🕋 تفسير سورة الصف
(As-Saff) • المصدر: AR-TAFSIR-AL-WASIT
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
📘 افتتحت سورة " الصف " - كما افتتحت قبلها سورة الحديد والحشر بتنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق به .أى : نزه الله - تعالى - وقدسه ، جميع ما فى السموات وجميع ما فى الأرض من مخلوقات ، وهو - عز وجل - ( العزيز ) الذى لا يغلبه غالب ( الحكيم ) فى كل أقواله وأفعاله .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
📘 ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين ، أرشدهم فيه إلى ما يسعدهم ، وينجيهم من كل سوء ، فقال - تعالى - : ( ياأيها الذين آمَنُواْ . . . ) .هذه الآيات الكريمة جواب عما قاله بعض المؤمنين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو نعلم أى الأعمال أحب إلى الله لعملناها ، كما سبق . أن ذكرنا فى سبب قوله - تعالى - ( ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ) فكأنه - سبحانه - بعد أن نهاهم عن أن يقولوا قولا ، تخالفه أفعالهم ، وضرب لهم الأمثال بجانب من قصة موسى وعيسى - عليهما السلام - وبشرهم بظهور دينهم على سائر الأديان .بعد كل ذلك أرشدهم إلى أحب الأعمال إليه - سبحانه - فقال : ( ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ ) .والتجارة فى الأصل معناها : التصرف فى رأس المال ، وتقليبه فى وجوه المعاملات المختلفة ، طلبا للربح .
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
📘 والمراد بها هنا : العقيدة السليمة ، والأعمال الصالحة ، التى فسرت بها بعد ذلك فى قوله - تعالى - ( تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ ) .والاستفهام فى قوله - تعالى - : ( هَلْ أَدُلُّكمْ ) للتشويق والتحضيض إلى الأمر المدلول عليه .والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ألا تريدون أن أدلكم على تجارة رابحة ، تنجيكم مزاولتها ومباشرتها ، من عذاب شديد الأليم؟ إن كنتم تريدون ذلك ، فهاكم الطريق إليها ، وهى : ( تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ) .فقوله - سبحانه - : ( تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ ) استئناف مفسر وموضح لقوله ( هَلْ أَدُلُّكمْ ) ؟ فكأن سائلا قال : وما هذه التجارة؟ دلنا عليها ، فكان الجواب : تؤمنون بالله ورسوله .أى : تداومون تامة على الإيمان بالله - تعالى - وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وتجاهدون فى سبيل إعلاء كلم الله ونصرة دينه بأموالكم وأنفسكم .قالوا : وقوله ( تُؤْمِنُونَ ) خبر فى معنى الأمر ، ويدل عليه قراءة ابن مسعود : آمنوا بالله رسوله ، وجاهدوا فى سبيله .وفائدة العدول إلى الخبر : الإشعار بأنهم قد امتثلوا لما أرشدوا إليه ، فكأنه - سبحانه - يخبر عن هذا الامتثال الموجود عندهم .وجاء التعبير بقوله : ( هَلْ أَدُلُّكمْ ) لإفادة أن ما يذكر بعد ذلك من الأشياء التى تحتاج إلى من يهدى إليها ، لأنها أمور مرد تحديدها إلى الله - تعالى - .وتنكير لفظ التجارة ، للتهويل والتعظيم ، أى : هل أدلكم على تجارة عظيمة الشأن . . ؟وأطلقت التجارة هنا على الإيمان والعمل الصالح ، لأنهما يتلاقيان ويتشابهان فى أن كليهما المقصود من ورائه الربح العظيم ، والسعى من أجل الحصول على المنافع .وقدم - سبحانه - هنا الجهاد بالأموال على الجهاد بالأنفس ، لأن المقام قمام تفسير وتوضيح لمعنى التجارة الرابحة عن طريق الجهاد فى سبيل الله ، ومن المعلوم أن التجارة تقوم على تبادل الأموال ، وهذه الأموال هى عصب الجهاد ، فعن طريقها تشترى الأسلحة والمعدات التى لا غنى للمجاهدين عنها ، وفى الحديث الشريف " من جهز غازيا فقد غزا " .وقدم - سبحانه - فى قوله : ( إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ . . ) وقدم الأنفس على الأموال ، لأن الحديث هناك ، كان فى معرض الاستبدال والعرض والطلب ، والأخذ والعطاء . . . فقدم - سبحانه - الأنفس لأنها أعز ما يملكه الإنسان ، وجعل فى مقابلها الجنة لأنها أعز ما يوهب ، وأسمى ما تتطلع إلى نيله النفوس .واسم الإشارة فى قوله : ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) يعود إلى ما سبق ذكره من الإيمان والجهاد . أى : ذلكم الذى أرشدناكم إلى التمسك به من الإيمان والجهاد فى سبيل الله ، هو خير لكم من كل شىء إن كنتم من أهل العلم والفهم .فقوله ( تَعْلَمُونَ ) منزلة منزلة الفعل اللازم ، للإشعار بأن من يخالف ذلك لا يكون لا من أهل العلم ، ولا من أهل الإدراك .وجعله بعضهم فعلا متعديا ، ومفعوله محذوف ، والتقدير : إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فافعلوه ، ولا تتقاعسوا عن ذلك .
