🕋 تفسير سورة الملك
(Al-Mulk) • المصدر: AR-TAFSIR-AL-WASIT
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
📘 لفظ ( تَبَارَكَ ) فعل ماض لا ينصرف . وهو مأخوذ من البركة ، بمعنى الكثرة من كل خير . وأصلها النماء والزيادة أى : كثر خيره وإحسانه ، وتزايدت بركاته .أو مأخوذ من البركة بمعنى الثبوت . يقال : برك البعير ، إذا أناخ فى موضعه فلزمه وثبت فيه . وكل شئ ثبت ودام فقد برك . أى : ثبت ودام خيره على خلقه .والملك - بضم الميم وسكون اللام - : السلطان والقدرة ونفاذ الأمر .أى : جل شأن الله - تعالى - وكثر خيره وإحسانه ، وثبت فضله على جميع خلقه ، فهو - سبحانه - الذى بيده وقدرته التمكن والتصرف فى كل شئ على حسب ما يريد ويرضى ، وهو - عز وجل - الذى لا يعجزه أمر فى الأرض أو فى السماء .واختار - سبحانه - الفعل " تبارك " للدلالة على المبالغة فى وفرة العظمة والعطاء ، فإن هذه الصيغة ترد للكناية عن قوة الفعل وشدته . . كما فى قولهم : تواصل الخير ، إذا تتابع بكثرة مع دوامه . .والتعريف فى لفظ " الملك " للجنس . وتقديم المسند وهو " بيده " على المسند إليه ، لإِفادة الاختصاص . أى : بيده وحده لا بيد أحد سواه جميع أنواع السلطان والقدرة ، والأمر والنهى . .قال الإِمام الرازى : وهذه الكلمة تستعمل لتأكيد كونه - تعالى - ملكا ومالكا ، تقول بيد فلان الأمر والنهى ، والحل والعقد . وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام قدرته ، لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة . .وجملة ( وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) معطوفة على قوله ( بِيَدِهِ الملك ) الذى هو صلة الموصول ، وذلك لإِفادة التعميم بعد التخصيص ، لأن الجملة الأولى وهى ( الذي بِيَدِهِ الملك ) أفادت عموم تصرفه فى سائر الموجودات ، وهذه أفادت عموم تصرفه - سبحانه - فى سائر الموجودات والمعدومات ، إذ بيده - سبحانه - إعدام الموجود ، وإيجاد المعدوم .
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ
📘 ثم بين - سبحانه - جانبا آخر من حسراتهم فى هذا اليوم فقال : ( وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير . . ) .أى : وقال الكافرون بربهم - على سبيل الحسرة والندامة - لو كنا فى الدنيا نسمع ما يقال لنا على لسان رسولنا ، سماع طاعة وتفكر واستجابة ، أو نعقل ما يوجه إلينا من هدايات وإرشادات . .لو كنا كذلك ، ما صرنا فى هذا اليوم من جملة أصحاب النار المسعرة ، الذين هم خالدون فيها أبدا .وقدم - سبحانه - السماع على التعقل ، مراعاة للترتيب الطبيعى ، لأن السماع يكون أولا ، ثم يعقبه التعقل والتدبر لما يسمع .
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ
📘 والفاء الأولى فى قوله - تعالى - : ( فاعترفوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير ) للإفصاح ، والثانية للسببية ، والسُّحقُ : البُعد ، يقال : سَحُق - ككَرم وعَلِم - سُحقا ، أى بَعُدَ بُعْداً ، وفلان أسحقه الله ، أى : أبعده عن رحمته ، وهو مصدر ناب عن فعله فى الدعاء ، ونصبه على أنه مفعول به لفعل مقدر ، أى : ألزمهم الله سحقا ، أو منصوب على المصدرية ، أى : فسحقهم الله سحقا .أى : إذا كان الأمر كما أخبروا عن أنفسهم ، فقد أقروا واعترفوا بذنوبهم ، وأن الله - تعالى - ما ظلمهم ، وأن ندمهم لن ينفعهم فى هذا اليوم . . بل هم جديرون بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله - تعالى - وبخلودهم فى نار السعير .واللام فى قوله ( لأَصْحَابِ ) للتبين ، كما فى قولهم : سَقياً لك .فالآية الكريمة توضح أن ما أصابهم من عذاب كان بسبب إقرارهم بكفرهم ، وإصرارهم عليه حتى الممات ، وفى الحديث الشريف : " لن يدخل أحد النار ، إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة " وفى حديث آخر : " لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم " .
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
📘 وكعادة القرآن الكريم فى قرنه الترغيب والترهيب أو العكس ، أخذت السورة فى بيان حسن عاقبة المؤمنين ، بعد بيا سوء عاقبة الكافرين ، وفى لفت أنظار الناس إلى نعم الله - تعالى - عليهم ، لكى يشكروه ويخلصوا له العبادة . . قال - تعالى - :( إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ . . . ) .قوله : ( يَخْشَوْنَ ) من الخشية ، وهى أشد الخوف وأعظمه ، والغيب : مصدر غاب يغيب ، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب ، وهو ما لا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل .أى : إن الذين يخشون ربهم فيخافون عذابه ، ويعبدونه كأنهم يرونه ، مع أنهم لا يرونه بأعينهم . . هؤلاء الذين تلك صفاتهم ، لهم من خالقهم - عز وجل - مغفرة عظيمة ، وأجر بالغ الغاية فى الكبر والضخامة .وقوله ( بالغيب ) حال من الفاعل ، أى : غائبا عنهم ، أو من المفعول . أى : غائبين عنه . أى . يخشون عذابه دون أن يروه - سبحانه - .ويجوز أن يكون المعنى : يخشون عذابه حال كونهم غائبين عن أعين الناس ، فهم يراقبونه - سبحانه - فى السر ، كما يراقبونه فى العلانية كما قال الشاعر :يتجنب الهفوات فى خلواته ... عف السريرة ، غَيبُه كالمشهدوالحق أن هذه الصفة ، وهى خوف الله - تعالى - بالغيب ، على رأس الصفات التى تدل على قوة الإِيمان ، وعلى طهارة القلب ، وصفاء النفس . .
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
📘 ثم بين - سبحانه - بأبلغ أسلوب ، أن السر يتساوى مع العلانية بالنسبة لعلمه - تعالى - فقال : ( وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور . . . ) .وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية ، أن المشركين كانوا ينالون من النبى صلى الله عليه وسلم فلما أطلعه الله - تعالى - على أمرهم ، فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم كى لا يسمعه رب محمد . .وصيغة الأمر فى قوله : ( وَأَسِرُّواْ ) و ( اجهروا ) مستعملة فى التسوية بين الأمرين ، كما فى قوله - تعالى - ( فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ . . . )أى : إن إسراركم - أيها الكافرون - بالإِساءة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - أو جهركم بهذه الإِساءة ، يستويان فى علمنا ، لأننا لا يخفى علينا شئ من أحوالكم ، فسواء عندنا من أسر منكم القول ومن جهر به .وجملة ( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ) تعليق للتسوية المستفادة من صيغة الأمر أى : سواء فى علمه - تعالى- إسراركم وجهركم ، لأنه - سبحانه - عليم علما تاما بما يختلج فى صدوركم ، وما يدور فى نياتكم التى هى بداخل قلوبكم .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد ) .
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
📘 ثم أكد - سبحانه - شمول علمه لكل شئ بقوله : ( أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير ) .واللطيف من اللطف ، وهو العالم بخبايا الأمور ، والمدبر لها برفق وحكمة ويسر . .والخبير : من الخُبْر ، وهو العلم بجزئيات الأشياء الخفية ، التى من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضا بحدوثها ، لأنها كانت خافية عليهم .ولفظ ( من ) فى قوله ( مَنْ خَلَقَ ) يصح أن يكون مفعولا لقوله ( يَعْلَمُ ) ، والعائد محذوف أى : ألا يعلم الله - تعالى - شأن الذين خلقهم ، والحال أنه - سبحانه - هو الذى لطف علمه ودق ، إذ هو المدبر لأمور خلقه برفق وحكمة ، العليم علما تاما بأسرار النفوس وخبايا ما توسوس به ..ويجوز أن يكون ( من ) فاعلا لقوله ( يعلم ) على أن المقصود به ذاته - تعالى - ويكون مفعول يعلم محذوفا للعلم به ، والمعنى : ألا يعلم السر ومضمرات القلوب الله الذى خلق كل شئ وأوجده - وهو - سبحانه - الموصوف بأنه لطيف خبير .والاستفهام على الوجهين لإِنكار ما زعمه المشركون من انتفاء علمه - تعالى - بما يسرونه فيما بينهم ، حيث قال بعضهم لبعض : أسروا قولكم كى لا يسمعه رب محمد .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ
📘 ثم ذكر - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على عباده فقال : ( هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور ) .والذلول : السهلة المذللة المسخرة لما يراد منها؛ من مَشْى عليها ، أو غَرْس فيها ، أو بناء فوقها . . من الذِّل وهو سهولة الانقياد للغير ، ومنه قوله - تعالى - : ( قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ . . . ) أى : غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض . .والأمر فى قوله ( فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا ) للإباحة ، والمناكب جمع منكب وهو ملتقى الكتف مع العضد والمراد به هنا : جوانبها أو طرقها وفجاجها أو أطرافها . .وهو مثل لفرط التذليل ، وشدة التسخير . .أى : هو - سبحانه - الذى جعل لكم - لفضله ورحمته - الأرض المتسعة الأرجاء ، مذللة مسخرة لكم ، لتتمكنوا من الانتفاع بها عن طريق المشى عليها ، أو البناء فوقها . أو غرس النبات فيها . .وما دام الأمر كذلك فامشوا فى جوانبها وأطرافها وفجاجها . . ملتمسين رزق ربكم فيها وداوموا على ذلك ، ففى الحديث الشريف : " التمسوا الرزق فى خبايا الأرض " .والمراد بقوله : ( وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ ) الانتفاع بما فيها من وجوه النعم ، وعبر عنه بالأكل لأنه أهم وجوه الانتفاع .فالآية الكريمة دعوة حارة للمسلمين لكى ينتفعوا بما فى الأرض من كنوز ، حتى يستغنوا عن غيرهم فى مطعمهم ومشربهم وملبسهم وسائر أمور معاشهم . . فإنه بقدر تقصيرهم فى استخراج كنوزها ، تكون حاجتهم لغيرهم .قال بعض العلماء : قال الإِمام النووى فى مقدمة المجموع : إن على الأمة الإِسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجاتها حتى الإبرة ، لتستغنى عن غيرها ، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت فى الإِنتاج . .وقد أعطى الله - تعالى - العالم الإِسلامى الأولوية فى هذا كله ، فعليهم أن يحتلوا مكانهم ، ويحافظوا على مكانتهم ، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا . .وقد أفاض بعض العلماء فى بيان معنى قوله - تعالى - : ( هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً . . ) فقال ما ملخصه : والناس لطول إلفهم لحياتهم على هذه الأرض وسهولة استقرارهم عليها .. ينسون نعمة الله فى تذليلها لهم وتسخيرها ، والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة ، ويبصرهم بها ، فى هذا التعبير الذى يدرك منه كل أحد ، وكل جيل ، ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول . .والله - تعالى - جعل الأرض ذلولا للبشر من حيث جاذبيتها . . ومن حيث سطحها . . ومن حيث تكوينها ، ومن حيث إحاطة الهواء بها . . ومن حيث حجمها . .وقوله : ( وَإِلَيْهِ النشور ) معطوف على ما قبله ، لبيان أن مصيرهم إليه - تعالى - بعد قضائهم فى الأرض المذللة لهم ، مدة حياتهم . .أى : وإليه وحده مرجعكم ، وبعثكم من قبوركم ، بعد أن قضيتم على هذه الأرض ، الأجل الذى قدره - سبحانه - لكم .
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ
📘 ثم حذر - سبحانه - من بطشه وعقابه فقال : ( أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ) . .والخسف : انقلاب ظاهر السطح من بعض الأرض فصير باطنا ، والباطن ظاهرا . .والمَوْر : شدة الاضطراب والتحرك . يقال : مار الشئ مَوْرا ، إذا ارتج واضطرب ، والمراد بمن فى السماء : الله - عز وجل - بدون تحيز أو تشبيه أو حلول فى مكان .قال الإمام الآلوسى : قوله : ( أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء ) وهو الله - عز وجل - كما ذهب إليه غير واحد ، فقيل على تأويل : من فى السماء أمره وقضاؤه ، يعنى أنه من التجوز فى الإِسناد ، أو أن فيه مضافا مقدرا ، وأصله : من فى السماء أمره ، فلما حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر ، وقيل على تقدير : خالق من فى السماء . .وقيل فى بمعنى على ، ويراد العلو بالقهر والقدرة . .وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره - والآية عندهم من المتشابه وقد قال صلى الله عليه وسلم آمنوا بمتشابهه ولم يقل أولوه . فهم مؤمنون بأنه - عز وجل - فى السماء : على المعنى الذى أراده - سبحانه - مع كمال التنزيه . وحديث الجارية - التى قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم أين الله؟ فأشارت إلى السماء - من أقوى الأدلة فى هذا الباب . وتأويله بما أول به الخلف ، خروج عن دائرة الإِنصاف عند ذوى الألباب . .والمعنى : أأمنتم - أيها الناس - من فى السماء وهو الله - عز وجل - أن يذهب الأرض بكم ، فيجعل أعلاها أسفلها . . فإذا هى تمور بكم وتضطرب ، وترتج ارتجاجا شديدا تزول معه حياتكم .فالمقصود بالآية الكريمة تهديد الذين يخالفون أمره ، بهذا العذاب الشديد ، وتحذيرهم من نسيان بطشه وعقابه .والباء فى قوله ( بِكُم ) للمصاحبة . أى : يخسفها وأنتم مصاحبون لها بذواتكم ، بعد أن كانت مذللة ومسخرة لمنفعتكم . .
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
📘 ثم انتقل - سبحانه - من تهديدهم بالخسف إلى تهديدهم بعذاب آخر فقال : ( أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ) .أى : بل أأمنتم - أيها الناس - من السماء ، وهو الله - عز وجل - بسلطانه وقدرته .. أن يرسل عليكم ( حَاصِباً ) أى : ريحا شديدة مصحوبة بالحصى والحجارة التى تهلك ، فحينئذ ستعلمون عند معاينتكم للعذاب ، كيف ان إنذارى لكم متحققا وواقعا وحقا . .فالاستفهام فى الآيتين المقصود به التعجيب من أمنهم عذاب الله - تعالى - عند مخالفتهم لأمره ، وخروجهم عن طاعته .وقدم - سبحانه - من تهديدهم بالخسف على التهديد بإرسال الحصب ، لأن الخسف من أحوال الأرض ، التى سبق أن بين لهم أنه خلقها مذللة لهم ، وفيها ما فيها من منافعهم ، فهذه المنافع ليس عسيرا على الله - تعالى - أن يحولها إلى عذاب لهم . . .
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
📘 ثم ذكرهم - سبحانه - بما جرى للكافرين السابقين فقال : ( وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ ) . .أى : ووالله لقد كذب الذين من قبل كفار مكة من الأمم السابقة ، كقوم نوح وعاد وثمود . . فكان إنكارى عليهم ، وعقابى لهم ، شديدا ومبيرا ومدمرا لهم تدميرا تاما .فالنكير بمعنى الإِنكار ، والاستفهام فى قوله : ( فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ ) للتهويل .أى : إن إنكارى عليهم كفرهم كان إنكارا عظيما ، لأنه ترتب عليه ، أن أخذتهم أخذ عزيز مقتدر .كما قال - تعالى - : ( فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ
📘 ثم تنتقل السورة بعد هذا التهديد والإِنذار ، إلى دعوتهم إلى التأمل والتفكر ، فى مشهد الطير صافات فى الجو . . وفى أحوال أنفسهم عند اليأس والفقر ، وعند الهزيمة والإعراض عن الحق . . فيقول - سبحانه - :( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير . . ) .قال بعض العلماء : قوله : ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير . . ) عطف على جملة ( هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً . . ) استرسالا فى الدلائل على انفراد الله - تعالى - بالتصرف فى الموجودات ، وقد انتقل من دلالة أحوال البشر وعالمهم ، إلى دلالة أعجب أحوال العجماوات ، وهى أحوال الطير فى نظام حركاتها فى حال طيرانها ، إذ لا تمشى على الأرض كما هو فى حركات غيرها على الأرض ، فحالها أقوى دلالة على عجيب صنع الله المنفرد به . .والاستفهام فى قوله - تعالى - : ( أَوَلَمْ يَرَوْا . . . ) للتعجيب من حال المشركين ، لعدم تفكرهم فيما يدعو إلى التفكر والاعتبار . .والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، والطير : جمع طائر كصحب وصاحب . .والمعنى : أغفل هؤلاء المشركون ، وانطمست أعينهم عن رؤية الطير فوقهم ، وهن ( صَافَّاتٍ ) أى : باسطات أجنحتهن فى الهواء عند الطيران فى الجو ، ( وَيَقْبِضْنَ ) أى : ويضممن أجنحتهن تارة على سبيل الاستظهار بها على شدة التحرك فى الهواء . . ( مَا يُمْسِكُهُنَّ ) فى حالتى البسط والقبض ( إِلاَّ الرحمن ) الذى وسعت رحمته وقدرته كل شئ ، والذى أحسن كل شئ خلقه . .( إِنَّهُ ) - سبحانه - ( بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ) أى : إنه - سبحانه - مطلع على أحوال كل شئ ، ومدبر لأمره على أحسن الوجوه وأحكمها . .قال صاحب الكشاف : ( صَافَّاتٍ ) باسطات أجنحتهن فى الجو عند طيرانها ، لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفا ( وَيَقْبِضْنَ ) أى : ويضممها إذا ضربن بها جنوبهن .فإن قلت : لم قيل ( وَيَقْبِضْنَ ) ولم يقل : وقابضات؟قلت : لأن الأصل فى الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران فى الهواء كالسباحة فى الماء ، والأصل فى السباحة مد الأطراف وبسطها . وأما القبض فطارئ على البسط . للاستظهار به على التحرك ، فجئ بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل ، على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح . .والمراد بإمساكهن : عدم سقوطهن إلى الأرض بقدرته وحكمته - تعالى - حيث أودع فيها من الخصائص ما جعلها تطير فى الجو ، كالسابح فى الماء .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : ( أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السمآء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله . . . ).
