🕋 تفسير سورة الإنسان
(Al-Insan) • المصدر: AR-TAFSIR-AL-WASIT
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا
📘 الاستفهام فى قوله - تعالى - : ( هَلْ أتى عَلَى الإنسان . . ) للتقرير . والمراد بالإِنسان : جنسه ، فيشمل جميع بنى آدم ، والحين : المقدار المجمل من الزمان ، لأحد لأكثره ولا لأقله . والدهر : الزمان الطويل غير المحد بوقت معين .والمعنى : لقد أتى على الإِنسان ( حِينٌ مِّنَ الدهر ) أى : وقت غير محدد من الزمان الطويل الممتد فى هذه الحياة الدنيا .( لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ) أى : لم يكن هذا الإِنسان فى ذلك الحين من الدهر ، شيئا مذكورا من بين أفراد جنسه ، وإنما كان شيئا غير موجود إلا فى علم الله - تعالى - .ثم أوجده - سبحانه - بعد ذلك من نطفة فعلقة فمضغة . . ثم أنشأه - سبحانه - بعد ذلك خلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين .فالمقصود بهذه الآية الكريمة بيان مظهر من مظاهر قدرته - عز وجل - حيث أوجد الإِنسان من العدم ، ومن كان قادرا على ذلك ، كان - من باب أول - قادرا على إعادته إلى الحياة بعد موته ، والحساب والجزاء .قال الإِمام الفخر الرازى ما ملخصه : اتفقوا على أن " هل " هاهنا ، وفى قوله - تعالى - : ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية ) بمعنى قد ، كما تقول : هل رأيت صنيع فلان ، وقد علمت أنه قد رآه . وتقول : هل وعظتك وهل أعطيتك ، ومقصودك أن تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته .والدليل على أن " هل " هنا ليست للاستفهام الحقيقى . . أنه محال على الله - تعالى - فلابد من حمله على الخبر .وجاءت الآية الكريمة بأسلوب الاستفهام ، لما فيه من التشويق إلى معرفة ما سيأتى بعده من كلام .وجملة ( لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ) فى وضع نصب على الحال من الإِنسان ، والعائد محذوف . أى : حالة كون هذا الإِنسان ، لم يكن فى ذلك الحين من الدهر ، شيئا مذكورا من بين أفراد جنسه . وإنما كان نسيا منسيا ، لا يعلم بوجوده أحد سوى خالقه - عز وجل - .
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا
📘 ثم أضافوا إلى ذلك قولهم : ( إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) .والعبوس : صفة مشبهة لمن هو شديد العبس ، أى كلوح الوجه وانقباضه .والقمطرير : الشديد الصعب من كل شئ يقال : اقْمَطَرَّ يومُنا . إذا اشتدت مصائبه .ووصف اليوم بهذين الوصفين على سبيل المجاز فى الإِسناد ، والمقصود وصف أهله بذلك ، فهو من باب : فلان نهاره صائم .أى : ويقولون لهم - أيضا - عند تقديم الطعام لهم : إنا نخاف من ربنا يوما ، تعبس فيه الوجوه ، من شدة هوله ، وعظم أمره ، وطول بلائه .أى : أنهم لم يقدموا الطعام - مع حبهم له - رياء ومفاخرة ، وإنما قدموه ابتغاء وجه الله ، وخوفا من عذابه .
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا
📘 والفاء فى قوله : ( فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ) أى : وجعلهم يلقون فيها حسنا وبهجة فى الوجوه ، وسرورا وانشراحا فى الصدور ، بدل العبوس والكلوح الذى حل بوجوه الكفار .
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا
📘 ( وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ ) أى : بسبب صبرهم ( جَنَّةً ) عظيمة . . و ( وَحَرِيراً ) جميلا يلبسونه .
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۖ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا
📘 ( مُّتَّكِئِينَ فِيهَا ) أى : فى الجنة ( على الأرائك ) أى : على السرر ، أو على ما يتكأ عليه من سرير أو فراش ونحوه .( لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ) أى : لا يرون فيها شمساً شديدة الحرارة بحيث تؤذيهم أو تضرهم ، ولا يرون فيها كذلك ( زَمْهَرِيراً ) أى : بردا مفرطا ، يقال : زمهر اليوم ، إذا اشتد برده .والمقصود من الآية الكريمة أنهم لا يرون فى الجنة إلا جوا معتدلا ، لا هو بالحار ولا هو بالبارد .
