🕋 تفسير سورة القدر
(Al-Qadr) • المصدر: AR-TAFSIR-AL-WASIT
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
📘 الضمير المنصوب فى قوله - تعالى - ( أَنزَلْنَاهُ ) يعود إلى القرآن الكريم ، وفى الإِتيان بهذا الضمير للقرآن ، مع أنه لم يجر له ذكر ، تنويه بشأنه ، وإيذان بشهره أمره . حتى إنه ليُسْتَغْنَى عن التصريح به ، لحضوره فى أذهان المسلمين .والمراد بإنزاله : ابتداء نزوله على النبى صلى الله عليه وسلم ، لأنه من المعروف أن القرآن الكريم ، قد نزل على النبى صلى الله عليه سولم منجما ، فى مدة ثلاث وعشرين سنة تقريبا .ويصح أن يكون المراد بأنزلناه ، أى : أنزلناه جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ثم نزل بعد ذلك منجما على النبى صلى الله عليه وسلم .قال الإِمام ابن كثير : قال ابن عباس وغيره : أنزل الله - تعالى - القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع ، فى ثلاث وعشرين سنة ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم .والقَدْر الذى أضيفت إليه الليلة ، بمعنى الشرف والعظمة ، مأخوذ من قولهم : لفلان قدر عند فلان ، أى : له منزلة رفيعة ، وشرف عظيم ، فسميت هذه الليلة بذلك ، لعظم قدرها وشرفها ، إذ هى الليلة التى نزل فيها قرآن ذو قدر ، بواسطة ملك ذى قدر ، على رسول ذى قدر ، لأجل إكرام أمه ذات قدر ، هذه الأمة يزداد قدرها وثوابها عند الله - تعالى - إذا ما أحيوا تلك الليلة بالعبادات والطاعات .
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ
📘 ويصح أن يكون المراد بالقدر هنا : التقدير ، لأن الله - تعالى - يقدر فيها ما يشاء تقديره بعباده ، إلا أن القول الأول أظهر ، لأن قوله - سبحانه - بعد ذلك : ( وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر ) يفيد التعظيم والتفخيم .أى : إنا ابتدأنا بقدرتنا وحكمتنا ، إنزال هذا القرآن العظيم ، على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فى ليلة القدر ، التى لها ما لها عندنا من قدر وشرف وعظم . . لأن للطاعات فيها قدرا كبيرا ، ثوابا جزيلا .وليلة القدر هذه هى الليلة التى قال الله - تعالى - فى شأنها فى سورة الدخان : ( إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ . فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ . أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ . رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم ) وهذه الليلة هى من ليالى شهر رمضان ، بدليل قوله - تعالى - : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان ) قال بعض العلماء : ومن تسديد ترتيب المصحف ، أن سورة القدر وضعت عقب سورة العلق ، مع أنها أقل عددَ آياتٍ من سورة البينة وسور بعدها ، وكأن ذلك إيماء إلى أن الضمير فى ( أنزلناه ) يعود إلى القرآن ، الذى ابتدئ نزوله بسورة العلق .وقال صاحب الكشاف : عظم - سبحانه - القرآن من ثلاثة أوجه : أحدها : أن أسند إنزاله إليه ، وجعله مختصا به دون غيره ، والثانى : أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر ، شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه ، والثالث : الرفع من مقدار الوقت الذى أنزل فيه .روى أنه جملة واحدة فى ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، وأملاه جبريل على السفرة ثم كان ينزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما فى ثلاث وعشرين سنة .وعن الشعبى : المعنى أنا ابتدأنا إنزاله فى ليلة القدر . .وقوله - تعالى - : ( وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر ) تنويه آخر بشرف هذه الليلة ، وتفخيم لشأنها ، حتى لكأن عظمتها أكبر من أن تحيط بها الكلمات والألفاظ .أى : وما الذى يدريك بمقدار عظمتها وعلو قدرها ، إن الذى يعلم مقدار شرفها هو الله - تعالى - علام الغيوب .