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
📘 وقوله - سبحانه - : ( يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) مجزوم على أنه جواب لشرط مقدر ، أى : إن تمتثلوا أمره - تعالى - يغفر لكم ذنوبكم .ويصح أن يكون مجزوما على أنه جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر فى قوله - تعالى - قبل ذلك ( تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ ) . لأنهما - كما قلنا - وإن جاءا بلفظ الخبر ، إلا أنهما فى معنى الأمر ، أى : آمنوا وجاهدوا .أى : آمنوا بالله - تعالى - إيمانا حقا ، وجاهدوا فى سبيل إعلاء كلمته بأموالكم وأنفسكم ، يغفر لكم - سبحانه - ذنوبكم ، بأن يزيلها عنكم ، ويسترها عليكم .( وَيُدْخِلْكُمْ ) فضلا عن ذلك ( جَنَّاتٍ ) عاليات ( تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ) أى : تجرى من تجت مساكنها وبساتيها الأنهار .ويعطيكم ( مَسَاكِنَ طَيِّبَةً ) أى : قصورا مشتملة على كل ما هو طيب ونافع .وخصت المساكن الطيبة بالذكر ، لأن المجاهدين قد فارقوا مساكنهم ، ومنهم من استشهد بعيدا عنها ، وفيها أهله وماله . . . فوعدهم - سبحانه - بما هو خير منها .وقوله ( فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) أى : هذه المساكن الطيبة كائنة فى جنات باقية خالدة ، لا تزول ولا تنتهى ، بل أصحابها يقيمون فيها إقامة دائمة ، يقال : عدن فلان بالمكان ، إذا أقام فيه إقامة مؤبدة .( ذَلِكَ الفوز العظيم ) أى : ذلك الذى منحناكم إياه من مغفرة لذنوبكم ، ومن خلودكم فى الجنة . . . هو الفوز العظيم الذى لا يقاربه فوز ، ولا يدانيه ظفر .
وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
📘 وقوله - سبحانه - : ( وأخرى تُحِبُّونَهَا ) بيان لنعمة أخرى يعطيهم - سبحانه - إياها ، سوى ما تقدم من نعم عظمى .ولفظ " أخرى " مبتدأ خبره دل عليه ما تقدم ، وقوله : ( تُحِبُّونَهَا ) صفة للمبتدأ .أى : ولكم - فضلا عن كل ما تقدم - نعمة أخرى تحبونها وتتطلعون إليها .وهذه النعمة هى : ( نَصْرٌ ) عظيم كائن ( مِّن الله ) - تعالى - لكم ( وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ) أى : عاجل ( وَبَشِّرِ المؤمنين ) أى : وبشر - أيها الرسول الكريم - المؤمنين بذلك ، حتى يزدادوا إيمانا على إيمانهم ، وحتى تزداد قلوبهم انشراحا وسرورا .ويدخل فى هذا النصر والفتح القريب دخولا أوليا : فتح مكة ، ودخول الناس فى دين الله أفواجا .وهذه الآية الكريمة من معجزات القرآن الكريم ، الراجعة إلى الإخبار بالغيب ، حيث أخبر - سبحانه - بالنصر والفتح ، فتم ذلك للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه ، فى أكمل صورة ، وأقرب زمن .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ
📘 ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بنداء ثالث وجهه إلى المؤمنين ، دعاهم فيه إلى التشبه بالصالحين الصادقين من عباده فقال : ( ياأيها الذين آمَنُواْ . . . ) .الحواريون : جمع حوارى . وهم أنصار عيسى - عليه السلام - الذين آمنوا به وصدقوه ، وأخلصوا له ولازموه ، وكانوا عونا له فى الدعوة إلى الحق ، وكانوا اثنى عشر رجلا .يقال : فلان حوارى فلان ، أى : هو من خاصة أصحابه ، ومنه قول البنى - صلى الله عليه وسلم - فى الزبير بن العوام : " لكل نبى حوارى ، وحواريى الزبير " .وأصل الحور : شدة البياض والصفاء ، ومنه قولهم فى خالص لباب الدقيق : الحوارى ، وفى النساء البيض الحسان : الحواريات والحوريات .وسمى الله - تعالى - أصفياء عيسى وأنصاره بذلك لشدة إخلاصهم له ، وطهارة قلوبهم من الغش والنفاق ، فصاروا فى نقائهم وصفائهم كالشىء الأبيض الخالص .والأنصار : جمع نصير ، وهو من ينصر غيره نصرا شديدا مؤزرا .والمراد بنصر الله - تعالى - : نصر دينه وشريعته ونبيه الذى أرسله بالهدى ، وديم الحق .وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : كونوا أنصاراً لله .والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان داوموا وواظبوا على أن تكونوا أنصاراً لدين الله فى كل حال ، كما كان الحواريون كذلك ، عندما دعاهم عيسى - عليه السلام - إلى نصرته والوقوف إلى جانبه .فالكلام محمول على المعنى ، والمقصود منه حض المؤمنين على طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى الاستجابة التامة لما يدعوهم إليه ، كما فعل الحواريون مع عيسى ، حيث ثبتوا على دينهم ، وصدقوا مع نبيهم ، دون أن تنال منهم الفتن أو المصائب .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما وجه صحة التشبيه - وظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى ( مَنْ أنصاري إِلَى الله ) .قلت التشبيه محمول على المعنى ، وعليه يصح ، والمراد كونوا أنصار الله ، كما كان الحواريون أنصار عيسى كذلك حين قال لهم : من أنصارى إلى الله .فإن قتل : فما معنى قوله : ( مَنْ أنصاري إِلَى الله ) ؟ قلت : يجب أن يكون معناه مطابقا لجواب الحواريين : ( نَحْنُ أَنصَارُ الله ) والذى يطابقه أن يكون المعنى : من جندى متوجها إلى نصرة دين الله .والاستفهام فى قوله - تعالى - : ( مَنْ أنصاري إِلَى الله ) للحض على نصرته والوقوف إلى جانبه .وأضافهم - عليه السلام - إليه ، باعتبارهم أنصار دعوته ودينه .وقوله : ( إِلَى الله ) متعلق بأنصارى ، ومعنى " إلى " الانتهاء المجازى .أى : قال عيسى للحواريين على سبيل الامتحان لقوة إيمانهم : من الجند المخلصون الذين أعتمد عليهم بعد الله - تعالى - فى نصرة دينه ، وفى التوجه إليه بالعبادة والطاعة وتبليغ رسالته . . . ؟فأجابوه بقولهم : نحن أنصار دين الله - تعالى - ونحن الذين على استعداد أن نبذل نفوسنا وأموالنا فى سبيل تبليغ دعوته - عز وجل - ومن أجل إعلاء كلمته .وقوله - تعالى - : ( فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ ) مفرع على ما قبله ، لبيان موقف قومه منه .أى : قال الحواريون لعيسى عندما دعاهم إلى اتباع الحق : نحن أنصار دين الله ، ونحن الذين سنثبت على العهد . . . أما بقية بنى إسرائيل فقد افترقوا إلى فرقتين : فرقة آمنت بعيسى وبما جاء به من عند الله - تعالى - ، وفرقة أخرى كفرت به وبرسالته .وقوله : ( فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ) .بيان للنتائج التى تحققت لكل طائفة من الطائفتين : المؤمنين والكافرين .وقوله : ( ظَاهِرِينَ ) من الظهور بمعنى الغلبة ، يقال : ظهر فلان على فلان ، إذا تغلب عليه وقهره .أى : كان من قوم عيسى من آمن به ، ومنهم من كفر به ، فأيدنا وقوينا ونصرنا الذين آمنوا به ، على الذين كفروا به ، فصار المؤمنون ظاهرين ومنتصرين على أعدائهم بفضله - تعالى - ومشيئته .والمقصود من هذا الخبر حض المؤمنون فى كل زمان ومكان ، على الإيمان والعمل الصالح ، لأن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أن يجعل العاقبة لهم ، كما جعلها لأتباع عيسى المؤمنين ، على أعدائهم الكافرين .قال بعض العلماء : وتأويل هذا النص يمكن أن ينصرف إلى أحد معنيين : إما أن الذين آمنوا برسالة عيسى - عليه السلام - ، هم المسيحيون إطلاقا ، من استقام ، ومن دخلت فى عقيدته الانحرافات ، وقد أيدهم الله - تعالى - على اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا ، كما حدث فى التاريخ .وإما أن الذين آمنوا : هم الذين أصروا على التوحيد فى وجه المؤهلين لعيسى ، والمثلثين وسائر النحل التى انحرفت عن التوحيد .ومعنى : أنهم أصبحوا ظاهرين ، أى : بالحجة والبرهان ، أو أن التوحيد الذى هم عليه ، هو الذى أظهره الله بهذا الدين الأخير - أى : دين الإسلام - وجعل له الجولة الأخيرة فى الأرض . كما وقع فى التاريخ .هذا المعنى الأخير هو الأرجح والأقرب فى هذا السياق .وبعد : فهذا تفسير لسورة " الصف " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصاً لوجهه ، ونافعاً لعباده .وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ
📘 ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين فقال : ( ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ) .وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها : ما روى عن ابن عباس أنه قال : كان أناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لَوَدِدْنا أن الله - عز وجل - دلنا على أحب الأعمال إليه ، فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه ، إيمان به لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به .فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشق عليهم أمره ، فنزلت هذه الآيات .وقال قتادة والضحاك : نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون : قتَلْنَا ، ضرَبْنَا ، طَعَنَّا ، وفَعَلنْا ، ولم يكونوا فعلوا ذلك .والاستفهام فى قوله - تعالى - : ( لِمَ تَقُولُونَ ) للانكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان قولا لا يؤيده فعله ، لأن هذا القول إما أن يكون كذبا ، وإما أن يكون خلفا للوعد ، وكلاهما يبغضه الله - تعالى - .و ( لِمَ ) مركبة من اللام الجارة ، وما الاستفهامية ، وحذفت ألف ما الاستفهامية مع حرف الجر ، تخفيفا لكثرة استعمالها معا ، كما فى قولهم : بِمَ ، وفِيمَ ، وعَمَّ .أى : يا من آمنتم بالله واليوم الآخر . . . لماذا تقولون قولا ، تخالفه أفعالكم ، بأن تزعموا بأنكم لو كلفتم بكذا لفعلتموه ، فلما كلفتم به قصرتم فيه ، أو أن تقولوا بأنكم فعلتم كذا وكذا ، مع أنكم لم تفعلوا ذلك .وناداهم بصفة الإيمان الحق ، لتحريك حرارة الإيمان فى قلوبهم ، وللتعريض بهم ، إذ من شأن الإيمان الحق أن يحمل المؤمن على أن يكون قوله مطابقا لفعله .
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ
📘 وقوله - سبحانه - : ( كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ) بيان للآثار السيئة التى تترتب على القول الذى يخالفه الفعل .وقوله : ( كَبُرَ ) بمعنى عظم ، لأن الشىء الكبير ، لا يوصف بهذا الوصف ، إلا إذا كان فيه كثرة وشدة فى نوعه .والمقت : البغض الشديد ، ومنه قوله - تعالى - ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى ) ( إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً ) وهو منصوب على التمييز المحول عن الفاعل : للإشعار بأن قولهم هذا مقت خالص لا تشوبه شائبة من الرضا .أى : كبر وعظم المقت الناشىء عن قولكم قولا لا تطابقه أفعالكم .وقال - سبحانه - : ( كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله ) للإشعار بشناعة هذا البغض من الله - تعالى - لهم ، بسبب مخالفة قولهم لفعلهم ، لأنه إذا كانت هذه الصفة عظيمة الشناعة عند الله ، فعلى كل عاقل أن يجتنبها ، ويبتعد عنها .قال صاحب الكشاف ما ملخصه ، ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم وهذا من أفصح الكلام وأبلغه فى معناه . وقصد فى " كَبُرَ " التعجب من غير لفظه . . . . ومعنى التعجب : تعظيم الأمر فى قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شىء خارج عن نظائره وأشكاله . وأُسْنِد إلى ( أَن تَقُولُواْ ) ونُصِب ( مَقْتاً ) على التمييز ، للدلالة على أن قولهم مالا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، لفَرْط تمكن المقت منه . واختير لفظ المقت ، لأنه أشد البغض وأبلغه ، ومنه قيل : نكاح المقت - وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه - .وإذا ثبت كِبر مقته عند الله ، فقد تم كبره وشدته ، وانزاحت عنه الشكوك . .فأنت ترى أن الله - تعالى - قد ذم الذين يقولون مالا يفعلون ذما شديدا ، ويندرج تحت هذا الذم ، الكذب فى القول ، والخلف فى الوعد ، وحب الشخص للثناء دون أن يكون قد قدم عملا يستحق من أجله الثناء .
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ
📘 وبعد أن وبخ - سبحانه - الذين يقولون مالا يفعلون ، أتبع ذلك ببيان من يحبهم الله - تعالى - فقال : ( إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) .ومبحة الله - تعالى - لشخص ، معناها : رضاه عنه ، وإكرامه له .والصف يطلق على الأشياء التى تكون منتظمة فى مظهرها ، متناسقة فى أماكنها ، والمرصوص : هو المتلاصق الذى انضم بعضه إلى بعض . يقال : رصصت البناء ، إذا ألزقت بعضه ببعض حتى صار كالقطعة الواحدة .والمعنى : أن الله - تعالى - يحب الذين يقاتلون فى سبيل إعلاء دينه قتالا شديدا ، حتى لكأنهم فى ثباتهم ، واجتماع كلمتهم ، وصدق يقينهم . . . بنيان قد التصق بعضه ببعض ، فلا يستطيع أحد أن ينفذ من بين صفوفه .فالمقصود بالآية الكريمة : الثناء على المجاهدين الصادقين ، الذين يثبتون أمام الأعداء وهم يقاتلونهم ، ثباتا لا اضطراب معه ولا تزلزل .قال الإمام الرازى : أخبر الله - تعالى - أنه يحب من يثبت فى الجهاد ، ويلزم مكانه ، كثبوت البناء المرصوص .ويجوز أن يكون على أن يستوى أمرهم فى حرب عدوهم ، حتى يكونوا فى اجتماع الكلمة ، وموالاة بعضهم بعضا ، كالبنيان المرصوص .
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
📘 ثم ساق - سبحانه - جانبا مما قاله موسى - عليه السلام - لقومه . وكيف أنهم عندما انصرفوا عن الحق ، عاقبهم - سبحانه - بما يستحقون من عقاب فقال : ( وَإِذْ قَالَ موسى . . . ) .موسى - عليه السلام - هو انب عمران ، وهو واحد من أولى العزم من الرسل ، وينتهى نسبه إلى إبراهيم - عليه السلام - .وقد أرسله الله - تعالى - إلى فرعون وقومه وإلى بنى إسرائيل ، وقد لقى - عليه السلام - من الجميع أذى كثيرا .ومن ذلك أن فرعون وقومه وصفوه بأنه ساحر ، وبأنه مهين ، ولا يكاد يبين .وأن بنى إسرائيل قالوا له عندما أمرهم بطاعته : وسمعنا وعصينا ، وقالوا له : أرنا الله جهرة وقالوا له : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . . . وقالوا له : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون .وقالوا عنه : إنه مصاب فى جسده بالأمراض ، فبرأه الله - تعالى - مما قالوا .