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى ) . جواب القسم . و " ما " نافية . و " ضل " من الضلال ، والمراد به هنا : عدم الاهتداء إلى الحق ، وإلى الطريق المستقيم .و " غوى " من الغى ، وهو الجهل الناشىء من اعتقاد فاسد ، وهو ضد الرشد .
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ
📘 وأما " مناة " فكانت صخرة ضخمة ، بمكان يقال له المشلل ، بين مكة والمدينة ، وكانت قبيلة خزاعة والأوس والخزرج فى جاهليتهم يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة .قالوا : وسميت بهذا الاسم ، لأن دماء الذبائح كانت تمنى عندها ، أى : تراق وتسكب .والمعنى : لقد ذكرنا لكم - أيها المشركون - ما يدل على وحدانيتنا ، وكمال قدرتنا ، وسمو منزلة نبينا - صلى الله عليه وسلم - . . . فأخبرونى بعد ذلك ما شأن هذه الأصنام التى لا تضر ولا تنفع ، كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . إنها أشياء فى غاية الحقارة والعجز ، فكيف سويتم بينها وبين الخالق - عز وجل - فى العبادة ، وكيف أبحتم لأنفسكم تعظيمها ، وزعمتم أنها بنات الله . . ؟ .فالمقصود بالاستفهام التعجيب من أحوالهم ، والتجهيل لعقولهم .ويصح أن تكون الرؤية فى قوله - سبحانه - ( أَفَرَأَيْتُمُ ) بصرية ، فلا تحتاج إلا لمفعول واحد . أى : انظروا بأعينكم إلى تلك الأصنام ، التى من أشهرها : اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، أترونها تملك الدفاع عن نفسها فضلا عن غيرها؟ إنها لا تملك شيئا ، فكيف عظمتموها مع حقارتها وعجزها؟والاستفهام - أيضا - للتهكم بهم ، والتعجيب من تفكيرهم السقيم .قال الآلوسى : والظاهر أن " الثالثة الأخرى : صفتان لمناة . وهما على ما قيل للتأكيد .وقال بعض الأجلة : الثالثة للتأكيد . و ( الأخرى ) للذم بأنها متأخرة فى الرتبة ، وضيعة المقدار . . .والكلام خطاب لعبدة هذه المذكورات ، وقد كانوا مع عبادتهم لها يقولون : إن الملائكة - عليهم السلام - وتلك المعبودات الباطلة ، بنات الله .- تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل لهم تويبخا وتبكيتا : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى . . ) الخ .
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَىٰ
📘 وقوله - سبحانه - : ( أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى ) توبيخ آخر لهم على جهلهم ، وبيان لسبب التوبيخ والتهكم . . .ولفظ " ضيزى " بمعنى جائرة وظالمة . يقال : ضاز فلان فى حكمه ، إذا جار وظلم ولم يراع القسط فى أقواله وأفعاله ، ويقال : ضاز فلان فلانا حقه ، إذا بخسه ونقصه . .قال الجمل ما ملخصه : قرأ الجمهور ( ضيزى ) من ضازه يضيزه . إذا جار عليه ، فمعنى " ضيزى " جائرة . وعلى هذا فتحتمل وجهين : أحدهما أن تكون صفة على " فعلى " ، - بضم الفاء - وإنما كسرت الفاء لتصح الياء كبيض - جمع أبيض - .وثانيهما : أن تكون من ضأزه بالهمزة كقراءة ابن كثير ، إلا أن الهمزة قد خففت . . ومعنى ضأزه يضأزه : نقصه .أى : أجعلتم لله - تعالى - البنات ، وجعلتم لأنفسكم البنين ، مع تفضيلكم للبنين على البنات ، ومع اعترافكم بأن الله - تعالى - هو الخالق لكم ولكل شىء .إن فعلكم هذا لهو فى غاية الجور والظلم ، لأنكم نسبتم إلى الله - تعالى - وهو خالقكم ما استنكفتم من نسبه لأنفسكم .فأنت ترى أنه - سبحانه - لم يكتف بوصفهم بالكفر ، بل أضاف إلى ذلك وصفهم بالجور والحمق وانطماس البصيرة .وجملة : ( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى ) تعليل للإنكار والتوبيخ المستفاد من الاستفهام فى قوله : ( أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى ) .وقدم - سبحانه - الجار والمجرور فى قوله : ( أَلَكُمُ . . ) لإفادة التخصيص .والإشارة بتلك تعود إلى القسمة المفهومة من قوله : ( أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى ) و ( إِذاً ) فى قوله : ( تِلْكَ إِذاً . . . ) حرف جواب . أى : إن كان الأمر كما زعمتم ، فقسمتكم إذا قسمة جائرة ظالمة .
تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ
📘 وقوله - سبحانه - : ( أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى ) توبيخ آخر لهم على جهلهم ، وبيان لسبب التوبيخ والتهكم . . .ولفظ " ضيزى " بمعنى جائرة وظالمة . يقال : ضاز فلان فى حكمه ، إذا جار وظلم ولم يراع القسط فى أقواله وأفعاله ، ويقال : ضاز فلان فلانا حقه ، إذا بخسه ونقصه . .قال الجمل ما ملخصه : قرأ الجمهور ( ضيزى ) من ضازه يضيزه . إذا جار عليه ، فمعنى " ضيزى " جائرة . وعلى هذا فتحتمل وجهين : أحدهما أن تكون صفة على " فعلى " ، - بضم الفاء - وإنما كسرت الفاء لتصح الياء كبيض - جمع أبيض - .وثانيهما : أن تكون من ضأزه بالهمزة كقراءة ابن كثير ، إلا أن الهمزة قد خففت . . ومعنى ضأزه يضأزه : نقصه .أى : أجعلتم لله - تعالى - البنات ، وجعلتم لأنفسكم البنين ، مع تفضيلكم للبنين على البنات ، ومع اعترافكم بأن الله - تعالى - هو الخالق لكم ولكل شىء .إن فعلكم هذا لهو فى غاية الجور والظلم ، لأنكم نسبتم إلى الله - تعالى - وهو خالقكم ما استنكفتم من نسبه لأنفسكم .فأنت ترى أنه - سبحانه - لم يكتف بوصفهم بالكفر ، بل أضاف إلى ذلك وصفهم بالجور والحمق وانطماس البصيرة .وجملة : ( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى ) تعليل للإنكار والتوبيخ المستفاد من الاستفهام فى قوله : ( أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى ) .وقدم - سبحانه - الجار والمجرور فى قوله : ( أَلَكُمُ . . ) لإفادة التخصيص .والإشارة بتلك تعود إلى القسمة المفهومة من قوله : ( أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى ) و ( إِذاً ) فى قوله : ( تِلْكَ إِذاً . . . ) حرف جواب . أى : إن كان الأمر كما زعمتم ، فقسمتكم إذا قسمة جائرة ظالمة
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ
📘 ثم بين لهم - سبحانه - وجه الحق فى هذه الأصنام فقال : ( إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ . . ) . أى : ما هذه الأصنام التى عبدتموها من دون الله ، أو توهمتم أنها تشفع لكم عنده - تعالى - . ما هى إلا أسماء محضة ، ليس فيها شىء أصلا من صفات الألوهية ، وأنتم وآباؤكم سميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم ، دون أن يكون معكم على هذه التسمية شىء من الحجة أو الدليل أو البرهان . . .فالمضير " هى " يعود إلى اللات والعزى ومناة وغيرها نم الآلهة الباطلة .والمراد بقوله : ( أَسْمَآءٌ ) : أنها ليس لها من الألوهية التى أثبتوها لها سوى اسمها ، وأما معناها وحقيقتها فهى أبعد ما تكون عن ذلك . . .وجملة " سميتموها " صفة للأسماء ، والهاء هى المفعول الثانى ، والمفعول الأول محذوف ، والتقدير : إن هى إلا أسماء سميتموها الأصنام ، أى : سميتم بها الأصنام .والمراد بالسلطان : الحجة والدليل ، والمراد بالإنزال : الإخبار بأنها آلهة و " من " مزيدة لتوكيد عدم الإنزال على سبيل القطع والبت .أى : ما أخبر الله - تعالى - عنها بأنها آلهة ، بأى لون من ألوان الإخبار ، ولا توجد حجة من الحجج حتى ولو كانت واهية تشير إلى ألوهيتها .ثم يهمل - سبحانه - خطابهم بعد ذلك ، ويذرهم فى أوهامهم يعمهون ، ويلتفت بالحديث عنهم حتى كأنهم لا وجود لهم ، فيقول : ( إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس . . ) .أى : ما يتبع هؤلاء الجاهلون فى عبادتهم لتلك الآلهة الباطلة ، إلا الظنون الكاذبة ، وإلا ما تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء ، وتقليد للآباء بدون تفكر أو تدبر . .فالمراد بالظن هنا : الظن الباطل الذى يقوم على الاعتقاد الفاسد ، كما فى قوله - تعالى - : ( إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) والتعريف فى قوله - سبحانه - : ( وَمَا تَهْوَى الأنفس ) عوض عن المضاف إليه . و ( مَا ) موصولة والعائد محذوف . أى : والذى تهواه أنفسهم التى استحوذ عليها الشيطان . .وجملة : ( وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى ) حالية من فاعل " يتبعون " ، وجىء بها لزيادة التعجب من حالهم .أى : هم ما يتبعون إلا الظنون وما تهواه أنفسهم المحجوبة عن الحق ، والحال أنه قد جاء إليهم ، ووصل إلى مسامعهم من ربهم ، ما يهديهم إلى الصواب لو كانوا يعقلون .وأكد - سبحانه - هذه الجملة بلام القسم وقد ، لتأكد الخبر ، ولزيادة التعجب من أحوالهم التى بلغت الغاية فى الغرابة .والتعبير بقوله : ( جَآءَهُم ) يشعر بأن الحق قد وصل إليهم بدون عناء منهم ، ولكنهم مع ذلك رفضوه وأعرضوا عنه .والتعريف فى لفظ " الهدى " يدل على كماله وسموه . أى . ولقد جاءهم من ربهم الهدى الكامل الذى ينتهى بمن يتبعه إلى الفوز والسعادة .والمراد به : ما جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من قرآن كريم ومن سنة مطهرة .
أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّىٰ
📘 ثم بين - سبحانه - أن شهوات النفس ومطالبها وأمنياتها لا تتحقق إلا فى الإطار الذى يريده الله - تعالى - لها ، فقال : ( أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى فَلِلَّهِ الآخرة والأولى ) .والاستفهام هنا - أيضا - للإنكار ، ولإبطال اتباعهم للظنون ولما تهوان أنفسهم . .أى : إن هؤلاء قد اتبعوا فى ضلالهم وكفرهم الظنون والأوهام ، وما تشتهيه قلوبهم من حب للرياسة ، ومن تقليد للآباء ، ومن تطلع إلى أن هذه الأصنام ستشفع لهم عند الله - تعالى - . . مع أن وقائع الحياة وشواهدها التى يرونها بأعينهم ، تدل دلالة واضحة ، على أنه ليس كل ما يتمناه الإنسان يدركه ، وليس كل ما يريده يتحقق له . . .لأن كل شىء فى هذه الحياة مرهون بإرادته ومشيئته - سبحانه - وهو - عز وجل - صاحب الدار الآخرة ، وصاحب الدار الأولى وهى دار الدنيا ، ولا يقع فيهما إلا ما يريده .فالمقصود من الآيتين الكريمتين ، نفى ما كان يتمناه أولئك المشركون من شفاعة أصنامهم لهم يوم القيامة ، كما حكى عنهم - سبحانه - ذلك فى قوله : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى . . ) ونفى ما كانت تتطلع إليه نفوس بعضهم ، من نزول القرآن عليه ، أو من اختصاصه بالنبوة . فقد حكى - سبحانه - عنهم قولهم : ( . . . لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ ) كما أن المقصود بها كذلك ، ترويض النفس البشرية على عدم الجرى وراء ظنونها وأهوائها ، بل عليها أن تتمسك بالحق ، وأن تعتصم بطاعة الله - تعالى - وأن تباشر الأسباب التى شرعها - سبحانه - ، ثم بعد ذلك تترك النتائج له يسيرها كيف يشاء ، فإن له الآخرة والأولى .وقدم - سبحانه - الجار والمجرور فى قوله : ( أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى ) لإفادة أن هذا التمنى هو محط الإنكار ، وأن الإنسان العاقل هو الذى لا يجرى وراء أمنياته ، وإنما هو الذى يسعى إلى تحقيق ما أمره الله - تعالى - به من تكاليف .وقدم - سبحانه - الآخرة على الأولى ، لأنها الأهم ، إذ نعيمها هو الخالد الباقى ، أما شهوات الدنيا وملذتها ، فهى مهما كثرت ، زائلة فانية .
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَىٰ
📘 ثم بين - سبحانه - أن شهوات النفس ومطالبها وأمنياتها لا تتحقق إلا فى الإطار الذى يريده الله - تعالى - لها ، فقال : ( أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى فَلِلَّهِ الآخرة والأولى ) .والاستفهام هنا - أيضا - للإنكار ، ولإبطال اتباعهم للظنون ولما تهوان أنفسهم . .أى : إن هؤلاء قد اتبعوا فى ضلالهم وكفرهم الظنون والأوهام ، وما تشتهيه قلوبهم من حب للرياسة ، ومن تقليد للآباء ، ومن تطلع إلى أن هذه الأصنام ستشفع لهم عند الله - تعالى - . . مع أن وقائع الحياة وشواهدها التى يرونها بأعينهم ، تدل دلالة واضحة ، على أنه ليس كل ما يتمناه الإنسان يدركه ، وليس كل ما يريده يتحقق له . . .لأن كل شىء فى هذه الحياة مرهون بإرادته ومشيئته - سبحانه - وهو - عز وجل - صاحب الدار الآخرة ، وصاحب الدار الأولى وهى دار الدنيا ، ولا يقع فيهما إلا ما يريده .فالمقصود من الآيتين الكريمتين ، نفى ما كان يتمناه أولئك المشركون من شفاعة أصنامهم لهم يوم القيامة ، كما حكى عنهم - سبحانه - ذلك فى قوله : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى . . ) ونفى ما كانت تتطلع إليه نفوس بعضهم ، من نزول القرآن عليه ، أو من اختصاصه بالنبوة . فقد حكى - سبحانه - عنهم قولهم : ( . . . لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ ) كما أن المقصود بها كذلك ، ترويض النفس البشرية على عدم الجرى وراء ظنونها وأهوائها ، بل عليها أن تتمسك بالحق ، وأن تعتصم بطاعة الله - تعالى - وأن تباشر الأسباب التى شرعها - سبحانه - ، ثم بعد ذلك تترك النتائج له يسيرها كيف يشاء ، فإن له الآخرة والأولى .وقدم - سبحانه - الجار والمجرور فى قوله : ( أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى ) لإفادة أن هذا التمنى هو محط الإنكار ، وأن الإنسان العاقل هو الذى لا يجرى وراء أمنياته ، وإنما هو الذى يسعى إلى تحقيق ما أمره الله - تعالى - به من تكاليف .وقدم - سبحانه - الآخرة على الأولى ، لأنها الأهم ، إذ نعيمها هو الخالد الباقى ، أما شهوات الدنيا وملذتها ، فهى مهما كثرت ، زائلة فانية .
۞ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ
📘 ثم بين - سبحانه - أن الملائكة مع سمو منزلتهم ، وشدة حرصهم على طاعة الله - تعالى - ، لا يملكون الشفاعة لأحد إلا بإذنه - عز وجل - فقال : ( وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى ) .و " كم " هنا خبرية بمعنى كثير ، وهى فى موضع رفع على الابتداء ، وخبرها جملة ، " لا تغنى شفاعتهم . . . " وهى وإن كانت مفردة لفظا ، إلا أنها فى معنى الجمع . . .أى : وكثير من الملائكة المقربين لدينا فى السموات العلا ، لا تغنى شفاعتهم عندنا شيئا من الأشياء . إلا من بعد أن يأذن الله - تعالى - لهم فيها ، لمن يشاء أن يشفعوا له ، ويرضى - سبحانه - عن هذا المشفوع له .فالآية الكريمة من قبيل ضرب المثل للمشركين ، الذين توهموا أن أصنامهم ستشفع لهم ، وكأنه - سبحانه - يقول لهم : إذا كان الملائكة مع سمو منزلتهم عندنا لا يشفعون إلا بإذننا ، ولمن نرضى عنه . فكيف وصل بكم الجهل والحمق - أيها المشركون - إلى توهم أن أصنامكم - مع خستها وحقارتها - ستشفع لكم عندنا؟وقوله : ( فِي السماوات ) صفة " لملك " والمقصود بهذه الصفى التشريف والتكريم .وقوله : ( شَيْئاً ) التنكير فيه للتقليل والتعميم ، وهو فى موقع المفعول المطلق .أى : لا تغنى شفاعتهم شيئا من الإغناء حتى ولو كان فى غاية القلة .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : ( وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ . . ) وقوله - سبحانه - : ( . . وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) وهذه الآيات الكريمة بجانب تيئيسها للكافرين من الحصول على أية شفاعة ، لأنهم ليسوا ممن رضى الله عنهم ، تدعو المؤمنين إلى مواصلة المحافظة على أداء حقوقه - سبحانه - ، لينالوا رضاه عنهم يوم القيامة ، وليكونوا أهلا للحصول على الشفاعة التى يبغونها .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَىٰ
📘 ثم عادت السورة إلى ذم الكافرين الذين وصفوا الملائكة بصفات لا تليق بهم . فقال - تعالى - : ( إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة ) وما فيها من حساب وجزاء وثواب وعقاب . . . ( لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الأنثى ) أى : ليصفون الملائكة بوصف الإناث فيقولون : الملائكة بنات الله كما قال - تعالى - : ( وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) ولفظ : " الملائكة " هنا فى معنى استغراق كل فرد ، أى : ليسمون كل واحد منهم ويصفونه بصفة الأنوثة .
وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا
📘 وقوله - سبحانه - : ( وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن . . ) رد عليهم فيما قالوه ، وتجهيل لهم فيما زعموه ، والجملة حال من ضمير " ليسمون " .أى : إنهم ليصفون الملائكة بالأنوثة ، والحال أنهم لا علم لهم بتكوين هؤلاء الملائكة ، أو بصفتهم . . . وإنما يتبعون الظن الباطل فى أقوالهم وأحكامهم .( . . . وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً ) أى : وإن الظن الباطل ، والاعتقاد الخاطىء لا يغنى فى معرفة الحق شيئا ، حتى ولو كان هذا الشىء قليلا ، لأن العقائد السليمة ، لا تبنى على الظنون والأوهام ، وإنما تبنى على الحقائق الراسخة والعلوم الثابتة .وأظهر - سبحانه - لفظ الظن هنا ، مع تقدم ذكره لتكون الجملة مستقلة بنفسها ، ولتكون - أيضا - بمثابة المثل الذى يقال فى الموضع الذى يناسبه .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد وبخت المشركين على شركهم بأسلوب منطقى سليم ، حيث ساقت لهم الحقائق فى أسلوب يغلب عليه طابع الموازنة والمقارنة ، والاستشهاد بالواقع ، ووضع أيديهم على أماكن الدواء ، لو كانوا من يريدونه ، ويبحثون عنه .
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّىٰ عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
📘 وبعد هذا البيان الحكيم الذى يحق الحق ، ويبطل الباطل ، أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أى يمضى فى طريقه الذى رسمه - سبحانه - له ، وأن يترك حساب هؤلاء الضالين لله - تعالى - الذى يجازى كل نفس بما كسبت ، والذى يعلم السر وأخفى ، والذى رحمته وسعت كل شىء . . . فقال - تعالى - : ( فَأَعْرِضْ عَن . . . ) .الفاء فى قوله : ( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا ) للإفصاح . وأصل الإعراض : لفت الوجه عن الشىء ، لأن الكاره لشىء يعرض بصفحة خده عنه .والمراد به هنا : ترك هؤلاء المشركين ، وعدم الحرص على إيمانهم ، بعد أن وصلتهم دعوة الحق . . . أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - من أن هؤلاء المشركين ، ما يتبعون فى عقائدهم إلى الظن الباطل ، وإلا ما تشتهيه أنفسهم . .فاترك مجادلتهم ولا تهتم بهم ، بعد أن بلغتهم رسالة ربك . . . فإنهم قوم قد أصروا على عنادهم . وعلى الإدبار عن وحينا وقرآننا الذى أنزلناه إليك ، ولم يريدوا من حياتهم إلا التشبع من زينة الحياة الدنيا ، ومن شهواتها ومتعها .ومن كان كذلك فلن تستطيع أن تهديه ، لأنه آثر الغى على الرشد ، والضلالة على الهداية . وجىء بالاسم الظاهر فى مقام الإضمار ، فقيل : ( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا ) ولم يقل : فأعرض عنهم . . . لبيان ما تؤذن به صلة الموصول من علة الأمر بالإعراض عنهم ، وهى أنهم قوم أعرضوا عن الوحى ، ولم يريدوا سوى متع دنياهم ، وأما ما يتعلق بالآخرة فهم فى غفلة عنه .
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ
📘 و " الهوى " الميل مع شهوات النفس ، دون التقيد بما يقتضيه الحق ، أو العقل السليم .والمعنى : وحق النجم الذى ترونه بأعينكم - أيها المشركون - عند غربوه وأفوله ، وعند رجمنا به للشياطين . . . إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - الذى أرسلناه إليكم - ( إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) ما ضل عن طريق الحق فى أقواله وأفعاله ، وما كان رأيه مجانبا للصواب فى أمر من الأمور ، وما ينطق بنطق صادر عن هوى نفسه ورأيه ، وإنما ينطق بما نوحيه إليه من قرآن كريم ، ومن قول حيكم ، ومن توجيه سديد .وقد أقسم - سبحانه - بالنجم عند غروبه ، للإشعار بأن هذا المخلوق العظيم مسخر لإرادة الله - تعالى - وقدرته فهو مع لمعانه وظهوره فى السماء لا يتأبى عن الغروب والأفول ، إذا ما أراد الله - تعالى - له ذلك ، ولا يصلح أن يكون إلها ، لأنه خاضع لإرادة خالقه .ولقد حكى - سبحانه - عن نبيه إبراهيم أنه حين ( جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين ) قال بعض العلماء : والوجه أن يكون قوله : ( إِذَا هوى ) بدل اشتمال من النجم ، لأن المراد من النجم أحواله الدالة على قدرة خالقه ومصرفه ، ومن أعظم أحواله حال هويّه وسقوطه ، ويكون " إذا " اسم زمان مجردا عن معنى الظرفية ، فى محل جر بحرف القسم . .وقال - سبحانه - : ( صَاحِبُكُمْ ) للإشارة إلى ملازمته صلى الله عليه وسلم - لهم ، طوال أربعين سنة قبل البعثة ، وأنهم فى تلك المدة الطويلة لم يشاهدوا منه إلا الصدق ، والأمانة ، والعقل الراجح ، والقول السديد . . . وأنهم لم يخف عليهم حاله بل كانوا مصاحبين له ، ومطلعين على سلوكه بينهم ، فقولهم بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - إنه ساحر أو مجنون . . . هو نوع من كذبهم البين ، وجهلهم المطبق . .
ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ
📘 وقوله : ( ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم ) تسلية له - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه منهم ، وتحقير لهم ولأفكارهم ، وتهوين من شأنهم . . . أى : ذلك الذى تراه منهم من التولى عن قرآننا ، ومن الحرص على عرض الحياة الدنيا ، منتهى علمهم ، ولا علم سواه . .فاسم الإشارة " ذلك " يعود إلى المفهوم من الكلام السابق وهو توليهم عن القرآن الكريم ، وتكالبهم على الحياة الدنيا . .وفى هذه الجملة المعترضة ما فيها من تحقير أمرهم ، ومن الازدراء بعملهم الذى أدى بهم إلى إيثار الشر على الخير ، والعاجلة على الآجلة .وقوله - سبحانه - : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ . . . ) تعليل للأمر بالإعراض عنهم ، والإهمال لشأنهم ، وتسلية أخرى له - صلى الله عليه وسلم - .أى : امض - أيها الرسول الكريم - فى طريقك ، وأعرض عن هؤلاء الجاحدين المعاندين ، الذين أصروا على عدم الاستجابة لكن بعد أن سلكت معهم كل وسيلة تهديهم إلى الحق . . إن ربك - أيها الرسول الكريم - هو أعلم بمن أصر من الناس على الضلال ، وهو - سبحانه - أعلم بمن شأنه الاهتداء ، والاستجابة للحق . .والمراد بالعلم هنا لازمه ، أى : ما يترتب عليه من ثواب وعقاب ، ثواب للمؤمنين ، وعقاب للكافرين .وكرر - سبحانه - قوله ( هُوَ أَعْلَمُ ) لزيادة التقرير ، والمراد بمن ضل : من أصر على الضلال ، وبمن اهتدى : من عنده الاستعداد لقبول الحق والهداية .وقدم - سبحانه - من ضل على من اهتدى هنا ، لأن الحديث السابق واللاحق معظمة عن المشركين ، الذين عبدوا من دون الله - تعالى - أصناما لا تضر ولا تنفع .وضمير الفصل فى قوله - سبحانه - ( هُوَ أَعْلَمُ ) لتأكيد هذا العلم ، وقصره عليه - سبحانه - قصرا حقيقيا ، إذ هو - تعالى - الذى يعلم دخائل النفوس ، وغيره لا يعلم .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى
📘 ثم بين - سبحانه - ما يدل على شمول ملكه لكل شىء فقال : ( وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض . . ) . أى : ولله - تعالى - وحده جميع ما فى السموات وما فى الأرض خلقا ، وملكا ، وتصرفا . . .واللام فى قوله : ( لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى ) متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام السابق .أى : فعل ما فعل - سبحانه - من خلقه للسموات والأرض وما فيهما ، ليجزى يوم القيامة ، الذين اساءوا فى أعمالهم بما يستحقونه من عقاب ، وليجزى الذين أحسنوا فى أعمالهم بما يستحقونه من ثواب .وقوله : ( بالحسنى ) صفة لموصوف محذوف ، أى : بالمثوبة الحسنى التى هى الجنة .