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
📘 ثم - بين - سبحانه - مظاهر فضلها فقال : ( لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) أى : ليلة القدر أفضل من ألف شهر ، بسبب ما أنزل فيها من قرآن كريم يهدى للتى هى أقوم . ويخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وبسبب أن العباد فيها أكثر ثواباً ، وأعظم فضلا من العبادة فى أشهر كثيرة ليس فيها ليلة القدر .والعمل القليل قد يفضل العمل الكثير ، باعتبار الزمان والمكان ، وإخلاص النية ، وحسن الأداء ، ولله - تعالى - أن يخص بعض الأزمنة والأمكنة والأشخاص بفضائل متميزة .والتحديد بألف شهر يمكن أن يكون مقصودا . ويمكن أن يراد منه التكثير . وأن المراد أن أقل عدد تفضله هذه الليلة هو هذا العدد . فيكون المعنى : أن هذه الليلة تفضل الدهر كله .
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ
📘 ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك مزية أخرى لهذه الليلة المباركة فقال : ( تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) .أى : ومن مزايا وفضائل هذه الليلة أيضا ، أن الملائكة - وعلى رأسهم الروح الأمين جبريل - ينزلون فيها أفواجا إلى الأرض ، بأمره - تعالى - وإذنه ، وهم جميعا إنما ينزلونمن أجل أمر من الأمور التى يريد إبلاغها إلى عباده ، وأصل " تنزل " تتنزل ، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا ، ونزول الملائكة إلى الأرض ، من أجل نشر البركات التى تحفهم ، فنزولهم فى تلك الليلة يدل على شرفها ، وعلى رحمة الله - تعالى - بعباده .والروح : هو جبريل ، وذكره بخصوصه بعد ذكر الملائكة ، من باب ذكر الخاص بعد العام ، لمزيد الفضل ، واختصاصه بأمور لا يشاركه فيها غيره .وقوله - سبحانه - ( بِإِذْنِ رَبِّهِم ) متعلق بقوله : ( تنزل ) ، والباء للسببية ، أى : يتنزلون بسبب إذن ربهم لهم فى النزول .قال الجمل ما ملخصه . وقوله : ( مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) يجوز فى " من " وجهان : أحدهما أنها بمعنى اللام ، وتتعلق بتنزل ، تنزل من أجل كل أمر قضى إلى العام القابل .والثانى : أنها بمعنى الباء ، أى : تنزل بكل أمر قضاه الله - تعالى - فيها من موت وحياة ورزق .وليس المراد أن تقدير الله لا يحدث إلا فى تلك الليلة بل المراد إظهار تلك المقادير لملائكته .
سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ
📘 وقوله - تعالى - : ( سَلاَمٌ هِيَ حتى مَطْلَعِ الفجر ) بيان لمزية ثالثة من مزايا هذه الليلة ، وقوله ( سَلاَمٌ ) مصدر بمعنى السلامة ، وهو خبر مقدم ، و ( هى ) مبتدأ مؤخر ، وإنما قدم الخبر تعجيلا للمسّرة ، وقد أخبر عن هذه الليلة بالمصدر على سبيل المبالغة ، أو على سبيل تأويل المصدر باسم الفاعل ، أو على تقدير مضاف . . والمراد بمطلع الفجر : طلوعه وبزوغه .أى : هذه الليلة يظلها ويشملها السلام المستمر ، والأمان الدائم ، لكل مؤمن يحييها فى طاعة الله - تعالى - إلى أن يطلع الفجر ، أو هى ذات سلامة حتى مطلع الفجر ، أو هى سالمة من كل أذى وسوء لكل مؤمن ومؤمنة حتى طلوع الفجر .هذا وقد أفاض العلماء فى الحديث عن فضائل ليلة القدر ، وعن وقتها . وعن خصائصها . . وقد لخص الإِمام القرطبى ذلك تلخيصا حسناً فقال : وهنا ثلاث مسائل :الأولى : فى تعيين ليلة القدر . . والذى عليه المعظم أنها ليلة سبع وعشرين . . والجمهور على أنها فى كل عام من رمضان . . وقيل : أخفاها - سبحانه - فى جميع شهر رمضان ، ليجتهدوا فى العمل والعبادة طمعا فى إدراكها .الثانية : فى علاماتها : ومنها أن تطلع الشمس فى صبيحتها بيضاء لاشعاع لها .الثالثة : فى فضائلها . . وحسبك قوله - تعالى - ( لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) وقوله : ( تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا ) وفى الصحيحين " من قام ليلة القدر إيماناً واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه . . " .نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من المنتفعين بهذه الليلة المباركة .وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .