🕋 تفسير سورة الواقعة
(Al-Waqia) • المصدر: AR-TAFSIR-AL-WASIT
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ
📘 افتتحت سورة " الواقعة " بتقرير الحقيقة التى لا شك فيها ، وهى أن يوم القيامة حق وأن الحساب حق ، وأن الجزاء حق . . .وقد اختير الافتتاح بالظرف المتضمن معنى الشرط ، لأنه ينبه الأذهان ويحرك النفوس لترقب الجواب .والواقعة من أسماء القيامة كالقارعة ، والحاقة ، والآزفة . . . .قال الجمل : وفى ( إِذَا ) هنا أوجه : أحدهما : أنها ظرف محض ، ليس فيها معنى الشرط ، والعامل فيها ليس ، من حيث ما فيها من معنى النفى ، كأنه قيل : ينتفى التكذيب بوقوعها إذا وقعت .والثانى : أن العامل فيها اذكر مقدار ، الثالث : أنها شرطية وجوابها مقدر ، أى : إذا وقت الواقعة كان ، كيت وكيت ، وهو العامل فيها .وقال بعض العلماء : والذى يظهر لى صوابه ، أن إذا هنا : هى الظرفية المتضمنة معنى الشرط ، وأن قوله الآنى : ( إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً ) بدل من قوله : ( وَقَعَتِ الواقعة ) وأن الجواب إذا هو قوله : ( فَأَصْحَابُ الميمنة . . ) .وعليه فالمعنى : إذا قامت القيامة ، وحصلت هذه الأحوال العظيمة ، ظهرت منزلة أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة . . .
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ
📘 وقوله : ( والسابقون السابقون ) هؤلاء هم الصنف الثالث ، وهم الذين سبقوا غيرهم إلى كل قول أو فعل فيه طاعة لله - تعالى - وتقرب إلى جلاله .والأظهر فى إعراب مثل هذا التركيب ، أنه مبتدأ وخبر ، على عادة العرب فى تكريرهم اللفظ ، وجعلهم الثانى خبرا عن الأول ، ويعنون بذلك أن اللفظ المخبر عنه ، معروف خبره ، ولا يحتاج إلى تعريفه ، كما فى قول الشاعر :أنا ابو النجم وشعرى شعرى ... يعنى : أن شعرى هو الذى أتاك خبره ، وانتهى إليك وصفه . .والمعنى : والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم . وعرفت منزلتهم ، وبلغت من الرفعة مبلغا لا يفى به إلا الإخبار عنهم بهذا الوصف .وحذف - سبحانه - المتعلق فى الآية لإفادة العموم ، أى : هم السابقون إلى كل فضل ومكرمة وطاعة . . .
أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
📘 وأخرهم - سبحانه - عن أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، لتشويق السامع إلى معرفة أحوالهم ، وبيان ما أعد لهم من ثواب عظيم ، فصله بعد ذلك فى قوله - تعالى - : ( أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم . . ) أى : والسابقون غيرهم إلى كل فضيلة وطاعة ، أولئك هم المقربون عند الله - تعالى - وأولئك هم الذين مقرهم جنات النعيم .فالجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأنها جواب يثيره فى النفوس قوله - تعالى - ( والسابقون السابقون ) َ و ( أولئك ) مبتدأ ، وخبره ما بعده . وما فيه من معنى البعد ، مع قرب العهد بالمشار إليه ، للإشعار يسمو منزلتهم عند الله - تعالى - ولفظ ( المقربون ) مأخوذ من القربة بمعنى الخطوة ، وهو أبلغ من القريب ، للدلالة صيغته على الاصطفاء والاختباء .أى : أولئك هم المقربون من ربهم - عز وجل - قرب لا يعرف أحد مقداره .
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
📘 وقوله - سبحانه - : ( فِي جَنَّاتِ النعيم ) متعلق بقوله ( المقربون ) أو بمضمر هو حال من ضميره ، أى كائنين فى جنات النعيم .وعلى الوجهين . فيه إشارة إلى أن قربهم محض لذة وراحة ، لا كقرب خواص الملك القائمين بأشغاله عنده ، بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم ، ولا يرد عليهم أمر أو نهى ، ولذا قيل ( جَنَّاتِ النعيم ) دون جنات الخلود ونحوه .
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
📘 ثم قال - تعالى : ( ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ) والثلة : الجماعة الكثيرة من الناس ، وأصلها : القطعة من الشىء . . . وهى خبر لمبتدأ محذوف ، وللمفسرين فى المراد بالثلة من الأولين ، وبالقليل من الآخرين ، اتجاهان :أولهما : يرى أصحاب أن المراد بقوله : ( ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين ) : أولئك السابقون من الأمم الكثيرة السابقة على الأمة الإسلامية ، وهم الذين صدقوا أنبياءهم وعزروهم ونصروهم .
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ
📘 والمراد بقوله : ( وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ) المؤمنون من هذه الأمة الإسلامية .وعلى هذا المعنى صار صاحب الكشاف . فقد قال : الثلة ، الأمة الكثيرة من الناس ، قال الشاعر :وجاءت إليهم ثلة خندقية ... بجيش كتيار من السيل مزبدوقوله - عز وجل - : ( وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ) كفى به دليلا على الكثرة - أى فى لفظ ( ثُلَّةٌ ) - وهو من الثل وهو الكسر - : كأنها جماعات كسرت من الناس وقطعت منهم .والمعنى : أن السابقين من الأولين كثير ، وهم الأمم من لدن آدم - عليه السلام - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - . . ( وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ) ، وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم .وأما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه ، أن الخطاب فى قوله - تعالى - : ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ) للأمة الإسلامية خاصة ، وأن المراد بقوله ( ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين ) صدر هذه الأمة الاسلامية .وأن المراد بقوله - تعالى - : ( وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ) من أتى بعد صدر هذه الأمة إلى يوم القيامة .وقد أفاض الإمام ابن كثير فى ترجيح هذا القول ، فقال ما ملخصه : وقد اختلفوا فى المراد بقوله : ( ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ) فقيل : المراد بالأولين الأمم الماضية ، وبالآخرين من هذه الأمة . . . وهو اختيار ابن جرير .وهذا الذى اختاره ابن جرير ههنا فيه نظر ، بل هو قول ضعيف ، لأن هذه الأمة ، هى خير الأمم بنص القرآن . فيبعد أن يكون المقربون أكثر منها ، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة . .فالقول الراجح أن يكون المراد بقوله - تعالى - ( ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين ) أى : من صدر هذه الأمة .والمراد بقوله : ( وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ) أى : من هذه الأمة . .وروى عن الحسن أنه قال : أما السابقون فقد مضوا ، ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين .وقد رجح بعض العلماء القول الأول فقال ما ملخصه : وقد اختلف أهل العلم فى المراد بهذه الثلة من الأولين ، وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا .كما اختلفوا فى الثلتين المذكورتين فى قوله - تعالى - بعد ذلك : ( ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ) وظاهر القرآن يفيد فى هذا المقام : أن الأولين فى الموضعين من الأمم الماضية ، والآخرين فيهما من هذه الأمة .وأن قوله - تعالى - : ( ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين ) فى السابقين خاصة .وأن قوله - تعالى - : ( ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ) فى أصحاب اليمين خاصة .وذلك لشموال الآيات لجميع الأمم ، إذ قوله - تعالى - : ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ) خطاب لجميع أهل المحشر ، فظهر أن السابقين وأصحاب اليمين . منهم من هو من الأمم السابقة ، ومنهم من هو من هذه الأمة . . .ولا غرابة فى أن يكون السابقون من الأمم السابقة أكثر . . . لأن الأمم الماضية أمم كثيرة . . وفيهم أنبياء كثيرون .وأما أصحاب اليمين من هذه الأمة ، فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جمع الأمم ، لأن الثلة تتناول العدد الكثير وقد يكون أحد العددين . . . الكثيرين ، أكثر من الآخر ، مع أنهما كلاهما كثير .ولهذا تعلم أن ما دل عليه ظاهر القرآن واختاره ابن جرير . لا ينافى ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة . .
عَلَىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ
📘 ثم بين - سبحانه - ما أعده هؤلاء السابقين بالخيرات من عطاء كريم ، فقال : ( على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ ) .والسرر : جمع سرير ، وهو ما يستعمله الإنسان لنومه أو الاتكاء عليه فى جلسته .والموضونة : أى المنسوجة بالذهب نسجا محكما ، لراحة الجالس عليها ولتكريمه ، يقال : وضن فان الغزل يضنه ، إذا نسجه نسجا متقنا جميلا .أى : مستقرين على سرر قد نسجت أطرافها بالذهب وبما يشبهه ، نسجا بديعا يشرح الصدر . فقوله : ( على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ ) حال من المقربين .
مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ
📘 ومثله قوله : ( مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ) أى : مضطجعين عليها اضطجاع الذى امتلأ قلبه بالراحة ، وفراغ البال من كل ما يشغله ، وقد قابل وجه كل واحد منهم وجه الآخر ، ليتم سرورهم ونعيمهم ، إذ تقابل وجوه الأحباب يزيد الأنس والبهجة .
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ
📘 ( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ) أى : يدور عليهم من أجل خدمتهم غلمان ، شبابهم باق لا يتغير ، وهيئتهم الجميلة على حالها لا تتبدل ، فهم دائما على تلك الهيئة المنعوتة بالشباب والمنظر الحسن .
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ
📘 ( بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ) أى : يطوفون عليهم ، بأكواب أى : باقداح لا عُرَا لها ، وأباريق ، أى : وبأوان ذات عرا ( وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ) أى : وبإناء مملوء بالخمر الكثير الجارى فقوله ( مَّعِينٍ ) من المعن بمعنى الكثرة .
لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ
📘 ( لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا . . ) أى لا يصيبهم صداع أو تعب بسبب شرب هذه الخمر . فعن هنا بمعنى باء السببية .قوله : ( وَلاَ يُنزِفُونَ ) أى : ولا تذهب الخمر عقولهم ، كما تفعل خمر الدنيا بشاربيها ، مأخوذ من النزف ، بمعنى اختلاط العقل .