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ
📘 وقوله : ( الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم . . ) صفة لقوله : ( الذين أَحْسَنُواْ ) أو بدل منه .والمراد بكبائر الإثم : الآثام الكبيرة ، والجرائم الشديدة ، التى يعظم العقاب عليها . كقتل النفس بغير حق ، وأكل أموال الناس بالباطل .والفواحش : جمع فاحشة ، وهى ما قبح من الأقوال والأفعال كالزنا ، وشرب الخمر . .وعطفها على كبائر الإثم من باب عطف الخاص على العام ، لأنها أخص من الكبائر ، وأشد إثما .واللم : ما صغر من الذنوب ، وأصله : ما قل قدره من كل شىء : يقال : ألم فلان بالمكان ، إذا قل مكثه فيه . وألم بالطعام : إذا قل أكله منه . . . وقيل : اللمم ، مقاربة الذنب دون الوقوع فيه ، من قولهم : ألم فلان بالشىء ، إذا قاربه ولم يخالطه .وجمهور العلماء على أن الاستثناء هنا منقطع ، وأن اللمم هو الذنوب الصغيرة ، كالنظرة الخائنة ولكن بدون مداومة ، والإكثار من الممازحة .قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : " واللمم " : صغائر الذنوب ، ومحقرات الأعمال ، وهذا استثناء منقطع .قال الإمام أحمد : عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم ، مما قال أبو هريرة ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهى ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .وعن مجاهد أنه قال فى هذه الآية ( إِلاَّ اللمم ) الذى يلم بالذنب ثم يدعه ، كما قال الشاعر :إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأى عبد لك ما ألماومن العلماء من يرى أن الاستثناء هنا متصل ، وأن المراد باللمم ارتكاب شىء من الفواحش ، ثم التوبة منها توبة صادقة نصوحا . .فعن الحسن أنه قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ، ثم لا يعود .. .ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأن العلماء قسموا الذنوب إلى كبائر وصغائر ، وأن اللمم من النوع الثانى الذى لا يدخل تحت كبائر الإثم والفواحش .قال صاحب الكشاف : واللمم : ما قل وصغر . . . والمراد به الصغائر من الذنوب ، ولا يخلو قوله - تعالى - ( إِلاَّ اللمم ) فتح الباب لارتكاب صغائر الذنوب ، وإنما المقصود فتح باب التوبة ، والحض على المبادرة بها ، حتى لا ييأس مرتكب الصغائر من رحمة الله - تعالى - وحتى لا يمضى قدما في ارتكاب هذه الصغائر ، إذ من المعروف أن ارتكاب الصغائر ، قد يجر إلى ارتكاب الكبائر .كذلك من المقصود بهذا الاستثناء أن لا يعامل مرتكب الصغائر ، معاملة مرتكب الكبائر .هذا ، وقد أفاض الإمام الألوسى فى الحديث عن الكبائر والصغائر ، فقال : والاية عند الأكثرين دليل على أن المعاصى منها الكبائر ، ومنها الصغائر . . .وأنكر جماعة من الأئمة هذا الانقسام ، وقالوا : سائر المعاصى كبائر .ثم قال : واختلف القائلون بالفرق بين الكبائر والصغائر فى حد الكبيرة فقيل : هى كل ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد ، بنص كتاب أو سنة . . .وقيل : كل جرمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ، ورقة الديانة .واعتمد الواحدى أنه لا حد لها يحصرها ويعرفها العباد به ، وقد أخفى الله - تعالى - أمرها ليجتهدوا فى اجتناب المنهى عنه ، رجاء أن تجتنب الكبائر . .وقوله - سبحانه - : ( إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة . . ) تعليل لاستثناء اللمم ، وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ، ليس لخلوه عن الذنب فى ذاته ، بل لسعة رحمة الله ومغفرته .أى : إن ربك - أيها الرسول الكريم - واسع المغفرة والرحمة ، لعباده الذين وقعوا فيما نهاهم عنه - سبحانه - ثم تابوا إليه توبة صادقة نصوحا .ثم بين - سبحانه - أن هذه الرحمة الواسعة ، صادرة عن علم شامل للظواهر والبواطن ، فقال : ( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ . . ) .والظرف " إذ " متعلق بقوله ( أَعْلَمُ ) والأجنة : جمع جنين ، ويطلق على ما يكون بداخل الأرحام قبل خروجه منها .وسمى بذلك ، لأنه يكون مستترا فى داخل الرحم ، كما قال - تعالى - : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ . . . ) أى : هو - سبحانه - أعلم بكم من وقت إنشائه إياكم من الأرض ، ضمن خلقه لأبيكم آدم ، ومن وقت أن كنتم أجنة فى بطون أمهاتكم ، يعلم أطواركم فيها ، ويرعاكم برحمته ، إلى أن تنفصلوا عنها .وقال - سبحانه - ( فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ) مع أن الجنين لا يكون إلى فى بطن أمه ، للتذكير برعايته - تعالى - لهم ، وهم فى تلك الأطوار المختلفة من وقت العلوق إلى حين الولادة ، وللحض على مداومة شكره وطاعته .وقوله - تعالى - : ( فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى ) تحذير من التفاخر بالأعمال والأحساب والأنساب ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شىء من أحوال الناس ، والفاء للتفريع على ما تقدم . أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من عدم مؤاخذتى إياكم على اللمم ، فإن ذلك بسبب سعة رحمتى ، فلا تمدحوا أنفسكم بأنكم فعلتم كذا وكذا من الأفعال الحسنة ، بل اشكرونى على سعة رحمتى ومغفرتى ، فإنى أنا العليم بسائر أحوالكم ، الخبير بالظواهر والبواطن للأتقياء والأشقياء .قالوا : والآية نزلت فى قوم من المؤمنين ، كانوا يعملون أعمالا حسنة ، ثم يتفاخرون بها .قال صاحب الكشاف : قوله : ( فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ . . ) أى فلا تنسبوها إلى زكاء العمل ، وزيادة الخير . وعمل الطاعات ، أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصى ، ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم الله الزكى منكم والتقى أولا وآخرا ، قبل أن يخرجكم من صلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم .وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء ، فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح ، من الله وبتوفيقه وتأييده . ولم يقصد به التمدح ، لم يكن من المزكين لأنفسهم ، لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر لله - تعالى - .وقال الآلوسى : والمراد النهى عن تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو التزكية على سبيل القطع ، وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه - كالإخبار عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة فهى جائزة .
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّىٰ
📘 وبعد هذا التوجيه الحكيم للنفوس البشرية ، والبيان البديع لمظاهر رحمة الله - تعالى - بعباده بعد ذلك أخذت السورة فى الحديث مرة أخرى عن الكافرين . وفى الرد على شبهاتهم ، وفى بيان مظاهر قدرته - تعالى - فقال - سبحانه - : ( أَفَرَأَيْتَ الذي تولى . . . . ) .ذكر المفسرون روايات فى سبب نزول قوله - تعالى - : ( أَفَرَأَيْتَ الذي تولى وأعطى قَلِيلاً وأكدى ) منها : أنها نزلت فى الوليد بن المغيرة ، كان قد سمع قراءة النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وجلس إليه ووعظه ، فَهَمَّ أن يدخل فى الإسلام . فعاتبه رجل من المشركين ، وقال له : أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك ، واثبت عليه ، وأنا أتحمل عنك كل شىء تخافه فى الآخرة ، لكن على أن تعطينى كذا وكذا من المال .فوافقه الوليد على ذلك ، ورجع عماهم به من الدخول فى الإسلام ، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ، ثم أسمك عن الباقى ، وبخل به ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآيات . . .والاستفهام فى قوله - تعالى - : ( أَفَرَأَيْتَ . . . ) للتعجيب من حال هذا الإنسان ، الذى أعرض عن الحق ، بعد أن عرف الطريق إليه .أى : أفرأيت - أيها الرسول الكريم - حالا أعجب من حال هذا الإنسان الذى تولى عن الهدى ، ونبذه وراء ظهره ، بعد أن قارب الدخول فيه .