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ
📘 ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ، ما يدل على شمول قدرته ، وسمو حكمته ، فقال ( الذي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً . . ) .والموت : صفة وجودية تضاد الحياة : والمراد بخلقه : إيجاده . أو هو عدم الحياة عما هى من شأنه . والمراد بخلقه على هذا المعنى : تقديره أزلا .واللام فى قوله : ( لِيَبْلُوَكُمْ . . . ) متعلقة بقوله : ( خَلَقَ ) وقوله : ( لِيَبْلُوَكُمْ ) بمعنى يختبركم ويمتحنكم . . .وقوله ( أَيُّكُمْ ) مبتدأ ، و ( أَحْسَنُ ) خبره ، و ( عَمَلاً ) تمييز ، والجملة فى محل نصب مفعول ثان لقوله ( لِيَبْلُوَكُمْ ) .والمعنى : ومن مظاهر قدرته - سبحانه - التى لا يعجزها شئ ، أنه خلق الموت لمن يشاء إماتته ، وخلق الحياة لمن يشاء إحياءه ، ليعاملكم معاملة من يختبركم ويمتحنكم ، أيكم أحسن عملا فى الحياة ، لكى يجازيكم بما تستحقونه من ثواب . .أو المعنى : خلق الموت والحياة ، ليختبركم أيكم أكثر استعدادا للموت ، وأسرع إلى طاعة ربه - عز وجل - .قال القرطبى ما ملخصه : قوله : ( الذي خَلَقَ الموت والحياة ) . . قيل : الذى خلقكم للموت والحياة ، يعنى : للموت فى الدنيا والحياة فى الآخرة .وقدم الموت على الحياة ، لأن المخوت إلى القهر أقرب . . وقيل : لأنه أقدم ، لأن الأشياء فى الابتداء كانت فى حكم الموت . . وقيل : لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل ، من نصب موته بين عينيه ، فقدم لأنه ف يما يرجع على الغرض الذى سبقت له الآية لهم .قال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله - تعالى - أذل ابن آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ، ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء . . " .وعن أبى الدرداء أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه : الفقر والمرض والموت ، وإنه مع ذلك لوَثَّاب . . " .وقال العلماء : الموت ليس بعدم محض ، ولا فناء صرف ، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته ، وحيلولة بينهما ، وتبدل حال ، وانتقال من دار إلى دار ، والحياة عكس ذلك . .وأوثر بالذكر من المخلوقات الموت والحياة ، لأنهما أعظم العوارض لجنس الحيوان ، الذى هو أعجب موجود على ظهر الأرض ، والذى الإِنسان نوع منه ، وهو المقصود بالمخاطبة ، إذ هو الذى رضى بحمل الأمانة التى عجزت عن حملها السموات والأرض . .والتعريف فى الموت والحياة للجنس . و " أحسن " أفعل تفضيل ، لأن الأعمال التى يقوم بها الناس فى هذه الحياة متفاوته فى الحسن من الأدنى إلى الأعلى .وجملة ( وَهُوَ العزيز الغفور ) تذييل قصد به أن جميع الأعمال تحت قدرته وتصرفه .أى : وهو - سبحانه - الغالب الذى لا يعجزه شئ الواسع المغفرة لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من عباده ، كما قال - تعالى - : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى ).
أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ
📘 ثم لفت أنظارهم للمرة الثانية إلى قوة بأسه ، ونفاذ إرادته ، وعدم وجود من يأخذ بيدهم إذا ما أنزل بهم عقابه فقال : ( أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمن ) .والاستفهام للتحدى والتعجيز ، و ( أم ) منقطعة بمعنى بل ، فهى للإِضراب الانتقالى من غرض إلى آخر ، ومن حجة إلى أخرى .و ( من ) اسم استفهام مبتدأ ، وخبره اسم الإِشارة ، وما بعده صفته .والمراد بالجند : الجنود الذين يهرعون لنصرة من يحتاج إلى نصرتهم . ولفظ ( دُونِ ) أصله ظرف للمكان الأسل . . ويطلق على الشئ المغاير ، فيكون بمعنى غير كما هنا ، والمقصود بالآية تحقير شأن هؤلاء الجند ، والتهوين من شأنهم .والمعنى : بل أخبرونى - أيها المشركون - بعد أن ثبتت غفلتكم وعدم تفكيركم تفكيرا ينفعكم ، من هذا الحقير الذى تستعينون به فى نصركم ودفع الضر عنكم ، متجاوزين فى ذلك إرادة الرحمن ومشيئته ونصره . أو من هذا الذى ينصركم نصرا كائنا غير نصرا الرحمن ، أو من ينصركم من عذاب كائن من عنده - تعالى - .والجواب الذى لا تستطيعون جوابا سواه : هو أنه لا ناصر لكم يستطيع أن ينصركم من دون الله - تعالى - ، كما قال - سبحانه - ( وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ . . . ) وكما قال - عز وجل - : ( مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ) وقوله - سبحانه - : ( إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ ) كلام معترض بين ما قبله وما بعده ، لبيان حالهم القبيح وواقعهم المنكر .
أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ۚ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ
📘 أى : بل أخبرونى من هذا الذى يزعم أنه يستطيع أن يوصل إليكم الرزق والخير ، إذا أمسك الله - تعالى - عنكم ذلك ، أو منع عنكم الأسباب التى تؤدى إلى نفعكم وإلى قوام حياتكم ، كمنع نزول المطر إليكم ، وكإهلاك الزروع والثمار التى تنبتها الأرض . .إنه لا أحد يستطيع أن يرزقكم سوى الله - تعالى - .وقوله : ( بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ) جملة مستأنفة جواب لسؤال تقديره : فهل انتفع المشركون بتلك المواعظ فكان الجواب كلا إنهم لم ينتفعوا ، بل ( لجوا ) أى تمادوا فى اللجاج والجدال بالباطلو ( فِي عُتُوٍّ ) أى : وفى استكبار وطغيان ، وفى ( وَنُفُورٍ ) أى : شرود وتباعد عن الطريق المستقيم .أى : أنهم ساروا فى طريق أهوائهم حتى النهاية ، دون أن يستمعوا إلى صوت نذير أو واعظ أو مرشد .
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
📘 ثم ضرب - سبحانه - مثلا لأهل الإِيمان وأهل الكفر ، وأهل الحق وأهل الباطل ، فقال - سبحانه - : ( أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) .والمُكِب : هو الإِنسان الساقط على وجهه ، يقال : كبَّ فلان فلانا وأكبه ، إذا صرعه وقلبه بأن جعل وجهه على الأرض . . فهو اسم فاعل من أكب .وقوله : ( أهدى ) مشتق من الهدى ، وهو معرفة طريق الحق والسير فيها ، والمفاضلة هنا ليست مقصودة ، لأن الذى يمشى مكبا على وجهه ، لا شئ عنده من الهداية أو الرشد إطلاقا حتى يفاضل مع غيره ، وفيه لون من التهكم بهذا المكب على وجهه .و " السوى " هو الإِنسان الشديد الاستواء والاستقامة ، فهو فعيل بمعنى فاعل .ومنه قوله - تعالى - حكاية عما قاله إبراهيم - عليه السلام - لأبيه - : ( ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً )أى : مستويا .قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : ( أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى . . . ) : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه ، كمثل من يمشى مكبا على وجهه ، أى : يمشى منحنيا لا مستويا على وجهه ، أى : لا يدرى أين يسلك ، ولا يكف يذهب ، بل هو تائه حائر ضال ، أهذا أهدى ( أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً ) أى : منتصب القامة ( عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) أى على طريق واضح بين ، وهو فى نفسه وهو فى نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة .هذا مثلهم فى الدنيا ، وكذلك يكونون فى الآخرة ، فالمؤمن يحشر يمشى سويا على صراط مستقيم . . وأما الكافر فإنه يحشر يمشى على وجهه إلى النار . .وروى الإِمام أحمد عن أنس قال : " قيل يا رسول الله ، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال : " أليس الذى أمشاهم على أرجلهم قادرا على أن يمشيهم على وجوههم "وقال الجمل : هذا مثل للمؤمن والكافر ، حيث شبه - سبحانه - المؤمن فى تمسكه بالدين الحق ، ومشيه على منهاجه ، بمن يمشى فى الطريق المعتدل ، الذى ليس فيه ما يتعثر به . .وشبه الكافر فى ركوبه ومشيه على الدين الباطل ، بمن يمشى فى الطريق الذى فيه حفر وارتفاع وانخفاض ، فيتعثر ويسقط على وجهه ، وكلما تخلص من عثرة وقع فى أخرى .فالمذكور فى الآية هو المشبه به ، والمشبه محذوف ، لدلالة السياق عليه . .وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد لفتت أنظار الناس إلى التفكر والاعتبار ، ووبخثت المشركين على جهالاتهم وطغيانهم ، وساقت مثالا واضحا للمؤمن والكافر ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة .
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ
📘 ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم فى بضع آيات أن يذكر الكافرين بنعم الله - تعالى - عليهم ، وأن يرد على شبهاتهم وأكاذيبهم بما يدحضها ، وأن بكل أمره وأمرهم إليه وحده - تعالى - فقال :( قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ . . . ) .أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين - على سبيل تبصيرهم بالحج والدلائل الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا ، وعلى سبيل التنويع فى الإرشاد والتوجيه . . قل لهم : الرحمن - عز وجل - هو الذى أنشأكم وأوجدكم فى كل طور من أطوار حياتكم ، وهو سبحانه - الذى أوجد لكم السمع الذى تسمعون به ، والأبصار التى تبصرون بها الكائنات ، والأفئدة أى والقلوب التى يدركونها بها . .ولكنكم - مع كل هذه النعم - ( قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ) خالقكم - عز وجل - .وجمع - سبحانه - الأفئدة والأبصار ، وأفرد السمع ، لأن القلوب تختلف باختلاف مقدار ما تفهمه مما يلقى إليها من إنذار أو تبشير ، ومن حجة أو دليل ، فكان من ذلك تعدد القلوب بتعدد الناس على حسب استعدادهم .وكذلك شأن الناس فيما تنتظمه أبصارهم من آيات الله فى كونه ، فإن أنظارهم تختلف فى عمق تدبرها وضحولته ، فكان من ذلك تعدد المبصرين ، بتعدد مقادير ما يستنبطون من آيات الله فى الآفاق .وأما المسموع فهو بالنسبة للناس جميعا شئ واحد ، هو الحجة يناديهم بها المرسلون ، والدليل يوضحه لهم النبيون .لذلك كان الناس جميعا كأنهم سمع واحد ، فكان إفراد السمع إيذانا من الله بأن حجته واحدة ، ودليله واحد لا يتعدد .وقوله : ( قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ) صفة لمصدر محذوف ، أى : شكرا قليلا ، و ( ما ) مزيدة لتأكيد التقليل .وعبر - سبحانه - بقوله ( قَلِيلاً ) لحضهم على الإِكثار من شكره - تعالى - ، وذلك عن طريق إخلاص العبادة له - عز وجل - : ونبذ عبادة غيره .
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
📘 ثم أمره - سبحانه - للمرة الثانية أن يذكرهم بنعمة أخرى فقال ( قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) . أى : وقل لهم - أيها الرسول الكريم - الرحمن - تعالى - وحده ( هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض ) .أى : هو الذى خلقكم وبثكم وكثركم فى الأرض ، إذ الذرء معناه : الإِكثار من الموجود . .وقوله : ( وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) بيان لمصيرهم بعد انتهاء آجالهم فى هذه الدنيا .أى : وإليه وحده - لا إلى غيره - يكون مرجعكم للحساب والجزاء يوم القيامة .
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
📘 ثم حكى - سبحانه - أقوالهم التى تدل على طغيانهم وجهالاتهم فقال : ( وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) .والوعد : مصدر بمعى الموعود ، والمقصود به ما أخبرهم به صلى الله عليه وسلم من أن هناك بعثا وحسابا وجزاء . . ومن أن العاقبة والنصر للمؤمنين .أى : ويقول هؤلاء الجاحدون للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه ، على سبيل التهكم والاستهزاء : متى يقع هذا الذى تخبروننا عنه من البعث والحساب والجزاء ، ومن النصر لكم لا لنا . . ؟وجواب الشرط محذوف والتقدير : إن كنتم صادقين فيما تقولونه لنا ، فأين هو؟ إننا لا نراه ولا نحسه .
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ
📘 وهنا يأمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم للمرة الثالثة ، أن يرد عليهم الرد الذى يكبتهم فيقول : ( قُلْ إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) .أى : قل لهم يا محمد علم قيام الساعة ، وعلم اليوم الذى سننتصر فيه عليكم . . عند الله - تعالى - وحده ، لأن هذا العلم ليس من وظيفتى .وإنما وظيفتى أنى نذير لكم ، أحذركم من سوء عاقبة كفركم ، فإذا استجبتم لى نجوتم ، وإن بقيتم على كفركم هلكتم .واللام فى قوله : ( العلم ) للعهد : أى : العلم بوقت هذا الوعد ، عند الله - تعالى - وحده .والمبين : اسم فاعل من أبان المتعدى ، أى : مبين لما أمرت بتبليغه لكم بيانا واضحا لا لبس فيه ولا غموض .
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ
📘 ثم حكى - سبحانه - حالهم عندما يرون العذاب الذى استعجلوه فقال : ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ ) .والفاء فى قوله : ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً . . . ) هى الفصيحة . و ( لما ) ظرف بمعنى حين .و ( رأوه ) مستعمل فى المستقبل وجئ به بصيغة الماضى لتحقق الوقوع ، كما فى قوله - تعالى - : ( أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . ) و ( زُلْفَةً ) اسم مصدر لأزلف إزلافا ، بمعنى القرب . ومنه قوله - تعالى - : ( وَأُزْلِفَتِ الجنة . . . ) أى : قربت للمتقين ، وهو حال من مفعول ( رَأَوْهُ ) .والمعنى : لقد حل بالكافرين العذاب الذى كانوا يستعجلونه ويقولون : متى هذا الوعد ، فحين رأوه نازلا بهم ، وقريبا منهم ( سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ ) أى : ساءت رؤيته وجوههم ، وحلت عليها غبرة ترهقها قترة .( وَقِيلَ ) لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب ( هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ ) أى : هذا هو العذاب الذى كنتم تتعجلون وقوعه فى الدنيا ، وتستهزئون بمن يحذركم منه .فقوله ( تَدَّعُونَ ) من الدعاء بمعنى الطلب ، أو من الدعوى .( سِيئَتْ ) فعل مبنى للمجهول . وأسند - سبحانه - حصول السوء إلى الوجوه ، لتضمينه معنى كلحت وقبحت واسودت ، لأن الخوف من العذاب قد ظهرت آثاره على وجوههم .وقال - سبحانه - ( سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ ) بالإظهار ، ولم يقل وجوههم ، لذمهم بصفة الكفر ، التى كانت السبب فى هلاكهم .ومفعول ( تَدَّعُونَ ) محذوف والتقدير : وقيل لهم هذا الذى كنتم تدعون عدم وقوعه قد وقع ، وها أنتم تشاهدونه أمام أعينكم .والجار والمجرور فى قوله ( بِهِ ) متعلق بتدعون لأنه مضمن معنى تكذبون .والقائل لهم هذا القول : هم خزنة النار ، على سبيل التبكيت لهم .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
📘 ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم للمرة الرابعة ، أن يرد على ما كانوا يتمنونه بالنسبة له ولأصحابه فقال : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) .ولقد كان المشركون يتمنون هلاك النبى صلى الله عليه وسلم وكانوا يرددون ذلك فى مجالسهم ، وقد حكى القرآن عنهم ذلك فى آيات منها قوله - تعالى - :( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون ) أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - ( أَرَأَيْتُمْ ) أى : أخبرونى ( إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله ) . - تعالى - وأهلك - ( وَمَن مَّعِيَ ) من أصحابى وأتباعى ( أَوْ رَحِمَنَا ) بفضله وإحسانه بأن رزقنا الحياة الطويلة ، ورزقنا النصر عليكم .فأخبرونى فى تلك الحالة ( فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) أى : من يستطيع أحد أن يمنع ذلك عنكم .قال صاحب الكشاف : كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، فأمر بأن يقول لهم : نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنين : إما أن نهلك كما تتمنون ، فننقلب إلى الجنة ، أو نرحم بالنصرة عليكم ، أما أنتم فماذا تصنعون؟ من يجيركم - وأنتم كافرون - من عذاب أليم لا مفر لكم منه .يعنى : إنكم تطلبون لنا الهلاك الذى هو استعجال للفوز والسعادة ، وأنتم فى أمر هو الهلاك الذى لا هلاك بعده . .والمراد بالهلاك : الموت ، وبالرحمة : الحياة والنصر بدليل المقابلة ، وقد منح الله - تعالى - نبيه العمر المبارك النافع ، فلم يفارق صلى الله عليه وسلم الدنيا إلا بعد أن بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ودخل الناس فى دين الله أفواجا ، وكانت كلمته هى العليا .والاستفهام فى قوله ( أَرَأَيْتُمْ ) للإنكار والتعجيب من سوء تفكيرهم .والرؤية علمية ، والجملة الشرطية بعدها سدت مسد المفعولين .وقال - سبحانه - ( فَمَن يُجِيرُ الكافرين ) للإشارة إلى أن كفرهم هو السبب فى بوارهم وفى نزول العذاب الأليم بهم .
قُلْ هُوَ الرَّحْمَٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
📘 ثم أمره - سبحانه - للمرة الخامسة ، أن يبين لهم أنه هو وأصحابه معتمدون على الله - تعالى - وحده ، ومخلصون له العبادة والطاعة ، فقال : ( قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا . . )أى : وقل يا محمد لهؤلاء الجاحدين : إذا كنتم قد أشركتم معه الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة ، فنحن على النقيض منكم ، لأننا أخلصنا عبادتنا للرحمن الذى أوجدنا برحمته ، وآمنا به إيمانا حقا ، وعليه وحده توكلنا وفوضنا أمورنا .وأخر - سبحانه - مفعول ( آمَنَّا ) وقدم مفعول ( تَوَكَّلْنَا ) للتعريض بالكافرين ، الذين أصروا على ضلالهم ، فكأنه يقول : نحن آمنا ولم نكفر كما كفرتم ، وتوكلنا عليه وحده ، ولم نتوكل على ما أنتم متوكلون عليه من أصنامكم وأموالكم وأولادكم . .وقوله ( فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) مسوق مساق التهديد والوعيد أى : فستعلمون فى عاجل أمرنا وآجله ، أنحن الذين على الحق أم أنتم؟ ونحن الذين على الباطل أم أنتم؟فالمقصود بالآية الكريمة التهديد والإنذار ، مع إخراج الكلام مخرج الإِنصاف ، الذى يحملهم على التدبر والتفكر لو كانوا يعقلون .
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِنْ فُطُورٍ
📘 ثم بين - سبحانه - مظهرا آخر من مظاهرقدرته التى لا يعجزها شئ فقال : ( الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً . . . ) .والجملة الكريمة صفة للعزيز الغفور ، أو عطف بيان أو بدل ، أو خبر لمبتدأ محذوف .وطباقا صفة لسبع سموات . وهى مصدر طابق مطابقة وطباقا ، من قولك : طابق فلان النعل ، إذا جعله طبقة فوق أخرى ، وهو جمع طبَق ، كجبل وجبال ، أو جمع طبقة كرَحبة ورحاب . . أى : هو - سبحانه - لا غيره الذى أوجد وخلق على غير مثال سابق سبع سموات متطابقة ، أى : بعضها فوق بعض ، بطريقة متقنة محكمة . . لا يقدر على خلقها بتلك الطريقة إلا هو ، ولا يعلم كنه تكوينها وهيئاتها . . أحد سواه - عز وجل - .وقوله - سبحانه - ( مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ ) مؤكد لما قبله ، والتفاوت مأخوذ من الفوت ، وأصله الفرجة بين الإِصبعين .تقول : تفاوت الشيئان تفاوتا ، إذا حدث تباعد بينهما ، والجملة صفة ثانية لسبع سماوات ، أو مستأنفة لتقرير وتأكيد ما قبلها . . والخطاب لكل من يصلح له .أى : هو - سبحانه - الذى خلق سبع سماوات بعضها فوق بعض ، مع تناسقها ، وإتقان تكوينها ، وإحكام صنعها . . بحيث لا ترى - أيها العاقل - فى خلق السموات السبع شيئا من الاختلاف ، أو الاضطراب ، أو عدم التناسب . . بل كلها محكمة ، جارية على مقتضى نهاية النظام والإبداع .وقال - سبحانه - : ( مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن . . ) ولم يقل : ما ترى فى السموات السبع من تفاوت ، للإشعار بأن هذا الخلق البديع ، هو ما اقتضته رحمته - تعالى - بعباده ، لكى تجرى أمورهم على حالة تلائم نظام معيشتهم . . وللتنبيه - أيضا - على أن جميع مخلوقاته تسير على هذا النمط البديع فى صنعها وإيجادها ، كما قال - تعالى - : ( صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) وكما قال - سبحانه - : ( الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ . . . ) قال صاحب الكشاف : قوله : ( مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ ) أى : من اختلاف واضطراب فى الخلقة ولا تناقض ، إنما هى مستوية ومستقيمة ، وحقيقة التفاوت : عدم التناسب ، كأن بعض الشئ يفوت بعضا ولا يلائمه ، ومنه قولهم : خلق متفاوت ، وفى نقيضه متناصف .فإن قلت : ما موقع هذه الجملة مما قبلها؟ قلت : هى صفة مشايعة لقوله ( طِبَاقاً ) وأصلها : ما ترى فيهن من تفاوت ، فوضع مكان الضمير قوله : ( خَلْقِ الرحمن ) تعظيما لخلقهن ، وتنبيها على سبب سلامتهن من التفاوت ، وهو أنه خلق الرحمن ، وأنه يباهر قدرته هو الذى يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب . .ثم ساق - سبحانه - بأسلوب فيه ما فيه من التحدى ، ما يدل على أن خلقه خال من التفاوت والخلل فقال : ( فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ . ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ )و ( الفطور ) جمع فَطْر ، وهو الشق والصدع ، يقال : فطر فلان الشئ فانفطر ، إذا شقه ، وبابه نصر .وقوله ( كَرَّتَيْنِ ) مثنى كرَّة ، وهى المرة من الكَرّ ، وهو الرجوع إلى الشئ مرة أخرى ، يقال كر المقاتل على عدوه ، إذا عاد إلى مهاجمته بعد أن تركه .والمراد بالكرتين هنا : معاودة النظر وتكريره كثيرا ، بدون اقتصار على المرتين ، فالتثنية هنا : كناية عن مطلق التكرير ، كما فى قولهم : لبيك وسعديك .وقوله : ( خَاسِئاً ) أى صاغراً خائبا لأنه لم يجد ما كان يطلبه ويتمناه .وقوله : ( حَسِيرٌ ) بمعنى كليل ومتعب ، من حسَر بصرُ فلان يَحسُر حسورا إذا كَلَّ وتعب من طول النظر والتأمل والفحص ، وفعله من باب قعد .والمعنى : ما ترى - أيها الناظر - فى خلق الرحمن من تفاوت أو خلل . . فإن كنت لا تصدق ما أخبرناك به ، أو فى أدنى شك من ذلك ، فكرر النظر فيما خلقنا حتى يتضح لك الأمر ، ولا يبقى عندك أدنى شك أو شبهه .والاستفهام فى قوله : ( هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ) للتقرير : أى : إنك مهما نظرت فى خلق الرحمن . وشددت فى التفحص والتأمل . . فلن ترى فيه من شقوق أو خلل أو تفاوت . .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ
📘 ثم أمر - سبحانه - صلى الله عليه وسلم للمرة السادسة ، أن يذكرهم بنعمة الماء الذى يشربونه فقال : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ ) .وقوله ( غَوْراً ) مصدر غارَت البئر ، إذا نضب ماؤها وجف . يقال : غار الماء يغورُ غورا ، إذا ذهب وزال . .والمعين : هو الماء الظاهر الذى تراه العيون ، ويسهل الحصول عليه ، وهو فعيل من معن إذا قرب وظهر .أى : وقل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل التوبيخ وإلزام الحجة : أخبرونى إن أصبح ماؤكم غائرا فى الأرض ، بحيث لا يبقى له وجود أصلا .فمن يستطيع أن يأتيكم بماء ظاهر على وجه الأرض ، تراه عيونكم ، وتستعملونه فى شئونكم ومنافعكم .إنه لا أحد يستطيع ذلك إلا الله - تعالى - وحده ، فعليكم أن تشكروه على نعمه ، لكى يزيدكم منها .
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ
📘 وقوله : ( ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) تعجيز إثر تعجيز ، وتحد فى أعقاب تحد . . أى : ثم لا تكتف بإعادة النظر مرة واحدة ، فربما يكون قد فاتك شئ فى النظرة الأولى والثانية . . بل أعد النظر مرات ومرات . . فتكون النتيجة التى لا مفر لك منها ، أن بصرك - بعد طول النظر والتأمل - ينقلب إليك خائبا وهو كليل متعب . . لأنه - بعد هذا النظر الكثير - لم يجد فى خلقنا شيئا من الخلل أو الوهن أو التفاوت .قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله ( يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ ) أى : إن رجعت البصر ، وكررت النظر ، لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل ، وإدراك العيب ، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور . . أى : بالبعد عن إصابة الملتمس .فإن قلت : كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرتين اثنتين؟قلت : معنى التثنية هنا التكرير بكثرة كقولك لبيك وسعديك . .فإن قلت : فما معنى ( ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ ) ؟ قلت : أمره برجع البصر ، ثم أمره بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى ، وبالنظرة الحمقاء وأن يتوقف بعدها ، ويُجِم بصره ثم يعاود ويعاود ، إلى أن يَحْسِر بصرُه من طول المعاودة ، فإنه لا يعثر على شئ من فطور . .هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، يراها قد ساقت ما يدل على وحدانية الله - تعالى - وقدرته بأبلغ أسلوب ، ودعت الغافلين الذين فسقوا عن أمر ربهم ، إلى التدبر فى هذا الكون الذى أوجده - سبحانه - فى أبدع صورة وأتقنها ، فإن هذا التدبر من شأنه أن يهدى إلى الحق ، ويرشد إلى الصواب . .
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ
📘 ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك أدلة أخرى على وحدانيته وقدرته ، وبين ما أعده للكافرين من عذاب ، بسبب إصرارهم على كفرهم . . فقال - تعالى - :( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ . . . )قال الإِمام الرازى : اعلم أن هذا هو الدليل الثانى على كونه - تعالى - قادرا عالما ، وذلك لأن هذه الكواكب نظرا إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار معين ، وموضع خاص ، وسير معين ، تدل على أن صانعها قادر .ونظرا إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد ، ومن كونهاه زينة لأهل الدنيا ، وسببا لانتفاعهم بها ، تدل على أن صانعها عالم .ونظير هذه الآية قوله - تعالى - فى سورة الصافات : ( إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب . وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ) وقوله : ( زَيَّنَّا ) من التزيين بمعنى التحسين والتجميل . و ( الدنيا ) صيغة تفضيل من الدنو بمعنى القرب .والمصابيح : جمع مصباح وهو السراج المضئ . والمراد بها النجوم . وسميت بالمصابيح على التشبيه بها فى حسن المنظر ، وفى الإضاءة ليلا . .والرجوم : جمع رَجْم ، وهو فى الأصل مصدر رَجَمه رَجْماً - من باب نصر - إذا رماه بالرِّجام أى : بالحجارة ، فهو اسم لما يُرْجَم به ، أى : ما يَرْمِى به الرامى غيره من حجر ونحوه ، تسمية للمفعول بالمصدر ، مثل الخَلْق بمعنى المخلوق .وصدرت الآية الكريمة بالقسم ، لإِبراز كال العناية بمضمونها .والمعنى : وبالله لقد زينا وجملنا السماء القريبة منكم بكواكب مضيئة كإضاءة السُّرُجِ ، وجعلنا - بقدرتنا - من هذه الكواكب ، ما يرجم الشياطين ويحرقها ، إذا ما حاولوا أن يسترقوا السمع ، كما قال - تعالى - ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً . وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ) قال الإِمام ابن كثير : قوله : ( وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ) عاد الضمير فى قوله ( وَجَعَلْنَاهَا ) على جنس المصابيح لاعلى عينها ، لأنه لا يرمى بالكواكب التى فى السماء ، بل بشهب من دونها ، وقد تكون مستمدة منها - والله أعلم - .قال قتادة : إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال : خلقها زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه ، وأخطأ حظه ، وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به . .فالضمير فى قوله : ( وَجَعَلْنَاهَا ) يعود إلى المصابيح ، ومنه من أعاده إلى السماء الدنيا ، على تقدير : وجعلنا منها رجوما للشياطين الذين يسترقون السمع .وقوله - تعالى - : ( وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير ) بيان لسوء مصيرهم فى الآخرة ، بعد بيان سوء مصيرهم فى الدنيا عن طريق إحراقهم بالشهب .أى : وهيأنا لهؤلاء الشياطين فى الآخرة - بعد إحراقهم فى الدنيا بالشهب - عذاب النار المشتعلة المستعرة .فالسعير - بزنة فعيل - اسم لأشد النار اشتعالا . يقال : سعر فلان النار - كمنع - إذا أوقدها بشدة .وكان السعير عذابا للشياطين - مع أنهم مخلوقان من النار ، لأن نار جهنم أشد من النار التى خلقوا منها ، فإذا ألقوا فيها صارت عذابا لهم ، إذ السعير أشد أنواع النار التهابا واشتعالا وإحراقا ..
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
📘 وقوله : ( وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المصير ) معطوف على ما قبله .أى : هيأنا للشياطين عذاب السعير ، وهيأنا - أيضا - للذين كفروا بربهم من الإِنس عذاب جهنم ، وبئس المصير عذاب جهنم .
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ
📘 ثم بين - سبحانه - أحوالهم الأليمة حينما يلقون جميعا فى النار فقال : ( إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ . . )والظرف " إذا " متعلق بقوله ( سَمِعُواْ ) والشهيق : تردد النفس فى الصدر بصعوبة وعناء . .أى : أن هؤلاء الكافرين بربهم ، عندما يلقون فى النار ، يسمعون لها صوتا فظيعا منكرا ، ( وَهِيَ تَفُورُ ) أى : وحالها أنها تغلى بهم غليان المرجل بما فيه ، إذا الفوز : شدة الغليان ، ويقال ذلك فى النار إذا هاجت ، وفى القدر إذا غلت . .
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ۖ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ
📘 ( تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ ) أى تكاد النار تتقطع وينفصل عن بعض ، لشدة غضبها عليهم ، والتهامها لهم ، وتميز أصله تتميز فحذفت إحدى التاءين تخفيفا .والغيظ أشد الغضب ، والجملة فى محل نصب على الحال ، أو فى محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف . أى : هى تكاد تتقطع من شدة غضبها عليهم . .وقوله : ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ . . ) كلام مستأنف لبيان حال أهلها .والفوج : الجماعة من الناس ولفظ ( كلما ) مركب من كل الدال على الشمول ، ومن ما المصدرية الظرفية .أى : فى كل وقت وآن ، يلقى بجامعة من الكافرين فى النار ، يسألهم خزنتها من الملائكة ، سؤال تبكيت وتقريع ، بقولهم :( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) أى : ألم يأتكم يا معشر الكافرين نذير فى الدنيا ، ينذركم ويخوفكم من أهوال هذا اليوم ، ويدعوكم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده .
قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ
📘 ثم حكى - سبحانه - ما رد به الكافرون على خزنة جهنم فقال : ( قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ . . ) .أى : قال الكافرون - على سبيل التحسر والتفجع - فى ردهم على خزنة جهنم : بلى لقد جاءنا المنذر الذى أنذرنا وحذرنا من سوء عاقبة الكفر . . ولكننا كذبناه ، وأعرضنا عن دعوته ، بل وتجاوزونا ذلك بأن قلنا له على سبيل العناد والجحود والغرور : ما نزل الله على أحد من شئ من الأشياء التى تتلوها علينا ، وتأمرنا بها ، أو تنهانا عن مخالفتها .وقوله : ( إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ ) يحتمل أنه من كلام الكافرين لرسلهم الذين أنذروهم وحذروهم من الإصرار على الكفر .أى : جاءنا الرسل الذين أنذرونا . . فكذبناهم ، وقلنا لهم : ما نزل الله من شئ من الأشياء على ألسنتكم . . وقلنا لهم - ما أنتم إلا فى ضلال كبير ، أى : فى ذهاب واضح عن الحق ، وبعدٍ شديد عن الصواب .ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة ، أى : قال لهم الملائكة على سبيل التجهيل والتوبيخ : ما أنتم - أيها الكافرون - إلا فى ضلال كبير ، بسبب تكذيبكم لرسلكم ، وإعراضكم عمن حذركم وأنذركم .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ( إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ ) من المخاطبون به؟قلت : هو من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين ، على أن النذير بمعنى الإِنذار . والمعنى : ألم يأتكم أهل نذير : أو وصف به منذروهم لغلوهم فى الإِنذار ، كأنهم ليسوا إلا إنذارا . .ويجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول : أرادوا حكاية ما كانوا عليه من ضلالهم فى الدنيا ، أو أرادوا بالضلال : الهلاك . . .وجمع - سبحانه - الضمير فى قوله ( إِنْ أَنتُمْ . . . ) مع أن الملائكة قد سألوهم ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) بالإفراد ، للإشعار بأن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بتكذيب النذير الذى أنذرهم ، بل كذبوه وأتباعه الذين آمنوا به .فكأن كل فوج منهم كان يقول للرسول الذى جاء لهدايته : أنت وأتباعك فى ضلال كبير .