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ
📘 وقوله - تعالى - : ( لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ) مؤكد لما قبله ، من أن وقوع يوم القيامة حق لا ريب فيه .وكاذبة : صفة لموصوف محذوف ، وهى اسم فاعل بمعنى المصدر . . .أى : عندما تقع القيامة ، لا تكذبها نفس من النفوس التى كانت تجحدها فى الدنيا ، بل كل نفس حينئذ تكون مصدقة لها .قال القرطبى : قوله : ( لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ) الكاذبة مصدر بمعنى الكذب ، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر ، كقوله - تعالى - : ( لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً ) أى : لغو . . .أى : ليس لقيام القيامة كذب ولا تخلف ، بل هى واقعة يقينا . .أو الكاذبة صفة والموصوف محذوف ، أى : ليس لوقعتها حال كاذبة أو نفس كاذبة . . .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : ( الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ . . . ) وقوله - سبحانه - : ( فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ).
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ
📘 وقوله : ( وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ) أى : ويطاف عليهم بفاكهة يتلذذون بأكلها ، وهذه الفاكهة تأتيهم من كل نوع ، على حسب ما يريدون ويشتهون .
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ
📘 ( وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ) مما يحبونه ويختارونه من هذه اللحوم الطيبة المحببة إلى النفوس ، يطاف عليهم به - أيضا - .
وَحُورٌ عِينٌ
📘 وقوله : ( وَحُورٌ عِينٌ ) معطوف على قوله ( وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ) أى : ويطوف عليهم - أيضا - نساء عيونهن شديدة البياض والسواد فى سعة وجمال .
كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ
📘 وهؤلاء الحور العين ( كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون ) أى : يشبهن اللؤلؤ المكنون الذى لم تلمسه الأيدى ، فى صفاء بياضهن ، وفى شدة جمالهن .
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
📘 وقوله - سبحانه - : ( جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) بيان للأسباب التى أوصلتهم إلى هذا النعيم الكبير .ولفظ ( جَزَآءً ) منصوب على أنه مفعول لأجله لفعل محذوف ، أى : أعطيناهم هذا العطاء الجزيل ، جزاء مناسبا بسبب ما كانوا يعملونه فى الدنيا من أعمال صالحة .
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا
📘 قوله - تعالى - : ( لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً ) تتميم للنعم التى أنعم - سبحانه - عليهم بها فى الجنة .واللغو : الكلام الساقط الذى لا فائدة منه ، ولا وزن له . يقال : لغا فلان يلغو . إذا قال كلاما يلام عليه .والتأثيم : مصدر إثم ، إذا نسب غيره إلى الإثم وفعل ما لا يليق .أى : أن هؤلاء المقربين لا يسمعون فى الجنة كلاما لا يعتد به ، ولا يسمعون - أيضا - كلاما سيئا أو قبيحا ، بأن ينسب بعضهم إلى بعض ما لا يليق به ، وإنما الذى يسمعونه هو الكلام الطيب المشتمل على الأمان المتكرر ، والتحية الدائمة .
إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا
📘 ولفظ ( سَلاَماً ) الأول ، بدل من قوله ( قِيلاً ) أو نعت له . . . أى : سالما من العيوب . والتكرير لهذا اللفظ القصد منه التأكيد ، والإشعاربكثرة تحيتهم بهذا اللفظ الدال على المحبة والوئام .أى : لا يسمعون فى الجنة إلا سلاما إثر سلام ، وتحية فى أعقاب تحية ، ومودة تتلوها مودة .والاستثناء منقطع ، لأن السلام لا يندرج تحت اللغو ، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم ، و ( قِيلاً ) بمعنى : قولا ، وهو منصوب على الاستثناء . .وإلى هنا نجد الآيات الكريمة ، قد بينت أقسام الناس يوم القيامة ، وفصلت ما أعده - سبحانه - للسابقين ، من عطاء جزيل ، وفضل عميم .
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ
📘 وبعد هذا الحديث الزاخر بالخيرات والبركات عن السابقين . . . جاء الحديث عن أصحاب اليمين وعما أعده الله - تعالى - لهم من ثواب فقال - سبحانه - : ( وَأَصْحَابُ اليمين . . . ) .قال الآلوسى : قوله - تعالى - ( وَأَصْحَابُ اليمين . . . ) شروع فى بيان تفاصيل شئونهم ، بعد بيان شئون السابقين .وأصحاب : مبتدأ وقوله : ( مَآ أَصْحَابُ اليمين ) جملة استفهامية مشعرة بتفخيمهم ، والتعجب من حالهم ، وهى خبر المبتدأ . . أو معترضة ، والخبر قوله : ( فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ . . ) .
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ
📘 ( فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ . . )والسدر : شجر النبق ، واحده سدرة ، ومخضود . أى : منزوع الشوك ، يقال : خضد فلان الشجر ، إذا قطع الشوك الذى به فهو خضيد ومخضود ، أو مخضود بمعنى ملىء بالثمر حتى تثنت أغصانه ، من خضدت الغصن ، إذا ثنيته وأملته إلى جهة أخرى .أى : وأصحاب اليمين ، المقول فيهم ما أصحاب اليمين على سبل التفخيم ، مستقرون يوم القيامة فى حدائق ملبئة بالشجر الذى خلا من الشوك وامتلأ بالثمار الطيبة ، التى تثنت أغصانها لكثرتها . .قال القرطبى : وذكر ابن المبارك قال : حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال : " كان أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - يقولون : إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم . قال : أقبل أعرابى يوما فقال : يا رسول الله ، لقد ذكر الله فى القرآن : شجرة مؤذية ، وماكنت أرى فى الجنة شجرة تؤذى صاحبها؟فقال - صلى الله عليه وسلم - : وما هى؟ قال : السدر ، فإن له شوكا مؤذيا ، فقال : - صلى الله عليه وسلم - : ألم يقل الله - تعالى - ( فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ ) . خضد الله - تعالى - شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة " .
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ
📘 وقوله - تعالى - : ( وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ) بيان لنعمة ثانية . والطلح : قالوا هو شجر الموز . واحدة طلحة ، والمنضود : المتراكب بعضه وق بعض ، بحيث صار ثمره متراصا على هيئة جميلة تسر الناظرين .فقوله ( مَّنضُودٍ ) اسم مفعول من النضد وهو الرص . يقال؛ نضد فلان متاعه ، - من باب ضرب - إذا وضع بعضه فوق بعض بطريقة منسقة جميلة ، ومنه قوله - تعالى - : ( والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ )
خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ
📘 ثم بين - سبحانه - ما يترتب على قيام الساعة من أحوال فقال : ( خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ) أى : هى خافضة للأشقياء إلى أسفل الدركات : وهى رافعة للسعداء إلى أعلى الدرجات .والخفض والرفع يستعملان عند العرب فى المكان والمكانة . وفى العز والإهانة . . . ونسب - سبحانه - الخفض والرفع إلى القيامة على سبيل المجاز .والمقصود بالآية الكريمة ترغيب الصالحين فى الازدياد من العمل الصالح ، لترفع منزلتهم يوم القيامة ، وترهيب الفاسقين من سوء المصير الذى ينتظرهم ، إذا ما استمروا فى فسقهم وعصيانهم .ويرى بعضهم أن المراد بالخفض والرفع فى هذا اليوم ، ما يترتب عليه من تناثر النجوم ، ومن تبدل الأرض غير الأرض ، ومن صيرورة الجبال كالعهن المنفوش .وعلى هذا يكون المقصود بالآية : التهويل من شأن يوم القيامة ، حتى يستعد الخلق لاستقباله ، بالإيمان والعمل الصالح ، حتى لا يصيبهم فيه ما يصيب العصاة المفسدين ، من خزى وهوان ..والآية الكريمة تسع المعنيين ، لأن فى هذا اليوم يرتفع الأخيار وينخفض الأشرار ، ولأن فيه - أيضا - ( تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات . . . ).
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ
📘 وقوله - سبحانه - : ( وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ) أى : متسع منبسط ، بحيث لا يزول كما يزول الظل فى الدنيا ، ويحل محله ضوء الشمس .أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن فى الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها عاما - وفى رواية مائة عام - اقرءوا إن شئتم ( وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ) " .
وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ
📘 وقوله - سبحانه - ( وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ ) أى : وفيها ماء كثير مصبوب يجرى على الأرض ، ويأخذون منه ما شاءوا ، بدون جهد أو تعب .يقال : سكب فلان الماء سكبا ، إذا صبه بقوة وكثرة .
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
📘 وقوله - تعالى - : ( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ) أى : وهم بجانب كل ذلك يتلذذون فى الجنة بفاكهة كثيرة .
لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ
📘 هذه الفاكهة ليست مقطوعة عنهم فى وقت من الأوقات ، ولا تمتنع عن طالبها متى طلبها .وجمع - سبحانه - بين انتفاء قطعها ومنعها ، للإشعار بأن فاكهة الجنة ليست كفاكهة الدنيا فهى تارة تكون مقطوعة ، لأنها لها أوقاتا معينة تظهر فيها ، وتارة تكون موجودة ولكن يصعب الحصول عليها ، لامتناع أصحابها عن إعطائها .
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ
📘 وقوله - تعالى - : ( وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ ) أى : وفيها - أيضا - فرش منضدة ، قد ارتفعت عن الأرض ، ليتكىء عليها أهل الجنة وأزواجهم .
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً
📘 والضمير فى قوله - تعالى - : ( إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً . . . ) عائد إلى غيره مذكور ، إلا أنه يفهم من سياق الكلام . لأن الحديث عن الفرش المرفوعة يشير إلى من يجلس عليها ، وهم الرجال ونساؤهم ، أى : نساؤهم من أهل الدنيا أو الحور العين ، ويرى بعضهم أنه يعود إلى مذكور ، لأن المراد بالفرش النساء ، والعرب تسمى المرأة لباسا ، وإزارا ، وفراشا .والإنشاء : الخلق والإيجاد . فيشمل إعادة ما كان موجودا ثم عدم ، كما يشمل الإيجاد على سبيل الابتداء .أى : إنا أنشأنا هؤلاء النساء المطهرات من كل رجس حسى أو معنوى ، إنشاء جميلا ، يشرح الصدور .
فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا
📘 ( فَجَعَلْنَاهُنَّ ) بقدرتنا ( أَبْكَاراً ) أى : فصيرناهن أبكارا ليكون ذلك أكثر تلذذا بهن .قال الآلوسى : وفى الحديث الذى أخرجه الطبرانى عن أبى سعيد مرفوعا إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم ، عدن أبكارا .
عُرُبًا أَتْرَابًا
📘 وقوله : ( عُرُباً أَتْرَاباً ) صفة أخرى من صفات هؤلاء النساء الفضليات الجميلات .وقوله : ( عُرُباً ) جمع عروب - كرسل ورسول - من أعرب فلان فى قوله إذا نطق بفصاحة وحسن بيان .وأترابا : جمع ترب - بكسر التاء وسكون الراء - وترب الإنسان هو ما كان مساويا له فى السن .أى : إنا أنشأنا هؤلاء النساء على تلك الصورة الجميلة ، فجعلناهن أبكارا كما جعلناهن - أيضا - محببات إلى أزواجهن ، ومستويات فى سن واحدة .روى الترمذى عن الحسن قال : " أتت عجوز فقالت يا رسول الله ادع الله - تعالى - أن يدخلنى الجنة ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز ، فولت تبكى " .فقال - صلى الله عليه وسلم - أخبروها أنها لا تدخلها وهى عجوز ، إن الله - تعالى - يقول : ( إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً . . ) " .
لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ
📘 واللام فى قوله : ( لاًّصْحَابِ اليمين ) متعلقة بأنشأناهن ، أو جعلناهن .أى : أنشأناهن كذلك ، ليكن فى صحبة أصحاب اليمين ، على سبيل التكريم لهم . .
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
📘 وقوله : ( ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ) خبر لمبتدأ محذوف . أى : أصحاب اليمين جماعة كبيرة منهم من الأمم الماضية ، وجماعة كبيرة أخرى من هذه الأمة الإسلامية .وبذلك نرى أن الله - تعالى - قد ذرك لنا ألوانا من النعم التى أنعم بها على أصحاب اليمين . كما ذكر قبل ذلك ألوانا أخرى مما أنعم به على السابقين .قال الآلوسى : ولم يقل - سبحانه - فى حق أصحاب اليمين : ( جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) كما قال - سبحانه - ذلك فى حق السابقين ، رمزا إلى أن الفضل فى حقهم متمحض ، كأن عملهم لقصوره عن عمل السابقين ، لم يعتبر اعتباره .ثم الظاهر أن ما ذكر من أصحاب اليمين ، هو حالهم الذى ينتهون إليه فلا ينافى أن يكون منهم من يعذب لمعاص فعلها ، ومات غير تائب عنها ، ثم يدخل الجنة .
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا
📘 والمراد بالرج فى قوله - تعالى - بعد ذلك : ( إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً . . . ) التحريك الشديد ، والاضطراب الواضح . يقال : رج فلان الشىء رجا ، إذا حركه بعنف وزلزلزه بقوة . . .أى : إذا رجت الأرض وزلزت زلزالا شديدا ، وفتتت الجبال تفتيتا حتى صارت كالسويق الملتوت . . . .
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ
📘 وقوله : ( ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ) خبر لمبتدأ محذوف . أى : أصحاب اليمين جماعة كبيرة منهم من الأمم الماضية ، وجماعة كبيرة أخرى من هذه الأمة الإسلامية .وبذلك نرى أن الله - تعالى - قد ذرك لنا ألوانا من النعم التى أنعم بها على أصحاب اليمين . كما ذكر قبل ذلك ألوانا أخرى مما أنعم به على السابقين .قال الآلوسى : ولم يقل - سبحانه - فى حق أصحاب اليمين : ( جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) كما قال - سبحانه - ذلك فى حق السابقين ، رمزا إلى أن الفضل فى حقهم متمحض ، كأن عملهم لقصوره عن عمل السابقين ، لم يعتبر اعتباره .ثم الظاهر أن ما ذكر من أصحاب اليمين ، هو حالهم الذى ينتهون إليه فلا ينافى أن يكون منهم من يعذب لمعاص فعلها ، ومات غير تائب عنها ، ثم يدخل الجنة .
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ
📘 وبعد هذا الحديث الذى يشرح الصدور ، ويقر العيون ، وترتاح له الأفئدة . عن السابقين وعن أصحاب اليمين . . جاء الحديث عن أصحاب الشمال ، وهم الذين استحبوا العمى على الهدى وآثروا الغى على الرشد ، فقال - تعالى - : ( وَأَصْحَابُ الشمال . . . ) .قوله - تعالى - : ( وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال ) أى : ما قصة هؤلاء القوم؟ وما حالهم؟ وما جزاؤهم؟
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ
📘 ثم بين - سبحانه - ذلك فقال : ( فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ) والسموم : الريح الشديدة الحرارة . التى تدخل فى مسام الجسد ، فكأنها السم القاتل .والحميم : الماء الذى بلغ النهاية فى الغليان . أى : هم فى الآخرة مستقرون فيما يهلكهم من الريح الحارة ، والماء الشديد الغليان .
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ
📘 وهم كذلك فى ( ظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ ) أى : فى دخان أسود شديد يخنق أنفاسهم ، والعرب يقولون لكل شىء شديد السواد : أسود يحموم ، مأخوذ من الشىء الأحم ، وهو الأسود من كل شىء ، ومثله الحمم .و ( مِّن ) فى قوله : ( مِّن يَحْمُومٍ ) للبيان . إذ الظل هنا هو نفس اليحموم وتسميته ظلا من باب التهكم بهم .
لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ
📘 وقوله - تعالى - : ( لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ) صفتان للظل . أى : هذا الظل لا شىء فيه من البرودة التى يستروح بها من الحر . ولا شىء فيه من النفع لمن يأوى إليه .فهاتان الصفتان لبيان انتفاء البرودة والنفع عنه ، ومتى كان كذلك انتفت عنه صفات الظلال التى يحتاج إليها .قال صاحب الكشاف : قوله - تعالى - : ( لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ) صفتان للظل . أى : هذا الظل لا شىء فيه من البرودة التى يستروح بها من الحر . ولا شىء فيه من النفع لمن يأوى إليه .فهاتان الصفتان لبيان انتفاء البرودة والنفع عنه ، ومتى كان كذلك انتفت عنه صفات الظلال التى يحتاج إليها .قال صاحب الكشاف : قوله - تعالى - : ( لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ) نفى لصفتى الظل عنه ، يريد أنه ظل ولكن لا كسائر الظلال سماه ظلا ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه لمن يأوى إليه من أذى الحر ، ليمحق ما فى مدلول الظل من الاسترواح إليه . والمعنى : أنه ظل حار ضار ، إلا أن للنفى فى نحو هذا شأنا ليس للإثبات ، وفيه تهكم بأصحاب المشأمة ، وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم ، الذى هو لأضدادهم فى الجنة . . .
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أدت بهؤلاء الاشقياء إلى هذا المصير الأليم ، فقال - تعالى - : ( إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ) أى : إنهم كانوا قبل ذلك العذاب الذى حل بهم ، أى : كانوا فى الدنيا ( مُتْرَفِينَ ) أى : متنعمين بطرين ، متبعين لهوى أنفسهم ، وسالكين خطوات الشيطان . دون أن يصدهم عن ذلك صاد ، أو يردعهم رادع .فالمراد بالترف هنا : بطر النعمة ، وعدم شكر الله - تعالى - عليها ، والمترف : هو الذى يتقلب فى نعم الله - تعالى - ، ولكنه يستعملها فى المعاصى لا فى الطاعات ، وفى الشرور لا فى الخيرات .
وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ
📘 وقوله - سبحانه - : ( وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم ) بيان لسبب آخر من الأسباب التى أدت بهم إلى هذا المصير السىء .والحنث : الذنب الكبير ، والمعصية الشديدة ، ويندرج تحته الإشراك بالله - تعالى - ، وإنكار البعث والجزاء ، والحلف الكاذب مع تعمد ذلك .أى : وكانوا فى الدنيا يصرون على ارتكاب الذنوب العظيمة ، ويتعمدون إتيانها بدون تحرج أو تردد ، ومن مظاهر ذلك أنهم أقسموا بالأيمان المغلظة أنه لا بعث ولا حساب ، ولا جزاء ، كما قال - تعالى - : ( وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ . . . ).
وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
📘 ثم حكى - سبحانه - لونا من أقوالهم الباطلة ، وحججهم الداحضة فقال : ( وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأولون ) .أى : أنهم فوق ترفهم وإصرارهم على ارتكاب الآثام كانوا يقولون - على سبيل الإنكار - لمن نصحهم باتباع الحق : أئذا متنا ، وانتهت حياتنا ووضعنا فى القبور ، وصرنا ترابا وعظاما ، أئنا لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى؟
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ
📘 وهل آباؤنا الأولون الذين صاروا من قبلنا عظاما ورفاتا يبعثون - أيضا -؟ولا شك أن قولهم هذا دليل على انطماس بصائرهم ، وعلى شدة غفلتهم عن آثار قدرة الله - تعالى - التى لا يعجزها شىء ، والتى من آثارها إيجادهم من العدم .
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ
📘 ولذا لقن الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - الجواب الذى يخرس ألسنتهم فقال - سبحانه - : ( قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ) .أى : قال لهم - أيها الرسول الكريم - إن الأمم السابقة التى من جملتها آباؤكم . والأمم اللاحقة التى من جملتها أنتم . الكل مجموعون ومسوقون إلى المحشر فى وقت واحد محدد فى علم الله - تعالى - . وعند ما يأتى هذا الوقت ماله من دافع .
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا
📘 وقوله ( وَبُسَّتِ ) من البس بمعنى التفتيت والتكسر الدقيق ، ومنه قولهم : بس فلان السويق ، إذا فتته ولته وهيأه للأكل .أى : إذا رجت الأرض وزلزت زلزالا شديدا ، وفتتت الجبال تفتيتا حتى صارت كالسويق الملتوت . . . .
لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ
📘 فالميقات هنا : بمعنى الوقت والأجل ، والمراد به هنا : يوم القيامة .ووصفه - سبحانه - بأنه معلوم ، للإشعار بكونه معينا وواقعا وقوعا لا ريب فيه ، ولكن فى الوقت الذى يشاؤه الله - تعالى - ويختاره .
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - ما سيحل بهم من عذاب فى هذا اليوم فقال : ( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون المكذبون لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ . . ) .والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - : ( قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ . . . ) وداخلة فى حيز القول . و ( ثُمَّ ) للتراخى الزمانى أو الرتبى والخطاب للمشركين الذين أعرضوا عن دعوة النبى - صلى الله عليه وسلم - .
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ
📘 و ( مِن ) فى قوله : ( مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ ) ابتدائية ، وفى قوله : ( مِّن زَقُّومٍ ) بيانية .وشجر الزقوم : لا وجود له فى الدنيا ، وإنما يخلقه الله - تعالى - فى النار كما يخلق غيره من أصناف العذاب ، كالحيات والعقارب .وقيل : هو شجر سام ، متى مسه جسد إنسان ، تورم هذا الإنسان ومات ويوجد هذا الشجر فى الأراضى المجدبة المجاورة للصحراء .والزقوم من التزقم ، وهو ابتلاع الشىء الكريه ، بمشقة شديدة .والمعنى : ثم قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل التقريع والتبكيت : إنكم أيها الضالون عن الحق . المكذبون بالبعث والجزاء ، لآكلون يوم القيامة من شجر ، هو شجر الزقوم ، الذى هو أخبث الشجر وأبشعه .
فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ
📘 ( فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون ) أى : فمالئون من هذه الشجرة الخبيثة بطونكم ، لشدة الجوع الذى حل بكم . . .وجاء الضمير مؤنثا فى قوله : ( مِنْهَا ) لأن الشجر هنا بمعنى الشجرة ، أو لأن ضمائر الجمع لغير العاقل تأتى مؤنثة فى الغالب .
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ
📘 ثم قال - تعالى - : ( فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم ) والضمير فى قوله : ( عَلَيْهِ ) يعود على الأكل المستفاد من قوله : ( لآكِلُونَ ) . . .أى : ثم إنكم إيها الضالون المكذبون بعد هذا الأكل الخبيث من شجرة الزقوم . . . تشربون عليه فى بطونكم - ماء - قد بلغ درجات الحرارة ، فصرتم فى شرابكم كالإبل العطاش التى لا يرويها الماء مهما كثر لأنها مصابة بداء ، هذا الداء يمنعها من الشبع منه ، فما تزال تشرب منه حتى تهلك .
فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ
📘 فقوله : ( الهيم ) صفة لموصوف محذوف ، أى : الإبل الهيم ، جمع أهيم للمذكر ، وهيماء للمؤنث .والهيام - بضم الهاء - داء يصيب الإبل ، يجعلها تشرب فلا تشبع ، وما تزال تشرب حتى تهلك ، أو تسقم سقما شديدا يؤدى إلى موتها ، والفاء فى قوله - تعالى - : ( فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ ) عطف على ( لآكِلُونَ . . ) لإفادة أن شربهم مع عطشهم الشديد ، يأتى بعد أكلهم من الزقوم ، بدون مهلة أو استراحة .وقوله : ( فَشَارِبُونَ شُرْبَ . . ) تأكيد لما قبله ، للتنبيه على أن هذا الشراب - مع فظاعته وقبحه - لا مفر منه ، ولا انفكاك لهم عنه .
هَٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ
📘 ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات بقوله : ( هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين ) والنزل : ما يعد للضيف من منزل حسن ، ومأكل حسن لإكرامه .أى : هذا المذكور من أنواع العذاب المهين . . . . نزلهم ومسكنهم ومقرهم أول قدومهم يوم الجزاء . .فالإشارة بقوله : ( هذا ) إلى ما ذكر قبل ذلك من عذاب مهين ، من مظاهره أكلهم من الزقوم ، وشربهم من الحميم .والتعبير عما أعد لهم من عذاب بالنزل ، على سبل التهكم ، كما فى قول الشاعر :وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهَفات له نزلاوبذلك نرى الآيات الكريمة ، وقد بينت ما أعد لأصحاب الشمال ، من عذاب مهين ، بأسلوب تقشعر من هوله الأبدان . . .وبعد هذا الحديث الجامع عن أقسام الناس يوم القيامة ، وعن جزاء كل قسم . . . أخذت السورة الكريمة فى إقامة الأدلة على وحدانية الله - تعالى - وعلى كمال قدرته . . .وجاءت هذه الأدلة لا عن طريق أمور تخييلية ، أو فلسفية ، أو غيبية . . . وإنما عن طريق أمور يحسونها بأنفسهم ، ويشاهدونها بأعينهم . . . عن طريق خلقهم ، وزروعهم التى يزاولونها بأيديهم ، والماء الذى يشربونه ، والنار التى يوقدونها .
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ
📘 لنستمع إلى السورة الكريمة ، وهى تحكى كل ذلك فتقول : ( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ . . . ) .قوله - تعالى - : ( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ ) رد على إنكار المشركين للبعث والجزاء ، ولولا هنا للتحضيض ، والفاء لترتيب التحضيض على ما قبله .أى : نحن الذين خلقناكم - أيها الجاحدون - هذا الخلق الأول بقدرتنا وحدها ، فهلا صدقتم بذلك ، وأطعتم رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءكم به من عندنا ، وأيقنتم بأن الأولين والآخرين سيقفون أمامنا يوم القيامة للحساب؟فالمراد بقوله - تعالى - : ( خَلَقْنَاكُمْ ) : خلقهم من سلاله من طين ، ثم جعلهم نطفة فى قرار مكين كما قال - تعالى - : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين ) فإن قيل : إنهم كانوا يعترفون بأن الله - تعالى - قد خلقهم ، بدليل قوله - تعالى - : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله . . . ) فما فائدة قوله - سبحانه - ( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ . . ) ؟فالجواب أنهم لما كان اعترافهم بمنزلة العدم ، حيث أشركوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة قيل لهم على سبيل الإلزام والتبكيت : ( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ . . ) .
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ
📘 ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك أربعة أدلة على صحة هذا البعث وإمكانه ، أما الدليل الأول فتراه فى قوله - تعالى - : ( أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون . . . ) .وقوله : ( تُمْنُونَ ) مأخوذ من أمنى بمعنى قذف المنى ، يقال : أمنى الرجل النطفة ، إذا قذفها . والاستفهام للتقرير ، والرؤية علمية . ( مَّا ) موصولة وهى المفعول الأول لقوله ( أَفَرَأَيْتُمْ ) والجملة الفعلية صلة الموصول ، والعائد إلى الموصول محذوف . وجملة : أأنتم تخلقونه . . . هو المفعول الثانى .والضمير المنصوب فى قوله : ( تَخْلُقُونَهُ ) يعود إلى الاسم الموصول فى قوله : ( مَّا تُمْنُونَ ) . أى : أخبرونى - أيها المشركون عما تصبونه وتقذفونه من المنى فى أرحام النساء؟ أأنتم تخلقون ما تمنونه من النطف علقا فمضغا . . أم نحن الذين خلقنا ذلك؟ لا شك أنكم تعرفون بأننا نحن الذين خلقنا كل ذلك ، وما دام الأمر كما تعرفون ، فلماذا عبدتم مع الله - تعالى - آلهة أخرى .فالاستفهام للتقرير حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف بأن الله - تعالى - وحده خلق الإنسان فى جميع أطواره .قال الجمل : و ( أَم ) فى هذه المواضع الأربعة منقطعة ، لوقوع جملة بعدها ، والمنقطعة تقدر ببل والهمزة الاستفهامية ، فيكون الكلام مشتملا على استفهامين ، الأول : أأنتم تخلقونه؟ وجوابه : لا . والثانى : مأخوذ من ( أَم ) أى : بل أنحن الخالقون؟ وجوابه نعم .
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ
📘 ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك أربعة أدلة على صحة هذا البعث وإمكانه ، أما الدليل الأول فتراه فى قوله - تعالى - : ( أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون . . . ) .وقوله : ( تُمْنُونَ ) مأخوذ من أمنى بمعنى قذف المنى ، يقال : أمنى الرجل النطفة ، إذا قذفها . والاستفهام للتقرير ، والرؤية علمية . ( مَّا ) موصولة وهى المفعول الأول لقوله ( أَفَرَأَيْتُمْ ) والجملة الفعلية صلة الموصول ، والعائد إلى الموصول محذوف . وجملة : أأنتم تخلقونه . . . هو المفعول الثانى .والضمير المنصوب فى قوله : ( تَخْلُقُونَهُ ) يعود إلى الاسم الموصول فى قوله : ( مَّا تُمْنُونَ ) . أى : أخبرونى - أيها المشركون عما تصبونه وتقذفونه من المنى فى أرحام النساء؟ أأنتم تخلقون ما تمنونه من النطف علقا فمضغا . . أم نحن الذين خلقنا ذلك؟ لا شك أنكم تعرفون بأننا نحن الذين خلقنا كل ذلك ، وما دام الأمر كما تعرفون ، فلماذا عبدتم مع الله - تعالى - آلهة أخرى .فالاستفهام للتقرير حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف بأن الله - تعالى - وحده خلق الإنسان فى جميع أطواره .قال الجمل : و ( أَم ) فى هذه المواضع الأربعة منقطعة ، لوقوع جملة بعدها ، والمنقطعة تقدر ببل والهمزة الاستفهامية ، فيكون الكلام مشتملا على استفهامين ، الأول : أأنتم تخلقونه؟ وجوابه : لا . والثانى : مأخوذ من ( أَم ) أى : بل أنحن الخالقون؟ وجوابه نعم .
فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا
📘 فكانت تلك الجبال كالهباء المنبث أى : المتفرق الذى يلوح من خلال شعاع الشمس إذا ما دخل من نافذة . .إذا ما حدث كل ذلك ، وجد كل إنسان جزاءه من خير أو شر ، ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) فجواب الشرط ما ذكرته الآيات بعد ذلك من حسن عاقبة أصحاب الميمنة وسوء عاقبة أصحاب المشأمة .ومن الآيات الكثيرة ، التى وردت فى معنى هذه الآيات قوله - تعالى - : ( يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً ) .
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
📘 ثم أكد سبحانه - خلقه لكل شىء ، وقدرته على كل شىء . فقال - تعالى - ( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) .أى : نحن وحدنا الذين قدرنا لموتكم آجالا مختلفة ، وأعمارا متفاوتة ، فمنكم من يموت صغيرا ، ومنكم من يموت كبرا ، وما نحن بمسبوقين ، أى : وما نحن بمغلوبين على ذلك ، بل نحن قادرون قدرة تامة على تحديد آجالكم ، فمن حضره أجله فلن يستطيع أن يتأخر عنه ساعة ، أو يتقدم عنه ساعة . كما قال - تعالى - : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ).
عَلَىٰ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
📘 وقوله - تعالى - : ( على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ ) متعلق بقوله : ( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت . . ) .والمراد بتبديل أمثالهم : إيجاد قوم آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا .والمعنى : نحن وحدنا الذين قدرنا بينكم الموت وحددناه على حسب مشيئتنا ونحن الذين فى قدرتنا أن نبدل من الذين ماتوا منكم أشباها لهم ، نوجدهم بقدرتنا - أيضا - كما قال - سبحانه - : ( وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) ويصح أن يكون قوله - تعالى - : ( قَدَّرْنَا ) بمعنى قضينا وكتبنا ، ويكون قوله : ( على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ ) متعلق بقوله ( بِمَسْبُوقِينَ ) ، ويكون المراد بتبديل أمثالهم . إيجاد قوم آخرين سواهم .والمعنى : نحن الذين وحدنا كتبنا عليكم ، وقضيناه على جميع الخلق فكل نفس ذائقة الموت ، وما نحن بمغلوبين على إهلاككم ، وعلى خلق أمثالكم بدلا منكم كما قال - تعالى - : ( ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله والله هُوَ الغني الحميد إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ ) وقوله - سبحانه - : ( وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) بيان للون آخر من ألوان قدرته - تعالى - .أى : نحن لسنا بعاجزين ولا بمغلوبين . . . على أن نهلككم ونأتى بدلا منكم بغيركم . ولسنا - أيضا - بعاجزين على أن ننشئكم بعد إهلاككم فيما لا تعلمونه من الصور ، والهيئات ، والصفات .قال صاحب الكشاف : قوله - تعالى - : ( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت ) أى : قدرناه تقديرا ، وقسمناه عليكم قسمة الرزق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا فاختلف أعماركم من قصير وطويل ومتوسط .وقوله : ( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) يقال : سبقته على الشىء إذا أعجزته عنه ، وغلبته عليه ، ولم تمكنه منه ، فمعنى قوله ( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ ) أنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه . وأمثالكم جمع مثل - بسكون الثاء - أى : على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق ( وَ ) على أن ( نُنشِئَكُمْ ) فى خلق لا تعلمونها وما عهدتم مثلها . يعنى أنا نقدر على الأمرين جميعا : على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم ، فيكف نعجز عن إعادتكم .ويجوز أن يكون أمثالكم جمع مثل ، بفتحتين أى : على أن نبدل ونغير صفاتكم التى أنتم عليها فى خلقكم وأخلاقكم ، وننشئكم فى صفات لا تعلمونها .
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ
📘 ثم لفت - سبحانه - أنظارهم إلى ما يعلمونه من حالهم فقال : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ) .أى : والله لقد علمتم النشأة الأولى من خلقكم ، حيث أوجدناكم من نطفة فعلقة فمضغة . . فهلا تذكرتم ذلك وعقلتموه ، وعرفتم أن من قدر على خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا . . . قادر على إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى؟فالمقصود بهذه الآيات الكريمة إقامة الأدلة الساطعة ، على إمكانية البعث وعلى أن من قدر على خلق الإنسان مع العدم قادر على إعادته .قال القرطبى : وفى الخبر : عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى ، وهو يرى النشأة الأولى . وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة ، وهو لا يسعى لدار القرار .
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ
📘 ثم انتقتل السورة الكريمة إلى بيان الدليل الثانى على صحة البعث وإمكانيته . فقال - تعالى - : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) .والحرث : شق الأرض من أجل زراعتها ، والمراد به هنا : وضع البذر فيها بعد حرثها .
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ
📘 أى : أخبرونى عن البذور التى تلقون بها فى الأرض بعد حرثها ، أأنتم الذين تنبتونها وتصيرونها زرعا بهيجا نضرا أم نحن الذين نفعل ذلك؟ لا شك أنا نحن الذين نصير هذه البذور زروعا ونباتا يانعا .
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ
📘 ولو نشاء لجعلنا هذا النبات ( حُطَاماً ) أى مكسرا مهشما يابسا لا نفع فيه ، فظللتم بسبب ذلك ( تَفَكَّهُونَ ) أى : فصرتم بسبب ما أصاب زرعكم من هلاك ، تتعجبون مما أصابه ، وتتحسرون على ضياع أموالكم ، وتندمون على الجهد الذى بذلتموه من غير فائدة . . .وأصل التفكه : التنقل فى الأكل من فاكهة إلى أخرى ، ثم استعير للتنقل من حديث إلى آخر ، وهو هنا ما يكون من أحاديثهم المتنوعة بعد هلاك الزرع .والمراد بالتفكه هنا : التعجب والندم والتحسر على ما أصابهم .
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ
📘 وقوله - سبحانه - : ( إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ) مقول لقول محذوف . أى : فصرتم بسبب تحطيم زروعكم تتعجبون ، وتقولون على سبيل التحسر : إنا لمهلكون بسبب هلاك أقواتنا ، من الغرام بمعنى الهلاك . أو إنا لمصابون بالغرم والاحتياج والفقر ، بسبب ما أصاب زرعنا . من الغرم وهو ذهاب المال بلا مقابل .
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
📘 وتقولون - أيضا - : ( بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) من منافع هذا الزرع الذى كنا نعلق الآمال على الانتفاع به ، والاستفادة بثماره .قال الإمام القرطبى - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآيات : والمستحب لكل من يلقى البذر فى الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ . . . ) الآيات . ثم يقول : بل الله الزارع ، والمنبت والمبلغ . اللهم صلى على محمد ، وارزقنا ثم هذا الزرع ، وجنبنا ضرره ، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين ، ولآلائك من الذاكرين ، وبارك فيه يا رب العالمين .
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ
📘 ثم ذكر - سبحانه - الدليل الثالث على إمكانية البعث ، وعلى كمال قدرته - تعالى - فقال : ( أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ) .أى : وأخبرونى - أيضا - عن الماء الذى تشربونه .
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ
📘 أأنتم الذين أنزلتموه من ( المزن ) أى : من السحاب أم نحن الذين أنزلناه؟لا شك أننا نحن الذين أنزلناه ، ولا تستطيعون إنكار ذلكن لأن إنكاركم لذلك يعتبر نوعا من المكابرة المكشوفة ، والمغالطة المفضوحة .وتخصيص هذا الوصف ، وهو ( الذي تَشْرَبُونَ ) بالذكر ، مع كثرة منافع الماء ، لأن الشرب أهم المقاصد التى من أجلها أنزل - سبحانه - الماء من السحاب .
وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً
📘 والخطاب فى قوله - تعالى - : ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ) للناس جميعا ، وكان بمعنى صار ، والأزواج بمعنى الأصناف والأنواع . . .أى : وصرتم - أيها الناس - فى هذا اليوم الهائل الشديد ، أصنافا ثلاثة ، على حسب أحوالكم فى الدنيا . . .
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ
📘 وقوله - سبحانه - : ( لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً . . ) بيان لمظهر من مظاهر رحمته - سبحانه - .ومفعولى المشيئة هنا وفى ما قبله إلى قوله ( لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً . . . ) محذوف ، للاكتفاء عنه بجواب الشرط .والماء الأجاج : هو الماء الشديد الملوحة والمرارة فى وقت واحد .أى : لو نشاء أن نجعل هذا الماء النازل من المزن لشربكم ، ماء جامعا بين الملوحة والمرارة لفعلنا ، ولكنا لم نشأ ذلك رحمة بكم ، وفضلا منا عليكم .وقوله : ( فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ) حض على الشكر لله - تعالى - أى : فهلا شكرتم الله - تعالى - على هذه النعم ، وأخلصتم له العبادة والطاعة ووضعتم نعمه فى مواضعها .فالمراد بالشكر هنا : أن يواظب العبد على شكر ربه ، وعلى المداومة على ما يرضيه وعلى استعمال النعم فيما خلقت له .أما شكر الرب - عز وجل - لعبده فمعناه : منحه الثواب الجزيل ، على عمله الصالح : ومنه قوله - تعالى - : ( وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) قال بعض العلماء : واعلم أن مادة الشكر تتعدى إلى النعمة تارة ، وإلى النعم أخرى .فإن عديت إلى النعمة ، تعدت إليها بنفسها دون حرف الجر ، كقوله - تعالى - : ( رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ . . . ) وإن عديت إلى المنعم تعدت إليه بحرف الجر الذى هو اللام ، كقوله - تعالى - : ( واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ . . . ) وقال - سبحانه - هنا : ( لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) وقال فى الآيات السابقة : ( لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً . . ) بلام التأكيد ، لأن إنزال الماء من السماء وتحويله من ماء عذب إلى ماء ملح ، مما لا يتوهم أن لأحد قدرة عليه سوى الله - تعالى - لذا لم يحتج الأمر إلى تأكيد . . .أما جفاف الزرع بعد نضارته ، حتى يعود حطاما ، فمما يحتمل أنه من فعل الزارع ، أو لأى سبب آخر ، كآفة زراعية ، لذا أكد - سبحانه - أنه هو الفاعل لذلك على الحقيقة ، وأنه - تعالى - قادر على تحطيمه بعد نموه وريعانه .
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ
📘 ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الدليل الرابع على قدرته - تعالى - على البعث والنشور ، فقال - تعالى - : ( أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم ) .وقوله : ( تُورُونَ ) أى : توقدون ، من أورى النار إذا قدحها وأوقدها . ويقال : وَرَى الزندُ يَرِى وَرْيًا ، إذا خرجت ناره - وفعله من باب وعى - وأوراه غيره إذا استخرج النار منه .وقوله : ( لِّلْمُقْوِينَ ) مأخوذ من أقوى الرجل إذا دخل فى القواء ، وهو الفضاء الخالى من العمران ، والمراد بهم هنا المسافرون ، لأنهم فى معظم الأحيان يسلكون فى سفرهم الصحارى والفضاء من الأرض .وخصهم - سبحانه - بالذكر ، لأنهم أكثر من غيرهم انتفاعا بالنار ، وأحوج من غيرهم إليها .والمراد بشجرة النار : المرخ والعفار ، وهما شجرتان ، يقدح غصن إحدهما بغصن الأخرى فتتولد النار منهما بقدرة الله - تعالى - .ومن أمثال العرب : لكل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار . أى : وعلا على غيرهما المرخ والعفار لأنهما أكثر الشجر نصيبا فى استخراج النار ، فهو مثل يضرب فى تفضيل الشىء على غيره .والمعنى : وأخبرونى - أيضا - عن النار التى تقدحونها وتستخرجونها من الشجر الرطب الأخضر ، أأنتم خلقتم شجرتها ، واخترعتم أصلها ، أم نحن الخالقون لها وحدنا؟لا شك أن الجواب الذى لا جواب غيره ، أننا نحن الذين أنشأنا شجرتها لا أنتم .
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ
📘 ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الدليل الرابع على قدرته - تعالى - على البعث والنشور ، فقال - تعالى - : ( أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم ) .وقوله : ( تُورُونَ ) أى : توقدون ، من أورى النار إذا قدحها وأوقدها . ويقال : وَرَى الزندُ يَرِى وَرْيًا ، إذا خرجت ناره - وفعله من باب وعى - وأوراه غيره إذا استخرج النار منه .وقوله : ( لِّلْمُقْوِينَ ) مأخوذ من أقوى الرجل إذا دخل فى القواء ، وهو الفضاء الخالى من العمران ، والمراد بهم هنا المسافرون ، لأنهم فى معظم الأحيان يسلكون فى سفرهم الصحارى والفضاء من الأرض .وخصهم - سبحانه - بالذكر ، لأنهم أكثر من غيرهم انتفاعا بالنار ، وأحوج من غيرهم إليها .والمراد بشجرة النار : المرخ والعفار ، وهما شجرتان ، يقدح غصن إحدهما بغصن الأخرى فتتولد النار منهما بقدرة الله - تعالى - .ومن أمثال العرب : لكل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار . أى : وعلا على غيرهما المرخ والعفار لأنهما أكثر الشجر نصيبا فى استخراج النار ، فهو مثل يضرب فى تفضيل الشىء على غيره .والمعنى : وأخبرونى - أيضا - عن النار التى تقدحونها وتستخرجونها من الشجر الرطب الأخضر ، أأنتم خلقتم شجرتها ، واخترعتم أصلها ، أم نحن الخالقون لها وحدنا؟لا شك أن الجواب الذى لا جواب غيره ، أننا نحن الذين أنشأنا شجرتها لا أنتم .
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ
📘 ونحن الذين جعلناها تذكرة ، تذكر الناس بها فى دار الدنيا إذا أحسوا بشدة حرارتها ، بنار الآخرة التى هى أشد وأبقى ، حتى يقلعوا عن الأقوال والأفعال التى تؤدى بهم إلى نار الآخرة .ونحن - أيضا - الذين جعلنا هذه النار ( مَتَاعاً ) أى منفعة ( لِّلْمُقْوِينَ ) أى للمسافرين ، والذين هم فى حاجة إليها فى شئونهم المختلفة .
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
📘 والفاء فى قوله - تعالى - : ( فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها .أى : وما دام الأمر كذلك ، فسبح - أيها العاقل - باسم ربك العظيم ، بأن تنزهه عن الشرك والولد ، وبأن تخلص له العبادة والطاعة .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد ذكرت أربعة أدلة على إمكانية البعث : الأول عن طريق خلق الإنسان . والثانى عن طريق إنبات النبات ، والثالث عن طريق إنزال الماء من السحاب : والرابع عن طريق إنشاء الشجر الذى تستخرج منه النار .وإنها لأدلة واضحة على كمال قدرة الله - تعالى - ووحدانيته لكل عبد منيب .
۞ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ
📘 وبعد أن ساق - سبحانه - هذه الأدلة المتنوعة على كمال قدرته وعلى صحة البعث . . .التفت - سبحانه - بالحديث إلى أولئك الذين وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين . . . فرد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ونعت القرآن بنعوت جليلة فقال - تعالى - : ( فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ . . . ) .قال بعض العلماء : ورد القسم على هذا النحو فى القرآن الكريم كثيرا ، ومن ذلك قوله - تعالى - : ( فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق والليل وَمَا وَسَقَ ) وقوله : ( فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس الجوار الكنس . . ) وقد جاء على غير هذه الصورة ، أى : من غير لا النافية ، ومن غير الفعل " أقسم " كما فى قوله - تعالى - : ( فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ . . ) ( وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ . . ) وتارة يكون القسم بأشياء مختلفة من خلقه - تعالى - كالصافات ، والطور ، والتين ، والقرآن . والفاء فى قوله - تعالى - : ( فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم ) للتفريع على ما تقدم من أدلة البعث .و ( لاَ ) عند أكثر المفسرين فى هذا التركيب وأمثاله : مزيدة للتأكيد ، كما فى قوله - تعالى - : ( لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب . . ) أى ليعلم أهل الكتاب . والمعنى هنا : فأقسم بمواقع النجوم . . .قالوا : وزيادتها هنا جاءت جريا على سنن العرب من زيادتها قبل القسم ، كما قى قولهم : لا وأبيك ، كأنهم ينفون ما سوى المقسم عليه ، فيفيد الكلام التأكيد .ويرى بعضهم أن ( لاَ ) هنا : للنفى فيكون المعنى : فلا أقسم بمواقع النجوم ، لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم أصلا فضلا عن هذا القسم العظيم .قال الآلوسى ما ملخصه : ( فَلاَ أُقْسِمُ . . . ) لا مزيدة للتأكيد مثلها فى قوله - تعالى - : ( لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب ) أو هى لام القسم - بعينها - أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف أى : فلأقسم .وقيل إن لا هنا للنفى والرد على ما يقوله الكفار فى القرآن من أنه سحر ، كأنه قيل : فلا صحة لما يقولون فيه ، ثم استؤنف فقيل أقسم . .وقال بعضهم إن " لا " كثيرا ما يؤتى بها قبل القسم على نحو الاستفتاح ، كما فى قوله لا وأليك . .وقال أبو مسلم وجمع : إن الكلام على ظاهره المتبادر منه . والمعنة : لا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم . أى : لا يحتاج إلى قسم أصلا ، فضلا عن هذا القسم العظيم .والمواقع : جمع موقع ، وموقع الشىء ما يوجد فيه ، وما يسقط من مكان مرتفع .فالمراد بمواقع النجوم : مساقطها التى تسقط فيها عند غروبها . . . وقيل : مواضعها من بروجها فى السماء ، ومنازلها منها . . وقيل : المراد مواقعها يوم القيامة عدما تنتشر وتتفرق . . وأقسم - سبحانه - بذلك ، للتنويه بشأنها ، ولما فيها من الدلالة على أن لهذا الكون خالقا قادرا حكيمان يسير كواكبه بدقة ونظام بديع ، لا اختلال معه ولا اضطراب . . إذ كل نجم من هذه النجوم المتناثرة فى الفضاء ، له مجاله الذى يغيب فيه ، وله مكانة الذى لا يصطدم فيه بغيره .قال بعض العلماء : إن هذه النجوم والكواكب ، التى تزيد على عدة بلايين نجم ، ما يمكن ريته بالعين المجردة ، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تحسن به الأجهزة ، دون أن تراه كلها تسبح فى الفلك الغامض ، ولا يوجد أى احتمال أن يقترب مجال مغناطيسى لنجم ، من مجال نجم آخر ، أو يصطدم بكوكب آخر .. .ومن العلماء من يرى أن المراد بمواقع النجوم أوقات نزول القرآن نجما نجما ، وطائفة من الآيات تلى طائفة أخرى . .قال ابن كثير : واختلفوا فى معنى قوله " بمواقع النجوم " فعن ابن عباس أنه يعنى نجوم القرآن فإنه نزل جملة ليلة القدر ، من السماء العليا إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقا بعد ذلك . . .وعن قتادة : " مواقع النجوم " منازلها . . وقال مجاهد : مطالعها ومشارقها . . . وعن الحسن : انتشارها يوم القيامة . .ويبدو لنا أن تفسير النجوم هنا ، بنجوم السماء هو الأرجح ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة .
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ
📘 وقوله - سبحانه - : ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) كلام معترض بين القسم وجوابه والضمير فى " وإنه " يعود إلى القسم المذكور فى قوله : ( فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم ) أو يعود إلى ( بِمَوَاقِعِ النجوم ) بتأويله بمعنى المذكور . . .قال صاحب الكشاف : ( بِمَوَاقِعِ النجوم ) أى : بمساقطها ، ومغاربها . . . واستعظم ذلك بقوله : ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) . . وهو اعتراض فى اعتراض ، لأنه اعترض به بين المقسم والمقسم عليه ، وهو قوله : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) واعترض بقوله - لو تعلمون - بين الموصوف وصفته . . .وجواب " لو " إما محذوف بالكلية لأنه لا يتعلق بذكره غرض ، إذ المقصود هو نفى علمهم ، أى : أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم عظيم ، ولكنكم لا تعلمون قيمته ومنزلته .وإما أن يكون جوابها مقدرا ، فيكون المعنى : أقسم بمواقع النجوم ، وإنه لقسم عظيم لو كان عندكم علم نافع ، لعظمتموه ، ولآمنتم بما أقسمنا عليه ، ولكنكم لم تعظموه ولم تؤمنوا لجهلكم ، ولانطماس بصائركم .
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ
📘 والضمير فى قوله - سبحانه - : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) راجع إلى غير مذكور فى الكلام إلا أن علم المخاطبين به واستحضارهم له ، نزل منزلة ذكره . .أى : أقسم بمواقع النجوم ، إن هذا الذى يتلوه عليكم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لقرآن كريم . أى : رفيع القدر طاهر الأصل ، كثير المنافع ، ظاهر الفضل ، لأن الناس يجدون فيه كل ما يريدونه من سعادة وخير . .وليس أمره - كما زعمتم - من أن الشياطين تنزلت به ، أو أنه من أساطير الأولين . . .
فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ
📘 وقوله - سبحانه - : ( فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ) وصف آخر للقرآن الكريم ، والمكنون : المستور والمحجوب عن أنظار الناس ، بحيث لا يعلم كنهه إلى الله - تعالى - ، والمراد بالكتاب : اللوح المحفوظ . أى : أن هذا القرآن الكريم قد جعله الله - تعالى - فى كتاب مصون من غير الملائكة المقربين ، بحيث لا يطلع عليه أحد سواهم .وقوله - سبحانه - : ( لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ) : صفة للكتاب الذى هو اللوح المحفوظ . أى : أن هذا القرآن قد اقتضت حكمتنا أن نجعله فى كتاب مصون بحيث لا يطلع عليه قبل نزوله . من اللوح المحفوظ ولا يمسه أحد ، إلا الملائكة المطهرون من كل ما يوجب الطهارة .وعلى هذا التفسير يكون الغرض من الآيات الكريمة ، نفى ما زعمه المشركون من أن القرآن تنزلت به الشياطين ، وإثبات أن هذا القرآن مصون فى كتاب مستور عن الأعين ، هو اللوح المحفوظ . وأن الملائكة المطهرين وحدهم الذين يطلعون على هذا القرآن من اللوح المحفوظ ، وهم وحدهم الذين ينزلون به على الرسول - صلى الله عليه وسلم - .كما قال - تعالى - : ( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) وكما قال - سبحانه - : ( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ ).
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ
📘 ومنهم من يرى أن قوله - تعالى - : ( لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ) صفة أخرى للقرآن الكريم ، فيكون المعنى : إن هذا القرآن الكريم . لا يصح أن يمسه إلا المطهرون من الناس ، عن الحدث الأصغر ، والحدث الأكبر ، فيكون المراد بالطهارة : الطهارة الشرعية . .وقد رجح العلماء الرأى الأول الذى يرى أصحابه أن قوله - تعالى - : ( لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ) صفة للوح المحفوظ المعبر عنه بأنه كتاب مكنون ، وأم المراد بالمطهرين : الملائكة المقربون . . .وقالوا فى تأييد ما ذهبوا إليه : إن الآيات مسوقة لتنزيه القرآن عن أن تنزل به الشياطين ، وأنه فى مكان مأمون لا يصل إليه إلا الملائكة المقربون .والآيات - أيضا - مكية ، والقرآن المكى أكثر اهتمامه كان موجها إلى إبطال شبهات المشركين ، وليس إلى الأحكام الفرعية ، التى تحدث عنها القرآن المدنى كثيرا .كذلك قالوا : إن وصف الكتاب بأنه ( مَّكْنُونٍ ) يدل على شدة الصون والستر عن الأعين ، بحيث لا تناله أيدى البشر ، وهذا لا ينطبق إلا على اللوح المحفوظ ، أما القرآن فيمسه المؤمن وغير المؤمن .قال الإمام القرطبى ما ملخصه قوله : ( لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ) اختلف فى معنى ( لاَّ يَمَسُّهُ ) هل هو حقيقة فى المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف فى ( المطهرون ) من هم؟ .فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة . .وقيل المراد بالكتاب : المصحف الذى بأيدينا ، وهو الأظهر ، وقد روى مالك وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فى كتابه الذى كتبه إلى شرحبيل بن كلال . . . " ألا يمس القرآن إلا طاهر " .وقال أخت عمر لعمر عن إسلامه : ( لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ) فقام واغتسل . ثم أخذ الصحيفة التى بيدها ، وفيها القرآن .ثم قال : اختلف العلماء فى مس المصحف على غيره وضوء : فالجمهور على المنع ..وفى مس الصبيان إياه على وجهين : أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ والثانى الجواز ، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن . لأن تعلمه حال الصغر ، ولأن الصبى وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة ، لأن النية لا تصح منه ، فإذا جاز أن يحمله على طهارة ، جاز أن يحمله محدثا .
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ
📘 ثم فصل - سبحانه - الحديث عن الأزواج الثالثة فقال : ( فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة والسابقون السابقون ) .والمراد بأصحاب الميمنة ، أولئك السعداء الذين يؤتون كتبهم يوم القيامة بأيمانهم ، أو لأنهم يذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة . .أو سموا بذلك ، لأنهم ميامين ، أى : أصحاب بركة على أنفسهم ، لأنهم أطاعوا ربهم وخالفوا أهواءهم . . . فكانت عاقبتهم الجنة .
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
📘 ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة بقوله : ( تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين ) أى : هذا الكتاب الكريم منزل من رب العالمين ، لا ريب سواه ، ولا خالق غيره ، وبذلك يرى : أن هذه الآيات الكريمة ، قد وصف الله - تعالى - فيها القرآن الكريم ، بجملة من الصفات الجليلة ، فقد وصفه - سبحانه - بأنه كريم ، ووصفه بأنه مصون ومحفوظ من أن يمسه أحد سوى ملائكته المقربين ، وسوى عباده المطهرين من الأحداث ، ووصفه بأنه منزل من عنده لا من عند أحد سواه كما زعم أولئك الجاهلون .
أَفَبِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ
📘 ثم تتحدث السورة فى أواخرها . بأسلوب مؤثر ، عن لحظات الموت . وعن اللحظات التى يفارق الإنسان فيها هذه الحياة ، وأحباؤه من حوله لا يملكون له نفعا . . . وعن بيان الحالة التى يكون عليها هذا المفارق لهم ، فتقول : ( أفبهذا الحديث . . . ) .الاستفهام فى قوله - تعالى - : ( أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ ) للإنكار والتوبيخ . وهو داخل على مقدر .والمراد بالحديث : القرآن الكريم ، وما تضمنه من هدايات وإرشادات وتشريعات . .وقوله : ( مُّدْهِنُونَ ) من الإدهان وأصله جعل الجلد ونحوه مدهونا بشىء من الدهن ليلين ، ثم صار حقيقة عرفية فى الملاينة والمسايرة والمداراة ومنه قوله - تعالى - : ( وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) والمراد به هنا : تظاهر المشركين بمهادنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من قرآن كريم ، وإبداؤهم من اللين خلاف ما يبطنون من المكر والبغضاء .ويصح أن يكون الإدهان هنا : بمعنى التكذيب والنفاق ، إذ أن هذه المعانى - أيضا - تتولد عن المداهنة والمسايرة .أى : أتعرضون - أيها المشركون - عن الحق الذى جاءكم به رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فتظهرون أمامه بمظهر المداهن والمهادن ، الذى يلين أمام خصمه ، ولا يقابله بالشدة والحزم : مع أنه فى الوقت نفسه يضمر له أشد أنواع السوء والكراهية؟إذا كان هذا شأنكم ، فاعلموا أن تصرفكم هذا لا يخفى علينا؟!وقوله - سبحانه - وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون معطوف على ما قبله من باب عطف الجملة على الجملة . والكلام على حذف مضاف .والمعنى : أتعرضون عن هذا القرآن على سبل المداهنة والملاينة ، وتجعلون شكر نعمة رزقنا لكم به . وبالمطر الذى لا حياة لكم بدونه ، أنكم تكذبون بكونهما من عند الله - تعالى فتقولون فى شأن القرآن ، أساطير الأولين ، وتقولون إذا ما أنزلنا المطر عليكم : مطرنا بسبب نوء كذا . أى : بسبب سقوط النجم فى جهة المغرب من الفجر .
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
📘 قال الآلوسى : قوله : ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) أى : وتجعلون شكركم أنكم تكذبون ، تقولون أمطرنا بنوء كذا وكذا ، وبنجم كذا وكذا وأكثر الروايات أن قوله - تعالى - : ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ) نزل فى القائلين : مطرنا بنوء كذا . . أخرج مسلم - فى صحيحه - عن ابن عباس قال : " مطر الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم - : أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر . قالوا : هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية : ( فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم ) حتى بلغ ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) " .ثم قال الإمام الآلوسى : والآية على القول بنزولها فى قائلى ذلك : ظاهرة فى كفرهم المقابل للإيمان ، فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة حقيقة موجدة للمطر ، وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه من فضل الله - تعالى - ، وأن النوء ميقات وعلامة فإنه ليس بكفر . .وقد ذكر المفسرون هنا جملة من الأحاديث فى هذا المعنى فارجع إليها إن شئت ..
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ
📘 ثم انتقلت الآيات إلى توبيخهم على أمر آخر ، وهو غفلتهم عن قدرة الله - تعالى - ووحدانيته وهم يشاهدون آثار قدرته أمام أعينهم فقال - تعالى - : ( فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) .ولو فى الموضعين للتحضيض على التذكر والاعتبار ، ولإبراز عجزهم فى أوضح صورة ، إذ إظهار عجزهم هو المقصود هنا بالحض . .وقوله ( إِذَا بَلَغَتِ ) ظرف متعلق بقوله ( تَرْجِعُونَهَآ ) أى : تردونها ، وقد قدم عليه لتهويله ، والتشويق إلى الفعل المحضوض عليه ، وهو إرجاع الروح إلى صاحبها .والضمير فى ( بَلَغَتِ ) يعود إلى الروح ، وهى وإن كانت لم تذكر إلا أنها مفهومه من الكلام .والحلقوم : مجرى الطعام وأل فيه للعهد الجنسى .
وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ
📘 وجملة : ( وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ) حال من ضمير ( بَلَغَتِ ) ، ومفعول ( تَنظُرُونَ ) محذوف والتقدير : تنظرون وتبصرون صاحب الروح وهو فى تلك الحالة العصيبة .وجملة ( تَرْجِعُونَهَآ . . ) جواب الشرطين فى قوله : ( إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ) وفى قوله : ( إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) .
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُبْصِرُونَ
📘 وجملة ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ) مستأنفة لتأكيد توبيخهم على جهالاتهم وعدم اعتبارهم حتى فى أوضح المواقف التى تدل على قدرة خالقهم - عز وجل - .والمعنى : إذ كنتم - أيها الجاحدون المكذبون - لم تعتبروا ولم تتعظوا بكل ما سقناه لكم من ترغيب وترهيب على لسان رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهلا اعتبرتم واتعظتم وآمنتم بوجدانيتنا وقدرتنا . . . حين ترون أعز وأحب إنسان إليكم ، وقد بلغت روحه حلقومه ، وأوشكت على أن تفارق جسده . .( وَأَنتُمْ ) أيها المحيطون بهذا المحتضر العزيزعليكم ( حِينَئِذٍ ) أى : حين وصل الأمر به إلى تلك الحالة التى تنذر بقرب نهايته ، أنتم ( تَنظُرُونَ ) إلى ما يقاسيه من غمرات الموت ، وتبصرون ما فيه من شدة وكرب ، وتحرصون كل الحرص على انجائه مما حل به ولكن حرصكم يذهب أدراج الرياح .( وَنَحْنُ ) فى هذه الحالة وغيرها ، ( أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ) أى : ونحن أقرب إليه منكم بعلمنا وبقدرتنا ، حيث إنكم لا تعرفون حقيقة ما هو فيه من أهوال ولا تدركون عظيم ما فيه من كرب ، ولا تقدرون على رفع شىء من قضائنا فيه وفى غيره .وقوله : ( ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ ) استدراك للكلام السابق . أى : ونحن أقرب إلى هذا المحتضر منكم ، ولكنكم لا تدركون ذلك لجهلكم بقدرتنا النافذة ، وحكمتنا البالغة . . .
فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
📘 ( فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ) أى : فهلا إن كنتم غير عاجزين عن رد قضائنا فى هذا المحتضر الحبيب إليكم ، وغير مبروبين لنا ، وخاضعين لسلطاننا . . يقال : دان السلطان الرعية ، إذا ساسهم وأخضعهم لنفوذه .
تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
📘 هلا إن كنتم غير خاضعين لنا ( تَرْجِعُونَهَآ ) أى : ترجعون الروح إلى صاحبها ( إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) فى اعتقادكم بأن آلهتكم تستطيع الدفاع عنكم وفى اعتقادكم أنه لا بعث ولا حساب بعد الموت ، وفى توهمكم أن هناك قوة سوى قوة الله - عز وجل - يمكنها أن تساعدكم عند الشدائد والمحن .وهكذا نجد هذه الآيات الكريمة ، تقيم أوضح الأدلة وأكثرها تأثيرا فى النفوس ، على كمال قدرة الله - تعالى - وعلى نفاذ مشيئته وإرادته . .فهى تتحدى البشر جميعا أن يعيدوا الروح إلى أحب الناس إليهم ، وهم واقفون من حوله وقفة الحائر المستسلم . العاجز عن فعل أى شىء من شأنه أن يدفع عن هذا المحتضر ما فيه من كرب ، أو أن يؤخر انتزاعه روحه من جسده ، ولو لزمن قليل .
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ
📘 ثم تمضى السورة الكريمة بعد ذلك ، فى بيان مصير هذه الروح ، التى توشك أن تستدبر الحياة الفانية ، وتستقبل الحياة الباقية فتقول : ( فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ) .والروح : بمعنى الراحة والأمان والاطمئنان والريحان شجر طيب الرائحة .أى : فأما إن كان صاحب هذه النفس التى فارقت الدنيا ، من المقربين إلينا السابقين بالخيرات . . . فله عندنا راحة لا تقاربها راحة ، وله رحمة واسعة ، وله طيب رائحة عند قبض روحه ، وعند نزوله فى قبره ، وعند وقوله بين أيدينا للحساب يوم الدين ، وله جنات ينعم فيها بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ
📘 ثم تمضى السورة الكريمة بعد ذلك ، فى بيان مصير هذه الروح ، التى توشك أن تستدبر الحياة الفانية ، وتستقبل الحياة الباقية فتقول : ( فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ) .والروح : بمعنى الراحة والأمان والاطمئنان والريحان شجر طيب الرائحة .أى : فأما إن كان صاحب هذه النفس التى فارقت الدنيا ، من المقربين إلينا السابقين بالخيرات . . . فله عندنا راحة لا تقاربها راحة ، وله رحمة واسعة ، وله طيب رائحة عند قبض روحه ، وعند نزوله فى قبره ، وعند وقوله بين أيدينا للحساب يوم الدين ، وله جنات ينعم فيها بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
📘 وسمى الآخرون بأصحاب المشأمة ، لأنهم مشائيم ، أى : أصحاب شؤم على أنفسهم ، لأنهم طغوا وآثروا الحياة الدنيا ، فكانت عاقبتهم النار .أو سموا بذلك ، لأنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم . أو لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار . . والعرب تسمى الشمال شؤما ، كما تسمى اليمين يمنا .والتعبير بقوله : ( مَآ أَصْحَابُ الميمنة ) للتفخيم والإعلاء من شأنهم ، كما أن التعبير بقوله - تعالى - : ( مَآ أَصْحَابُ المشأمة ) للتحقير والتعجيب من حالهم .وجملة : ( مَآ أَصْحَابُ الميمنة ) مكونة من مبتدأ - وهو ما الاستفهامية - ، وخبر وهو ما بعدها ، وهذه الجملة خبر لقوله ( فَأَصْحَابُ الميمنة ) . ووضع فيها الاسم الظاهر موضع الضمير للتفخيم ، بخلاف وضعه فى أصحاب المشأمة ، فهو للتشنيع عليهم .وشبيه بهذا الأسلوب قوله - تعالى - : ( الحاقة مَا الحاقة ) و ( القارعة مَا القارعة )ولا يؤتى بمثل هذا التركيب إلا فى موضاع التفخيم ، أو التعجيب .والمعنى : فأصحاب الميمنة ، أى شىء هم فى أحوالهم وصفاتهم الكرمة ، وأصحابه المشأمة ، أى شىء هم فى أحوالهم وصفاتهم القبيحة؟وقد ترك هذا الاستفهام التعجيبى على إبهامه ، لتذهب النفس فيه كل مذهب من الثواب أو العقاب . .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
📘 ( وَأَمَّآ ) إن كان هذا الإنسان ( مِنْ أَصْحَابِ اليمين ) وهم الذين ثقلت موازين حسناتهم . .
فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
📘 ( فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين ) أى : فتقول له الملائكة عند قبض روحه وفى قبره ، وفى الجنة ، سلام لك يا صاحب اليمين ، من أمثالك أصحاب اليمين .قال الآلوسى : وقوله : ( فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين ) قيل هو على تقدير القول . أى : فيقال لذلك المتوفى منهم : سلام لك عما يشغل القلب من جهتهم فإنهم فى خير . أى : كن فارغ البال من جهتهم فإنهم بخير .وذكر بعض الأجلة أن هذه الجملة ، كلام يفيد عظمة حالهم ، كما يقال : فلان ناهيك به ، وحسبك أنه فلان ، إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد التفصيل .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ
📘 ( وَأَمَّآ إِن كَانَ ) هذا المتوفى ( مِنَ المكذبين الضآلين ) وهم أصحاب الشمال .
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ
📘 ( فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ) أى : فله نزل - أى : مكان - ( مِّنْ حَمِيمٍ ) أى : من ماء قد بلغ أقصى درجات الحرارة وعبر عن المكان الذى ينزل فيه بالنزل ، على سبل التهكم ، إذا النزل فى الأصل يطلق على ما يقدم للضيف على سبل التكريم . .
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ
📘 وقوله : ( وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ) أى : وله - أيضا - إدخال فى نار جهنم التى تشوى جسده وتحرقه .
إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ
📘 ( إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين ) أى : إن هذا الذى قصصناه عليك - أيها الرسول الكريم - فى هذه السورة وغيرها ، لهو الحق الثابت الذى لا يحوم حوله شك أو ريب .فقوله : ( حَقُّ اليقين ) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أى : لهو اليقين الحق . . .أو هو من إضافة الشىء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين ، كما فى قوله - تعالى - : ( حَبْلِ الوريد ) إذ الحبل هو الوريد ، والقصد من مثل هذا التركيب التأكيد .
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
📘 ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله : ( فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم ) أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - فنزه ربك العظيم فى ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، عن كل ما لا يليق به . .