🕋 تفسير سورة التكوير
(At-Takwir) • المصدر: AR-TAFSIR-AL-WASIT
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ
📘 تكرر لفظ " إذا " فى هذه الآيات اثنى عشرة مرة ، وجواب الشرط قوله : ( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ ) . وهذا التكرار بلفظ إذا من مقاصده التشويق للجواب ، لأن السامع عندما يجد هذا الظرف وقد تكرر يكون فى ترقب وشوق لمعرفة الجواب .وعندما يسمعه يتمكن من نفسه كل التمكن .ولفظ " الشمس مرفوع على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده ، أى : إذا كورت الشمس كورت ، وأصل التكوير : لف الشئ على جهة الاستدارة ، تقول : كورت العمامة ، إذا لففتها .قال صاحب الكشاف : فى التكوير وجهان : أحدهما : أن يكون من كورت العمامة إذا لففتها . أى : يلف ضوء الشمس لفا فيذهب انبساطه وانتشاره فى الآفاق ، وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها ، لأنها ما دامت باقية ، كان ضياؤها منبسطا غير ملفوف .وثانيهما : أن يكون لفها عبارة عن رفعها وسترها ، لأن الثواب إذا أريد رفعه ، لف وطوى ونحوه قوله - تعالى - : ( يَوْمَ نَطْوِي السمآء ) أى : إذا الشمس أزيل ضوؤها بعد انتشاره وانبساطه ، فأصبحت مظلمة بعد أن كانت مضيئة ، ومستترة بعد أن كانت بارزة .
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ
📘 وقوله - سبحانه - : ( وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ ) أى : بسطت بعد أن كانت مطوية ، وهى صحف الأعمال التى سجلتها الملائكة على أصحابها ، سواء أكانت تلك الأعمال خيرا أم شرا ، فهذه الصحائف تطوى عند الموت ، وتنشر يوم القيامة ، يوم الحساب والجزاء .قال - تعالى - : ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً . اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً ).
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ
📘 ( وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ ) أى : قلعت وأزيلت ، وأصل الكشط إزالةجلدة الحيوان عنه . يقال : كشطت البعير كشطا ، إذا نزعت جلده منه . أى : وإذا السماء نزعت وأزيلت ، فلم تبق على هيئتها التى كانت عيها ، من إظلالها لما تحتها .
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ
📘 ( وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ ) أى : أوقدت إيقادا شديدا للكفار ، والجحيم هى النار ذات الطبقات المتعدة من الوقود كالحطب وغيره ، وتسعيرها : إيقادها بشدة .
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ
📘 ( وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ ) أى : قربت وأدنيت من المؤمنين ، كما فى قوله - تعالى - : ( وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) من الزلفى بمعنى القرب ، يقال : تزلف فلان إلى فلان ، إذا تقرب منه .
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ
📘 وقوله : ( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ ) هو جواب الشرط لكل تلك الظروف السابقة . أى : إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت تبين لكل نفس ما عملته من خير أو شر ، ومن حسن أو قبيح . . ورأت ذلك رأى العين ، كما قال - تعالى - : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً . . . ) والمراد بالنفس عموم الأنفس ، لأن النكرة فى سياق النفى تشمل كل نفس وأسند - سبحانه - الإِحضار إلى النفوس ، لأنها هى المباشرة لأعمالها فى الدنيا ، والتى ستجد جزاءها فى الآخرة .وجعلت معرفة النفوس لجزاء أعمالها ، حاصلة عند حصول مجموع الشروط التى ذكرت فى الجمل الاثنتى عشرة ، لأن بعض الزمان والأحوال التى تضمنتها هذه الشروط مقارن لحصول علم النفوس بأعمالها ، كما فى الستة الأخيرة ، فإنها تكون عند فصل القضاء ، وبعضها يحصل قبل ذلك بقليل ، كما فى الأحوال الستة المذكورة أولا ، إلا أنه لما كان بعض هذه الأمور من مبادئ يوم القيامة ، وبعضها من روادفه ، نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع هذه الأمور كلها تهويلا للخطب ، وتفظيعا للأمر .وإشعاراً بأن ما يسبق يوم القيامة وما يعقبه ، كل ذلك من الأهوال التى يشب لها الولدان .
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ
📘 وبعد أن ساق - ما ساق من أحوال تدل على شدائد يوم القيامة ، أتبع ذلك ببيان أن هذا القرآن من عنده - تعالى - وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ، فقال :( فَلاَ أُقْسِمُ . . . ) .والفاء فى قوله - تعالى - : ( فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس . . . ) للتفريع على ما تقدم من تحقيق وقوع البعث ، وهى تعطى - أيضا - معنى الإِفصاح ، و " لا " مزيدة لتأكيد القسم ، وجواب القسم قوله - تعالى - ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) .و ( الخنس ) - بزنة رُكَّع - جمع خانس ، والخنوس : الاستخفاء والاستتار ، يقال خنست الظبية والبقرة ، إذا اختفت فى بيتها .
الْجَوَارِ الْكُنَّسِ
📘 و ( الجوار ) جمع جارية ، وهى التى تجرى بسرعة ، من الجرى بمعنى الإِسراع فى السير .و ( الكنس ) جمع كانس . يقال : كنس الظبى ، إذا دخل كناسه - بكسر الكاف - وهو البيت الذى يتخذه للمبيت ، وسمى بذلك لأنه يتخذه من أغصان الأشجار ، ويكنس الرمل إليه حتى يكون مختفيا عن الأعين .وهذه الصفات ، المراد بها النجوم ، لأنها بالنهار تكون مختفية عن الأنظار ، ولا تظهر إلا بالليل ، فشبهت بالظباء التى تختفى فى بيوتها ولا تظهر إلا فى أوقات معينة .أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن البعث حق . . فأقسم بالنجوم التى تخنس بالنهار ، أى : يغيب ضؤوها عن العيون بالنهار ، ويظهر بالليل ، والتى تجرى من مكان إلى آخر بقدرة الله - تعالى - ثم تكنس - أى : تستتر وقت غروبها - كما تتوارى الظباء فى كُنُسِها . . إن هذا القرآن لقول رسول كريم .قال ابن كثير ما ملخصه : قوله - تعالى - ( فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس . الجوار الكنس ) : هى النجوم تخنس بالنهار ، وتظهر بالليل ، روى ذلك عن على بن أبى طالب وابن عباس ومجاهد .وقال بعض الأئمة : وإنما قيل للنجوم " الخنس " أى : فى حال طلوعها ، ثم هى جوار فى فلكها ، وفى حال غيبوبتها ، يقال لها " كنس " ، من قول العرب . أوى الظبى إلى كناسه : إذا تغيب فيه .وفى رواية عن ابن عباس : أنها الظباء ، وفى أخرى أنها بقر الوحش حين تكنس إلى الظل أو إلى بيوتها .وتوقف ابن جرير فى قوله : ( بالخنس . الجوار الكنس ) هل هى النجوم أو الظباء وبقر الوحش قال : ويحتمل أن يكون الجميع مرادا . .
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ
📘 وقوله : ( والليل إِذَا عَسْعَسَ . والصبح إِذَا تَنَفَّسَ ) معطوف على ما قبله . وداخل فى حيز القسم .وقوله ( عسعس ) أدبر ظلامه أو أقبل ، فهذا اللفظ من الألفاظ التى تستعمل فى الشئ وضده ، إلا أن المناسب هنا يكون المراد به إقبال الظلام ، لمقابلته بالصبح إذا تنفس ، أى : أضاء وأسفر وتبلج .وقيل : العسعسة : رقة الظلام وذلك فى طرفى النهار ، فهو من المشترك المعنوى ، وليس من الأضداد ، أى : أقبل وأدبر معاً . أى : وحق النجوم التى تغيب بالنهار ، وتجرى فى حال استتارها . . وحق الليل إذا أقبل بظلامه ، والصبح إذا أقبل بضيائه .