وَأَعْطَىٰ قَلِيلًا وَأَكْدَىٰ
📘 ( وأعطى قَلِيلاً ) من العطاء ( وأكدى ) أى ثم قطع هذا العطاء .قال صاحب الكشاف : ( وأكدى ) أى : وقطع عطيته وأمسك ، وأصله إكداء الحافر ، وهو أن تلقاه كديه ، وهى صلابة كالصخر فيمسك عن الحفر .والمراد به هنا : ذمه بالبخل والشح ، بعد ذمه بالتولى عن الحق .
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ
📘 ( أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى ) أى : أعند هذا الإنسان الذى أعرض عن الرشد ، علم الغيوب المستترة عن الأعين والنفوس ، فهو وحده يراها ، ويطلع عليها ويعلم أن فى إمكان الغير أن يحمل عنه أوزاره وذنوبه يوم القيامة .كلا ، إنه لا علم عنده بشىء من ذلك ، وإنما هو قد ارتد على أعقابه ، لانطماس بصيرته . بعد أن قارب الرشد والصواب .فالاستفهام فى قوله : ( أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب . . . ) للنفى والإنكار .وقدم - سبحانه - الظرف " عنده " وهو مسند ، على " علم الغيب " وهو مسند إليه ، فإفادة الاهتمام بهذه العندية التى من أعجب العجب ادعاؤها ، وللإشعار بأنه بعيد عنها بعد الأرض عن السماء .والفاء فى قوله : ( فَهُوَ يرى ) للسببية ، ومفعول ( يرى ) محذوف .أى : فهو بسبب معرفته للعوالم الغيبية ، يبصر رفع العذاب عنه ، ويعلم أن غيره سيتكفل بافتدائه من هذا العذاب .
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ
📘 ثم وبخه - سبحانه - على جهالته وعدم فهمه فقال : ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى . . ) .وصحف إبراهيم : هى الصحف التى أوحى الله - تعالى - إليه بما فيها ، وقد ذكر سبحانه ذلك فى قوله تعالى : ( إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى ) وخصت صحف هذين النبيين الكريمين بالذكر ، لأنها كانت أشهر من غيرها عند العرب ، وكانوا يسألون أهل الكتاب من اليهود عما خفى عليهم من صحف موسى .وقدم - سبحانه - هنا صحف موسى ، لاشتهارها بسعة الأحكام التى اشتملت عليها ، بالنسبة لما وصل إليهم من صحف إبراهيم .وأما فى سورة الأعلى فقدمت صحف إبراهيم على صحف موسى لوقوعهما بدلا من الصحف الأولى ، وصحف إبراهيم أقدم من صحف موسى ، فكان الإتيان بهما على الترتيب الزمنى أنسب بالمقام .وحذف - سبحانه - متعلق " وفَّى " ليتناول كل ما يجب الوفاء به ، كمحافظته على أداء حقوق الله - تعالى - ، واجتهاده فى تبليغ الرسالة التى كلفه - سبحانه - بتبليغها ، ووقوفه عند الأوامر التى أمره - تعالى - بها ، وعند النواهى التى نهاه عنها . . .
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ
📘 ثم وبخه - سبحانه - على جهالته وعدم فهمه فقال : ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى . . ) .وصحف إبراهيم : هى الصحف التى أوحى الله - تعالى - إليه بما فيها ، وقد ذكر سبحانه ذلك فى قوله تعالى : ( إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى ) وخصت صحف هذين النبيين الكريمين بالذكر ، لأنها كانت أشهر من غيرها عند العرب ، وكانوا يسألون أهل الكتاب من اليهود عما خفى عليهم من صحف موسى .وقدم - سبحانه - هنا صحف موسى ، لاشتهارها بسعة الأحكام التى اشتملت عليها ، بالنسبة لما وصل إليهم من صحف إبراهيم .وأما فى سورة الأعلى فقدمت صحف إبراهيم على صحف موسى لوقوعهما بدلا من الصحف الأولى ، وصحف إبراهيم أقدم من صحف موسى ، فكان الإتيان بهما على الترتيب الزمنى أنسب بالمقام .وحذف - سبحانه - متعلق " وفَّى " ليتناول كل ما يجب الوفاء به ، كمحافظته على أداء حقوق الله - تعالى - ، واجتهاده فى تبليغ الرسالة التى كلفه - سبحانه - بتبليغها ، ووقوفه عند الأوامر التى أمره - تعالى - بها ، وعند النواهى التى نهاه عنها . . .
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ
📘 و ( أن ) فى قوله - تعالى - : ( أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ) مخففة من الثقيلة . واسمها ضمير الشأن محذوف ، والجملة بدل من صحف موسى وإبراهيم .وقوله ( تَزِرُ ) من الوزر بمعنى الحمل . . وقوله ( وَازِرَةٌ ) صفة لموصوف محذوف . أى : نفس وازرة .والمعنى : إذا كان هذا الإنسان المتولى عن الحق . . . جاهلا بكل ما يجب العلم به من شئون الدين ، فهلا سأل العلماء عن صحف موسى وإبراهيم - عليهما السلام - ففيها أنه لا تحمل نفس آثمة حمل أخرى يوم القيامة .قال الآلوسى : وقوله : ( أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ) أى : أنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل ، حمل نفس أخرى . . . ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره . ليتخلص الثانى من عقابه . ولا يقدح فى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى . . . ) معطوف على ما قبله ، لبيان عدم إثابة الإنسان بعمل غيره ، إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب سواه .
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ
📘 ( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى . . . )أى : كما أنه لا تحمل نفس آثمة حمل نفس اخرى ، فكذلك لا يحصل الإنسان إلا على نتيجة عمله الصالح ، لا على نتيجة عمل غيره .فالمراد بالسعى فى الآية . السعى الصالح ، والعمل الطيب ، لأنه قد جاء فى مقابلة الحديث عن الأوزار والذنوب .
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ
📘 وقوله : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى ) استئناف بيانى مؤكد لما قبله .والضمير " هو " يعود إلى المنطوق به ، المفهوم من قوله - تعالى - : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى ) . أى : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يصدر نطقه فيما يأتيكم به عن هوى نفسه ورأيه ، وإنما الذى ينطق به ، هو وحى من الله - تعالى - أوحاه إليه على سبيل الحقيقة التى لا يحوم حولها شك أو ريب .ومتعلق " يوحى " محذوف للعلم به . أى : ما هذا الذى ينطق به إلا وحى أوحاه - سبحانه - إلى نبيكم - صلى الله عليه وسلم - .قال الإمام ابن كثير : قوله : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى ) أى : إنما يقول ما أمر بتبليغه إلى الناس كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان . . . فعن عبد الله بن عمرو قال : " كنت أكتب كل شىء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه ، فنهتنى قريش فقالوا : إنك تكتب كل شىء تسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر يتكلم فى الغضب ، فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك له ، فقال : " اكتب فوالذى نفسى بيده ، ما خرج منى إلا الحق " " .وعن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " " لا أقول إلا حقا " فقال بعض أصحابه : فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال : " إنى لا أقول إلا حقا " " .وقال صاحب الكشاف : ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأبنياء ، ويجاب بأن الله - تعالى - إذا سوغ لهم الاجتهاد ، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا لا نطقا عن الهوى .
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ
📘 وقوله - تعالى - : ( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى ) بيان لثمرة هذا السعى الصالح يوم القيامة .أى : ليس للإنسان إلا ثمرة عمله الصالح بدون زيادة أو نقص ، وهذا العمل الصالح سوف يراه مسجلا أمامه فى صحف مكرمة ، وفى ميزان حسناته ، ثم يجازيه الله - تعالى - عليه الجزاء التام الكامل . الذى لا نقص فيه ولا بخس .وفى رؤية الإنسان لعمله الصالح يوم القيامة ، تشريف وتكريم له ، كما قال - تعالى - ( يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم ) هذا ، وقد توسع العلماء فى الجمع بين قوله - تعالى - : ( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ) وبين النصوص التى تفيد أن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره ، وهذه خلاصة لأقوالهم :قال الإمام ابن كثير : ومن هذه الآية استنبط الشافعى ومن اتبعه ، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتة .لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته ، ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء .فأما الدعاء والصدقة ، فذاك مجمع على وصولهما ، ومنصوص من الشارع عليهما .وأما الحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به " . فهذه الثلاثة فى الحقيقة . هى من سعيه وكده وعمله .وقال الجمل فى حاشيته على الجلالين : واستشكل الحصر فى هذه الآية ( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ) بقوله - تعالى - فى آية أخرى : ( والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ . . ) وبالأحاديث الواردة فى ذلك كحديث : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث . . . " .وأجيب : بأنها مخصوصمة بقوم إبراهيم وموسى ، لأنها حكاية لما فى صحفهم ، وأما هذه الأمة فلها ما سعت هى ، وما سعى لها غيرها ، لما صح من أن لكل نبى وصالح شفاعة . وهو انتفاع بعمل الغير ، ومن تأمل النصوص وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فلا يجوز أن تؤول الآية على خلاف الكتاب والسنة واجتماع الأمة ، وحينئذ فالظاهر أن الآية عامة ، قد خصصت بأمور كثيرة . .ثم قال الشيخ الجمل - رحمه الله - : وقال الشيخ تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيمية : من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله . فقد خرق الإجماع . وذلك باطل من وجوه كثيرة :أحدها : أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره . وهو انتفاع بعمل الغير .ثانيها : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف فى الحساب ثم لأهل الجنة فى دخولها .ثالثها : أنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الكبائر فى الخروج من النار ، وهذا انتفاع بسعى الغير .رابعها : أن الملائكة يستغفرون ويدعون لمن فى الأرض ، وذلك منفعة بعمل الغير .خامسها : أن الله - تعالى - يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط - أى من المؤمنين - بمحض رحمته ، وهذا انتفاع بغير عملهم .سادسها : أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم ، وذلك انتفاع بمحض عمل الغير .سابعها : قال الله - تعالى - فى قصة الغلامين اليتمين :( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) فانتفعا بصلاح أبيهما ، وليس من سعيهما .ثامنها : أن الميت ينتفع بالصدقة عنه ، وبالعتق ، بنص السنة والإجماع ، وهو من عمل الغير .تاسعها : أن الحج المفروض يسقط عن الميت ، بحج وليه بنص السنة ، وهو انتفاع بعمل الغير .حادى عشر : المدين قد امتنع - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة ، وقضى دين الآخر على بن أبى طالب ، وانتفع بصلاة النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو من عمل الغير .ثانى عشر : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لمن صلى وحده : " ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه " فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير .ثالث عشر : أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الغير ، إذا قضاها عنه قاض ، وذلك انتفاع بعمل الغير .رابع عشر : أن من عليه تبعات ومظالم ، إذا حلل منها سقطت عنه ، وهذا انتفاع بعمل الغير .خامس عشر : أن الجار الصالح ينفع فى المحيا وفى الممات - كما جاء فى الأثر - وهذا انتفاع بعمل الغير .سادس عشر : أن الجار الصالح ينفع فى المحيا وفى الممات - كما جاء فى الأثر - وهذا انتفاع بعمل الغير .سادس عشر : أن جليس أهل الذكر يرحم بهم ، وهو لم يكن معهم ، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له ، والأعمال بالنيات ، فقد انتفع بعمل غيره .سابع عشر : الصلاة على الميت ، والدعاء له فى الصلاة ، انتفاع للميت بصلاة الحى عليه وهو عمل غيره .ثامن عشر : أن الجمعة تحصل باجتماع العدد ، وكذا الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض .تاسع عشر : أن الله - تعالى - قال لنبيه : ( وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) وقال - تعالى - : ( وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ . . ) فقد رفع الله - تعالى - العذاب عن بعض الناس بسبب بعض ، وذلك انتفاع بعمل الغير .تمام العشرين : أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يمونه الرجل ، فإنه ينتفع بذلك من يُخرِج عنه ، ولا سعى له فيها .ثم قال - رحمه الله - : ومن تأمل العلم وجد انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فكيف يجوز أن تتأول الآية الكريمة ، على خلاف صريح الكتاب والسنة ، وإجماع الأمة . .والخلاصة أن الآية الكريمة فقد تكون من قبيل العام الذى قد خص بأمور كثيرة . كما سبق أن أشرنا ، وقد تكون مخصوصة بقوم إبراهيم وموسى - عليهما السلام - ، لأنها حكاية عما فى صحفهما ، أما الأمة الإسلامية فلها سعيها ، ولها ما سعى لها به غيرها ، وهذا من فضل الله ورحمته بهذه الأمة .وقد قال بعض الصالحين فى معنى هذه الآية : ليس للإنسان إلا ما سعى عدلا ، ولله - تعالى - أن يجزيه بالحسنة ألفا فضلا .ولهذه المسألة تفاصيل أخرى فى كتب الفقه ، فليرجع إليها من شاء .
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ
📘 وقوله - تعالى - : ( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى ) بيان لثمرة هذا السعى الصالح يوم القيامة .أى : ليس للإنسان إلا ثمرة عمله الصالح بدون زيادة أو نقص ، وهذا العمل الصالح سوف يراه مسجلا أمامه فى صحف مكرمة ، وفى ميزان حسناته ، ثم يجازيه الله - تعالى - عليه الجزاء التام الكامل . الذى لا نقص فيه ولا بخس .وفى رؤية الإنسان لعمله الصالح يوم القيامة ، تشريف وتكريم له ، كما قال - تعالى - ( يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم ) هذا ، وقد توسع العلماء فى الجمع بين قوله - تعالى - : ( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ) وبين النصوص التى تفيد أن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره ، وهذه خلاصة لأقوالهم :قال الإمام ابن كثير : ومن هذه الآية استنبط الشافعى ومن اتبعه ، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتة .لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته ، ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء .فأما الدعاء والصدقة ، فذاك مجمع على وصولهما ، ومنصوص من الشارع عليهما .وأما الحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به " . فهذه الثلاثة فى الحقيقة . هى من سعيه وكده وعمله .وقال الجمل فى حاشيته على الجلالين : واستشكل الحصر فى هذه الآية ( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ) بقوله - تعالى - فى آية أخرى : ( والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ . . ) وبالأحاديث الواردة فى ذلك كحديث : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث . . . " .وأجيب : بأنها مخصوصمة بقوم إبراهيم وموسى ، لأنها حكاية لما فى صحفهم ، وأما هذه الأمة فلها ما سعت هى ، وما سعى لها غيرها ، لما صح من أن لكل نبى وصالح شفاعة . وهو انتفاع بعمل الغير ، ومن تأمل النصوص وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فلا يجوز أن تؤول الآية على خلاف الكتاب والسنة واجتماع الأمة ، وحينئذ فالظاهر أن الآية عامة ، قد خصصت بأمور كثيرة . .ثم قال الشيخ الجمل - رحمه الله - : وقال الشيخ تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيمية : من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله . فقد خرق الإجماع . وذلك باطل من وجوه كثيرة :أحدها : أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره . وهو انتفاع بعمل الغير .ثانيها : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف فى الحساب ثم لأهل الجنة فى دخولها .ثالثها : أنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الكبائر فى الخروج من النار ، وهذا انتفاع بسعى الغير .رابعها : أن الملائكة يستغفرون ويدعون لمن فى الأرض ، وذلك منفعة بعمل الغير .خامسها : أن الله - تعالى - يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط - أى من المؤمنين - بمحض رحمته ، وهذا انتفاع بغير عملهم .سادسها : أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم ، وذلك انتفاع بمحض عمل الغير .سابعها : قال الله - تعالى - فى قصة الغلامين اليتمين :( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) فانتفعا بصلاح أبيهما ، وليس من سعيهما .ثامنها : أن الميت ينتفع بالصدقة عنه ، وبالعتق ، بنص السنة والإجماع ، وهو من عمل الغير .تاسعها : أن الحج المفروض يسقط عن الميت ، بحج وليه بنص السنة ، وهو انتفاع بعمل الغير .حادى عشر : المدين قد امتنع - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة ، وقضى دين الآخر على بن أبى طالب ، وانتفع بصلاة النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو من عمل الغير .ثانى عشر : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لمن صلى وحده : " ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه " فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير .ثالث عشر : أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الغير ، إذا قضاها عنه قاض ، وذلك انتفاع بعمل الغير .رابع عشر : أن من عليه تبعات ومظالم ، إذا حلل منها سقطت عنه ، وهذا انتفاع بعمل الغير .خامس عشر : أن الجار الصالح ينفع فى المحيا وفى الممات - كما جاء فى الأثر - وهذا انتفاع بعمل الغير .سادس عشر : أن الجار الصالح ينفع فى المحيا وفى الممات - كما جاء فى الأثر - وهذا انتفاع بعمل الغير .سادس عشر : أن جليس أهل الذكر يرحم بهم ، وهو لم يكن معهم ، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له ، والأعمال بالنيات ، فقد انتفع بعمل غيره .سابع عشر : الصلاة على الميت ، والدعاء له فى الصلاة ، انتفاع للميت بصلاة الحى عليه وهو عمل غيره .ثامن عشر : أن الجمعة تحصل باجتماع العدد ، وكذا الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض .تاسع عشر : أن الله - تعالى - قال لنبيه : ( وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) وقال - تعالى - : ( وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ . . ) فقد رفع الله - تعالى - العذاب عن بعض الناس بسبب بعض ، وذلك انتفاع بعمل الغير .تمام العشرين : أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يمونه الرجل ، فإنه ينتفع بذلك من يُخرِج عنه ، ولا سعى له فيها .ثم قال - رحمه الله - : ومن تأمل العلم وجد انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فكيف يجوز أن تتأول الآية الكريمة ، على خلاف صريح الكتاب والسنة ، وإجماع الأمة . .والخلاصة أن الآية الكريمة فقد تكون من قبيل العام الذى قد خص بأمور كثيرة . كما سبق أن أشرنا ، وقد تكون مخصوصة بقوم إبراهيم وموسى - عليهما السلام - ، لأنها حكاية عما فى صحفهما ، أما الأمة الإسلامية فلها سعيها ، ولها ما سعى لها به غيرها ، وهذا من فضل الله ورحمته بهذه الأمة .وقد قال بعض الصالحين فى معنى هذه الآية : ليس للإنسان إلا ما سعى عدلا ، ولله - تعالى - أن يجزيه بالحسنة ألفا فضلا .ولهذه المسألة تفاصيل أخرى فى كتب الفقه ، فليرجع إليها من شاء .
وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ
📘 ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من مظاهر قدرته ورحمته ، فقال - تعالى - : ( وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى ) . أى : وأن إلى ربك وحده - لا إلى غيره - انتهاء الخلق ومرجعهم ومصيرهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .فقوله : ( المنتهى ) : مصدر بمعنى الانتهاء ، والمراد بذلك مرجعهم إليه - تعالى - وحده .
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ
📘 ( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى ) أى : وأنه - سبحانه - هو الذى أوجد فى هذا الكون ما يحيط بالإنسان من مؤثرات ومن مشاعر مختلفة : تارة يضحك وتارة يبكى .وما أكثر هذه المؤثرات والأحوال والاعتبارات والدوافع . . . فى حياة الإنسان .فالآية الكريمة انتقال من وجوب الاعتبار بأحوال الآخرة إلى وجوب الاعتبار بأحوال الإنسان ، وبما يحيط به من مؤثرات تارة تضحكه وتارة تبكيه .وأسند - سبحانه - الفعلين إليه؛ لأنه هو خالقهما ، وهو الموجد لأسبابهما .وحذف - سبحانه - المفعول به لهما ، لأنهما هما المقصودان بالذات ، لدلالتهما على كمال قدرته - تالى - أى : وأنه وحده - عز وجل - هو الذى أوجد فى الإنسان الضحك والبكاء ، فالفعلان منزلان منزلة الفعل اللازم .وقدم - سبحانه - الضحك على البكاء ، للإشعار بمزيد فضله ومنته على عباده .
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا
📘 وقوله : ( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ) أى : وأنه - تعالى - بقدرته وحدها ، هو الذى أحيا من يريد إحياءه من مخلوقاته ، وأمات من يريد إماتته منهم .وهذا رد على أولئك الجاهلين الذين أنكروا ذلك ، وقالوا - كما حكى القرآن عنهم - ( . . . مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر . . . ).
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَىٰ
📘 وقوله - سبحانه - ( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى ) .أى : وأنه - تعالى - وحده ، هو الذى خلق الزوجين الكائنين من الذكر والأنثى ، من نطفة تتدفق من الرجل إلى رحم الأنثى ، فتلتقى ببويضة الأنثى ، فيكون منهما الإنسان - بإذن الله
مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ
📘 وأصل النطفة : الماء الصافى ، أو القليل من الماء الذى يبقى فى الدلو أو القربة ، وجمعها نطف ونطاف ، يقال : نطفت القربة ، أذا تقاطر ماؤها بقلة .وقوله : ( تمنى ) أى : تتدفق فى رحم المرأة ، يقال : أمْنَى الرجل وَمنَى إذا خرج منه المَنِىَّ .أى : وأنه - تعالى - وحده ، هو الذى خلق الزوجين الكائنين من الذكر والأنثى ، من نطفة تتدفق من الرجل إلى رحم الأنثى ، فتلتقى ببويضة الأنثى ، فيكون منهما الإنسان - بإذن الله - .كما قال - تعالى - : ( أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى ).
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَىٰ
📘 وقوله - سبحانه - : ( وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى ) أى : وأن عليه وحده - سبحانه - الإحياء بعد الإماتة ، والإعادة إلى الحياة مرة أخرى يوم البعث والنشور .والنشأة هى المرة من الإنشاء ، أى : الإيجاد والتكوين والحلق ، والأخرى : مؤنث الأخير ، والمراد أنه - سبحانه - يوجد النشأة التى لا نشأة بعدها .
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ
📘 وقوله : ( وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى ) أى : وأنه - سبحانه - هو الذى أغنى الناس بالأموال الكثيرة المؤثلة ، التى يقتنيها الناس ويحتفظون بها لأنفسهم ولمن بعدهم .فقوله : ( أقنى ) من القنية بمعنى الادخار للشىء ، والمحافظة عليه .قال الآلوسى : قوله : ( وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى ) أى : وأعطى القُنْية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ، ببقاء نفسه ، كالرياض والحيوان والبناء .وأفرد - سبحانه - ذلك بالذكر مع دخوله فى ( أغنى ) لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها .وإنما لم يذكر المفعول ، لأن القصد إلى الفعل نفسه .
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىٰ
📘 وقوله : ( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى ) أى : وأنه - سبحانه - هو رب ذلك الكوكب المضىء ، الذى يطلع بعد الجوزاء فى شدة الحر ، ويسمى الشعرى اليمانية .وخص هذا النجم بالذكر ، مع أنه - تعالى - هو رب كل شىء لأن بعض العرب كانوا يعبدون هذا الكوكب ، فأخبرهم - سبحانه - بأن هذا الكوكب مربوب له - تعالى - وليس ربا كما يزعمون .قال القرطبى : واختلف فيمن كان يعبده : فقال السدى : كانت تعبده حمير وخزاعة . وقال غيره : أول من عبده رجل يقال له أبو كبشة ، أحد أجداد النبى - صلى الله عليه وسلم - من جهة أمهاته ، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبى - صلى الله عليه وسلم - ابن أبى كبشة . حين دعاهم إلى ما يخالف دينهم .
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ
📘 ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من صفات جبريل - عليه السلام - الذى ينزل بالقرآن على النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى ) .أى : علَّمَ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - القرآن ، ملك من ملائكتنا الكرام ، وهو جبريل - عليه السلام - الذى أعطيناه قوة شديدة ، استطاع بها أن ينفذ ما كلفناه بتنفيذه .والضمير المنصوب فى " علمه " هو المفعول الأول ، والثانى محذوف . أى : القرآن ، لأن علَّم تتعدى إلى مفعولين .وقوله : ( شَدِيدُ القوى ) صفة لموصوف محذوف . أى : ملك شديد القوى .قالوا : وقد بلغ من شدة قوته ، أنه اقتلع قرى قوم لوط - عليه السلام - ثم رفعها إلى السماء ، ثم قلبها . بأن جعل أعلاها أسفلها . .
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ
📘 وبعد هذه الجولة فى الأنفس والآفاق ، ساقت السورة جانبا من مصارع الغابرين ، فقال - تعالى - : ( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى وَثَمُودَ فَمَآ أبقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى والمؤتفكة أهوى ) . أى : وأنه - تعالى - هو الذى أهلك بقدرته قبيلة عاد الأولى ، وهم قوم هود - عليه السلام - .وسميت قبيلة عاد بالأولى ، لتقدمها فى الزمان على قبيلة عاد الثانية ، التى هى قوم صالح - عليه السلام - ، وتسمى - أيضا - بثمود .
وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ
📘 وقوله : ( وَثَمُودَ ) معطوف على عاد . أى : وأنه أهلك - أيضا - قبيلة ثمود ، دون أن يبقى منهم أحدا .وهلاك هاتين القبيلتين قد جاء فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - : ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ).
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ
📘 * وقوله : ( وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ . . ) أى : وأهلك - أيضا - قوم نوح من قبل إهلاكه لعاد وثمود . .( إِنَّهُمْ كَانُواْ ) أى : قوم نوح ( هُمْ أَظْلَمَ وأطغى ) أى : هم كانوا أشد فى الظلم والطغيان من عاد وثمود ، فقد آذوا نوحا - عليه السلام - أذى شديدا ، استمر صابرا عليه زمنا طويلا . وكان هلاكهم بالطوفان ، كما قال - تعالى - : ( فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ ) وقدم قبيلتى عاد وثمود فى الذكر على قوم نوح - مع أن قوم نوح أسبق - لأن هاتين القبيلتين كانتا مشهورتين عند العرب أكثر ، وديارهم معروفة لهم .
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ
📘 والمراد بالمؤتفكات قوم لوط - عليه السلام - ، وسموا بذلك لأن قريتهم ائتفكت بأهلها ، أى : انقلبت راسا على عقب . يقال : أفَكَه عن كذا يَأْفِكُه إذا قلبه وصرفه . ومنه الإفك ، لأنه قلب للحق عن وجهه الصحيح .أى : وأهلك - سبحانه - القرى المؤتفكة بأهلها ، بأن أهوى بها جبريل - عليه السلام - إلى الأرض بعد أن رفعها إلى السماء.
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ
📘 ( فَغَشَّاهَا مَا غشى ) أى : فأصابها ما أصابها من العذاب المهين ، والدمار الشامل ، كما قال - تعالى - : ( جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ ) ويجوز أن يكون الضمير فى ( فَغَشَّاهَا ) يعود إلى جميع الأمم المذكورة ، وأبهم - سبحانه - ما غشيهم من عذاب ، للتهويل والتعميم .
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ
📘 وقوله - سبحانه - ( فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى ) تكذير بنعم الله - تعالى - بعد التحذير من نقمة . أى : فبأى نعمة من نعم الله - تعالى - تتشكك أيها الإنسان .والآلاء : جمع إلًى ، وأى : فبأى نعمة من نعم الله - تعالى - تتشكك بهذه النعم .وسمى - سبحانه - ما مر فى آيات السور نعما ، مع أن فيها النعم والنقم ، لأن فى النقم عظات للمتعظين ، وعبرا للمعتبرين ، فهى نعم بهذا الاعتبار .
هَٰذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ
📘 ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذا الانذار الشديد ، فقال - تعالى - : ( هذا نَذِيرٌ مِّنَ النذر الأولى ) والنذير بمعنى المنذر ، وهو من يخبر غيره بخبر فيه مضرة به ، لكى يحذره . أى : هذا الرسول الكريم ، وما جاء به من قرآن حكيم ، نذير لكم - أيها الناس - من جنس الإنذارات الأولى . التى أتى بها الأنبياء السابقون لأممهم فاحذروا مخالفة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - لأن مخالفته تؤدى إلى هلاككم وخسرانكم .فقوله - تعالى - : ( مِّنَ النذر ) على حذف مضاف ، أى : من جنس النذر التى سبقت . .
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ
📘 ( أَزِفَتِ الآزفة ) أى : قربت الساعة ، ودنت القيامة ، يقال : أزِف السفر - كفرح - أزَفاً ، إذا دنا وقرب ، وأل فى الآزفة للعهد ، وهى عَلَم بالغلبة على الساعة .
لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ
📘 ( لَيْسَ لَهَا ) أى : الساعة ( مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ ) أى : ليس لها أحد سوى الله - تعالى - يستطيع الإخبار عنها ، والكشف عن علاماتها ، والعلم بوقتها وبوقوعها .
أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ
📘 والاستفهام فى قوله - تعالى - : ( أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ ) للإنكار والتوبيخ .أى : أفمن هذا القرآن وما اشتمل عليه من هدايات وتشريعات . . . تتعجبون ، وتنكرون كونه من عند الله - تعالى - .
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ
📘 وقوله - تعالى - : ( ذُو مِرَّةٍ فاستوى ) صفة أخرى من صفات جبريل - عليه السلام - والمرة - بكسر الميم - تطلق على قوة الذات ، وحصافة العقل ورجاحته ، مأخوذ من أمررت الحبل ، إذا أحكمت فتله .وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى - : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ . . ).
وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ
📘 ( وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ ) أى : وتضحكون ضحك استهزاء وتهكم منه وممن جاء به - صلى الله عليه وسلم - ولا تبكون خشية من الله - تعالى - ، ومن سماع ما اشتمل عليه هذا القرآن من وعد ووعيد .
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ
📘 ( وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ) أى : وأنتم لاهون معرضون ، يقال : سمَد يسمُد : كدخل - إذ اشتغل باللهو والإعراض عن الرشد .أو المعنى : وأنتم رافعون رءوسكم تكبرا يقال : سمَد سمودا ، إذا رفع رأسه تكبرا وغرورا ، وكل متكبر فهو سامد ، ومنه قولهم : بعير سامد فى سيره إذا رفع رأسه متبختراً فى مشيته .وقيل السمود : الغناء بلغة حمير ، ومنه قوله بعضهم لجاريته : اسمدى لنا ، أى : غنى لنا .أى : وأنتم سادرون فى غنائكم ولهوكم ، دون أن تكترثوا بزواجر القرآن الكريم .
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ۩
📘 وقوله - سبحانه - : ( فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا ) إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم ، ونهى لهم عن الكفر والضلال .فالفاء فى قوله - تعالى - : ( فاسجدوا ) لترتيب الأمر بالسجود ، على الإنذار بالعذاب الشديد إذا ما استمروا فى كفرهم ولهوهم .والمراد بالسجود : الخضوع لله - تعالى - وإخلاص العبادة له ، ويندرج فيه سجود الصلاة ، وسجود التلاوة .أى : اتركوا ما أنتم عليه من فر وضلال . وخصوا الله - تعالى - بالخضوع الكامل ، وبالعبادة التامة ، التى لا شرك فيها لأحد معه - سبحانه - .قال الآلوسى : وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم ، وقد سجد النبى - صلى الله عليه وسلم - عندها .أخرج الشيخان ، وأبو داود ، والنسائى عن ابن مسعود قال : " أول سورة أنزلت فيها سجدة : سورة " النجم " فسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسجد الناس كلهم إلا رجلا " .هذا ، وقد ذكر بعض الفسرين قصة الغرانيق . وملخصها أن الرصول - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم ، فلما بلغ قوله - تعالى - ( أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى ) ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى .وقد قال الإمام ابن كثير عند حديثه عن هذه القصة : إنها من روايات وطرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح .وقد ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - : ( وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ذكرنا ما يدل على بطلان هذه القصة من جهة النقل ومن جهة العقل .
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ
📘 ( وَهُوَ بالأفق الأعلى ) أى : وهو - أى جبريل - بالجهة العليا من السماء المقابلة للناظر إليها.
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ
📘 ( ثُمَّ دَنَا فتدلى ) أى : ثم قرب جبرل - عليه السلام - من النبى - صلى الله عليه وسلم - ( فتدلى ) أى : فانخفض من أعلى إلى أسفل .واصل التدلى : أن ينزل الشىء من طبقته إلى ما تحتها ، حتى لكأنه معلق فى الهواء ، ومنه قولهم : تدلت الثمرة إذا صارت معلقة فى الهواء من أعلى إلى أسفل . . .
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
📘 ثم صور - سبحانه - شدة قرب جبريل من النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى ) والقاب : المقدار المعين : وقيل : هو ما بين وتر القوس ومقبضها .والقوس : آلة معروفة عند العرب ، يشد بها وتر من جلد ، وتستعمل فى الرمى بالسهام .وكان من عادة العرب فى الجاهلية ، أنهم إذا تحالفوا ، يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى ، فيكون قاب إحداهما ملاصقا للآخر ، حتى لكأنهما قاب واحد ، ثم ينزعونهما معا ويرمون بهما سهما واحدا ، فيكون ذلك دليلا على التحالف التام والرضا الكامل . .والمعنى : أن جبريل - عليه السلام - بعد أن كان بالجهة العليا من السماء ، ثم قرب من النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ثم زاد فى القرب ، حتى كان على مقدار مسافة قوسين مه - صلى الله عليه وسلم - أو أقرب من ذلك .قال صاحب الكشاف : قوله : ( قَابَ قَوْسَيْنِ ) مقدار قوسين عربيتين ، والقاب والقيب ، والقاد والقيد ، المقدار . . . وقد جاء التقدير بالقوس ، والرمح ، والسوط ، والذراع ، والباع ، والخطوة والشبر .. . . ومنه الحديث الشريف : " لقاب قوس أحدكم من الجنة ، وموضع قده ، خير من الدنيا وما فيها " والقد السوط . . .فإن قلت : كيف تقدير قوله : ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ ) ، قلت : تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات . .و " أو " فى قوله : ( أَوْ أدنى ) للشك ، ولكن هذا الشك من جهو العباد ، أى : أن الرائى إذا رأى هذا الوضع قال : هو قاب قوسين أو أقرب من ذلك ، ويصح أن تكون بمعنى " بل " .قال الجمل : قوله : ( أَوْ أدنى ) هذه الآية كقوله : ( وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) لأن المعنى : فكان - جبريل - بأحد هذين المقدارين فى رأى الرائى . أى : لتقارب ما بينهما يشك الرائى فى ذلك .وأدنى : أفعل تفضيل . والمفضل عليه محذوف . أى : أو أدنى من قاب قوسين .ويصح أن تكون بمعنى بل ، أى : بل هو أدنى .