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا
📘 وقوله - سبحانه - ( وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا . . . ) معطوف على قوله قبل ذلك : ( متكئين )و " ضلالها " فاعال " دانية " والضمير فى " ضلالها " يعود إلى الجنة .أى : أن الأبرار فى الجنة جلسة الناعم البال ، المنشرح الصدر . وظلال الأشجار الجنة قريبة منهم ، ومحيطة بهم ، زيادة فى إكرامهم .( وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ) أى : أنهم - فضلا عن ذلك - قد سخرت لهم ثمار الجنة تسخيرا ، وسهل الله - تعالى - لهم تناولها تسهيلا عظيما ، بحيث إن القاعد منهم والقائم والمضجع ، يستطيع أن يتناول هذه الثمار هذه الثمار اللذيذة بدون جهد أو تعب .فقوله - تعالى - : ( وَذُلِّلَتْ ) من التذليل بمعنى الانقياد والتسخير ، يقال : ذُلّل الكرم - بضم الذال - إذا تدلت عناقيده وصارت فى متناول اليد . والقطوف : جمع قطف - بكسر القاف - وهو العنقود حين يُقْطَف أو الثمار المقطوفة .
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا
📘 وبعد أن وصف - سبحانه - جانبا من طعامهم ولباسهم ومسكنهم أخذت السورة الكريمة فى وصف شرابهم . فقال - تعالى - : ( وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ . قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً )وقوله : ( وَيُطَافُ ) من الطواف ، وهو السعى المكرر حول الشئ ، ومنه الطواف بالكعبة . والآونية : جمع إناء ، وهو اسم لكل وعاء يوضع فيه الطعام والشراب والمراد بها هنا : الأوانى : التى يستعملونها فى مجالس شرابهم .والأكواب : جمع كوب ، وهو القدح الذى لا عروة له ، وعطفه على الآنية من باب عطف الخاص على العام .والقوارير : جمع قارورة وهى فى الأصل إناء رقيق من الزجاج النقى الشفاف ، توضع فيه الأشربة وما يشبهها ، فتستقر فيه .
قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا
📘 أى : ويطاف على هؤلاء الأبرار بآنية كائنة من فضة ، وبأكواب وأقداح من فضة - أيضاً - وجعلت هذه الأكواب فى مثل القوارير فى صفائها ونقائها ، وفى مثل الفضة فى جمالها وحسنها ، بحيث يرى ما بداخلها من خارجها .وقوله - سبحانه - ( قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ) أى : إن الطائفين بهذه الأكواب عليهم ، قد وضعوا فيها من الشراب على مقدار ما يشبع هؤلاء الأبرار ويرويهم بدون زيادة أو نقصان والطائفون عليهم بذلك هم الخدم الذين جعلهم الله - تعالى - لخدمة هؤلاء الأبرار . وبنى الفعل للمجهول للعلم بهم .وقال - سبحانه - هنا ( بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ ) وفى سورة الزخرف ( يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ . . . ) زيادة فى تكريمهم وفى سمو منزلتهم ، إذ تارة يطاف عليهم بأكواب من فضة ، وتارة يطاف عليهم بصحاف من ذهب ، ومن المعروف أنه كلما تعددت المناظر الحسنة ، والمشارب اللذيذة ، كان ذلك أبهج للنفس .والمراد بالكينونة فى قوله - تعالى - ( كَانَتْ قَوَارِيرَاْ . . . ) أنها تكونت ووجدت على هذه الصفة .قال الآلوسى : قوله - تعالى - ( كَانَتْ قَوَارِيرَاْ ) أى : كانت تلك الأكواب قوارير ، جمع قارورة ، وهى إناء رقيق من الزجاج توضع فيه الأشربة ، ونصبه على الحال ، فإن " كان " تامة ، وهو كما تقول : خلقت قوارير . وقوله - تعالى - : ( قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ ) بدل .والكلام على التشبيه البليغ .والمراد تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها ، ولون الفضة وبياضها .وقرأ نافع والكسائى وأبو بكر بتنوين ( قَوَارِيرَاْ ) فى الموضعين وصلا ، وإبداله ألفا وقفا . وابن كثير يمنع صرف الثانى ويصرف الأول . . والقراءة بمنع صرفهما للباقين .وقال الشوكانى : وجملة " قدرها تقديرا " صفة لقوارير . . أى : قدرها السقاة من الخدم ، الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة ، من دون زيادة ولا نقصان . . ، وقيل : قدرها الملائكة . وقيل : قدرها الشاربون لها من أهل الجنة على مقدار حاجتهم ، فجاءت كما يريدون فى الشكل لا تزيد ولا تنقص . .
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا
📘 ثم بين - سبحانه - محاسن شراب أهل الجنة فقال : ( وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً . عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً ) .والمراد بالكأس هنا : كأس الخمر . والضمير فى قوله ( فيها ) يعود إلى الجنة . والزنجبيل : نبات ذو رائحة عطرية طيبة ، والعرب كانوا يستلذون الشراب الممزوج به .
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا
📘 والسلسبيل وصف قيل مشتق من السلاسة بمعنى السهولة واللين ، يقال : ماء سلْسَل ، أى : عذب سائغ للشاربين ، ومعنى ( تسمى ) على هذا الرأى . أى : توصف بالسلاسة والعذوبة .وقيل : السلسبيل : اسم لهذه العين ، لقوله - تعالى - ( تسمى ) .أى : أن هؤلاء الأبرار - بجانب كل ما تقدم من نعم - يسقون فى الجنة من كأس مليئة بالخمر ، وهذه الخمر التى يشربونا ممزجة بالزنجبيل ، فتزداد لذة على لذتها .ويسقون - أيضا - من عين فيها - أى : فى الجنة - تسمى سلسبيلا ، وذلك لسلاسة مائها ولذته وعذوبته ، وسهولة نزوله إلى الحلق .قال صاحب الكشاف : ( سَلْسَبِيلاً ) سميت بذلك - لسلاسة انحدارها فى الحلق ، وسهولة مساغها يعنى : أنها فى طعم الزنجبيل ، وليس فيها لذعة ، ولكن فيها نقيض اللذع وهو السلاسة ، فقال : شراب سلسل وسلسال وسلسبيل ، وقد زيدت الباء فى التركيب حتى صارت الكلمة خماسية . ودلت على غاية السلاسة . .
۞ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا
📘 ثم أخبر - سبحانه - عن نوع آخر من الخدم ، يطوفون على هؤلاء الأبرار لخدمتهم ، فقال : ( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ) .أى : ويطوف على هؤلاء الأبرار ( وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ) أى : دائمون على ما هم عليه من النضارة والشباب . . إذا رأيتهم - أيها المخاطب ( حَسِبْتَهُمْ ) وظننتهم ( لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ) أى : حسبتهم من حسنهم ، وصفاء ألوانهم ، ونضارة وجوههم . . لؤلؤا ودرا مفرقا فى جنبات المجالس وأوسطها .فقوله - تعالى - ( مُّخَلَّدُونَ ) احتراس المقصود منه دفع توهم أنهم سيصيرون فى يوم من الأيام كهولا ، قالوا : وشبهوا باللؤلؤ المنثور ، لأن اللؤلؤ إذا نثر على البساط ، كان أكثر جمالا منه فيما لو كان منظوما .
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا
📘 ثم فصل - سبحانه - بعد هذا التشويق ، أطوار خلق الإِنسان فقال : ( إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ) والمراد بالإِنسان هنا - أيضا - جنسه وجميع أفراده .و " أمشاج " بمعنى أخلاط من عناصر شتى ، مشتق من المشج بمعنى الخلط ، يقال : مشجي فلان بين كذا وكذا - من باب ضرب - إذا خلط ومزج بينهما ، وهو جمع مشَج - كسب ، أو مَشِج - ككتف ، أو مشيج - كنصير .قال الجمل : " أمشاج " نعت لنطفة . ووقع الجمع صفة لمفرد ، لأنه فى معنى الجمع ، أو جعل كل جزء من النطفة نطفة ، فاعتبر ذلك فوصف بالجمع . .ويرى صاحب الكشاف أن لفظ " أمشاج " مفرد جاء على صيغة أفعال ، كلفظ أعشار فى قولهم : برمة أعشار ، أى : برمة متكسرة قطعا قطعا ، وعليه يكون المفرد قد نعت بلفظ مفرد مثله .فقال قال - رحمه الله - : ( مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ) كبرمة أعشار . . وهى ألفاظ مفردة غير جموع .والذلك وقعت صفات للأفراد ، والمعنى : من نطفة قد امتزج فيها الماءان . .وجملة " نبتليه " حال من الإِنسان ، أنو من فاعل " خلقنا " .أى : إنا خلقنا الإِنسان بقدرتنا وحدها . " من نطفة " أى : من مَنِىٍّ ، وهو ماء الرجل وماء المرأة ، " أمشاج " أى : ممتزج أحدهما بالآخر امتزاجا تاما .أو خلقنا من نطفة مختلطة بعناصر متعددة ، تتكون منها حياة الإِنسان بقدرتنا وحمكتنا .وهلقناه كلذلك حالة كوننا مريدين ابتلاءه واختباره بالتكاليف ، فى مستقبل حياته حين يكون أهلا لهذه التكاليف .( فَجَعَلْنَاهُ ) بسبب إرادتنا ابتلاءه واختباره بالتكاليف مزودات بوسائل الإِدراك ، التى بواسطتها بسمع الحق ويبصره ويستجيب له ويدرك الحقائق والآيات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وصدق رسلنا . . إدراكا سليما ، متى اتبع فطرته ، وخالف وساوس الشيطان وخطواته .وخص - سبحانه - السمع والبصر بالذكر ، لأنهما أنفع الحواس للإِنسان ، إن عن طريق السمع يتلقى دعوة الحق وما اشتملت عليه من هدايات ، وعن طريق البصر ينظر فى الأدلة المتنوعة الكثيرة التى تدل على وحدانية الله - تعالى - وعلى صدق أنبيائه فيما جاءوا به من عند ربهم .
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا
📘 ( وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ ) وثم هنا ظرف مكان مختص بالبعيد ، وهو منصوب على الظرفية ، ومفعول الرؤية غير مذكور ، لأن القصد : وإذا صدرت منك - أيها المخاطب رؤية إلى هناك ، أى : إلى الجنة ونعيمها .. ( رَأَيْتَ نَعِيماً ) لا يقادر قدره ( وَمُلْكاً كَبِيراً ) أى : واسعا لا غاية له .فقوله - سبحانه - ( رَأَيْتَ ) الثانية ، جواب إذا . والمشار إليه " بِثَمَّ " التى هى بمعنى هناك معلوم من المقام ، لأن المقصود به الجنة التى سبق الحديث عنها فى مثل قوله : ( وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً ) أى : وإذا سرحت ببصرك إلى هناك رأيت نعيما وملكا كبيرا .
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ۖ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا
📘 ثم فصل - سبحانه - جانبا من مظاهر هذا النعيم العظيم فقال ( عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً )وقوله ( عَالِيَهُم ) بفتح الياء وضم الهاء - بمعنى فوقهم ، فهو ظرف خبر مقدم ، وثياب مبتدأ مؤخر ، كأنه قيل : فوقهم ثياب ويصح أن يكون حالا للأبرار . أى : تلك حال أهل النعيم والملك الكبير وهم الأبرار .وقرأ نافع وحمزة ( عاليهم ) - بسكون الياء وكسر الهاء - على أن الكلام جملة مستأنفة استنئافا بيانياً ، لقوله - تعالى - ( رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ) ، ويكون لفظ ( عَالِيَهُمْ ) اسم فاعل مبتدأ .وقوله : ( ثِيَابُ سُندُسٍ ) فاعله ساد مسد الخبر ، ويصح أن يكون خبرا مقدما ، وما بعده مبتدأ مؤخر .وإضافة الثياب إلى السندس بيانية ، مثل : خاتم ذهب والسندس : الديباج الرقيق . والاستبرق : الديباج الغليظ .والمعنى : أن هؤلاء الأبرار ، أصحاب النعيم المقيم ، والملك الكبير ، فوق أجسادهم ثياب من أفخر الثياب ، لأنهم يجمعون فى لباسهم بين الديباج الرقيق ، والديباج الغليظ ، على سبيل التنعيم والجمع بين محاسن الثياب .وكانت تلك الملابس من اللون الأخضر ، لأنها أبهج للنفس ، وشعار لباس الملوك .وكلمة : " خضر " قرأها بعضهم بالرفع على أنها صفة لثياب ، وقرأها البعض الآخر بالجر ، على أنها صفة لسندس . وكذلك كلمة " وإستبرق " قرئت بالرفع عطفا على ثياب ، وقرئت بالجر عطفا على سندس .وقوله : ( وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ) بيان لما يتزينون به فى أيديهم ، أى أن هؤلاء الأبرار يلبسون فى أيديهم أساور من فضة ، كما هو الشأن بالنسبة للملوك فى الدنيا ، ومنه ما ورد فى الحديث من ذكر سوارى كسرى .وقوله - تعالى - : ( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ) أى : وفضلا عن كل تلك الملابس الفاخرة سقاهم ربهم - بفضله وإحسانه - شرابا بالغاً نهاية الطهر ، فهو ليس كخمر الدنيا ، فيه الكثير من المساوئ التى تؤدى إلى ذهاب العقول . . وإنما خمر الآخرة : شراب لذيذ طاهر من كل خبث وقذر وسوء .وجاء لفظ " طهورا " بصيغة المبالغة ، للإِشعار بأن هذا الشراب قد بلغ النهاية فى الطهارة .
إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا
📘 ثم ختم - سبحانه - هذا العطاء الواسع العظيم ، ببيان ما ستقوله الملائكة لهؤلاء الأبرار على سبيل التكريم والتشريف ، فقال : ( إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ) .وهذه الآية الكريمة مقول لقول محذوف ، والقائل هو الله - تعالى - أو ملائكته بأمره - سبحانه - وإذنه ، أى : سقاهم ربهم شرابا طهورا فى الآخرة ، ويقال لهم عند تمتعهم بكل هذا النعيم ، ( إِنَّ هذا ) النعيم الذى تعيشون فيه ( كَانَ لَكُمْ جَزَآءً ) على إيمانكم وعملكم الصالح فى الدنيا .( وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ) أى : مرضيا ومقبولا عند خالقكم ، فازدادو - أيها الأبرار - سرورا على سروركم ، وبهجة على بهجتكم .وبعد هذا التفصيل لما أعده الله - تعالى - لعباده الأخيار من أصناف النعيم ، المتعلق بمأكلهم ، ومشربهم . . أخذت السورة الكريمة . فى أواخرها - فى تثبيت النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وفى دعوته صلى الله عليه وسلم إلى المداومة على التحلى بفضيلة الصبر ، وإلى الإِكثار من ذكره - تعالى - وأنذرت الكافرين والفاسقين إذا ما استمروا فى ضلالهم . فقال - تعالى - :( فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ . . . ) .
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا
📘 جاء قوله - تعالى - : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنزِيلاً ) مؤكدا بجملة من المؤكدات . منها : إن ، ونحن ، وتنزيلا . . للرد على أولئك الجاحدين الذين أنكروا أن يكون القرآن من عند الله - تعالى - وقالوا فى شأنه : ( لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين ) أى : إنا نحن - وحدنا - أيها الرسول الكريم - ، والذين نزلنا عليك القرآن تنزيلا محكما ، وفصلناه تفصيلا متقنا ، بأن أنزلناه على قلبك مفرقا على حسب مشيئتنا وحكمتنا .
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا
📘 والفاء فى قوله : ( فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ ) للإِفصاح . وعدى فعل الصبر باللام ، لتضمنه معنى الخضوع والاستسلام لقضائه - سبحانه - .أى : ما دام الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - فاصبر لحكم ربك ، واخضع لقضائه ومشيئته ، فهو - سبحانه - الكفيل بنصرك عليهم .وقوله : ( وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) أى : ولا تطع - أيها الرسول الكريم - من هؤلاء المشركين ، من كان داعياً إلى الإثم والفجور ، أو من كان داعيا إلى الكفر والجحود .ولم يقل - سبحانه - ولا تطع منهم آثمار وكفورا بالواو ، لأن الواو تجعل الكلام محتملا للنهى عن المجموع ، وأن طاعة أحدهما دون الآخر تكفى فى الامتثال .ولذا قال الزجاج : إن " أو " هنا أَوْكد من الواو ، لأنك إذا قلت : لا تطع زيدا وعمرا ، فأطاع أحدهما كان غير عاص ، فإن أبدلتها بأو ، فقد دللت على أن كل واحد منهما ، أهل لأن يعصى ، ويعلم منه النهى عن إطاعتهما معاً .والآثم : هو الفاجر بأقواله وأفعاله . والكفور : هو الجاحد بقلبه ولسانه .ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين ما ملخصه : تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإِنّ : تأكيد على تأكيد ، لمعنى اختصاص الله - تعالى - بالتنزيل ، ليتقرر فى نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل للقرآن ، لم يكن تنزيله على أى وجه نزل ، إلا حكمة وصوابا ، كأنه قيل : ما نزل عليك القرآن تنزيلا مفرقا منجما ، إلا أنا لا غيرى ، وقد عرفتنى حكيما فاعلا لكل ما أفعله .فإن قلت : كلهم كانوا كفرة ، فما معنى القسمة فى قوله : ( آثِماً أَوْ كَفُوراً ) ؟ قلت : معناه لا تطع منهم راكبا لماهو إثم ، داعيا لك إليه ، أو فاعلا لما هو كفر ، داعيا لك إليه . لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كفر ، داعيا لك إليه . لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم علىفعل إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كف : فنهى عن أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث . فإن قلت : معنى أو : ولا تطع أحدهما ، فهلا جئ بالواو وليكون نهيا عن طاعتهما جميعا؟قلت : لو قيل : ولا تطعهما ، جاز أن يطيع أحدهما ، وإذا قيل : لا تطع أحدهما ، علم أن الناهى عن طاعة أحدهما : عن طاعتهما جميعا أنهى ، كما إذا نهى عن أن يقول لأبويه أف ، علم أنه منهى عن ضربهما بالطريق الأولى ..والمقصود من هاتين الآيتين تثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم وتيئيس المشركين من استجابته صلى الله عليه وسلم لأى مطلب من مطالبهم الفاسدة .
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا
📘 ثم أرشده - سبحانه - إلى ما يعينه على الصبر والثبات . فقال : ( واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً . وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .والبكرة : أول النهار . والأصيل : آخره . والمراد : المداومة على ذكر الله - تعالى - فى كل وقت . أى : داوم - أيها الرسول الكريم - على ذكر الله - تعالى - فى أول النهار وفى آخره ، وعلى صلاة الفجر ، والظهر والعصر .
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا
📘 ( وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ ) - تعالى - وأكثر من ذكره ، وواظب على صلاة المغرب والعشاء .( وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) أى : ونزهه - تعالى - وتهجد له وقتا طويلا من الليل .فهاتان الآيتان ترشدان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما يعينه على الازدياد من فضيلة الصبر الجميل ، والثبات على الحق .ومن الآيات الكثيرة التى تشبه هاتين الآيتين فى معناهما : قوله - تعالى - ( وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ . واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين ) وقوله - تعالى - : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين ).
إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا
📘 ثم بين - سبحانه - جانبا من الأسباب التى تجعله صلى الله عليه وسلم لا يطيع أحدا منهم فقال : ( إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ) .أى : نحن قد نهيناك - يا محمد - عن طاعة أحد من هؤلاء المشركين ، لأنهم جميعا ديدنهم ودأبهم أنهم يحبون ( العاجلة ) أى : الدنيا ولذائذها وشهواتها ، العاجلة الزائلة .( وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ ) أى : ويتركون وينبذون وراء ظهورهم ( يَوْماً ثَقِيلاً ) وهو يوم القيامة ، الشديد الأهوال ، الذى يجعل الولدان شيبا .ومع شدة هوله فهم لا يستعدون له ولا يحسبون له حسابا . .فالآية الكريمة توبيخ وتجهيل لهم ، حيث آثروا الفانى على الباقى ، والعاجل على الآجل .ووصف يوم القيامة بالثقل ، لشدة ما يقع فيه من أهوال وكروب ، فهو كالشئ الثقيل الذى لا يستطاع حمله .
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ ۖ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا
📘 ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله عليهم ، ومع ذلك أشركوا معه فى العبادة غيره فقال : ( نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ) .أى : نحن وحدنا الذين خلقناهم وأوجدناهم من العدم .ونحن وحدنا الذين ( وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ ) أى : قوينا وأحكمنا وأتقنا خلقهم ، بأن منحناهم السمع والأبصار والأفئدة والعقول . . وربطنا بين مفاصلهم وأجزاء أجسادهم ربطا عجيبا معجزا .يقال : أسَر الله - تعالى - فلانا ، أى : خلقه - وبابه ضرب - وفرس شديد الأسْر ، أى : شديد الخَلْق ، والأسر : القوة ، مشتق من الإِسار - بكسر الهمزة - وهو الحبل الذى تشد به الأحمال ، يقال : أسَر فلان الحمل أسْراً ، إذا أحكم ربطه ، ومنه الأسير لأنه يُرْبَط بالإِسار ، أى : القيد .والمقصود بالأسر هنا : الإِحكام والإِتقان ، والامتنان عليهم بأن الله - تعالى - خلقهم فى أحسن وأتقن خلق .وقوله - سبحانه - ( وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ) تأكيد لشمول قدرته - تعالى - أى : ونحن وحدنا الذين خلقناهم ، ونحن وحدنا الذين ربطنا مفاصلهم وأعضاءهم ربطا متقنا بديعا .ومع ذلك ، فإننا إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم ، وجئنا بأمثالهم وأشباههم فى شدة الخلق ، وبدلناهم تبديلا معجزا ، لا يقدر عليه أحد سوانا .وقوله : ( تَبْدِيلاً ) منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله وهو بدلناهم .ومن الآيات الشبيهة لهذه الآية فى معناها قوله - تعالى - : ( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً ) وقوله - سبحانه - : ( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ ) .
إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ۖ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا
📘 ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالحض على طاعته ، وبالتحذير من معصيته فقال : ( إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) .أى : إن هذه الآيات التى أنزلناها عليك يا محمد - تذكرة وموعظة للناس ، فمن شاء أن يتخذ إلى الله - تعالى - وسيلة وطريقة يتقرب بها إليه - تعالى - اتخذها ، لأنها خير هداية إلى رضاه - سبحانه - .والتعبير بقوله : ( فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) تحريض شديد على المسارعة إلى الطاعة ، لأن الله - تعالى - قد مكن الناس من ذلك ، حيث وهبهم الاختيار والعقول المفكرة ، وأرسل إليهم الرسل ليخرجوهم من الظلمات إلى النور .
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا
📘 وقوله - سبحانه - ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل ) تعليل لقوله : ( نَّبْتَلِيهِ ) ، وتفصيل لقوله - تعالى - ( فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) ، والمراد بالهداية هنا : الدلالة إلى طريق الحق ، والإِرشاد إلى الصراط المستقيم .أى : إنا بفضلنا وإحساننا - قد أرشدنا الإِنسان إلى ما يوصله إلى طريق الحق والصواب ، وأرشدناه إلى ما يسعده ، عن طريق إرسال الرسل وتزويده بالعقل المستعد للتفكر والتدبر فى آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا .وقوله : ( إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) حالان من ضمير الغيبة فى " هديناه " وهو ضمير الإِنسان .و " إما " للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات : أو للتقسيم للمهدى بحسب اختلاف الذوات والصفات .أى : إنا هديناه ودللناه على ما يوصله إلى الصراط المستقيم ، فى حالتى شكره وكفره ، لأنه إن أخذ بهدايتنا كان شاكرا ، وإن أعرض عنها كان جاحدا وكافرا لنعمنا ، فالهداية موجودة فى كل الأحوال ، إلا أن المنتفعين بها هم الشاكرون وحدهم .ومثل ذلك كمثل رجلين ، يرشدهما مرشد إلى طريق النجاة ، فأحدهما يسير فى هذا الطريق فينجو من العثرات والمتاعب والمخاطر . . والآخر يعرض عن ذلك فيهلك .ولما كان الشكر قل من يتصف به ، كما قال - سبحانه - : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور ) جاء التعبير بقوله - سبحانه - ( شَاكِراً ) بصيغة اسم الفاعل . ولما كان الجحود والكفر يعم أكثر الناس ، جاء التعبير بقوله - تعالى - ( كَفُوراً ) بصيغة المبالغة .والمقصود من الآية الكريمة : قفل الباب أمام الذين يفسقون عن أمر ربهم ، ويرتكبون ما يرتكبون من السيئات . . ثم بعد ذلك يعلقون أفعالهم هذه على قضاء الله وقدره ، ويقولون - كما حكى القرآن عن المشركين - : ( لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ).
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
📘 ثم بين - سبحانه - أن مشيئته فوق كل مشيئة فقال : ( وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ) .أى : وما تشاءون شيئا من الأشياء ، إلا بعد خضوع هذا الشئ لمشيئة الله - تعالى - وإرادته ، إذ هو الخالق - سبحانه - لكل شئ ، وهو صاحب الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين .( إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ) أى : إنه - تعالى - كان وما صاحب العلم المطلق الذى لا يحده شئ ، وصاحب الحكمة البليغة التى لا نهاية لها .
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ۚ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
📘 ( يُدْخِلُ ) - سبحانه - ( مَن يَشَآءُ ) إدخاله ( فِي رَحْمَتِهِ ) لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه .( والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ ) - سبحانه - ( عَذَاباً أَلِيماً ) بسبب إصرارهم على ظلمهم ، وإيثارهم الباطل على الحق ، والغى على الرشد .نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا ممن هم أهل لرحمته ورضوانه ، وأن يبعدنا عمن هم أهل لعذابه ونقمته .وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا
📘 ثم بين - سبحانه - بعد هذه الهداية ، ما أعده لفريق الكافرين ، وما أعده لفريق الشاكرين ، فقال - تعالى - :( إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ . . . ) .قوله - سبحانه - : ( إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ . . ) كلام مستأنف لبيان جزاء الكافرين بعد أن تطلعت إليه النفس ، بعد سماعها لقوله - تعالى - : ( إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) وابتداء - سبحانه - بذكر جزاء الكافر ، لأن ذكره هو الأقرب ولأن الغرض بيان جزائه على سبيل الإِجمال ، ثم تفصيل القول بعد ذلك فى بيان جزاء المؤمنين .والسلاسل : جمع سلسلة ، وهى القيود المصنوعة من الحديد والتى يقيد بها المجرمون . وقد قرأ بعض القراء السبعة هذا اللفظ بالتنوين ، وقرأه آخرون بدون تنوين .والأغلال : جمع غل - بضم الغين - وهو القيد الذى يقيد به المذنب ويكون فى عنقه ، قال - تعالى - : ( إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ . فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ ) والمعنى : إنا أعتدنا وهيأنا للكافرين سلاسل يقادون بها ، وأغلالا تجمع بها أيديهم إلى أعناقهم على سبيل الإِذلال لهم ، وهيأنا لهم - فوق ذلك - ناراً شديدة الاشتعال تحرق بها أجسادهم .
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا
📘 ثم بين - سبحانه - ما أعده للمؤمنين الصادقين من خير عميم فقال : ( إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ) .والأبرار : جمع بَرٍّ أو بَارٍّ . وهو الإِنسان المطيع لله - تعالى - طاعة تامة ، والمسارع فى فعل الخير ، والشاكر لله - تعالى - على نعمه .والكأس : هو الإِناء الذى توضع فيه الخمر ، ولا يسمى بهذا الاسم إلا إذا كانت الخمر بداخله ، ويصح أن يطلق الكأس على الخمر ذاتها على سبيل المجاز ، من باب تسمية الحال باسم الحال ، وهو المراد هنا . لقوله - تعالى - ( كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ) و " من " للتبعيض .والضمير فى قوله ( مِزَاجُهَا ) يعود إلى الكأس التى أريد بها الخمر ، والمراد " بمزاجها " خليطها من المزج بمعنى الخلط يقال : مزجت الشئ بالشئ ، إذا خلطته به .والكافور : اسم لسائل طيب الرائحة ، أبيض اللون ، تميل إليه النفوس .أى : إن المؤمنين الصادقين ، الذين أخلصوا لله - تعالى - الطاعة والعبادة والشكر . . يكافئهم - سبحانه - على ذلك ، بأن يجعلهم يوم القيامة فى جنات عالية ، ويتمتعون بالشراب من خمر ، هذه الخمر كانت مخلوطة بالكافور الذى تنتعش له النفوس ، وتحبه الأرواح والقلوب ، لطيب رائحته ، وجمال شكله .
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا
📘 وذكر - سبحانه - ( عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله . . . ) بدل من قوله : ( كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ) لأن ماءها فى بياض الكافور وفى رائحته وبرودته .أى : أن الأبرار يشربون من كأس ، ماؤها ينبع من عين فى الجنة ، هذا الماء له بياض الكافور ورائحته وبرودته .وعدى فعل " يشرب " بالباء ، التى هى باء الإِلصاق ، لأن الكافور يمزج به شرابهم . أى؛ عينا يشرب عباد الله ماءهم وخمرهم بها . أى : مصحوبا بمائها وخمرها .ومنهم من جعل الباء هنا بمعنى من التبعيضية . أى : عينا يشرب من بعض مائها وخمرها عباد الله ، وهم الأبرار .وعبر عنهم بذلك لتشريفهم وتكريمهم ، حيث أضافهم - سبحانه - إلى ذاته .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولا ، وبحرف الإِلصاق آخرا؟ قلت : لأن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته ، وأما العين فبها يمزجون شرابهم ، فكأن المعنى : يشرب عباد الله بها الخمر ، كما تقول : شربت الماء بالعسل . .وقوله - سبحانه - : ( يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ) صفة أخرى للعين ، أى : يسيرونها ويجرونها إلى حيث يريدون ، وينتفعون بها كما يشاؤون ، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يتوجهون إليه .فالتعبير بقوله : ( يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ) إشارة إلى كثرتها وسعتها وسهولة حصولهم عليها يقال : فجَّر فلان الماء ، إذا أخرجه من الأرض بغزارة ومنه قوله - تعالى - ( وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً ).
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا
📘 ثم بين - سبحانه - بعد ذلك فى آيات متعددة ، الأسباب التى من أجلها وصلوا إلى النعيم الدائم . فقال - تعالى - : ( يُوفُونَ بالنذر وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) .والنذر : ما يوجبه الإِنسان على نفسه من طاعة الله - تعالى - ، والوفاء به : أداؤه أداء كاملا . أى : أن من الأسباب التى جعلت الأبرار يحصلون على تلك النعم ، أنهم من أخلاقهم الوفاء بالنذل ، ومن صفاتهم - أيضا - أنهم يخافون يوما عظيما هو يوم القيامة ، الذى كان عذابه فاشياً منتشراً غاية الانتشار .فقوله : ( مُسْتَطِيراً ) اسم فاعل من استطار الشئ إذا انتشر وامتد أمره ، والسين والتاء فيه للمبالغة ، وأصله طار . ومنه قولهم : استطار الغبار ، إذا انتشر فى الهواء وتفرق وجئ بصيغة المضارع فى قوله : ( يُوفُونَ ) للدلالة على تجدد وفائهم فى كل وقت وحين .والتعريف فى " النذر " للجنس ، لأنه يعم كل نذر .وجاء لفظ اليوم منكراً ، ووصف بأن له شراً مستطيرا . . لتهويل أمره ، وتعظيم شأنه ، حتى يستعد الناس لاستقباله بالإِيمان والعمل الصالح .
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا
📘 ثم وصفهم - سبحانه - بصفات أخرى فقال : ( وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) .أى : أن هؤلاء الأبرار من صفاتهم - أيضاً أنهم يطعمون الطعام مع حب هذا الطعام لديهم ، ومع حاجتهم إليه واشتهائهم له .ومع كل ذلك فهم يقدمونه للمسكين ، وهو المحتاج إلى غيره لفقره وسكونه عن الحركة . . ولليتيم : وهو من فقد أباه وهو صغير ، وللأسير : وهو من أصبح أمره بيد غيره ، وخص الإِطعام بالذكر : لما فى تقديمه من كرم وسخاء وإيثار ، لا سيما مع الحاجة إليه ، كما يشعر به قوله - تعالى - ( على حُبِّهِ ) أى : على حبهم لذلك الطعام ، وقيل الضمير فى قوله ( على حُبِّهِ ) يعود إلى الله - عز وجل - أى : يطعمون الطعام على حبهم له - تعالى .والأولى أولى .ويؤيده قوله - تعالى - ( لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) و " على " هنا بمعنى مع ، والجملة فى محل نصب على الحال . أى : حالة كونهم كائنين على حب هذا الطعام .وخص هؤلاء الثلاثة بالذكر ، لأنهم أولى الناس بالرعاية والمساعدة .وقد ذكروا فى سبيل نزول هذه الآية ، والآيتين اللتين يعدها ، روايات منها ، أنها نزلت فى الإِمام على وزوجه فاطمة - رضى الله عنهما - .قال القرطبى - بعد أن ذكر هذه الروايات - : والصحيح أنها نزلت فى جميع الأبرار ، وفى كل من فعل فعلا حسنا ، فهى عامة . .
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا
📘 وقوله - سبحانه - ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله ) بيان لشدة إخلاصهم ، ولطهارة نفوسهم ، وهو مقول لقول محذوف أى : يقدمون الطعام لهؤلاء المحتاجين مع حبهم لهذا الطعام ، ومع حاجتهم إليه . . ثم يقولون لهم بلسان الحال أو المقال : إنما نطعمكم ابتغاء وجه الله - تعالى - وطلبا لمئويته ورحمته .( لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً ) أى : لا نريد منكم جزاء على ما قدمناه لكم ، ولا نريد منكم شكرا على ما فعلناه ، فإننا لا نلتمس ذلك إلا من الله - تعالى - خالقنا وخالقكم .