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ
📘 وقوله : ( والليل إِذَا عَسْعَسَ . والصبح إِذَا تَنَفَّسَ ) معطوف على ما قبله . وداخل فى حيز القسم .وقوله ( عسعس ) أدبر ظلامه أو أقبل ، فهذا اللفظ من الألفاظ التى تستعمل فى الشئ وضده ، إلا أن المناسب هنا يكون المراد به إقبال الظلام ، لمقابلته بالصبح إذا تنفس ، أى : أضاء وأسفر وتبلج .وقيل : العسعسة : رقة الظلام وذلك فى طرفى النهار ، فهو من المشترك المعنوى ، وليس من الأضداد ، أى : أقبل وأدبر معاً . أى : وحق النجوم التى تغيب بالنهار ، وتجرى فى حال استتارها . . وحق الليل إذا أقبل بظلامه ، والصبح إذا أقبل بضيائه .
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
📘 ( إنه ) أى : القرآن الكريم ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) وهو جبريل - عليه السلام - الذى أرسله ربه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لكى يبلغه وحيه - تعالى - .وأقسم الله - تعالى - بهذه الأشياء ، لأنها فى حركاتها المختلفة ، من ظهور وأفول ، ومن إقبال وإدبار . . تدل دلالة ظاهرة على قدرة الله - تعالى - ، وعلى بديع صنعه فى خلقه .ونسب - سبحانه - القول إلى الرسول - وهو جبريل - لأنه هو الواسطة فى تبليغ الوحى إلى النبى صلى الله عليه وسلم .ثم وصف - سبحانه - أمين وحيه جبريل بخمس صفات : أولها : قوله ( كريم ) أى : ملك شريف ، حسن الخلق ، بهى المنظر .
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ
📘 ( وَإِذَا النجوم انكدرت ) أى : تناثرت وتساقطت وانقلبت هيئتها من اللمعان والظهور ، إلى الميل نحو الظلام والسواد .أى : وإذا النجوم تساقطت وانقضت . يقال : انكدر البازى ، إذا نزل على فريسته بسرعة ، وانكدر الأعداء على القوم إذا جاءوا أرسالا متتابعين فانصبوا عليهم .ويصح أن يكون المعنى : وإذا النجوم تغيرت وانطمس نورها ، وزال لمعانها ، من قولهم : كدرت الماء فانكدر ، إذا خلط به ما يجعله مائلا إلى السواد والغُبْرة .
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ
📘 ثانيها : ( ذِي قُوَّةٍ ) أى : صاحب قوة وبطش .كما قال - تعالى - : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى . . . ) ثالثها : ( عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ ) أى : إن من صفات جبريل - عليه السلام - أنه ذو مكانة رفيعة ، ومنزلة عظيمة عند الله - تعالى - .
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
📘 رابعها : قوله - تعالى - ( مطاع ) أى يطيعه من معه من الملائكة المقربين .وخامسها : قوله : - سبحانه - ( ثَمَّ أَمِينٍ ) و " ثم " بفتح الثاء - ظرف مكان للبعيد . والعامل ما قبله أو ما بعده ، والمعنى : أنه مطاع فى السموات عند ذى العرش ، أو أمين فيها ، أى : يؤدى ما كلفه الله - تعالى - به بدون أية زيادة أو نقص .قال الشوكانى : ومن قال إن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى : أنه ذو قوة على تبليغ الرسالة إلى الأمة ، مطاع يطيعه من أطاع الله ، أمين على الوحى .
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ
📘 وقوله : ( وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ) : الخطاب لأهل مكة ، والمراد بصاحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .والمعنى : وما محمد يا أهل مكة بمجنون ، وذكره بوصف الصحبة للإِشعار بأنهم عالمون بأمره ، وأنه ليس مما يرمونه من الجنون وغيره فى شئ ، وأنهم افتروا عليه ذلك ، عن علم منهم ، بأنه عقل الناس وأكملهم ، وهذه الجملة داخلة فى جواب القسم .فأقسم - سبحانه - بأن القرآن نزل به جبريل ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس كما يقولون من أنه مجنون ، وأنه يأتى القرآن من جهة نفسه .فالمقصود بالآية نفى الجنون عن النبى صلى الله عليه وسلم بأكمل وجه ، وتوبيخ أعدائه الذين اتهموه بتهمة هم أول من يعلم - عن طريق مشاهدتهم لاستقامة تفكيره ، وسمو أخلاقه - أنه أكمل الناس عقلا وأقومهم سلوكا .
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ
📘 وقوله - سبحانه - : ( وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين ) معطوف - أيضا - على قوله - تعالى - قبل ذلك : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) فهو من جملة المقسم عليه .والمقصود بهذه الرؤية : رؤية النبى صلى الله عليه وسلم لجبريل - عليه السلام - لأول مرة ، على الهيئة التى خلقه الله عليها ، عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعبد فى غار حراء ، وكان صلى الله عليه وسلم قد سأل جبريل أن يريه نفسه ، على الهيئة التى خلقه الله - تعالى - عليها .والأفق : هو الفضاء الواسع الذى يبدو للعين ما بين السماء والأرض .والمبين : وصف للأفق ، أى : بالأفق الواضح البين ، الذى لا تشتبه معه المرئيات .والمعنى : ووالله لقد رأى صاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم جبريل ، بصورته التى خلقه الله عليها ، بالأفق الواضح البين ، الذى لا تلتبس فيه المرئيات ، ولا مجال فيه للأوهام والتخيلات .والمقصود من الآية الكريمة الرد على المشركين الذين كانوا إذا أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه رأى جبريل . كذبوه واستهزءوا به ، وتأكيد أن هذه الرؤية كانت حقيقة واقعة ، لا مجال معها للتشكيك أو اللبس .قال الإِمام ابن كثير : وقوله - تعالى - ( وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين ) يعنى : ولقد رأى محمد جبريل الذى يأتيه بالرسالة عن الله - عز وجل - وعلى الصورة التى خلقه الله عليها ، له ستمائه جناح ( بالأفق المبين ) أى : البين ، وهى الرؤية الأولى التى كانت بالبطحاء - أى بالمكان المجاور لغار حراء . وهى المذكورة فى قوله - تعالى - : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى . ذُو مِرَّةٍ فاستوى . وَهُوَ بالأفق الأعلى . ثُمَّ دَنَا فتدلى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى . فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى . . . )
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ
📘 والضمير فى قوله - تعالى - : ( وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ ) يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعبر عنه قبل ذلك ( بصاحبكم ) .والغيب : ما غاب عن مدارك الناس وحواسهم ، لأن الله - تعالى - قد استأثر بعلمه .والضنين : هو البخيل بالشئ ، مأخوذ من الضن - بالكسر والفتح - بمعنى البخل .قال الآلوسى : " وما هو " أى : رسول الله صلى الله عليه وسلم " على الغيب " أى : على ما يخبر به من الوحى إليه وغيره من الغيوب " بضنين " من الضن - بكسر الضاد وفتحها - بمعنى البخل ، أى : ببخيل ، أى : لا يبخل بالوحى ، ولا يقصر فى التعليم والتبليغ ، ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم ، على خلاف الكهنة فإنهم لا يطلعون غيرهم على ما يزعمون معرفته إلا بإعطائهم حلوانا .وقرأ ابن كثير والكسائى وأبو عمر ( بِضَنِينٍ ) - بالظاء - أى : وما هو على الغيب بمتهم ، من الظنة - بالكسر - بمعنى التهمة .ثم قال : ورجحت هذه القراءة ، لأنها أنسب بالمقام ، لاتهام الكفرة له صلى الله عليه وسلم بذلك ، ونفى التهمة ، أولى من نفى البخل .وهذا القول لا نوافق الآلوسى - رحمه الله - عليه ، لأن القراءة متى ثبتت عن النبى صلى الله عليه وسلم لا يجوز التفاضل بينهما . والمعنى عليها واضح ولا تعارض فيه .أى : وما محمد صلى الله عليه وسلم ببخيل بتبليغ الوحى ، بل هو مبلغ له على أكمل وجه وأتمه ، وما هو - أيضا - بمتهم فيما يبلغه عن ربه ، لأنه صلى الله عليه وسلم سيد أهل الصدق والأمانة .
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ
📘 وقوله - سبحانه - ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) معطوف - أيضا - على قوله - تعالى - ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) والضمير هنا يعود على القرآن الكريم .أى : وليس هذا القرآن الكريم ، المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقول شيطان مرجوم مسترق للسمع . . وإنما هو كلام الله - تعالى - الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .وهذا رد آخر على المشركين الذين زعموا أن القرآن الكريم إنما هو من باب الكهانة ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو كاهن ، تلقنه الشياطين هذا القرآن .
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ
📘 وقوله - سبحانه - : ( فَأيْنَ تَذْهَبُونَ ) جملة معترضة بين ما سبقها .
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ
📘 وبين قوله - تعالى - بعد ذلك ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) ، والمقصود فيها توبيخهم وتعجيزهم عن أن يأتوا ولو بحجة واحدة يدافعون بها عن أنفسهم .والفاء لتفريع هذا التعجيز والتوبيخ ، على الحجج السابقة ، المثبتة بأن هذا القرآن من عند الله - تعالى - وليس من عند غيره .و ( أين ) اسم استفهام عن المكان ، والاستفهام هنا للتعجيز والتقريع ، وهو منصوب بقوله : ( تذهبون ) .أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم ، فأى طريق تسلكون أوضح وأبين من هذا الطريق الذى أرشدناكم إليه؟ إنه لا طريق لكم سوى هذا الطريق الذى أرشدناكم إليه .قال صاحب الكشاف : قوله ( فَأيْنَ تَذْهَبُونَ ) استضلال لهم ، كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهابا فى بنيات الطريق - أى : فى الطريق المتشعبة عن الطريق الأصلى - أين تذهب؟ مثلث حالهم فى تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل .( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) أى : ما هذا القرآن الكريم ، إلا تذكير وإرشاد وهدايات للبشر جميعا .
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ
📘 وهذا الذكر العظيم إنما هو ( لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ) أى : هو نافع لمن شاء منكم - أيها الناس - أن يستقيم على طريق الحق ، وأن يلزم الرشاد ويترك الضلال .والجملة الكريمة بدل مما قبلها ، للإِشعار بأن الذين استجابوا لهدى القرآن قد شاءوا لأنفسهم الهداية والاستقامة .فالمقصود بهذه الجملة : الثناء عليهم ، والتنويه بشأنهم .
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
📘 ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، ببيان أن مشيئته - تعالى - هى النافذة ، فقال : ( وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين ) .أى : وما تشاءون الاستقامة أو غيرها ، إلا إذا شاءها وأرادها الله - تعالى - رب العالمين ، إذ مشيئة الله - تعالى - هى النافذة ، أما مشيئتكم فلا وزن لها إلا إذا أذنت بها مشيئته - تعالى - .فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن كل مشيئة لا قيمة لها ولا وزن . . إلا إذا أيدتها مشيئة الله - عز وجل - .وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ
📘 ( وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ ) أى : اقتلعت من أماكنها فسارت فى الفضاء بقدرة الله - تعالى - . قال - تعالى - : ( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) وقال - سبحانه - : ( وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً ).
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ
📘 ( وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ ) والعشار : جمع عُشَراء وكنُفَسَاء ، وهى الناقة التى أتى على حملها عشرة أشهر . وتسمى بهذا الاسم إلى أن تضع عليها حتى فى أشد حالات الخوف .ومعنى " عطلت " : أهملت وتركت بدون راع يحميها ، أو يلتفت إليها ، وهذا تصوير بديع لما يصيب الناس من أهوال ، تجعلهم لا يلتفتون إلى أعز أموالهم لديهم .أى : وإذا النوق العشار - التى هى أغلى الأموال - عطلت ، أى تركت دون أن يلتفت إليها أحد . لانشغال كل إنسان بنفسه .وقيل : المراد بالعشار : السحب المحملة بالأمطار . أى : وإذا السحب الحاملة للأمطار قد عطلت عن نزول المطر منها ، وصارت خالية من الماء الذى يحيى الأرض بعد موتها .قال القرطبى ما ملخصه : ( وَإِذَا العشار عُطِّلَت ) أى : النوق الحوامل التى فى بطونها أولادها ، الواحدة عُشَراء . . وإنما خصت بالذكر ، لأنها أعز ماتكون عند العرب .. وهذا على وجه المثل . لأن فى القيامة لا تكون ناقة عشراء ، ولكن أراد به المثل ، أو هول يوم القيامة بحال ما لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه .وقيل : العشار : السحاب يعطل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر ، والعرب تشبه السحاب بالحامل .وقيل : الديار تعطل فلا تسكن . . والأول أشهر ، وعليه من ناس الأكثر .
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ
📘 ( وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ ) أى : وإذا الحيوانات المتوحشة - كالأسد والنمر وغيرهما .( حُشِرَتْ ) أى : جمعت من أماكنها المتفرقة ، وخرجت فى ذهول ، وتلاقت دون أن يعتدى بعضها على بعض ، مخالفة بذلك ما طبعت عليه من النفور والتقاتل .قال الآلوسى قوله : ( وَإِذَا الوحوش ) جمع وحش ، وهو حيوان البر الذى ليس فى طبعه التأنس ببنى آدم . . ( حُشِرَتْ ) أى : جمعت من كل جانب . وقيل : حشرت أى : أميتت . . وقيل : حشرت : بعثت للقصاص ، فيحشر كل شئ حتى الذباب .أخرج مسلم والترمذى عن أبى هريرة فى هذه الآية قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لتُؤدَّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء . . " .
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ
📘 ( وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ ) أى : امتلأت وفاض ماؤها واختلط عذبها بملحها ، وصارت بحرا واحداً ، مأخوذ من قولهم : سجر الحوض ، إذا ملأه حتى فاض من جانبيه .ويصح أن يكون معنى " سجرت " : أحميت بالنار حتى تبخرت مياهها ، وظهرت النار فى مكانها ، من قولهم : سجر فلان التنور ، إذا ملأه بالحطب المعد للحرق .
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ
📘 ( وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ ) وقوله : ( زُوِّجَتْ ) من التزويج وهو جعل الشئ زوجا لغيره ، بعد أن كان كلاهما فرداً ، ويطلق الزوج - أيضاً - على الصنف والنوع ، كما فى قوله - تعالى - ( وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين ) أى : وإذا النفوس اقترنت كل واحدة منها ببدنها ، أو بمن يشبهها ، أو بعملها .قال الفخر الرازى قوله : ( وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ ) فيه وجوه : أحدها : قرنت الأرواح بالأجساد .ثانيها : يصيرون فيها - أى : يوم القيامة - ثلاثة أصناف ، كما قال - تعالى - ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ) ثالثها : أنه يضم إلى كل نصف من كان من طبقته ، فيضم الطائع إلى مثله . .
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ
📘 ثم قال - تعالى - : ( وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ . بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) ولفظ " الموءودة " من الوأد ، وهو دفن الطفلة الحية .قال صاحب الكشاف وأد يئد مقلوب من آد يؤود : إذا أثقل . قال - تعالى - ( وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ) لأنه إثقال بالتراب .فإن قلت : ما حملهم على وأد البنات؟ قلت : الخوف من لحوق العار بهم من أجلهن ، أو الخوف من الإِملاق .فإن قلت : فما معنى سؤال الموءودة عن ذنبها الذى قتلت به؟ وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟ قلت : سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها ، نحو التبكيت - لقوم عيسى - فى قوله - تعالى - لعيسى :( أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله ) أى : وإذا الموءودة سئلت ، على سبيل التبكيت والتقريع لمن قتلها ، بأى سبب من الأسباب قتلك قاتلك .
بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ
📘 ولا شك أنها لم ترتكب ما يوجب قتلها ، وإنما القصد من ذلك إلزام قائلها الحجة ، حتى يزداد افتضاحا على افتضاحه .وقد حكى القرآن فى كثير من الآيات ، ما كان يفعله أهل الجاهلية من قتلهم للبنات ، ومن ذلك قوله - تعالى - : ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ . يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ولم يكن الوأد معمولا به عند جميع قبائل العرب ، فقريش - مثلا - لم يعرف عنها ذلك وإنما عرف فى قبائل ربيعة ، وكنده ، وتميم . ولكنهم لما كانوا جميعا راضين عن هذا الفعل ، جاء الحكم عاما فى شأن أهل الجاهلية .