قال ابن كثير : وفى هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم ، وأمر له بالصبر ، ولهذا قال : " رحمة الله على موسى ، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر " .وفيه نهى للمؤمنين عن أن ينالوا من النبى - صلى الله عليه وسلم - ، أو يوصلوا إليه أذى ، كما قال - تعالى - ( ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً ) أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - وذكر أتباعك ليتعظوا ويعتبروا ، وقت أن قال موسى - عليه السلام - لقومه على سبيل الإنكار والتعجيب من حالهم .( ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِي ) : قال لهم : يا أهلى ويا عشيرتى لماذا تلحقون الأذى بى؟" وقد " فى قوله - تعالى - : ( وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ ) للتحقيق ، والجملة حالية ، وجىء بالمضارعة بعد " قد " للدلالة على أن علمهم بصدقه متجدد بتجدد ما يأتيهم به من آيات ومعجزات .قال الجمل : قوله : ( وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ ) قد للتحقيق . أى : تحقيق علمهم . أى : لا للتقريب ولا للتقليل ، وفائدة ذكرها التأكيد ، والمضارع بمعنى الماضى .أى : وقد علمتم ، وعبر بالمضارع ليدل على استصحاب الحال ، وعلى أنها مقررة للإنكار . فإن العلم برسالته يوجب تعظيمه ، ويمنع إيذاءه؛ لأن من عرف الله - تعالى - وعظمته ، عظَّم رسوله .ثم بين - سبحانه - ما ترتب على إيثارهم الغى على الهدى ، فقال : ( فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ ) .والزيغ : هو الميل عن طريق الحق ، يقال : زاغ يزيغ زيغا وزيغانا ، إذا مال عن الجادة ، وأزاغ فلان فلانا ، إذا حوله عن طريق الخير إلى طريق الشر .أى : فلما أصروا على الميل عن الحق مع علمهم به . واستمروا على ذلك دون أن تؤثر المواعظ فى قلوبهم . . . أمال الله - تعالى - قلوبهم عن قبول الهدى .لإيثارهم الباطل على الحق والضلالة على الهداية .كما قال - تعالى - : ( وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً ) وقوله - سبحانه - : ( والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين ) تذييل قصد به التقرير لما قبله ، من أن الزيغ يؤدى إلى عدم الهداية ، وبيان سنة من سنن الله فى خلقه ، وهى أن من استحب العمى على الهدى ، وأصر على ذلك . . . كانت عاقبه الخسران .أى : وقد اقتضت حكمة الله - تعالى - أن لا يهدى القوم الخارجين عن طريق الحق ، إلى ما يسعدهم فى حياتهم وبعد مماتهم ، لأنهم هم الذين اختاروا طريق الشقاء ، وأصروا على سولكها .
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ
📘 ثم ذكر - سبحانه - جانبا مما قاله عيسى - عليه السلام - لبنى إسرائيل ، فقا - تعالى - : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى . . . ) .أى : واذكر - أيضا - أيها الرسول الكريم - وذكِّر الناس ليعتبروا ويتعظوا ، وقت أن قال عيسى ابن مريم ، مخاطبا من أرسله الله إليهم بقوله : ( يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم ) لكى أخرجكم من ظلمات الكفر والشرك ، إلى نور الإيمان والتوحيد .ولم يقل لهم يا قوم - كما قال لهم - موسى - عليه السلام - بل قال : ( يابني إِسْرَائِيلَ ) لأنه لا أب له فيهم ، وإن كانت أمه منهم ، والأنساب إنما تكون من جهة الآباء ، لا من جهة الأمهات .وفى قوله ( إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم ) إخبار صريح منه لهم ، بأنه ليس إلها وليس ابن إله - كما زعموا وإنما هو عبد الله ورسوله .وقوله ( مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة ) جملة حالية لإثبات حقيقة رسالته ، وحضهم على تأييده وتصديقه والإيمان به .أى : إنى رسول الله - تعالى - إليكم بالكتاب الذى أنزله الله علىَّ وهو الإنجيل ، حال كونى مصدقا للكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام - وهذا الكتاب هو التوراة ، وما دام الأمر كذلك فمن حقى عليكم ، أن تؤمنوا به ، وأن تتبعونى ، لأنى لم آتكم بشىء يخالف التوراة ، بل هى مشتملة على ما يدل على صدقى ، فكيف تعرضون عن دعوتى .وقوله : ( مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ ) فيه نوع مجاز ، لأن ما بين يدى الإنسان هو ما أمامه ، فسمى ما مضى كذلك لغاية ظهوره واشتهاره . واللام فى " لما " لتقوية العامل ، نحوه قوله - تعالى - ( فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ) وقوله - سبحاه - : ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ ) معطوف على ما قبله .والتبشير : الإخبار بما يسر النفس ويبهجها ، بحيث يظهر أثر ذلك على بشرة الإنسان ، وكان إخباره بأن نبيا سيأتى من بعده اسمه تبشيرا ، لأنه سيأتيهم بما يسعدهم ، ويرفع الأغلال عنهم ، كما قال - تعالى - : ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) ولفظ ( أَحْمَدُ ) اسم من أسماء نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهو علم منقول من الصفة ، وهذه الصفة يصح أن تكون مبالغة من الفاعل . فيكون معناها : أنه - صلى الله عليه وسلم - أكثر حمدا لله - تعالى - من غيره .ويصح أن تكون من المفعول ، فيكون معناها أنه يحمده الناس لأجل ما فيه من خصال الخير ، أكثر مما يحمدوه غيره .قال الآلوسى : وهذا الاسم الجليل ، علم لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وصح من رواية مالك ، والبخارى ، ومسلم . . . عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لى أسماء؛ أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الحاشر الذى يحشر الناس على قدمى ، وأنا الماحى الذى يمحو الله بى الكفر ، وأنا العاقب " .وبشارة عيسى - عليه السلام - بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ثابتة ثبوتا قطعيا بهذه الآية الكريمة ، وإذا كانت بعض الأناجيل قد خلت من هذه البشارة ، فبسبب ما اعتراها من تحريف وتبديل على أيدى علماء أهل الكتاب .ومع ذلك فقد وجدت هذه البشارة فى بعض الأناجيل ، كإنجيل يوحنا ، فى الباب الرابع عشر ، قال الإمام الرازى : فى الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا : وأنا أطلب لكم إلى أبى ، حتى يمنحكم ويعطيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد .والفارقليط هو روح الحق واليقين .ومنهم من يرى أن لفظ فارقليط معناه باليونانية : أحمد أو محمد .ومن أصرح الأدلة على أن صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - موجودة فى التوراة والإنجيل ، قوله - تعالى - ( الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل ) وقوله - سبحانه - : ( فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) بيان لموقف بنى إسرائيل الجحودى من أنبياء الله - تعالى - .والضمير فى قوله ( جَاءَهُم ) يرى بعضهم أنه يعود لعيسى ، ويرى آخرون أنه يعود لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أى : فلما جاء عيسى - عليه السلام - أو محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى بنى إسرئيل بالآيات البينات الدالة على صدقه ، قالوا على سبيل العناد والجحود : هذا سحر واضح فى بابه . لا يخفى على أى ناظر أو متأمل .ومن المعروف أن بنى إسرائيل قد كذبوا عيسى - عليه السلام - وكفروابه ، ونسبوا إلى أمه الطاهرة ، ما هى بريئة منه ، ومنزهة عنه .كما كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - وكفروا به ، وصدق الله إذ يقول : ( فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين ) ووصفوا ما جاء به بأنه سحر مبين ، على سبيل المبالغة فكأنهم يقولون إن ما جاء به هو السحر بعينه ، مع أنهم يعرفون أن ما جاء به هو الحق كما يعرفون أبناءهم ، ولكن ما جلبوا عليه من جحود وعناد ، حال بينهم وبين النطق بكلمة الحق .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المشركين هم أشد الناس ظلما للحق ، وأنه - سبحانه - سيظهره لا محالة ، رضوا بذلك أم كرهوا وأن هذا الدين سيظهره الله - تعالى - على بقية الأديان ، مهما كره الكافرون . فقال - تعالى - : ( وَمَنْ أَظْلَمُ . . . ) .الاستفهام فى قوله : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب ) للإنكار والنفى . والافتراء : اختلاق الكذب واختراعه من جهة الشخص دون أن يكون له أساس من الصحة ، وقوله : ( وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام ) جملة حالية .أى : ولا أحد أشد ظلما من إنسان يختلق الكذب من عند نفسه على دين الله - تعالى - وشريعته ، والحال أن هذا الإنسان يدعوه الداعى إلى الدخول فى دين الإسلام الذى لا يرتضى الله - تعالى - سواه دينا .( والله ) - تعالى - ( لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ) إلى ما فيه فلاحهم ، لسوء استعدادهم ، وإيثارهم الباطل على الحق .
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - ما يهدف إليه هؤلاء الظالمون من رواء افترائهم الكذب على الدين الحق ، فقال - تعالى - : ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ) .والمراد بنور الله : دين الإسلام الذى ارتضاه - سبحانه - لعباده دينا ، وبعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقيل المراد به : حججه الدالة على وحدانيته - تعالى - وقيل المراد به : القرآن . . . وهى معان متقاربة .والمراد بإطفاء نور الله : محاولة طمسه وإبطاله والقضاء عليه ، بكل وسيلة يستطيعها أعداؤه ، كإثارتهم للشبهات من حول تعاليمه ، وكتحريضهم لمن كان على شاكلتهم فى الضلال على محاربته .والمراد بأفواههم : أقوالهم الباطلة الخارجة من تلك الأفواه التى تنطق بما لا وزن له من الكلام .والمعنى : يريد هؤلاء الكافرون بالحق ، أن يقضوا على دين الإسلام ، وأن يطمسوا تعاليمه السامية التى جاء بها النبى - صلى الله عليه وسلم - عن طريق أقاويلهم الباطلة الصادرة عن أفواههم ، من غير أن يكون لها مصداق من الواقع تنبق عليه ، أو أصل تستند إليه ، وإنما هى أقوال من قبيل اللغو الساقط المهمل الذى لا وزن له ولا قيمة .قال صاحب الكشاف : مثَّل حالهم فى طلبهم إبطال نبوة النبى - صلى الله عليه وسلم - بالتكذيب ، بحال من يريد أن ينفخ فى نور عظيم منبثق فى الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى فى الإشراق أو الإضاءة ، ليطفئه بنفخه ويطمسه .والجملة الكريمة فيها ما فيها من التهكم والاستهزاء بهؤلاء الكافرين ، حيث شبههم - سبحانه - فى جهالاتهم وغفلتهم ، بحال من يريد إطفاء نور الشمس الوهاج ، بنفخة من فمه الذى لا يستطيع إطفاء ما هو دون ذلك بما لا يحصى من المرات .وقوله - تعالى - : ( والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون ) بشارة للمؤمنين بأن ما هم عليه من حق ، لا بد أن يعم الآفاق .أى : والله - تعالى - بقدرته التى لا يعجزها شىء ، متم نوره ، ومظهر دينه ومؤيد نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولو كره الكافرون ذلك فإن كراهيتهم لظهور دين الله - تعالى - لا أثر لها ولا قيمة .فالآية الكريمة وعد من الله - تعالى - للمؤمنين ، بإظهار دينهم ، وإعلاء كلمتهم ، لكى يزيدهم ذلك ثباتا على ثباتهم ، وقوة على قوتهم .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
📘 ثم أكد - سبحانه - وعده بإتمام نوره ، وبين كيفية هذا الإتمام فقال : ( هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ . . . ) .والمراد بالهدى : القرآن الكريم : المشتمل على الإرشادات السامية ، والتوجيهات القويمة ، والأخبار الصادقة ، والتشريعات الحكيمة .والمراد بدين الحق : دين الإسلام الذى هو خاتم الأديان .وقوله : ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ ) من الإظهار بمعنى الإعلاء والغلبة بالحجة والبرهان ، والسيادة والسلطان .والجملة تعليلية لبيان سبب هذا الإرسال والغاية منه .والضمير فى " ليظهره " يعود على الدين الحق ، أوعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أى : هو الله - سبحانه - الذى أرسل رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن الهادى للتى هى أقوم . وبالدين الحق الثابت الذى لا ينسخه دين آخر ، وكان هذا الإرسال لإظهار هذا الدين الحق على سائر الأديان بالحجة والغلبة .( وَلَوْ كَرِهَ المشركون ) ذلك ، فإن كراهيتهم لا أثر لها فى ظهوره ، وفى إعلائه على جميع الأديان .ولقد أنجز الله - تعالى - وعده ، حيث جعل دين الإسلام ، هو الدين الغالب على جميع الأديان ، بحججه وبراهينه الدالة على أنه الدين الحق الذى لا يحوم حوله باطل .هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير بعض الأحاديث التى تؤيد ذلك ، ومنها : ما ثبت فى الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله زوى لى الأرض مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها " .