slot qris slot gacor terbaru slot gacor terbaik slot dana link slot gacor slot deposit qris slot pulsa slot gacor situs slot gacor slot deposit qris slot qris bokep indo xhamster/a> jalalive/a>
| uswah-academy
WhatsApp Book A Free Trial
القائمة

🕋 تفسير سورة البقرة

(Al-Baqarah) • المصدر: AR-TAFSIR-IBN-KATHIR

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ الم

📘 سورة البقرة "ذكر ما ورد في فضلها" قال الإمام أحمد حدثنا عارم حدثنا معتمر عن أبيه عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا واستخرجت "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" من تحت العرش فوصلت بها أو فوصلت بسورة البقرة ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له واقرءوها على موتاكم" انفرد به أحمد وقد رواه أحمد أيضا عن عارم عن عبدالله بن المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان - وليس بالنهدي - عن أبيه عن معقل بن يسار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقرءوها على موتاكم" يعني يس فقد تبينا بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى. وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود والنسائي وابن ماجه وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير وفيه ضعف عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي" وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تجعلوا بيوتكم قبورا فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان" وقال الترمذي حسن صحيح وقال أبو عبيد القاسم بن سلام حدثني ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه" سنان بن سعد ويقال بالعكس وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره. وقال أبو عبيد حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن عبدالله ـ يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال إن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع فيه سورة البقرة ورواه النسائي في اليوم والليلة وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ثم قال الحاكم. صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن كامل حدثنا أبو إسماعيل الترمذي حدثنا أيوب بن بلال حدثني أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن محمد بن عجلان عن أبي إسحاق عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ألفين أحدكم يضع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى ويدع البقرة يقرؤها فإن الشيطان ينفر من البيت تقرأ فيه سورة البقرة وإن أصفر البيوت الجوف الصفر من كتاب الله" وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن نصر عن أيوب بن سليمان به. وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط وقال إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة وإن لكل شيء لبابا وإن لباب القرآن المفصل. وروى أيضا من طريق الشعبي قال: قال عبدالله بن مسعود من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخرها وفي رواية لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان. ولا شيء يكرهه ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق. وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن البقرة وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله شيطان ثلاثة أيام" رواه أبو القاسم الطبراني وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه وابن مردويه من حديث الأزرق بن علي حدثنا بن إبراهيم حدثنا خالد بن سعيد المدني عن أبي حازم عن سهل به. وعند ابن حبان خالد بن سعيد المديني. وقد روى الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عبدالحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن عطاء مولى أبي أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد فاستقرأهم فاستقرأ كل واحد منهم ما معه من القرآن فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال: ما معك يا فلان؟ فقال: معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال: أمعك سورة البقرة؟ قال نعم قال: اذهب فأنت أميرهم" فقال رجل من أشرافهم والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت أن لا أقوم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تعلموا القرآن واقرءوه فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأ وقام به كمثل جراب محشو مسكا يفوح ريحه في كل مكان ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكي على مسك" هذا لفظ رواية الترمذي ثم قال هذا حديث حسن ثم رواه من حديث الليث عن سعيد عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلا فالله أعلم. قال البخاري وقال الليث حدثني يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أسيد بن حضير رصي الله عنه قال بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة - وفرسه مربوطة عنده - إذ جالت الفرس فسكت فسكنت فقرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف وكان ابنه يحيى قريبا منها- فأشفق أن تصيبه فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال "اقرأ يا ابن حضير" قال قد أشفقت يا رسول الله على يحيى وكان منها قريبا فرفعت رأسي وانصرفت إليه فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها قال "وتدري ما ذاك؟ " قال لا قال "تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم" وهكذا رواه الإمام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن عن عبدالله بن صالح ويحيى بن بكير عن الليث به. وقد رُوي من وجه آخر عن أسيد بن حضير كما تقدم والله أعلم. وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه وذلك فيما رواه أبو عبيد حدثنا عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدثوه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له ألم تر ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح قال "فلعله قرأ سورة البقرة" قال فسألت ثابتا فقال قرأت سورة البقرة وهذا إسناد جيد إلا أن فيه إبهاما ثم هو مرسل والله أعلم. "ذكر ما ورد في فضلها مع آل عمران" قال الإمام أحمد حدثنا أبو نعيم حدثنا بشر بن مهاجر حدثني عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول "تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة" قال ثم سكت ساعة ثم قال "تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول له هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك فيقول أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا فيقولان بما كسينا هذا فيقال بأخذ ولدكما القرآن ثم يقال اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلا" وروى ابن ماجه من حديث بشر بن المهاجر بعضه وهذا إسناد حسن على شرط مسلم فإن بشرا هذا خرج له مسلم ووثقه ابن معين وقال النسائي ما به بأس إلا أن الإمام أحمد قال فيه هو منكر الحديث قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تأتي بالعجب وقال البخاري يخالف في بعض حديثه وقال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ولا يحتج به وقال ابن عدي روى ما لا يتابع عليه وقال الدارقطني ليس بالقوي "قلت" ولكن لبعضه شواهد فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي قال الإمام أحمد حدثنا عبدالملك بن عمر حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اقرؤوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة اقرءوا الزهراوان البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان طير صواف يحاجان عن أهلهما يوم القيامة ثم قال اقرؤا البقرة فإن أخدها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة" وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام ممطور الحبشي عن أبي أمامة صدى بن عجلان الباهلي به. الزهراوان: المنيرتان والغياية: ما أظلك من فوقك والفرق: القطعة من الشيء والصواف المصطفة المتضامة والبطلة السحرة ومعنى لا تستطيعها أي لا يمكنهم حفظها وقيل لا تستطيع النفوذ في قارئها والله أعلم. ومن ذلك حديث النواس بن سمعان قال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن عبدربه حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر عن الوليد بن عبدالرحمن الجرشي عن جبير بن نفير قال: سمعت النواس بن سمعان الكلابي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمهم سورة البقرة وآل عمران" وضرب لهما رسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال "كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما" ورواه مسلم عن إسحاق بن منصور عن يزيد بن عبدربه به والترمذي من حديث الوليد بن عبدالرحمن الجرشي به وقال حسن غريب وقال أبو عبيد حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن عبدالملك بن عمير قال: قال حماد أحسبه عن أبي منيب عن عمه أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران فلما قضى صلاته قال له كعب: أقرأت البقرة وآل عمران؟ قال نعم قال: فوالذي نفسي بيده إن فيهما اسم الله الذي إذا دعى به استجاب. قال فأخبرني به قال لا والله لا أخبرك به ولو أخبرتك به لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت وحدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن سليم بن عامر أنه سمع أبا أمامة يقول إن أخا لكم أُري في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وعر طويل وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان يهتفان هل فيكم قارئ يقرأ سورة البقرة؟ وهل فيكم قارئ يقرأ سورة آل عمران؟ قال فإذا قال الرجل نعم دنتا منه بأعذاقهما حتى يتعلق بهما فيخطران به الجبل: وحدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن أبي عمران أنه سمع أم الدرداء تقول إن رجلا ممن قرأ القرآن أغار على جار له فقتله وإنه أقيد به فقتل فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة ثم إن آل عمران انسلت منه وأقامت البقرة جمعة فقيل لها "ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد" قال فخرجت كأنها السحابة العظيمة قال أبو عبيد أراه يعني أنهما كانتا معه في قبره يدفعان عنه ويؤنسانه فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن. وقال أيضا حدثنا أبو مسهر الغساني عن سعيد بن عبدالعزيز التنوخي أن يزيد بن الأسود الجرشي كان يحدث أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم برئ من النفاق حتى يمسي ومن قرأهما من ليلة برئ من النفاق حتى يصبح قال فكان يقرؤهما كل يوم وليلة سوى جزئه. وحدثنا يزيد عن ورقاء بن إياس عن سعيد بن جبير قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان - أو كتب - من القانتين. فيه انقطاع ولكن ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ بهما في ركعة واحدة. "ذكر ما ورد في فضل السبع الطول" قال أبو عبيد حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي عن أحمد بن شعيب عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت السبع الطول مكان التوراة وأعطيت المئين مكان الإنجيل وأعطيت المثاني مكان الزبور وفضلت بالمفصل" هذا حديث غريب وسعيد بن أبي بشير فيه لين وقد رواه أبو عبيد عن عبدالله بن صالح عن الليث عن سعيد بن أبي هلال قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكره والله أعلم ثم قال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبدالله بن حنطب عن حبيب بن هند الأسلمي. عن عروة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أخذ السبع فهو حبر" وهذا أيضا غريب وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي وروى عنه عمرو بن عمرو وعبدالله بن أبي بكرة وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحا فالله أعلم. وقد رواه الإمام أحمد عن سليمان بن داود وحسين كلاهما عن إسماعيل بن جعفر به ورواه أيضا عن أبي سعيد عن سليمان بن بلال عن حبيب بن هند عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أخذ السبع الأول من القرآن فهو حبر" قال أحمد: وحدثنا حسين حدثنا ابن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال عبدالله بن أحمد وهذا أرى فيه عن أبيه عن الأعرج ولكن كذا كان في الكتاب فلا أدري أغفله أبي أو كذا هو مرسل وروى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سنا لحفظه سورة البقرة وقال له "اذهب فأنت أميرهم" وصححه الترمذي ثم قال أبو عبيد: حدثنا هشيم أنا أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى "ولقد آتيناك سبعا من المثاني" قال هي السبع الطول البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس قال وقال مجاهد هي السبع الطول وهكذا قال مكحول وعطية بن قيس وأبو محمد الفارسي وشداد بن أوس ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك وفي تعدادها وإن يونس هي السابعة. "فصل" والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف وهي من أوائل ما نزل بها لكن قوله تعالى فيه "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" الآية يقال إنها آخر ما نزل من القرآن ويحتمل أن تكون منها وكذلك آيات الربا من آخر ما نزل وكان خالد بن معدان يسمي البقرة فسطاط القرآن قال بعض العلماء وهي مشتملة على ألف خبر وألف أمر وألف نهي وقال العادون آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وحروفها خمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرف فالله أعلم. قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس نزلت بالمدينة سورة البقرة وقال خصيف عن مجاهد عن عبدالله بن الزبير قال: نزلت بالمدينة سورة البقرة وقال الواقدي حدثني الضحاك بن عثمان عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال نزلت البقرة بالمدينة وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء والمفسرين ولا خلاف فيه. وقال ابن مردويه حدثنا محمد بن معمر حدثنا الحسن بن علي بن الوليد الفارسي حدثنا خلف بن هشام وحدثنا عيسى بن ميمون عن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة والتي يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن كله" هذا حديث غريب لا يصح رفعه وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص وهو ضعيف الرواية لا يحتج به وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن الوادي فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة أخرجاه وروى ابن مردويه من حديث شعبة عن عقيل بن طلحة عن عتبة بن مرثد قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرا فقال "يا أصحاب سورة البقرة" وأظن هذا كان يوم حنين يوم ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم " يا أصحاب الشجرة" يعني أهل بيعة الرضوان وفي رواية "يا أصحاب سورة البقرة" لينشطهم بذلك فجعلوا يقبلون من كل وجه وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة جعل الصحابة يفرون لكثافة جيش بني حنيفة فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون يا أصحاب سورة البقرة حتى فتح الله عليهم رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين. بسم الله الرحمن الرحيم قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسـره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان. ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور. قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم السجدة و "هل أتى على الإنسان" وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: الم وحم والمص وص. فواتح افتتح الله بها القرآن وكذا قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال الم اسم من أسماء القرآن وهكذا وقال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السور فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم. وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى فقال عنها في فواتح السور من أسماء الله تعالى وكذلك قال سالم بن عبدالله وإسماعيل بن عبدالرحمن السدي الكبير وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال الم اسم من أسماء الله الأعظم. هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال سألت السدي عن حم وطس والم فقال قال ابن عباس هي اسم الله الأعظم وقال ابن جرير وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو النعمان حدثنا شعبة عن إسماعيل السدي عن مرة الهمذاني قال: قال عبدالله فذكر نحوه. وحُكي مثله عن علي وابن عباس وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال الم قسم. وروينا أيضا من حديث شريك بن عبدالله بن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس: الم قال أنا الله أعلم وكذا قال سعيد بن جبير وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمذاني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الم قال أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى. قال وأبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى الم قال هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفا دارت فيها الألسن كلها ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلألائه ليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. قال عيسى ابن مريم عليه السلام وعجب: فقال أعجب أنهم يظنون بأسمائه ويعيشون في رزقه فكيف يكفرون به فالألف مفتاح الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد فالألف ألآء الله واللام لطف الله والميم مجد الله والألف سنة واللام ثلاثون سنة والميم أربعون سنة. هذا لفظ ابن أبي حاتم ونحوه رواه ابن جرير ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر وأن الجمع ممكن فهي أسماء للسور ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه قال ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وعلى مدة وغير ذلك كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية لأن الكلمة الواحدة تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين كقوله تعالى "إنا وجدنا آباءنا على أمة" وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله كقوله تعالى "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين" وتطلق ويراد بها الجماعة كقوله تعالى "وجد عليه أمة من الناس يسقون" وقوله تعالى "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا" وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى "وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة" أي بعد حين على أصح القولين قال فكذلك هذا. هذا حاصل كلامه موجها ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا وعلى هذا وعلى هذا معا ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول ليس هذا موضع البحث فيها والله أعلم. ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف والمسألة مختلف فيها وليس فيها إجماع حتى يحكم به وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا كما قال الشاعر: قلنا قفي لنا فقالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف تعني وقفت. وقال الآخر: ما للظليم عال كيف لايـ ينقد عنه جلده إذا يـ فقال ابن جرير كأنه أراد أن يقول إذا يفعل كذا وكذا فاكتفى بالياء من يفعل وقال الآخر: بالخير خيرات وان شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تـ يقول وإن شرا فشرا ولا أريد الشر إلا أن تشاء فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام والله أعلم. قال القرطبي وفي الحديث "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" الحديث قال سفيان هو أن يقول في اقتل"اقـ" وقال خصيف عن مجاهد أنه قال فواتح السور كلها"ق وص وحم وطسم والر" وغير ذلك هجاء موضوع وقال بعض أهل العربية هي حروف من حروف المعجم استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفا كما يقول القائل ابني يكتب في - ا ب ت ث - أي في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها حكاه ابن جرير. قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا وهي - ال م ص ر ك ه ي ع ط س ح ق ن- يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر. وهي نصف الحروف عددا والمذكور منها أشرف من المتروك وبيان ذلك من صناعة التصريف. قال الزمخشري وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ومن الرخوة والشديدة ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال: فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله وههنا هاهنا لخص بعضهم في هذا المقام كلاما فقال: لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثا ولا سدى ومن قال من الجهلة إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلمة فقد أخطأ خطأ كبيرا فتعين أن لها معنى في نفس الأمر فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا "آمنا به كل من عند ربنا" ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين وإنما اختلفوا فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه وإلا فالوقف حتى يتبين هذا المقام. المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها فقال بعضهم إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور حكاه ابن جرير وهذا ضعيف لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة وقال آخرون بل ابتدئ بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلا عليهم المؤلف منه حكاه ابن جرير أيضا وهو ضعيف أيضا لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها بل غالبها ليس كذلك ولو كـان كذلك أيضا لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطابا للمشركين فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه. وقال آخرون بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية. قال الزمخشري ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي بالصريح في أماكن قال وجاء منها على حرف واحد كقوله - ص ن ق- وحرفين مثل "حم" وثلاثة مثل "الم" وأربعة مثل "المر" و "المص" وخمسة مثل "كهيعص- و- حمعسق" لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك "قلت" ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته وهذا معلوم بالاستقراء وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ولهذا يقول تعالى "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه" "الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه" "المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه" "الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم" "الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين" "حم تنزيل من الرحمن الرحيم" "حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم" وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله أعلم. وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبدالله بن رباب قال مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه" فأتى أخاه بن أخطب في رجال من اليهود فقال تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه" فقال أنت سمعته قال نعم قال فمشى حي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ألم يذكر أنك تتلوا فيما أنزل الله عليك "الم ذلك الكتاب"؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بلى" فقالوا جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال "نعم" قالوا لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد هل مع هذا غيره فقال "نعم" قال ما ذاك؟ قال "المص" قال هذا أثقل وأطول الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال "نعم" قال ما ذاك؟ قال "الر" قال هذا أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال "نعم" قال ماذا قال "المر" قال هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون ومائتان ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال قوموا عنه ثم قال أبو ياسر لأخيه حي بن أخطب ولمن معه من الأحبار ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع سنين؟ فقالوا لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات" فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو ممن لا يحتج بما انفرد به ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم والله أعلم.

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ

📘 قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية "في قلوبهم مرض" قال شك فزادهم الله مرضا قال شكا. وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قلوبهم مرض قال شك. وكذلك قال مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة. وعن عكرمة وطاوس في قلوبهم مرض يعني الرياء. وقال الضحاك عن ابن عباس في قلوبهم مرض قال نفاق فزادهم الله مرضا قال نفاقا وهذا كالأول. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في قلوبهم مرض قال هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد وهم المنافقون والمرض الشك الذي دخلهم في الإسلام فزادهم الله مرضا قال زادهم رجسا وقرأ "فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادهم رجسا إلى رجسهم" قال شرا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم وهذا الذي قاله عبدالرحمن رحمه الله حسن وهو الجزاء من جنس العمل وكذلك قاله الأولون وهو نظير قوله تعالى أيضا "والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم" وقوله "بما كانوا يكذبون" وقرئ يكذبون وقد كانوا متصفين بهذا وهذا فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب يجمعون بين هذا وهذا. وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه "أكره أن يتحدث العرب أن محمدا يقتل أصحابه" ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله لهم وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون إن محمدا يقتل أصحابه. قال القرطبي وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة مع علمه بسوء اعتقادهم. قال ابن عطية وهي طريقة أصحاب مالك نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وعن ابن الماجشون. ومنها: ما قال مالك إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه قال القرطبي: وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه وإن اختلفوا في سائر الأحكام قال: ومنها ما قال الشافعي إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يجب ما قبله. ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل" ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهرا فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا وكونه كان خليط أهل الإيمان "ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله" الآية فهم يخالطونهم في بعض المحشر فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم "وحيل بينهم وبين ما يشتهون" ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث ومنها ما قاله بعضهم أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان يخاف من شرهم مع وجوده عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون قال مالك: المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم "قلت" وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا أو يتكرر منه ارتداده أم لا أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟ على أقوال متعددة موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام. "تنبيه" قول من قال كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقا في غزو تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحي الله إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها والله أعلم. فأما غير هؤلاء فقد قال الله تعالى "وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم" الآية وقال تعالى: "لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا" ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كان تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول" وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبدالله بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال "إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدا يقتل أصحابه" وفي رواية في الصحيح" إني خيرت فاخترت" وفي رواية "لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت".

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

📘 وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد إليهم في محمد - صلى الله عليه وسلم: والله ما عهد إلينا في محمد وما أخذ علينا ميثاقا أنزل الله تعالى "أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم" وقال الحسن البصري: في قوله "بل أكثرهم لا يؤمنون" قال نعم ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه يعاهدون اليوم وينقضون غدا. وقال السدي: لا يؤمنون بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: نبذه فريق منهم أي نقضه فريق منهم. وقال ابن جرير أصل النبذ الطرح والإلقاء ومنه سمى اللقيط منبوذا ومنه سمى النبيذ وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء. قال أبو الأسود الدؤلي: طرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا قلت فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره وقد أمروا فيها باتباعه وموأزرته ونصرته كما قال تعالى "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية.

وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

📘 قال ههنا "ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم" الآية أي طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم مما فيه البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهورهم أي تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه ولهذا أرادوا كيدا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر أروان وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له لبيد بن الأعصم لعنه الله وقبحه فأطلع الله على ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - وشفاه منه وأنقذه كما ثبت ذلك مبسوطا في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما سيأتي بيانه. قال السدي "ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم" قال: لما جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم - عارضوه بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن فذلك قوله "كأنهم لا يعلمون" وقال قتادة في قوله "كأنهم لا يعلمون" قال: إن القوم كانوا يعلمون ولكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به.

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ

📘 قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين" الآية وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه وقام الناس على الدين كما كان وإن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه وتوفي سليمان عليه السلام حدثان ذلك فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان وقالوا هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينا فأنزل الله تعالى "ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم" الآية واتبعوا الشهوات التي كانت تتلو الشياطين وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الأسم الأعظم وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل بها. قال: فأكفره جهال الناس وسبوه ووقف علماء الناس فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلمة بن جنادة السوائي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان عليه السلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من نسائه أعطى الجرادة وهي امرأته خاتمه فلما أراد الله أن يبتلي سليمان عليه السلام بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال هاتي خاتمي فأخذه ولبسه فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال فجاءها سليمان فقال لها هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان قال فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال فانطلقت الشياطين فتكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها وقرؤبوها على الناس وقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب قال: فبرئ الناس من سليمان وكفروه حتى بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فأنزل عليه "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن حصين بن عبدالرحمن عن عمران وهو ابن الحرث قال: بينما نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ جاء رجل فقال له من أين جئت قال من العراق قال من أيه؟ قال من الكوفة قال فما الخبر؟ قال تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم ففزع ثم قال ما تقول لا أبا لك؟ لو شعرنا ما نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه أما إني سأحدثكم عن ذلك إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها فإذا جرت منه وصدق كذب معها سبعين كذبة قال فتشربها قلوب الناس قال فأطلع الله عليها سليمان عليه السلام فدفنها تحت كرسيه فلما توفي سليمان عليه السلام قام شيطان الطريق فقال هل أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله؟ تحت الكرسي. فأخرجوه فقال هذا سحر فتناسخا الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق فأنزل الله عز وجل "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" الآية وروى الحاكم في مستدركه عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبدالسلام عن إسحق بن إبراهيم عن جرير به وقال السدي في قوله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" أي على عهد سليمان قال كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون فى الأرض من موت أو غيب أو أمر فيأتون الكهنة فيخبرونهم فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق وقال لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان وخلف من بعد ذلك خلف تمثل الشيطان في صورة إنسان ثم أتى نفرا من بني إسرائيل فقال لهم هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا قالوا نعم قال فاحفروا تحت الكرسي فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته فقالوا له: فادن فقال لا ولكنني ههنا في أيديكم فإن لم تجدوه فاقتلوني فحفروا فوجدوا تلك الكتب: فلما أخرجوها قال الشيطان إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ثم طار وذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب فلما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصموه بها فذلك حين يقول الله تعالى "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" وقال الربيع بن أنس إن اليهود سألوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - زمانا عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه فيخصمهم فلما رأوا ذلك قالوا هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه فأنزل الله عز وجل "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر" وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك فدفنوه تحت كرسي مجلس سليمان وكان عليه السلام لا يعلم الغيب فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس وقالوا هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسده الناس عليه فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد خرجوا وقد أدحض الله حجتهم. وقال مجاهد فى قوله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" قال كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها فأرسل سليمان عليه السلام إلى ما كتبوا من ذلك فلما توفي سليمان وجدته الشياطين وعلمته للناس وهو السحر وقال سعيد بن جبير: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا نعم قالوا فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه فاستثار به الإنس واستخرجوه وعملوا به فقال أهل الحجاز كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر فأنزل الله تعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" وقال محمد بن إسحق بن يسار: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام فكتبوا أصناف السحر من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا وكذا حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب ثم ختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان وكتبوا في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم. ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا فلما عثروا عليه قالوا والله ما كان ملك سليمان إلا بهذا فأفشوا السحر في الناس فتعلموه وعلموه فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله فلما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعده فيمن عد من المرسلين قال من كان بالمدينة من اليهود ألا تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبيا والله ما كان إلا ساحرا. وأنزل الله في ذلك من قولهم "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" الآية وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا حسين بن حجاج عن أبي بكر عن شهر بن حوشب قال لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان فكتبت من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا فكتبته وجعلت عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم. ثم دفنته تحت كرسيه فلما مات سليمان عليه السلام قام إبليس لعنه الله خطيبا فقال يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبيا إنما كان ساحرا فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرا هذا سحره بهذا تعبدنا وبهذا قهرنا فقال المؤمنون بل كان نبيا مؤمنا. فلما بعث الله النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - وذكر داود وسليمان فقالت اليهود انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء إنما كان ساحرا يركب الريح فأنزل الله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان" الآية وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني: حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت عمران بن جرير عن أبي مجلز قال أخذ سليمان عليه السلام من كل دابة عهدا فإذا أصيب رجل فسأله بذلك العهد خلى عنه فزاد الناس السجع والسحر فقالوا هذا يعمل به سليمان بن داود عليهما السلام فقال الله تعالى "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد حدثنا آدم حدثنا المسعودي عن زياد مولى ابن مصعب عن الحسن "واتبعوا ما تتلو الشياطين" قال ثلث الشعر وثلث السحر وثلث الكهانة وقال حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبدالله بن بشار الواسطي حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" وتبعته اليهود على ملكه وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفهم والله الهادي. وقوله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" أي واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان عداه بعلى لأنه تضمن تتلو تكذب وقال ابن جرير "على" ههنا بمعنى في أن تتلو في ملك سليمان ونقله عن ابن جريج وابن إسحق " قلت "والتضمن أحسن وأولى والله أعلم. وقول الحسن البصري رحمه الله وكان السحر قبل زمان سليمان بن داود - صحيح لا شك فيه لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده كما قال تعالى "ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى" الآية ثم ذكر القصة بعدها وفيها "وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة" وقال قوم صالح وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السلام لنبيهم صالح إنما "أنت من المسحرين" أي المسحورين على المشهور قوله تعالى "وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه" اختلف الناس في هذا المقام فذهب بعضهم إلى أن "ما" نافية أعني التي في قوله "وما أنزل على الملكين" قال القرطبي ما نافية ومعطوف في قوله "وما كفر سليمان" ثم قال "ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين" وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله وجعل قوله "هاروت وماروت" بدلا من الشياطين قال وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى "فإن كان له إخوة" أو لكونهما لهما أتباع أو ذكرا من بينهم لتمردهما تقدير الكلام عنده: يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. ثم قال وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله "وما أنزل على الملكين ببابل" الآية يقول لم ينزل الله السحر وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله "وما أنزل على الملكين" قال: ما أنزل الله عليهما السحر. قال ابن جرير فتأويل الآية على هذا "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" من السحر وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت فيكون قوله "ببابل هاروت وماروت" من المؤخر الذي معناه المقدم. قال: فإن قال لنا قائل كيف وجه تقديم ذلك قيل وجه تقديمه أن يقال "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" من السحر وما كفر سليمان وما أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل وهاروت وماروت فيكون معني بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر وأخبرهم أن السحر عن عمل الشياطين وأنها تعلم الناس ذلك ببابل وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس وردا عليهم. هذا لفظه بحروفه وقد قال ابن أبي حاتم حدثت عن عبيد الله بن موسى أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عطية "وما أنزل على الملكين" قال: ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر قال ابن أبي حاتم وأخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا يعلى يعني ابن أسد أخبرنا بكر يعني ابن مصعب أخبرنا الحسن بن أبي جعفر أن عبدالرحمن بن أبزى كان يقرؤها "وما أنزل على الملكين داود وسليمان" وقال أبو العالية لم ينزل عليهما السحر يقول علما الإيمان والكفر فالسحر من الكفر فهما ينهيان عنه أشد النهي رواه ابن أبي حاتم ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول وأن ما بمعنى الذي وأطال القول في ذلك وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختبارا لعباده وامتحانا بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك لأنهما امتثلا ما أمرا به وهذا الذي سلكه غريب جدا وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن كما زعمه ابن حزم وروى ابن أبي حزم بإسناده عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرؤها "وما أنزل على الملِكين" ويقول هما علجان من أهل بابل ووجه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق لا بمعنى الإيحاء في قوله تعالى "وما أنزل على الملكين" كما قال تعالى "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد" "وينزل لكم من السماء رزقا" وفي الحديث "ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء" وكما يقال "أنزل الله الخير والشر" وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والحسن البصري أنهم قرءوا "وما أنزل على الملِكين" بكسر اللام قال ابن أبزى وهما داود وسليمان قال القرطبي فعلى هذا تكون ما نافية أيضا وذهب آخرون إلى الوقف على قوله "يعلمون الناس السحر" وما نافية: قال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وسأله رجل عن قول الله "يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت" فقال الرجلان يعلمان الناس ما أنزل عليهما ويعلمان الناس ما لم ينزل عليهما فقال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت ثم روي عن يونس عن أنس بن عياض عن بعض أصحابه أن القاسم قال في هذه القصة لا أبالي أي ذلك كان إني آمنت به وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء وأنهما أنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده رحمه الله كما سنورده إن شاء الله وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا فيكون تخصيصا لهما فلا تعارض حينئذ كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق وفي قول إنه كان من الملائكة: لقوله تعالى "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى" إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله تعالى. وقد حكاه القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي. "ذكر الحديث الوارد في ذلك إن صح سنده ورفعه وبيان الكلام عليه" قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده أخبرنا يحيى بن بكير حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة أي رب "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون" قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال الله تعالى للملائكة هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان قالوا ربنا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك فقالا والله لا نشرك بالله شيئا أبدا فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تقتلا هذا الصبي فقالا لا والله لا نقتله أبدا فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تشربا هذا الخمر فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي فلما أفاقا قالت المرأة والله ما تركتما شيئا أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن عن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن بكير - به وهذا حديث غريب من هذا الوجه ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير هذا وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء وروي عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ونافع وعبدالله بن كعب بن مالك وروى عنه ابنه عبدالسلام وبكر بن مضر وزهير بن محمد وسعيد بن سلمة وعبدالله بن لهيعة وعمرو بن الحرث ويحيى بن أيوب وروى له أبو داود وابن ماجه وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ولم يحك شيئا من هذا ولا هذا فهو مستور الحال وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروي له متابع من وجه آخر عن نافع كما قال ابن مردويه حدثنا دملج بن أحمد حدثنا هشام بن علي بن هشام حدثنا عبدالله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة حدثنا موسى بن سرجس عن نافع عن ابن عمر سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فذكره بطوله وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله حدثنا القاسم أخبرنا الحسين وهو سنيد بن داود صاحب التفسير أخبرنا الفرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع قال سافرت مع ابن عمر فلما كان من آخر الليل قال يا نافع انظر طلعت الحمراء؟ قلت لا مرتين أو ثلاثا ثم قلت قد طلعت قال لا مرحبا بها ولا أهلا قلت سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع. قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن الملائكة قالت يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب قال إني ابتليتهم وعافيتكم قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك قال فاختاروا ملكين منكم قال فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت" وهذان أيضا غريبان جدا. وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبدالله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال عبدالرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب فقيل لهم اختاروا منكم اثنين فاختاروا هاروت وماروت فقال لهما إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول انزلا لا تشركا بي شيئا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر قال كعب فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه رواه ابن جرير من طريقين عن عبدالرزاق به ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام عن مؤمل عن سفيان الثوري به ورواه ابن جرير أيضا حدثني المثنى أخبرنا المعلى وهو ابن أسد أخبرنا عبدالعزيز بن المختار عن موسى بن عقبة حدثني سالم أنه سمع عبدالله يحدث عن كعب الأحبار فذكره فهذا أصح وأثبت إلى عبدالله بن عمر من الإسنادين المتقدمين وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع فدار الحديث ورجع إلى نقل الأحبار عن كتب بني إسرائيل والله أعلم. " ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين" قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا الحجاج أخبرنا حماد عن خالد الحذاء عن عمير بن سعيد قال: سمعت عليا - رضي الله عنه - يقول كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يعرج به إلى السماء فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء فمسخت كوكبا - وهذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب جدا - وقال ابن أبي حاتم أخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا معاوية عن أبي خالد عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال هما ملكان من ملائكة السماء يعني "وما أنزل على الملكين" ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بسنده عن مغيث عن مولاه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي مرفوعا وهذا لا يثبت من هذا الوجه. ثم رواه من طريقين آخرين عن جابر عن أبي الطفيل عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لعن الله الزهرة فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت" وهذا أيضا لا يصح وهو منكر جدا والله أعلم. وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم أخبرنا الحجاج بن منهال حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعا لما كثر بنو آدم وعصوا دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال: ربنا لا تمهلهم فأوحى الله إلى الملائكة إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم وأنزلت الشهوة والشيطان في قلوبهم ولو نزلتم لفعلتم أيضا. قال فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت قال فوقعا بالخطيئة فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. وقال: ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا عبدالله بن جعفر الرقي أخبرنا عبدالله يعني ابن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو ويونس بن خباب عن مجاهد قال كنت نازلا على عبدالله بن عمر في سفر فلما كان ذات ليلة قال لغلامه انظر هل طلعت الحمراء لا مرحبا بها ولا أهلا ولا حياها الله هي صاحبة الملكين قالت الملائكة يا رب كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض. قال إني ابتليتهم فلعل إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون قالوا لا قال: فاختاروا من خياركم اثنين فاختاروا هاروت وماروت فقال لهما إني مهبطكما إلى الأرض وعاهد إليكما أن لا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا فأهبطا إلى الأرض وألقى عليهما الشهوة وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة فتعرضت لهما فراوداها عن نفسها فقالت إني على دين لا يصح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله قالا: وما دينك قالت المجوسية قالا: الشرك هذا شيء لا نقربه فمكثت عنهما ما شاء الله تعالى. ثم تعرضت لهما فراوداها عن نفسها فقالت ما شئتما غير أن لي زوجا وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح فإن أقررتما لي بديني وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان ثم صعدا بها إلى السماء فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين فإذا كان يوم الجمعة أجيب. فقالا: لو أتينا فلانا فسألناه فطلب لنا التوبة فأتياه فقال: رحمكما الله كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء قالا: إنا قد ابتلينا قال ائتياني يوم الجمعة فأتياه فقال: ما أجبت فيكما بشيء ائتياني في الجمعة الثانية فأتياه فقال: اختارا فقد خيرتما إن اخترتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله فقال أحدهما إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل. وقال الآخر ويحك إني قد أطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى. فقال إننا يوم القيامة على حكم الله فأخاف أن يعذبنا قال لا: إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة أن لا يجمعهما علينا قال: فاختارا عذاب الدنيا فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار عاليهما سافلهما - وهذا إسناد جيد إلى عبدالله بن عمر- وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح عن نافع عنه رفعه وهذا أثبت وأصح إسنادا ثم هو والله أعلم من رواية ابن عمر عن كعب كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه وقوله إن الزهرة نزلت في صورة امرأة حسناء وكذا فى المروي عن علي فيه غرابة جدا. وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم أخبرنا عصام بن رواد أخبرنا آدم أخبرنا أبو جعفر حدثنا الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما وقع الناس من بعد آدم عليه السلام فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله قالت الملائكة في السماء يا رب هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام والزنا والسرقة وشرب الخمر فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم فقيل إنهم في غيب فلم يعذروهم فقيل لهم اختاروا من أفضلكم ملكين آمرهما وأنهاهما فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وجعل لهما شهوات بني آدم وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئا ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر فلبثا في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمن إدريس عليه السلام وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها فسألاها عن دينها فأخرجت لهما صنما فقالت: هذا أعبده فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا فذهبا فعبرا ما شاء الله ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ففعلت مثل ذلك فذهبا ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم. قالت: لهما اختارا أحد الخلال الثلاث إما أن تعبدا هذا الصنم وإما أن تقتلا هذه النفس وأما أن تشربا هذه الخمر فقالا: كلا هذا لا ينبغي وأهون هذا شرب الخمر فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا المرأة فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا وحيل بينهما وبين ذلك وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه فعجبوا كل العجب وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض فنزل في ذلك "والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض" فقيل لهما اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له فاختارا عذاب الدنيا فجعلا ببابل فهما يعذبان. وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبدالسلام عن إسحق بن راهويه عن حكام بن سلم الرازي وكان ثقة عن أبي جعفر الرازي به: ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا سلم أخبرنا القاسم بن الفضل الحذائي أخبرنا يزيد يعني الفارسي عن ابن عباس أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي فقالوا: يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي فقال الله أنتم معي وهم في غيب عني فقيل لهم اختاروا منكم ثلاثة فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض على أن يحكموا بين أهل الأرض جعل فيهم شهوة الآدميين فأمروا أن لا يشربوا خمرا ولا يقتلوا نفسا ولا يزنوا ولا يسجدوا لوثن فاستقال منهم واحد فأقيل فأهبط اثنان إلى الأرض فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها مناهية فهوياها جميعا ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها فأراداها فقالت: لهما لا حتى تشربا خمري وتقتلا ابن جاري وتسجدا لوثني فقالا: لا نسجد ثم شربا من الخمر ثم قتلا ثم سجدا فأشرف أهل السماء عليهما وقالت: لهما أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما فأخبراها فطارت فمسخت جمرة وهي هذه الزهرة وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا فهما مناطان بين السماء والأرض وهذا السياق فيه زيادة كثيرة وإغراب ونكارة والله أعلم بالصواب. وقال عبدالرزاق: قال معمر قال قتادة والزهري عن عبيد الله بن عبدالله "وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت" كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. وقال معمر: قال قتادة فكانا يعلمان الناس السحر فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. وقال أسباط عن السدي أنه قال كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم فقيل لهما إني أعطيت بني آدم عشرا من الشهوات فبها يعصونني قال: هاروت وماروت: ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل فقال: لهما انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فاحكما بين الناس فنزلا ببابل ديناوند فكانا يحكمان حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية الزهرة وبالنبطية بيدخت وبالفارسية أناهيد. فقال أحدهما لصاحبه إنها لتعجبني قال الآخر قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك. فقال الآخر هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال نعم ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر إنا لنرجو رحمة الله فلما جاءت تخاصم زوجها ذكر إليها نفسها فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي فقضيا لها على زوجها ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها فأتياها لذلك فلما أراد الذي يواقعها قالت ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء وبأي كلام تنزلان منها فأخبراها فتكلمت فصعدت فأنساها الله تعالى ما تنزل به فثبتت مكانها وجعلها الله كوكبا فكان عبدالله بن عمر كلما رآها لعنها وقال هذه التي فتنت هاروت وماروت فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا فعرفا الهلكة فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا فعلقا ببابل وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أما شأن هاروت وماروت فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات فقال لهم ربهم تعالى: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض فاختاروا فلم يألوا هاروت وماروت فقال لهما حين أنزلهما أعجبتم من بني آدم من ظلمهم ومعصيتهم وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء. وإنكما ليس بيني وبينكما رسول فافعلا كذا وكذا ودعا كذا وكذا فأمرهما بأمور ونهاهما ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما فحكما فعدلا فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة منزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم فقضيا عليها فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه فقال أحدهما لصاحبه وجدت مثل الذي وجدت؟ قال نعم فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك فلما رجعت قالا وقضيا لها فأتتهما فكشفا لها عن عورتيهما وإنما كانت سوآتهما في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذاتها فلما بلغا ذلك واستحلا افتتنا فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت فلما أمسيا عرجا فزجرا فلم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما فاستغاثا برجل من بني آدم فأتياه فقالا ادع لنا ربك فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا: سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء فوعدهما يوما وغدا يدعو لهما فدعا لهما فاستجيب له فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال: ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد وفي الدنيا تسع مرات مثلها؟ فأمرا أن ينزلا ببابل فثم عذابهما وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان يصفقان بأجنحتهما. وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال. وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه قال: الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى: أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن أبي الزناد حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: قدمت على امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته حداثة ذلك تسأله أشياء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به وقالت: عائشة رضي الله عنها لعروة: يا ابن أختي فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيشفيها فكانت تبكي حتى إني لأرحمها وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت: كان لي زوح فغاب عني فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن شيء حتى وقفنا ببابل وإذا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا ما جاء بك؟ قلت: نتعلم السحر فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري فارجعي فأبيت وقلت: لا قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما قالا: أفعلت؟ فقلت: نعم فقالا: هل رأيت شيئا؟ فقلت: لم أر شيئا فقالا. لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأرببت وأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت فاقشعررت وخفت ثم رجعت إليهما وقلت: قد فعلت فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا فقالا: كذبت لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فإنك على رأس أمرك فأرببت وأبيت فقالا: اذهبي إلى التنور فبولي فيه فذهبت إليه فبلت فيه فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه فجئتهما فقلت: قد فعلت فقالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارسا مقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه فقالا: صدقت ذلك إيمانك خرج منك. اذهبي فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا وما قالا لي شيئا فقالت: بلى لم تريدي شيئا إلا كان خذي هذا القمح فابذري فبذرت وقلت: اطلعي فاطلع وقلت: احقلي فأحقلت ثم قلت: افركي فأفركت ثم قلت: ايبسي فأيبست ثم قلت: اطحني فأطحنت ثم قلت: اخبزي فأخبزت فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئا ولا أفعله أبدا ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان به مطولا كما تقدم وزاد بعد قولها ولا أفعله أبدا فسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حداثة وفاة رسول الله وهم يومئذ متوافرون فما دروا ما يقولون لها وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده لو كان أبواك حيين أو أحدهما. قال هشام: فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان. قال ابن أبي الزناد: وكان هشام يقول: إنهم كانوا أهل الورع والخشية من الله ثم يقول هشام: لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم. فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها. وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال. وقال آخرون: بل ليس له قدرة إلا على التخييل كما قال تعالى "سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم" وقال تعالى "يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى" واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق لا بابل ديناوند كما قاله السدي وغيره ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتم أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا أحمد بن صالح حدثني ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مر ببابل وهو يسير فجاء المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال: إن حبيبي - صلى الله عليه وسلم - نهاني أن أصلي بأرض المقبرة ونهاني أن أصلي ببابل فإنها ملعونة. وقال أبو داود: أخبرنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري: أن عليا مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال: إن حبيبي - صلى الله عليه وسلم - نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة. حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعنى حديث سليمان بن داود قال: خرج منها برز وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود لأنه رواه وسكت عليه ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين قال أصحاب الهيئة: وبعد ما بين بابل وهي من أقليم العراق عن البحر المحيط الغربي ويقال له أوقيانوس سبعون درجة ويسمون هذا طولا وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب وهو المسامت لخط الاستواء اثنان وثلاثون درجة والله أعلم. وقوله تعالى "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس قال: فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان فعرفا أن السحر من الكفر قال: فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه فإذا علمه خرج منه النور فنظر إليه ساطعا في السماء فيقول: يا حسرتاه يا ويله ماذا صنع. وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر رواه ابن أبي حاتم. وقال قتادة: كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر. وقال السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء وذلك الإيمان وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء وذلك غضب الله فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر فذلك قول الله تعالى "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" الآية وقال سعيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الآية لا يجترئ على السحر إلا كافر وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار ومنه قول الشاعر: وقد فتن الناس في دينهم وخلى ابن عفان شرا طويلا وكذلك قوله تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام حيث قال "إن هي إلا فتنتك" أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك "تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء" وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن عبدالله قال: " من أتى كاهن أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -" وهذا إسناد صحيح وله شواهد أخر وقوله تعالى "فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه" أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف وهذا من صنيع الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال "إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة يجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئا ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيقربه يدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت" وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك أو عقد أو بغضه أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان والله أعلم. وقوله تعالى "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" قال سفيان الثوري إلا بقضاء الله وقال محمد بن إسحاق إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد وقال الحسن البصري "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" قال نعم من شاء الله سلطهم عليه ومن لم يشأ الله لم يسلط ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله كما قال الله تعالى وفي رواية عن الحسن أنه قال لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه وقوله تعالى "ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم" أي يضرهم في دينهم وليس له نفع يوازي ضرره "ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق" أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له في الآخرة من خلاق قال ابن عباس ومجاهد والسدي من نصيب وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة ما له في الآخرة من جهة عند الله وقال عبدالرزاق وقال الحسن ليس له دين وقال سعد عن قتادة "ما له في الآخرة من خلاق" قال ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة وقوله تعالى "ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون".

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ

📘 يقول تعالى "ولبئس" البديل ما استبدلوا به من السحر عوضا عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وعظوا به "ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير" أي ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكان مثوبة الله على ذلك خيرا لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به كما قال تعالى "وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون". وقد استدل بقوله "ولو أنهم آمنوا واتقوا" من ذهب إلى تكفير الساحر كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف وقيل بل لا يكفر ولكن حده ضرب عنقه لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل قالا: أخبرنا سفيان هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع بجلة بن عبدة يقول كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن اقتلوا كل ساحر وساحرة قال فقتلنا ثلاث سواحر وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضا وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت قال الإمام أحمد بن حنبل صح عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتل الساحر وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حد الساحر ضربه بالسيف" ثم قالا لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث والصحيح عن الحسن عن جندب موقوفا قلت قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعا والله أعلم وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه فقال الناس سبحان الله يحيي الموتى ورآه رجل من صالحي المهاجرين فلما كان الغد جاء مشتملا على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر وقال: إن كان صادقا فليحي نفسه وتلا قوله تعالى "أتأتون السحر وأنتم تبصرون" فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه والله أعلم وقال الإمام أبو بكر الخلال: أخبرنا عبدالله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد حدثني أبو إسحق عن حارثة قال كان عند بعض الأمراء الرجل يلعب فجاء جندب مشتملا على سيفه فقتله قال أراه كان ساحرا وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركا والله أعلم. " فصل "حكى أبو عبدالله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر قال: وربما كفروا من اعتقد وجوده قال وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حمارا والحمار إنسانا إلا أنهم قالوا إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا خلافا للفلاسفة والمنجمين والصابئة ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" ومن الأخبار بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر وأن السحر عمل فيه وبقصة تلك المرأة مع عائشة رضي الله عنها وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر. قال وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثيرة ثم قال بعد هذا. " المسألة الخامسة "في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور- اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف وأيضا لعموم قوله تعالى "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم يكون المعجز معجزا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا وما يكون واجبا فكيف يكون حراما وقبيحا؟ هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة وهذا الكلام فيه نظر من وجوه أحدها قوله: العلم بالسحر ليس بقبيح إن عني به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا وإن عني أنه ليس بقبيح شرعا ففي هذه الآية الكريمة تبشيع لتعلم السحر وفي الصحيح "من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد" وفي السنن "من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر" وقوله ولا محظور اتفق المحققون على ذلك. كيف لا يكون محظورا مع ما ذكرناه من الآية والحديث واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم وأين نصوصهم على ذلك؟ ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله تعالى " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" فيه نظر لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي ولم قلت إن هذا منه ثم ترقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف بل فاسد لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلا ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز ويفرقون بينه وبين غيره ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه والله أعلم. ثم قد ذكر أبو عبدالله الرازي أن أنواع السحر ثمانية "الأول" سحر الكذابين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة وهي السيارة وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم وأنها تأتي بالخير والشر وهم الذين بعث الله إليهم إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - مبطلا مقالتهم ورادا لمذهبهم وقد استقصى في " كتاب السر المكتوم في مخاطبة الشمس والنجوم "المنسوب إليه كما ذكرها القاضي ابن خلكان وغيره ويقال إنه تاب منه وقيل بل صنفه على وجه إظهار الفضيلة لا على سبيل الاعتقاد وهذا هو المظنون به إلا أنه ذكر فيه طريقهم في مخاطبة كل من هذه الكواكب السبعة وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه وما يتمسكون به. قال "والنوع الثاني" سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجذع الموضوع على وجه الأرض ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودا على نهر أو نحوه قال: وكما أجمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام.قال:وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق - وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين"- قال فإذا عرفت هذا فنقول النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جدا فتستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانة بالآلات والأدوات وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات وتحقيقه أن النفس إذا كانت متعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السموات صارت كأنها روح من الأرواح السماوية فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم وإذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تأثير البتة إلا في هذا البدن ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء والانقطاع عن الناس والرياء "قلت" وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال: وهو على قسمين تارة تكون حالا صحيحة شرعية يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عييه وسلم. ويترك ما نهى الله تعالى عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة ولا يسمى هذا سحرا في الشرع. وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتصرف بها في ذلك فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم كما أن الدجال له من الخوارق العادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة مع أنه مذموم شرعا لعنه الله وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وبسط هذا يطول جدا وليس هذا موضعه. قال "والنوع الثالث" من السحر والاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن خلافا للفلاسفة والمعتزلة وهم على قسمين. مؤمنون وكفار وهم الشياطين. قال واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينهما من المناسبة والقرب ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن والتجريد وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير. "النوع الرابع" من السحر التخييلات والأخذ بالعيون والشعبذة ومبناه على أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديث ونحوه عمل شيئا آخر عملا بسرعة شديدة وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جدا ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله "قال" وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعا من أنواع الخلل أشد كان العمل أحسن مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدا أو مظلم فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها والحالة هذه. "قلت" وقد قال بعض المفسرين: إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة ولهذا قال تعالى "فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم" وقال تعالى "يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى" قالوا: ولم تكن تسعى فى نفس الأمر والله أعلم. "النوع الخامس من السحر" الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية كفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد- ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل " قلت "يعني ما قاله بعض المفسرين: أنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقا فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها قال الرازي: ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفيفة قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسبابا معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها " قلت "ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم وأما الخواص فهم معترفون بذلك ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم فيرون ذلك سائغا لهم وفيهم شبهة على الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب فيدخلون في عداد من قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" وقوله "حدثوا عني ولا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار" ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت ذلك الطائر وانقطع في صومعة ابتناها وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم وعلق الطائر في مكان منها فإذا كان زمان الزيتون فتح بابا من ناحيته فيدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضا فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئا كثيرا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون فى هذه الصومعة ولا يدرون ما سببه ففتنهم بذلك وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. " قال الرازي: النوع السادس من السحر "الاستعانة بخواص الأدوية يعني في الأطعمة والدهانات قال: واعلم أن لا سبيل إلى إنكار الخواص فإن تأثير المغناطيس مشاهد " قلت "يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتخيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعيا أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات. قال " النوع السابع من السحر "التعليق للقلب وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور إذا اتفق أن يكون ذلك السامع ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء " قلت "هذا النمط يقال له التنبلة وإنما يروج على الضعفاء العقول من بني آدم وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه فإذا كان النبيل حاذقا في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره. قال " النوع الثامن من السحر" السعي بالنميمة التقريب من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس " قلت " النميمة على قسمين تارة تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث "ليس بالكذاب من ينم خيرا" أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث "الحرب خدعة " وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة: جاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلاما ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئا آخر ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء والبصيرة النافذة وبالله المستعان. ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه " قلت "وإنما أدخل كثيرا من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه ولهذا جاء في الحديث "إن من البيان لسحرا" وسمي السحور لكونه يقع خفيا آخر الليل والسحر الرئة وهي محل الغذاء وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سحره أي انتفخت رئته من الخوف وقالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري وقال تعالى "سحروا أعين الناس" أي أخفوا عنهم عملهم والله أعلم. وقال أبو عبدالله القرطبي: وعندنا أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافا للمعتزلة وأبي إسحق الإسفراييني من الشافعية حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل قال: ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة والشعوذي البريد لخفة سيره قال ابن فارس: وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية قال القرطبي: ومنه ما يكون كلام يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى وفد يكون من عهود الشياطين مكون أدوية وأدخنة وغير ذلك قال: وقوله عليه السلام "إن من البيان لسحرا" يحتمل أن يكون مدحا كما تقوله طائفة ويحتمل أن يكون ذما للبلاغة قال: وهذا أصح قال: لأنها تصوب الباطل حتى توهم السامع أنه حق كما قال عليه الصلاة والسلام "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له" الحديث. "فصل" وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله في كتابه " الإشراف على مذاهب الأشراف " بابا في السحر فقال: أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا حقيقة له عنده واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد يكفر بذلك ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفعه كفر وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر وقال الشافعي رحمه الله إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر. قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد نعم وقال الشافعي وأبو حنيفة لا فأما إن قتل بسحره إنسانا فأنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة: لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي فإنه قال يقتل والحالة هذه قصاصا قال وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم: لا تقبل وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى تقبل وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يقتل يعني لقصة لبيد بن الأعصم واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس وقال الثلاثة: حكمها حكم الرجل والله أعلم وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي قال قرأ على أبي عبدالله - يعني أحمد بن حنبل - عمر بن هرون أخبرنا يونس عن الزهري قال: يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها. وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله أنه قال في الذمي يقتل إن قتل سحره وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين فى الذمي إذا سحر: إحداهما أنه يستتاب فإن أسلم وإلا قتل والثانية أنه يقتل وإن أسلم وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" لكن قال مالك إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنه كالزنديق فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبا قبلناه فإن قتل سحره قتل قال الشافعي: فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية. "مسألة" وهل يسأل الساحر حلا لسحره فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري وقال عامر الشعبي: لا بأس بالنشرة وكره ذلك الحسن البصري وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت يا رسول الله هلا تنشرت فقال "أما الله فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شرا" وحكى القرطبي عن وهب: أنه قال يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته " قلت "أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك وهما المعوذتان وفي الحديث " لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما " وكذلك قراءة الكرسي فإنها مطردة للشيطان.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ

📘 نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص عليهم لعائن الله فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا يقولوا راعنا ويورون بالرعونة كما قال تعالى "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا" وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون السام عليكم والسام هو الموت ولهذا أمرنا أن نرد عليهم ب"وعليكم" وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا فقال "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم" وقال الإمام أحمد: أخبرنا أبو النضر أخبرنا عبدالرحمن أخبرنا ثابت أخبرنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم" وروى أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن أبي النضر هاشم أخبرنا ابن القاسم به "من تشبه بقوم فهو منهم" ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعاهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا نعيم بن حماد أخبرنا عبدالله بن المبارك أخبرنا مسعر عن ابن معن وعون أو أحدهما أن رجلا أتى عبدالله بن مسعود فقال: اعهد إلي فقال: إذا سمعت الله يقول "يا أيها الذين آمنوا" فارعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. وقال الأعمش عن خيثمة قال: ما تقرأن في القرآن "يا أيها الذين آمنوا" فإنه في التوراة يا أيها المساكين. وقال محمد بن إسحق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس "راعنا" أي أرعنا سمعك وقال الضحاك: عن ابن عباس "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا" قال كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أرعنا سمعك وإنما راعنا كقولك عاطنا وقال ابن أبي حاتم وروي عن أبي العالية وأبي مالك والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة نحو ذلك وقال مجاهد "لا تقولوا راعنا" لا تقولوا خلافا وفي رواية لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. وقال عطاء لا تقولوا "راعنا" كانت لغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها وقال الحسن: "لا تقولوا راعنا" قال الراعن من القول السخري منه نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه من الإسلام. وكذا روي عن ابن جريج أنه قال مثله وقال أبو صخر "لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا" قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فيقول أرعنا سمعك فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له وقال السدى: كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع غير صاغر وهي كالتي في سورة النساء فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا راعنا وكذا قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم بنحو من هذا قال ابن جرير والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم راعنا لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا الحبلة ولا تقولوا عبدي ولكن قولوا فتاي" وما أشبه ذلك.

مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

📘 قوله تعالى" ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم" يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين ليقطع المودة بينهم وبينهم ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول تعالى "والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم".

۞ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

📘 قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما "ما ننسخ من آية" ما نبدل من آية وقال ابن جريج عن مجاهد "ما ننسخ من آية" أي ما نمحو من آية وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "ما ننسخ من آية" قال نثبت خطها ونبدل حكمها حدث به عن أصحاب عبدالله بن مسعود رضي الله عنهم وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك وقال الضحاك "ما ننسخ من آية" ما ننسك وقال عطاء أما "ما ننسخ" فما نترك من القرآن وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد وقال السدى "ما ننسخ من آية" نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم: يعني قبضها رفعها مثل قوله "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وقوله "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا" وقال ابن جرير "ما ننسخ من آية" ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ والأمر في ذلك قريب لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه وقال الطبراني أخبرنا أبو سنبل عبيدالله بن عبدالرحمن بن وافد أخبرنا أبي أخبرنا العباس بن الفضل عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بها فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنها مما نسخ وأنسي فالهوا عنها" فكان الزهري يقرؤها" ما ننسخ من آية أو ننسها" بضم النون الخفيفة سليمان بن الأرقم ضعيف وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود عن أبي عبيد الله عن عبدالله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف مثله مرفوعا ذكره القرطبي وقوله تعالى أو ننسها فقريء على وجهين ننسأها وننسها فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه نؤخرها. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "ما ننسخ من آية" يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها وقال مجاهد: عن أصحاب ابن مسعود أو ننساها نثبت خطها ونبدل حكمها وقال عبد بن عمير ومجاهد وعطاء أو ننسأها نؤخر ونرجئها وقال عطية العوفي: أو ننسأها: نؤخرها فلا ننسخها وقال السدي مثله أيضا وكذا الربيع بن أنس وقال الضحاك "ما ننسخ من آية أو ننسأها" يعني الناسخ من المنسوخ وقال أبو العالية ما ننسخ من آية أو ننسأها" نؤخرها عندنا وقال ابن حاتم: أخبرنا عبيدالله بن إسماعيل البغدادي أخبرنا خلف أخبرنا الخفاف عن إسماعيل يعني ابن أسلم عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه فقال: يقول الله عز وجل "ما ننسخ من آية أو ننسأها" أي نؤخرها وأما على قراءة أو ننسها فقال عبدالرازق عن قتادة في قوله "ما ننسخ من آية أو ننسها" قال كان الله عز وجل ينسى نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء. وقال ابن جرير: أخبرنا سواد بن عبدالله أخبرنا خالد بن الحارث أخبرنا عوف عن الحسن أنه قال في قوله "أو ننسها" قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي ابن نفيل أخبرنا محمد بن الزبير الحراني عن الحجاج يعني الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار فأنزل الله عز وجل "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" قال ابن أبي حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل ليس هو الحجاج بن أرطاة هو شيخ لنا جزري وقال عبيد بن عمير "أو ننسها" نرفعها من عندكم وقال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم أخبرنا هشيم أخبرنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن القاسم بنو ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ "ما ننسخ من آية أو ننسها" قال: قلت له فإن سعيد بن المسيب يقرأ "أو ننساها" قال فقال سعد إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب قال: قال الله جل ثناؤه "سنقرئك فلا تنسى واذكر ربك إذا نسيت" وكذا رواه عبدالرزاق عن هشيم وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه قال ابن أبي حاتم: وروي عن محمد بن كعب وقتادة وعكرمة نحو قول سعيد وقال الإمام أحمد أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال عمر: علي أقضانا وأبيّ أقرؤنا وإنا لندع من قول أبيّ وذلك أن أبيا يقول: ما أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم والله يقول" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" قال البخاري: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال عمر: أقرؤنا أبي وأقضانا علي وإنا لندع من قول أبي وذلك أن أبيا يقول: لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله "ما ننسخ من آية أو ننسها" وقوله "نأت بخير منها أو مثلها" أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نأت بخير منها يقول خير لكم في المنفعة وأرفق بكم وقال أبو العالية "ما ننسخ من آية" فلا نعمل بها "أو ننساها" أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها وقال السدي "نأت بخير منها أو مثلها" يقول نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه وقال قتادة "نأت بخير منها أو مثلها" يقول آية فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي.

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ

📘 يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء فله الخلق والأمر وهو المتصرف فكما خلقهم كما يشاء ويسعد من يشاء ويشقي من يشاء ويصح من يشاء ويمرض من يشاء ويوفق من يشاء ويخذل من يشاء كذلك يحكم في عباده بما يشاء فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء. ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا وامتثال ما أمروا وترك ما عنه زجروا وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: فتأويل الآية ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء وأنهى عما أشاء وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذا أشاء ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطابا من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغير ما غير الله من حكم التوراة فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء ونسخ ما يشاء وإقرار ما يشاء وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه " قلت "الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حل بعضها وكان نكاح الأختين مباح لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في المعنى إذ هو المقصود وكما في كتبهم مشهورا من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه فإنه يفيد وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مغياة إلى بعثته عليه السلام فلا يسمى ذلك نسخ لقوله ثم أتموا الصيام إلى الليل وقيل إنها مطلقة وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهدا بالله تبارك وتعالى ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ ردا على اليهود عليهم لعنة الله حيث قال تعالى "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض" الآية فكما أن الملك بلا منازع فكذلك له الحكم بما يشاء ألا له الخلق والأمر وقرئ في سورة آل عمران التي نزل صدرها خطاب مع أهل الكتاب وقوع النسخ في وقوله تعالى "كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" الآية كما سيأتي تفسيره والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى لما له في ذلك من الحكمة البالغة وكلهم قال بوقوعه وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن وقوله ضعيف مردود مرذول وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول لم يجب على ذلك بكلام مقبول وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس لم يجب بشيء ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك والله أعلم.

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِنْ قَبْلُ ۗ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ

📘 نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها كما قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم" أي وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة ولهذا جاء في الصحيح "إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ثم أنزل الله حكم الملاعنة. ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال. وفي صحيح مسلم "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا. ثم قال عليه السلام "لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم" ثم قال "ذروني ما تركتكم" الحديث ولهذا قال أنس بن مالك: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أخبرنا أبو كريب أخبرنا إسحق بن سليمان عن أبي سنان عن أبي إسحق عن البراء بن عازب قال: إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب منه وإن كنا لنتمنى الأعراب. قال البزار: أخبرنا محمد بن المثنى أخبرنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن "يسألونك عن الخمر والميسر" - و- "يسألونك عن الشهر الحرام" - "ويسألونك عن اليتامى" يعني هذا وأشباهه. وقوله تعالى "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" أي بل تريدون أو هي على بابها في الاستفهام وهو إنكاري وهو يعلم المؤمنين والكافرين فإنه عليه الصلاة والسلام رسول الله إلى الجميع كما قال تعالى "يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم" قال محمد بن إسحق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك. فأنزل الله من قولهم "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل" وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" قال: قال رجل يا رسول الله لو كانت كفارتنا ككفارات بني إسرائيل فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم لا نبغيها - ثلاثا - ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل" قال "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما" وقال "الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن" وقال "من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت سيئة واحدة ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلا هالك" فأنزل الله "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" وقال مجاهد "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" أن يريهم الله جهرة؟ قال: سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا قال "نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل" فأبوا ورجعوا. وعن السدي وقتادة نحو هذا والله أعلم والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء على وجه التعنت والاقتراح كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتا وتكذيبا وعنادا. قال الله تعالى "ومن يتبدل الكفر بالإيمان" أي من يشتر الكفر بالإيمان "فقد ضل سواء السبيل" أي فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال. وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والأنقياد لهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر كما قال تعالى "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار" وقال أبو العالية يتبدل الشدة بالرخاء.

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

📘 يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو الاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه كما قال محمد بن إسحق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد اليهود للعرب حسدا إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا فأنزل الله فيهما "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم" الآية وقال عبدالرزاق عن معمر عن الزهري في قوله تعالى "ود كثير من أهل الكتاب" قال هو كعب بن الأشرف وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أنزل الله "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم" إلى قوله "فاعفوا واصفحوا" وقال الضحاك عن ابن عباس أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ولكنهم جحدوا ذلك كفرا وحسدا وبغيا وكذلك قال الله تعالى "كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق" يقول من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا ولكن الحسد حملهم على الجحود فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل الله عليهم وما أنزل من قبلهم بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم وقال الربيع بن أنس "من عند أنفسهم" من قبل أنفسهم وقال أبو العالية "من بعد ما تبين لهم الحق" من بعد ما تبين أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فكفروا به حسدا وبغيا إذ كان من غيرهم وكذا قال قتادة والربيع بن أنس وقوله "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره" مثل قوله تعالى "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا" الآية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره" والسدي وقوله "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره" نسخ ذلك قوله "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وقوله "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" إلى قوله "وهم صاغرون" فنسخ هذا عفوه عن المشركين وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي أنها منسوخة بآية السيف ويرشد إلى ذلك أيضا قوله تعالى "حتى يأتي الله بأمره" وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرنى عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول من العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بالقتل فقتل الله به من قتل من صناديد قريش هذا إسناده صحيح ولم أره في شيء من الكتب الستة ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ

📘 قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الطبيب الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون" قال هم المنافقون أما لا تفسدوا في الأرض قال الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض" قال يعني لا تعصوا في الأرض وكان فسادهم ذلك معصية الله لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وقال ابن جريج عن مجاهد "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض" قال إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم لا تفعلوا كذا وكذا قالوا إنما نحن على الهدى مصلحون. وقال وكيع وعيسى بن يونس وعثام بن علي عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبدالله الأسدي عن سلمان الفارسي "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون" قال سلمان لم يجيء أهل هذه الآية بعد. وقال ابن جرير حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عبدالرحمن بن شريك حدثني أبي عن الأعمش عن زيد بن وهب وغيره عن سلمان الفارسي أي هذه الآية قال ما جاء هؤلاء قال ابن جرير يحتمل أن سلمان رضي الله عنه أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد قال ابن جرير فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه وتضيعهم فرائضه وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا فذلك إفساد المنافقين في الأرض وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. وهذا الذي قاله حسن فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء كما قال تعالى "والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا" ثم قال "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا" فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين فكان الفساد من جهة المنافق حاصل لأنه هو الذي غر المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له ووالى الكافرين على المؤمنين ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح وأنجح ولهذا قال تعالى "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون" أي نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء كما قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون" أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

📘 وقوله تعالى "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله" يحثهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد "يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار" ولهذا قال تعالى "إن الله بما تعملون بصير" يعني أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ولا يضيع لديه سواء كان خيرا أو شرا فإنه سيجازي كل عامل بعمله. وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى "إن الله بما تعملون بصير" هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير أو شر سرا وعلانية فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء فيجزيهم بالإحسان خيرا وبالإساءة مثلها وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج الخبر فإنه وعدا ووعيدا وأمرا وزجرا وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه كما قال تعالى "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله" وليحذروا معصيته قال وأما قوله "بصير" فإنه مبصر صرف إلى بصير كما صرف مبدع إلى بديع ومؤلم إلى أليم والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو زرعة أخبرنا ابن بكير حدثني أبي لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية "سميع بصير" يقول "بكل شي بصير".

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

📘 يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها كما أخبر الله عنهم في سور المائدة أنهم قالوا "نحن أبناء الله وأحباؤه" فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك وكما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ثم ينتقلون إلى الجنة ورد عليهم تعالى في ذلك وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة فقال تلك أمانيهم وقال أبو العالية أماني تمنوها على الله بغير حق وكذا قال قتادة والربيع بن أنس ثم قال تعالى "قل" أى يا محمد "هاتوا برهانكم" قال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس حجتكم وقال قتادة بينتكم على ذلك "إن كنتم صادقين" أي فيما تدعونه قال تعالى "بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن" أي من أخلص العمل لله وحده لا شريك له كما قال تعالى "فإن حاجوك فقلت أسلمت وجهي لله ومن اتبعن" الآية.

بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

📘 قال أبو العالية والربيع" بلى من أسلم وجهه لله" يقول من أخلص لله. وقال سعيد بن جبير "بلى من أسلم" أخلص "وجهه" قال دينه "وهو محسن" أي اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فإن للعمل المتقبل شرطين: أحدهما أن يكون خالصا لله وحده والآخر أن يكون صوابا موافقا للشريعة فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" رواه مسلم من حديث عائشة عنه عليه الصلاة والسلام فعمل الرهبان ومن شابههم وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله فإنه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك متابعا للرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة وفيهم وأمثالهم قال الله تعالى "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا" وقال تعالى "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا" وقال تعالى "وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية" وروي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضا مردود على فاعله وهذا حال المرائين والمنافقين كما قال تعالى "إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا" وقال تعالى "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون" ولهذا قال تعالى "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا" وقال في هذه الآية الكريمة "بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن" وقوله "فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور وآمنهم مما يخافونه من المحذور "فلا خوف عليهم" فيما يستقبلونه "ولا هم يحزنون" على ما مضى مما يتركونه كما قال سعيد بن جبير "فلا خوف عليهم" يعني في الآخرة "ولا هم يحزنون" يعني لا يحزنون للموت.

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

📘 وقوله تعالى" وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب " بين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم كما قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أبو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة فأنزل الله في ذلك من قولهما "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب" قال إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به أن يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى وما جاء من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يد صاحبه وقال مجاهد في تفسير هذه الآية قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء وقال قتادة "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء" قال: بلى قد كانت أوائل النصارى على شيء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا "وقالت النصارى ليست اليهود على شيء" قال بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا وعنه رواية أخرى كقول أبي العالية والربيع بن أنس في تفسير هذه الآية "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء" هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوا من علمهم بخلاف ذلك ولهذا قال تعالى "وهم يتلون الكتاب" أي وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل كل منهما قد كانت مشروعة في وقت ولكنهم تجاهدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد كما تقدم عن ابن عباس ومجاهد وقتادة في الرواية الأولى عنه في تفسيرها والله أعلم وقوله "كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم" بين بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوه من القول وهذا من باب الإيماء والإشارة وقد اختلف فيما عني بقوله تعالى "الذين لا يعلمون" فقال الربيع بن أنس وقتادة "كذلك قال الذين لا يعلمون" قالا: وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم وقال ابن جريج: قلت لعطاء من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل وقال السدي كذلك "قال الذين لا يعلمون" فهم العرب قالوا ليس محمد على شيء واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع وليس ثم دليل قاطع يعين واحدا من هذه الأقوال والحمل على الجميع أولى والله أعلم وقوله تعالى "فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" أي أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا" إن الله يفصل بينهم يوم القيامة "إن الله على كل شيء شهيد" وكما قال تعالى "قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم".

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ

📘 اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين: أحدهما ما رواه العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه" قال هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه. وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "وسعى في خرابها" قال هو بختنصر وأصحابه خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك النصارى وقال سعيد عن قتادة: قال أولئك أعداء الله النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه وأمر أن تطرح فيه الجيف وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا وروي نحوه عن الحسن البصري "القول الثاني" ما رواه ابن جرير: حدثني يونس بن عبدالأعلى حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها" قال هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم وقال لهم "ما كان أحد يصد عن هذا البيت وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده" فقالوا لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق وفي قوله "وسعى في خرابها" قال إذا قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة. وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن قريشا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه" ثم اختار ابن جرير القول الأول واحتج بأن قريشا لم تسع في خراب الكعبة وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس " قلت "والذي يظهر- والله أعلم - القول الثاني كما قاله ابن زيد. وروي عن ابن عباس لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس كأن دينهم أقوم من دين اليهود وكانوا أقرب منهم ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا إذ ذاك لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وأيضا فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول وأصحاب من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم كما قال تعالى "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون" وقال تعالى "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين" وقال تعالى "هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما" فقال تعالى "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله" فإذا كان من هو كذلك مطرودا منها مصدودا عنها فأي خراب لها أعظم من ذلك؟ وليس المراد بعمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها ورفعها عن الدنس والشرك. وقوله تعالى "أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين" هذا خبر معناه الطلب أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادي برحاب منى "ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ومن كان له أجل فأجله إلى مدته" وهذا إذا كان تصديقا وعملا بقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" وقال بعضهم ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها. والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وغيرهم وقيل إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم. وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان وأن يجلي اليهود والنصارى منها ولله الحمد والمنة. وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا صلوات الله وسلامه عليه وهذا هو الخزي لهم في الدنيا لأن الجزاء من جنس العمل فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام صدوا عنه وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها "ولهم في الآخرة عذاب عظيم" على ما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه من نصب الأصنام حوله ودعاء غير الله عنده والطواف به عرايا وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله وأما من فسر بيت المقدس فقال كعب الأحبار إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين" الآية فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفا وقال السدي فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها وقال قتادة لا يدخلون المساجد إلا مسارقة قلت وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية فإن النصارى ما ظلموا بيت المقدس بامتهان الصخرة التي كانت تصلي إليها اليهود عوقبوا شرعا وقدرا بالذلة فيه إلا في أحيان من الدهر أشحن بهم بيت المقدس وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضا أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم والله أعلم وفسر هؤلاء الخزي من الدنيا بخروج المهدي عند السدي وعكرمة ووائل بن داود وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد أخبرنا الهيثم بن خارجة أخبرنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس سمعت أبي يحدث عن بشر بن أرطاة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة" وهذا حديث حسن وليس في شيء من الكتب السنة وليس لصحابيه وهو بشر بن أرطاة حديث سواه وسوى حديث لا تقطع الأيدي في الغزو.

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

📘 وهذا والله أعلم فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه فلما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد ولهذا يقول تعالى "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله" قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ: أخبرنا حجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس قال: أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا والله أعلم شأن القبلة قال الله تعالى "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله" فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها فقال "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "كان أول ما نسخ من القرآن القبلة وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم وكان يدعو وينظر إلى السماء فأنزل الله "قد نرى تقلب وجهك في السماء" إلى قوله "فولوا وجوهكم شطره" فارتاب من ذلك اليهود وقالوا "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" فأنزل الله "قل لله المشرق والمغرب" وقال "فأينما تولوا فثم وجه الله" وقال عكرمة عن ابن عباس "فأينما تولوا فثم وجه الله" قال قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا وقال مجاهد فأينما تولوا فثم وجه الله حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة وقال ابن أبي حاتم بعد رواية الأثر المتقدم عن ابن عباس في نسخ القبلة عن عطاء عنه وروي عن أبي العالية والحسن وعطاء الخراساني وعكرمة وقتادة والسدي وزيد بن أسلم نحو ذلك وقال ابن جرير وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية لأن له تعالى المشارق والمغارب وإنه لا يخلو منه مكان كما قال تعالى "ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا" قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام هكذا قال وفي قوله وأنه تعالى لا يخلو منه مكان إن أراد علمه تعالى فصحيح فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. قال ابن جرير وقال آخرون بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذنا من أن أن يصلي المتطوع حيث توجه من شرق أو غرب في مسيره في سفره وفي حال المسايفة وشدة الخوف حدثنا أبو كريب أخبرنا ابن إدريس حدثنا عبدالملك هو ابن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية "فأينما تولوا فثم وجه الله" ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن عبدالملك بن أبي سليمان به وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة من غير ذكر الآية وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها. ثم قال " فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها " قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم " مسأله "ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه بين سفر المسافة وسفر العدوى فالجميع عنه يجوز التطوع فيه على الراحلة وهو قول أبي حنيفة خلافا لمالك وجماعته واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري التطوع على الدابة في المصر وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك رضي الله عنه واختاره أبو جعفر الطبري حتى للماشي أيضا قال ابن جرير وقال آخرون بل نزلت هذه الآية في قوم عميت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها فصلوا على أنحاء مختلفة فقال الله تعالى: لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجهكم فهنالك وجهي وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية. حدثنا محمد بن إسحق الأهوازي أخبرنا أبو أحمد الزبيري أخبرنا أبو الربيع السمان عن عاصم بن عبيد الله عن عبدالله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة فقلنا يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله تعالى "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله" الآية ثم رواه عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن أبي الربيع السمان بنحوه. ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع وابن ماجه عن يحيى بن حكيم عن أبي داود عن أبي الربيع السمان ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن سعيد بن سليمان عن أبي الربيع السمان واسمه أشعث بن سعيد البصري وهو ضعيف الحديث وقال الترمذي هذا حديث حسن وليس إسناده بذاك ولا نعرفه إلا من حديث الأشعث السمان وأشعث يضعف في الحديث قلت وشيخه عاصم أيضا ضعيف. قال البخاري منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به وقال ابن حبان: متروك والله أعلم. وقد روي من طريق آخر عن جابر فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل أخبرنا الحسن بن على بن شبيب حدثني أحمد بن عبدالله بن الحسن قال: وجدت في كتاب أبي أخبرنا عبدالملك العزرمي عن عطاء عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فقالت طائفة منا قد عرفنا القبلة هي ههنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطا فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وسلم فسكت وأنزل الله تعالى "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله" ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء عن جابر به وقال الدارقطني قرئ على عبدالله بن عبد العزيز وأنا أسمع حدثكم داود بن عمر وأخبرنا محمد بن يزيد الواسطي عن محمد بن سالم عن عطاء عن جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمرنا بالإعادة وقال "قد أجازت صلاتكم" ثم قال الدارقطني: كذا قال عن محمد بن سالم وقال غيره عن محمد بن عبدالله العزرمي عن عطاء وهما ضعيفان ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأخذتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة فصلوا لغير القبلة ثم استبان لهم بعد ما طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة فلما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه فأنزل الله تعالى هذه الآية "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله" وهذه الأسانيد فيها ضعف ولعله يشد بعضها بعضا. وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء وهذه دلائل على عدم القضاء والله أعلم. قال ابن جرير وقال آخرون بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي كما حدثنا محمد بن بشار أخبرنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه" " قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم؟ قال فنزلت "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله" قال قتادة فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة فأنزل الله "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله" وهذا غريب والله أعلم. وقد قيل إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة كما حكاه القرطبي عن قتادة وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب قال: وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه ـ أحدها ـ أنه عليه السلام شاهده حين سوى عليه طويت له الأرض. الثاني أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه واختاره ابن العربي قال القرطبي ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت وهذا جواب جيد. الثالث أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك والله أعلم. وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق" وله مناسبة ههنا وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر واسمه نجيح بن عبدالرحمن السدي المدني به "ما بين المشرق والمغرب قبلة" وقال الترمذي وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه ثم قال الترمذي حدثني الحسن بن بكر المروزي أخبرنا المعلى بن منصور أخبرنا عبدالله بن جعفر المخزومي عن عثمان بن محمد بن المغيرة الأخنس عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما بين المشرق والمغرب قبلة" ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وحكى عن البخاري أنه قال هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح قال الترمذي وقد روي عن غير واحد من الصحابة "ما بين المشرق والمغرب قبلة" منهم عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين. وقال ابن عمر إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة ثم قال ابن مردويه حدثنا علي بن أحمد بن عبدالرحمن أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم أخبرنا شعيب بن أيوب أخبرنا ابن نمير عن عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما بين المشرق والمغرب قبلة" وقد رواه الدارقطني والبيهقي: وقال المشهور عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قوله: قال ابن جرير ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم كما حدثنا القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قال مجاهد لما نزلت ادعوني أستجب لكم قالوا إلى أين؟ فنزلت "فأينما تولوا فثم وجه الله" قال ابن جرير ومعنى قوله "إن الله واسع عليم" يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال: وأما قوله "عليم" فإنه يعني عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم.

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ

📘 اشتملت هذه الآية الكريمة والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم إن لله ولدا فقال تعالى " سبحانه" أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا "بل له ما في السموات والأرض" أي ليس الأمر كما افتروا وإنما له ملك السموات والأرض ومن فيهن وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدرهم ومسخرهم ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء. والجميع عبيد له وملك له فكيف يكون له ولد منهم والولد إنما يكون متولدا من شيئين متناسبين وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد؟ كما قال تعالى "بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم" وقال تعالى وقالوا "اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا" وقال تعالى "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة فكيف يكون له منها ولد؟ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من البقرة: أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن عبدالله بن أبي الحسين حدثنا نافع بن جبير هو ابن مطعم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله إن لي ولدا فسبحاني أن اتخذ صاحبة أو ولدا" انفرد به البخاري من هذا الوجه. وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن كامل أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي أخبرنا محمد بن إسحق بن محمد القروي أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى كذبني ابن آدم وما ينبغي له أن يكذبني وشتمني وما ينبغي له أن يشتمني فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا. وأنا الله الأحد الصمد "لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم" وقوله "كل له قانتون" قال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا أساط عن مطرف عن عطية عن ابن عباس قال "قانتين" مصلين وقال عكرمة وأبو مالك "كل له قانتون" مقرّون له بالعبودية. وقال سعيد بن جبير: كل له قانتون يقول الإخلاص وقال الربيع بن أنس: يقول كل له قانتون أي قائم يوم القيامة وقال السدي كل له قانتون أي مطيعون يوم القيامة وقال خصيف عن مجاهد كل له قانتون قال مطيعون كن إنسانا فكان وقال كن حمارا فكان. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد كل له قانتون مطيعون قال طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره وهذا القول عن مجاهد وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها وهو أن القنوت والطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقد روي كما قال تعالى "ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال" وقد روي حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به كما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا يوسف بن عبدالأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة" وكذا رواه الإمام أحمد عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج بإسناده مثله ولكن في هذا الإسناد ضعف لا يعتمد عليه ورفع هذا الحديث منكر وقد يكون من كلام الصحابي أو من دونه والله أعلم وكثيرا ما يأتي بهذا الإسناد تفاسير فيها نكارة فلا يغتر بها فإن السند ضعيف والله أعلم.

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

📘 وقوله تعالى" بديع السموات والأرض" أي خالقهما على غير مثال سبق قال مجاهد والسدي وهو مقتضى اللغة ومنه يقال للشيء المحدث بدعة كما جاء في صحيح مسلم "فإن كل محدثه بدعة" والبدعة على قسمين تارة تكون بدعة شرعية كقوله "فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وتارة تكون بدعة لغوية كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نعمت البدعة هذه وقال ابن جرير "بديع السموات والأرض" مبدعهما وإنما هو مفعل فصرف إلى فعيل كما صرف المؤلم إلى الأليم والمسمع إلى السميع: ومعنى المبدع المنشئ والمحدث ما لا يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد قال ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره وكذلك كل محدث قولا أو فعلا لم يتقدم فيه متقدم فإن العرب تسميه مبتدعا ومن ذلك قول أعشى بن ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي: دعى إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا أي يحدث ما شاء قال ابن جرير: فمعنى الكلام سبحان الله أن يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية وتقر له بالطاعة وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه وهذا إعلام من الله لعباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله بنوته وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته وهذا من ابن جرير رحمه الله كلام جيد وعبارة صحيحة: وقوله تعالى "وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون" يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه وأنه إذا قدر أمرا وأراد كونه فإنما يقول له كن أي مرة واحدة فيكون أى فيوجد على وفق ما أراد كما قال تعالى "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" وقال تعالى "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" وقال تعالى "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر" وقال الشاعر: ذا ما أراد لله أمرا فإنــما يقول له كن قوله فيكــون ونبه بذلك أيضا على أن خلق عيسى بكلمة كن فكان كما أمره الله قال الله تعالى "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون".

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ

📘 قال محمد بن إسحق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد إن كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله في ذلك من قوله "وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية" وقال مجاهد "وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية" قال النصارى تقوله وهو اختيار ابن جرير قال لأن السياق فيهم. وفي ذلك نظر وحكى القرطبي "لولا يكلمنا الله" أي يخاطبنا بنبوتك يا محمد قلت وهو ظاهر السياق والله أعلم وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي في تفسير هذه الآية هذا قول كفار العرب "كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم" قال هم اليهود والنصارى ويؤيد هذا القول أن القائلين ذلك هم مشركو العرب قوله تعالى "وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله" الآية وقوله تعالى "وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا" إلى قوله "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا" وقوله تعالى "وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا" الآية وقوله تعالى "بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة" إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به إنما هو الكفر والمعاندة كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم كما قال تعالى "يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة" وقال تعالى "وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" وقوله تعالى "تشابهت قلوبهم" أي أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو كما قال تعالى "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به" الآية وقوله تعالى "قد بينا الآيات لقوم يوقنون" أي قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى لمن أيقن وصدق واتبع الرسل وفهم ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى وأما من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة فأولئك قال الله فيهم "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم".

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ

📘 قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أخبرنا عبدالرحمن بن صالح أخبرنا عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله الفزاري عن شيبان النحوي أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنزلت علي" إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا" قال بشيرا بالجنة ونذيرا من النار قوله" ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" قراءة أكثرهم ولا تسأل بضم التاء على الخبر وفي قراءة أبي بن كعب وما تسأل وفي قراءة ابن مسعود ولن تسأل عن أصحاب الجحيم نقلهما ابن جرير أي نسألك عن كفر من كفر بك كقوله "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" وكقوله تعالى "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" الآية وكقوله تعالى "نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد" وأشباه ذلك من الآيات وقرأ آخرون " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم "بفتح التاء على النهي أي لا تسأل عن حالهم كما قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي؟" فنزلت "ولا تسأل عن أصحاب الجحيم فما ذكرهما حتى توفاه الله عز وجل ورواه ابن جرير عن ابن كريب عن وكيع عن موسى بن عبيدة وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب بمثله قد حكاه القرطبي عن ابن عباس ومحمد بن كعب قال القرطبي: وهذا كما يقال لا تسأل عن فلان أي قد بلغ فوق ما تحسب وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمَنا به وأجبنا عن قوله "إن أبي وأباك في النار" "قلت" والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها وإسناده ضعيف والله أعلم. ثم قال ابن جرير وحدثني القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج أخبرني داود بن أبي عاصم به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم "أين أبواي" ؟ فنزلت "إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" وهذا مرسل كالذي قبله وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب وغيره في ذلك لاستحالة الشك في الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه واختار القراءة الأولى وهذا الذي سلكه ههنا فيه نظر لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما لما علم ذلك تبرأ منهما وأخبر عنهما أنهما من أهل النار كما ثبت هذا في الصحيح ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ولا يلزم ما ذكره ابن جرير والله أعلم وقال الإمام أحمد أخبرنا موسى بن داود حدثنا فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق لا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. انفرد بإخراجه البخاري فرواه في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح به وقال تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبدالله بن سلام رواه في التفسير عن عبدالله عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء عن عبدالله بن عمرو بن العاص به فذكر نحوه فعبدالله هذا هو ابن صالح كما صرح به في كتاب الأدب وزعم ابن مسعود الدمشقي أنه عبدالله بن رجاء وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من البقرة عن أحمد بن الحسن بن أيوب عن محمد بن أحمد بن البراء عن المعافي بن سليمان عن فليح به وزاد: قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا في حرف إلا أن كعبا قال: بلغته أعينا عمومي وآذانا صمومي وقلوبا غلوفا.

أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ

📘 يقول ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فسادا.

وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ

📘 قال ابن جرير يعني بقوله جل ثناؤه" ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق وقوله تعالى "قل إن هدى الله هو الهدى" أي قل يا محمد إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل قال قتادة في قوله "قل إن هدى الله هو الهدى" قال: خصومة علمها الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة قال قتادة: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" " قلت "هذا الحديث مخرج في الصحيح عن عبدالله بن عمرو "ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير" فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعد ما علموا من القرآن والسنة عياذا بالله من ذلك فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله "حتى تتبع ملتهم" حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى "لكم دينكم ولي دين" فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا لأنهم كلهم ملة واحدة وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه وقال: في الرواية الأخرى كقول مالك إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى كما جاء في الحديث واللّه أعلم.

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

📘 وقوله "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته" عبدالرزاق عن معمر عن قتادة: هم اليهود والنصارى وهو قول عبدالرحمن بن زيد بن أسلم واختاره ابن جرير. وقال: سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا إبراهيم بن موسى وعبدالله بن عمران الأصبهاني قال أخبرنا يحيى بن يمان حدثنا أسامة بن زيد عن أبيه عن عمر بن الخطاب "يتلونه حق تلاوته" قال: إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار وقال أبو العالية قال ابن مسعود والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله اللّه ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله وكذا رواه عبدالرزاق عن معمر عن قتادة ومنصور بن المعتمر عن ابن مسعود قال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الآية. قال: "يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه". وقال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن مسعود نحو ذلك وقال الحسن البصري: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو زرعة أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا ابن أبي زائدة أخبرنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله "يتلونه حق تلاوة" قال: يتبعونه حق اتباعه ثم قرأ "والقمر إذا تلاها" يقول اتبعها قال: وروي عن عكرمه وعطاء ومجاهد وأبي رزين وإبراهيم النخعي نحو ذلك. وقال سفيان الثوري أخبرنا زبيد عن مرة عن عبدالله بن مسعود في قوله يتلونه حق تلاوة قال يتبعونه حق اتباعه. قال القرطبي وروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "يتلونه حق تلاوته" قال يتبعونه حق اتباعه ثم قال في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب إلا أن معناه صحيح وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة وقال عمر بن الخطاب: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها قال: وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مر بآية رحمة سأل وإذا مر بآية عذاب تعوذ وقوله "أولئك يؤمنون به" خبر عن الذين آتيناهم الكتاب "يتلونه حق تلاوته" أي من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته آمن بما أرسلتك به يا محمد كما قال تعالى "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" الآية. وقال "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم" أي إذا أقمتموها حق الإقامة وآمنتم بها حق الإيمان وصدقتم ما فيها من الإخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته قادكم ذلك الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة كما قال تعالى "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل" الآية. وقال تعالى قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا" أى إن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعا وقال تعالى "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون" وقال تعالى "وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد" ولهذا قال تعالى" ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون" كما قال تعالى "ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده".وفي الصحيح "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار".

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ

📘 وقد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة وكررت ههنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمره وأمته فحذرهم من كتمان هذا وكتمان ما أنعم به عليهم وأمرهم أن يذكروا نعمة اللّه عليهم من النعم الدنيوية والدينية ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم اللّه من إرسال الرسول الخاتم منهم ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عن موافقته صلوات اللّه وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ

📘 وقد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة وكررت ههنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمره وأمته فحذرهم من كتمان هذا وكتمان ما أنعم به عليهم وأمرهم أن يذكروا نعمة اللّه عليهم من النعم الدنيوية والدينية ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم اللّه من إرسال الرسول الخاتم منهم ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عن موافقته صلوات اللّه وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.

۞ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ

📘 يقول تعالى منبها على شرف إبراهيم خليله عليه السلام وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد حين قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي ولهذا قال "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" أي واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليهم وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين اذكر لهؤلاء ابتلاء اللّه إبراهيم أي اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي "فأتمهن" أي قام بهن كلهن كما قال تعالى "وإبراهيم الذي وفى" أي وفى جميع ما شرع له فعمل به صلوات الله عليه وقال تعالى: "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين" وقال تعالى "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين" وقال تعالى "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا واللّه ولي المؤمنين" وقوله تعالى "بكلمات" أي بشرائع وأوامر ونواهٍ فإن الكلمات تطلق ويراد بها الكلمات القدرية كقوله تعالى عن مريم عليها السلام "وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين" وتطلق يراد بها الشرعية كقوله تعالى "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا" أي كلماته الشرعية وهي إما خبر صدق وإما طلب عدل إن كان أمرا أو نهي ومن ذلك هذه الآية الكريمة "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" أي قام بهن قال "إني جاعلك للناس إماما" أي جزاء على ما فعل كما قام بالأوامر وترك الزواجر جعله اللّه للناس قدوة وإماما يقتدى به ويحتذى حذوه. وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام فروي عن ابن عباس في ذلك روايات فقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال ابن عباس: ابتلاه اللّه بالمناسك وكذا رواه أبو إسحق السبيعي عن التميمي عن ابن عباس وقال عبدالرزاق أيضا أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي والنخعي وأبي صالح وأبي الجلد نحو ذلك "قلت" وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء" قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط" ولفظه لمسلم. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن ابن حنش بن عبد اللّه الصنعاني عن ابن عباس أنه كان يقول في تفسير هذه الآية"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"قال عشر ست في الإنسان وأربع في المشاعر. فأما التي في الإنسان حلق العانة ونتف الإبط والختان وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة. وتقليم الأظفار وقص الشارب والسواك وغسل يوم الجمعة والأربعة التي في المشاعر الطواف والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار والإفاضة. وقال داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم قال الله تعالى "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قلت له وما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن؟ قال: الإسلام ثلاثون سهما منها عشر آيات في براءة "التائبون العابدون" إلى آخر الآية وعشر آيات في أول سورة "قد أفلح المؤمنون" و "سأل سائل بعذاب واقع" وعشر آيات في الأحزاب "إن المسلمين والمسلمات" إلى آخر الآية فأتمهن كلهن فكتبت له براءة قال الله "وإبراهيم الذي وفى" هكذا. رواه الحاكم وأبو جعفر بن جرير وأبو محمد بن أبي حاتم بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند به وهذا لفظ ابن أبي حاتم وقال محمد ابن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه فلما مضى على ذلك كله وأخلصه للبلاء قال الله له "أسلم قال أسلمت لرب العالمين" على ما كان من خلاف الناس وفراقهم. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا إسماعيل بن علية عن أبي رجاء عن الحسن يعني البصري "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال ابتلاه بالكوكب فرضي عنه وابتلاه بالقمر فرضي عنه وابتلاه بالشمس فرضي عنه وابتلاه بالهجرة فرضي عنه وابتلاه بالختان فرضي عنه وابتلاه بابنه فرضي عنه. وقال ابن جرير أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع أخبرنا سعيد عن قتادة قال كان الحسن يقول: أي والله لقد ابتلاه بأمر فصبر عليه - ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر فأحسن في ذلك وعرف أن ربه دائم لا يزول فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما كان من المشركين ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك وابتلاه الله بذبح ابنه والختان فصبر على ذلك وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول في قوله "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال ابتلاه الله بذبح ولده وبالنار والكوكب والقمر والشمس وقال: أبو جعفر بن جرير أخبرنا ابن بشار أخبرنا سلم بن قتيبة أخبرنا أبو هلال عن الحسن "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر فوجده صابرا: وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" فمنهن "قال إني جاعلك للناس إماما" ومنهن "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" ومنهن الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم والرزق الذي رزق ساكنو البيت ومحمد بعث في دينهما: وقال: ابن أبي حاتم أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح أخبرنا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال الله لإبراهيم إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إماما؟ قال: نعم قال: ومن ذريتي؟ "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال: نعم قال: وأَمْنا؟ قال نعم: قال وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك قال: نعم قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله؟ قال نعم: قال ابن أبي نجيح سمعته من عكرمة فعرضته على مجاهد فلم ينكره وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال ابتلي بالآيات التي بعدها "إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال الكلمات "إني جاعلك للناس إماما وقوله "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل" الآية. قوله "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" الآية. قال فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قال السدي الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك... ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" وقال القرطبي: وفي الموطأ وغيره عن يحيى ابن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم عليه السلام أول من اختتن وأول من ضاف الضيف وأول من قلم أظفاره وأول من قص الشارب وأول من شاب فلما رأى الشيب قال: يا رب ما هذا؟ قال وقار قال: يا رب زدني وقارا وذكر ابن أبي شيبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه قال أول من خطب على المنابر إبراهيم عليه السلام قال غيره وأول من برد البريد وأول من ضرب بالسيف وأول من استاك وأول من استنجى بالماء وأول من لبس السراويل وروي عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم وأن اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" "قلت": هذا الحديث لا يثبت والله أعلم ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية. قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر وجائز أن يكون بعض ذلك ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع قال ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له. قال غير أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران أحدهما ما حدثنا به أبو كريب أخبرنا راشد بن سعد حدثني زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله: الذي وفى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: "سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون" إلى آخر الآية قال والآخر منهما ما حدثنا به أبو كريب أخبرنا الحسن عن عطية أخبرنا إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإبراهيم الذي وفى" قال أتدرون ما وفى قالوا الله ورسوله أعلم؟ قال "وفي عمل يومه أربع ركعات في النهار" ورواه آدم في تفسيره عن حماد بن سلمة وعبد بن حميد عن يونس بن محمد عن حماد بن سلمة عن جعفر بن الزبير به ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين وهو كما قال فإنه لا يجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما وضعفهما من وجوه عديدة فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه والله أعلم. ثم قال ابن جرير ولو قال قائل إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبا لأن قوله "إني جاعلك للناس إماما" وقوله "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين" الآية وسائر الآيات التي هى نظير ذلك كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم "قلت" والذي قاله أولا من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله لأن السياق يعطي غير ما قالوه والله أعلم. وقوله قال "ومن ذريتي" قال "لا ينال عهدي الظالمين" لما جعل الله إبراهيم إماما سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون وأنه لا ينالهم عهد الله ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قوله تعالى في سورة العنكبوت "وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه وأما قوله تعالى قال "لا ينال عهدي الظالمين" فقد اختلفوا في ذلك فقال خصيف عن مجاهد في قوله "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال إنه سيكون في ذريتك ظالمون وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال "لا ينال عهدي الظالمين" قال لا يكون لي إمام ظالم وفي رواية لا أجعل إماما ظالما يقتدى به. وقال سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال لا يكون إمام ظالم يقتدى به. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا مالك بن إسماعيل أخبرنا شريك عن منصور عن مجاهد في قوله "ومن ذريتي" قال أما من كان منهم صالحا فأجعله إماما يقتدى به وأما من كان ظالما فلا ولا نعمة عين وقال سعيد بن جبير "لا ينال عهدي الظالمين" المراد به المشرك لا يكون إمام ظالم يقول لا يكون إمام مشرك. وقال ابن جريج عن عطاء قال "إني جاعلك للناس إماما" قال ومن ذريتي فأبى أن يجعل من ذريته إماما ظالما قلت لعطاء ما عهده قال أمره. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا عمرو بن ثور القيساري فيما كتب إلي أخبرنا الفريابي حدثنا سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال الله لإبراهيم "إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي" فأبى أن يفعل ثم قال "لا ينال عهدي الظالمين" وقال محمد بن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس "قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده ولا ينبغي أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله ومحسن ستنفذ فيه دعوته وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته وقال العوفي عن ابن عباس "لا ينال عهدي الظالمين" قال يعني لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه فيه وقال ابن جرير حدثنا إسحق أخبرنا عبدالرحمن بن عبداللّه عن إسرائيل عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس قال لا ينال عهدي الظالمين عهد وإن عاهدته وروي عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حيان نحو ذلك: وقال الثوري عن هارون بن عنترة عن أبيه قال ليس لظالم عهد وقال: عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "لا ينال عهدي الظالمين" قال لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به وأكل وعاش وكذا قال: إبراهيم النخعي وعطاء والحسن وعكرمة وقال الربيع بن أنس عهد الله الذي عهد إلى عباده دينه يقول لا ينال دينه الظالمين ألا ترى أنه قال "وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين" يقول ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق وكذا روي عن أبي العالية وعطاء ومقاتل بن حيان وقال: جويبر عن الضحاك لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني: وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه أخبرنا عبدالرحمن بن محمد بن حامد أخبرنا أحمد بن عبدالله بن سعيد الدامغاني أخبرنا وكيع عن الأعمش عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا ينال عهدي الظالمين" قال " لا طاعة إلا في المعروف وقال السدي "لا ينال عهدي الظالمين" يقول عهدي نبوتي - فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل عليه السلام أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه كما تقدم عن مجاهد وغيره والله أعلم وقال ابن خويز منداد المالكي: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ولا شاهدا ولا راويا.

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ

📘 قال العوفي عن ابن عباس قوله تعالى "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" يقول لا يقضون منه وطرا يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثابة للناس يقول يثوبون. رواهما ابن جرير: وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا عبداللّه بن رجاء أخبرنا إسرائيل عن مسلم عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال يثوبون إليه ثم يرجعون قال: وروي عن أبي العالية وسعيد بن جبير في رواية عطاء ومجاهد والحسن وعطية والربيع بن أنس والضحاك نحو ذلك. وقال ابن جرير حدثني عبدالكريم بن أبي عمير حدثني الوليد بن مسلم قال: قال أبو عمرو يعني الأوزاعي: حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله تعالى "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا. وحدثني يونس عن ابن وهب قال: قال ابن زيد "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه. وما أحسن ما قال: الشاعر في هذا المعنى أورده القرطبي: عل البيت مثابا لهـــــم ليس منه الدهر يقضون الوطر وقال سعيد بن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة وقتادة وعطاء الخراساني مثابة للناس أي مجمعا وأمنا قال الضحاك عن ابن عباس: أي أمنا للناس. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا" يقول وأمنا من العدو وأن يحمل فيه السلاح وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون. وروي عن مجاهد وعطاء والسدي وقتادة والربيع بن أنس قالوا من دخله كان آمنا. ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مثابه للناس أي جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ولا تقضي منه وطرا ولو ترددت إليه كل عام استجابة من اللّه تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام في قوله فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم إلى أن قال "ربنا وتقبل دعائي" ويصفه تعالى بأنه جعله آمنا من دخله أمن ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يعرض له كما وصف في سورة المائدة بقوله تعالى "جعل اللّه الكعبة البيت الحرام قياما للناس" أي يدفع عنهم بسبب تعظيمها السوء كما قال ابن عباس: لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض وما هذا الشرف إلا شرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن كما قال تعالى "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا" وقال تعالى "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا" وفي هذه الآية الكريمة نبه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده. فقال "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو فقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عمرو بن شبة النميري حدثنا أبو خلف يعني عبدالله بن عيسى أخبرنا داود بن أبي هند عن مجاهد عن ابن عباس "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال مقام إبراهيم الحرم كله. وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك. وقال أيضا أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فقال سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكر ههنا فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد ثم قال ومقام إبراهيم يعد كثير مقام إبراهيم الحج كله. ثم فسره لي عطاء فقال: التعريف وصلاتان بعرفة والمشعر ومنى ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة فقلت أفسره ابن عباس؟ قال: لا ولكن قال مقام إبراهيم الحج كله. قلت أسمعت ذلك لهذا أجمع؟ قال نعم سمعته منه وقال سفيان الثوري عن عبداللّه بن مسلم عن سعيد بن جبير "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال الحجر مقام إبراهيم نبي الله قد جعله اللّه رحمة فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه. وقال السدي: المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه. حكاه القرطبي وضعفه ورجحه غيره حكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح أخبرنا عبدالوهاب بن عطاء عن ابن جريج عن جعفر بن محمد عن أبيه سمع جابرا يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر هذا مقام أبينا؟ قال "نعم" قال أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله عز وجل"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"وقال عثمان بن أبي شيبة أخبرنا أبو أسامة عن زكريا عن أبي إسحق عن أبي ميسرة قال: قال عمر قلت يا رسول الله هذا مقام خليل ربنا؟ قال "نعم" قال أفلا نتخذه مصلى؟ فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقال ابن مردويه أخبرنا دعلج بن أحمد أخبرنا غيلان بن عبدالصمد أخبرنا مسروق بن المرزبان أخبرنا زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحق عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مر بمقام إبراهيم فقال: يا رسول اللّه أليس نقوم بمقام خليل ربنا؟ قال "بلى" قال أفلا نتخذه مصلى؟ فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقال ابن مردويه أخبرنا علي بن أحمد بن محمد القزويني أخبرنا علي بن الحسين حدثنا الجنيد أخبرنا هشام بن خالد أخبرنا الوليد عن مالك بن أنس عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: لما وقف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم قال له عمر يا رسول الله هذا مقام إبراهيم الذي قال الله "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال "نعم" قال الوليد: قلت لمالك هكذا حدثك واتخذوا قال نعم هكذا وقع في هذه الرواية وهو غريب وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه وقال البخاري: باب قوله "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" مثابة يثوبون يرجعون. حدثنا مسدد أخبرنا يحيى عن حميد عن أنس بن مالك. قال: قال عمر بن الخطاب وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث: قلت يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت يا رسول اللّه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل اللّه آية الحجاب. قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتت إحدى نسائه قالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات" الآية وقال ابن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثني حميد قال: سمعت أنسا عن عمر رضي الله عنهما هكذا ساقه البخاري ههنا وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب الكتب الستة وروى عنه الباقون بواسطة وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين فيه اتصال إسناد الحديث وإنما لم يسنده لأن يحيى بن أبي أيوب الغافقي فيه شيء كما قال الإمام أحمد فيه هو سيء الحفظ والله أعلم وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم أخبرنا حميد عن أنس قال: قال عمر رضي الله عنه وافقت ربي عز وجل في ثلاث قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه في الغيرة فقلت لهن "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن" فنزلت كذلك ثم رواه أحمد عن يحيى وابن أبي عدي كلاهما عن حميد عن أنس عن عمر أنه قال وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث فذكره. وقد رواه البخاري عن عمر وابن عون والترمذي عن أحمد بن منيع والنسائي عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي وابن ماجه عن محمد بن الصباح كلهم عن هشيم بن بشير به. ورواه الترمذي أيضا عن عبد بن حميد عن حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة والنسائي عن هناد عن يحيى بن أبي زائدة كلاهما عن حميد وهو ابن تيرويه الطويل به. وقال الترمذي حسن صحيح. ورواه الإمام علي بن المديني عن يزيد بن زريع عن حميد به. وقال هذا من صحيح الحديث وهو بصري. ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر فقال أخبرنا عقبة بن مكرم أخبرنا سعيد بن عامر عن جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث في الحجاب وفي أسارى بدر وفي مقام إبراهيم. وقال أبو حاتم الرازي: أخبرنا محمد بن عبدالله الأنصاري أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب وافقني ربي في ثلاث أو وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت يا رسول الله لو حجبت النساء فنزلت آية الحجاب والثالثة لما مات عبدالله بن أبي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تصلي على هذا الكافر المنافق. فقال: أيها عنك يا ابن الخطاب فنزلت "ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره" وهذا إسناد صحيح أيضا ولا تعارض بين هذا ولا هذا بل الكل صحيح ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قدم عليه والله أعلم وقال ابن جريج أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ثم قرأ "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقال ابن جرير حدثنا يوسف بن سليمان أخبرنا حاتم بن إسماعيل أخبرنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: استلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين. وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي سماه في صحيحه من حديث حاتم بن إسماعيل. وروى البخاري بسنده عن عمرو بن دينار: قال سمعت عمر يقول قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها وهكذا حتى تم جدران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ولم يزل هذا معروف تعرفه العرب في جاهليتها ولهذا قال: أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية: موطيء إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيا غير ناعل وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا كما قال عبدالله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثهم قال رأيت المقام فيه أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم وقال ابن جرير أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع أخبرنا سعيد عن قتادة "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه. وقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى "قلت" وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ولهذا والله أعلم أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين قال عبدالرزاق عن ابن جريج حدثني عطاء وغيره من أصحابنا: قال أول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال عبدالرزاق أيضا عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين البيهقي أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي حدثنا أبو ثابت حدثنا الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان يعني ابن عيينة وهو إمام المكيين في زمانه كان المقام من سفع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه وقال سفيان لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله قال سفيان لا أدري أكان لاصقا بها أم لا؟ فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه واللّه أعلم وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه أخبرنا ابن عمر وهو أحمد بن محمد بن حكيم أخبرنا محمد بن عبدالوهاب بن أبي تمام أخبرنا آدم هو ابن أبي إياس في تفسيره أخبرنا شريك عن إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب يا رسول الله لو صلينا خلف المقام فأنزل الله "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فكان المقام عند البيت فحوله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا. قال مجاهد وكان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن هذا مرسل عن مجاهد وهو مخالف لما تقدم من رواية عبدالرزاق عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم والله أعلم. قال الحسن البصري قوله "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل" قال أمرهما اللّه أن يطهراه من الأذى والنجس ولا يصيبه من ذلك شيء وقال ابن جريج قلت لعطاء ما عهده؟ قال أمره. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم "وعهدنا إلى إبراهيم" أي أمرناه كذا قال والظاهر أن هذا الحرف إنما عدي بإلى لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله "أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين" قال: من الأوثان وقال مجاهد وسعيد بن جبير طهرا بيتي للطائفين أن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس. قال ابن أبي حاتم. وروي عن عبيد بن عمير وأبي العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وقتادة "أن طهرا بيتي" أي بلا إله إلا اللّه من الشرك وأما قوله تعالى للطائفين فالطواف بالبيت معروف. وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى "للطائفين" يعني من أتاه من غربة "والعاكفين" المقيمين فيه وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنس أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه كما قال سعيد بن جبير. وقال يحيى القطان عن عبدالملك هو ابن أبي سليمان عن عطاء في قوله" والعاكفين" قال من انتابه من الأمصار فأقام عنده. وقال لنا ونحن مجاورون أنتم من العاكفين. وقال وكيع عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس قال إذا كان جالسا فهو من العاكفين. وقال: ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت قال: قلنا لعبد اللّه بن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون. قال لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال هم العاكفون. ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به "قلت" وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب. وأما قوله تعالى "والركع السجود" فقال وكيع عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس والركع السجود قال: إذا كان مصليا فهو الركع السجود وكذا قال: عطاء وقتادة قال ابن جرير رحمه الله فمعنى الآية وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك ثم أورد سؤالا فقال: فإن قيل فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه وأجاب بوجهين: "أحدهما" أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماما يقتدى به كما قال عبدالرحمن بن زيد "أن طهرا بيتي" قال من الأصنام التي يعبدون التي كان المشركون يعظمونها "قلت" وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم "والجواب الثاني" أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له فيبنياه مطهرا من الشرك والريب كما قال جل ثناؤه "أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار" قال فكذلك قوله "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي" أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب كما قال السدي "أن طهرا بيتي" ابنيا بيتي للطائفين وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده والمصلين إليه من الركع السجود كما قال تعالى "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود" الآيات. وقد اختلف الفقهاء أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك رحمه الله: الطواف به لأهل الأمصار أفضل. وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقا وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام والمراد ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى "إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد اللّه وحده لا شريك له إما بطواف أو صلاة فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة قيامها وركوعها وسجودها ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم "سواء العاكف فيه والباد" وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام وفي ذلك أيضا رد على من لا يحجه من أهل الكتابين اليهود والنصارى لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئا من ذلك فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع اللّه له؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى "إن هو إلا وحي يوحى". وتقدير الكلام إذا "وعهدنا إلى إبراهيم" أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل "أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" أي طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصا لله معقلا للطائفين والعاكفين والركع السجود وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى "في بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال" ومن السنة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتهـا من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك ولهذا قال عليه السلام "إنما بنيت المساجد لما بنيت له" وقد جمعت في ذلك جزءا على حدة ولله الحمد والمنة. وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة فقيل الملائكة قبل آدم روي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين ذكره القرطبي وحكى لفظه وفيه غرابة وقيل آدم عليه السلام رواه عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم أن آدم بناه من خمسة أجبل من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي وهذا غريب أيضا. وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه أن أول من بناه شيث عليه السلام وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها وأما إذ صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

📘 وقوله تعالى" وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر قال الإمام أبو جعفر بن جرير أخبرنا ابن بشار أخبرنا عبدالرحمن بن مهدي أخبرنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها" وهكذا رواه النسائي عن محمد بن بشار عن بندار به وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد كلاهما عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري وقال ابن جرير أيضا: أخبرنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس وأخبرنا أبو كريب أخبرنا عبدالرحيم الرازي قالا جميعا سمعنا أشعث عن نافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم كان عبداللّه وخليله وإني عبداللّه ورسوله وإن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها عضاهها وصيدها لا يحمل فيها سلاح لقتال ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير" وهذه الطريق غريبة ليست في شيء من الكتب الستة وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال "اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه" ثم يدعو أصغر وليد فيعطيه ذلك الثمر وفي لفظ "بركة مع بركة" ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان - لفظ مسلم ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا قتيبة بن سعيد أخبرنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن أبي بكر بن محمد عن عبداللّه بن عمرو بن عثمان عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها" انفرد بإخراجه مسلم فرواه عن قتيبة عن بكر بن مضر به ولفظه كلفظه سواء وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة "التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني" فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل وقال في الحديث ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال "هذا جبل يحبنا ونحبه" فلما أشرف على المدينة قال "اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم" وفي لفظ لهما "بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم وبارك لهم في مدهم" زاد البخاري يعني أهل المدينة ولهما أيضا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة" وعن عبدالله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة" رواه البخاري وهذا لفظه ولمسلم ولفظه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها. وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة" وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف اللهم بارك لنا في مدينتنا اللهم بارك لنا في صاعنا اللهم بارك لنا في مدنا اللهم اجعل مع البركة بركتين" الحديث رواه مسلم والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل وقيل إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض وهذا أظهر وأقوى والله أعلم. وقد وردت أحاديث أخر تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها" فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال "إلا الإذخر" وهذا لفظ مسلم ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك ثم قال البخاري بعد ذلك: وقال أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم مثله وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبدالله بن ماجه عن محمد بن عبدالله بن نمير عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحق عن أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم بن يناق عن صفية بنت شيبة: قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح فقال "يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا يأخذ لقطتها إلا منشد" فقال العباس: إلا الإذخر فإنه للبيوت والقبور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا الإذخر" وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به - إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال "إن مكة حرمها اللّه ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحدا ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب" فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قال أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا فارا بخربة رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه. فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلدا حراما عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبا عند الله خاتم النبيين وان آدم لمنجدل في طينته ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" الآية وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول اللّه أخبرنا عن بدء أمرك. فقال "دعوة أبي إبراهيم عليه السلام وبشرى عيسى ابن مريم ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام" أي أخبرنا عن بدء ظهور أمرك كما سيأتي قريبا إن شاء الله. وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخبارا عن الخليل أنه قال "رب اجعل هذا بلدا آمنا" أي من الخوف لا يرعب أهله وقد فعل الله ذلك شرعا وقدرا. كقوله تعالى "ومن دخله كان آمنا" وقوله "أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم" إلى غير ذلك من الآيات وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه: وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول "لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح" وقال في هذه السورة "رب اجعل هذا البلد آمنا" أي اجعل هذه البقعة بلدا آمنا وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة. وقال تعالى في سورة إبراهيم "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا" وناسب هذا هناك لأنه والله أعلم كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به وبعد مولد إسحق الذي هو أصغر سنا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة ولهذا قال في آخر الدعاء "الحمد للّه الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق إن ربي لسميع الدعاء". وقوله تعالى "وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال "ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" قال هو قول الله تعالى وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه اللّه. قال وقرأ آخرون "قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم كما رواه أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال: كان ابن عباس يقول ذلك قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا وقال أبو جعفر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد "ومن كفر فأمتعه قليلا" يقول ومن كفر فأرزقه رزقا قليلا أيضا "ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" قال محمد بن إسحق لما عن لإبراهيم الدعوة على من أبى اللّه أن يجعل له الولاية انقطاعا إلى الله ومحبته وفراقا لمن خالف أمره وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر الله له بذلك. قال الله تعالى ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا وقال حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط عن عمار الذهبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى "رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر" قال ابن عباس كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل اللّه ومن كفر أيضا أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقا لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير ثم قرأ ابن عباس "كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا" رواه ابن مردويه وروى عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضا وهذا كقوله تعالى قل إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون" وقوله تعالى "ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن اللّه عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ" وقوله "ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين" وقوله "ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير ومعناه أن اللّه تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى "وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير" وفي الصحيحين "لا أحد أصبر على أذى سمعه من اللّه إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم" وفي الصحيح أيضا "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ قوله تعالى "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" وقرأ بعضهم "قال ومن كفر فأمتعه قليلا" الآية جعله من تمام دعاء إبراهيم وهي قراءة شاذة مخالفة للقراء السبعة وتركيب السياق يأبى معناها واللّه أعلم فإن الضمير في قال راجع إلى اللّه تعالى في قراءة الجمهور والسياق يقتضيه وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في قال عائدا على إبراهيم وهذا خلاف نظم الكلام واللّه سبحانه هو العلام.

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

📘 وأما قوله تعالى" وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم" فالقواعد جمع قاعدة هي السارية والأساس يقول تعالى: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت ورفعهما القواعد منه وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وحكى القرطبي وغيره عن أبي وابن مسعود أنهما كانا يقرآن" وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" ويقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" "قلت" ويدل على هذا قولهما بعده "ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" الآية فهما في عمل صالح وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي عن وهيب بن الورد أنه قرأ "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا" ثم يبكي ويقول يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك. وهذا كما حكى اللّه عن حال المؤمنين الخلص في قوله "والذين يؤتون ما آتوا" أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقرابات "وقلوبهم وجلة" أي خائفة أن لا يتقبل منهم كما جاء في الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه. وقال بعض المفسرين الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم والداعي إسماعيل والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه. وقد روى البخاري ههنا حديثا سنورده ثم نتبعه بآثار متعلقة بذلك. قال البخاري رحمه اللّه: حدثنا عبدالله بن محمد أخبرنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن المطلب ابن أبي وداعة - يزيد أحدهما على الآخر - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سيارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفا إبراهيم فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس؟ ولا شيء فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت آلله أمرك بهذا؟ قال نعم قالت: إذا لا يضيعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" حتى بلغ "يشكرون" وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى -أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم "فلذلك سعى الناس بينهما" فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت "صه" - تريد نفسها - ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا" قال فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائدا فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا قال وأم إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك قالت نعم. ولكن لا حق لكم في الماء عندنا قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس" فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر نحن في ضيق وشدة فشكت إليه قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غير عتبة بابك قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك وطلقها وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله عز وجل قال ما طعامكم؟ قالت: اللحم قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي صلى الله عليه وسلم "ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم لدعا لهم فيه" قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء اللّه ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إن اللّه أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك قال: وتعينني. قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" ورواه عبد بن حميد عن عبدالرزاق به مطولا ورواه ابن أبي حاتم عن أبي عبداللّه محمد بن حماد الطبراني وابن جرير عن أحمد بن ثابت الرازي كلاهما عن عبدالرزاق به مختصرا. وقال أبو بكر بن مردويه أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل أخبرنا بشر بن موسى أخبرنا أحمد بن محمد الأزرقي أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن عبدالملك بن جريج عن كثير بن كثير قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان وعبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير في أعلى المسجد ليلا فقال سعيد بن جبير: سلوني قبل أن لا تروني فسألوه عن المقام فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس فذكر الحديث بطوله. ثم قال البخاري: حدثنا عبد اللّه بن محمد أخبرنا أبو عامر عبدالملك بن عمرو أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء نادته من وراءه يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى اللّه قالت رضيت بالله. قال: فرجعت فجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا فذهبت فصعدت الصفا فنظرت هل تحس أحدا فلم تحس أحدا فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطا حتى أتمت سبعا ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقرها نفسها فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت فلم تحس أحدا حتى أتمت سبعا ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل فإذا هي بصوت فقالت: أغث إن كان عندك خير فإذا جبريل عليه السلام قال: فقال بعقبه هكذا وغمز عقبه على الأرض قال فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفر قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "لو تركته لكان الماء ظاهرا" فال فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها قال فمر ناس من جرهم ببطن الوادي فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك وقالوا ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هو بالماء فأتاهم فأخبرهم فأتوا إليها فقالوا: يا أم إسماعيل أتأذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك؟ فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة قال ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: إني مطلع تركتي قال فجاء فسلم فقال أين إسماعيل؟ قالت امرأته ذهب يصيد قال: قولي له إذا جاء غير عتبة بابك فلما أخبرته قال: أنت ذاك فاذهبي إلى أهلك قال ثم إنه بدا لإبراهيم فقال إن مطلع تركتي قال فجاء فقال أين إسماعيل؟ فقالت امرأته ذهب يصيد فقالت ألا تنزل فتطعم وتشرب فقال ما طعامكم وما شرابكم قالت طعامنا اللحم وشرابنا الماء قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "بركة بدعوة إبراهيم" قال ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله إني مطلع تركتي فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلا له فقال يا إسماعيل إن ربك عز وجل أمرني أن أبني له بيتا فقال أطع ربك عز وجل قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه فقال إذن أفعل - أو كما قال - قال فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" قال حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" هكذا رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء. والعجب أن الحافظ أبا عبدالله الحاكم رواه في كتابه المستدرك عن أبي العباس الأصم عن محمد بن سنان القزاز عن أبي علي عبيد الله بن عبدالحنفي عن إبراهيم بن نافع به وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه كذا قال وقد رواه البخاري كما ترى من حديث إبراهيم بن نافع وكأن فيه اختصارا فإنه لم يذكر فيه شأن الذبح وقد جاء في الصحيح أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة وقد جاء أن إبراهيم عليه السلام كان يزور أهله بمكة على البراق سريعا ثم يعود إلى أهله بالبلاد المقدسة والله أعلم والحديث - والله أعلم - إنما فيه مرفوع أماكن صرح بها ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا: أخبرنا مؤمل أخبرنا سفيان عن أبي إسحق عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس فكلمه قال: يا إبراهيم ابنِ علَى ظلي أو قال على قدْري ولا تزد ولا تنقص فلما بنى خرج وخلف إسماعيل وهاجر فقال هاجر يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ قال إلى الله قالت: انطلق فإنه لا يضيعنا قال: فعطش إسماعيل عطشا شديدا قال: فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا حتى أتت المروة فلم تر شيئا ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا ففعلت ذلك سبع مرات فقالت: يا إسماعيل مت حيث لا أراك فأتته وهو يفحص برجله من العطش فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم قال: فإلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى اللّه قال: وكلكما إلى كاف قال: ففحص الأرض بأصبعه فنبعت زمزم فجعلت تحبس الماء فقال: دعيه فإنه روي ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما وقد يحتمل أنه كان محفوظا أن يكون أولا وضع له حوطا وتحجيرا لا أنه بناه إلى أعلاه حتى كبر إسماعيل فبنياه معا كما قال اللّه تعالى. ثم قال ابن جرير أخبرنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة أن رجلا قام إلى علي رضي الله عنه فقال ألا تخبرني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال لا؟ ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم من دخله كان آمنا وإن شئت أنبأتك كيف بني إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض فضاق إبراهيم بذلك ذرعا فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج ولها رأسان فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة فتطوت على موضع البيت كطي الجحفة وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فبنى إبراهيم وبقي الحجر فذهب الغلام يبغي شيئا فقال إبراهيم لا أبغني حجرا كما آمرك قال فانطلق الغلام يلتمس له حجرا فأتاه به فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه فقال: يا أبت من أتاك بهذا الحجر؟ فقال: أتاني به من لم يتكل على بنائك جاء به جبريل عليه السلام من السماء فأتماه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيد المقري أخبرنا سفيان عن بشر بن عاصم عن سعيد بن المسيب عن كعب الأحبار قال: كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق اللّه الأرض بأربعين عاما ومنه دحيت الأرض. قال سعيد: وحدثنا علي بن أبي طالب أن إبراهيم أقبل من أرض أرمينية ومعه السكينة تدله على تبوء البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتا وقال: فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إلا ثلاثون رجلا فقلت يا أبا محمد فإن اللّه يقول "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" قال كان ذلك بعد وقال السدي: إن اللّه عز وجل أمر إبراهيم أن يبني البيت هو وإسماعيل ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود. فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت فبعث الله ريحا يقال لها الريح الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس فذلك حين يقول تعالى "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن. قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه ههنا. قال يا أبت إني كسلان لغب. قال علي ذلك فانطلق يطلب له حجرا وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن فقال يا أبت من جاءك بهذا؟ قال جاء به من هو أنشط منك فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى إبراهيم ربه فقال "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" وفي هذا السـياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنيه قبل إبراهيم. وإنما هدي إبراهيم إليها وبوئ لها وقد ذهب إلى هذا ذاهبون كما قال الإمام عبدالرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك وقال عبدالرزاق أيضا أخبرنا هشام بن حسان عن سوار ختن عطاء عن عطاء ابن أبي رباح قال: لما أهبط آدم من الجنة كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء يسمع كلام أهل السماء ودعاؤهم يأنس إليهم فهابت الملائكة حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها فخفضه الله تعالى إلى الأرض فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته فوجه إلى مكة فكان موضع قدميه قرية وخطوه مفازة حتى انتهى إلى مكة وأنزل الله ياقوته من ياقوت الجنة فكانت على موضع البيت الآن فلم يزل يطوف به حتى أنزل اللّه الطوفان فرفعت تلك الياقوتة حتى بعث اللّه إبراهيم عليه السلام فبناه. وذلك قول الله تعالى "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" وقال عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال: قال آدم إني لا أسمع أصوات الملائكة قال بخطيئتك ولكن اهبط إلى الأرض فابن لي بيتا ثم أحفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل من حراء وطور زيتا وطور سيناء والجودي وكان ربضه من حراء فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم عليه السلام بعد وهذا صحيح إلى عطاء ولكن في بعضه نكارة واللّه أعلم. وقال عبدالرزاق أيضا أخبرنا معمر عن قتادة قال: وضع الله البيت مع آدم أهبط اللّه آدم إلى الأرض وكان مهبطه بأرض الهند وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض فكانت الملائكة تهابه فنقص إلى ستين ذراعا فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم فشكا ذلك إلى الله عز وجل فقال اللّه يا آدم إني قد أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي وتصلي عنده كما يصلي عند عرشي فانطلق إليه آدم فخرج ومد له في خطوه فكان بين كل خطوتين مفازة فلم تزل تلك المفازة بعد ذلك فأتى آدم البيت فطاف به ومن بعده من الأنبياء. وقال ابن جرير: أخبرنا ابن حميد أخبرنا يعقوب العمي عن حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس قال: وضع اللّه البيت على أركان الماء على أربعة أركان فبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحت البيت وقال محمد بن إسحاق حدثني عبدالله بن أبي نجيح عن مجاهد وغيره من أهل العلم إن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام أو خرج معه بإسماعيل وبأمه هاجر وإسماعيل طفل صغير يرضع وحملوا فيما حدثني على البراق ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم وخرج معه جبريل فكان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذا أمرت يا جبريل ؟ فيقول جبريل أمضه حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه وسلم وسمر وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما ؟ قال نعم فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا فقال "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" إلى قوله "لعلهم يشكرون" وقال عبد الرزاق أخبرنا هشام بن حسان أخبرني حميد عن مجاهد قال: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا بألفي سنة وأركانه في الأرض السابعة وكذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد القواعد في الأرض السابعة وقال: ابن أبي حاتم حدثنا أبي أخبرنا عمر بن رافع أخبرنا عبد الوهاب بن معاوية عن عبد المؤمن بن خالد عن علياء بن أحمر أن ذا القرنين قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعد البيت من خمسة أجبل فقال مالكما ولأرضنا؟ فقال نحن عبدان مأموران أمرنا ببناء هذه الكعبة قالا فهاتا بالبينة على ما تدعينان فقامت خمسة أكبش فقلن نحن فشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران أمرا ببناء هذه الكعبة فقال قد رضيت وسلمت ثم مضى وذكر الأزرقي في تاريخ مكة إن ذا القرنين طاف مع إبراهيم عليه السلام بالبيت وهذا يدل على تقدم زمانه والله أعلم. وقال البخاري رحمه الله قوله تعالى "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" الآية القواعد أساسه واحدها قاعدة والقواعد من النساء واحدتها قاعدة حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبدالله أن عبدالله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبدالله بن عمر عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ألم تري أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم" فقلت يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال "لولا حدثان قومك بالكفر" فقال عبدالله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم عليه السلام وقد رواه في الحج عن القعنبي وفي أحاديث الأنبياء عن عبدالله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى ومن حديث ابن وهب والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم كلهم عن مالك به ورواه مسلم أيضا من حديث نافع قال سمعت عبدالله بن أبي بكر بن أبي قحافة يحدث عبدالله بن عمر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية - أو قال بكفر- لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها الحجر" وقال البخاري أخبرنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحق عن الأسود قال: قال لي ابن الزبير كانت عائشة تسر إليك حديثا كثيرا فما حدثتك فى الكعبة قال: قلت قالت لي قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم - فقال ابن الزبير بكفر - لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين بابا يدخل منه الناس وبابا يخرجون منه" ففعله ابن الزبير انفرد بإخراجه البخاري فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه وقال مسلم في صحيحه حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفا" قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا أخبرنا ابن نمير عن هشام بهذا الإسناد انفرد به مسلم: قال وحدثني محمد بن حاتم حدثني محمد بن مهدي أخبرنا سليم بن حبان عن سعيد يعني بن ميناء قال: سمعت عبدالله بن الزبير يقول حدثتني خالتي يعني عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا قومك حديث عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة" انفرد به أيضا. "ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل عليه السلام بمدد طويلة وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين" وقد نفل معهم في الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين قال: قال محمد بن إسحق بن يسار في السيرة: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها وإنما كانت رضما فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى بني مليح بن عمرو من خزاعة فقطعت قريش يده ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها وكانت حية تخرج من بئر الكعبة إلي كانت تطرح فيها ما يهدى لها كل يوم فتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها فبينا هي يوما تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله إليها طائرا فاختطفها فذهب بها فقالت قريش إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام بن وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس قال ابن إسحق والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم قال ثم إن فريشا تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم وكان شق الحجر لبني عبدالدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول اللهم لم ترع اللهم إنا لا نريد إلا الخير ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة وقالوا ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله فهدم وهدم الناس معه حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم عليه السلام أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضا: قال فحدثني بعض من يروي الحديث بأن رجلا من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضا أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس. قال بن إسحق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن يعني الحجر الأسود فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا "لقعة الدم" فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلهم قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوبا فأتي به فأخذ الركن يعني الحجر الأسود فوضعه فيه بيده ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ثم بنى عليه وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي "الأمين" فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها: عجبت لما تصوبت العقاب إلى الثعبان وهي لهـا اضـطراب وقد كانت يكون لها كشيش وأحيانا يكون لها وثاب إذا قمنا إلى التأسيس شدت تهيبنا البناء وقد تهاب فلما أن خشينا الرجز جاءت عقاب تتلئب لها أنصباب فضمتها إليها ثـم خلت لنا البنيان ليس له حجاب فقمنا حاشدين إلى بناء لنا منه القواعد والتراب غداة نرفع التأسيس منه وليس على مساوينا ثياب أعز به المليك بني لؤي فليس لأصله منهم ذهاب وقد حشدت هناك بنو عدي ومرة قد تقدمهـا كلاب فبوأنا المليك بذاك عزا وعند الله يلتمس الثواب قال ابن إسحاق وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشر ذراعا وكانت تكسى القباطي ثم كسيت بعد البرود وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف. "قلت" ولم تزل على بناء قريش حتى أحترقت في أول إمارة عبدالله بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية لما حاصروا ابن الزبير فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابا شرقيا وبابا غربيا ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبدالملك بن مروان له بذلك كما قال مسلم بن الحجاج فى صحيحه أخبرنا هناد بن السري أخبرنا ابن أبي زائدة أخبرنا ابن أبي سليمان عن عطاء قال لما أحترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان تركه بن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم أو يجيروهم على أهل الشام فلما صدر الناس: قال يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهى منها؟ قال بن عباس إنه قد خرق لي رأى فيها أرى أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجار أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال ابن الزبير لو كان أحدهم أحترق بيته ما رضي حتى يجدده فكيف بيت ربكم عز وجل إنى مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمري فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى أرتفع بناؤه وقال بن الزبير إنى سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم: قال "لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ولجعلت له بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه" قال فأنا أجد ما أنفق ولست أخاف الناس قال: فزاد فيه خمسه أذرع من الحجر حتى أبدى له أسا نظر الناس إليه فبنى عليه البناء وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعا فلما زاد فيه أستقصره فزاد في طوله عشرة أذرع وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه فلما قتل بن الزبير كتب الحجاج إلى عبدالملك يستجيزه بذلك ويخبره أن بن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة فكتب إليه عبدالملك إنا لسنا من تلطيخ بن الزبير فى شيء أما ما زاده في طوله فأقره وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه فنقضه وأعاده إلى بنائه وقد رواه النسائي في سننه عن هناد عن يحيى بن أبي زائدة عن عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء عن بن الزبير عن عائشة بالمرفوع منه ولم يذكر القصة وقد كانت السنة أقرارا ما فعله عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما لأنه هو الذي وده رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر ولكن خفيت هذه السنة على عبدالملك بن مروان ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وددنا أنا تركناه وما تولى كما قال مسلم: حدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر أخبرنا بن جريج سمعت عبدالله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء يحدثان عن الحارث بن عبدالله بن أبي ربيعة قال: عبدالله بن عبيد: وفد الحارث بن عبيد الله على عبدالملك بن مروان في خلافته فقل عبدالملك: ما أظن أبا حبيب يعني بن الزبير سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها قال الحارث بلى أنا سمعته منها قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه" فأراها قريبا من سبعة أذرع هذا حديث عبدالله بن عبيد بن عمير وزاد عليه الوليد بن عطاء قال النبي صلى الله عليه وسلم "ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيا وغربيا وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها". قالت: قلت لا قال "تعززا أن لا يدخلها إلا من أرادوا فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه حتى يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط" قال عبدالملك فقلت للحارث أنت سمعتها تقول هذا؟ قال نعم قال فنكت ساعة بعصاه ثم قال وددت أنى تركت وما تحمل قال مسلم وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة حدثنا أبو عاصم ح وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق كلاهما عن بن جريج بهذا الإسناد مثل حديث أبي بكر قال: وحدثنا محمد بن حاتم حدثنا عبدالله بن بكر السهمي حدثنا حاتم بن أبي صغيرة عن أبي قزعة أن عبدالملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين يقول سمعتها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة حتى أزيد فيها من الحجر فإن قومك قصروا في البناء" فقال الحارث بن عبدالله بن أبي ربيعة لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فإنى سمعت أم المؤمنين تحدث هذا. قال لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة لأنه قد روي عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد والحارث بن عبدالله بن أبي ربيعة وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير فدل هذا على صواب ما فعله بن الزبير فلو ترك لكان جيدا ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال فقد كره بعض العلماء أن يغير عن حاله كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي أنه سأل الإمام مالكا عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله بن الزبير فقال له مالك يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها فترك ذلك الرشيد نقله عياض والنووي ولا تزال - والله أعلم - هكذا إلى آخر الزمان إلى أن يخربها ذو السويقتين من الحبشة كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" أخرجاه وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا" رواه البخاري وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده أخبرنا أحمد بن عبدالملك الحراني أخبرنا محمد بن سلمة عن بن إسحق عن بن أبي نجيح عن مجاهد عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله" - الفدع زيغ بين القدم وعظم الساق - وهذا والله أعلم إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج".

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

📘 وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم قال ابن جرير يعنيان بذلك وأجعلنا مستسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك ولا في العبادة غيرك وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا إسماعيل عن رجاء بن حبان الحصيني القرشي أخبرنا معقل بن عبيد الله عن عبد الكريم "واجعلنا مسلمين لك" قال مخلصين لك "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" قال مخلصة وقال أيضا أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا المقدمي أخبرنا سعيد بن عامر عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية "واجعلنا مسلمين" قال كانا مسلمين ولكنهما سألاه الثبات. وقال عكرمة "ربنا واجعلنا مسلمين لك" قال الله: قد فعلت "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" قال الله قد فعلت. وقال السدي "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" يعنيان العرب قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل وقد قال الله تعالى "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون". "قلت" وهذا الذي قاله بن جرير لا ينفيه السدي فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم والسياق إنما هو في العرب ولهذا قال بعده "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم" الآية. والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم وقد بعث فيهم كما قال تعالى "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم" ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى "قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا" وغير ذلك من الأدلة القاطعة وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما" وهذا القدر مرغوب فيه شرعا فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبدالله وحده لا شريك له ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام "إنى جاعلك للناس إماما" قال "ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" وهو قوله "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا مات ابن آدم أنقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"" وأرنا مناسكنا" قال ابن جريج عن عطاء "وأرنا مناسكنا" أخرجها لنا وعلمناها وقال مجاهد "أرنا مناسكنا" مذابحنا وروى عن عطاء أيضا وقتادة نحو ذلك وقال سعيد بن منصور: أخبرنا عتاب بن بشير عن خصيف عن مجاهد قال: قال إبراهيم "أرنا مناسكنا" فأتاه جبرائيل فأتى به البيت فقال أرفع القواعد فرفع القواعد وأتم البنيان ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا قال هذا من شعائر الله ثم انطلق به إلى المروة فقال: وهذا من شعائر الله ثم انطلق به نحو منى فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة فقال: كبر وارمه فكبر ورماه ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه فكبر ورماه فذهب الخبيث إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئا فلم يستطع فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام فقال هذا المشعر الحرام فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاث مرات قال نعم وروى عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك وقال أبو داود الطيالسي أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي العاصم الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال: إن إبراهيم لما أري أوامر المناسك عرض له الشيطان عند المسعى فسابقه إبراهيم ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى فقال: هذا مناخ الناس فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أتى به إلى الجمرة الوسطى تعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أتى به إلى الجمرة القصوى فعرض الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب فأتى به جمعا فقال: هذا المشعر ثم أتى به عرفة فقال هذه عرفة فقال له جبريل أعرفت؟.

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

📘 يقول تعالى إخبارا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولا منهم أي من ذرية إبراهيم وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق فى تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولا في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجميين من الإنس والجن كما قال الإمام أحمد أخبرنا عبدالرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنى عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك; دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين" وكذلك رواه ابن وهب والليث وكاتبه عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح وتابعه أبو بكر بن أبي مريم عن سعيد بن سويد وقال الإمام أحمد أيضا أخبرنا أبو النضر أخبرنا الفرج أخبرنا لقمان بن عامر قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت يا رسول الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بي ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام ولم يزل ذكره في الناس مذكورا مشهورا سائرا حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل نسبا وهو عيسى ابن مريم عليه السلام حيث قام في بني إسرائيل خطيبا وقال "إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" ولهذا قال في هذا الحديث "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ابن مريم". وقوله "ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" قيل كان مناما رأته حين حملت به وقصته على قومها فشاع فيهم وأشتهر بينهم وكان ذلك توطئة وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها ولهذا جاء في الصحيحين "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" وفي صحيح البخاري "وهم بالشام" قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقيل له قد أستجيب لك وهو كائن في آخر الزمان وكذا قال السدي وقتادة وقوله تعالى "ويعلمهم" الكتاب" يعني القرآن" والحكمة" يعني السنة قاله الحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وأبو مالك وغيرهم وقيل الفهم في الدين ولا منافاة "ويزكيهم" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني طاعة الله والإخلاص وقال: محمد بن إسحق "ويعلمهم الكتاب والحكمة" قال يعلمهم الخير فيفعلوه والشر فيتقوه ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته وقوله "إنك أنت العزيز الحكيم" أي العزيز الذي لا يعجزه شيء وهو قادر على كل شيء الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها وحكمته وعدله.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ

📘 يقول تعالى: وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس أي كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به وعنه وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر. "قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء" يعنون - لعنهم الله - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم قاله أبو العالية والسدى في تفسيره بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة وبه يقول الربيع بن أنس وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم يقولون أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء؟ والسفهاء جمع سفيه لأن الحكماء جمع حكيم والحلماء جمع حليم والسفيه هو الجاهل الضعيف الرأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" قال عامة علماء التفسير هم النساء والصبيان وقد تولى الله سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال "ألا إنهم هم السفهاء" فأكد وحصر السفاهة فيهم "ولكن لا يعلمون" يعني ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى والبعد عن الهدى.

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

📘 يقول تبارك وتعالى ردا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى فلم يدع معه غيره ولا أشرك به طرفة عين وتبرأ من كل معبود سواه وخالف في ذلك سائر قومه حتى تبرأ من أبيه فقال يا قوم "إنى بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين" وقال تعالى "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه أنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين" وقال تعالى "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم" وقال تعالى "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين" ولهذا وأمثاله قال تعالى: "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه" أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلا وهو في الآخرة من الصالحين السعداء فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته واتبع طرق الضلالة والغي فأي سفه أعظم من هذا؟ أم أي ظلم أكبر من هذا كله قال تعالى: "إن الشرك لظلم عظيم" قال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الآية في اليهود أحدثوا طريقا ليست من عند الله وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين".

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ

📘 أي أمره الله تعالى بالإخلاص والاستسلام والانقياد فأجاب إلى ذلك شرعا وقدا.

وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

📘 وقوله" ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب" أي وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله "أسلمت لرب العالمين" لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم كقوله تعالى "وجعلها كلمة باقية في عقبه" وقد قرأ بعض السلف ويعقوب بالنصب عطفا على بنيه كأن إبراهيم وصى بينه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرا ذلك وقد أدعى القشيري فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح والظاهر والله أعلم أن إسحاق ولد له يعقوب فى حياة الخليل وسارة لأن البشارة وقعت بهما في قوله "فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب" وقد قرئ بنصب يعقوب ههنا على نزع الخافض فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة وأيضا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت "ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" الآية وقال في الآية الأخرى ووهبنا له أسحاق ويعقوب نافلة وهذا يقتضي أنه وجد في حياته وأيضا فإنه باني بيت المقدس كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال "المسجد الحرام" قلت ثم أي؟ قال "بيت المقدس" قلت كم بينهما: قال "أربعون سنة" الحديث فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي أعتقد أنه باني بيت المقدس - وإنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه - وبين إبراهيم أربعين سنة وهذ مما أنكر على ابن حبان فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين والله أعلم وأيضا فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبا وهذا يدل على أنه ههنا من جملة الموصين وقوله يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أي أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه فإن المرء يموت غالبا على ما كان عليه ويبعث على ما مات عليه وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وفق له ويسر عليه ومن نوى صالحا ثبت عليه وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث "فيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وبعمل أهل النار فيما يبدو للناس" وقد قال الله تعالى "فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى".

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

📘 يقول تعالى محتجا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل وعلى الكفار من بني إسرائيل - وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام - بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له فقال لهم "ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق" وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه: قال النحاس والعرب تسمي العم أبا نقله القرطبي قد أستدل بهذه الآية الكريمة من جعل الجد أبا وحجب به الإخوة كما هو قول الصديق حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير ثم قال البخاري ولم يختلف عليه وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من السلف والخلف وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة وحكي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن ولتقريرها موضع آخر وقوله "إلها واحدا" أي نوحده بالألوهية ولا نشرك به شيئا غيره "ونحن له مسلمون" أي مطيعون خاضعون كما قال تعالى "وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون" والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم كما قال تعالى "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" والآيات في هذا كثيرة والأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم "نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد".

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

📘 وقوله تعالى "تلك أمة قد خلت" أي مضت" لها ما كسبت ولكم ما كسبتم" أي إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرا يعود نفعه عليكم فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم "ولا تسئلون عما كانوا يعملون" وقال أبو العالية والربيع وقتادة "تلك أمة قد خلت" يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ولهذا جاء في الأثر "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه".

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

📘 قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال: قال عبدالله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله عز وجل" وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا" وقوله "قل بل ملة إبراهيم حنيفا" أي لا نريد ما دعوتمونا إليه من اليهودية والنصرانية بل نتبع "ملة إبراهيم حنيفا" أي مستقيما قاله محمد بن كعب القرظي وعيسى ابن جارية وقال خصيف عن مجاهد مخلصا وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس حاجا وكذا روى عن الحسن والضحاك وعطية والسدي وقال أبو العالية: الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته ويرى أن حجه عليه إن استطاع إليه سبيلا وقال مجاهد والربيع بن أنس: حنيفا أي متبعا وقال أبو قلابة: الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم وقال قتادة: الحنيفية شهادة أن لا إله إلا الله يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات والخالات والعمات وما حرم الله عز وجل والختان.

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

📘 أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلا وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملا ونص على أعيان من الرسل وأجمل ذكر بقية الأنبياء وأن لا يفرقوا بين أحد منهم بل يؤمنوا بهم كلهم ولا يكونوا كمن قال الله فيهم "ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا" الآية وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار أخبرنا عثمان بن عمره أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونهـا بالعربية لأهل الإسلام فقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل الله" وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن حكيم عن سعيد بن يسار عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصلى الركعتين اللتين قبل الفجر ب "آمنا بالله وما أنزل إلينا" الآية والأخرى ب "آمنا بالله واشهد بأننا مسلمون" وقال أبو العالية والربيع وقتادة: الأسباط بنو يعقوب اثنا عشر رجلا ولد كل رجل منهم أمة من الناس فسموا الأسباط وقال الخليل بن أحمد وغيره: الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل وقال الزمخشري في الكشاف: الأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثنى عشر وقد نقله الرازي عنه وقرره ولم يعارضه وقال البخاري: الأسباط قبائل في بني إسرائيل وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط ههنا شعوب بني إسرائيل وما أنزل الله من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم كما قال موسى لهم "اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا" الآية وقال تعالى "وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا" قال القرطبي: وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع فهم جماعة وقيل أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر أي في الكثرة بمنزلة الشجر الواحدة سبطة قال الزجاج: ويبين لك هذا ما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري حدثنا أبو نجيد الدقاق حدثنا الأسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام قال القرطبي: والسبط الجماعة والقبيلة والراجعون إلى أصل واحد وقال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها وبرسله وقال سليمان بن حبيب: إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل ولا نعمل بما فيهما. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري أخبرنا مؤمل أخبرنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن".

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ۖ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

📘 يقول تعالى فإن آمنوا يعني الكفار من أهل الكتاب وغيرهم بمثل ما آمنتم به يا أيها المؤمنون من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم "فقد اهتدوا" أي فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه "وإن تولوا" أي عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم "فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله" أي فسينصرك عليهم ويظفرك بهم "وهو السميع العليم". قال ابن أبي حاتم قرئ علي يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرنا زياد بن يونس حدثنا نافع بن أبي نعيم قال: أرسل إلى بعض الخلفاء مصحف عثمان ليصلحه قال زياد فقلت له إن الناس ليقولون إن مصحفه كان في حجره حين قتل فوقع الدم على "فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم" فقال نافع: بصرت عيني الدم على هذه الآية وقد تقدم.

صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ

📘 قوله "صبغة الله" قال الضحاك عن ابن عباس دين الله وكذا روى عن مجاهد وأبي العالية وعكرمة وإبراهيم والحسن وقتادة والضحاك وعبدالله بن كثير وعطية العوفي والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك وانتصاب صبغة الله إما على الإغراء كقوله "فطرة الله" أي الزموا ذلك عليكموه وقال بعضهم بدلا من قوله "ملة إبراهيم" وقال سيبويه هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله "آمنا بالله" كقوله "وعد الله" وقد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من رواية أشعث بن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بني إسرائيل قالوا: يا رسول الله هل يصبغ ربك؟ فقال اتقوا الله. فناداه ربه يا موسى سألوك هل يصبغ ربك؟ فقل نعم: أنا أصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود والألوان كلها من صبغي" وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم" صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة" كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعا وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف وهو أشبه إن صح إسناده والله أعلم.

قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ

📘 يقول الله تعالى مرشدا نبيه صلوات الله وسلامه عليه إلى درء مجادلة المشركين "قل أتحاجوننا في الله" أي تناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد وأتباع أوامره وترك زواجره "وهو ربنا وربكم" المتصرف فينا وفيكم المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له "ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم" أى نحن برآء منكم ومما تعبدون وأنتم برآء منا كما قال في الآية الأخرى "فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون" "فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن أتبعن" إلى آخر الآية وقال تعالى "إخبارا عن إبراهيم "وحاجه قومه قال أتحاجوني فى الله" إلى آخر الآية وقال تعالى "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه" الآية وقال في هذه الآية الكريمة "ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون" أي نحن براء منكم كما أنتم براء منا ونحن له مخلصون أي في العبادة والتوجه.

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ

📘 يقول تعالى وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: آمنا وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة غرورا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم "وإذا خلوا إلى شياطينهم" يعني إذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم فضمن خلوا معنى انصرفوا لتعديته بإلى ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به. ومنهم من قال "إلى" هنا بمعنى "مع" والأول أحسن وعليه يدور كلام ابن جرير. وقال السدي عن أبي مالك خلوا يعني مضوا وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم ورؤساؤهم من أحبار اليهود ورءوس المشركين والمنافقين. قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "وإذا خلوا إلى شياطينهم" يعني هم رؤساءهم في الكفر. وقال الضحاك عن ابن عباس وإذا خلوا إلى أصحابهم وهم شياطينهم: وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وإذا خلوا إلى شياطينهم" من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: وإذا خلوا إلى شياطينهم وإلى أصحابهم من المنافقين والمشركين. وقال قتادة وإذا خلوا إلى شياطينهم قال إلى رءوسهم وقادتهم في الشرك والشر وبنحو ذلك فسره أبو مالك وأبو العالية والسدى والربيع بن أنس. قال ابن جرير وشياطين كل شيء مردته ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تعالى "وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا" وفي المسند عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن" فقلت يا رسول الله أو للإنس شياطين؟ قال "نعم" وقوله تعالى "قالوا إنا معكم" قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أي أنا على مثل ما أنتم عليه "إنما نحن مستهزءون" أي إنما نحن نستهزىء بالقوم ونلعب بهم. وقال الضحاك عن ابن عباس قالوا إنما نحن مستهزءون ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

📘 ثم أنكر تعالى عليهم في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم إما اليهودية وإما النصرانية فقال "قل أأنتم أعلم أم الله" يعني بل الله أعلم وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى كما قال تعالى "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين" الآية والتي بعدها وقوله "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله" قال الحسن البصري: كانوا يقرءون في كتاب الله الذي أتاهم إن الدين الإسلام وإن محمدا رسول الله وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم لله فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك وقوله "وما الله بغافل عما تعملون" تهديد ووعيد شديد أي أن علمه محيط بعملكم وسيجزيكم عليه.

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

📘 قال تعالى "تلك أمة قد خلت" أي قد مضت" لها ما كسبت ولكم ما كسبتم" أي لهم أعمالهم ولكم أعمالكم "ولا تسئلون عما كانوا يعملون" وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم من غير متابعة منكم لهم ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوامر الله واتباع رسله الذين بعثوا مبشرين ومنذرين فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل ولا سيما بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الأنس والجن من المكلفين صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين.

۞ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

📘 قيل المراد بالسفهاء ههنا مشركو العرب قاله الزجاج وقيل أحبار يهود قاله مجاهد وقيل المنافقون قاله السدي والآية عامة في هؤلاء كلهم والله أعلم قال البخاري: أخبرنا أبو نعيم سمع زهيرا عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وإنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله "وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم" انفرد به البخاري من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر وقال محمد بن إسحاق حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله فأنزل الله "قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" فقال رجال من المسلمين وددنا لو علمنا من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس فأنزل الله "وما كان الله ليضيع إيمانكم" وقال السفهاء من الناس وهم أهل الكتاب ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله "سيقول السفهاء من الناس" إلى آخر الآية وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا الحسن بن عطية حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة فأنزل الله "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال فوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل الله عز وجل "فولوا وجوهكم شطره" أي نحوه فارتاب من ذلك اليهود وقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس فكان بمكة يصلي بين الركنين وهو مستقبل صخرة بيت المقدس فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس قاله ابن عباس والجمهور ثم اختلف هؤلاء هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره على قولين وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه السلام والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة واستمر الأمر على ذلك بعضة عشر شهرا وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة التي هي قبله إبراهيم عليه السلام فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فأعلمهم بذلك وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر كما تقدم في الصحيحين من رواية البراء ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى أنها الظهر وقال كنت أنا وصاحبي أول من صلى إلى الكعبة وذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر وذلك فى مسجد بني سلمة فسمي مسجد القبلتين وفي حديث نويلة بنت مسلم أنهم جاءهم الخبر بذلك وهم في صلاة الظهر قالت: فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله وإبلاغه لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء والله أعلم ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك وقالوا "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" أي قالوا ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا فأنزل الله جوابهم فى قوله "قل لله المشرق والمغرب" أي الحكم والتصرف والأمر كله لله "فأينما تولوا فثم وجه الله" و "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله" أي الشأن كله في امتثال أوامر الله فحيثما وجهنا توجهنا فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده وفي تصرفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأمته عناية عظيمة إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له أشرف بيوت الله في الأرض إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال: قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وقد روى الإمام أحمد عن علي بن عاصم عن حصين بن عبدالرحمن عن عمرو بن قيس عن محمد بن الأشعث عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في أهل الكتاب "إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى قولنا خلف الإمام آمين".

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ

📘 قوله تعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" يقول تعالى إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم لأن الجميع معترفون لكم بالفضل والوسط ههنا الخيار والأجود كما يقال قريش أوسط العرب نسبا ودارا أي خيرها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه أي أشرفهم نسبا ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى "هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس" وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت؟ فيقول نعم فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال لنوح من يشهد لك فيقول محمد وأمته قال: فذلك قوله "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" قال والوسط العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم" رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن الأعمش وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يجيء النبي يوم القيامة ومعه رجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم هذا؟ فيقولون لا فيقال له هل بلغت قومك؟ فيقول نعم فيقال من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيدعى محمد وأمته فيقال لهم هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون نعم فيقال وما علمكم؟ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله عز وجل "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" قال عدلا "لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" وقال أحمد أيضا: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" قال "عدلا" وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه وابن أبي حاتم من حديث عبد الواحد بن زياد عن أبي مالك الأشجعي عن المغيرة بن عتيبة بن نباس حدثني مكاتب لنا عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أنا وأمتى يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد إلا ود أنه منا وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عز وجل" وروى الحاكم في مستدركه وابن مردويه أيضا واللفظ له من حديث مصعب بن ثابت عن محمد بن كعب القرظي عن جابر بن عبدالله قال: شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في بني مسلمة وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: والله يا رسول الله لنعم المرء كان لقد كان عفيفا مسلما وكان وأثنوا عليه خيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنت بما تقول" فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر فأما الذي بدا لنا منه فذاك فقال النبي صلى الله عليه وسلم "وجبت" ثم شهد جنازة في بني حارثة وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: يا رسول الله بئس المرء كان إن كان لفظا غليظا فأثنوا عليه شرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم أنت بالذي تقول" فقال الرجل الله أعلم بالسرائر فأما الذي بدا لنا منه فذاك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وجبت" قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب صدق رسول الله صلى لاله عليه وسلم ثم قرأ "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد حدثنا داود بن أبي الفرات عن عبدالله بن بريدة عن أبي الأسود أنه قال: أتيت المدينة فوافقتها وقد وقع بها مرض فهم يموتون موتا ذريعا فجلست إلى عمر بن الخطاب فمرت به جنازة فأثني على صاحبها خيرا فقال: وجبت ثم مر بأخرى فأثني عليها شرا فقال عمر: وجبت فقال أبو الأسود ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم "أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة" قال فقلنا وثلاثة قال: فقال "وثلاثة" قال: فقلنا واثنان. قال "واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد وكذا رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث داود ابن أبي الفرات به: وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى حدثنا أبو قلابة الرقاشي حدثني أبو الوليد حدثنا نافع بن عمر حدثني أمية بن صفوان عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي عن أبيه: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبناوة يقول "يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم" قالوا بم يا رسول الله؟ قال "بالثناء الحسن والثناء السيء أنتم شهداء الله في الأرض" ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وعبدالملك بن عمرو وسريج عن نافع عمل به.

قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ

📘 قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء فأنزل الله" قد نرى تقلب وجهك في السماء" إلى قوله "فولوا وجوهكم شطره" فارتابت من ذلك اليهود وقالوا: "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب" وقال "فأينما تولوا فثم وجه الله" وقال الله تعالى "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه" وروى ابن مردويه من حديث القاسم العمري عن عمه عبيدالله بن عمر عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء. فأنزل الله "فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" إلى الكعبة إلى الميزاب يؤم به جبرائيل عليه السلام. وروى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء عن يحيى بن قطة قال: رأيت عبدالله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب فتلا هذه الآية "فلنولينك قبلة ترضاها" قال نحو ميزاب الكعبة ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة عن هشام عن يعلى بن عطاء به وهكذا قال غيره وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه: أن الغرض إصابة عين الكعبة والقول الآخر وعليه الأكثرون أن المراد المواجهة كما رواه الحاكم من حديث محمد بن إسحاق عن عمير بن زياد الكندي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال شطره قبله ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وهذا قول أبي العالية ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم وكما تقدم في الحديث الآخر "ما بين المشرق والمغرب قبلة" وقال القرطبي: روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض فى مشارقها ومغاربها من أمتي" وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه صلى صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان يصلي معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت. وقال عبد الرزاق أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يحول نحو الكعبة فنزلت قد نرى تقلب وجهك في السماء فصرف إلى الكعبة وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي فيه فمررنا يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر فقلت لقد حدث أمر فجلست فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" حتى فرغ من الآية فقلت لصاحبي تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى فتوارينا فصليناهما ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم وصلى للناس الظهر يومئذ وكذا روى ابن مردويه عن ابن عمر: أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلاة الظهر وأنها الصلاة الوسطى والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا رجاء بن محمد السقطي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا إبراهيم بن جعفر حدثني أبي عن جدته أم أبيه نويلة بنت مسلم قالت: صلينا الظهر- أو العصر- في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أستقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أولئك رجال يؤمنون بالغيب" وقال ابن مردويه أيضا: حدثنا محمد بن على بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا قيس عن زياد بن علاقة عن عمارة بن أوس قال: بينما نحن فى الصلاة نحو بيت المقدس ونحن ركوع إذ نادى مناد بالباب أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قال فأشهد على إمامنا أنه أنحرف فتحول هو والرجال والصبيان وهم ركوع نحو الكعبة.

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ

📘 يخبر تعالى عن كفر اليهود وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم" ولهذا قال ههنا "ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك" وقوله "وما أنت بتابع قبلتهم" إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به وأنه كما هو مستمسكون بآرائهم وأهوائهم فهو أيضا مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته وأنه لا يتبع أهواءهم فى جميع أحواله ولا كونه متوجها إلى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود وإنما ذلك عن أمر الله تعالى ثم حذر تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره ولهذا قال مخاطبا للرسول والمراد به الأمة "ولئن أتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين".

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

📘 يخبر تعالى أن العلماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه صغير أبنك هذا" قال نعم يا رسول الله أشهد به قال "أما إنه لا يخفى عليك ولا تخفى عليه" قال القرطبي: ويروى عن عمر أنه قال لعبدالله بن سلام: أتعرف محمدا كما تعرف ولدك؟ قال نعم وأكثر نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته وإنى لا أدري ما كان من أمه قلت وقد يكون المراد "يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" من بين أبناء الناس كلهم لا يشك أحد ولا يمتري في معرفة ابنه إذا رآه من أبناء الناس كلهم ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي "ليكتمون الحق" أي ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم "وهم يعلمون".

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ

📘 ثبت تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك فقال الحق من ربك فلا تكونن من الممترين.

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

📘 قال العوفي عن ابن عباس "ولكل وجهة هو موليها" يعني بذلك أهل الأديان يقول لكل قبيلة قبلة يرضونها ووجهة الله حيث توجه المؤمنون وقال أبو العالبة: لليهودي وجهة هو موليها وللنصراني وجهة هو موليها وهداكم أنتم أيتها الأمة إلى القبلة التي هي القبلة. وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس والسدي نحو هذا وقال مجاهد في الرواية الأخرى والحسن: لكن أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة وقرأ ابن عباس وأبو جعفر الباقر وابن عامر "ولكل وجهة هو مولاها" وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا" وقال ههنا "أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير" أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

📘 هـذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار الأرض وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات فقيل تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره وقـل بل هو منزل على أحوال فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة والثاني لمن هو في مكة غائبا عنها والثالث لمن هو في بقية البلدان هكذا وجهه فخر الدين الرازي وقال القرطبي الأول لمن هو بمكة والثاني لمن هو في بقية الأمصار والثالث لمن خرج في الأسفار ورجح هذا الجواب القرطبي وقيل إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق: فقال أولا "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" إلى قوله "وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون" فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها.

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

📘 وكذلك قال الربيع بن أنس وقتادة. وقوله تعالى جوابا لهم ومقابلة على صنيعهم "الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون" وقال ابن جرير أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب" الآية وقوله تعالى "ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما" الآية قال فهذا وما أشبهه من استهزاء الله تعالى ذكره وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ومتأول هذا التأويل قال: وقال آخرون بل استهزؤه بهم توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه والكفر به قال: وقال آخرون هذا وأمثاله على سبيل الجواب كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به أنا الذي خدعتك. ولم يكن منه خديعة ولكن - قال ذلك إذا صار الأمر إليه قالوا وكذلك قوله تعالى "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين" و "الله يستهزيء بهم" على الجواب والله لا يكون منه المكر ولا الهزؤ. والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم - وقال آخرون قوله تعالى "إنما نحن مستهزؤون الله يستهزىء بهم" وقوله "يخادعون الله وهو خادعهم" وقوله "فيسخرون منهم سخر الله منهم" و "نسوا الله فنسيهم" وما أشبه ذلك إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جاء الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى "وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله" وقوله تعالى "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه" فالأول ظلم والثانى عدل فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما قال وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك. قال وقال آخرون إن معنى ذلك أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم مستهزؤن فأخبر تعالى أنه يستهزىء بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة يعني من العذاب والنكال. ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل بالإجماع وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك. قال وبنحو ما قلنا فيه رُوي الخبر عن ابن عباس وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو عثمان حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى "الله يستهزىء بهم" قال يسخر بهم للنقمة منهم وقوله تعالى "ويمدهم في طغيانهم يعمهون" قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يمدهم يملي لهم وقال مجاهد يزيدهم وقال تعالى "أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات؟ بل لا يشعرون" وقال "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" قال بعضهم كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة وهي في الحقيقة نقمة وقال تعالى "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين". قال ابن جرير والصواب نزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم كما قال تعالى "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون" والطغيان هو المجاوزة في الشيء كما قال تعالى إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية وقال الضحاك عن ابن عباس في طغيانهم يعمهبون في كفرهم يترددون وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة وبه يقول أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس ومجاهد وأبو مالك وعبدالرحمن بن زيد في كفرهم وضلالتهم. قال ابن جرير والعمه الضلال. يقال عمه فلان يعمه عمها وعموها إذا ضل قال وقوله "في طغيانهم يعمهون" في ضلالتهم وكفرهم الذي غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها لا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا. وقال بعضهم العمى في العين والعمه في القلب وقد يستعمل العمى في القلب أيضا. قال الله تعالى "فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور" وتقول عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه وجمعه عمه وذهبت إله العمهاء إذا لم يدر أين ذهبت.

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

📘 قال في الأمر الثاني" ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون" فذكر أنه الحق من الله وارتقاءه المقام الأول حيث كان موافقا لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين أنه الحق أيضا من الله يحبه ويرتضيه وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم عليه السلام إلى الكعبة وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة إبراهيم التي هي أشرف وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول إليها وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار وقد بسطها الرازي وغيره والله أعلم: وقوله "لئلا يكون للناس عليكم حجة" أي أهل الكتاب فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس وهذا أظهر قال أبو العالية "لئلا يكون للناس عليكم حجة" يعني به أهل الكتاب حين قالوا صرف محمد إلى الكعبة: وقالوا اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه وكان حجتهم على النبي صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس وقتادة والسدي نحو هذا وقال هؤلاء في قوله "إلا الذين ظلموا منهم" يعني مشركي قريش ووجه بعضهم حجة الظلمة وهي داحضة أن قالوا إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم رجع عنه والجواب أن الله تعالى اختار له التوجه إلى البيت المقدس أولا لما له تعالى في ذلك من الحكمة فأطاع ربه تعالى في ذلك ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة فامتثل أمر الله في ذلك أيضا فهو صلوات الله وسلامه عليه مطيع لله فى جميع أحواله لا يخرج عن أمر الله طرفة عين وأمته تبع له وقوله "فلا تخشوهم واخشوني" أي لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين وأفردوا الخشية لي فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه: وقوله "ولأتم نعمتي عليكم" عطف على لئلا يكون للناس عليكم حجة أي لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها "ولعلكم تهتدون" أي إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه وخصصناكم به ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها.

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ

📘 يذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم يتلو عليهم آيات الله مبينات يزكيهم أي يطهرهم من زذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويعلمهم الكتاب وهو القرآن والحكمة وهي السنة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون فكانوا في الجاهلية الجهلاء يسفهون بالعقول الغراء فانتقلوا ببركة رسالته ويمن سفارته إلى حال الأولياء وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علما وأبرهم قلوبا وأقلهم تكلفا وأصدقهم لهجة وقال تعالى "لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم" الآية وذلك من لم يعرف قدر هذه النعمة فقال تعالى "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار" قال ابن عباس يعني بنعمة الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره.

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ

📘 قال مجاهد في قوله "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم" يقول كما فعلت فاذكروني قال عبدالله بن وهب عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام قال يا رب كيف أشكرك؟ قال له ربه: تذكرني ولا تنساني فإذا ذكرتني فقد شكرتني وإذا نسيتني فقد كفرتني قال الحسن البصري وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس إن الله يذكر من ذكره ويزيد من شكره ويعذب من كفره وقال بعض السلف في قوله تعالى "اتقوا الله حق تقاته" قال هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح أخبرنا يزيد بن هرون أخبرنا عمارة الصيدلاني أخبرنا مكحول الأزدي قال: قلت لابن عمر أرأيت قاتل النفس وشارب الخمر والسارق والزاني يذكر الله وقد قال الله تعالى "فاذكروني أذكركم" قال إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته حتى يسكت وقال الحسن البصري في قوله "فاذكروني أذكركم" قال اذكروني فيما أوجبت لكم على نفسي وعن سعيد بن جبير اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي وفي رواية برحمتي وعن ابن عباس في قوله اذكروني أذكركم قال ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه وفي الحديث الصحيح "يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه" قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله عز وجل يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي وإن ذكرتني في ملإ ذكرتك في ملإ من الملائكة - أو قال في ملإ خير منه - وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة" صحيح الإسناد أخرجه البخاري من حديث قتادة وعنده قال قتادة الله أقرب بالرحمة: وقوله "واشكروا لي ولا تكفرون" أمر الله تعالى بشكره ووعد على شكره بمزيد الخير فقال "وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد" وقال الإمام أحمد حدثنا روح حدثنا شعبة عن الفضيل بن فضالة - رجل من قيس - حدثنا أبو رجاء العطاردي قال خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه" وقال روح مرة: على عبده.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ

📘 لما فرغ تعالى من بيان الأمر بالشكر شرع في بيان الصبر والإرشاد والاستعانة بالصبر والصلاة فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها أو في نقمة فيصبر عليها كما جاء فى الحديث "عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له" وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة كما تقدم في قوله "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين" وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى والصبر صبران فصبر على ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات والثاني أكثر ثوابا لأنه المقصود وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب فذاك أيضا واجب كالاستغفار من المعايب كما قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: الصبر في بابين الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله: وقال علي بن الحسين زين العابدين إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب؟ قال فيقوم عنق من الناس فيتلقاهم الملائكة فيقولون إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون إلى الجنة فيقولون وقبل الحساب؟ قالوا نعم قالوا ومن أنتم؟ قالوا نحن الصابرون قالوا وما كان صبركم؟ قالوا صبرنا على طاعة الله وصبرنا عن معصية الله حتى توفانا الله قالوا أنتم كما قلتم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين "قلت" ويشهد لهذا قوله تعالى "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" وقال سعيد بن جبير الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه واحتسابه عند الله رجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر.

وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِنْ لَا تَشْعُرُونَ

📘 وقوله تعالى" ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء" يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون كما جاء في صحيح مسلم "إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال ماذا تبغون؟ فقالوا يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله "إنى كتبت أنهم إليها لا يرجعون". وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نسمة المؤمن طائر تعلق فى شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضا وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفا لهم وتكريما وتعظيما.

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ

📘 أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده: أي يختبرهم ويمتحنهم كما قال تعالى "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم" فتارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع كما قال تعالى "فأذاقها الله لباس الجوع والخوف" فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه ولهذا قال لباس الجوع والخوف وقال ههنا "بشيء من الخوف والجوع" أي بقليل من ذلك "ونقص من الأموال" أي ذهاب بعضها "والأنفس" كموت الأصحاب والأقارب والأحباب "والثمرات" أي لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده فمن صبر أثابه ومن قنط أحل به عقابه ولهذا قال تعالى "وبشر الصابرين" وقد حكى بعض المفسرين أن المراد من الخوف ههنا خوف الله وبالجوع صيام رمضان وبنقص الأموال الزكاة والأنفس الأمراض والثمرات الأولاد وفي هذا نظر والله أعلم.

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ

📘 بين تعالى من الصابرون الذين شكرهم فقال الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أي تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة.

أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ

📘 لهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال" أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة" أي ثناء من الله عليهم قال سعيد بن جبير: أي أمنة من العذاب "وأولئك هم المهتدون" قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نعم العدلان ونعمت العلاوة "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة" فهذان العدلان "وأولئك هم المهتدون" فهذه العلاوة وهي ما توضع بين العدلين وهي زيادة في الحمل فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضا. وقد ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول "إنا لله وأنا إليه راجعون" عند المصائب أحاديث كثيرة فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا يونس بن محمد حدثنا ليث يعني ابن سعد عن يزيد بن عبدالله حدثنا أسامة بن الهاد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به قال: "لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا فعل ذلك به" قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت اللهم أجرني فى مصيبتي وأخلف لي خيرا منها ثم رجعت إلى نفسي فقلت من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما أنقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهابا لي فغسلت يدي من القرظ وأذنت له فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها فخطبني إلى نفسي فلما فرغ من مقالته قلت يا رسول الله ما بي أن لا يكون بك الرغبة ولكني امرأة في غيرة شديدة فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال فقال "أما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عز وجل عنك وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي" قالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم سلمة بعد: أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول "إنا لله وإنا إليه راجعون" اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لى خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها" قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد وعباد بن عباد قالا حدثنا هشام بن أبي هشام حدثنا عباد بن زياد عن أمه عن فاطمة ابنة الحسين عن أبيها الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها - وقال عباد قدم عهدها - فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب" ورواه ابن ماجه في سننه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها وقد رواه إسماعيل بن علية ويزيد بن هرون عن هشام بن زياد عن أبيه "كذا" عن فاطمة عن أبيها وقال الإمام أحمد أنا يحيى بن إسحاق السيلحيني أنا حماد بن سلمة عن أبي سنان قال: دفنت ابنا لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة يعني الخولاني فأخرجني وقال لي: ألا أبشرك قلت بلى قال: حدثني الضحاك بن عبدالرحمن بن عازب عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله: يا ملك الموت قبضت ولد عبدي; قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال نعم قال فما قال؟ قال: حمدك واسترجع قال: ابنو له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد" ثم رواه عن علي بن إسحاق عن عبدالله بن المبارك فذكره وهكذا رواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به وقال حسن غريب واسم أبي سنان عيسى بن سنان.

۞ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ

📘 قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي أحبرنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة قال: قلت أرأيت قول الله تعالى "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" قلت فوالله ما على أحد جناح أن لا يتطوف بهما فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ولكنها إنما أنزلت إن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل; وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله عز وجل "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" قالت عائشة: ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما أخرجاه في الصحيحين وفي رواية عن الزهري أنه قال فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام فقال إن هذا العلم ما كنت سمعته ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون إن الناس - إلا من ذكرت عائشة - كانوا يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية وقال آخرون من الأنصار إنما أمرك بالطواف بالبيت ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى "إن الصفا والمروة من شعائر الله" قال أبو بكر بن عبدالرحمن فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء ورواه البخاري من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو ما تقدم ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنسا عن الصفا والمروة؟ قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل "إن الصفا والمروة من شعائر الله" وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس قال: كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله وكانت بينهما آلهة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطواف بينهما فنزلت هذه الآية وقال الشعبي: كان إساف على الصفا وكانت نائلة على المروة وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية "قلت" ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن إسافا ونائلة كانا بشرين فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس فلما طال عهدهما عبدا ثم حولا إلى الصفا والمروة فنصبا هنالك فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة: حيث ينيخ الأشعرون ركابهـم لمفضى السيول من أساف ونائل وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه ثم خرج من باب الصفا وهو يقول "إن الصفا والمروة من شعائر الله" ثم قال "ابدأ بما بدأ الله به" وفي رواية النسائي "ابدءوا بما بدأ الله به" وقال الإمام أحمد حدثنا شريح حدثنا عبدالله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجزئة قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" ثم رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول "كتب عليكم السعي فاسعوا" وقد استدل بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك وقيل إنه واجب وليس بركن فإن تركه عمدا وسهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة وقيل بل مستحب وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين وروي عن أنس وبن عمر وابن عباس وحكي عن مالك في "العتبية" قال القرطبي واحتجوا بقوله تعالى "فمن تطوع خيرا" والقول الأول أرجح لأنه عليه السلام طاف بينهما وقال "لتأخذوا عني مناسككم" فكل ما فعله في حجته تلك واجب لابد من فعله في الحج إلا ما خرج بدليل والله أعلم وقد تقدم قوله عليه السلام "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" فقد بين الله تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة فى طلب الماء لولدها لما نفد ماؤهما وزادهما حين تركهما إبراهيم عليه السلام هنالك وليس عندهما أحد من الناس فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك ونفد ما عندهما قامت تطلب الغوث من الله عز وجل فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل حتى كشف الله كربتها وآنس غربتها وفرج شدتها وأنبع لها زمزم التي ماؤها "طعام طعم وشفاء سقم" فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه وأن يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب وأن يهديه إلى الصراط المستقيم وأن يثبته عليه إلى مماته وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام. وقوله "فمن تطوع خيرا" قيل زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك وقيل يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع وقيل المراد تطوع خيرا في سائر العبادات حكى ذلك الرازى وعزى الثالث إلى الحسن البصري والله أعلم وقوله "فإن الله شاكر عليم" أي يثيب على القليل بالكثير عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه "لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما".

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ

📘 هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله قال أبو العالية نزلت في أهل الكتاب كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنهم يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء فهؤلاء بخلاف العلماء فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضا عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا شيئا "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" الآية وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمار بن محمد عن ليث بن أبي سليم عن المنهال بن عمرو عن زاذان بن عمرو عن البراء بن عازب قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال "إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه يسمعها كل دابة غير الثقلين فتلعنه كل دابة سمعت صوته فذلك قول الله تعالى "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" يعنى دواب الأرض" ورواه ابن ماجه عن محمد بن الصباح عن عامر بن محمد به وقال عطاء بن أربي رباح: كل دابة والجن والإنس وقال مجاهد إذا أجدبت الأرض قال البهائم هذا من أجل عصاة بني آدم لعن الله عصاة بني آدم وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة "ويلعنهم اللاعنون" يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون وقد جاء في الحديث "إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر" وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون واللاعنون أيضا وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال أو الحال أن لو كان له عقل ويوم القيامة والله أعلم.

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ

📘 قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" قال أخذوا الضلالة وتركوا الهدى وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" أي الكفر بالإيمان وقال مجاهد آمنوا ثم كفروا وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى. وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود "فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى" وحاصل قول المفسرين فيما تقدم أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال واعتاضوا عن الهدى بالضلالة وهو معنى قوله تعالى "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" أي بذلوا الهدى ثمنا للضلالة وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر كما قال تعالى فيهم "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم" أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى كما يكون حال فريق آخر منهم فإنهم أنواع وأقسام ولهذا قال تعالى "فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين" أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة وما كانوا مهتدين أي راشدين في صنيعهم ذلك. وقال ابن جرير حدثنا بشير حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة "فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين" قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى الفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة بمثله سواء.

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

📘 استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال "إلا الذين تابوا واصلحوا وبينوا" أي رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه "فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم" وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل من مثل هؤلاء منهم ولكن هذا من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه ثم أخبر تعالى عمن كفر به وأستمر به الحال إلى مماته بأن "عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها" أي في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة ثم المصاحبة لهم فى نار جهنم التي "لا يخفف عنهم العذاب" فيها أى لا ينقص عماهم فيه "ولا هم ينظرون" أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك قال أبو العالية وقتادة إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

📘 "فصل" لا خلاف في جواز لعن الكفار وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له وأستدل بعضهم بالآية "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين أختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف وأستدل غيره بقوله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن والله أعلم.

خَالِدِينَ فِيهَا ۖ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ

📘 "فصل" لا خلاف في جواز لعن الكفار وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له وأستدل بعضهم بالآية "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين أختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف وأستدل غيره بقوله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن والله أعلم.

وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ

📘 يخبر تعالى عن تفرده بالإلهية وإنه لا شريك له ولا عديل له بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. وقد تقدم تفسير هذين الاسمين في أول الفاتحة وفي الحديث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد السكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال اسم الله الأعظم في هذين الآيتين"وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" و"الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم" ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية بخلق السموات والأرض وما فيها وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته.

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

📘 يقول تعالى "إن في خلق السموات والأرض" تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها - وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع واختلاف الليل والنهار هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه لا يتأخر عنه لحظة كما قال تعالى "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" وتارة يطول هذا ويقصر هذا وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتعاوضان كما قال تعالى "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" أي يزيد من هذا في هذا ومن هذا في هذا "والفلك التي تجري فى البحر بما ينفع الناس" أي في تسخير البحر بحمل السفن من.جانب إلى جانب لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند أولئك إلى هؤلاء "وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها" كما قال تعالى "وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون" - إلى قوله - "ومما لا يعلمون" "وبث فيها من كل دابة" أي على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شي من ذلك كما قال تعالى "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين" "وتصريف الرياح" أي فتارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب وتارة تسوقه وتارة تجمعه وتارة تفرقه وتارة تصرفه ثم تارة تأتى من الجنوب وهي الشامية وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة وتارة دبورا وهي غربية تنفذ من ناحية دبر الكعبة. وقد صنف الناس في الرياح والمطر والأنواء كتبا كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها وبسط ذلك يطول ههنا والله أعلم والسحاب المسخر بين السماء والأرض أي سائر بين السماء والأرض مسخر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن كما يصرفه تعالى "لآيات لقوم يعقلون" أي في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم يتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار" وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا أبو سعيد الدشتكي حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد إنا نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا فنشتري به الخيل والسلاح فنؤمن بك ونقاتل معك قال "أوثقوا لي لئن دعوت ربي فجعل لكم الصفا ذهبا لتؤمنن بي" فأوثقوا له فدعا ربه فأتاه جبريل فقال إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهبا على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين قال محمد صلى الله عليه وسلم "رب لا بل دعني وقومي فلأدعهم يوما بيوم" فأنزل الله هذه الآية "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" الآية ورواه ابن أبي حاتم من وجه أخر عن جعفر بن أبي المغيرة به وزاد في آخره: "وكيف يسألونك الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا" وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" فقال كفار قريش بمكة كيف يسع الناس إله واحد فأنزل الله تعالى "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهـار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" إلى قوله" لآيات لقوم يعقلون" فبهذا يعلمون أنه إله واحد وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء وقال وكيع بن الجراح: حدثنا سفيان عن أبيه عن أبي الضحى قال: لما نزلت "وإلهكم إله واحد" إلى آخر الآية قال المشركون إن كان هكذا فليأتنا بأية فأنزل الله عز وجل "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار" إلى قوله "يعقلون" ورواه آدم بن أبي إياس عن أبي جعفر هو الرازي عن سعيد بن مسروق والد سفيان عن أبي الضحى به.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ

📘 يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة حيث جعلوا له أندادا أي أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه هو الله لا إله إلا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبدالله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" وقوله "والذين آمنوا أشد حبا لله" ولحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم له لا يشركون به شيئا بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ويلجئون في جميع أمورهم إليه. ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك فقال "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا" قال بعضهم تقدير الكلام لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا أي أن الحكم له وحده لا شريك له وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه "وأن الله شديد العذاب" كما قال "فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد" يقول لو يعلمون ما يعاينونه هنالك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وترى المتبوعين من التابعين فقال "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا فتقول الملائكة "تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون" ويقولون "سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون" والجن أيضا تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم كما قال تعالى "ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين" وقال تعالى "واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا" وقال الخليل لقومه "إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين" وقال تعالى "ولو نرى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون" وقال تعالى "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلومونى ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم" وقوله "ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب" أي عاينوا عذاب الله وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلا ولا مصرفا. قال عطاء عن ابن عباس "وتقطعت بهم الأسباب" قال المودة: وكذا قال مجاهد فى رواية ابن أبي نجيح.

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ

📘 يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة حيث جعلوا له أندادا أي أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه هو الله لا إله إلا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبدالله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" وقوله "والذين آمنوا أشد حبا لله" ولحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم له لا يشركون به شيئا بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ويلجئون في جميع أمورهم إليه. ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك فقال "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا" قال بعضهم تقدير الكلام لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا أي أن الحكم له وحده لا شريك له وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه "وأن الله شديد العذاب" كما قال "فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد" يقول لو يعلمون ما يعاينونه هنالك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وترى المتبوعين من التابعين فقال "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا فتقول الملائكة "تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون" ويقولون "سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون" والجن أيضا تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم كما قال تعالى "ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين" وقال تعالى "واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا" وقال الخليل لقومه "إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين" وقال تعالى "ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون" وقال تعالى "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم" وقوله "ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب" أي عاينوا عذاب الله وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلا ولا مصرفا. قال عطاء عن ابن عباس "وتقطعت بهم الأسباب" قال المودة: وكذا قال مجاهد فى رواية ابن أبي نجيح.

وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ

📘 الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار وقوله "وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا" أي لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم فلا نلتفت إليهم بل نوحد الله وحده بالعبادة: وهم كاذبون في هذا بل لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك ولهذا قال "كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم" أي تذهب وتضمحل كما قال تعالى "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا" وقال تعالى "مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف" الآية. وقال تعالى "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء" الآية ولهذا قال تعالى "وما هم بخارجين من النار".

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ

📘 لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو وأنه المستقل بالخلق شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه فذكر في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا أي مستطابا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان وهي طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما كان زينة لهم في جاهليتهم كما في حديث عياض بن حماد الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "يقول الله تعالى إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال - وفيه - وإنى خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة المصري حدثنا المصري بن عبدالرحمن الاحتياطي حدثنا أبو عبدالله الجوزجاني رفيق إبراهيم بن أدهم حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا" فقام سعد بن أبي وقاص فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال "يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به". وقوله "إنه لكم عدو مبين" تنفير عنه وتحذير منه كما قال "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" وقال تعالى "أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا" وقال قتادة والسدي في قوله "ولا تتبعوا خطوات الشيطان كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان" وقال عكرمة: هي نزغات الشيطان وقال مجاهد خطؤه أو قال خطاياه: وقال أبو مجلز هي النذور في المعاصي وقال الشعبي نذر رجل أن ينحر ابنه فأفتاه مسروق بذبح كبش وقال هذا من خطوات الشيطان وقال أبو الضحى عن مسروق أتى عبدالله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود ناولوا صاحبكم فقال لا أريده فقال: أصائم أنت؟ قال لا قال: فما شأنك؟ قال حرمت أن آكل ضرعا أبدا فقال ابن مسعود هذا من خطوات الشيطان فاطعم وكفر عن يمينك رواه ابن أبي حاتم وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا حسان بن عبدالله المصري عن سليمان التيمي عن أبي رافع قال: غضبت يوما على امرأتي فقالت هي يوما يهودية ويوما نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك. فأتيت عبدالله بن عمر فقال إنما هذه من خطوات الشيطان وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك وقال عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم عن شريك عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان وكفارته كفارة يمين.

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

📘 قوله "إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" أي إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضا.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ

📘 يقال مثل ومثل ومثيل أيضا والجمع أمثال قال الله تعالى "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي وهو مع هذا أصم لا يسمع أبكم لا ينطق أعمى لو كان ضياء لما أبصر فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم عوضا عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد. وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع والله أعلم. وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال والتشبيه هاهنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين. وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات واحتج بقوله تعالى "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين" والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع على قلوبهم ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون" فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان أي في الدنيا ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة. قال: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال "رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت" أي كدوران الذي يغشى عليه من الموت. وقال تعالى "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" وقال تعالى "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا" وقال بعضهم تقدير الكلام مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا نارا وقال بعضهم المستوقد واحد لجماعة معه وقال آخرون الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد قلت وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى "فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. صم بكم عمي فهم لا يرجعون" وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في النظام وقوله تعالى "ذهب الله بنورهم" أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان "وتركهم في الظلمات" وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق "لا يبصرون" لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ

📘 يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل قالوا في جواب ذلك بل نتبع ما ألفينا أي ما وجدنا عليه آباءنا أي من عبادة الأصنام والأنداد. قال الله تعالى منكرا عليهم "أولو كان آباؤهم" أي الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم "لا يعقلون شيئا ولا يهتدون" أي ليس لهم فهم ولا هداية. وروى ابن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أنها نزلت في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فأنزل الله هذه الآية. ثم ضرب لهم تعالى مثلا - كما قال تعالى - "للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء".

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ

📘 قال ومثل الذين كفروا أي فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها بل إذا نعق بها راعيها أى دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه بل إنما تسمع صوته فقط: هكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس نحو هذا. وقيل إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئا اختاره ابن جرير والأول أولى لأن الأصنام لا تسمع شيئا ولا تعقله ولا تبصره ولا بطش لها ولا حياة فيها. وقوله "صم بكم عمي" أي صم عن سماع الحق بكم لا يتفوهون به عمي عن رؤية طريقه ومسلكه "فهم لا يعقلون" أي لا يعقلون شيئا ولا يفهمونه كما قال تعالى "والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ

📘 يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم" وقال يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟ "ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث فضيل بن مرزوق.

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

📘 ولما امتن تعالى عليهم برزقه وأرشدهم إلى الأكل من طيبه ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو عدا عليها السبع وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى "أحل لكم صيد البحر وطعامه" على ما سيأتي إن شاء الله وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله عليه السلام في البحر "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطي حديث ابن عمر مرفوعا "أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال" وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله في سورة المائدة. " مسئلة "ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره لأنه جزء منها. وقال مالك في رواية هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس فقال القرطبي في التفسير ههنا يخالط اللبن منها يسير ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع. قد روى ابن ماجه عن حديث سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال "الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفى عنه" وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير سواء ذكي أو مات حتف أنفه ويدخل شحمه في حكم لحمه إما تغليبا أو أن اللحم يشمل ذلك أو بطريق القياس على رأي. وكذلك حرم عليهم ما أهل به لغير الله وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له. وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنه سئل عن امرأة عملت عرسا للعبها فنحرت فيه جزورا فقال لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم وأورد القرطبي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه وكلوا من أشجارهم.ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة فقال "فمن اضطر غير باغ ولا عاد" أي في غير بغي ولا عدوان وهو مجاوزة الحد فلا إثم عليه أي في أكل ذلك إن الله غفور رحيم" وقال مجاهد فمن اضطر غير باغ ولا عاد قاطعا للسبيل أو مفارقا للأئمة أو خارجا في معصية الله فله الرخصة ومن خرج باغيا أو عاديا أو في معصية الله فلا رخصة له وإن اضطر إليه وكذا روي عن سعيد بن جبير وقال سعيد - في رواية عنه - ومقاتل بن حيان: غير باغ يعني غير مستحله وقال السدي غير باغ يبتغي فيه شهوته وقال آدم بن أبي إياس حدثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء وهو الخراساني عن أبيه قال: لا يشوى من الميتة ليشتهيه ولا يطبخه ولا يأكل إلا العلقة ويحمل معه ما يبلغه الحلال فإذا بلغه ألقاه وهو قوله "ولا عاد" ويقول لا يعدو به الحلال وعن ابن عباس لا يشبع منها وفسره السدي بالعدوان وعن ابن عباس "غير باغ ولا عاد" قال "غير باغ" فى الميتة ولا عاد في أكله وقال قتادة فمن اضطر غير باغ ولا عاد قال غير باغ في الميتة أي في أكله أن يتعدى حلالا إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة. وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله فمن اضطر أي أكره على ذلك بغير اختياره. " مسئلة "إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بغير خلاف - كذا قال - ثم قال وإذا أكله والحالة هذه هل يضمن أم لا؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية سمعت عباد بن شرحبيل العنزي قال: أصابتنا عاما مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلت منه في كسائي فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال للرجل "ما أطعمته إذ كان جائعا ولا علمته إذ كان جاهلا" فأمره فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق فقال "من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة فلا شيء عليه" الحديث: وقال مقاتل بن حيان في قوله "فلا إثم عليه إن الله غفور" فيما أكل من اضطرار وبلغنا والله أعلم أنه لا يزاد على ثلاث لقم وقال سعيد بن جبير: غفور لما أكل من الحرام رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار وقال وكيع أخبرنا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات دخل النار وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة قال أبو الحسن الطبري: المعروف بالكيا الهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال وهذا هو الصحيح عندنا كالإفطار للمريض ونحو ذلك.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

📘 يقول تعالى "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له الرسالة والنبوة فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم آباءهم فخشوا لعنهم الله إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم فكتموا ذلك على إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير فباعوا أنفسهم بذلك واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه وصاروا عونا له على قتالهم وباءوا بغضب على غضب وذمهم الله في كتابه في غير موضع فمن ذلك هذه الآية الكريمة "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا" وهو عرض الحياة الدنيا وأولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار أي إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة كما قال تعالى "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا" وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" وقوله "ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم لأنهم كتموا وقد علموا فاستحقوا الغضب فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه ههنا حديث الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر".

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ

📘 قال تعالى مخبرا عنهم "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" أي اعتاضوا عن الهدى وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه الضلالة وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم "والعذاب بالمغفرة" أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة: وقوله تعالى "فما أصبرهم على النار" يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال عياذا بالله من ذلك وقيل معنى قوله "فما أصبرهم على النار" أي فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار.

ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ

📘 قوله تعالى ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوا فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره فخالفوه وكذبوه وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه ويكتمون صفته فاستهزءوا بآيات الله المنزلة على رسله فلهذا استحقوا العذاب والنكال ولهذا قال "ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد".

۞ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ

📘 اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة وقواعد عميمة وعقيدة مستقيمة كما قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبيد بن هشام الحلبي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عامر بن شفي عن عبد الكريم عن مجاهد عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟ فتلا عليه "ليس البر أن تولوا وجوهكم" إلى آخر الآية قال: ثم سأله أيضا فتلاها عليه ثم سأله فقال: "إذا عملت حسنة أحبها قلبك وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك" وهذا منقطع فإن مجاهدا لم يدرك أبا ذر فإنه مات قديما وقال المسعودي: حدثنا القاسم بن عبدالرحمن قال جاء رجل إلى أبي ذر فقال ما الإيمان؟ فقرأ عليه هذه الآية" ليس البر أن تولوا وجوهكم" حتى فرغ منها فقال الرجل ليس عن البر سألتك فقال أبو ذر. جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه فقرأ عليه هذه الآية فأبي أن يرضى كما أبيت أن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده "المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها" رواه ابن مردويه وهذا أيضا منقطع والله أعلم. وأما الكلام على تفسير هذه الآية فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل وامتثال أوامره والتوجه حيثما وجه واتباع ما شرع فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ولهذا قال "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر" الآية كما قال في الأضاحي والهدايا لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" وقال العوفي عن ابن عباس فى هذه الآية ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود فأمر الله بالفرائض والعمل بها وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك وقال أبو العالية: كانت اليهود تقبل قبل المغرب وكانت النصارى تقبل قبل المشرق فقال الله تعالى "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب" يقول هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله. وقال مجاهد: ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل وقال الضحاك: ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها وقال الثوري: "ولكن البر من آمن بالله" الآية قال هذه أنواع البر كلها وصدق رحمه الله فإن من اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الإسلام كلها وأخـذ بمجامع الخير كله وهو الإيمان بالله وأنه لا إله إلا هو وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله "والكتاب" وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وقوله "وآتى المال على حبه" أي أخرجه وهو محب له راغب فيه نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا "أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر". وقد روى الحكم في مستدركه من حديث شعبة والثوري عن منصور عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وآتى المال على حبه أن تعطيه وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى الفقر" ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. " قلت" وقد رواه وكيع عن الأعمش وسفيان عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود موقوفا وهو أصح والله أعلم. وقال تعالى "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا" وقال تعالى "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" وقوله "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" نمط آخر أرفع من هذا وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له وقوله "ذوي القربى" وهم قرابات الرجل وهم أولى من أعطى من الصدقة كما ثبت فى الحديث "الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذوي الرحم ثنتان صدقة وصلة فهم أولى الناس بك ببرك وإعطائك" وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز "واليتامى" هم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب وقد قال: عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُتْم بعد حلم" "والمساكين" وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم فيعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يُفطن له فيتصدق عليه" "وابن السبيل" وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده وكذا الذي يريد سفرا في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ويدخل في ذلك الضيف كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو جعفر الباقر والحسن وقتادة والضحاك والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان "والسائلين" وهم الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات كما قال الإمام أحمد حدثنا وكيع وعبدالرحمن قال: حدثنا سفيان عم مصعب بن محمد عن يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها- قال عبدالرحمن حسين بن علي- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "للسائل حق وإن جاء على فرس" رواه أبو داود "وفي الرقاب" وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصـدقات من براءة إن شاء الله تعالى. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا شريك عن أبي حمزة عن الشعبي حدثتني فاطمة بنت قيس أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أفي المال حق سوى الزكاة؟ قالت فتلا علي "وآتى المال على حبه". ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن إياس ويحيى بن عبد الحميد كلاهما عن شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "في المال حق سوى الزكاة" ثم قرأ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب - إلى قوله - وفي الرقاب" وأخرجه ابن ماجه والترمذي وضعف أبا حمزة ميمونا الأعور وقد رواه سيار لإسماعيل بن سالم عن الشعبي وقوله وأقام الصلاة أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنيتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي وقوله "آتى الزكاة" يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة كقوله "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" وقول موسى لفرعون: "هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى" وقوله تعالى "وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة" ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس "أن في المال حقا سوى الزكاة" والله أعلم. وقوله "والموفون بعهدهم إذا عاهدوا" كقوله "الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق" وعكس هذه الصفة النفاق كما صح الحديث "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" وفي الحديث الآخر "إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" وقوله "والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أي في حال الفقر وهو البأساء وفي حال المرض والأسقام وهو الضراء "وحين البأس" أي في حال القتال والتقاء الأعداء قاله ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومرة الهمداني ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وأبو مالك والضحاك وغيرهم وإنما نصب الصابرين على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته والله أعلم وهو المستعان وعليه التكلان: وقوله "أولئك الذين صدقوا" أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال فهؤلاء هم الذين صدقوا "وأولئك هم المتقون" لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ

📘 يقول تعالى كتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون حُركم بحركم وعبدكم بعبدكم وأنثاكم بأنثاكم ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى مَن قبلكم وغيروا حكم الله فيهم وسبب ذلك قريظة والنضير كانت بنو النضير قد غزت قريظة فى الجاهلية وقهروهم فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به بل يفادي بمائة وسق من التمر وإذا قتل القرظي النضري قتل وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية القرظي فأمر الله بالعدل في القصاص ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين المخالفين لأحكام الله فيهم كفرا وبغيا فقال تعالى "كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبدالله بن بكير حدثني عبدالله بن لهيعه حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى" يعني إذا كان عمدا الحر بالحر وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم والمرأة منا الرجل منهم فنزل فيهم "الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" منها منسوخة نسختها النفس بالنفس: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "والأنثى بالأنثى" وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فأنزل الله "النفس بالنفس والعين بالعين" فجعل الأحرار فى القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم فى النفس وفيما دون النفس وجعل العبيد مستويين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله النفس بالنفس "مسألة" ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود وهو مروي عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم قال البخاري وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري فى رواية عنه ويقتل السيد بعبده لعموم حديث الحسن عن سمرة "من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه" وخالفهم الجمهور فقالوا لا يقتل الحر بالعبد لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية وإنما تجب فيه قيمته ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يقتل مسلم بكافر" ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة. "مسألة" قال الحسن وعطاء لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه السلام "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وقال الليث إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة. "مسألة" ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد: قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالإجماع وحكى عن الإمام أحمد رواية أن الجماعة لا يقتلون بالواحد ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير وعبدالملك بن مروان والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت ثم قال: ابن المنذر وهذا أصح ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر وقوله "فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال مجاهد عن ابن عباس "فمن عفي له من أخيه شيء" فالعفو أن يقبل الدية في العمد وكذا روى عن أبي العالية وأبي الشعثاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وقال الضحاك عن ابن عباس "فمن عفي له من أخيه شيء" يعني فمن ترك له من أخيه شيء يعني أخذ الدية بعد استحقاق الدم وذلك العفو "فاتباع بالمعروف" يقول فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية "وأداء إليه بإحسان" يعني من القاتل من غير ضرر ولا معك يعني المدافعة وروى الحاكم من حديث سفيان عن عمرو عن مجاهد عن ابن عباس ويؤدي المطلوب بإحسان وكذا قال: سعيد بن جبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان. "مسألة" قال مالك رحمه الله في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد في أحد قوليه ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل وقال: الباقون له أن يعفو عليها وإن لم يرض. "مسألة" وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو منهم الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث والأوزاعي وخالفهم الباقون وقوله "ذلك تخفيف من ربكم ورحمة" يقول تعالى إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفا من الله عليكم ورحمة بكم مما كان محتوما على الأمم قبلكم من القتل أو العفو كما قال: سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار أخبرني مجاهد عن ابن عباس قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى ولم يكن فيهم العفو فقال الله لهذه الأمة "كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء" فالعفو أن يقبل الدية في العمد ذلك تخفيف مما كتب على بني إسرائيل من كان قبلكم "فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" وقد رواه غير واحد عن عمرو وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس بنحوه: وقال قتادة "ذلك تخفيف من ربكم" رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ولم تحل لأحد قبلهم فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش وهكذا روي عن سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس نحو هذا وقوله "فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم" يقول تعالى فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من الله أليم موجع شديد وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية كما قال محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن سفيان بن أبي العوجاء عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث إما أن يقتص وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها" رواه أحمد وقال سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية" يعني لا أقبل منه الدية بل أقتله.

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

📘 وقوله "ولكم في القصاص حياة" يقول تعالى وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز "ولكم في القصاص حياة" قال أبو العالية جعل الله القصاص حياة فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان" يا أولى الألباب لعلكم تتقون" يقول يا أولي العقول والأفهام والنهى لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه والتقوى أسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ

📘 وهم مع ذلك "صم" لا يسمعون خيرا "بكم" لا يتكلمون بما ينفعهم "عمي" في ضلالة وعماية البصيرة كما قال تعالى "فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور" فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة. "ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه" قال السدي في تفسيره عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى "فلما أضاءت ما حوله" زعم أن ناسا دخلوا في الإسلام مع مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدنية ثم إنهم نافقوا وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فلما أضاءت ما حوله من قذى أو أذي فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال والحرام والخير والشر. فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر. وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك. وقال مجاهد: "فلما أضاءت ما حوله" أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى. وقال عطاء الخرساني في قوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" قال هذا مثل المنافق يبصر أحيانا ويعرف أحيانا ثم يدركه عمى القلب. وقال ابن أبي حاتم: ورُوي عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" قال هذا مثل المنافق يبصر أحيانا ويعرف أحيانا ثم يدركه عمى القلب. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" إلى آخر الآية. قال هذه صفة المنافقين كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا نارا ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحه عن ابن عباس في قوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" قال هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" فأنما ضوء النار ما أوقدتها فإذا خمدت ذهب نورها وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله أضاء له فإذا شك وقع في الظلمة وقال الضحاك "ذهب الله بنورهم" أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله" فهي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وآمنوا في الدنيا وأنكحوا النساء وحقنوا دماءهم حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية إن المعنى أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وغازاهم بها ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله فلما كان عند الموت سلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله "وتركهم في ظلمات لا يبصرون" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "وتركهم في ظلمات لا يبصرون" يقول في عذاب إذا ماتوا وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وتركهم في ظلمات" أي يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق وقال السدي في تفسيره بسنده "وتركهم في ظلمات" فكانت الظلمة نفاقهم وقال الحسن البصري وتركهم في ظلمات لا يبصرون فذلك حين يموت المنافق فيظلم عليه عمله عمل السوء فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق به قول لا إله إلا الله "صم بكم عمي" قال السدي بسنده صم بكم عمى فهم خرس عمى وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس "صم بكم عمى" يقول لا يسمعون الهدى ولا يعقلونه وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة فهم لا يرجعون قال ابن عباس أي لا يرجعون إلى هدى وكذا قال الربيع بن أنس: قال السدي بسنده "صم بكم عمى فهم لا يرجعون" إلى الإسلام. وقال قتادة فهم لا يرجعون أي لا يتوبون ولا هم يذكرون.

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ

📘 اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين وقد كان ذلك واجبا على أصح القولين قبل نزول آية المواريث فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتما من غير وصية ولا تحمل منه الموصى ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" وقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين قال: جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى هذه الآية "إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين" فقال نسخت هذه الآية وكذا رواه سعيد بن منصور عن هشيم عن يونس به ورواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرطهما وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "الوصية للوالدين" والأقربين قال: كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين فأنزل الله آية الميراث فبين ميراث الوالدين وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت وقال: ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله "الوصية للوالدين والأقربين" نسختها هذه الآية "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا" ثم قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عمر وأبى موسى وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وعكرمة وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وطاوس وإبراهيم النخعي وشريح والضحاك والزهري أن هذه الآية منسوخة نسختها آية الميراث والعجب من أبي عبدالله محمد بن عمر الرازي رحمه الله كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة وإنما هي مفسرة بآية المواريث ومعناه كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين من قوله "يوصيكم الله في أولادكم" قال وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء قال: ومنهم من قال: إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث وهو مذهب ابن عباس والحسن ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد "قلت" وبه قال أيضا سعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا فى اصطلاحنا المتأخر لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية لأن الأقربين أعم ممن يرث ومن لا يرث فرفع حكم من يرث بما عين له وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى وهذا إنما يأتي على قول بعضهم أن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندبا حتى نسخت فأما من يقول إنها كانت واجبة وهو الظاهر من سياق الآية فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع بل منهى عنه للحديث المتقدم "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" فآية الميراث حكم مستقل ووجوب من عند الله لأهل الفروض والعصبات يرفع بها حكم هذه بالكلية بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم يستحب له أن يوصي لهم من الثلث استئناسا بآية الوصية وشمولها ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جدا وقال عبد بن حميد في سنده أخبرنا عبدالله عن مبارك بن حسان عن نافع قال: قال عبدالله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى يا ابن آدم ثنتان لم يكن لك واحدة منهما: جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك به وأزكيك وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك" وقوله "إن ترك خيرا" أي مالا قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبو العالية وعطية العوفي والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم ثم منهم من قال الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر كالوراثة ومنهم من قال إنما يوصي إذا ترك مالا جليلا ثم أختلفوا في مقداره فقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيد المقري أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه قال لعلي رضي الله عنه إن رجلا من قريش قد مات وترك ثلثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص قال ليس بشيء إنما قال الله "إن ترك خيرا" وقال أيضا وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه أن عليا دخل على رجل من قومه يعوده فقال له أوص فقال له علي إنما قال الله "إن ترك خيرا الوصية" إنما تركت شيئا يسيرا فاتركه لولدك وقال الحاكم: إن أبان حدثني عن عكرمة عن ابن عباس "إن ترك خيرا" قال ابن عباس: من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا قال: الحاكم قال طاوس لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا. وقال قتادة كان يقال ألفا فما فوقها وقوله "بالمعروف" أي بالرفق والإحسان كما قال ابن أبى حاتم حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبدالله بن بشار حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قوله كتب عليكم "إذا حضر أحدكم الموت" فقال نعم الوصية حق على كل مسلم أن يوصي إذا حضره الموت بالمعروف غير المنكر والمراد بالمعروف أن يوصي لأقربيه وصية لا تجحف بورثته من غير إسراف ولا تقتير كما ثبت فى الصحيحين أن سعدا قال: يا رسول الله إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي أفاوصي بثلثي مالي؟ قال "لا" قال فبالشطر؟ قال "لا" قال فالثلث؟ قال "الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال "الثلث والثلث كثير" وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة سمعت حنظلة بن جذيم بن حنيفة أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل فشق ذلك على بنيه فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حنيفة إنى أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل كنا نسميها المطية فقال: النبي صلى الله عليه وسلم "لا لا لا الصدقة خمس وإلا فعشر وإلا فخمس عشرة وإلا فعشرون وإلا فخمس وعشرون وإلا فثلاثون وإلا فخمس وثلاثون فإن كثرت فأربعون" وذكر الحديث بطوله.

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

📘 يقول تعالى فمن بدل الوصية وحرفها فغير حكمها وزاد فيها أو نقص ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى "فإنما إثمه على الذين يبدلونه" قال ابن عباس وغير واحد وقد وقع أجر الميت على الله وتعلق الإثم بالذين بدلوا ذلك "إن الله سميع عليم" أي قد اطلع على ما أوصى به الميت وهو عليم بذلك وبما بدله الموصى إليهم.

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

📘 قوله تعالى "فمن خاف من موص جنفا أو إثما" قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي الجنف الخطأ وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها بأن زادوا وارثا بواسطة أو وسيلة كما إذا أوصى ببيعة الشيء الفلاني محاباة أو أوصى لابن ابنته ليزيد أو نحو ذلك من الوسائل إما مخطئا غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر أو معتمدا آثما في ذلك فللوصي والحالة هذه أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء ولهذا عطف هذا فبينه على النهي عن ذلك ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل والله أعلم. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد قراءة أخبرني أبي عن الأوزاعي قال: الزهري حدثني عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "يرد من صدقة الجانف في حياته ما يرد من وصية المجنف عند موته" وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه من حديث العباس بن الوليد به قال ابن أبي حاتم وقد أخطأ فيه الوليد بن يزيد وهذا الكلام إنما هو عن عروة فقط وقد رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يجاوز به عروة وقال ابن مردويه أيضا حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا هشام بن عمار حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الجنف في الوصية من الكبائر" وهذا في رفعه أيضا نظر وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق حدثنا معمر عن أشعث بن عبدالله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الرجل يعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة" قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم "تلك حدود الله فلا تعتدوها" الآية.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

📘 يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة حسنة وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك كما قال تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات" الآية ولهذا قال ههنا "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان ولهذا ثبت فى الصحيحين "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ثم بين مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه بل في أيام معدودات وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كل شهر ثلاثة أيام ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه وقد روى أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام عن معاذ وابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك بن مزاحم وزاد لم يزل هذا مشروعا من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان وقال عباد بن منصور عن الحسن البصري "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات" فقال نعم والله لقد كتب الصيام على كل أمة قد خلت كما كتبه علينا شهرا كاملا وأياما معدودات عددا معلوما وروى عن السدي نحوه وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبدالرحمن المقري حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثني عبدالله بن الوليد عن أبي الربيع رجل من أهل المدينة عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم" في حديث طويل اختصر منه ذلك وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عمن حدثه عن ابن عمر قال أنزلت "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها قال ابن أبي حاتم وروى عن ابن عباس وأبي العالية وعبدالرحمن بن أبي ليلى ومجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس وعطاء الخراساني نحو ذلك: وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس "كما كتب على الذين من قبلكم" يعني بذلك أهل الكتاب وروى عن الشعبي والسدي وعطاء الخراساني مثله ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة عليهما بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيرا بين الصيام وبين الاطعام إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير وإن صام فهو أفضل من الإطعام قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطاوس ومقاتل بن حيان وغيرهم من السلف ولهذا قال تعالى "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون". وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا المسعودي حدثنا عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ثم إن الله عز وجل أنزل عليه "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" الآية فوجهه الله إلى مكة هذا حول قال وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضا حتى نقسوا أو كادوا ينقسون ثم إن رجلا من الأنصار يقال له عبدالله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال يا رسول الله إنى رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إنى لم أكن نائما لصدقت إنى بينا أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله - مثنى - حتى فرغ من الأذان ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قال غير أنه يزيد في ذلك: قد قامت الصلاة - مرتين - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "علمها بلالا فليؤذن بها" فكان بلال أول من أذن بها: قال وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله قد طاف بي مثل الذي طاف به غير أنه سبقني فهذان حالان قال وكانوا يأتون الصلاة وقد سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها فكان الرجل يشير إلى الرجل إذن كم صلى فيقول واحدة أو اثنتين فيصليهما ثم يدخل مع القوم في صلاتهم قال فجاء معاذ فقال لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني قال فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها قال فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوا" فهذه ثلاثة أحوال وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" إلى قوله "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" إلى قوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فهذان حالان قال وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا ثم إن رجلا من الأنصار يقال له صرمة كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدا شديدا فقال "مالي أراك قد جهدت جهدا شديدا؟ قال يا رسول الله إنى عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائما قال وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله عز وجل "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" - إلى قوله - "ثم أتموا الصيام إلى الليل" وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه من حديث المسعودي به وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت كان عاشوراء يصام فلما نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله. وقوله تعالى "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كما قال معاذ رضي الله عنه كان في ابتداء الأمر من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وروى أيضا من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال هي منسوخة: وقال السدي عن مرة عن عبدالله قال لما نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال يقول "وعلى الذين يطيقونه" أي يتجشمونه: قال عبدالله فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا "فمن تطوع" يقول أطعم مسكينا آخر فهر خير له "وأن تصوموا خير لكم" فكانوا كذلك حتى نسختها "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وقال البخاري أيضا أخبرنا إسحاق حدثنا روح حدثنا زكريا بن إسحاق حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال ابن عباس ليست منسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينا وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد حدثنا الحسين بن محمد بن بهرام المخزومي حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد بن عبدالله عن ابن أبي ليلى قال دخلت على عطاء فى رمضان وهو يأكل فقال: قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر- فحاصل الأمر أن النسخ ثابت فى حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه لقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكينا إذا كان ذا جدة؟ فيه قولان للعلماء أحدهما لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه فلم يجب عليه فدية كالصبي لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي والثاني وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ و"على الذين يطيقونه" أي يتجشمونه كما قاله ابن مسعود وغيره وهو اختيار البخاري فإنه قال وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاما أو عامين عن كل يوم مسكينا خبزا ولحما وأفطر وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال حدثنا عبدالله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا عمران عن أيوب بن أبي تميمة قال ضعف أنس عن الصوم فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم ورواه عبد بن حميد عن روح بن عبادة عن عمران وهو ابن جرير عن أيوب به ورواه عبد أيضا من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس بمعناه. ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ففيهما خلاف كثير بين العلماء فمنهم من قال يفطران ويفديان ويقضيان وقيل يفديان فقط ولا قضاء وقيل يجب القضاء بلا فدية وقيل يفطران ولا فدية ولا قضاء وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه ولله الحمد والمنة.

أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ۚ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

📘 يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة حسنة وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك كما قال تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات" الآية ولهذا قال ههنا "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان ولهذا ثبت فى الصحيحين "يا معشر الشباب من أستطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ثم بين مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه بل في أيام معدودات وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كل شهر ثلاثة أيام ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه وقد روى أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام عن معاذ وابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك بن مزاحم وزاد لم يزل هذا مشروعا من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان وقال عباد بن منصور عن الحسن البصري "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات" فقال نعم والله لقد كتب الصيام على كل أمة قد خلت كما كتبه علينا شهرا كاملا وأياما معدودات عددا معلوما وروى عن السدي نحوه وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبدالرحمن المقري حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثني عبدالله بن الوليد عن أبي الربيع رجل من أهل المدينة عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم" في حديث طويل أختصر منه ذلك وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عمن حدثه عن ابن عمر قال أنزلت "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها قال ابن أبي حاتم وروى عن ابن عباس وأبي العالية وعبدالرحمن بن أبي ليلى ومجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس وعطاء الخراساني نحو ذلك: وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس "كما كتب على الذين من قبلكم" يعني بذلك أهل الكتاب وروى عن الشعبي والسدي وعطاء الخراساني مثله ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة عليهما بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيرا بين الصيام وبين الاطعام إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير وإن صام فهو أفضل من الأطعام قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطاوس ومقاتل بن حيان وغيرهم من السلف ولهذا قال تعالى "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون". وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا المسعودي حدثنا عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ثم إن الله عز وجل أنزل عليه "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" الآية فوجهه الله إلى مكة هذا حول قال وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضا حتى نقسوا أو كادوا ينقسون ثم إن رجلا من الأنصار يقال له عبدالله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال يا رسول الله إنى رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إنى لم أكن نائما لصدقت إنى بينا أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله - مثنى - حتى فرغ من الأذان ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قال غير أنه يزيد في ذلك: قد قامت الصلاة - مرتين - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "علمها بلالا فليؤذن بها" فكان بلال أول من أذن بها: قال وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله قد طاف بي مثل الذي طاف به غير أنه سبقني فهذان حالان قال وكانوا يأتون الصلاة وقد سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها فكان الرجل يشير إلى الرجل إذن كم صلى فيقول واحدة أو اثنتين فيصليهما ثم يدخل مع القوم في صلاتهم قال فجاء معاذ فقال لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني قال فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها قال فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوا" فهذه ثلاثة أحوال وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" إلى قوله "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" إلى قوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الاطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فهذان حالان قال وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا أمتنعوا ثم إن رجلا من الأنصار يقال له صرمة كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدا شديدا فقال "مالي أراك قد جهدت جهدا شديدا؟ قال يا رسول الله إنى عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائما قال وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله عز وجل "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" - إلى قوله - "ثم أتموا الصيام إلى الليل" وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه من حديث المسعودي به وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت كان عاشوراء يصام فلما نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله. وقوله تعالى "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كما قال معاذ رضي الله عنه كان في ابتداء الأمر من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وروى أيضا من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال هي منسوخة: وقال السدي عن مرة عن عبدالله قال لما نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال يقول "وعلى الذين يطيقونه" أي يتجشمونه: قال عبدالله فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا "فمن تطوع" يقول أطعم مسكينا آخر فهر خير له "وأن تصوموا خير لكم" فكانوا كذلك حتى نسختها "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وقال البخاري أيضا أخبرنا أسحق حدثنا روح حدثنا زكريا بن إسحاق حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال ابن عباس ليست منسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينا وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد حدثنا الحسين بن محمد بن بهرام المخزومي حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد بن عبدالله عن ابن أبي ليلى قال دخلت على عطاء فى رمضان وهو يأكل فقال: قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر- فحاصل الأمر أن النسخ ثابت فى حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه لقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكينا إذا كان ذا جدة؟ فيه قولان للعلماء أحدهما لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه فلم يجب عليه فدية كالصبي لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي والثاني وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ و"على الذين يطيقونه" أي يتجشمونه كما قاله ابن مسعود وغيره وهو أختيار البخاري فإنه قال وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاما أو عامين عن كل يوم مسكينا خبزا ولحما وأفطر وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال حدثنا عبدالله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا عمران عن أيوب بن أبي تميمة قال ضعف أنس عن الصوم فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم ورواه عبد بن حميد عن روح بن عبادة عن عمران وهو ابن جرير عن أيوب به ورواه عبد أيضا من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس بمعناه. ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ففيهما خلاف كثير بين العلماء فمنهم من قال يفطران ويفديان ويقضيان وقيل يفديان فقط ولا قضاء وقيل يجب القضاء بلا فدية وقيل يفطران ولا فدية ولا قضاء وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه ولله الحمد والمنة.

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

📘 يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن أختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم وكما أختصه بذلك قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء قال: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عمران أبو العوام عن قتادة عن أبي فليح عن واثلة يعني ابن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" وقد روي من حديث جابر بن عبدالله وفيه: "أن الزبور أنزل لثنتي عشرة خلت من رمضان والإنجيل لثماني عشرة" والباقي كما تقدم رواه ابن مردويه وأما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه كما قال تعالى "إنا أنزلناه في ليلة القدر" وقال "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" ثم نزل بعده مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا روى من غير وجه عن ابن عباس كما قال إسرائيل عن السدي عن محمد بن أبي المجالد عن مقسم عن ابن عباس أنه سأل عطية بن الأسود فقال: وقع في قلبي الشك قول الله تعالى "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" وقوله "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" وقوله "إنا أنزلناه في ليلة القدر" وقد أنزل في شوال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي المحرم وصفر وشهر ربيع فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وهذا لفظه وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العزة ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه وذلك قوله "وقال الذين كفروا لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" وقوله "هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان" هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه "وبينات" أي ودلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال والرشد المخالف للغى ومفرقا بين الحق والباطل والحلال والحرام وقد روي عن بعض السلف أنه كره أن يقال إلا شهر رمضان ولا يقال رمضان قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن بكار بن الريان حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي وسعيد هو المقبري عن أبي هريرة قال: لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان - قال ابن أبي حاتم وقد روي عن مجاهد ومحمد بن كعب نحو ذلك ورخص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت "قلت" أبو معشر هو نجيح بن عبدالرحمن المدني إمام المغازي والسير ولكن فيه ضعف وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا عن أبي هريرة وقد أنكره عليه الحافظ بن عدي وهو جدير بالإنكار فإنه متروك وقد وهم في رفع هذا الحديث وقد انتصر البخاري رحمه الله في كتابه لهذا فقال: باب يقال رمضان وساق أحاديث في ذلك منها "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" ونحو ذلك وقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحا مقيما أن يفطر ويفدي وبإطعام مسكين عن كل يوم كما تقدم بيانه ولما ختم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار بشرط القضاء فقال "ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" معناه ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه أو كان على سفر أي في حال السفر فله أن يفطر فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام ولهذا قال "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" أي إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر مع تحتمه في حق المقيم الصحيح تيسيرا عليكم ورحمة بكم. وههنا مسائل تتعلق بهذه الآية "إحداها" أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه لقوله "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المحلى عن جماعة من الصحابة والتابعين وفيما حكاه عنهم نظر والله أعلم فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح فسار حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأمر الناس بالفطر أخرجه صاحبا الصحيح "الثانية" ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر لقوله "فعدة من أيام أخر" والصحيح قول الجمهور أن الأمر في ذلك على التخيير صلى الله عليه وسلم ليس بحتم لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان قال: فمنا الصائم ومنا المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائما لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبدالله بن رواحة "الثالثة" قالت طائفة منهم الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الإفطار لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم وقالت طائفة بل الإفطار أفضل أخذا بالرخصة ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الصوم في السفر فقال: "من أفطر فحسن ومن صام فلا جناح عليه" وقال في حديث آخر "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" وقالت طائفة هما سواء لحديث عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال يا رسول الله إني كثير الصيام أفأصوم في السفر؟ فقال "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" وهو في الصحيحين وقيل إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظلل عليه فقال: "ما هذا" قالوا صائم فقال "ليس من البر الصيام في السفر" أخرجاه فأما إن رغب عن السنة ورأى أن الفطر مكروه إليه فهذا يتعين عليه الإفطار ويحرم عليه الصيام والحالة هذه لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر وجابر وغيرهما: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة "الرابعة القضاء" هل يجب متتابعا أو يجوز فيه التفريق فيه قولان: "أحدهما" أنه يجب التتابع لأن القضاء يحكي الأداء والثاني لا يجب التتابع بل إن شاء تابع وهذا قول جمهور السلف والخلف وعليه ثبتت الدلائل لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر ولهذا قال تعالى "فعدة من أيام أخر" ثم قال تعالى "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" قال الإمام أحمد حدثنا أبو سلمة الخزاعي حدثنا أبو هلال عن حميد بن هلال العدوي عن أبي قتادة عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن خير دينكم أيسره إن خير دينكم أيسره" وقال أحمد أيضا: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا عاصم بن هلال حدثنا عامر بن عروة الفقيمي حدثني أبِي عروةُ قال: كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلى فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه: علينا حرج في كذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن دين الله في يسر" ثلاثا يقولها- ورواه الإمام أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن أبي تميم عن عاصم بن هلال به وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: حدثنا أبو التياح سمعت أنس بن مالك يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا" أخرجاه في الصحيحين وفي الصحيحين أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن "بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا" وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بالحنيفية السمحة" وقال الحافظ أبو بكر بن مرديه في تفسيره حدثنا عبدالله بن إسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا أبو مسعود الحريري عن عبدالله بن شقيق عم محجن إن الأدرع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره ساعة فقال "أتراه يصلي صادقا؟" قال قلت يا رسول الله: هذا أكثر أهل المدينة صلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تسمعه فتهلكه" وقال "إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بهم العسر" ومعنى قوله "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة" أي إنما أرخص لكم في الإفطار للمريض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم وقوله "ولتكبروا الله على ما هداكم" أي ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم كما قال "فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا" وقال "فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون" وقال "فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود" ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات وقال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية "ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر لظاهر الأمر فى قوله "ولتكبروا الله على ما هداكم" وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر والباقون على استحبابه على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم وقوله "ولعلكم تشكرون" أي إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه وحفظ حدوده فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك.

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ

📘 قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة أخبرنا جرير عن عبدة بن أبي برزة السختياني عن الصلت بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أن أعرابيا قال: يا رسول الله صلى الله عليك وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي" إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني استجبت ورواه ابن جرير عن محمد بن حميد الرازي عن جرير به ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ الأصبهاني من حديث محمد بن أبي حميد عن جرير به وقال عبد الرزاق: أخبرنا جعفر بن سليمان عن عوف عن الحسن قال سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أين ربنا؟ فأنزل الله عز وجل "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" الآية وقال ابن جريج عن عطاء أنه بلغه لما نزلت "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" قال الناس لو نعلم أي ساعة ندعو؟ فنزلت "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي حدثنا خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فجعلنا لا نصعد شرفا ولا نعلو شرفا ولا نهبط واديا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير قال فدنا منا فقال "يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته يا عبدالله بن قيس ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله" أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي واسمه عبدالرحمن بن علي عنه بنحوه وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود حدثنا شعبة حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني" وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا عبدالله أنبأنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا إسماعيل بن عبيد الله عن كريمة بنت ابن خشخاش المزنية قالت: حدثنا أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "قال الله تعالى أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" "قلت" وهذا كقوله تعالى "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" وقوله لموسى وهارون عليهما السلام "إنني معكما أسمع وأرى" والمراد من هذا أنه تعالى لا يخيب دعاء داع ولا يشغله عنه شيء بل هو سميع الدعاء ففيه ترغيب في الدعاء وأنه لا يضيع لديه كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا رجل أنه سمع أبا عثمان هو النهدي يحدث عن سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الله تعالى ليستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردهما خائبتين" - قال يزيد: سموا لي هذا الرجل فقالوا: جعفر بن ميمون - وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جعفر بن ميمون صاحب الأنباط به: وقال الترمذي حسن غريب ورواه بعضهم ولم يرفعه قال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله في أطرافه: وتابعه أبو همام ومحمد بن أبي الزبرقان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي به: وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو عامر حدثنا علي بن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخرها له في الأخرى وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا إذا نكثر قال "الله أكثر" وقال عبدالله ابن الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير أن عبادة بن الصامت حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة إلا آتاه الله إياها أو كف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم" ورواه الترمذي عن عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي عن محمد بن يوسف الفريابي عن ابن ثوبان وهو عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان به وقال حسن صحيح غريب من هذا الوجه وقال الإمام مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد مولى ابن أزهر عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي" أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به وهذا لفظ البخاري رحمه الله وأثابه الجنة وقال مسلم في صحيحه: حدثني أبو الطاهر حدثنا ابن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل" قيل يا رسول الله وما الاستعجال "قال يقول قد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء" وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا أبو هلال عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل" قالوا وكيف يستعجل قال "يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي" وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب حدثني أبو صخر أن يزيد بن عبدالله بن قسيط حدثه عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما من عبد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب حتى تعجل له في الدنيا أو تؤخر له في الآخرة إذا لم يعجل أو يقنط قال عروة قلت يا أماه كيف عجلته وقنوطه؟ قالت يقول سألت فلم أعط ودعوت فلم أجب قال ابن قسيط وسمعت سعيد بن المسيب يقول كقول عائشة سواء: وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا بكر بن عمرو عن أبي عبدالرحمن الجيلي عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض فإذا سألتم الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل" وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إسحاق عن أيوب حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبي نافع بن معد يكرب ببغداد حدثنا ابن أبي نافع بن معد يكرب قال: كنت أنا وعائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آية "أجيب دعوة الداع إذا دعان" قال "يا رب مسألة عائشة" فهبط جبريل فقال "الله يقرؤك السلام هذا عبدي الصالح بالنية الصادقة وقلبه نقي يقول يا رب فأقول لبيك فأقضي حاجته" وهذا حديث غريب من هذا الوجه وروى ابن مردويه من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس حدثني جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم أمرت بالدعاء وتوكلت بالإجابة لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك أشهد أنك فرد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأشهد أن وعدك حق ولقاءك حق والساعة آتية لا ريب فيها وأنت تبعث من في القبور" وقال الحافظ أبو بكر البزار: وحدثنا الحسن بن يحيى الأزدي ومحمد بن يحيى القطعي قالا: حدثنا الحجاج بن منهال حدثنا صالح المزي عن الحسن عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يقول الله تعالى يا ابن آدم واحدة لك وواحدة لي وواحدة فيما بيني وبينك فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا وأما التي لك فما عملت من شيء أو من عمل وفيتكه وأما الذي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة" وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر كما رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا أبو محمد المليكي عن عمرو وهو ابن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة" فكان عبدالله بن عمرو إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا وقال أبو عبدالله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه: حدثنا هشام بن عمار أخبرنا الوليد بن مسلم عن إسحاق بن عبدالله المدني عن عبيد الله بن أبي مليكة عن عبدالله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد" قال عبيد الله بن أبي مليكة: سمعت عبدالله بن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي. وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها أبواب السماء ويقول بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين".

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

📘 هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة والرفث هنا هو الجماع قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وطاوس وسالم وعبدالله وعمرو بن دينار والحسن وقتادة والزهري والضحاك وإبراهيم النخعي والسدي وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان: وقوله "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان: يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن وقال الربيع بن أنس: هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان لئلا يشق ذلك عليهم ويحرجوا قال الشاعر: إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباسا وكان السبب في نزول هذه الآية كما تقدم في حديث معاذ الطويل وقال أبو إسحاق عن البراء بن عازب قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما وكان يومه ذلك يعمل في أرضه فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته فلما رأته نائما قالت: خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" -إلى قوله - "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" ففرحوا بها فرحا شديدا ولفظ البخاري ههنا من طريق أبي إسحاق سمعت البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ثم إن أناسا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن" الآية وكذا روى العوفي عن ابن عباس وقال موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال: إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيهم يأكلون ويشربون ويحل لهم شأن النساء فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب ولا يأتي أهله حتى يفطر من القابلة فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعدما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أشكوا إلى الله وإليك الذي صنعت قال "وما صنعت؟" قال إني سولت لي نفسي فوقعت على أهلي بعدما نمت وأنا أريد الصوم فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما كنت خليقا أن تفعل" فنزل الكتاب "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" وقال سعيد بن أبي عروبة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة في قول الله تعالى "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم - إلى قوله - ثم أتموا الصيام إلى الليل" قال كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلوا العشاء الآخرة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا وأن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عيناه بعد صلاة المغرب فنام ولم يشبع من الطعام ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فقام فأكل وشرب فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فأنزل الله عند ذلك"أحل لكم الصيام الرفث إلى نسائكم" يعني بالرفث مجامعة النساء "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم" يعني تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء "فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن" يعني جامعوهن "وابتغوا ما كتب الله لكم" يعني الولد "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" فكان ذلك عفوا من الله ورحمة وقال هشام عن حصين بن عبدالرحمن عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إني أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله فقالت إنها قد نامت فظننتها تعتل فواقعتها فنزل في عمر "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" وهكذا رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى به وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني المثنى حدثنا سويد أخبرنا ابن المبارك عن ابن لهيعة حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة أنه سمع عبدالله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت إني قد نمت فقال ما نمت ثم وقع بها وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن" الآية وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع وفي صرمة بن قيس فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقا. وقوله "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال أبو هريرة وابن عباس وأنس وشريح القاضي ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والربيع بن أنس والسدي وزيد بن أسلم والحكم بن عتبة ومقاتل بن حيان والحسن البصري والضحاك وقتادة وغيرهم يعني الولد وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: "وابتغوا ما كتب الله لكم" يعني الجماع وقال عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال ليلة القدر رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر قال: قال قتادة ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم يقول ما أحل الله لكم وقال عبد الرزاق أيضا: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لابن عباس كيف تقرأ هذه الآية "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال أيتهما شئت عليك بالقراءة الأولى واختار ابن جرير أن الآية أعم من هذا كله. وقوله "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" أباح تعالى الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ورفع اللبس بقوله "من الفجر" كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبدالله البخاري حدثني ابن أبي مريم حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال أنزلت "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" ولم ينزل "من الفجر" وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد "من الفجر" فعلموا أنما يعني الليل والنهار وقال الإمام أحمد حدثنا هشام أخبرنا حصين عن الشعبي أخبرني عدي بن حاتم قال: لما نزلت هذه الآية "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض قال فجعلتهما تحت وسادتي قال فجعلت أنطر إليهما فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت فقال "إن وسادك إذا لعريض إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل" أخرجاه في الصحيحين من غير وجه عن عدي. ومعنى قوله إن وسادك إذا لعريض أي إن كان ليسع الخيطين الخيط الأسود والأبيض المرادين من هذه الآية تحتها فإنهما بياض النهار وسواد الليل فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب وهكذا وقع في رواية البخاري مفسرا بهذا حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن حصين عن الشعبي عن عدي قال: أخذ عدي عقالا أبيض وعقالا أسود حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا فلما أصبح قال يا رسول الله جعلت تحت وسادتي قال "إن وسادك إذا لعريض إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك" وجاء في بعض الألفاظ "إنك لعريض القفا" ففسره بعضهم بالبلادة وهو ضعيف بل يرجع إلى هذا لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضا عريض والله أعلم ويفسره رواية البخاري أيضا حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان؟ قال "إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين ثم قال لا بل هو سواد الليل وبياض النهار". وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور لأنه من باب الرخصة والأخذ بها محبوب ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على السحور ففي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تسحروا فإن في السحور بركة" وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور" وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى هو ابن الطباع حدثنا عبدالرحمن بن زيد عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "السحور أكلة بركة فلا تدعوه ولو أن أحدكم تجرع جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة من ماء تشبها بالآكلين ويستحب تأخيره إلى وقت انفجار الفجر كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قال أنس قلت لزيد كم كان بين الأذان والسحور؟ قال قدر خمسين آية وقال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن سالم بن غيلان عن سليمان بن أبي عثمان عن عدي بن حاتم الحمصي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور" وقد ورد أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه الغداء المبارك وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زيد بن حبيش عن حذيفة قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النهار إلا أن الشمس لم تطلع وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود قاله النسائي وحمله على أن المراد قرب النهار كما قال تعالى "فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف" أي قاربن انقضاء العدة فإما إمساك بمعروف أو ترك للفراق وهذا الذي قاله هو المتعين حمل الحديث عليه أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر حتى أن بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك وقد روي عن طائفة كثيرة من السلف أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر روي مثل هذا عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وعن طائفة كثيرة من التابعين منهم محمد بن علي بن الحسين وابن مجلز وإبراهيم النخعي وأبو الضحى وأبو وائل وغيره من أصحاب ابن مسعود وعطاء والحسن والحاكم بن عيينة ومجاهد وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد وإليه ذهب الأعمش وجابر بن راشد وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد ولله الحمد وحكى أبو جعفر بن جرير في تفسيره عن بعضهم أنه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها "قلت" وهذا القول ما أظن أحدا من أهل العلم يستقر له قدم عليه لمخالفته نص القرآن في قوله "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" وقد ورد في الصحيحين من حديث القاسم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم فإنه ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" لفظ البخاري وقال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الفجر المستطيل في الأفق ولكنه المعترض الأحمر" ورواه الترمذي ولفظهما "كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبدالرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن بني قشير سمعت سمرة بن جندب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر" ثم رواه من حديث شعبة وغيره عن سواد بن حنظلة عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكنه الفجر المستطير في الأفق" قال وحدثني يعقوب بن إبراهيم ابن علية عن عبدالله بن سودة القشيري عن أبيه عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض - لعمود الصبح - حتى يستطير" رواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب عن إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية مثله سواء وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا ابن المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يمنعن أحدكم أذان بلال عن سحوره - أو قال - نداء بلال فإن بلالا يؤذن بليل - أو قال - ينادي لينبه نائمكم وليرجع قائمكم وليس الفجر أن يقول هكذا وهكذا حتى يقول هكذا" ورواه من وجه آخر عن التيمي به وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي حدثنا أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئب عن الحارث بن عبدالرحمن عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الفجر فجران فالذي كأنه ذنب السرحان لا يحرم شيئا وإنما هو المستطير الذي يأخذ الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام" وهذا مرسل جيد وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن عطاء سمعت ابن عباس يقول: هما فجران فأما الذي يسطع فى السماء فليس يحل ولا يحرم شيئا ولكن الفجر الذي يستنير على رءوس الجبال هو الذي يحرم الشراب وقال عطاء: فأما إذا سطع سطوعا في السماء وسطوعه أن يذهب في السماء طولا فإنه لا يحرم به شراب للصائم ولا صلاة ولا يفوت به الحج ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام وفات الحج وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم الله "مسألة" ومن جعله تعالى الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام يستدل على أنه من أصبح جنبا فليغتسل وليتم صومه ولا حرج عليه وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفا وخلفا لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم وفي حديث أم سلمة عندهما ثم لا يفطر ولا يقضي وفي صحيح مسلم عن عائشة أن رجلا قال: يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" فقال لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ" فإنه حديث جيد الإسناد على شرط الشيخين كما ترى وهو في الصحيحين عن أبي هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي سنن النسائي عنه عن أسامة بن زيد والفضل بن عباس ولم يرفعه فمن العلماء من علل هذا الحديث بهذا ومنهم من ذهب إليه ويحكى هذا عن أبي هريرة وسالم وعطاء وهشام بن عروة والحسن البصري ومنهم من ذهب إلى التفرقة بين أن يصبح جنبا نائما فلا عليه لحديث عائشة وأم سلمة أو مختارا فلا صوم له لحديث أبي هريرة يحكى هذا عن عروة وطاوس والحسن ومنهم من فرق بين الفرض فيتم فيقضيه وأما النفل فلا يضره رواه الثوري عن منصور عن إبراهيم النخعي وهو رواية عن الحسن البصري أيضا ومنهم من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأم سلمة ولكن لا تاريخ معه وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الآية وهو بعيد أيضا إذ لا تاريخ بل الظاهر من التاريخ خلافه ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال فلا صوم له لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز وهذا المسلك أقرب الأقوال وأجمعها والله أعلم وقوله "ثم أتموا الصيام إلى الليل" يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكما شرعيا كما جاء في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم" وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" أخرجاه وقال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثنا قرة بن عبدالرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل "إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا" ورواه الترمذي من غير وجه عن الأوزاعي به وقال هذا حديث حسن غريب وقال أحمد أيضا: حدثنا عفان حدثنا عبدالله بن إياد سمعت إياد بن لقيط سمعت ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال "يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل فإذا كان الليل فأفطروا" ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال وهو أن يصل يوما بيوم آخر ولا يأكل بينهما شيئا قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تواصلوا" قالوا: يا رسول الله إنك تواصل قال "فإني لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" قال فلم ينتهوا عن الوصال فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين ثم رأوا الهلال فقال "لو تأخر الهلال لزدتكم" كالمنكل لهم وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به وكذلك أخرجا النهى عن الوصال من حديث أنس وابن عمر وعن عائشة رضي الله عنها قالت: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم فقالوا إنك تواصل قال "إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني" فقد ثبت النهي عنه من غير وجه وثبت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يقوى على ذلك ويعان والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويا لا حسيا وإلا فلا يكون مواصلا مع الحسي ولكن كما قال الشاعر: لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله قال "إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني" أخرجاه في الصحيحين أيضا وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا أبو نعيم حدثنا أبو إسرائيل العنسي عن أبي سكر بن حفص عن أم ولد حاطب بن أبي بلتعة أنها مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فدعاها إلى الطعام فقالت إني صائمة قال وكيف تصومين فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "أين أنت من وصال آل محمد من السحر إلى السحر" وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل عن عبد الأعلى عن محمد بن علي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السحر إلى السحر وقد روى ابن جرير عن عبدالله بن الزبير وغيره من السلف أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة والله أعلم ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشاد من باب الشفقة كما جاء في حديث عائشة رحمة له فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه لأنهم كانوا يجدون قوة عليه وقد ذكر عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصبر لئلا تتخرق الأمعاء بالطعام أولا وقد روي عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم وقال أبو العالية إنما فرض الله الصيام بالنهار فإذا جاء بالليل فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل وقوله تعالى "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا أو نهارا حتى يقضي اعتكافه وقال الضحاك كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء فقال الله تعالى "ولا تباشروهن" وأنتم عاكفون في المساجد" أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره. وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية. قال ابن أبي حاتم روي عن ابن مسعود ومحمد بن كعب ومجاهد وعطاء والحسن وقتادة والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل: قالوا لا يقربها وهو معتكف وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفًا في مسجده ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك من قضاء الغائط أو الأكل وليس له أن يقبل امرأته ولا أن يضمها إليه ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه ولا يعود المريض لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابها منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ومنها ما هو مختلف فيه. وقد ذكرنا قطعة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام وللّه الحمد والمنة ولهذا كان الفقهاء المصنفون يتبعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف اقتداء بالقرآن العظيم فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم. وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام كما ثبتت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وفي الصحيحين أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف في المسجد فتحدثت عنده ساعة ثم قامت لترجع إلى منزلها وكان ذلك ليلا فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ليمشي معها حتى تبلغ دارها وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرعا وفي رواية تواريا أي حياء من النبي - صلى الله عليه وسلم - لكون أهله معه فقال لهما - صلى الله عليه وسلم - "على رسلكما إنها صفية بنت حيي" أي لا تسرعا واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي فقالا سبحان الله يا رسول الله فقال - صلى الله عليه وسلم - "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا - أو قال - شرا" قال الشافعي رحمه الله أراد عليه السلام أن يعلم أمته التبري من التهمة في محلها لئلا يقعا في محذور وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا والله أعلم ثم المراد بالمباشرة إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان قالت عائشة ولقد كان المريض يكون في البيت فما أسال عنه إلا وأنا مارة وقوله "تلك حدود الله" أي هذا الذي بيناه وفرضناه وحددناه من الصيام وأحكامه وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه حدود الله أي شرعها الله وبينها بنفسه فلا تقربوها أي لا تجاوزوها وتتعدوها وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله "تلك حدود الله" أي المباشرة في الاعتكاف وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم يعني هذه الحدود الأربعة ويقرأ "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" حتى بلغ "ثم أتموا الصيام إلى الليل" قال وكان أبي وغيره من مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علينا "كذلك يبين الله آياته للناس" أي كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - "للناس لعلهم يتقون" أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون كما قال تعالى "هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم".

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ

📘 قال علي بن أبي طلحة وعن ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها "فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر فلا يحل في نفس الأمر حراما هو حرام ولا يحرم حلالا هو حلال وإنما هو ملزم في الظاهر فإن طابق في نفس الأمر فذاك وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره ولهذا قال تعالى "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون" أي تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه في كلامكم قال قتادة: اعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما ولا يحق لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود والقاضي بشر يخطئ ويصيب واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا.

۞ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

📘 قال العوفي عن ابن عباس سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة فنزلت هذه الآية "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية بلغنا أنهم قالوا يا رسول الله لم خلقت الأهلة؟ فأنزل الله "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" يقول جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وعدة نسائهم ومحل دينهم وكذا روي عن عطاء والضحاك وقتادة والسدي والربيع ابن أنس نحو ذلك وقال عبدالرزاق عن عبدالعزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما" ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن أبي رواد به وقال كان ثقة عابدا مجتهدا شريف النسب فهو صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعل الله الأهلة فإذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" وكذا روي من حديث أبي هريرة ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقوله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحق عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال: كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم لم يدخل الرجل من قبل بابه فنزلت هذه الآية قال الأعمش: عن أبي سفيان عن جابر كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر من الأنصار فقالوا يا رسول الله: إن قطبة بن عامر رجل تاجر وإنه خرج معك من الباب فقال له "ما حملك على ما صنعت" قال: رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت فقال: إني أحمس قال له: فإن ديني دينك. فأنزل الله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" رواه ابن أبي حاتم ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه وكذا روي عن مجاهد والزهري وقتادة وإبراهيم النخعي والسدي والربيع بن أنس وقال الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره لم يدخل البيت من بابه ولكن يتسوره من قبل ظهره فقال الله تعالى: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" الآية. وقال محمد بن كعب: كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت فأنزل الله هذه الآية. وقال عطاء بن أبي رباح: كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويرون أن ذلك أدنى إلى البر فقال الله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" ولا يرون أن ذلك أدنى إلى البر وقوله "واتقوا الله لعلكم تفلحون" أي اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه "لعلكم تفلحون" غدا إذا وقفتم بين يديه فيجازيكم على التمام والكمال.

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ۚ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ

📘 هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخري فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم "كصيب" والصيب المطر قاله ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخرساني والسدي والربيع بن أنس. وقال الضحاك: هو السحاب والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات وهي الشكوك والكفر والنفاق ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالى "يحسبون كل صيحة عليهم" وقال "ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون" " والبرق" هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان ولهذا قال "يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين" أي ولا يجدى عنهم حذرهم شيئا لأن الله محيط بقدرته وهم تحت مشيئته وإرادته كما قال "هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط" بهم.

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

📘 قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" قال هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة وكذا قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال هذه منسوخة بقوله: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وفي هذا نظر لأن قوله "الذين يقاتلونكم" إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم كما قال "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" ولهذا قال في هذه الآية "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم" أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصا. وقوله "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" أي قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي كما قاله الحسن البصري من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم والرهبان وأصحاب الصوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة كما قال ذلك ابن عباس وعمر بن عبدالعزيز ومقاتل بن حيان وغيرهم ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع" رواه الإمام أحمد وعن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث جيوشه قال: "اخرجوا بسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" رواه الإمام أحمد ولأبي داود عن أنس مرفوعا نحوه وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: وجدت امرأة في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقتولة فأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل النساء والصبيان. وقال الإمام أحمد حدثنا مصعب بن سلام حدثنا الأجلح عن قيس بن أبي مسلم عن ربعي بن حراش قال: سمعت حذيفة يقول ضرب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمثالا واحدا وثلاثة وخمسة وسبعة وتسعة وأحد عشر فضرب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها مثلا وترك سائرها قال "إن قوما كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداوة فأظهر الله أهل الضعف عليهم فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة" هذا حديث حسن الإسناد ومعناه أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء فاعتدوا عليهم فاستعملوهم فيما لا يليق بهم أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا. ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتل الرجال نبه تعالى على أن ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطم من القتل ولهذا قال: "والفتنة أشد من القتل".

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ

📘 قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" قال هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة وكذا قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال هذه منسوخة بقوله: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وفي هذا نظر لأن قوله "الذين يقاتلونكم" إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم كما قال "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" ولهذا قال في هذه الآية "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم" أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصا. "والفتنة أشد من القتل" قال أبو مالك أي ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل. وقال: أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس في قوله "والفتنة أشد من القتل". يقول الشرك أشد من القتل وقوله "ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام" كما جاء في الصحيحين "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ولم يحل إلا ساعة من نهار وإنها ساعتي هذه حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهله يوم فتح مكة فإنه فتحها عنوة وقتلت رجال منهم عند الخندمة وقيل صلحا لقوله "من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وقوله "حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين" يقول تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدءوكم بالقتال فيه فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصائل كما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ثم كف الله القتال بينهم فقال "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم" وقال "ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما".

فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

📘 أي فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة فإن الله يغفر ذنوبهم ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه.

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ

📘 ثم أمر الله تعالى بقتال الكفار "حتى لا تكون فتنة" أي شرك قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن حيان والسدي وزيد بن أسلم "ويكون الدين لله" أي يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وفي الصحيحين "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". وقوله "فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين" يقول تعالى فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين وهذا معنى قول مجاهد أن لا يقاتل إلا من قاتل أو يكون تقديره فإن انتهوا فقد تخلصوا من الظلم وهو الشرك فلا عدوان عليهم بعد ذلك والمراد بالعدوان ههنا المعاقبة والمقاتلة كقوله "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" وقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" ولهذا قال عكرمة وقتادة الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله. وقال البخاري قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" الآية. حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبدالوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي قالا: ألم يقل الله "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حثى تكون فتنة وحتى يكون الدين لغير الله وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمر المعافري أن بكير بن عبدالله حدثه عن نافع أن رجلا أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبدالرحمن ما حملك على أن تحج عاما وتقيم عاما وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد علمت ما رغب الله فيه؟ فقال يا ابن أخي بني الإسلام على خمس: الإيمان بالله ورسوله والصلاة الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت. قالوا يا أبا عبدالرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله" "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال فعلنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه أو عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة قال فما قولك في علي وعثمان؟ قال أما عثمان فكان الله عفا عنه وأما أنتم فكرهتم أن يعفو عنه وأما علي فابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه فأشار بيده فقال هذا بيته حيث ترون.

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ

📘 قال عكرمة عن ابن عباس والضحاك والسدي وقتادة ومقسم والربيع بن أنس وعطاء وغيرهم لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا في سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان من المسلمين وأقصه الله منهم فنزلت في ذلك هذه الآية "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص" وقال الإمام أحمد حدثنا إسحق بن عيسى حدثنا ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى وتغزوا فإذا حضره أقام حتى ينسلخ. هذا إسناد صحيح. ولهذا لما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مخيم بالحديبية أن عثمان قتل وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين بايع أصحابه وكانوا ألفا وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك وجنح إلى المسالمة والمصالحة فكان ما كان. وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين وتحصن فلهم بالطائف عدل إليها فحاصرها ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق واستمر عليها إلى كمال أربعين يوما كما ثبت في الصحيحين عن أنس فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تفتح ثم كر راجعا إلى مكة واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين. وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضا عام ثمان صلوات الله وسلامه عليه: وقوله "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" أمر بالعدل حتى في المشركين كما قال "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" وقال "وجزاء سيئة سيئة مثلها". وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم". نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهاد ثم نسخ بآية القتال بالمدينة وقد رد هذا القول ابن جرير وقال: بل الآية مدنية بعد عمرة القضية وعزا ذلك إلى مجاهد رحمه الله وقوله "واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين" أمر لهم بطاعة الله وتقواه وإخبار بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة.

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

📘 قال البخاري حدثنا إسحق أخبرنا النضر أخبرنا شعبة عن سليمان سمعت أبا وائل عن حذيفة "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال نزلت في النفقة ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن أبي معاوية عن الأعمش به مثله قال: وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهدنا معه المشاهد ونصرناه فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحببا فقلنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما فنزل فينا "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب به وقال الترمذي حسن صحيح غريب وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى أهل الشام رجل يزيد بن فضالة بن عبيد فخرج من المدينة صف عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه فقالوا: سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب: يا أيها الناس إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل وإنما نزلت فينا معشر الأنصار إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها فأنزل الله هذه الآية وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحق السبيعي قال: قال رجل للبراء بن عازب إن حملت على العدو وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟ قال: لا. قال الله لرسوله "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك" إنما هذه في النفقة رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث إسرائيل عن أبي إسحق وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ورواه الترمذي وقيس بن الربيع عن أبي إسحق عن البراء فذكره وقال بعد قوله "لا تكلف إلا نفسك" ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثني الليث حدثنا عبدالرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي بكر بن نمير بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن عبدالرحمن الأسود بن عبد يغوث أخبره أنهم حاصروا دمشق فانطلق رجل من أزد شنوءة فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل فعاب ذلك عليه المسلمون ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص فأرسل إليه عمرو فرده وقال عمرو قال الله "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: ليس ذلك في القتال إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله ولا تلق بيدك إلى التهلكة. قال حماد بن سلمة عن داود عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبير قال: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم فأصابتهم سنة فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله فنزلت "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وقال الحسن البصري "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال هو البخل وقال سماك بن حرب عن النعمان بن بشير في قوله "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" أن يذنب الرجل الذنب فيقول لا يغفر لي فأنزل الله "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" رواه ابن مردويه. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عبيدة السلماني والحسن وابن سيرين وأبي قلابة نحو ذلك يعني نحو قول النعمان بن بشير إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له فيلقي بيده إلى التهلكة أي يستكثر من الذنوب فيهلك. ولهذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس التهلكة عذاب الله. وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا حدثنا يونس حدثنا ابن وهب أخبرني أبو صخر عن القرظي "محمد بن كعب" أنه كان يقول في هذه الآية "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: كان القوم في سبيل الله فيتزود الرجل فكان أفضل زادا من الآخر أنفق البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء أحب أن يواسي صاحبه فأنزل الله "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وبه قال ابن وهب أيضا: أخبرني عبدالله بن عياش عن زيد بن أسلم في قول الله "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وذلك أن رجالا كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير نفقة فإما أن يقطع بهم وإما كانوا عيالا فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع والعطش أو من المشي. وقال لمن بيده فضل "وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده ثم عطف بالأمر بالإحسان وهو أعلى مقامات الطاعة فقال وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ

📘 لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد شرع في بيان المناسك فأمر بإتمام الحج والعمرة وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما. ولهذا قال بعده فإن أحصرتم أي صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها كما هما قولان للعلماء وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا الأحكام مستقصى ولله الحمد والمنة. وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة عن علي أنه قال في هذه الآية "وأتموا الحج والعمرة لله" قال: أن تحرم من دويرة أهلك. وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية: إتمامهما أن تحرم من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة وتهل من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة حتى إذا كنت قريبا من مكة قلت لو حججت أو اعتمرت وذلك يجزئ ولكن التمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره. وقال مكحول: إتمامهما إنشاؤهما جميعا من الميقات. وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري قال بلغنا أن عمر قال في قول الله "وأتموا الحج والعمرة للّه" من تمامهما أن تفرد كل واحد منهما من الآخر وأن تعتمر في غير أشهر الحج إن الله تعالى يقول "الحج أشهر معلومات". وقال هشام عن ابن عون: سمعت القاسم بن محمد يقول إن العمرة في أشهر الحج ليست بتمامه فقيل له فالعمرة في المحرم؟ قال: كانوا يرونها تامة. وكذا روي عن قتادة بن دعامة رحمهما الله وهذا القول فيه نظر لأنه قد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معا في ذي القعدة سنة عشر وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته ولكن قال لأم هانئ "عمرة في رمضان تعدل حجة معي" وما ذاك إلا لأنها قد عزمت على الحج معه عليه السلام فاعتاقت عن ذلك بسبب الطهر كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري ونص سعيد بن جبير على أنه من خصائصها والله أعلم. وقال السدي في قوله "وأتموا الحج والعمرة للّه" أي أقيموا الحج والعمرة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "وأتموا الحج والعمرة للّه" يقول من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل. وقال قتادة عن زرارة عن ابن عباس أنه قال: الحج عرفة والعمرة الطواف. وكذا روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله "وأتموا الحج والعمرة للّه" قال هي قراءة عبدالله وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لا يجاوز بالعمرة البيت. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: كذلك قال ابن عباس. وقال سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه قال: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت. وكذا روى الثوري أيضا عن إبراهيم عن منصور عن إبراهيم أنه قرأ: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت. وقرأ الشعبي "وأتموا الحج والعمرة للّه" برفع العمرة وقال ليست بواجبة. وروي عنه خلاف ذلك. وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة عن أنس وجماعة من الصجابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع في إحرامه بحج وعمرة. وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه: "من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة". وقال في الصحيح أيضا "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة". وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثا غريبا فقال: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو عبدالله الهروي حدثنا غسان الهروي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عطاء عن صفوان بن أمية أنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - متضمخ بالزعفران عليه جبة فقال: كيف تأمرنى يا رسول الله في عمرتي؟ قال فأنزل الله "وأتموا الحج والعمرة للّه" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أين السائل عن العمرة" فقال ها أنا ذا. فقال له "ألق عنك ثيابك ثم اغتسل استنشق ما استطعت ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك" هذا حديث غريب وسياق عجيب والذي ورد في الصحيحين عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة فقال كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وخلوق فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جاءه الوحي ثم رفع رأسه فقال: "أين السائل؟" فقال: ها أنا ذا فقال "أما الجبة فانزعها وأما الطيب الذي بك فاغسله ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك" ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق ولا ذكر نزول هذه الآية وهو عن يعلى بن أمية لا صفوان بن أمية فالله أعلم. وقوله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ذكروا. أن هذه الآية نزلت في سنة ست أي عام الحديبية حين حال المشركون بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الوصول إلى البيت وأنزل الله في ذلك سورة الفتح بكمالها وأنزل لهم رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة وأن يحلقوا رءوسهم وأن يتحللوا من إحرامهم فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رءوسهم وأن يتحللوا فلم يفعلوا انتظارا للنسخ حتى خرج فحلق رأسه ففعل الناس وكان منهم من قصر رأسه ولم يحلقه فلذلك قال - صلى الله عليه وسلم - "رحم الله المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ فقال: في الثالثة "والمقصرين" وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك كل سبعة في بدنة وكانوا ألفا وأربعمائة وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم وقيل بل كانوا على طرف الحرم فالله أعلم. ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو فلا يتحلل إلا من حصره عدو لا مرض ولا غيره على قولين. فقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيد المقري حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس وابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس وابن أبي نجيح عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء إنما قال الله تعالى فإذا أمنتم فليس الأمن حصرا قال: وروي عن ابن عمر وطاوس والزهري وزيد بن أسلم نحو ذلك. والقول الثاني: أن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال وهو التوهان عن الطريق أو نحو ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حجاج بن الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "من كسر أو وجع أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى" قال: فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق. وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير به وفي رواية لأبي داود وابن ماجه من "عرج أو كسر أو مرض" فذكر معناه. ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة عن إسماعيل بن علية عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف به ثم قال: وروي عن ابن مسعود وابن الزبير وعلقمة وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ومجاهد والنخعي وعطاء ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: الإحصار من عدو أو مرض أو كسر وقال الثوري: الإحصار من كل شيء آذاه. وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني" ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القول بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث قال البيهقي وغيره من الحفاظ وقد صح وللّه الحمد. وقوله "فما استيسر من الهدي" قال الإمام مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول "فما استيسر من الهدي" شاة. وقال ابن عباس الهدي من الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والمعز والضأن. وقال الثوري عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله "فما استيسر من الهدي" قال شاة. وكذا قال عطاء ومجاهد وطاوس وأبو العالية ومحمد بن علي بن الحسين وعبدالرحمن بن القاسم والشعبي والنخعي والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم مثل ذلك وهو مذهب الأئمة الأربعة: وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر قال وروي عن سالم والقاسم وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير نحو ذلك "قلت" والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة وإنما ذبحوا الإبل والبقر ففي الصحيحين عن جابر قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس في قوله "فما استيسر من الهدي" قال بقدر يسارته وقال العوفي عن ابن عباس: إن كان موسرا فمن الإبل وإلا فمن البقر وإلا فمن الغنم وقال هشام بن عروة عن أبيه "فما استيسر من الهدي" قال إنما ذلك فيما بين الرخص والغلاء والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشاة في الإحصار أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي أي مهما تيسر مما يسمى هديا والهدي من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم. كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن وابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة غنما. وقوله "ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله" معطوف على قوله "وأتموا الحج والعمرة للّه" وليس معطوفا على قوله "فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي" كما زعمه ابن جرير رحمه الله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق "حتى يبلغ الهدي محله" ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارنا أو من فعل أحدهما إن كان مفردا أو متمتعا كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: "إنى لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر". وقوله "فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك". قال البخاري: حدثنا آدم حدثنا شعبة عن عبدالرحمن بن الأصبهاني سمعت عبدالله بن معقل قال: قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد يعني مسجد الكوفة فسألته عن فدية من صيام فقال: حملت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي فقال "ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا أما تجد شاة" قلت: لا. قال: "صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك" فنزلت في خاصة وهي لكم عامة. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن مجاهد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: أتى علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر والقمل يتناثر على وجهي أو قال حاجبي فقال "يؤذيك هوام رأسك؟" قلت نعم. قال: "فاحلقه وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة" قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ. وقال أحمد أيضا: حدثنا هشام حدثنا أبو بشر عن مجاهد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ونحن محرمون وقد حصره المشركون وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تساقط على وجهي فمر علي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أيؤذيك هوام رأسك" فأمره أن يحلق قال ونزلت هذه الآية فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك. وكذا رواه عثمان عن شعبة عن أبي بشر وهو جعفر بن إياس به وعن شعبة عن الحكم عن عبدالرحمن بن أبي ليلى به وعن شعبة عن داود عن الشعبي عن كعب بن عجرة نحوه ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس عن مجاهد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة فذكر نحوه. وقال سعد بن إسحق بن كعب بن عجرة عن أبان بن صالح عن الحسن البصري أنه سمع كعب بن عجرة يقول: فذبحت شاة ورواه ابن مردويه وروي أيضا من حديث عمر بن قيس وهو ضعيف عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "النسك شاة والصيام ثلاثة أيام والطعام فرق بين ستة" وكذا روي عن علي ومحمد بن كعب وعلقمة وإبراهيم ومجاهد وعطاء والسدي والربيع بن أنس. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبدالأعلى أخبرنا عبدالله بن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن عبدالكريم بن مالك الجزري عن مجاهد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذاه القمل في رأسه فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلق رأسه وقال "صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل إنسان أو انسك شاة أي ذلك فعلت أجزأ عنك" وهكذا روى ابن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس في قوله "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال إذا كان أو فأيه أخذت أجزأ عنك. قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وعكرمة وعطاء وطاوس والحسن وحميد الأعرج وإبراهيم النخعي والضحاك نحو ذلك "قلت" وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام إن شاء صام وإن شاء تصدق بفرق وهو ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع وهو مدان وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء أي ذلك فعل أجزأه ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة بالأسهل فالأسهل "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" ولما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كعب بن عجرة بذلك أرشده إلى الأفضل فالأفضل فقال: "انسك شاة أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام" فكل حسن في مقامه ولله الحمد والمنة. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر بن عياش قال: ذكر الأعمش قال: سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فأجابه بقول يحكم عليه طعام فإن كان عنده اشترى شاة وإن لم يكن قومت الشاة دراهم وجعل مكانها طعام فتصدق وإلا صام لكل نصف صاع يوما. قال إبراهيم كذلك سمعت علقمة يذكر قال: لما قال لي سعيد بن جبير من هذا ما أظرفه؟ قال: قلت هذا إبراهيم فقال ما أظرفه كان يجالسنا قال: فذكرت ذلك لإبراهيم قال: فلما قلت يجالسنا انتفض منها. وقال ابن جرير أيضا: حدثنا ابن أبي عمران حدثنا عبيدالله بن معاذ عن أبيه عن أشعث عن الحسن في قوله "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء والصيام عشرة أيام والصدقة على عشرة مساكين كل مسكين مكوكين مكوكا من تمر ومكوكا من بر والنسك شاة. وقال قتادة عن الحسن وعكرمة في قوله "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: إطعام عشرة مساكين. وهذان القولان من سعيد بن جبير وعلقمة والحسن وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر لأنه قد ثبتت السنة في حديث كعب بن عجرة الصيام ثلاثة أيام لا ستة أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة وإن ذلك على التخيير كما دل عليه سياق القرآن وأما هذا الترتيب فإنما هو معروف في قتل الصيد كما هو نص القرآن وعليه أجمع الفقهاء هناك بخلاف هذا والله أعلم. وقال هشام: أخبرنا ليث عن طاوس أنه كان يقول: ما كان من دم أو طعام فبمكة وما كان من صيام فحيث شاء وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن وقال هشام: أخبرنا حجاج وعبدالملك وغيرهما عن عطاء أنه كان يقول: ما كان من دم فبمكة وما كان من طعام وصيام فحيث شاء. وقال هشيم: أخبرنا يحيى بن سعيد عن يعقوب بن خالد أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر قال: حج عثمان بن عفان ومعه علي والحسين بن علي فارتحل عثمان. قال أبو أسماء: وكنت مع ابن جعفر فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه قال: فقلت أيها النائم! فاستيقظ فإذا الحسين بن علي قال فحمله ابن جعفر حتى أتينا به السقيا قال: فأرسل إلى علي ومعه أسماء بنت عميس قال: فمرضناه نحوا من عشرين ليلة قال: قال علي للحسين ما الذي تجد؟ قال: فأومأ بيده إلى رأسه قال: فأمر به علي فحلق رأسه ثم دعا ببدنة فنحرها فإن كانت هذه النافة عن الحلق ففيه أنه نحرها دون مكة. وإن كانت عن التحلل فواضح. وقوله "فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي" أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص وهو المعروف في كلام الفقهاء والتمتع العام يشمل القسمين كما دلت عليه الأحاديث الصحاح فإن من الرواة من يقول: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر يقول: قرن ولا خلاف أنه ساق هديا وقال تعالى "فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي" أي فليذبح ما قدر عليه من الهدي وأقله شاة وله أن يذبح البقر لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح عن نسائه البقر وقال الأوزاعي عن يحيى بن أبى كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح البقر عن نسائه وكن متمتعات رواه أبو بكر بن مردويه وفي هذا دليل على مشروعية التمتع كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء. قال البخاري: يقال إنه عمر وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحا به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع ويقول إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمر بالتمام يعني قوله "وأتموا الحج والعمرة للّه" وفي نفس الأمر لم يكن عمر - رضي الله عنه - ينهى عنها محرما لها إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين كما قد صرح به رضي الله عنه. وقوله "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة" يقول تعالى: فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج أي في أيام المناسك. قال العلماء: والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر قاله عطاء أو من حين يحرم قاله ابن عباس وغيره لقوله في الحج ومنهم من يجوز صيامها من أول شوال قاله طاوس ومجاهد وغير واحد وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والسدي وعطاء وطاوس والحكم والحسن وحماد وإبراهيم أبو جعفر الباقر والربيع ومقاتل بن حيان. وقال العوفي عن ابن عباس: إذا لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله وكذا روى ابن إسحق عن وبرة عن ابن عمر قال: يصوم يوما قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة وكذا روى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أيضا فلو لم يصمها أو بعضها قبل العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق؟ فيه قولان للعلماء وهما للإمام الشافعي أيضا القديم منهما أنه يجوز له صيامها لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي هكذا رواه مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة وعن سالم عن ابن عمر وقد روي من غير وجه عنهما. ورواه سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أنه كان يقول: من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق وبهذا يقول عبيد بن عمير الليثي عن عكرمة والحسن البصري وعروة بن الزبير وإنما قالوا ذلك لعموم قوله "فصيام ثلاثة أيام في الحج" والجديد من القولين أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق لما رواه مسلم عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل" وقوله "وسبعة إذا رجعتم" فيه قولان: "أحدهما" إذا رجعتم إلى رحالكم. ولهذا قال مجاهد هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق وكذا قال عطاء بن أبي رباح والقول "الثاني" إذا رجعتم إلى أوطانكم. قال عبدالرزاق: أخبرنا الثوري عن يحيى بن سعيد عن سالم سمعت ابن عمر قال: "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم" قال: إذا رجع إلى أهله. وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والزهري والربيع بن أنس وحكى على ذلك أبو جعفر بن جرير الإجماع وقد قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبدالله أن ابن عمر قال: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة فأهل بعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس: "من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله". وذكر تمام الحديث قال الزهري: وأخبرني عروة عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه والحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري به وقوله "تلك عشرة كاملة" قيل: تأكيد كما تقول العرب رأيت بعيني وسمعت بأذني وكتبت بيدي وقال الله تعالى "ولا طائر يطير بجناحيه" وقال "ولا تخطه بيمينك" وقال "وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة" وقيل معنى كاملة الأمر بإكمالها وإتمامها. اختاره ابن جرير وقيل معنى كاملة أي مجزئة عن الهدي قال هشام عن عباد بن راشد عن الحسن البصري في قوله "تلك عشرة كاملة" قال: من الهدي. وقوله "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" قال ابن جرير: واختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله "لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به وأنه لا متعة لهم فقال بعضهم عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم. حدثنا ابن بشار حدثنا عبدالرحمن حدثنا سفيان هو الثوري قال: قال ابن عباس: هم أهل الحرم وكذا روى ابن المبارك عن الثوري وزاد الجماعة عليه وقال قتادة: ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: يا أهل مكة لا متعة لكم أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم إنما يقطع أحدكم واديا أو قال يجعل بينه وبين الحرم واديا ثم يهل بعمرة. وقال عبدالرزاق: حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: المتعة للناس لا لأهل مكة من لم يكن أهله من الحرم. وكذا قول الله عز وجل "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" قال: وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس. وقال آخرون: هم أهل الحرم ومن بينه وبين المواقيت كما قال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن عطاء قال: من كان أهله دون المواقيت فهو كأهل مكة لا يتمتع وقال عبدالله بن المبارك عن عبدالرحمن بن يزيد عن جابر عن مكحول في قوله "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" قال: من كان دون الميقات. وقال ابن جريج عن عطاء: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. قال: عرفة ومزدلفة وعرنة والرجيع. وقال عبدالرزاق: حدثنا معمر سمعت الزهري يقول: من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع. وفي رواية عنه اليوم واليومين. واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة لأن من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرا والله أعلم. وقوله "واتقوا الله" أي فيما أمركم ونهاكم "واعلموا أن الله شديد العقاب" أي لمن خالف أمره وارتكب ما عنه زجره.

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ

📘 اختلف أهل العربية في قوله "الحج أشهر معلومات" فقال بعضهم تقديره الحج حج أشهر معلومات فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام فيما عداها وإن كان ذاك صحيحا والقول بصحة الإحرام بالحج في جميع السنة مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وبه يقول إبراهيم النخعي والثوري والليث بن سعد. واحتج لهم بقوله تعالى "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج" وبأنه أحد النسكين فصح الإحرام به في جميع السنة كالعمرة. وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به وهل ينعقد عمرة فيه قولان عنه. والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره مروي عن ابن عباس وجابر وبه يقول عطاء وطاوس ومجاهد رحمهم الله والدليل عليه قوله "الحج أشهر معلومات" وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة وهو أن وقت الحج أشهر معلومات فخصصه بها من بين سائر شهور السنة فدل على أنه لا يصح قبلها كميقات الصلاة. وقال الشافعي رحمه الله: أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج أخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج من أجل قول الله تعالى "الحج أشهر معلومات" وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن يحيى بن مالك السوسي عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج به ورواه ابن مردويه في تفسيره من طريقين عن حجاح بن أرطاة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس أنه قال من السنة أنه لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج وقال ابن خزيمة فى صحيحه: حدثنا أبو كريب حدثنا أبو خالد الأحمر عن شعبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج وهذا إسناد صحيح. وقول الصحابي من السنة كذا في حكم المرفوع عند الأكثرين ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن وهو ترجمانه. وقد ورد فيه حديث مرفوع قال ابن مردويه: حدثنا عبدالباقي حدثنا نافع حدثنا الحسن بن المثنى حدثنا أبو حذيفة حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج" وإسناده لا بأس به لكن رواه الشافعي والبيهقي من طريق عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يسأل أيهل بالحج قبل أشهر الحج؟ فقال لا. وهذا الموقوف أصح وأثبت من المرفوع ويبقى حينئذ مذهب صحابي يتقوى بقول ابن عباس عن السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره والله أعلم. وقوله "أشهر معلومات" قال البخاري قال ابن عمر هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وهذا الذي علقه البخاري بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولا: حدثنا أحمد بن حازم بن أبي زغرة حدثنا أبو نعيم حدثنا ورقاء عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر "الحج أشهر معلومات" قال شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة إسناد صحيح. وقد رواه الحاكم أيضا في مستدركه عن الأصم عن الحسن بن علي بن عفان عن عبدالله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر فذكره وقال هو على شرط الشيخين "قلت" وهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود وعبدالله بن الزبير وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم النخعي والشعبي والحسن وابن سيرين ومكحول وقتادة والضحاك بن مزاحم والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأبي يوسف وأبي ثور رحمهم الله واختار هذا القول ابن جرير قال: وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب كما تقول العرب رأيته العام ورأيته اليوم وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" وإنما تعجل في يوم ونصف يوم وقال الإمام مالك بن أنس والشافعي في القديم هي شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله وهو رواية عن ابن عمر أيضا قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحق حدثنا أبو أحمد حدثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا يونس بن عبدالأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني ابن جريج قال: قلت لنافع أسمعت عبدالله بن عمر يسمي شهور الحج؟ قال نعم كان عبدالله يسمي شوالا وذا القعدة وذا الحجة. قال ابن جريج: وقال ذلك ابن شهاب وعطاء وجابر بن عبدالله صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج وقد حكي هذا أيضا عن طاوس ومجاهد وعروة بن الزبير والربيع بن أنس وقتادة وجاء فيه حديث مرفوع لكنه موضوع رواه الحافظ ابن مردويه من طريق حصين بن مخارق وهو متهم بالوضع عن يونس بن عبيد عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة" وهذا كما رأيت لا يصح رفعه والله أعلم. وفائدة مذهب مالك أنه إلى أخر ذي الحجة بمعنى أنه مختص بالحج فيكره الاعتمار في بقية ذي الحجة لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال قال عبدالله: الحج أشهر معلومات ليس فيها عمرة وهذا إسناد صحيح. قال ابن جرير: وإنما أراد من ذهب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة إنما هي للحج وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى. كما قال محمد بن سيرين: ما أحد من أهل العلم يشك في أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج. وقال ابن عون: سألت القاسم بن محمد عن العمرة في أشهر الحج فقال كانوا لا يرونها تامة "قلت" وقد ثبت عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما كان يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج وينهيان عن ذلك في أشهر الحج والله أعلم. وقوله "فمن فرض فيهن الحج" أي أوجب بإحرامه حجا - فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه. قال ابن جرير: أجمعوا على أن المراد من الفرض ههنا الإيجاب والإلزام. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "فمن فرض فيهن الحج" يقول من أحرم بحج أو عمرة. وقال عطاء: الفرض الإحرام وكذا قال إبراهيم والضحاك وغيرهم. وقال ابن جريج: أخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: "فمن فرض فيهن الحج" فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض. قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وعكرمة والضحاك وقتادة وسفيان والثوري والزهري ومقاتل بن حيان نحو ذلك. وقال طاوس والقاسم بن محمد: هو التلبية وقوله "فلا رفث" أي من أحرم بالحج أو العمرة فليجتنب الرفث وهو الجماع كما قال تعالى "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك وكذلك التكلم به بحضرة النساء. قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبدالله بن عمر كان يقول: الرفث إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم. قال ابن وهب: وأخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب مثله قال ابن جرير وحدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة عن رجل عن أبي العالية الرياحي عن ابن عباس أنه كان يحدو وهو محرم وهو يقول: وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا قال أبو العالية: فقلت تكلم بالرفث وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء. ورواه الأعمش عن زياد بن حصين عن أبي العالية عن ابن عباس فذكره. وقال ابن جرير أيضا: حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن عوف حدثني زياد بن حصين حدثني أبي حصين بن قيس قال: صعدت مع ابن عباس في الحج وكنت خليلا له فلما كان بعد إحرامنا قال ابن عباس: فأخذ بذنب بعيره فجعل يلويه ويرتجز ويقول: وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا قال: فقلت أترفث وأنت محرم؟ فقال إنما الرفث ما قيل عند النساء. وقال عبدالله بن طاوس عن أبيه سألت ابن عباس عن قول الله عز وجل "فلا رفث ولا فسوق" قال: الرفث التعريض بذكر الجماع وهي العرابة في كلام العرب وهو أدنى الرفث. وقال عطاء بن أبي رباح: الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش. وكذا قال عمرو بن دينار وقال عطاء: كانوا يكرهون العرابة وهو التعريض وهو محرم. وقال طاوس: وهو أن يقول للمرأة إذا حللت أصبتك. وكذا قال أبو العالية. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز وإن تعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر: الرفث غشيان النساء. وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وإبراهيم وأبو العالية عن عطاء ومكحول وعطاء الخراساني وعطاء بن يسار وعطية وإبراهيم النخعي والربيع والزهري والسدي ومالك بن أنس ومقاتل بن حيان وعبدالكريم بن مالك والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم. وقوله "ولا فسوق" قال مقسم وغير واحد عن ابن عباس هي المعاصي. وكذا قال عطاء ومجاهد وطاوس وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة وإبراهيم النخعي والزهري والربيع بن أنس وعطاء بن يسار وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وقال محمد بن إسحق عن نافع عن ابن عمر قال: الفسوق ما أصيب من معاصي الله صيدا أو غيره. وكذا روى ابن وهب عن يونس عن نافع أن عبدالله بن عمر كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم. وقال آخرون: الفسوق ههنا السباب. قاله ابن عباس وابن عمر وابن الزبير ومجاهد والسدي وإبراهيم النخعي والحسن وقد يتمسك هؤلاء بما ثبت في الصحيح "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" ولهذا رواه ههنا الحبر أبو محمد بن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري عن زبيد عن أبي وائل عن عبدالله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" وروي من حديث عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود عن أبيه ومن حديث أبي إسحق عن محمد بن سعد عن أبيه. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم الفسوق ههنا الذبح للأصنام. قال الله تعالى "أو فسقا أهل لغير الله به" وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالألقاب. والذين قالوا الفسوق ههنا هو جميع المعاصي الصواب منهم. كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم وإن كان في جميع السنة منهيا عنه إلا أنه في الأشهر الحرم آكد ولهذا قال: "منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم" وقال في الحرم: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" واختار ابن جرير أن الفسوق ههنا هو ارتكاب ما نهي عنه في الإحرام من قتل الصيد وحلق الشعر وقلم الأظفار ونحو ذلك كما تقدم عن ابن عمر وما ذكرناه أولى والله أعلم: وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وقوله "ولا جدال في الحج" فيه قولان: "أحدهما" ولا مجادلة في وقت الحج في مناسكه وقد بينه الله أتم بيان ووضحه أكمل إيضاح كما قال وكيع عن العلاء بن عبدالكريم سمعت مجاهدا يقول "ولا جدال في الحج" قد بين الله أشهر الحج فليس فيه جدال بين الناس. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "ولا جدال في الحج" قال لا شهر ينسأ ولا جدال في الحج قد تبين ثم ذكر كيفية ما كان المشركون يصنعون في النسيء الذي ذمهم الله به. وقال الثوري عن عبدالعزيز بن رفيع عن مجاهد في قوله "ولا جدال في الحج" قال قد استقام الحج فلا جدال فيه وكذا قال السدي وقال هشام: أخبرنا حجاج عن عطاء عن ابن عباس "ولا جدال في الحج" قال المراء في الحج. وقال عبدالله بن وهب قال مالك: قال الله تعالى "ولا جدال في الحج" قال فالجدال في الحج والله أعلم أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء: نحن أصوب ويقول هؤلاء: نحن أصوب. فهذا فيما نرى والله أعلم. وقال ابن وهب عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم فقطعه الله حين أعلم نبيه بالمناسك. وقال ابن وهب عن أبي صخر عن محمد بن كعب قال: كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء: حجنا أتم من حجكم وقال هؤلاء: حجنا أتم من حجكم. وقال حماد بن سلمة عن جبير بن حبيب عن القاسم بن محمد أنه قال: الجدال في الحج أن يقول بعضهم الحج غدا ويقول بعضهم الحج اليوم. وقد اختار ابن جرير مضمون هذه الأقوال وهو قطع التنازع في مناسك الحج والله أعلم. "والقول الثاني" أن المراد بالجدال ههنا المخاصمة. قال ابن جرير: حدثنا عبدالحميد بن حسان حدثنا إسحق عن شريك عن أبي إسحق عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود في قوله "ولا جدال في الحج" قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه. وبهذا الإسناد إلى أبي إسحق عن التميمي سألت ابن عباس عن الجدال قال: المراء تماري صاحبك حتى تغضبه. وكذلك روى مقسم والضحاك عن ابن عباس. وكذا قال أبو العالية وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء الخراساني ومكحول والسدي ومقاتل بن حيان وعمرو بن دينار والضحاك والربيع بن أنس وإبراهيم النخعي وعطاء بن يسار والحسن وقتادة والزهري. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ولا جدال في الحج المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك فنهى الله عن ذلك وقال إبراهيم النخعي "ولا جدال في الحج" قال كانوا يكرهون الجدال وقال محمد بن إسحق عن نافع عن ابن عمر قال: الجدال في الحج السباب والمنازعة. وكذا روى ابن وهب عن يونس عن نافع أن ابن عمر كان يقول: الجدال في الحج السباب والمراء والخصومات. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن الزبير والحسن وإبراهيم وطاوس ومحمد بن كعب قالوا: الجدال المراء. وقال عبدالله بن المبارك عن يحيى بن بشير عن عكرمة "ولا جدال في الحج" والجدال الغضب أن تغضب عليك مسلما إلا أن تستعتب مملوكا فتغضبه من غير أن تضربه فلا بأس عليك إن شاء الله "قلت" ولو ضربه لكان جائزا سائغا. والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حدثنا عبدالله بن إدريس حدثنا محمد بن إسحق عن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجاجا حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلست عائشة إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلست إلى جنب أبي وكانت زمالة أبي بكر وزمالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة مع غلام أبي بكر فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن يطلع عليه فاطلع وليس معه بعيره فقال: أين بعيرك؟ فقال أضللته البارحة. فقال أبو بكر بعير واحد تضله؟ فطفق يضربه ورسول الله يتبسم ويقول "انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع" وهكذا أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن إسحق ومن هذا الحديث حكى بعضهم عن بعض السلف أنه قال: من تمام الحج ضرب الجمال ولكن يستفاد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي بكر - رضي الله عنه - "انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع" كهيئة الإنكار اللطيف أن الأولى ترك ذلك والله أعلم. وقد قال الإمام عبد بن حميد في مسنده حدثنا عبيد الله بن موسى عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبدالله بن عبيد الله عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده غفر له ما تقدم من ذنبه". وقوله "وما تفعلوا من خير يعلمه الله" لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعلا حثهم على فعل الجميل وأخبرهم أنه عالم به وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة. وقوله "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" قال العوفي عن ابن عباس: كان أناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة يقولون نحج بيت الله ولا يطعمنا؟ فقال الله تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس. وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيد المقري حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة أن ناسا كانوا يحجون بغير زاد فأنزل الله "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" وكذا رواه ابن جرير عن عمرو وهو الفلاس عن ابن عيينة قال ابن أبي حاتم: وقد روى هذا الحديث ورقاء عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال وما يرويه عن ابن عيينة أصح "قلت" قد رواه النسائي عن سعيد بن عبدالرحمن المخزومي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس كان ناس يحجون بغير زاد فأنزل الله "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" وأما حديث ورقاء فأخرجه البخاري عن يحيى بن بشر عن شبابة وأخرجه أبو داود عن أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي ومحمد بن عبدالله المخزومي عن شبابة عن ورقاء عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فأنزل الله "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن شبابة. ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث شبابة وروى ابن جرير وابن مردويه من حديث عمرو بن عبدالغفار عن نافع عن ابن عمر قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها واستأنفوا زادا آخر فأنزل الله تعالى "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الدقيق والسويق والكعك وكذا قال ابن الزبير وأبو العالية ومجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي وسالم بن عبدالله وعطاء الخراساني وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان: وقال سعيد بن جبير: فتزودوا الدقيق والسويق والكعك. وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا سفيان عن محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير "وتزودوا" قال الخشكنانج والسويق. وقال وكيع أيضا: حدثنا إبراهيم المكي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر قال إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر وزاد فيه حماد بن سلمة عن أبي ريحانة أن ابن عمر كان يشترط على من صحبه الجودة. وقوله "فإن خير الزاد التقوى" لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة وهو استصحاب التقوى إليها كما قال "وريشا ولباس التقوى ذلك خير" لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدا إلى اللباس المعنوي وهو الخشوع والطاعة والتقوى وذكر أنه خير من هذا وأنفع. قال عطاء الخراساني في قوله "فإن خير الزاد التقوى" يعني زاد الآخرة. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا عبدان حدثنا هشام بن عمار حدثنا مروان بن معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير عن عبدالله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "من يتزود في الدنيا ينفعه في الآخرة" وقال مقاتل بن حيان: لما نزلت هذه الآية "وتزودوا" قام رجل من فقراء المسلمين فقال: يا رسول الله ما نجد ما نتزوده فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "تزود ما تكف به وجهك عن الناس وخير ما تزودتم التقوى" رواه ابن أبي حاتم وقوله "واتقون يا أولى الألباب" يقول: واتقوا عقابي ونكالي وعذابي لمن خالفني ولم يأتمر بأمري يا ذوي العقول والأفهام.

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ

📘 قال البخاري: حدثنا محمد أخبرني ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا فى الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فنزلت "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" في مواسم الحج. وهكذا رواه عبدالرزاق وسعيد بن منصور وغير واحد عن سفيان بن عيينة به ولبعضهم فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله هذه الآية وكذا رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ ومجنة وذو المجاز فلما كان الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت هذه الآية وروى أبو داود وغيره من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج يقولون أيام ذكر فأنزل الله "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشام أخبرنا حجاج عن عطاء عن ابن عباس أنه قال "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" في مواسم الحج. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: لا حرج عليكم فى الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده وهكذا روى العوفي عن ابن عباس وقال وكيع: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" في مواسم الحج. وقال عبدالرحمن عن ابن عيينة عن عبدالله بن أبي يزيد: سمعت ابن الزبير يقرأ "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" في مواسم الحج وهكذا فسرها مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ومنصور بن المعتمر وقتادة وإبراهيم النخعي والربيع بن أنس وغيرهم. وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا شبابة بن سوار حدثنا شعبة عن أبي أميمة قال: سمعت ابن عمر سئل عن الرجل يحج ومعه تجارة فقرأ ابن عمر "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" وهذا موقوف وهو قوي جيد وقد روي مرفوعا. قال أحمد: حدثنا أسباط حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر إنا نكري فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعرف وترمون الجمار وتحلقون رءوسكم قال قلنا بلى فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال "أنتم حجاج" وقال عبدالرزاق: أخبرنا الثوري عن العلاء بن المسيب عن رجل من بني تميم قال: جاء رجل إلى عبدالله بن عمر فقال: يا أبا عبدالرحمن إنا قوم نكري ويزعمون أنه ليس لنا حج قال: ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون؟ قال: بلى قال: فأنت حاج ثم قال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عما سألت عنه فنزلت هذه الآية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن عبدالرزاق به وهكذا روى هذا الحديث أبو حذيفة عن الثوري مرفوعا. وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعا فقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عباد بن العوام عن العلاء بن المسيب عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر: إنا أناس نكري في هذا الوجه إلى مكة وإن أناسا يزعمون أنه لا حج لنا فهل ترى لنا حجا؟ قال ألستم تحرمون وتطوفون بالبيت وتقضون المناسك؟ قال: قلت بلى قال "فأنتم حجاج" ثم قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الذي سألت فلم يدر ما يعود عليه أو قال: فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" فدعا الرجل فتلاها عليه وقال "أنتم حجاج" وكذا رواه مسعود بن سعد وعبدالواحد بن زياد وشريك القاضي عن العلاء بن المسيب به مرفوعا. وقال ابن جرير: حدثني طليق بن محمد الواسطي حدثنا أسباط هو ابن محمد أخبرنا الحسن بن عمر وهو الفقيمي عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر إنا قوم نكري فهل لنا من حج؟ فقال: أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعرف وترمون الجمار وتحلقون رءوسكم؟ قلنا بلى قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول له حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" إلى آخر الآية. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنتم حجاج" وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا غندر عن عبدالرحمن بن المهاجر عن أبي صالح مولى عمر قال: قلت يا أمير المومنين كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟ وقوله تعالى "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" إنما صرف عرفات وإن كان علما على مؤنث لأنه في الأصل جمع كمسلمات ومؤمنات سمي به بقعة معينة فروعي فيه الأصل فصرف اختاره ابن جرير وعرفة موضع الوقوف في الحج وهي عمدة أفعال الحج ولهذا روى الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن الثوري عن بكير عن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "الحج عرفات - ثلاثا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك. وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه" ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس وقال: "لتأخذوا عني مناسككم" وقال في هذا الحديث "فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة واحتجوا بحديث الشعبي عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت يا رسول الله إنى جئت من جبلي طيء أكللت راحلتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي. ثم قيل: إنما سميت عرفات لما رواه عبدالرزاق أخبرني ابن جريج قال: قال ابن المسيب قال علي بن أبي طالب بعث الله جبريل عليه السلام إلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فحج به حتى إذا أتى عرفة قال عرفت وكان قد أتاها مرة قبل ذلك فلذلك سميت عرفة. وقال ابن المبارك عن عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: إنما سميت عرفة لأن جبريل كان يري إبراهيم المناسك فيقول: عرفت عرفت فسميت عرفات. وروي نحوه عن ابن عباس وابن عمر وأبي مجلز فالله أعلم وتسمى عرفات المشعر الحرام والمشعر الأقصى وإلال على وزن هلال ويقال للجبل في وسطها جبل الرحمة قال أبو طالب في قصيدته المشهورة: وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له إلال إلى تلك الشراج القوابل وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حماد بن الحسن بن عيينة حدثنا أبو عامر عن زمعة هو ابن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رءوس الجبال كأنها العمائم على رءوس الرجال دفعوا فأخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدفعة عن عرفة حتى غربت الشمس ورواه ابن مردويه من حديث زمعة بن صالح وزاد: ثم وقف بالمزدلفة وصلى الفجر بغلس حتى إذا أسفر كل شيء وكان في الوقت الآخر دفع وهذا أحسن الإسناد وقال ابن جريج عن محمد بن قيس عن المسور بن مخرمة قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال "أما بعد - وكان إذا خطب خطبة قال أما بعد - فإن هذا اليوم الحج الأكبر ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس إذا كانت الشمس في رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس مخالفا هدينا هدي أهل الشرك" هكذا رواه ابن مردويه وهذا لفظه والحاكم في مستدركه كلاهما من حديث عبدالرحمن بن المبارك العيشي عن عبدالوارث بن سعيد عن ابن جريج. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقد صح وثبت بما ذكرناه سماع المسور من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا كما يتوهمه بعض أصحابنا أنه ممن له رؤية بلا سماع وقال وكيع عن شعبة عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي عن المعرور بن سويد قال: رأيت عمر - رضي الله عنه - حين دفع من عرفة كأني أنظر إليه رجل أصلع على بعير له يوضع وهو يقول: إنا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع. وفي حديث جابر بن عبدالله الطويل الذي في صحيح مسلم قال فيه: - فلم يزل واقفا يعني بعرفة حتى غربت الشمس وبدت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى "أيها الناس: السكينة السكينة" كلما أتي جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه سئل كيف كان يسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دفع؟ قال: كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص. والعنق هو انبساط السير والنص فوقه وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو محمد بن بنت الشافعي فيما كتب إلي عن أبيه أو عمه عن سفيان بن عيينة قوله "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" وهي الصلاتين جميعا وقال أبو إسحق السبيعي عن عمرو بن ميمون سألت عبدالله بن عمرو عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام. وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم قال: قال ابن عمر: المشعر الحرام المزدلفة كلها. وقال هشام عن حجاج عن نافع عن ابن عمر أنه سئل عن قوله "فاذكروا الله عند المشعر الحرام" قال فقال: هذا الجبل وما حوله. وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن المغيرة عن إبراهيم قال: رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح فقال: علام يزدحم هؤلاء؟ كل ما ههنا مشعر. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي والربيع بن أنس والحسن وقتادة أنهم قالوا: هو ما بين الجبلين. وقال ابن جريج: قلت لعطاء أين المزدلفة؟ قال: إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسر قال وليس المأزمان مأزمي عرفة من المزدلفة ولكن مفضاهما قال: فقف بينهما إن شئت قال وأحب أن تقف دون قزح هلم إلينا من أجل طريق الناس "قلت" والمشاعر هي المعالم الظاهرة وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام لأنها داخل الحرم وهل الوقوف بها ركن في الحج لا يصح إلا به كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض أصحاب الشافعي منهم القفال وابن خزيمة لحديث عروة بن مضرس؟ أو واجب كما هو أحد قولي الشافعي يجبر بدم؟ أو مستحب لا يجب بتركه شيء كما هو القول الآخر؟ في ذلك ثلاثة أقوال للعلماء لبسطها موضع آخر غير هذا والله أعلم. وقال عبدالله بن المبارك عن سفيان الثوري عن زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عرفة كلها موقف وارفعوا عن عرفة وجمع كلها موقف إلا محسرا" هذا حديث مرسل وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا سعيد بن عبدالعزيز حدثني سليمان بن موسى عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل عرفات موقف وارفعوا عن عرفات وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن محسر وكل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح" وهذا أيضا منقطع فإن سليمان بن موسى هذا وهو الأشدق لم يدرك جبير بن مطعم ولكن رواه الوليد بن مسلم وسويد بن عبدالعزيز عن سعيد بن عبدالعزيز عن سليمان فقال الوليد عن جبير بن مطعم عن أبيه وقال سويد عن نافع بن جبير عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكره والله أعلم. وقوله "واذكروه كما هداكم" تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج على ما كان عليه من الهداية إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال "وإن كنتم من قبله لمن الضالين" قيل من قبل هذا الهدي وقيل القرآن وقيل الرسول والكل متقارب ومتلازم وصحيح.

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

📘 ثم ههنا لعطف خبر على خبر وترتيبه عليه كأنه تعالى أمر الواقف بعرفات أن يدفع إلى المزدلفة ليذكر الله عند المشعر الحرام وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات كما كان جمهور الناس يصنعون يقفون بها إلا قريشا فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحل ويقولون نحن أهل الله في بلدته وقطان بيته قال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله حدثنا محمد بن حازم حدثنا هشام عن أبيه عن عائشـة قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وسائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله "من حيث أفاض الناس" وكذا قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم واختاره ابن جرير وحكى عليه الإجماع. وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو عن مجاهد عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: أضللت بعيرا لي بعرفة فذهبت أطلبه فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - واقف قلت إن هذا من الحمس ما شأنه ههنا؟ أخرجاه في الصحيحين ثم رواه البخاري من حديث موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس ما يقتضي أن المراد بالإفاضة ههنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار فالله أعلم. وحكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم فقط. قال: والمراد بالناس إبراهيم عليه السلام وفي رواية عنه: الإمام. وقال ابن جرير: ولولا إجماع الحجة على خلافه لكان هو الأرجح. وقوله "واستغفروا الله إن الله غفور رحيم" كثيرا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا. وفي الصحيحين أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين. وقد روى ابن جرير ههنا حديث ابن عباس بن مرداس السلمي في استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لأمته عشية عرفة وقد أوردناه في جزء جمعناه في فضل يوم عرفة. وأورد ابن مردويه ههنا الحديث الذي رواه البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة ومن قالها في نومه فمات دخل الجنة" وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمر أن أبا بكر قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: "قل اللهم إنى ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" والأحاديث في الاستغفار كثيرة.

ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ

📘 قال ابن جريج قال ابن عباس ذلك الكتاب أي هذا الكتاب وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج أن ذلك بمعنى هذا والعرب تعارض بين اسمي الإشارة فيستعملون كلا منهما مكان الآخر وهذا معروف في كلامهم وقد حكاه البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة وقال الزمخشري ذلك إشارة إلى "الم" كما قال تعالى "لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك" وقال تعالى "ذلكم حكم الله يحكم بينكم" وقال "ذلكم الله" وأمثال ذلك مما أسير به إلى ما تقدم ذكره والله أعلم. وقد ذهب بعض المفسرين فيما حكاه القرطبي وغيره أن ذلك إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بإنزاله عليه أو التوراة أو الإنجيل أو نحو ذلك في أقوال عشرة. وقد ضعف هذا المذهب كثيرون والله أعلم. والكتاب القرآن ومن قال: إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما حكاه ابن جرير وغيره فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وتكلف ما لا علم له به والريب الشك قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ريب فيه" لا شك فيه وقال أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد - وقال ابن أبي حاتم لا أعلم في هذا خلافا وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل: بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب واستعمل أيضا في الحاجة كما قال بعضهم: قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجمعنا السيوفا ومعنى الكلام هنا أن هذا الكتاب هو القرآن لا شك فيه أنه نزل من عند الله كما قال تعالى في السجدة "الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين" وقال بعضهم هذا خبر ومعناه النهي أي لا ترتابوا فيه. ومن القراء من يقف على قوله تعالى "لا ريب" ويبتدئ بقوله تعالى "فيه هدى للمتقين" والوقف على قوله تعالى "لا ريب فيه" أولى للآية التي ذكرناها ولأنه يصير قوله تعالى "هدى" صفة للقرآن وذلك أبلغ من كون فيه هدى. وهدى يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعا على النعت ومنصوبا على الحال وخصت الهداية للمتقين كما قال "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد" "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا" إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن لأنه هو في نفسه هدى ولكن لا يناله إلا الأبرار كما قال تعالى "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين" وقد قال السدى عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "هدى للمتقين" يعني نورا للمتقين وقال أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس قال هدى للمتقين قال هم المؤمنون الذين يتقون الشرك بي ويعملون بطاعتي وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "للمتقين" قال الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به وقال سفيان الثوري عن رجل عن الحسن البصري قوله تعالى للمتقين قال: اتقوا ما حرم الله عليهم وأدوا ما افترض عليهم وقال أبو بكر بن عياش سألنى الأعمش عن المتقين قال فأجبته فقال لي سل عنها الكلبي فسألته فقال الذين يجتنبون كبائر الإثم قال فرجعت إلى الأعمش فقال يرى أنه كذلك ولم ينكره. وقال قتادة للمتقين هم الذين نعتهم الله بقوله "الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة" الآية والتي بعدها واختيار ابن جرير أن الآية تعم ذلك كله وهو كما قال. وقد روى الترمذي وابن ماجه من رواية أبي عقيل عبدالله بن عقيل عن عبدالله بن يزيد عن ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس" ثم قال الترمذي حسن غريب وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبدالله بن عمران عن إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم عن ميمون أبي حمزة قال: كنت جالسا عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل قال بلى سمعته يقول يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد فينادي مناد أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت من المتقون قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة. ويطلق الهدى ومراد به ما يقر في القلب من الإيمان وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله عز وجل قال الله تعالى "إنك لا تهدي من أحببت" وقال "ليس عليك هداهم" وقال "من يضلل الله فلا هادي له" وقال "من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا" إلى غير ذلك من الآيات ويطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه والدلالة عليه والإرشاد إليه. قال الله تعالى "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" وقال "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" وقال تعالى "وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى" وقال "وهديناه النجدين" على تفسير من قال المراد بهما الخير والشر وهو الأرجح والله أعلم وأصل التقوى التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية قال النابغة: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد وقال الآخر: فألقت قناعا دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم وقد قيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال بلى قال فما عملت قال شمرت واجتهدت قال فذلك التقوى. وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال: خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقــى واصنع كماش فوق أر الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيـــرة إن الجبال من الحصـى وأنشد أبو الدرداء يوما: يريد المرء أن يؤتى منـاه ويأبى الله إلا مـــا أرادا يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيرا من زوجة صالحة إن نظر إليها سرته وإن أمرها أطاعته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله".

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ۖ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

📘 ثم قال "يكاد البرق يخطف أبصارهم" أي لشدته وقوته في نفسه وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "يكاد البرق يخطف أبصارهم" يقول يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين وقال ابن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "يكاد البرق يخطف أبصارهم" أي لشدة ضوء الحق كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كلما أضاء لهم مشوا فيه يقول كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه وإذا أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله تعالى "ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به" وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا" أي يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين وهكذا قال أبو العالية والحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس والسدي بسنده عن الصحابة وهو أصح وأظهر والله أعلم وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطي الناس النور بحسب إيمانهم فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك وأقل من ذلك ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء أخرى ومنهم من يمشي على الصراط تارة ويقف أخرى ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا" وقال في حق المؤمنين "يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار" الآية وقال تعالى " يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير" "ذكر الحديث الوارد في ذلك" قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى "يوم ترى المؤمنين والمؤمنات" الآية ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول "من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين بصنعاء ودون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه" رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن داود القطان عن قتادة بنحوه وهذا كما قال المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبدالله بن مسعود قال يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا على إبهامه يطفأ مرة ويتقد مرة وهكذا رواه ابن جرير عن ابن مثنى عن ابن إدريس عن أبيه عن المنهال وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن إدريس سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبدالله بن مسعود "نورهم يسعى بين أيديهم" قال على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا عقبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس قال ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورا يوم القيامة فأما المنافق فيطفأ نوره فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين فهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا وقال الضحاك ابن مزاحم يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نورا فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين فلما رأى ذلك المؤمنون شفقوا فقالوا ربنا أتمم لنا نورنا. فإذا تقرر هذا صار الناس أقساما مؤمنون خلص وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة وكفار خلص وهم الموصوفون بالآيتين بعدها ومنافقون وهم قسمان خلص وهم المضروب لهم المثل الناري ومنافقون يترددون تارة يظهر لهم لمع الإيمان وتارة يخبو وهم أصحاب المثل المائي وهم أخف حالا من الذين قبلهم. وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله ثم ضرب مثل العباد من الكفار الذين يعتقدون أنهم على شيء وليسوا على شيء وهم أصحاب الجهل المركب في قوله تعالى "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا" الآية ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط وهم الذين قال تعالى فيهم "أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور" فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين داعية ومقلد كما ذكرهما في أول سورة الحج "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد" وقال "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وفي آخرها وفي سورة الإنسان إلى قسمين سابقون وهم المقربون وأصحاب يمين وهم الأبرار. فتلخص من مجموع هذه الآيات الكريمات أن المؤمنين صنفان مقربون وأبرار وأن الكافرين صنفان دعاة ومقلدون وأن المنافقين أيضا صنفان منافق خالص ومنافق فيه شعبة من نفاق كما جاء في الصحيحين عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم "ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان" استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان وشعبة من نفاق إما عملي لهذا الحديث أو اعتقادي كما دلت عليه الآية كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله قال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية يعني شيبان عن ليث عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر وقلب أغلف مربوط على غلافه وقلب منكوس وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن فسراجه فيه نوره وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه" وهذا إسناد جيد حسن. وقوله تعالى "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير" قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم" قال: لما تركوا من الحق بعد معرفته "إن الله على كل شيء قدير" قال ابن عباس أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير. وقال ابن جرير: إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير. ومعنى قدير قادر كما معنى عليم عالم وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين وتكون أو في قوله تعالى "أو كصيب من السماء" بمعنى الواو كقوله تعالى "ولا تطع منهم آثما أو كفورا" أو تكون للتخبير أي اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا قال القرطبي: أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين على ما وجهه الزمخشري أن كلا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه ويكون معناه على قوله سواء ضربت لهم مثلا بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم "قلت" وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة - ومنهم - ومنهم - ومنهم - يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم والله أعلم كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة" إلى أن قال "أو كظلمات في بحر لجي" الآية فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب والثانى لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين والله أعلم بالصواب.

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ

📘 يأمر تعالى بذكره والإكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها وقوله "كذكركم آباءكم" اختلفوا في معناه فقال ابن جريج عن عطاء هو كقول الصبي أبه أمه يعني كما يلهج الصبي يذكر أبيه وأمه فكذلك أنتم فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك. وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات. ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم. فأنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - "فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا" قال ابن أبي حاتم: وروى السدي عن أنس بن مالك وأبي وائل وعطاء بن أبي رباح في أحد قوليه وسعيد بن جبير وعكرمة في أحد رواياته ومجاهد والسدي وعطاء الخراساني والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب ومقاتل بن حيان نحو ذلك وهكذا حكاه ابن جرير عن جماعة والله أعلم. والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عز وجل ولهذا كان انتصاب قوله أو أشد ذكرا على التمييز تقديره كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا وأو ههنا لتحقيق المماثلة في الخبر كقوله "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" وقوله "يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية" "فأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون" "فكان قاب قوسين أو أدنى" فليست ههنا للشك قطعا وإنما هي لتحقيق المخبر عنه كذلك أو أزيد منه. ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره فإنه مظنة الإجابة وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض عن أخراه فقال "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق" أي من نصيب ولا حظ وتضمن هذا الذم والتنفير عن التشبه بمن هو كذلك قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا فأنزل الله فيهم "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق" وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" فأنزل الله "أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب" ولهذا مدح من يسأله الدنيا والآخرة فقال.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

📘 "ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار" فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر فإن كل الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح ومركب هين وثناء جميل إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ولا منافاة بينها فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة. وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام. وقال القاسم أبو عبدالرحمن: من أعطى قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وجسدا صابرا فقد أوتي في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة ووقي عذاب النار. ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء. فقال البخاري: حدثنا معمر حدثنا عبدالوارث عن عبدالعزيز عن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" وقال أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: سأل قتادة أنسا أي دعوة كان أكثر ما يدعوها النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه ورواه مسلم وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا عبدالسلام بن شداد يعني أبا طالوت قال: كنت عند أنس بن مالك فقال له ثابت إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام قال أبا حمزة: إن إخوانك يريدون القيام فادع الله لهم فقال: أتريدون أن أشقق لكم الأمور إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله. وقال أحمد أيضا: حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن ثابت عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه" قال نعم: كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه فهلا قلت "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" قال فدعا الله فشفاه انفرد بإخراجه مسلم فرواه من حديث ابن أبي عدي به. وقال الإمام الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم القداح عن ابن جريج عن يحيى بن عبيد مولى السائب عن أبيه عن عبدالله بن السائب أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" ورواه الثوري عن ابن جريج كذلك. وروى ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك وفي سنده ضعف والله أعلم. وقال ابن مردويه: حدثنا عبدالباقي أخبرنا أحمد بن القاسم بن مساور حدثنا سعيد بن سليمان عن عبدالله بن هرمز عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكا يقول آمين فإذا مررتم عليه فقولوا "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".

أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ

📘 وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو زكريا العنبري حدثنا محمد بن عبدالسلام حدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا جرير عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إنى أجرت نفسي من قوم على أن يحملوني ووضعت لهم من أجرتي على أن يدعوني أحج معهم أفيجزى ذلك؟ فقال أنت من الذين قال الله "أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب" ثم قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

۞ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

📘 قال ابن عباس: الأيام المعدودات أيام التشريق والأيام المعلومات أيام العشر. وقال عكرمة "واذكروا الله في أيام معدودات" يعني التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر الله أكبر. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا موسى بن علي عن أبيه قال: سمعت عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب" وقال أحمد أيضا: حدثنا هشام أخبرنا خالد عن أبي المليح عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله" ورواه مسلم أيضا وتقدم حديث جبير بن مطعم "عرفة كلها موقف وأيام التشريق كلها ذبح" وتقدم أيضا حديث عبدالرحمن بن يعمر الديلي "وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه" وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم وخلاد بن أسلم قالا: حدثنا هشام عن عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "أيام التشريق أيام طعم وذكر الله" وحدثنا خالد بن أسلم حدثنا روح حدثنا صالح حدثني ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبدالله بن حذافة يطوف في منى "لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل" وحدثنا يعقوب حدثنا هشام عن سفيان بن حسين عن الزهري قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن حذافة فنادى في أيام التشريق فقال "إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله إلا من كان عليه صوم من هدي" زيادة حسنة ولكن مرسلة وبه قال هشام عن عبدالملك بن أبي سليمان عن عمرو بن دينار أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعث بشر بن سحيم فنادى في أيام التشريق فقال "إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله" وقال هشيم عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن عائشة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن صوم أيام التشريق قال "وهي أيام أكل وشرب وذكر الله" وقال محمد بن إسحق عن حكيم بن حكيم عن مسعود بن الحكم الزرقي عن أمه قالت: لكأني أنظر إلى علي على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيضاء حتى وقف على شعب الأنصار وهو يقول: يا أيها الناس إنها ليست بأيام صيام إنما هي أيام أكل وشرب وذكر الله. وقال مقسم عن ابن عباس: الأيام المعدودات أيام التشريق أربعة أيام يوم النحر وثلاثة بعده وروي عن ابن عمر وابن الزبير وأبي موسى وعطاء ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي مالك وإبراهيم النخعي ويحيى بن أبي كثير والحسن وقتادة والسدي والزهري والربيع بن أنس والضحاك ومقاتل بن حيان وعطاء الخراساني ومالك بن أنس وغيرهم مثل ذلك وقال علي بن أبي طالب هي ثلاثة: يوم النحر ويومان بعده اذبح في أيهن شئت وأفضلها أولها. والقول الأول هو المشهور وعليه دل ظاهر الآية الكريمة حيث قال "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه" فدل على ثلاثة بعد النحر ويتعلق بقوله "واذكروا الله في أيام معدودات" ذكر الله على الأضاحي وقد تقدم أن الراجح في ذلك مذهب الشافعي رحمه الله وهو أن وقت الأضحية من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق ويتعلق به أيضا الذكر المؤقت خلف الصلوات والمطلق في سائر الأحوال وفي وقته أقوال للعلماء أشهرها الذي عليه العمل أنه من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق وهو آخر النفر الآخر وقد جاء فيه حديث رواه الدارقطني ولكن لا يصح مرفوعا والله أعلم. وقد ثبت أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يكبر في قبته فيكبر أهل السوق بتكبيره حتى ترتج منى تكبيرا ويتعلق بذلك أيضا التكبير وذكر الله عند رمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل. ولما ذكر الله تعالى النفر الأول والثاني وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى سائر الأقاليم والآفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف قال "واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون" كما قال "وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون".

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ

📘 قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك وعن ابن عباس أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم فأنزل الله في ذم المنافقين ومدح خبيب وأصحابه "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله" وقيل بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم وهذا قول قتادة ومجاهد والربيع بن أنس وغير واحد وهو الصحيح. وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن القرظي عن نوف وهو البكالي وكان ممن يقرأ الكتب قال إنى لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل قوم يحتالون على الدنيا بالدين ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر يلبسون للناس مسوك الضأن وقلوبهم قلوب الذئاب يقول الله تعالى: فعلي يجترئون وبي يغترون حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران قال القرظي تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون فوجدتها "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه" الآية وحدثني محمد بن أبي معشر أخبرني أبو معشر نجيح قال: سمعت سعيدا المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي فقال سعيد: إن في بعض الكتب: إن عبادا ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين يشترون الدنيا بالدين قال الله تعالى: علي تجترئون وبي تغترون؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران. فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله قال قول الله "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا" الآية فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية فقال محمد بن كعب إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح. وأما قوله "ويشهد الله على ما في قلبه" فقرأه ابن محيصن "ويشهد الله" بفتح الياء وضم الجلالة "على ما في قلبه" ومعناها أن هذا وإن أظهر لكم الحيل لكن الله يعلم من قلبه القبيح كقوله تعالى "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" وقراءة الجمهور بضم الياء ونصب الجلالة ويشهد الله على ما في قلبه ومعناه أنه يظهر للناس الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق كقوله تعالى "يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله" الآية هذا معنى ما رواه ابن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وقيل معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حلف وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه وهذا المعنى صحيح. وقاله عبدالرحمن بن زيد بن أسلم واختاره ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس وحكاه عن مجاهد والله أعلم. وقوله "وهو ألد الخصام" الألد في اللغة الأعوج "وتنذر به قوما لدا" أي عوجا وهكذا المنافق في حال خصومته يكذب ويزور عن الحق ولا يستقيم معه بل يفتري ويفجر كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" وقال البخاري: حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة ترفعه. قال: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" قال: وقال عبدالله بن يزيد: حدثنا سفيان حدثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" وهكذا رواه عبدالرزاق عن معمر في قوله "وهو ألد الخصام" عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".

وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ

📘 وقوله"وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" أي هو أعوج المقال سيئ الفعال فذلك قوله وهذا فعله كلامه كذب واعتقاده فاسد وأفعاله قبيحة والسعي ههنا هو القصد كما قال إخبارا عن فرعون "ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى" وقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله" أي اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهي عنه بالسنة النبوية "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار" فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض وإهلاك الحرث وهو محل نماء الزروع والثمار والنسل وهو نتاج الحيوانات الذين لا قوام للناس إلا بهما. وقال مجاهد إذا سعى في الأرض إفسادا منع الله القطر فهلك الحرث والنسل "والله لا يحب الفساد" أي لا يحب من هذه صفته ولا من يصدر منه ذلك.

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ

📘 وقوله "وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم" أي إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله وقيل له اتق الله وانزع عن قولك وفعلك وارجع إلى الحق امتنع وأبى وأخذته الحمية والغضب بالإثم أي بسبب ما اشتمل عليه من الآثام وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير" ولهذا قال في هذه الآية "فحسبه جهنم ولبئس المهاد" أي هي كافيته عقوبة في ذلك.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ

📘 وقوله "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة نزلت في صهيب بن سنان الرومي وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل فتخلص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له ربح البيع فقال وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك فأخبروه أن الله أنزل هذه الآية. ويروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له "ربح البيع صهيب" قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن عبدالله بن رسته حدثنا سليمان بن داود حدثنا جعفر بن سليمان الضبي حدثنا عوف عن أبي عثمان النهدي عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت لي قريش يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك وتخرج أنت ومالك والله لا يكون ذلك أبدا فقلت لهم أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا نعم فدفعت إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال "ربح صهيب ربح صهيب" مرتين وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانثل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش قد علمتم أنى من أرماكم رجلا وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي قالوا نعم فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "ربح البيع" قال ونزلت "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد" وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله كما قال تعالى "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم" ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين أنكر عليه بعض الناس فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما وتلوا هذه الآية "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ

📘 يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك. قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد وطاوس والضحاك وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد في قوله "ادخلوا في السلم" يعني الإسلام. وقال الضحاك عن ابن عباس وأبو العالية والربيع بن أنس "ادخلوا في السلم" يعني الطاعة. وقال قتادة أيضا الموادعة وقوله "كافة" قال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والربيع بن أنس السدي ومقاتل بن حيان وقتادة والضحاك جميعا وقال مجاهد أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر. وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم كعبدالله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة وطائفة استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أن يسبتوا وأن يقوموا بالتوراة ليلا فأمرهم الله بإقامة شعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها وفي ذكر عبدالله بن سلام مع هؤلاء نظر إذ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه والتعويض عنه بأعياد الإسلام. ومن المفسرين من يجعل قوله "كافة" حالا من الداخلين أي ادخلوا في الإسلام كلكم والصحيح الأول وهو أنهم أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام وهي كثيرة جدا ما استطاعوا منها كما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا أحمد بن الصباح أخبرني الهيثم بن يمان حدثنا إسماعيل بن زكريا حدثني محمد بن عون عن عكرمة عن ابن عباس "يا أيها الذين امنوا ادخلوا في السلم كافة" كذا قرأها بالنصب يعني مؤمني أهل الكتاب فإنهم كانوا مع الإيمان مستمسكين ببعض أمور التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم فقال الله "ادخلوا في السلم كافة" يقول ادخلوا في شرائع دين محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا تدعوا منها شيئا وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها. وقوله "ولا تتبعوا خطوات الشيطان" أي اعملوا بالطاعات واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان فـ "إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" و "إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" ولهذا قال "إنه لكم عدو مبين" قال مطرف: أغش عباد الله لعبيد الله الشيطان؟.

فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

📘 وقوله "فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات" أي عدلتم عن الحق بعدما قامت عليكم الحجج فاعلموا أن الله عزيز أي في انتقامه لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس: عزيز في نقمته حكيم في أمره وقال محمد بن إسحق: العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء الحكيم في عذره وحجته إلى عباده.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

📘 شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

📘 يقول تعالى مهددا للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة" يعني يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين فيجزي كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ولهذا قال تعالى "وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور" كما قال تعالى "كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى" وقال هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك" الآية. وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير ههنا حديث الصور بطوله من أوله عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم وفيه - أن الناس إذا اهتموا لموقفهم في العرصات تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدا واحدا من آدم فمن بعده فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فإذا جاءوا إليه قال "أنا لها أنا لها" فيذهب فيسجد للّه تحت العرش فيشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد فيشفعه الله ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تنشق السماء الدنيا وينزل من فيها من الملائكة ثم الثانية ثم الثالثة إلى السابعة وينزل حملة العرش والكروبيون قال وينزل الجبار عز وجل في ظلل من الغمام والملائكة ولهم زجل في تسبيحهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت سبحان ذي العزة والجبروت سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبوح قدوس سبحان ربنا الأعلى سبحان ذي السلطان والعظمة سبحانه سبحانه أبدا أبدا. وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه ههنا أحاديث فيها غرابة والله أعلم. فمنها ما رواه من حديث المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبدالله بن ميسرة عن مسروق عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا أبو بكر بن عطاء بن مقدم حدثنا معتمر بن سليمان سمعت عبدالجليل القيسي يحدث عن عبدالله بن عمرو "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام" الآية. قال يهبط حين يهيط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتا تنخلع له القلوب. قال: وحدثنا أبي حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد قال: سألت زهير بن محمد عن قول الله "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام" قال: ظلل من الغمام منظوم من الياقوت مكلل بالجوهر والزبرجد. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في ظلل من الغمام قال: هو غير السحاب ولم يكن قط إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة" يقول: والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام والله تعالى يجيء فيما يشاء وهي في بعض القراءات "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام" وهي كقوله "ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا".

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ۗ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ

📘 يقول تعالى مخبرا عن بني إسرائيل كم شاهدوا مع موسى من آية بينة أي حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به كيده وعصاه وفلقه البحر وضربه الحجر وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر ومن إنزال المن والسلوى وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه ومع هذا أعرض كثير منهم عنها وبدلوا نعمة الله كفرا أي استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها والإعراض عنها "ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب" كما قال تعالى إخبارا عن كفار قريش "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار".

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

📘 ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رضوا بها واطمأنوا إليها وجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها مما يرضي الله عنهم وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم وبذلوه ابتغاء وجه الله فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين وخلد أولئك في الدركات في أسفل سافلين؟ ولهذا قال تعالى "والله يرزق من يشاء بغير حساب" أي يرزق من يشاء من خلقه ويعطيه عطاء كثيرا جزيلا بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة كما جاء في الحديث "ابن آدم أنفق أنفق عليك" وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا" وقال تعالى "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه" وفي الصحيح "أن ملكين ينزلان من السماء صبيحة كل يوم فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا" وفي الصحيح "يقول ابن آدم: مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت وما لبست فأبليت وما تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس" وفي مسند الإمام أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له".

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

📘 قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو داود أخبرنا همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين قال: وكذلك هي في قراءة عبدالله "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا" ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار عن محمد بن بشار ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وكذا روى أبو جعفر الرازي عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "كان الناس أمة واحدة" قال: كانوا على الهدى جميعا "فاختلفوا فبعث الله النبيين" فكان أول من بعث نوحا. وهكذا قال مجاهد كما قال ابن عباس أولا. وقال العوفي عن ابن عباس "كان الناس أمة واحدة" يقول: كانوا كفارا فبعث الله النبين مبشرين ومنذرين والقول الأول عن ابن عباس أصح سندا ومعنى لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحا عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. ولهذا قال تعالى "وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم" أي من بعد ما قامت الحجج عليهم وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" وقال عبدالرزاق: حدثنا معمر عن سليمان الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في قوله "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه" الآية قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة نحن أول الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع فغدا لليهود وبعد غد للنصارى" ثم رواه عبدالرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة. وقال ابن وهب عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه في قوله "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه" فاختلفوا في يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد فهدى الله أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليوم الجمعة واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق واليهود بيت المقدس فهدى الله أمة محمد للقبلة واختلقوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ومنهم من يسجد ولا يركع ومنهم من يصلي وهو يتكلم ومنهم من يصلي وهو يمشي فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في الصيام فمنهم من يصوم بعض النهار ومنهم من يصوم عن بعض الطعام فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود: كان يهوديا. وقالت النصارى: كان نصرانيا وجعله الله حنيفا مسلما فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلقوا في عيسى عليه السلام: فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتانا عظيما وجعلته النصارى إلها وولدا وجعله الله روحه وكلمته فهدى الله أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - للحق من ذلك وقال الربيع بن أنس في قوله "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه" أي عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف أقاموا على الإخلاص للّه عز وجل وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف واعتزلوا الاختلاف وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون أن رسلهم قد بلغوهم وأنهم قد كذبوا رسلهم وفي قراءة أبي بن كعب وليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن. وقوله "بإذنه" أي بعلمه بهم وبما هداهم له قاله ابن جرير "والله يهدي من يشاء" أي من خلقه "إلى صراط مستقيم" أي وله الحكمة والحجة البالغة. وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وفي الدعاء المأثور "اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولا تجعله متلبسا علينا فنضل واجعلنا للمتقين إماما".

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ

📘 يقول تعالى "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة" قبل أن تبتلوا وتختبروا وتمتحنوا كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم ولهذا قال "ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء" وهي الأمراض والأسقام والآلام والمصائب والنوائب. قال ابن مسعود وابن عباس وأبو العالبة ومجاهد وسعيد بن جبير ومرة الهمذاني والحسن وقتادة والضحاك والربيع والسدي ومقاتل بن حيان "البأساء" الفقر "والضراء" السقم "وزلزلوا" خوفوا من الأعداء زلزالا شديدا وامتحنوا امتحانا عظيما كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت قال: قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا فقال "إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه" ثم قال "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون وقال الله تعالى "ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله عنهم في يوم الأحزاب كما قال الله تعالى "إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا" الآيات. ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه قال: نعم. قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال: سجالا يدال علينا وندال عليه. قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. وقوله "مثل الذين خلوا من قبلكم" أي سنتهم كما قال تعالى "فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين" وقوله "وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله" أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال والشدة. قال الله تعالى "ألا إن نصر الله قريب" كما قال "فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا" وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ولهذا قال "ألا إن نصر الله قريب" وفي حديث أبي رزين "عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه فينظر إليهم قانطين فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب" الحديث.

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ

📘 قال مقاتل بن حيان: هذه الآية في نفقة التطوع. وقال السدي: نسختها الزكاة وفيه نظر ومعنى الآية: يسألونك كيف ينفقون؟ قاله ابن عباس ومجاهد فبين لهم تعالى ذلك فقال "قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل" أي اصرفوها في هذه الوجوه. كما جاء الحديث "أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك" وتلا ميمون بن مهران هذه الآية ثم قال: هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلا ولا مزمارا ولا تصاوير الخشب ولا كسوة الحيطان. ثم قال تعالى "وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم" أي مهما صدر منكم من فعل معروف فإن الله يعلمه وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء فإنه لا يظلم أحدا مثقال ذرة.

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

📘 هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام وقال الزهري: الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين وإذا استغيث أن يغيث وإذا استنفر أن ينفر وإن لم يحتج إليه قعد "قلت": ولهذا ثبت في الصحيح "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية" وقال عليه السلام يوم الفتح "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا" وقوله "وهو كره لكم" أي شديد عليكم ومشقة وهو كذلك فإنه إما أن يقتل أو يجرح مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء. ثم قال تعالى "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" أي لأن القتال يعقبه النصر والظفر على الأعداء والاستيلاء على بلادهم وأموالهم وذراريهم وأولادهم "وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم" وهذا عام في الأمور كلها قد يحب المرء شيئا وليس له فيه خيرة ولا مصلحة ومن ذلك القعود عن القتال قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم. ثم قال تعالى "والله يعلم وأنتم لا تعلمون" أي هو أعلم بعواقب الأمور منكم وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم فاستجيبوا له وانقادوا لأمره لعلكم ترشدون.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

📘 قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه حدثني الحضرمي عن أبي السوار عن جندب بن عبدالله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح فلما ذهب ينطق بكى صبابة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحبسه فبعث عليهم مكانه عبدالله بن جحش وكتب له كتابا وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا وقال "لا تكرهن أحدا على السير معك من أصحابك" فلما قرأ الكتاب استرجع وقال: سمعا وطاعة لله ولرسوله فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب فرجع رجلان وبقي بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام فأنزل الله "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير" الآية. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير" الآية. وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية وكانوا سبعة نفر عليهم عبدالله بن جحش الأسدي وفيهم عمار بن ياسر وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل وسهيل ابن بيضاء وعامر بن فهيرة وواقد بن عبدالله اليربوعي حليف لعمر ابن الخطاب وكتب لابن جحش كتابا وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل بطن نخلة فلما نزل بطن نخلة فتح الكتاب فإذا فيه "أن سر حتى تنزل بطن نخلة" فقال لأصحابه من كان يريد الموت فليمض وليوص فإنني موص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار فتخلف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة أضلا راحلة لهما فتخلفا يطلبانها وسار ابن جحش إلى بطن نخلة فإذا هو بالحكم بن كيسان وعثمان بن عبدالله بن المغيرة وانفلت وقتل عمرو قتله واقد بن عبدالله فكانت أول غنيمة غنمها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رجعوا إلى المدينة بأسيرين وما أصابوا من المال أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين عليه وقالوا إن محمدا يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب فقال المسلمون إنما قتلناه في جمادى وقتل في أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى وأغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب وأنزل الله يعير أهل مكة "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير" لا يحل وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عن محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وإخراج أهل المسجد الحرام منه حين أخرجوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أكبر من القتل عند الله. وقال العوفي عن ابن عباس "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير" وذلك أن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وردوه عن المسجد في شهر حرام قال ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل فعاب المشركون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القتال في شهر حرام فقال الله "وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله" من القتال فيه وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى وأول ليلة من رجب وإن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى وكانت أول رجب ولم يشعروا فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه وإن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك فقال الله تعالى "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه" إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - والشرك أشد منه وهكذا روى أبو سعيد البقال عن عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في سرية عبدالله بن جحش وقتل عمرو بن الحضرمي. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل فيما كان من مصاب عمرو بن الحضرمي "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه" إلى آخر الآية. وقال عبدالملك بن هشام راوي السيرة عن زياد بن عبدالله البكائي عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني رحمه الله في كتاب السيرة له إنه قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جحش بن رباب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير بيومين ثم ينظر فيه فيمضي كما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحدا وكان أصحاب عبدالله بن جحش من المهاجرين ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ومن حلفائهم عبدالله بن جحش وهو أمير القوم وعكاشة بن محصن أحد بني أسد بن خزيمة حليف لهم ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان بن جابر حليف لهم ومن بني زهرة بن كلاب سعد بن أبي وقاص ومن بني كعب عدي بن عامر بن ربيعة حليف لهم من غير ابن وائل وواقد بن عبدالله بن عبد مناف بن عرس بن ثعلبة بن يربوع أحد بني تميم حليف لهم وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم ومن بني الحارث بن فهر سهيل ابن بيضاء فلما سار عبدالله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم" فلما نظر عبدالله بن جحش في الكتاب قال: سمعا وطاعة ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منهم بخبر وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع فأما أنا فماض لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد فسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له نجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا عليه في طلبه ومضى عبدالله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة فمرت به عير لقريش تحمل زيتا وأدما وتجارة من تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي واسم الحضرمي عبدالله بن عباد أحد الصدف وعثمان بن عبدالله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبدالله المخزوميان والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم فأشرف لهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه فلما رأوه آمنوا وقالوا: عمار لا بأس عليكم منهم وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب فقال القوم والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكـم ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم ثم شجعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان وأفلت القوم نوفل بن عبدالله فأعجزهم وأقبل عبدالله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة قال ابن إسحاق: وقد ذكر بعض آل عبدالله بن جحش أن عبدالله قال لأصحابه إن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما غنمنا الخمس وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغانم فعزل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس العير وقسم سائرها بين أصحابه قال ابن إسحاق: فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام" فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان وقالت اليهود تفاءلوا بذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبدالله عمرو عمرت الحرب والحضرمي حضرت الحرب وواقد بن عبدالله وقدت الحرب فجعل الله عليهم ذلك لا لهم فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل" أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به وعن المسجد الحرام وإخراجكم منه وأنتم أهله "أكبر عند الله" من قتل من قتلتم منهم "والفتنة أكبر من القتل" أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا" أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين. قال ابن إسحاق: فلما نزل القرآن بهذا من الأمر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشدة قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العير والأسيرين وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا" يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان "فإنا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم" فقدم سعد وعتبة ففداهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه وأقام عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا وأما عثمان بن عبدالله فلحق بمكة فمات بها كافرا. قاله ابن إسحق.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

📘 فلما تجلى عن عبدالله بن جحش وأصحابه ما كان حين نزل القرآن طمعوا في الأجر فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله عز وجل "إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم" فوضع الله من ذلك على أعظم الرجاء قال ابن إسحق: والحديث في هذا عن الزهري ويزيد بن رومان عن عروة وقد روى يونس بن بكر عن محمد بن إسحق عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قريبا من هذا السياق وروى موسى بن عقبة عن الزهري نفسه نحو ذلك وروى شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن عروة بن الزبير نحوا من هذا أيضا وفيه فكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين فركب وفد من كفار قريش حتى قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فقالوا: أيحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله "يسألونك عن الشهر الحرام" الآية. وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة ثم قال ابن هشام عن زياد عن ابن إسحق وقد ذكر عن بعض آل عبدالله أن عبدالله قسم الفيء بين أهله فجعل أربعة أخماسه لمن أفاءه وخمسا إلى الله ورسوله فوقع على ما كان عبدالله بن جحش صنع في تلك العير قال ابن هشام: وهي أول غنيمة غنمها المسلمون وعمرو بن الحضرمي أول من قتل المسلمون وعثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون. قال ابن إسحق: فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في غزوة عبدالله بن جحش ويقال بل عبدالله بن جحش قالها حين قالت قريش قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه المال وأسروا فيه الرجال قال ابن هشام: هي لعبدالله بن جحش: تعدون قتلا في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد وكفر به والله راء وشاهد وإخراجكم من مسجد الله أهله لئلا يرى للّه في البيت ساجد فإنا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا بنخلة لما أوقد الحرب واقد دما وابن عبدالله عثمان بيننا ينازعه غل من القيد عائد

۞ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ

📘 قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن أبي ميسرة عن عمر أنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآية التي في البقرة "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير" فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في النساء "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" فكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقام الصلاة نادى "أن لا يقربن الصلاة سكران" فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ "فهل أنتم منتهون" قال عمر: انتهينا انتهينا. وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن إسرائيل عن أبي إسحق وكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق الثوري عن أبي إسحق عن أبي ميسرة واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي عن عمرو وليس له عنه سواه لكن قد قال أبو زرعة لم يسمع منه والله أعلم. وقال علي بن المديني: هذا إسناد صالح صحيح وصححه الترمذي وزاد ابن أبي حاتم بعد قوله انتهينا إنها تذهب المال وتذهب العقل وسيأتي هذا الحديث أيضا مع ما رواه أحمد من طريق أبي هريرة أيضا عند قوله في سورة المائدة "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون" الآيات فقوله "يسألونك عن الخمر والميسر" أما الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إنه كل ما خامر العقل كما سيأتي بيانه في سورة المائدة وكذا الميسر وهو القمار. وقوله "قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس" أما إثمهما فهو في الدين وأما المنافع فدنيوية من حيث إن فيها نفع البدن وتهضيم الطعام وإخراج الفضلات وتشحيذ بعض الأذهان ولذة الشدة المطربة التي فيها كما قال حسان بن ثابت في جاهليته: ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدا لا ينهنهنا اللقاء وكذا بيعها والانتفاع بثمنها وكان يقمشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين ولهذا قال الله تعالى "وإثمهما أكبر من نفعهما" ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات ولم تكن مصرحة بل معرضة ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - لما قرئت عليه: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون" وسيأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة إن شاء الله تعالى وبه الثقة. قال ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم: إن هذه أول آية نزلت في الخمر "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير" ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ثم نزلت الآية التي في المائدة فحرمت الخمر. وقوله "ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو" قرئ بالنصب وبالرفع وكلاهما حسن متجه قريب قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين من أموالنا فأنزل الله "ويسألونك ماذا ينفقون" وقال الحكم عن مقسم عن ابن عباس "ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو" قال: ما يفضل عن أهلك وكذا روي عن ابن عمر ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والقاسم وسالم وعطاء الخراساني والربيع بن أنس وغير واحد أنهم قالوا في قوله "قل العفو" يعني الفضل وعن طاوس: اليسير من كل شيء وعن الربيع أيضا أفضل مالك وأطيبه والكل يرجع إلى الفضل. وقال عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا هوذة بن خليفة عن عوف عن الحسن في الآية "يسألونك ماذا ينفقون قل العفو" قال ذلك أن لا يجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس ويدل على ذلك ما رواه ابن جرير حدثنا علي بن مسلم حدثنا أبو عاصم عن ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رجل يا رسول الله عندي دينار قال "أنفقه على نفسك" قال: عندي آخر. قال "أنفقه على أهلك". قال: عندي آخر قال "أنفقه على ولدك" قال: عندي آخر قال "فأنت أبصر" وقد رواه مسلم في صحيحه وأخرجه مسلم أيضا عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل "ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا". وعنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من السفلى وابدأ بمن تعول" وفي الحديث أيضا "ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف" ثم قد قيل إنها منسوخة بآية الزكاة كما رواه علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس وقاله عطاء الخراساني والسدي وقيل مبينة بآية الزكاة قاله مجاهد وغيره وهو أوجه.

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ

📘 وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشا أي مهدا كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات والسماء بناء وهو السقف كما قال في الآية الأخرى "وجعلنا السماء سقف محفوظا وهم عن آياتها معرضون" "وأنزل من السماء ماء" والمراد به السحاب هاهنا في وقته عند احتياجهم إليه فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد رزقا لهم ولأنعامهم كما قرر هذا في غير موضع من القرآن ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى "الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين" ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ولهذا قال "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون" وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" الحديث وكذا حديث معاذ "أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" الحديث وفي الحديث الآخر "لا يقول أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان" وقال حماد بن سلمة حدثنا عبدالملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة أم المؤمنين لأمها قال: رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد قال: ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: من أنتم قالوا: نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال "هل أخبرت بها أحدا؟ " قلت: نعم. فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال "أما بعد فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده" هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة به وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر عن عبدالملك بن عمير به بنحوه وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح بن عبدالله الكندي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله وما شئت فقال "أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده". رواه ابن مردويه وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح به وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم وبه عن ابن عباس فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم إن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه. وهكذا قال قتادة وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبي عمرو حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل فلا تجعلوا لله أندادا وقال الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سواء في ظلمة الليل وهوان يقول والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت وقول الرجل لولا الله وفلان لا تجعل فيه فلان هذا كله به شرك. وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت قال "أجعلتني لله ندا" وفي الحديث الآخر "نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون تقولون ما شاء الله وشاء فلان". قال أبو العالية: فلا تجعلوا لله أندادا أي عدلاء شركاء. وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد وقال مجاهد فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل. "ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة" قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن وأنه كاد أن يبطئ بها فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن فقال: يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي. قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله أمرنى بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن أو لهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفوا وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه. وقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه وأمركم بذكر الله كثيرا وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم" قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلى. فقال "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله" هذا حديث حسن والشاهد منه في هذه الآية قوله "وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا" وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى وهي دالة على ذلك بطريق الأولى فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه كما قال بعض الأعراب وقد سئل ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير وإن أثر الأقدام لتدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج. وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟. وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوات والنغمات وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد. فقالوا هذا شيء لا يقوله عاقل. فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع. فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم وتأكله النحل فيخرج منه العسل وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعرا وروثا وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال: هاهنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب الإبريز فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد: تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيـون من لجين شاخصـــات بأحداق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليـس له شـريك وقال ابن المعتز: فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحـد وفي كل شـــــيء له آية تــدل على أنه واحــد وقال آخرون من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال تعالى "ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء" وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه عليه توكلت وإليه أنيب والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدا.

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۗ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

📘 وقوله "كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تفكرون في الدنيا والآخرة" أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو أسامة عن الصعق التميمي قال: شهدت الحسن وقرأ هذه الآية من البقرة "لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة" قال هي والله لمن تفكر فيها ليعلم أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء وليعلم أن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء وهكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما. وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة: لتعلموا فضل الآخرة على الدنيا. وفي رواية عن قتادة فآثروا الآخرة على الأولى. وقوله "يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم" الآية. قال ابن جرير: حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" و "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا" انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله "ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم" فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. وهكذا رواه أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن عطاء بن السائب به. وكذا رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وكذا رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود بمثله وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد وعطاء والشعبي وابن أبي ليلى وقتادة وغير واحد من السلف والخلف قال وكيع بن الجراح: حدثنا هشام صاحب الدستوائي عن حماد عن إبراهيم قال: قالت عائشة رضي الله عنها إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي فقوله "قل إصلاح لهم خير" أي على حدة "وإن تخالطوهم فإخوانكم" أي وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم لأنهم إخوانكم في الدين ولهذا قال "والله يعلم المفسد من المصلح" أي يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح وقوله "ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم" أي ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم ولكنه وسع عليكم وخفف عنكم وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن. قال تعالى "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" بل جوز الأكل منه للفقير بالمعروف إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر أو مجانا كما سيأتي بيانه في سورة النساء إن شاء الله وبه الثقة.

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

📘 هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان ثم إن كان عمومها مرادا وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن" استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب وهكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومكحول والحسن والضحاك وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وغيرهم. وقيل: بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان ولم يرد أهل الكتاب بالكلية والمعنى قريب من الأول والله أعلم فأما ما رواه ابن جرير: حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني حدثنا أبي حدثني عبدالحميد بن بهرام الفزاري حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت عبدالله بن عباس يقول نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات دين غير الإسلام. قال الله عز وجل "ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله" وقد نكح طلحة بن عبدالله يهودية ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية فغضب عمر بن الخطاب غضبا شديدا حتى هم أن يسطو عليهما فقالا: نحن نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب فقال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن ولكني أنتزعهن منكم صغرة قمأة ـ فهو حديث غريب جدا وهذا الأثر غريب عن عمر أيضا قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات أو لغير ذلك من المعاني كما حدثنا أبو كريب حدثنا ابن إدريس حدثنا الصلت بن بهرام عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر: خل سبيلها فكتب إليه أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام ولكني أخاف أن تعاطوا المؤمنات منهن. وهذا إسناد صحيح وروى الخلال عن محمد بن إسماعيل عن وكيع عن الصلت نحوه. وقال ابن جرير: حدثني موسى بن عبدالرحمن المسروقي حدثنا محمد بن بشر حدثنا سفيان بن سعيد عن يزيد بن أبي زياد عن زيد بن وهب قال: قال عمر بن الخطاب: المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة. قال: وهذا أصح إسنادا من الأول ثم قال: وقد حدثنا تميم بن المنتصر أخبرنا إسحق الأزرقي عن شريك عن أشعث بن سوار عن الحسن عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا" ثم قال وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه فالقول به لإجماع الجميع من الأمة عليه كذا قال ابن جرير رحمه الله وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا وكيع عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن ابن عمر أنه كره نكاح أهل الكتاب وتأول "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن" وقال البخاري: وقال ابن عمر لا أعلم شركا أعظم من أن تقول: ربها عيسى وقال أبو بكر الخلال الحنبلي: حدثنا محمد بن هارون حدثنا إسحق بن إبراهيم وأخبرني محمد بن علي حدثنا صالح بن أحمد أنهما سألا أبا عبدالله أحمد بن حنبل عن قول الله "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن" قال: مشركات العرب الذين يعبدون الأصنام. وقوله "ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" قال السدي: نزلت في عبدالله بن رواحة كانت له أمة سوداء فغضب عليها فلطمها ثم فزع فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبرهما فقال له "ما هي؟" قال تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال "يا أبا عبدالله هذه مؤمنة" فقال والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا نكح أمته وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم فأنزل الله "ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم" وقال عبد بن حميد حدثنا جعفر بن عون حدثنا عبدالرحمن بن زياد الإفريقي عن عبدالله بن يزيد عن عبدالله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن وانكحوهن على الدين فلأمة سوداء جرداء ذات دين أفضل" والإفريقي ضعيف وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" ولمسلم عن جابر مثله وله عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" وقوله "ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا" أي لا تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات كما قال تعالى "لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن" ثم قال تعالى "ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم" أي ولرجل مؤمن ولو كان عبدا حبشيا خير من مشرك وإن كان رئيسا سريا "أولئك يدعون إلى النار" أي معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة وعاقبة ذلك وخيمة "والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه" أي بشرعه وما أمر به وما نهى عنه "ويبين الله آياته للناس لعلهم يتذكرون".

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ

📘 قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن" حتى فرغ من الآية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر. فقالا يا رسول الله: إن اليهود قالت كذا وكذا أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما رواه مسلم من حديث حماد بن زيد بن سلمة فقوله "فاعتزلوا النساء في المحيض" يعني الفرج لقوله "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج. قال أبو داود أيضا: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب عن عكرمة عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا. وقال أبو داود أيضا حدثنا الشعبي حدثنا عبدالله يعني ابن عمر بن غانم عن عبدالرحمن يعني ابن زياد عن عمارة بن غراب أن عمة له حدثته أنها سألت عائشة قالت: إحدانا تحيض وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد قالت: أخبرك بما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل فمضى إلى مسجده قال أبو داود: تعني مسجد بيتها فما انصرف حتى غلبتني عيني فأوجعه البرد فقال: "ادني مني" فقلت: إنى حائض فقال: "اكشفي عن فخذيك" فكشفت فخذي فوضع خده وصدره على فخذي وحنيت عليه حتى دفئ ونام - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال: أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا عبدالوهاب حدثنا أيوب عن كتاب أبي قلابة أن مسروقا ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهله فقالت عائشة: مرحبا مرحبا فأذنوا له فدخل فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي فقالت إنما أنا أمك وأنت ابني فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض فقالت له: كل شيء إلا فرجها. ورواه أيضا عن حميد بن مسعدة عن يزيد بن زريع عن عيينة بن عبدالرحمن بن جوشن عن مروان الأصفر عن مسروق. قال قلت لعائشة ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع. وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة وروى ابن جرير أيضا عن أبي كريب عن ابن أبي زائدة عن حجاج عن ميمون بن مهران عن عائشة قالت له: ما فوق الإزار. "قلت" ويحل مضاجعتها ومواكلتها بلا خلاف قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض وكان يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن وفي الصحيح عنها قالت: كنت أتعرق العرق وأنا حائض فأعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه وقال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن جابر بن صبح سمعت خلاسا الهجري قال: سمعت عائشة تقول كنت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبيت في الشعار الواحد وأنا حائض طامث فإن أصابه مني شيء غسل مكانه لم يعده وإن أصابه ـ يعني ثوبه ـ شيء غسل مكانه لم يعده وصلى فيه فأما ما رواه أبو داود حدثنا سعيد بن عبد الجبار حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن أبي اليمان عن أم ذرة عن عائشة أنها قالت: كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير فلم تقرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تدن منه حتى تطهر فهو محمول على التنزه والاحتياط ـ وقال آخرون: إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار كما ثبت في الصحيحين عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض وهذا لفظ البخاري ولهما عن عائشة نحوه. وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث العلاء عن حزام بن حكيم عن عمه عبدالله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: "ما فوق الإزار" ولأبي داود أيضا عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يحل لي من امرأتي وهي حائض قال: "ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل" وهو رواية عن عائشة كما تقدم وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه الله الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم ومأخذهم أنه حريم الفرج فهو حرام لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عز وجل الذي أجمع العلماء على تحريمه وهو المباشرة في الفرج ثم من فعل ذلك فقد أثم فيستغفر الله ويتوب إليه وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا؟ فيه قولان "أحدهما" نعم لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهى حائض يتصدق بدينار أو نصف دينار وفي لفظ الترمذي "إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار" وللإمام أحمد أيضا عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل في الحائض نصاب دينار فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فنصف دينار "والقول الثاني" وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي وقول الجمهور أنه لا شيء في ذلك بل يستغفر الله عز وجل لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث فإنه قد روي مرفوعا كما تقدم وموقوفا وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث فقوله تعالى "ولا تقربوهن حتى يطهرن" تفسير لقوله "فاعتزلوا النساء في المحيض" ونهي عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودا ومفهومه حله إذا انقطع قال الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل فيما أملاه في الطاعة وقوله "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث" الآية. الطهر يدل على أن يقربها فلما قالت ميمونة وعائشة كانت إحدانا إذا حاضت اتزرت ودخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعاره دل ذلك على أنه إنما أراد الجماع. وقوله "فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله" فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة لقوله "فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله" وليس له في ذلك مستند لأن هذا أمر بعد الحظر وفيه أقوال لعلماء الأصول منهم من يقول إنه على الوجوب كالمطلق وهؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم ومنهم من يقول إنه للإباحة ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب وفيه نظر والذي ينهض عليه الدليل أنه يرد عليه الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي فإن كان واجبا فواجب كقوله "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين" أو مباحا فمباح كقوله "وإذا حللتم فاصطادوا" "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض" وعلى هذا القول تجتمع الأدلة وقد حكاه الغزالي وغيره فاختاره بعض أئمة المتأخرين وهو الصحيح وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه إلا أن أبا حنيفة رحمه الله يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عشرة أيام عنده إنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل والله أعلم. وقال ابن عباس "حتى يطهرن" أي من الدم "فإذا تطهرن" أي بالماء وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن ومقاتل بن حيان والليث بن سعد وغيرهم. وقوله "من حيث أمركم الله" قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد يعني الفرج قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "فأتوهن من حيث أمركم الله" يقول في الفرج ولا تعدوه إلى غيره فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة "من حيث أمركم الله" أي أن تعتزلوهن وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر كما سيأتي تقريره قريبا إن شاء الله تعالى وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد "فأتوهن من حيث أمركم الله" يعني طاهرات غير حيض ولهذا قال "إن الله يحب التوابين" أي من الذنب وإن تكرر غشيانه "ويحب المتطهرين" أي المتنزهين عن الأقذار والأذى وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض أو في غير المأتى.

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ

📘 وقوله "نساؤكم حرث لكم" قال ابن عباس: الحرث موضع الولد "فأتوا حرثكم أنى شئتم" أي كيف شئتم مقبلة ومدبرة في صمام واحد كما ثبتت بذلك الأحاديث قال البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن ابن المنكدر قال سمعت جابرا قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" ورواه مسلم وأبو داود من حديث سفيان الثوري به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبدالأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن سعيد الثوري أن محمد بن المنكدر حدثهم أن جابر بن عبدالله أخبره أن اليهود قالوا للمسلمين من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول فأنزل الله "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" قال ابن جريج في الحديث. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج" وفي حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال: يا رسول الله: نساؤنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "حرثك ائت حرثك أنى شئت غير أن لا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت" الحديث رواه أحمد وأهل السنن حديث آخر قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عامر بن يحيى عن عبدالله بن حنش عن عبدالله بن عباس قال: أتى ناس من حمير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عن أشياء فقال له رجل إني أجب النساء فكيف ترى في؟ فأنزل الله "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" ورواه الإمام أحمد حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشدين حدثني الحسن بن ثوبان عن عامر بن يحيى المعافري عن حنش عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية "نساؤكم حرث لكم" في أناس من الأنصار أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "ائتها على كل حال إذا كان في الفرج" "حديث آخر" قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه مشكل الحديث حدثنا أحمد بن داود بن موسى حدثنا يعقوب بن كاسب حدثنا عبدالله بن نافع عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أصاب امرأة في دبرها فأنكر الناس عليه ذلك فأنزل الله "نساؤكم حرث لكم" الآية. ورواه ابن جرير عن يونس عن يعقوب ورواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن الحارث بن شريح عن عبدالله بن نافع به "حديث آخر" قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا عبيد الله بن عثمان بن خثيم عن عبدالله بن سابط قال: دخلت على حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر فقلت إني لسائلك عن أمر وأنا أستحيي أن أسألك قالت: فلا تستحي يا ابن أخي قال عن إتيان النساء في أدبارهن قالت: حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا يجبون النساء وكانت اليهود تقول: إنه من أجبى امرأته كان ولده أحول فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار فأجبوهن فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت: لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك فقالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - استحت الأنصارية أن تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرجت فسألته أم سلمة فقال "ادعي الأنصارية" فدعتها فتلا عليها هذه الآية "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" صماما واحدا " ورواه الترمذي عن بندار عن ابن مهدي عن سفيان عن أبي خثيم به وقال حسن. "قلت" وقد روي من طريق حماد بن أبى حنيفة عن أبيه عن ابن خثيم عن يوسف بن ماهك عن حفصة أم المؤمنين أن امرأة أتتها فقالت: إن زوجي يأتيني مجبية ومستقبلة فكرهته فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا بأس إذا كان في صمام واحد" "حديث آخر" قال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا يعقوب يعني القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله هلكت قال "وما الذي أهلكك" قال: حولت رحلي البارحة قال فلم يرد عليه شيئا قال فأوحى الله إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" "أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة" ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن حسن بن موسى الأشيب به وقال حسن غريب وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحارث بن شريح حدثنا عبدالله بن نافع حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال: أثفر رجل امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: أثفر فلان امرأته فأنزل الله عز وجل "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ قال حدثني محمد يعني ابن سلمة عن محمد بن إسحق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن ابن عمر قال ـ والله يغفر له ـ أوهم وإنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون كثيرا من فعلهم وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني فسرى أمرهما فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات يعني بذلك موضع الولد تفرد به أبو داود ويشهد له بالصحة ما تقدم له من الأحاديث ولا سيما رواية أم سلمة فإنها مشابهة لهذا السياق وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو القاسم الطبراني من طريق محمد بن إسحق عن أبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها حتى انتهيت إلى هذه الآية "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" فقال ابن عباس: إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة ويتلذذون بهن فذكر القصة بتمام سياقها وقول ابن عباس إن ابن عمر الله ـ يغفر له ـ أوهم وكأنه يشير إلى ما رواه البخاري حدثنا إسحق حدثنا النضر بن شميل أخبرنا ابن عون عن نافع قال كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه فأخذت عنه يوما فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان قال: أتدري فيم أنزلت؟ قلت لا قال: أنزلت في كذا وكذا ثم مضى. وعن عبدالصمد قال: حدثني أبي حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر "فأتوا حرثكم أنى شئتم" قال: أن يأتيها في؟ هكذا رواه البخاري وقد تفرد به من هذا الوجه وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا ابن عون عن نفاع قال: قرأت ذات يوم "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" فقال ابن عمر أتدري فيم نزلت؟ قلت لا قال نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. وحدثني أبو قلابة حدثنا عبدالصمد بن عبدالوارث حدثني أبي عن أيوب عن نافع عن ابن عمر "فأتوا حرثكم أنى شئتم" قال: في الدبر. وروي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر ولا يصح وروى النسائي عن محمد بن عبدالله بن عبدالحكم عن أبي بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك وجدا شديدا فأنزل الله "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" قال أبو حاتم الرازي: لو كان هذا عند زيد بن أسلم عن ابن عمر لما أولع الناس بنافع وهذا تعليل منه لهذا الحديث وقد رواه عبدالله بن نافع عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عمر فذكره وهذا الحديث محمول على ما تقدم وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها لما رواه النسائي عن علي بن عثمان النفيلي عن سعيد بن عيسى عن الفضل بن فضالة عن عبدالله بن سليمان الطويل عن كعب بن علقمة عن أبي النضر أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر إنه قد أكثر عليك القول إنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال: كذبوا علي ولكن سأحدثك كيف كان الأمر إن ابن عمر عرض المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" فقال يا نافع هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت: لا قال: إنا كنا معشر قريش نجبي النساء فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد فآذاهن فكرهن ذلك وأعظمنه وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود إنما يؤتين على جنوبهن فأنزل الله "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" وهذا إسناد صحيح. وقد رواه ابن مردويه عن الطبراني عن الحسين بن إسحق عن زكريا بن يحيى الكاتب العمري عن مفضل بن فضالة عن عبدالله بن عياش عن كعب بن علقمة فذكره وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحا وأنه لا يباح ولا يحل كما سيأتي وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك رحمه الله. وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه. فقال الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش عن سهيل بن أبي صالح عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "استحيوا إن الله لا يستحيي من الحق لا يحل أن تأتوا النساء في حشوشهن" وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرحمن حدثنا سفيان عن عبدالله بن شداد عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها "طريق أخرى" قال أحمد: حدثنا يعقوب سمعت أبي يحدث عن يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد أن عبيد الله بن الحسين الوالبي حدثه أن عبدالله الواقفي حدثه أن خزيمة بن ثابت الخطمي حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "استحيوا إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن". رواه النسائي وابن ماجه من طرق عن خزيمة بن ثابت وفي إسناده اختلاف كثير "حديث آخر" قال أبو عيسى الترمذي والنسائي حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن الضحاك بن عثمان عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر" ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه وصححه ابن حزم أيضا ولكن رواه النسائي أيضا عن هناد عن وكيع عن الضحاك به موقوفا. وقال عبد أخبرنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه أن رجلا سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها قال: تسألني عن الكفر إسناده صحيح وكذا رواه النسائي من طريق ابن المبارك عن معمر به نحوه وقال عبد أيضا في تفسيره: حدثنا إبراهيم بن الحاكم عن أبيه عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس وقال: كنت آتي أهلي في دبرها وسمعت قول الله "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" فظننت أن ذلك لي حلال فقال: يا لكع إنما قوله "فأتوا حرثكم أنى شئتم" قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة في أقبالهن لا تعدوا ذلك إلى غيره "حديث آخر" قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالصمد حدثنا همام حدثنا قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى" وقال عبدالله بن أحمد: حدثني هدبة حدثنا همام قال: سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها فقال قتادة: أخبرنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال "هي اللوطية الصغرى" قال قتادة وحدثني عقبة بن وساج عن أبي الدرداء قال: وهل يفعل ذلك إلا كافر؟ وقد روى هذا الحديث يحيى بن سعيد القطان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي أيوب عن عبدالله بن عمرو بن العاص قوله وهذا أصح والله أعلم وكذلك رواه عبد بن حميد عن يزيد بن هرون عن حميد الأعرج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو موقوفا من قوله "طريق أخرى" قال جعفر الفريابي حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن عبدالرحمن بن زياد بن أنعم عن أبي عبدالرحمن الحبلي عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ويقول ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل والمفعول به والناكح يده وناكح البهيمة وناكح المرأة في دبرها وجامع بين المرأة وابنتها والزاني بحليلة جاره ومؤذي جاره حتى يلعنه" ابن لهيعة وشيخه ضعيفان "حديث آخر" قال الإمام أحمد حدثنا عبدالرزاق أخبرنا سفيان عن عاصم عن عيسى بن حطان عن مسلم بن سلام عن علي بن طلق قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تؤتى النساء في أدبارهن فإن الله لا يستحيي من الحق وأخرجه أحمد أيضا عن أبي معاوية وأبو عيسى الترمذي من طريق أبي معاوية أيضا عن عاصم الأحول به وفيه زيادة وقال: هو حديث حسن ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب كما وقع في مسند الإمام أحمد بن حنبل والصحيح أنه علي بن طلق "حديث آخر" قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن سهيل بن أبي صالح عن الحارث بن مخلد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه" وقال أحمد أيضا: حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا سهيل عن الحارت بن مخلد عن أبي هريرة يرفعه قال "لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها" وكذا رواه ابن ماجه من طريق سهيل وقال أحمد أيضا: حدثنا وكيع عن سهيل بن أبي صالح عن الحارث بن مخلد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ملعون من أتى امرأته في دبرها" وهكذا رواه أبو داود والنسائي من طريق وكيع به "طريق أخرى". قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني أخبرنا أحمد بن القاسم بن الريان حدثنا أبو عبدالرحمن النسائي حدثنا هناد ومحمد بن إسماعيل واللفظ له قالا: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - "ملعون من أتى امرأة في دبرها" ليس هذا الحديث هكذا في سنن النسائي وإنما الذي فيه عن سهيل عن الحارث بن مخلد كما تقدم: قال شيخنا الحافظ أبو عبدالله الذهبي: ورواية أحمد بن القاسم بن الريان هذا الحديث بهذا السند وهم منه وقد ضعفوه "طريق أخرى" رواها مسلم بن خالد الزنجي عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى عليه وعلى آله وسلم قال "ملعون من أتى النساء في أدبارهن" ومسلم بن خالد فيه كلام والله أعلم "طريق أخرى" رواها الإمام أحمد وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد" وقال الترمذي: ضعف البخاري هذا الحديث والذي قاله البخاري في حديث الترمذي عن أبي تميمة لا يتابع على حديثه "طريق أخرى" قال النسائي: حدثنا عثمان بن عبدالله حدثنا سليمان بن عبدالرحمن من كتابه عن عبدالملك بن محمد الصنعاني عن سعيد بن عبدالعزيز عن الزهري عن أبي سلمة - رضي الله عنه - عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "استحيوا من الله حق الحياء لا تأتوا النساء في أدبارهن" تفرد به النسائي من هذا الوجه. قال حمزة بن محمد الكناني الحافظ هذا حديث منكر باطل من حديث الزهري ومن حديث أبي سلمة ومن حديث سعيد فإن كان عبدالملك سمعه من سعيد فإنما سمعه بعد الاختلاط وقد رواه الترمذي عن أبي سلمة أنه كان ينهى عن ذلك فأما عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا انتهى كلامه وقد أجاد وأحسن الانتقاد إلا أن عبدالملك بن محمد الصنعاني لا يعرف أنه اختلط ولم يذكر ذلك أحد غير حمزة عن الكناني وهو ثقة ولكن تكلم فيه دحيم وأبو حاتم وابن حبان وقال: لا يجوز الاحتجاج به والله أعلم. وقد تابعه زيد بن يحيى بن عبيد عن سعيد بن عبدالعزيز. وروي من طريقين آخرين عن أبي سلمة ولا يصح منها شيء "طريق أخرى" قال النسائي: حدثنا إسحق بن منصور حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة قال: إتيان الرجال النساء في أدبارهن كفر. ثم رواه عن بندار عن عبدالرحمن به قال: من أتى امرأة في دبرها وتلك كفر هكذا رواه النسائي من طريق الثوري عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة موقوفا. وكذا رواه من طريق علي بن نديمة عن مجاهد عن أبي هريرة موقوفا ورواه بكر بن خنيس عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "من أتى شيئا من الرجال والنساء في الأدبار فقد كفر" والموقوف أصح وبكر بن خنيس ضعفه غير واحد من الأئمة وتركه آخرون "حديث آخر" قال: قال محمد بن أبان البلخي حدثنا وكيع حدثني زمعة بن صالح عن ابن طاوس عن أبيه وعن عمرو بن دينار عن عبدالله بن زيد بن الهاد قالا: قال عمر بن الخطاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن" وقد رواه النسائي حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني عن عثمان بن اليمان عن زمعة بن صالح عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن الهاد عن عمر قال: لا تأتوا النساء في أدبارهن. وحدثنا إسحق بن إبراهيم حدثنا زيد بن أبي حكيم عن زمعة بن صالح عن عمرو بن دينار عن طاوس عن عبدالله بن الهاد الليثي قال: قال عمر - رضي الله عنه - استحيوا من الله فإن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن والموقوف أصح "حديث آخر" قال الإمام أحمد: حدثنا غندر ومعاذ بن معاذ قالا: حدثنا شعبة عن عاصم الأحول عن عيسى بن حطان عن مسلم بن سلام عن طلق بن يزيد أو يزيد بن طلق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أستاههن" وكذا رواه غير واحد عن شعبة ورواه عبدالرزاق عن معمر عن عاصم الأحول عن عيسى بن حطان عن مسلم بن سلام عن طلق بن علي والأشبه أنه علي بن طلق كما تقدم والله أعلم "حديث آخر" قال أبو بكر الأثرم في سننه: حدثنا أبو مسلم الجرمي حدثنا أخو أنيس بن إبراهيم أن أباه إبراهيم بن عبدالرحمن بن القعقاع أخبره عن أبيه أبي القعقاع عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "محاش النساء حرام". وقد رواه إسماعيل بن علية وسفيان الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي عبدالله الشقري واسمه سلمة بن تمام ثقة عن أبي القعقاع عن ابن مسعود موقوفا وهو أصح "طريق أخرى" قال ابن عدي حدثنا أبو عبدالله المحاملي حدثنا سعيد بن يحيى الثوري حدثنا محمد بن حمزة عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة عن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا تأتوا النساء في أعجازهن" محمد بن حمزة وهو الجزري وشيخه فيهما مقال. وقد روي من حديث أبي بن كعب والبراء بن عازب وعقبة بن عامر وأبي ذر وغيرهم وفي كل منها مقال لا يصح معه الحديث والله أعلم. وقال الثوري عن الصلت بن بهرام عن أبي المعتمر عن أبي جويرة قال: سأل رجل عليا عن إتيان امرأة في دبرها فقالت: سفلت سفل الله بك ألم تسمع قول الله عز وجل "أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين" وقد تقدم قول ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي هريرة وابن عباس وعبدالله بن عمرو في تحريم ذلك وهو الثابت بلا شك عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يحرمه. قال أبو محمد عبدالرحمن بن عبدالله الدارمي في مسنده حدثنا عبدالله بن صالح حدثنا الليث عن الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر ما تقول في الجواري أيحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكر الدبر فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟ وكذا رواه ابن وهب وقتيبة عن الليث به وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا الحكم قال ابن جرير: حدثني عبدالرحمن بن عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالحكم حدثنا أبو زيد أحمد بن عبدالرحمن بن أحمد بن أبي العمر حدثني عبدالرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس أنه قيل له يا أبا عبدالله إن الناس يروون عن سالم بن عبدالله أنه قال: كذب العبد أو العلج على أبي عبدالله قال مالك: أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبدالله عن ابن عمر مثل ما قال نافع فقيل له فإن الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر فقال له يا أبا عبدالرحمن إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن فقال وما التحميض؟ فذكر له الدبر فقال ابن عمر: أف أف وهل يفعل ذلك مؤمن أو قال مسلم؟ فقال مالك أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب عن ابن عمر مثل ما قال نافع. وروى النسائي عن الربيع بن سليمان عن أصبغ بن الفرج الفقيه حدثنا عبدالرحمن بن القاسم قال: قلت لمالك إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار قال قلت لابن عمر إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ قلت: نأتيهن في أدبارهن فقال: أف أف أويعمل هذا مسلم؟ فقال لي مالك فأشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر فقال: لا بأس به وروى النسائي أيضا من طريق يزيد بن رومان عن عبيد الله بن عبدالله أن ابن عمر كان لا يرى بأسا أن يأتي الرجل المرأة في دبرها. وروى معمر بن عيسى عن مالك أن ذلك حرام. وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري حدثني إسماعيل بن حسين حدثني إسرائيل بن روح سألت مالك بن أنس ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن قال: ما أنتم إلا قوم عرب هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟ لا تعدوا الفرج قلت يا أبا عبدالله إنهم يقولون إنك تقول ذلك. قال يكذبون علي يكذبون علي فهذا هو الثابت عنه وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة وهو قول سعيد بن المسيب وأبي سلمة وعكرمة وطاوس وعطاء وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير ومجاهد بن جبر والحسن وغيرهم من السلف أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار ومنهم من يطلق على فعله الكفر وهو مذهب جمهور العلماء وقد حكي في هذا شيء عن بعض فقهاء المدينة حتى حكوه عن الإمام مالك وفي صحته نظر. قال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبدالرحمن بن القاسم قال: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك أنه حلال يعني وطء المرأة في دبرها ثم قرأ "نساؤكم حرث لكم" ثم قال: فأي شيء أبين من هذا؟ هذه حكاية الطحاوي وقد روى الحاكم والدارقطني والخطيب البغدادي عن الإمام مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك ولكن في الأسانيد ضعف شديد وقد استقصاها شيخنا الحافظ أبو عبدالله الذهبي في جزء جمعه في ذلك والله أعلم. وقال الطحاوي: حكى لنا محمد بن عبدالله بن عبدالحكم أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب عن أبي سعيد الصيرفي عن أبي العباس الأصم سمعت محمد بن عبدالله بن عبدالحكم سمعت الشافعي يقول فذكره قال أبو نصر الصباغ: كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد كذب ـ يعني ابن عبدالحكم ـ على الشافعي في ذلك لأن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه والله أعلم. وقوله "وقدموا لأنفسكم" أي من فعل الطاعات مع امتثال ما أنهاكم عنه من ترك المحرمات ولهذا قال "واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه" أي فيحاسبكم على أعمالكم جميعها "وبشر المؤمنين" أي المطيعين لله فيما أمرهم التاركين ما عنه زجرهم. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني محمد بن كثير عن عبدالله بن واقد عن عطاء قال أراه عن ابن عباس "وقدموا لأنفسكم" قال: تقول بسم الله التسمية عند الجماع وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا".

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

📘 يقول تعالى لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها كقوله تعالى "ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم" فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما قال البخاري: حدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه" وهكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبدالرزاق به. ورواه أحمد عنه به ثم قال البخاري: حدثنا إسحق بن منصور حدثنا يحيى بن صالح حدثنا معاوية هو ابن سلام عن يحيى وهو ابن أبي كثير عن عكرمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليس تغني الكفارة" وقال علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" قال: لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير. وكذا قال: مسروق والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومكحول والزهري والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي رحمهم الله ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" وثبت فيهما أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لعبدالرحمن بن سمرة "يا عبدالرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك". وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير". وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا خليفة بن خياط حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فتركها كفارتها" ورواه أبو داود من طريق أبي عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله ولا في قطيعة رحم ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارتها" ثم قال أبو داود والأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها "فليكفر عن يمينه" وهي الصحاح. وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سعيد الكندي حدثنا علي بن مسهر عن حارثة بن محمد عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من حلف على يمين قطيعة رحم ومعصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه" وهذا حديث ضعيف لأن حارثة هذا هو ابن أبي الرجال محمد بن عبدالرحمن متروك الحديث ضعيف عند الجميع ثم روى ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب ومسروق والشعبي أنهم قالوا: لا يمين في معصية ولا كفارة عليها.

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ

📘 وقوله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية وهي التي لا يقصدها الحالف بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد كما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد لتكون هذه بهذه ولهذا قال تعالى "ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" الآية وفي الآية الأخرى "بما عقدتم الأيمان" قال أبو داود: "باب لغو اليمن" حدثنا حميد بن مسعدة الشامي حدثنا حيان يعني ابن إبراهيم حدثنا إبراهيم يعني الصائغ عن عطاء: اللغو في اليمين قال قالت عائشة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله" ثم قال أبو داود رواه داود ابن الفرات عن إبراهيم الصائغ عن عطاء عن عائشة موقوفا. ورواه الزهري وعبدالملك ومالك بن مغول كلهم عن عطاء عن عائشة موقوفا أيضا. "قلت" وكذا رواه ابن جريج وابن أبي ليلى عن عطاء عن عائشة موقوفا. ورواه ابن جرير عن هناد عن وكيع وعبدة وأبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" لا والله وبلى والله ثم رواه عن محمد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحق عن هشام عن أبيه عنها وبه عن ابن إسحق عن الزهري عن القاسم عنها وبه عن ابن إسحق عن ابن أبي نجيح عن عطاء عنها وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة في قوله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" قالت هم القوم يتدارءون في الأمر فيقول هذا لا والله وبلى والله وكلا والله يتدارءون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا هارون بن إسحق الهمداني حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قول الله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" قالت: هو قول الرجل لا والله وبلى والله. وحدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثني ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال: كانت عائشة تقول إنما اللغو في المزاحة والهزل وهو قول الرجل لا والله وبلى والله فذاك لا كفارة فيه إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله ثم قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عمر وابن عباس في أحد قوليه والشعبي وعكرمة في أحد قوليه وعروة بن الزبير وأبي صالح والضحاك في أحد قوليه وأبي قلابة والزهري نحو ذلك "الوجه الثاني" قرئ على يونس بن عبدالأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني الثقة عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها كانت تتأول هذه الآية يعني قوله "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" وتقول هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه ثم قال: وروي عن أبي هريرة وابن عباس في أحد قوليه وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد في أحد قوليه وإبراهيم النخعي في أحد قوليه والحسن وزرارة بن أوفي وأبي مالك وعطاء الخراساني وبكر بن عبدالله أحد قولي عكرمة وحبيب بن أبي ثابت والسدي ومكحول ومقاتل وطاوس وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن سعيد وربيعة نحو ذلك وقال ابن جرير حدثنا محمد بن موسى الجرشي حدثنا عبدالله بن ميمون المرادي حدثنا عوف الأعرابي عن الحسن بن أبي الحسن قال مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم ينتضلون يعني يرمون ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أصحابه فقام رجل من القوم فقال أصبت والله وأخطأت والله فقال الذي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - للنبي - صلى الله عليه وسلم - حنث الرجل يا رسول الله قال "كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة" هذا مرسل حسن عن الحسن وقال ابن أبي حاتم وروي عن عائشة القولان جميعا حدثنا عصام بن رواد أنبأنا آدم حدثنا شيبان عن جابر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت: هو قوله لا والله وبلى والله وهو يرى أنه صادق ولا يكون كذلك "أقوال أخر" قال عبدالرزاق عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه وقال زيد بن أسلم هو قول الرجل أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا فهو هذا قال ابن أبي حاتم: وحدثنا علي بن الحسين حدثنا مسدد بن خالد حدثنا خالد حدثنا عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان وأخبرني أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد بن بشير حدثني أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك فذلك ما ليس عليك فيه كفارة وكذا روي عن سعيد بن جبير. وقال أبو داود "باب اليمين في الغضب" حدثنا محمد بن المنهال أنبأنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني عن القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عز وجل ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك" وقوله "ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" قال: ابن عباس ومجاهد وغير واحد: هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب قال مجاهد وغيره: وهي كقوله تعالى "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" الآية "والله غفور حليم" أي غفور لعباده حليم عليهم.

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

📘 الإيلاء الحلف فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة فلا يخلو إما أن يكون أقل من أربعة أشهر أو أكثر منها فإن كانت أقل فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته وعليها أن تصبر وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهرا فنزل لتسع وعشرين وقال "الشهر تسع وعشرون" ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر إما أن يفيء أي يجامع وإما أن يطلق فيجبره الحاكم على هذا وهذا لئلا يضر بها ولهذا قال تعالى: "للذين يؤلون من نسائهم" أي يحلفون على ترك الجماع من نسائهم فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور "تربض أربعة أشهر" أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق ولهذا قال "فإن فاءوا" أي رجعوا إلى ما كانوا عليه وهو كناية عن الجماع قاله ابن عباس ومسروق والشعبي وسعيد بن جبير وغير واحد ومنهم ابن جرير رحمه الله "فإن الله غفور رحيم" لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين وقوله "فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم" فيه دلالة لأحد قولي العلماء وهو القديم عن الشافعي أن المولي إذ فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه ويعتضد بما تقدم في الحديث عند الآية التي قبلها عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فتركها كفارتها" كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه التكفير لعموم وجوب التكفير على كل حالف كما تقدم أيضا في الأحاديث الصحاح والله أعلم.

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

📘 وقوله "وإن عزموا الطلاق" فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر كقول الجمهور من المتأخرين وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي أربعة أشهر تطليقة وهو مروي بأسانيد صحيحة عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وبه يقول ابن سيرين ومسروق والقاسم وسالم والحسن وأبو سلمة وقتادة وشريح القاضي وقبيصة بن ذؤيب وعطاء وأبو سلمة بن عبدالرحمن وسليمان بن طرخان التيمي وإبراهيم النخعي والربيع بن أنس والسدي ثم قيل إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر طلقة رجعية قاله سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام ومكحول وربيعة والزهري ومروان بن الحكم وقيل إنها تطلق طلقة بائنة روي عن علي وابن مسعود وعثمان وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وبه يقول عطاء وجابر بن زيد ومسروق وعكرمة والحسن وابن سيرين ومحمد بن الحنفية وإبراهيم وقبيصة بن ذؤيب وأبو حنيفة والثوري والحسن بن صالح فكل من قال إنما تطلق بمضي الأربعة أشهر أوجب عليها العدة إلا ما روي عن ابن عباس وأبي الشعثاء أنها إن كانت حاضت ثلاث حيض فلا عدة عليها وهو قول الشافعي والذي عليه الجمهور من المتأخرين أن يوقف فيطالب إما بهذا وإما بهذا ولا يقع عليها بمجرد مضيها طلاق وروى مالك عن نافع عن عبدالله بن عمر أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف فإما أن يطلق وإما أن يفيء. وأخرجه البخاري وقال الشافعي رحمه الله: أخبرنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يوقف المولي. قال الشافعي: وأقل ذلك ثلاثة عشر ورواه الشافعي عن علي - رضي الله عنه - أنه يوقف المولي ثم قال وهكذا تقول وهو موافق لما رويناه عن عمر وابن عمر وعائشة وعثمان وزيد بن ثابت وبضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا قال الشافعي رحمه الله قال ابن جرير: حدثنا ابن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن عمر عن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من الصحابة عن الرجل يولي من امرأته فكلهم يقول ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق ورواه الدارقطني من طريق سهيل. "قلت" وهو يروى عن عمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة أم المؤمنين وابن عمر وابن عباس وبه يقول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وطاوس ومحمد بن كعب والقاسم وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم رحمهم الله وهو اختيار ابن جرير أيضا وهو قول الليث وإسحق بن راهويه وأبي عبيد وأبي ثور وداود وكل هؤلاء قالوا: إن لم يفئ ألزم بالطلاق فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم والطلقة تكون رجعية له رجعتها في العدة وانفرد مالك بأن قال: لا يجوز له رجعتها حتى يجامعها في العدة وهذا غريب جدا. وقد ذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر الأثر الذي رواه الإمام مالك بن أنس رحمه الله في الموطإ عن عبدالله بن دينار قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا ضجيع ألاعبه فوالله لولا الله أني أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر فقال عمر: لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك وقال محمد بن إسحق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة وكان يفعل ذلك كثيرا إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها تقول: تطاول هذا الليل وازور جانبه وأرقني أن لا ضجيع ألاعبه ألاعبه طورا وطورا كأنما بدا قمرا في ظلمة الليل حاجبه يسر به من كان يلهو بقربه لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه فوالله لولا الله لا شيء غيره لنقض من هذا السرير جوانبه ولكنني أخشى رقيبا موكلا بأنفاسنا لا يفتر الدهر كاتبه مخافة ربي والحياء يصدني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه ثم ذكر بقية ذلك كما تقدم أو نحوه وقد روي هذا من طرق وهو من المشهورات.

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

📘 هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء بان يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء أي بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ثم تتزوج إن شاءت وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت فإنها تعتد عندهم بقرأين لأنها على النصف من الحرة والقرء لا يتبعض فكمل لها قرءان ولما رواه ابن جرير عن مظاهر بن أسلم المخزومي المدني عن القاسم عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية وقال الحافظ الدارقطني وغيره الصحيح أنه من قول القاسم بن محمد نفسه ورواه ابن ماجه من طريق عطية العوفي عن ابن عمر مرفوعا قال: الدارقطني والصحيح ما رواه سالم ونافع عن ابن عمر قوله وهكذا روي عن عمر بن الخطاب قالوا: ولم يعرف بين الصحابة خلاف وقال: بعض السلف: بل عدتها عدة الحرة لعموم الآية ولأن هذا أمر جبلي فكان الحرائر والإماء في هذا سواء حكى هذا القول الشيخ أبو عمر بن عبدالبر عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر وضعفه وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل يعني ابن عياش عن عمرو بن مهاجر عن أبيه أن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت: طلقت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل الله عز وجل حين طلقت أسماء العدة للطلاق فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق يعني "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقراء ما هو على قولين: "أحدهما" أن المراد بها الأطهار وقال مالك في الموطإ عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها انتقلت حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فذكرت ذلك لعمرة بنت عبدالرحمن فقالت صدق عروة وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا: إن الله تعالى يقول في كتابه "ثلاثة قروء" فقالت عائشة: صدقتم وتدرون ما الأقراء؟ إنما الأقراء الأطهار وقال مالك عن ابن شهاب سمعت أبا بكر بن عبدالرحمن يقول: ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك يريد قول عائشة وقال مالك عن نافع عن عبدالله بن عمر أنه كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها وقال مالك وهو الأمر عندنا وروي مثاله عن ابن عباس وزيد بن ثابت وسالم والقاسم وعروة وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبدالرحمن وأبان بن عثمان وعطاء ابن أبي رباح وقتادة والزهري وبقية الفقهاء السبعة وهو مذهب مالك والشافعي وغير واحد وداود وأبي ثور وهو رواية عن أحمد واستدلوا عليه بقوله تعالى "فطلقوهن لعدتهن" أي في الأطهار ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبا دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها ولهذا قال هؤلاء: إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يوما ولحظتان واستشهد أبو عبيد وغيره على ذلك بقول الشاعر وهو الأعشى: ففي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا مورثة مالا وفي الأصل رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا يمدح أميرا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها. "القول الثاني" إن المراد بالأقراء الحيض فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة زاد آخرون وتغتسل منها وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يوما ولحظة قال الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجاءته امرأة فقالت: إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي فقال عمر لعبدالله بن مسعود: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة قال: وأنا أرى ذلك. وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وابن مسعود ومعاذ وأبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وابن عباس وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وإبراهيم ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة والشعبي والربيع ومقاتل بن حيان والسدي ومكحول والضحاك وعطاء الخراساني أنهم قالوا: الأقراء: الحيض وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل وحكى عنه الأثرم أنه قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون الأقراء الحيض وهو مذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح بن حي وأبي عبيد وإسحق بن راهويه ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي من طريق المنذر بن المغيرة عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها "دعي الصلاة أيام أقرائك" فهذا لو صح لكان صريحا في أن القرء هو الحيض ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم مجهول ليس بمشهور وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ابن جرير أصل القرء في كلام العرب الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركا بين هذا وهذا وقد ذهب إليه بعض الأصوليين والله أعلم. وهذا قول الأصمعي أن القرء هو الوقت. وقال أبو عمرو بن العلاء: العرب تسمي الحيض قرءا وتسمي الطهر قرءا وتسمي الطهر والحيض جميعا قرءا. وقال الشيخ أبو عمر بن عبدالبر: لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ويراد به الطهر وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين. وقوله "ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" أي من حبل أو حيض. قاله ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي والحكم بن عينية والربيع بن أنس والضحاك وغير واحد. وقوله "إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر" تهديد لهن على خلاف الحق ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن ويتعذر إقامة البينة غالبا على ذلك فرد الأمر إليهن وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق إما استعجالا منها لانقضاء العدة أو رغبة منها في تطويلها لما لها في ذلك من المقاصد فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان. وقوله "وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا" أي وزوجها الذي طلقها أحق بردها ما دامت في عدتها إذا كان مراده بردها الإصلاح والخير وهذا في الرجعيات فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلاق الثلاث فأما حال نزول هذه الآية. فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن وإذا تأملت هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين من استشهادهم على مسألة عود الضمير هل يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم لا بهذه الآية الكريمة فإن التمثيل بها غير مطلق لما ذكروه والله أعلم. وقوله "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته في حجة الوداع: "فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا قال "أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت" وقال وكيع عن بشير بن سليمان عن عكرمة عن ابن عباس قال: إنى لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة لأن الله يقول: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف". رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقوله "وللرجال عليهن درجة" أي في الفضيلة في الخلق والخلق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض بما أنفقوا من أموالهم". وقوله "والله عزيز حكيم" أي عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره حكيم في أمره وشرعه وقدره.

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

📘 هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله إلى ثلاث طلقات وأباح الرجعة في المرة والثنتين وأبانها بالكلية في الثالثة. فقال "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". قال أبو داود رحمه الله في سننه "باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث" حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك فقال "الطلاق مرتان" الآية. ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى عن إسحق بن إبراهيم عن علي بن الحسين به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هرون بن إسحق حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا قال لامرأته: لا أطلقك أبدا ولا آويك أبدا قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله عز وجل "الطلاق مرتان" وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من طريق جرير بن عبد الحميد وابن إدريس. ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون كلهم عن هشام عن أبيه قال: كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء ما دامت في العدة وإن رجلا من الأنصار غضب على امرأته فقال: والله لا آويك ولا أفارقك قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك ثم أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل "الطلاق مرتان" قال: فاستقبل الناس الطلاق من كان طلق ومن لم يكن طلق وقد رواه أبو بكر بن مردويه من طريق محمد بن سليمان عن يعلى بن شبيب مولى الزبير عن هشام عن أبيه عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم. ورواه الترمذي عن قتيبة عن يعلى بن شبيب به. ثم رواه عن أبي كريب عن ابن إدريس عن هشام عن أبيه مرسلا قال هذا أصح. ورواه الحاكم في مستدركه من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب عن يعلى بن شبيب به وقال: صحيح الإسناد ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا إسماعيل بن عبدالله حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال: والله لأتركنك لا أيما ولا ذات زوج فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ففعل ذلك مرارا فأنزل الله عز وجل فيه "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" فوقت الطلاق ثلاثا لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره وهكذا روي عن قتادة مرسلا ذكره السدي وابن زيد وابن جرير كذلك واختار أن هذا تفسير هذه الآية قوله "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية بين أن تردها إليك ناويا الإصلاح بها والإحسان إليها وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسنا إليها لا تظلمها من حقها شيئا ولا تضار بها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في ذلك أي في الثالثة فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئا. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا يونس بن عبدالأعلى قراءة أخبرنا ابن وهب أخبرني سفيان الثوري حدثني إسماعيل بن سميع قال: سمعت أبا رزين يقول: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أرأيت قول الله عز وجل "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" أين الثالثة قال: "التسريح بإحسان" ورواه عبد بن حميد في تفسيره ولفظه أخبرنا يزيد بن أبي حكيم عن سفيان عن إسماعيل بن سميع أن أبا رزين الأسدي يقول: قال رجل يا رسول الله أرأيت قول الله "الطلاق مرتان" فأين الثالثة؟ قال "التسريح بإحسان الثالثة". ورواه الإمام أحمد أيضا. وهكذا رواه سعيد بن منصور عن خالد بن عبدالله عن إسماعيل بن زكريا وأبي معاوية عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به وكذا رواه ابن مردويه أيضا من طريق قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به مرسلا ورواه ابن مردويه أيضا من طريق عبدالواحد بن زياد عن إسماعيل بن سميع عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. فذكره ثم قال: حدثنا عبدالله بن أحمد بن عبدالرحيم حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا عبيد الله بن جرير بن حبلة حدثنا ابن عائشة حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ذكر الله الطلاق مرتين فأين الثالثة؟ قال "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". وقوله "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا" أي لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه كما قال تعالى "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" فأما إن وهبته المرأة شيئا عن طيب نفس منها فقد قال تعالى "فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا" وأما إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ولا حرج عليها في بذلها له ولا حرج عليه في قبول ذلك منها ولهذا قال تعالى "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به" الآية. فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه فقد قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا عبدالوهاب "ح" وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية قالا جميعا: حدثنا أيوب عن أبي قلابة عمن حدثه عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " وهكذا رواه الترمذي عن بندار عن عبدالوهاب بن عبد المجيد الثقفي به وقال حسن قال ويروى عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان ورواه بعضهم عن أيوب بهذا الإسناد ولم يرفعه: وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرحمن حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة قال: وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة". وهكذا رواه أبو داود وابن ماجه وابن جرير من حديث حماد بن زيد به "طريق أخرى" قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا المعتمر بن سليمان عن ليث بن أبي إدريس عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس حرم الله عليها رائحة الجنة" وقال "المختلعات هن المنافقات". ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعا عن أبي كريب عن مزاحم بن داود بن علية عن أبيه عن ليث هو ابن أبي سليم عن أبي الخطاب عن أبي زرعة عن أبي إدريس عن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "المختلعات هن المنافقات" ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي "حديث آخر" قال ابن جرير: حدثنا أيوب حدثنا حفص بن بشر حدثنا قيس بن الربيع عن أشعث بن سوار عن الحسن عن ثابت بن يزيد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات" غريب من هذا الوجه ضعيف "حديث آخر" قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "المتخلعات والمنتزعات هن المنافقات" "حديث آخر" قال ابن ماجه: حدثنا بكر بن خلف أبو بشر حدثنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى بن ثوبان عن عمه عمارة بن ثوبان عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تسأل امرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما". ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية واحتجوا بقوله تعالى "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله" قالوا: فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة فلا يجوز في غيرها إلا بدليل والأصل عدمه وممن ذهب إلى هذا ابن عباس وطاوس وإبراهيم وعطاء والحسن والجمهور حتى قال مالك والأوزاعي: لو أخذ منها شيئا وهو مضار لها وجب رده إليها وكان الطلاق رجعيا قال مالك: وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى وهذا قول جميع أصحابه قاطبة وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستذكار له عن بكر بن عبدالله المزني أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ بقوله "وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا". ورواه ابن جرير عنه وهذا قول ضعيف ومأخذ مردود على قائله وقد ذكر ابن جرير رحمه الله أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شماس وامرأته حبيبة بنت عبدالله بن أبي ابن سلول ولنذكر طرق حديثها واختلاف ألفاظه: قال الإمام مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبدالرحمن بن سعيد بن زرارة أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصاري أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - "من هذه؟" قلت: أنا حبيبة بنت سهل فقال "ما شأنك" فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر" فقالت حبيبة: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "خذ منها" فأخذ منها وجلست في أهلها. وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبدالرحمن بن مهدي عن مالك بإسناده مثله ورواه أبو داود عن القعنبي عن مالك والنسائي عن محمد بن مسلمة عن ابن القاسم عن مالك "حديث آخر" عن عائشة. قال أبو داود وابن جرير: حدثنا محمد بن معمر حدثنا أبو عامر حدثنا أبو عمرو السدوسي عن عبدالله بن أبي بكر عن عمرة عن عاثشة أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس فضربها فانكسر بعضها فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الصبح فاشتكته إليه فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابتا فقال "خذ بعض مالها وفارقها" قال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال "نعم" قال: إني أصدقتها حديقتين فهما بيدها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "خذهما وفارقها" ففعل وهذا لفظ ابن جرير وأبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام "حديث آخر" فيه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال البخاري: حدثنا أزهر بن جميل أخبرنا عبدالوهاب الثقفي حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله: ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتردين عليه حديقته" قالت: نعم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" وكذا رواه النسائي عن أزهر بن جميل بإسناده مثله ورواه البخاري أيضا به عن إسحق الواسطي عن خالد هو ابن عبدالله الطحاوي عن خالد هو ابن مهران الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس به نحوه. وهكذا رواه البخاري أيضا من طرق عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس وفي بعضها أنها قالت: لا أطيقه يعني بغضا وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه. ثم قال حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة أن جميلة رضي الله عنها ـ كذا قال والمشهور أن اسمها حبيبة كما تقدم ـ لكن قال الإمام أبو عبدالله بن بطة: حدثني أبو يوسف يعقوب بن يوسف الطباخ حدثنا أبو القاسم عبدالله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثني عبدالأعلى حدثنا سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: والله ما أعتب على ثابت بن قيس في دين ولا خلق ولكنني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "تردين عليه حديقته؟" قالت: نعم. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ ما ساق ولا يزداد وقد رواه ابن مردويه في تفسيره عن موسى بن هرون حدثنا أزهر بن مروان حدثنا عبدالأعلى مثله وهكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن مروان بإسناده مثله سواء وهو إسناد جيد مستقيم وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا الحسين بن واقد عن ثابت عن عبدالله بن رباح عن جميلة بنت عبدالله بن أبي ابن سلول أنها كانت تحت ثابت بن قيس فنشزت عليه فأرسل إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال "يا جميلة ما كرهت من ثابت؟" قالت: والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا إلا أني كرهت دمامته فقال لها: "أتردين عليه الحديقة" قالت نعم فردت الحديقة وفرق بينهما. وقال ابن جرير أيضا حدثنا محمد بن عبدالأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان قال قرأت على فضيل عن أبي جرير أنه سأل عكرمة هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبدالله بن أبي أنها أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا إنى رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها فقال زوجها يا رسول الله إني قد أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت علي حديقتي قال "ما تقولين"؟ قالت: نعم وإن شاء زدته. قال ففرق بينهما "حديث آخر" قال ابن ماجه: حدثنا أبو كريب حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس وكان رجلا دميما فقالت: يا رسول الله والله لولا مخافة الله إذا دخل علي بصقت في وجهه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أتردين عليه حديقته؟" قالت نعم فردت عليه حديقته قال ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لعموم قوله تعالى "فلا جناح عليهما فيما افتدت به" وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية أخبرنا أيوب عن كثير مولى ابن سمرة أن عمر أتي بامرأة ناشز فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ثم دعا بها فقال كيف وجدت فقالت ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني فقال: لزوجها اخلعها ولو من قرطها ورواه عبدالرزاق عن معمر عن أيوب عن كثير مولى ابن سمرة فذكر مثله وزاد فحبسها فيه ثلاثة أيام قال: سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن حميد بن عبدالرحمن أن امرأة أتت عمر بن الخطاب فشكت زوجها فأباتها في بيت الزبل فلما أصبحت قال كيف وجدت مكانك؟ قالت ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة. فقال خذ ولو عقاصها وقال البخاري: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها وقال: عبدالرزاق أخبرنا معمر عن عبدالله بن محمد بن عقيل أن الربيع بنت معوذ ابن عفراء حدثته قالت: كان لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني ويحرمني إذا غاب عني قالت فكانت مني زلة يوما فقلت: أختلع منك بكل شيء أملكه قال: نعم قالت ففعلت قالت فخاصم عمي معاذ ابن عفراء إلى عثمان بن عفان فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه أو قالت ما دون عقاص الرأس ومعنى هذا أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير ولا يترك لها سوى عقاص شعرها وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وقبيصة بن ذؤيب والحسن بن صالح وعثمان البتي وهذا مذهب مالك والليث والشافعي وأبي ثور واختاره ابن جرير وقال أصحاب أبي حنيفة إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يجوز الزيادة عليه فإن ازداد جاز في القضاء وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا فإن أخذ جاز في القضاء. وقال الإمام أحمد وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن شعيب والزهري وطاوس والحسن والشعبي وحماد بن أبي سليمان والربيع بن أنس. وقال معمر والحكم كان علي يقول لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها وقال: الأوزاعي القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها. "قلت" ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قصة ثابت بن قيس فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد وبما روى عبد بن حميد حيث قال: أخبرنا قبيصة عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني المختلعة وحملوا معنى الآية على معنى "فلا جناح عليهما فيما افتدت به" أي من الذي أعطاها لتقدم قوله "ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به" أي من ذلك وهكذا كان يقرؤها الربيع بن أنس "فلا جناح عليهما فيما افتدت به" منه رواه ابن جرير ولهذا قال بعده "تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون" "فصل" قال الشافعي: اختلف أصحابنا في الخلع فأخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد يتزوجها إن شاء لأن الله تعالى يقول "الطلاق مرتان" قرأ إلى "أن يتراجعا" قال الشافعي: وأخبرنا سفيان عن عمرو عن عكرمة قال: كل شيء أجازه المال فليس بطلاق وروى غير الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال: رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها؟ قال: نعم ليس الخلع بطلاق ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها والخلع فيما بين ذلك فليس الخلع بشيء ثم قرأ "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" وقرأ "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما من أن الخلع ليس بطلاق وإنما هو فسخ هو رواية عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان وابن عمر وهو قول طاوس وعكرمة وبه يقول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود بن علي الظاهري وهو مذهب الشافعي في القديم وهو ظاهر الآية الكريمة والقول الثاني في الخلع إنه طلاق بائن إلا أن ينوي أكثر من ذلك قال مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن جهمان مولى الأسلميين عن أم بكر الأسلمية أنها اختلعت من زوجها عبدالله بن خالد بن أسيد فأتيا عثمان بن عفان في ذلك فقال تطليقة إلا أن تكون سميت شيئا فهو ما سميت قال الشافعي: ولا أعرف جهمان وكذا ضعف أحمد بن حنبل هذا الأثر والله أعلم. وقد روي نحوه عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وبه يقول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وشريح والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وأبو عثمان البتي والشافعي في الجديد غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو طلق فهو واحدة بائنة وإن نوى ثلاثا فثلاث وللشافعي قول آخر في الخلع وهو أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق وعري عن البينة فليس هو بشيء بالكلية. "مسألة" وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه في رواية عنهما وهي المشهورة إلى أن المختلعة عدتها عدة المطلقة بثلاثة قروء إن كانت ممن تحيض. وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وبه يقول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة وسالم وأبو سلمة وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب والحسن والشعبي وإبراهيم النخعي وأبو عياض وخلاس بن عمر وقتادة وسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبو العبيد قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم ومأخذهم في هذا أن الخلع طلاق فتعتد كسائر المطلقات والقول الثاني أنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها رحمها قال ابن أبي شيبة حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر أن الربيع اختلعت من زوجها فأتى عمها عثمان - رضي الله عنه - فقال تعتد بحيضة قال: وكان ابن عمر يقول تعتد ثلاث حيض حتى قال هذا عثمان فكان ابن عمر يفتي به ويقول عثمان خيرنا وأعلمنا. وحدثنا عبدة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: عدة المختلعة حيضة. وحدثنا عبدالرحمن بن محمد المحاربي عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: عدتها حيضة وبه يقول عكرمة وأبان بن عثمان وكل من تقدم ذكره ممن يقول إن الخلع فسخ يلزمه القول بهذا واحتجوا لذلك بما رواه أبو داود والترمذي حيث قال كل منهما حدثنا محمد بن عبدالرحيم البغدادي حدثنا علي بن يحيى أخبرنا هشام بن يوسف عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعتد بحيضة ثم قال الترمذي حسن غريب وقد رواه عبدالرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة مرسلا "حديث آخر". قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا الفضل بن موسى عن سفيان حدثنا محمد بن عبدالرحمن وهو مولى آل طلحة عن سليمان بن يسار عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء أنها اختلعت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أمرت أن تعتد بحيضة قال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة "طريق أخرى". قال ابن ماجه: حدثنا علي بن سلمة النيسابوري حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن ابن إسحق أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء قال: قلت لها حدثيني حديثك قالت: اختلعت من زوجي ثم جئت عثمان فسألت عثمان ماذا علي من العدة؟ قال: لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة قالت: وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مريم المغالية وكانت تحت ثابت بن قيس فاختلعت منه وقد روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن أبي سلمة ومحمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن الربيع بنت معوذ قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمر امرأة ثابت بن قيس حين اختلعت منه أن تعتد بحيضة. "مسألة" وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء. وروي عن عبدالله بن أبي أوفى وماهان الحنفي وسعيد بن المسيب والزهري أنهم قالوا: إن رد إليها الذي أعطاها جاز له رجعتها في العدة بغير رضاها وهو اختيار أبي ثور رحمه الله. وقال سفيان الثوري: إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها وإن كان يسمي طلاقا فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة وبه يقول داود بن علي الظاهري واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن فرقة أنه لا يجوز له ذلك كما لا يجوز لغيره وهو قول شاذ مردود. "مسألة" وهل له أن يوقع عليها طلاقا آخر في العدة؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء: "أحدها" ليس له ذلك لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه وبه يقول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة وجابر بن زيد والحسن البصري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور "والثاني" قال مالك: أن أتبع الخلع طلاقا من غير سكوت بينهما لم يقع قال ابن عبد البر: وهذا يشبه ما روي عن عثمان - رضي الله عنه - والثالث أنه يقع عليها الطلاق بكل حال ما دامت في العدة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وبه يقول سعيد بن المسيب وشريح وطاوس وإبراهيم والزهري والحاكم والحكم وحماد بن أبي سليمان وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي الدرداء قال ابن عبد البر: وليس ذلك بثابت عنهما. وقوله "تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون" أي هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده فلا تتجاوزوها كما ثبت في الحديث الصحيح "إن الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تضيعوها وحرم محارم فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن مع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة لقوله "الطلاق مرتان" ثم قال "تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون" ويقوون ذلك بحديث محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال: حدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" حتى قام رجل فقال يا رسول الله ألا أقتله؟ ـ فيه انقطاع .

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

📘 ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو فقال مخاطبا للكافرين "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا" يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك قال ابن عباس شهداءكم أعوانكم وقال السدي عن أبي مالك شركاءكم أي قوما آخرين يساعدونكم على ذلك أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم وقال مجاهد وادعوا شهداءكم قال ناس يشهدون به يعني حكام الفصحاء وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص "قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين" وقال في سورة سبحان "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" وقال في سورة هود "أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين" وقال في سورة يونس "وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعو من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين" وكل هذه الآيات مكية ثم تحداهم بذلك أيضا في المدينة فقال في هذه الآية "وإن كنتم في ريب" أي شك "مما نزلنا على عبدنا" يعني محمدا صلى الله عليه وسلم "فأتوا بسورة من مثله" يعني من مثل القرآن قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير والطبري والزمخشري والرازي ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري وأكثر المحققين ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئا من العلوم وبدليل قوله تعالى "فأتوا بعشر سور مثله" وقوله لا يأتون بمثله. وقال بعضهم من مثل محمد صلى الله عليه وسلم يعني من رجل أمى مثله. والصحيح الأول لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ومع هذا أعجزوا عن ذلك.

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۗ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

📘 وقوله تعالى "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" أي أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين فإنها تحرم عليه "حتى تنكح زوجا غيره" أي حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح فلو وطئها واطئ في غير نكاح ولو في ملك اليمين لم تحل للأول لأنه ليس بزوج وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوح لم تحل للأول واشتهر بين كثير من الفقهاء أن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه يقول: يحصل المقصود من تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني وفى صحته عنه نظر على أن الشيخ أبا عمر بن عبدالبر قد حكاه عنه في الاستذكار والله أعلم. وقد قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثنا ابن بشار حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن علقمة بن مرثد عن سالم بن رزين عن سالم بن عبدالله عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة فيتزوجها زوج آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أترجع إلى الأول؟ قال "لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها" هكذا وقع في رواية ابن جرير وقد رواه الإمام أحمد فقال: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد قال: سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبدالله بن عمر عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها فترجع إلى زوجها الأول فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "حتى تذوق العسيلة" وهكذا رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس وابن ماجه عن محمد بن بشار بندار كلاهما عن محمد بن جعفر غندر عن شعبة به كذلك فهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعا على خلاف ما يحكى عنه فبعيد أن يخالف ما رواه بغير مستند والله أعلم. وقد روى أحمد أيضا والنسائي وابن جرير هذا الحديث من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن رزين بن سليمان الأحمدي عن ابن عمر قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها هل تحل للأول؟ قال: "لا حتى تذوق العسيلة" وهذا لفظ أحمد وفي رواية لأحمد سليمان بن رزين "حديث آخر" قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا محمد بن دينار حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثا فتزوجت بعده رجلا فطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته". وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن إبراهيم الأنماطي عن هشام بن عبدالملك حدثنا محمد بن دينار فذكره. "قلت" ومحمد بن دينار بن صندل أبو بكر الأزدي ثم الطائي البصري ويقال له ابن أبي الفرات اختلفوا فيه فمنهم من ضعفه ومنهم من قواه وقبله. وحسن له وذكر أبو داود أنه تغير قبل موته فالله أعلم. "حديث آخر" قال ابن جرير: حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني حدثنا أبي حدثنا شيبان حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي الحارث الغفاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا فتتزوج غيره فيطلقها قبل أن يدخل بها فيريد الأول أن يراجعها قال: "لا حتى يذوق الآخر عسيلتها". ثم رواه من وجه آخر عن شيبان وهو ابن عبدالرحمن به ـ وأبو الحارث غير معروف . "حديث آخر" قال ابن جرير: حدثنا يحيى عن عبيد الله حدثنا القاسم عن عائشة أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت زوجا فطلقها قبل أن يمسها فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتحل للأول؟ فقال "لا حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأول" أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن عبيد الله بن عمر العمري عن القاسم بن أبي بكير عن عمته عائشة به "طريق أخرى" قال ابن جرير: حدثنا عبيد الله بن إسماعيل الهباري وسفيان بن وكيع وأبو هشام الرفاعي قالوا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته فتزوجت رجلا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل لزوجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته". وكذا رواه أبو داود عن مسدد والنسائي عن أبي كريب كلاهما عن أبي معاوية وهو محمد بن حازم الضرير به "طريق أخرى" قال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن العلاء الهمداني حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها فتتزوج رجلا آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول؟ قال:"لا حتى يذوق عسيلتها" قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو فضيل وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية جميعا عن هشام بهذا الإسناد وقد رواه البخاري من طريق أبي معاوية محمد بن حازم عن هشام به وتفرد به مسلم من الوجهين الآخرين. وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبدالله بن المبارك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله ـ وهذا إسناد جيد ـ وكذا رواه ابن جرير أيضا من طريق علي بن زيد بن جدعان عن امرأة أبيه أمينة أم محمد عن عائشة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بمثله وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه البخاري حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى عن هشام بن عروة حدثني أبي عن عائشة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أنه لا يأتيها وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب فقال: "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" تفرد به من هذا الوجه "طريق أخرى" قال الإمام أحمد حدثنا عبدالأعلى عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن رفاعة طلقني البتة وإن عبدالرحمن بن الزبير تزوجني وإنما عنده مثل الهدبة وأخذت هدبة من جلبابها وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له فقال أبو بكر: ألا تنهي هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما زاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التبسم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". وهكذا رواه البخاري من حديث عبدالله بن المبارك ومسلم من حديث عبدالرزاق والنسائي من حديث يزيد بن زريع ثلاثتهم عن معمر به وفي حديث عبدالرزاق عند مسلم أن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات. وقد رواه الجماعة إلا أبا داود من طريق سفيان بن عيينة والبخاري من طريق عقيل ومسلم من طريق يونس بن يزيد وعنده آخر ثلاث تطليقات والنسائي من طريق أيوب بن موسى ورواه صالح بن أبي الأخضر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة به. وقال مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبدالرحمن بن الزبير أن رفاعة بن سموأل طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة فنكحت عبدالرحمن بن الزبير فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها فأراد رفاعة بن سموأل أن ينكحها وهو زوجها الأول الذي كان طلقها فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاه عن تزويجها وقال "لا تحل لك حتى يذوق العسيلة". هكذا رواه أصحاب الموطأ عن مالك وفيه انقطاع وقد رواه إبراهيم بن طهمان وعبدالله بن وهب عن مالك عن رفاعة عن الزبير بن عبدالرحمن بن الزبير عن أبيه فوصله. "فصل" والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة قاصدا لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطئا مباحا فلو وطأها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء أو الزوج صائم أو محرم أو معتكف لم تحل للأول بهذا الوطء وكذا لو كان الزوج الثاني ذميا لم تحل للمسلم بنكاحه لأن أنكحة الكفار باطلة عنده واشترط الحسن البصري فيما حكاه عنه الشيخ أبو عمر بن عبدالبر أن ينزل الزوج الثاني وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه الصلاة والسلام "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" ويلزم على هذا أن تنزل المرأة أيضا وليس المراد بالعسيلة المني لما رواه الإمام أحمد والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "ألا إن العسيلة الجماع" فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة. ذكر الأحاديث الواردة في ذلك "الحديث الأول" عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال الإمام أحمد: حدثنا الفضل بن دكين حدثنا سفيان عن أبي قيس عن الهزيل عن عبدالله قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله. ثم رواه أحمد والترمذي والنسائي من غير وجه عن سفيان وهو الثوري عن أبي قيس واسمه عبدالرحمن بن ثروان الأودي عن هذيل بن شرحبيل الأودي عن عبدالله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح قال: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة منهم عمر وعثمان وابن عمر وهو قول الفقهاء من التابعين ويروى ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس "طريق أخرى" عن ابن مسعود قال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبيد الله عن عبدالكريم عن أبي الواصل عن ابن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لعن الله المحلل والمحلل له" "طريق أخرى". روى الإمام أحمد والنسائي عن حديث الأعمش عن عبدالله بن مرة عن الحارث الأعور عن عبدالله بن مسعود قال: آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به والواصلة والمستوصلة ولاوي الصدقة والمتعدي فيها والمرتد عن عقبيه أعرابيا بعد هجرته والمحلل والمحلل له ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة. "الحديث الثاني" عن علي - رضي الله عنه - قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق أخبرنا سفيان عن جابر عن الشعبي عن الحارث عن علي قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والواشمة والمستوشمة للحسن ومانع الصدقة والمحلل والمحلل له وكان ينهى عن النوح وكذا رواه عن غندر عن شعبة عن جابر وهو ابن يزيد الجعفي عن الشعبي عن الحارث عن علي به وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالد وحصين بن عبد الرحمن ومجالد بن سعيد وابن عون عن عامر الشعبي به وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الشعبي به. ثم قال أحمد أخبرنا محمد بن عبدالله أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحق عن الحارث عن علي: قال لعن رسول الله صاحب الربا وآكله وكاتبه وشاهده والمحلل والمحلل له. "الحديث الثالث" عن جابر - رضي الله عنه - قال الترمذي: أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا أشعث بن عبدالرحمن بن يزيد الإيامي حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبدالله وعن الحارث عن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن المحلل والمحلل له ثم قال: وليس إسناده بالقائم ومجالد ضعفه غير واحد من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل قال: ورواه ابن نمير عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبدالله عن علي قال: وهذا وهم من ابن نمير والحديث الأول أصح. "الحديث الرابع" عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال أبو عبدالله محمد بن يزيد بن ماجه حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري أخبرنا أبي سمعت الليث بن سعد يقول قال أبو المصعب مشرح هو ابن عاهان قال عقبة ابن عامر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ألا أخبركم بالتيس المستعار" قالوا: بلى يا رسول الله قال "هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له" تفرد به ابن ماجه وكذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني عن عثمان بن صالح عن الليث به ثم قال: كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارا شديدا. "قلت" عثمان هذا أحد الثقات روى عنه البخاري في صحيحه ثم قد تابعه غيره فرواه جعفر الفريابي عن العباس المعروف بابن فريق عن أبي صالح عبدالله بن صالح عن الليث به فبرئ من عهدته والله أعلم. "الحديث الخامس" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له "طريق أخرى" قال الإمام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حنيفة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحلل قال "لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ثم يذوق عسيلتها" ويتقوى هذان الإسنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن حميد بن عبدالرحمن عن موسى بن أبي الفرات عن عمرو بن دينار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو من هذا فيتقوى كل من هذا المرسل والذي قبله بالآخر والله أعلم. "الحديث السادس" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر حدثنا عبدالله هو ابن جعفر عن عثمان بن محمد المقبري عن أبي هريرة قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المحلل والمحلل له. وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني والبيهقي من طريق عبدالله بن جعفر القرشي وقد وثقه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم. وأخرج له مسلم في صحيحه عن عثمان بن محمد الأخنسي وثقه ابن معين عن سعيد المقبري وهو متفق عليه. "الحديث السابع" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا محمد بن إسحق الصنعاني حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو يمان محمد بن مطرف المدني عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه هل تحل للأول فقال: لا إلا نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد رواه الثوري عن عبدالله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر به وهذه الصيغة مشعرة بالرفع وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم من حديث الأعمش عن المسيب بن رافع عن قبيصة بن جابر عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وروى البيهقي من حديث ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما وكذا روي عن علي وابن عباس وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم. وقوله "فإن طلقها" أي الزوج الثاني بعد الدخول بها "فلا جناح عليهما أن يتراجعا" أي المرأة والزوج الأول "إن ظنا أن يقيما حدود الله" أي يتعاشرا بالمعروف. قال مجاهد: إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة "وتلك حدود الله" أي شرائعه وأحكامه "يبينها" أي يوضحها "لقوم يعلمون" . وقد اختلف الأئمة رحمهم الله فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين وتركها حتى انقضت عدتها ثم تزوجت بآخر فدخل بها ثم طلقها فانقضت عدتها ثم تزوجها الأول هل تعود إليه بما بقي من الثلاث كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وهو قول طائفة من الصحابة رضي الله عنهم أن يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى والله أعلم.

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

📘 هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا له عليها فيه رجعة أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها فإما أن يمسكها أي يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف وهو أن يشهد على رجعتها وينوي عشرتها بالمعروف أو يسرحها أي يتركها حتى تنقضي عدتها ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح قال الله تعالى "ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا" قال ابن عباس ومجاهد ومسروق والحسن وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان وغير واحد: كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارا لئلا تذهب إلى غيره ثم يطلقها فتعتد فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة فنهاهم الله عن ذلك وتوعدهم عليه فقال "ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه" أي بمخالفته أمر الله تعالى. وقوله تعالى "ولا تتخذوا آيات الله هزوا" قال ابن جرير: عند هذه الآية أخبرنا أبو كريب أخبرنا إسحق بن منصور عن عبدالسلام بن حرب عن يزيد بن عبدالرحمن عن أبي العلاء الأزدي عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي موسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضب على الأشعريين فأتاه أبو موسى فقال يا رسول الله أغضبت على الأشعريين؟ فقال "يقول أحدكم قد طلقت قد راجعت ليس هذا طلاق المسلمين طلقوا المرأة في قبل عدتها" ثم رواه من وجه آخر عن أبي خالد الدلال وهو يزيد بن عبدالرحمن وفيه كلام. وقال مسروق: هو الذي يطلق في غير كنهه ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها لتطول عليها العدة. وقال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع ومقاتل بن حيان: هو الرجل يطلق ويقول: كنت لاعبا أو يعتق أو ينكح ويقول كنت لاعبا فأنزل الله "ولا تتخذوا آيات الله هزوا" فألزم الله بذلك. وقال ابن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد حدثنا أبو أحمد الصيرفي حدثني جعفر بن محمد السمسار عن إسماعيل بن يحيى عن سفيان عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قال: طلق رجل امرأته وهو يلعب لا يريد الطلاق فأنزل الله "ولا تتخذوا آيات الله هزوا" فألزمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطلاق. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد حدثنا آدم حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن هو البصري قال كان الرجل يطلق ويقول: كنت لاعبا ويعتق ويقول: كنت لاعبا وينكح ويقول: كنت لاعبا فأنزل الله "ولا تتخذوا آيات الله هزوا". وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من طلق أو أعتق أو نكح أو أنكح جادا أو لاعبا فقد جاز عليه". وكذا رواه ابن جرير من طريق الزهري عن سليمان بن أرقم عن الحسن مثله وهذا مرسل وقد رواه ابن مردويه من طريق عمرو بن عبيد عن الحسن عن أبي الدرداء موقوفا عليه. وقال أيضا حدثنا أحمد بن الحسن بن أيوب حدثنا يعقوب بن أبي يعقوب حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن سلمة عن الحسن عن عبادة بن الصامت في قول الله تعالى "ولا تتخذوا آيات الله هزوا". قال: كان الرجل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول للرجل زوجتك ابنتي ثم يقول: كنت لاعبا ويقول: قد أعتقت ويقول: كنت لاعبا فأنزل الله "ولا تتخذوا آيات الله هزوا". فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ثلاث من قالهن لاعبا أو غير لاعب فهن جائزات عليه الطلاق والعتاق والنكاح" والمشهور في هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق عبدالرحمن بن حبيب بن أدرك عن عطاء عن ابن ماهك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" وقال الترمذي: حسن غريب. وقوله "واذكروا نعمة الله عليكم" أي في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم "وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة" أي السنة "يعظكم به" أي يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم "واتقوا الله" أي فيما تأتون وفيما تذرون "واعلموا أن الله بكل شيء عليم" أي فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية وسيجازيكم على ذلك.

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

📘 قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك فنهى الله أن يمنعوها. وكذا روى العوفي عنه عن ابن عباس أيضا وكذا قال مسروق وإبراهيم النخعي والزهري والضحاك: إنها أنزلت في ذلك وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية. وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها وأنه لا بد في النكاح من ولي كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية. كما جاء في الحديث "لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها" وفي الأثر الآخر "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل" وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع وقد قررنا ذلك في كتاب الأحكام ولله الحمد والمنة. وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته فقال البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية: حدثنا عبيد الله بن سعيد حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا عباد بن راشد حدثنا الحسن قال حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تخطب إلي قال البخاري وقال إبراهيم عن يونس عن الحسن حدثني معقل بن يسار وحدثنا أبو معمر وحدثنا عبدالوارث حدثنا يونس عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت "فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن". وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه من طرق متعددة عن الحسن عن معقل بن يسار به وصححه الترمذي أيضا ولفظه عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب فقال له يا لكع بن لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك قال فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن" إلى قوله "وأنتم لا تعلمون" فلما سمعها معقل قال: سمعا لربي وطاعة ثم دعاه فقال أزوجك وأكرمك زاد ابن مردويه: وكفرت عن يميني. وروى ابن جرير عن ابن جريج قال: هي جميلة بنت يسار كانت تحت أبي البداح. وقال سفيان الثوري: عن أبي إسحاق السبيعي قال هي فاطمة بنت يسار وهكذا ذكر غير واحد من السلف أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته. وقال السدي: نزلت في جابر بن عبدالله وابنة عم له والصحيح الأول والله أعلم. وقوله "ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر" أي هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف يأتمر به ويتعظ به وينفعل له من كان منكم أيها الناس يؤمن بالله واليوم الآخر أي يؤمن بشرع الله ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة وما فيها من الجزاء ذلكم أزكى لكم وأطهر أي اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن وترك الحمية في ذلك أزكى لكم وأطهر لقلوبكم والله يعلم أي المصالح فيما يأمر به وينهى عنه "وأنتم لا تعلمون"في أي الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون.

۞ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ۗ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

📘 هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ولهذا قال "لمن أراد أن يتم الرضاعة" وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم قال الترمذي: "باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين" حدثنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام" هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئا وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام وهي امرأة هشام بن عروة. "قلت" تفرد الترمذي برواية هذا الحديث ورجاله على شرط الصحيحين ومعنى قوله "إلا ما كان في الثدي" أي في محل الرضاعة قبل الحولين كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن وكيع وغندر عن شعبة عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: لما مات إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال "إن ابني مات في الثدي إن له مرضعا في الجنة" وهكذا أخرجه البخاري من حديث شعبة وإنما قال عليه السلام ذلك لأن ابنه إبراهيم عليه السلام مات وله سنة وعشرة أشهر فقال إن له مرضعا يعني تكمل رضاعه ويؤيده ما رواه الدارقطني من طريق الهيثم بن جميل عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين" ثم قال ولم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ. "قلت" وقد رواه الإمام مالك في الموطأ عن ثور بن زيد عن ابن عباس مرفوعا ورواه الدراوردي عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس وزاد "وما كان بعد الحولين فليس بشيء" وهذا أصح. وقال أبو داود الطيالسي عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام" وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله تعالى "وفصاله في عامين أن اشكر لي" وقال "وحمله وفصاله ثلاثون شهرا" والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين يروى عن علي وابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي هريرة وابن عمر وأم سلمة وسعيد بن المسيب وعطاء والجمهور وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحق والثوري وأبي يوسف ومحمد ومالك في رواية وعنه أن مدته سنتان وشهران وفي رواية وثلاثة أشهر. وقال أبو حنيفة سنتان وستة أشهر وقال زفر بن الهذيل ما دام يرضع فإلى ثلاث سنين وهذا رواية عن الأوزاعي قال مالك: ولو فطم الصبي دون الحولين فأرضعته امرأة بعد فصاله لم يحرم لأنه قد صار بمنزلة الطعام وهو رواية عن الأوزاعي وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا: لا رضاع بعد فصال فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور سواء فطم أو لم يفطم ويحتمل أنهما أرادا الفعل كقول مالك والله أعلم. وقد روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم وهو قول عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال ببعض نسائها فترضعه وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حنيفة حيث أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيرا فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة وأبى ذلك سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ورأين ذلك من الخصائص وهو قول الجمهور وحجة الجمهور وهم الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة والأكابر من الصحابة وسائر أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى عائشة ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة" وسيأتي الكلام على مسائل الرضاع وفيما يتعلق برضاع الكبير عند قوله تعالى "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" وقوله "وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف" أي وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره كما قال تعالى "لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا" قال الضحاك: إذا طلق زوجته وله منها ولد فأرضعت له ولده وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف. وقوله "لا تضار والدة بولدها" أي بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالبا ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها ولهذا قال "ولا مولود له بولده" أي بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارا بها قاله مجاهد وقتادة والضحاك والزهري والسدي والثوري وابن زيد وغيرهم. وقوله تعالى "وعلى الوارث مثل ذلك" قيل في عدم الضرار لقريبه قاله مجاهد والشعبي والضحاك وقيل عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها وهو قول الجمهور وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض وهو مروي عن عمر بن الخطاب وجمهور السلف ويرشح ذلك بحديث الحسن عن سمرة مرفوعا "من ملك ذا رحم محرم عتق عليه" وقد ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما في بدنه أو عقله وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه رأى امرأة ترضع بعد الحولين فقال لا ترضعيه. وقوله "فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما" أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ورأيا في ذلك مصلحة له وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه فلا جناح عليهما في ذلك فيؤخذ منه إن انفرد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر. قاله الثوري وغيره وهذا فيه احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره وهو من رحمة الله بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه كما قال في سورة الطلاق "فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى". وقوله تعالى "وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف" أي إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد إما لعذر منها أو لعذر له فلا جناح عليهما في بذله ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف قاله غير واحد. وقوله "واتقوا الله" أي في جميع أحوالكم "واعلموا أن الله بما تعملون بصير" أي فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم.

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

📘 هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها فترددوا إليه مرارا في ذلك فقال أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطئا فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه: لها الصداق كاملا وفي لفظ لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قضى به في بروع بنت واشق ففرح عبدالله بذلك فرحا شديدا وفي رواية فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى به في بروع بنت واشق. ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل فإن عدتها بوضع الحمل ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع أو أربعة أشهر وعشر للجمع بين الآيتين وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية المخرج في الصحيحين من غير وجه أنها توفي عنها زوجها سعد بن خولة وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته وفي رواية فوضعت حملها بعده بليال فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: ما لي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي قال أبو عمر بن عبدالبر: وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة يعني لما احتج عليه به قال ويصحح ذلك عنه أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة كما هو قول أهل العلم قاطبة. وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة فإن عدتها على النصف من عدة الحرة شهران وخمس ليال على قول الجمهور لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحد فكذلك فلتكن على النصف منها في العدة. ومن العلماء كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام لعموم الآية. ولأن العدة من باب الأمور الجبلية التي تستوي فيها الخليقة وقد ذكر سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا لاحتمال اشتمال الرحم على حمل فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجودا كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح" فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه والله أعلم. قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة سألت سعيد بن المسيب ما بال العشرة؟ قال: فيه ينفخ الروح وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأن ينفخ فيه الروح رواهما ابن جرير ومن ههنا ذهب الإمام أحمد في رواية عنه إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة ههنا لأنها صارت فراشا كالحرائر وللحديث الذي رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص أنه قا1ل: لا تلبسوا علينا سنة نبينا: عدة أم الولد إذ توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر. ورواه أبو داود عن قتيبة عن غندر وعن ابن المثنى عن عبدالأعلى وابن ماجه عن علي بن محمد عن الربيع ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عروبة عن مطر الوراق عن رجاء بن حيوة عن قبيصة عن عمرو بن العاص فذكره وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث وقيل إن قبيصة لم يسمع عمرا وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف منهم سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وأبو عياض والزهري وعمر بن عبد العزيز وبه كان يأمر يزيد بن عبدالملك بن مروان وهو أمير المؤمنين وبه يقول الأوزاعي وإسحق بن راهويه وأحمد بن حنبل في رواية عنه وقال طاوس وقتادة: عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها نصف عدة الحرة شهران وخمس ليال وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح بن حيي تعتد بثلاث حيض وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي وقال: مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه عدتها حيضة وبه يقول ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور قال الليث: ولو مات وهو حائض أجزأتها وقال مالك: فلو كانت ممن لا تحيض فثلاثة أشهر وقال الشافعي والجمهور: شهر وثلاثة أحب إلي والله أعلم. وقوله "فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير" يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها لما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمي المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" وفي الصحيحين أيضا عن أم سلمة أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال "لا" كل ذلك يقول ـ لا ـ مرتين أو ثلاثا ثم قال "إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة" قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ومن ههنا ذهب كثيرون من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها وهي قوله "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج" الآية. كما قاله ابن عباس وغيره وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره. والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدا ولا يجب في عدة الرجعية قولا واحدا وهل يجب في عدة البائن فيه قولان: ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن سواء في ذلك الصغيرة والآيسة والحرة والأمة والمسلمة والكافرة لعموم الآية. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا إحداد على الكافرة وبه يقول أشهب وابن نافع من أصحاب مالك وحجة قائل هذه المقالة قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" قالوا: فجعله تعبدا وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري الصغيرة بها لعدم التكليف وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع والله الموفق للصواب. وقوله "فإذا بلغن أجلهن" أي انقضت عدتهن قاله الضحاك والربيع بن أنس "فلا جناح عليكم" قال: الزهري أي على أوليائها "فيما فعلن" يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن قال الوني عن ابن عباس إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج فذلك المعروف وروي عن مقاتل بن حيان نحوه وقال ابن حريج عن مجاهد "فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف" قال النكاح الحلال الطيب وروي عن الحسن والزهري والسدي نحو ذلك.

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ ۚ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا ۚ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ

📘 يقول تعالى "ولا جناح عليكم" أن تعرضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح. قال: الثوري وشعبة وجرير وغيرهم. عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قوله "ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء" قال التعريض أن يقول إني أريد التزويج إني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها ـ يعرض لها بالقول بالمعروف وفي رواية ووددت أن الله رزقني امرأة ونحو هذا ولا ينتصب للخطبة وفي رواية إني لا أريد أن أتزوج غيرك إن شاء الله ولوددت أنى وجدت امرأة صالحة ولا ينتصب لها ما دامت في عدتها. ورواه البخاري تعليقا فقال: وقال لي طلق بن غنام عن زائدة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس "ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء" هو أن يقول إني أريد التزويج وإن النساء لمن حاجتي ولوددت أن ييسر لي امرأة صالحة. وهكذا قال مجاهد وطاوس وعكرمة وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والشعبي والحسن وقتادة والزهري ويزيد بن قسيط ومقاتل بن حيان والقاسم بن محمد وغير واحد من السلف والأئمة في التعريض أنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها بالخطبة وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلات تطليقات فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال لها " فإذا حللت فآذنيني" فلما حلت خطب عليها أسامة بن زيد مولاه فزوجها إياه فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها والله أعلم. وقوله "أو أكننتم في أنفسكم" أي أضمرتم في أنفسكم من خطبتهن وهذا كقوله تعالى "وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون" وكقوله "وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم" ولهذا قال "علم الله أنكم ستذكرونهن" أي في أنفسكم فرفع الحرج عنكم في ذلك ثم قال "ولكن لا تواعدوهن سرا" قال أبو مجلز وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وسليمان التيمي ومقاتل بن حيان والسدي يعني الزنا وهو معنى رواية العوفي عن ابن عباس واختاره ابن جرير وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "ولكن لا تواعدوهن سرا" لا تقل لها إني عاشق وعاهديني أن لا تتزوجي غيري ونحو هذا وكذا روي عن سعيد بن جبير والشعبي وعكرمة وأبي الضحى والضحاك والزهري ومجاهد والثوري هو أن يأخذ ميثاقها أن لا تتزوج غيره وعن مجاهد هو قول الرجل للمرأة لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك وقال قتادة: هو أن يأخذ عهد المرأة وهي في عدتها أن لا تنكح غيره فنهى الله عن ذلك وقدم فيه وأحل التعريض بالخطبة والقول بالمعروف وقال ابن زيد "ولكن لا تواعدوهن سرا" هو أن يتزوجها فى العدة سرا فإذا حلت أظهر ذلك وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك ولهذا قال "إلا أن تقولوا قولا معروفا" قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي والثوري وابن زيد: يعني به ما تقدم به إباحة التعريض ـ كقوله: إنى فيك لراغب ونحو ذلك. وقال محمد بن سيرين: قلت لعبيدة: ما معنى قوله "إلا أن تقولوا قولا معروفا" قال: يقول لوليها: لا تسبقني بها يعني لا تزوجها حتى تعلمني رواه ابن أبي حاتم. وقوله "ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله" يعني ولا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة. قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وقتادة والربيع بن أنس وأبو مالك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان والزهري وعطاء الخراساني والسدي والثوري والضحاك "حتى يبلغ الكتاب أجله" يعني ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة. وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة. واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها فإنه يفرق بينهما وهل تحرم عليه أبدا؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها. وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد واحتج في ذلك بما رواه عن ابن شهاب وسليمان بن يسار أن عمر - رضي الله عنه - قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول وكان خاطبا من الخطاب وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ثم اعتدت من الآخر ثم لم ينكحها أبدا قالوا: ومأخذ هذا أن الزوج لما استعجل ما أحل الله عوقب بنقيض قصده فحرمت عليه على التأبيد كالقاتل يحرم الميراث: وقد روى الشافعي هذا الأثر عن مالك. قال البيهقي: وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد لقول علي إنها تحل له. "قلت" قال: ثم هو منقطع عن عمر. وقد روى الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك وجعل لها مهرها وجعلهما يجتمعان. وقوله "واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه" توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر ثم لم يؤيسهم من رحمته ولم يقنطهم من عائدته فقال "واعلموا أن الله غفور رحيم".

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ

📘 أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها. وقال ابن عباس وطاوس وإبراهيم والحسن البصري: المس النكاح بل يجوز أن يطلقها قبل الدخول بها والفرض لها إن كانت مفوضة وإن كان في هذا انكسار لقلبها ولهذا أمر تعالى بإمتاعها وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله على الموسع قدره وعلى المقتر قدره. وقال سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن عكرمة عن ابن عباس قال: متعة الطلاق أعلاه الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إن كان موسرا متعها بخادم أو نحو ذلك وإن كان معسرا أمتعها بثلاثة أثواب: وقال الشعبي: أوسط ذلك درع وخمار وملحفة وجلباب قال: وكان شريح يمتع بخمسائة. وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن أيوب بن سيرين قال: كان يمتع بالخادم أو بالنفقة أو بالكسوة. قال: ومتع الحسن بن علي بعشرة آلاف. ويروى أن المرأة قالت: متاع قليل من حبيب مفارق. وذهب أبو حنيفة إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها. وقال الشافعي في الجديد: لا يجبر الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة وأحب ذلك إلى أن يكون أقله ما تجزئ فيه الصلاة وقال في القديم: لا أعرف في المتعة قدرا إلا أني أستحسن ثلاثين درهما كما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما وقد اختلف العلماء أيضا هل تجب المتعة لكل مطلقة أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي لم يفرض لها على أقوال: أحدها أنها تجب المتعة لكل مطلقة لعموم قوله تعالى "وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين" ولقوله تعالى "يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا" وقد كن مفروضا لهن ومدخولا بهن وهذا قول سعيد بن جبير وأبي العالية والحسن البصري وهو أحد قولي الشافعي. ومنهم من جعله الجديد الصحيح والله سبحانه وتعالى أعلم. "والقول الثاني" إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضا لها لقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهم من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا" قال شعبة وغيره عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: نسخت هذه الآية التي في الأحزاب الآية التي في البقرة وقد روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد وأبي أسيد أنهما قالا تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أميمة بنت شرحبيل فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين. "والقول الثالث" أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول وجب لها عليه شطره فإن دخل بها استقر الجميع وكان ذلك عوضا لها عن المتعة وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها وهذا قول ابن عمر ومجاهد ومن العلماء من استحبها لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول وهذا ليس بمنكور وعليه تحمل آية التخيير في الأحزاب ولهذا قال تعالى "على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين" ومن العلماء من يقول إنها مستحبة مطلقا. قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب القزويني حدثنا محمد بن سعيد بن سابق حدثنا عمروـ يعني ابن أبي قيس ـ عن أبي إسحاق عن الشعبي قال: ذكروا له المتعة أيحبس فيها فقرأ "على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" قال الشعبي: والله ما رأيت أحدا حبس فيها والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة.

وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

📘 وهذه الآية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى حيث إنما أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض إذا طلق الزوج قبل الدخول فإنه لو كان ثم واجب آخر من متعة لبينها لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الآية والله أعلم وتشطير الصداق والحالة هذه أمر مجمع عليه بين العلماء لا خلاف بينهم في ذلك فإنه متى كان قد سمى لها صداقا ثم فارقها قبل دخوله بها فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج وإن لم يدخل بها وهو مذهب الشافعي في القديم وبه حكم الخلفاء الراشدون لكن قال الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد أخبرنا ابن جريج عن ليث بن أبي سليم عن طاوس عن ابن عباس أنه قال في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها: ليس لها إلا نصف الصداق لأن الله يقول "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم" قال الشافعي بهذا أقول وهو ظاهر الكتاب قال البيهقي وليث بن أبي سليم وإن كان غير محتج به فقد رويناه من حديث ابن أبي طلحة عن ابن عباس فهو مقوله. وقوله "إلا أن يعفون" أي النساء عما وجب لها على زوجها فلا يجب لها عليه شيء. قال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله "إلا أن يعفون" قال: إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها. قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله. وروي عن شريح وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والشعبي والحسن ونافع وقتادة وجابر بن زيد وعطاء الخراساني والضحاك والزهري ومقاتل بن حيان وابن سيرين والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك. قال: وخالفهم محمد بن كعب القرظي فقال "إلا أن يعفون" يعنى الرجال وهو قول شاذ لم يتابع عليه انتهى كلامه. وقوله "أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح" قال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن لهيعة حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "ولي عقدة النكاح الزوج" وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبدالله بن لهيعة به وقد أسنده ابن جرير عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ فذكره ولم يقل عن أبيه عن جده فالله أعلم ثم قال ابن أبي حاتم: وحدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا جابر يعني ابن أبي حازم عن عيسى يعني ابن عاصم قال: سمعت شريحا يقول: سألني علي بن أبي طالب عن الذي بيده عقدة النكاح فقلت له: هو ولي المرأة فقال علي: لا بل هو الزوج. ثم قال: وفي إحدى الروايات عن ابن عباس وجبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وشريح في أحد قوليه وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعكرمة ونافع ومحمد بن سيرين والضحاك ومحمد بن كعب القرظي وجابر بن زيد وأبي مجلز والربيع بن أنس وإياس بن معاوية ومكحول ومقاتل بن حيان أنه الزوج "قلت" وهذا هو الجديد من قولي الشافعي ومذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري وابن شبرمة والأوزاعي واختاره ابن جرير ومأخذ هذا القول أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوج فإن بيده عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها وكما أنه لا يجوز للولي أن يهب شيئا من مال المولية للغير فكذلك في الصداق قال والوجه الثاني. حدثنا أبي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا محمد بن مسلم حدثنا عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما ـ في الذي ذكر الله بيده عقدة النكاح قال ذلك أبوها أو أخوها أو من لا تنكح إلا بإذنه وروي عن علقمة والحسن وعطاء وطاوس والزهري وربيعة وزيد بن أسلم وإبراهيم النخعي وعكرمة في أحد قوليه ومحمد بن سيرين في أحد قوليه أنه الولي وهذا مذهب مالك وقول الشافعي في القديم ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه فله التصرف فيه بخلاف سائر ما لها وقال ابن جرير: حدثنا سعيد بن الربيع الرازي حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: أذن الله في العفو وأمر به فأي امرأة عفت جاز عفوها فإن شحت وضنت وعفا وليها جاز عفوه وهذا يقتضي صحة عفو الولي وإن كانت شديدة وهو مروي عن شريح لكن أنكر عليه الشعبي فرجع عن ذلك وصار إلى أنه الزوج وكان يباهل عليه. وقوله "وأن تعفوا أقرب للتقوى" قال ابن جرير قال بعضهم: خوطب به الرجال والنساء حدثني يونس أنبأنا ابن وهب سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس "وأن تعفوا أقرب للتقوى" قال أقربهما للتقوى الذي يعفو وكذا روي عن الشعبي وغيره وقال مجاهد والنخعي والضحاك ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والثوري: الفضل ههنا أن تعفو المرأة عن شطرها أو إتمام الرجل الصداق لها ولهذا قال "ولا تنسوا الفضل بينكم" أي الإحسان قاله سعيد. وقال الضحاك وقتادة والسدي وأبو وائل: المعروف يعني لا تهملوه بينكم وقد قال أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا موسى بن إسحق حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا يونس بن بكير حدثنا عبدالله بن الوليد الرصافي عن عبدالله بن عبيد عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "ليأتين على الناس زمان عضوض يعض المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل وقد قال الله تعالى "ولا تنسوا الفضل بينكم" شرار يبايعون كل مضطر" وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر وعن بيع الغرر فإن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه. وقال سفيان عن أبي هارون قال: رأيت هارون بن عبدالله في مجلس القرظي فكان عون يحدثنا ولحيته ترش من البكاء ويقول صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم هما حين رأيتهم أحسن ثيابا وأطيب ريحا وأحسن مركبا وجالست الفقراء فاسترحت بهم وقال "ولا تنسوا الفضل بينكم" إذا أتاه السائل وليس عنده شيء فليدع له رواه ابن أبي حاتم "إن الله بما تعملون بصير" أي لا يخفى عليه شيء من أموركم وأحوالكم وسيجزي كل عامل بعمله.

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ

📘 يأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة في وقتها" قلت ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" قلت ثم أي؟ قال "بر الوالدين" قال: حدثني بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو استزدته لزادني. وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس حدثنا ليث عن عبدالله بن عمر بن حفص بن عاصم عن القاسم بن غنام عن جدته أم أبيه الدنيا عن جدته أم فروة كانت ممن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الأعمال فقال "إن أحب الأعمال إلى الله تعجيل الصلاة لأول وقتها" وهكذا رواه أبو داود والترمذي وقال لا نعرفه إلا من طريق العمري وليس بالقوي عند أهل الحديث. وخص تعالى من بينها بمزيد التأكيد الصلاة الوسطى وقد اختلف السلف والخلف فيها أي صلاة هي فقيل إنها الصبح حكاه مالك في الموطأ بلاغا عن علي وابن عباس وقال هشيم وابن علية وغندر وابن أبي عدي وعبدالوهاب وشريك وغيرهم عن عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس الفجر فقنت فيها ورفع يديه ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين رواه ابن جرير ورواه أيضا من حديث عوف عن خلاس بن عمرو عن ابن عباس مثله سواء وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا عبدالوهاب حدثنا عوف عن أبي المنهال عن أبي العالية عن ابن عباس أنه صلى الغداة في مسجد البصرة فقنت قبل الركوع وقال هذه الصلاة الوسطى التي ذكرها الله في كتابه فقال "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين" وقال أيضا حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني أخبرنا ابن المبارك أخبرنا الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: صليت خلف عبدالله بن قيس بالبصرة صلاة الغداة فقلت لرجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جانبي ما الصلاة الوسطى؟ قال: هذه الصلاة. وروي من طريق أخرى عن الربيع عن أبي العالية أنه صلى مع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغداة فلما فرغوا قال: قلت لهم أيتهن الصلاة الوسطى؟ قالوا: التي قد صليتها قبل. وقال أيضا حدثنا ابن بشار حدثنا ابن عثمة عن سعيد بن بشير عن قتادة عن جابر بن عبدالله قال: الصلاة الوسطى صلاة الصبح. وحكاه ابن أبي حاتم عن ابن عمر وأبي أمامة وأنس وأبي العالية وعبيد بن عمير وعطاء ومجاهد وجابر بن زيد وعكرمة والربيع بن أنس ورواه ابن جرير عن عبدالله بن شداد بن الهاد أيضا وهو الذي نص عليه الشافعي رحمه الله محتجا بقوله تعالى "وقوموا لله قانتين" والقنوت عنده في صلاة الصبح ومنهم من قال هي وسطى باعتبار أنها لا تقصر وهي بين صلاتين رباعيتين مقصورتين وترد المغرب وقيل لأنها بين صلاتي ليل جهريتين وصلاتي نهار سريتين وقيل إنها صلاة الظهر قال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا ابن أبي ذئب عن الزبرقان يعني ابن عمرو عن زهرة يعني ابن معبد قال: كنا جلوسا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة فسألوه عن الصلاة الوسطى فقال هي الظهر كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصليها بالهجير. وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة حدثني عمرو بن أبي حكيم سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها فنزلت "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين" وقال إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين ورواه أبو داود في سننه من حديث شعبة به وقال أحمد أيضا: حدثنا يزيد بن أبي وهب عن الزبرقان أن رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى فقال هي العصر فقام إليه رجلان منهم فسألاه فقال هي الظهر ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال هي الظهر إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم فأنزل الله "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين" قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم " والزبرقان هو ابن عمرو بن أمية الضمري لم يدرك أحدا من الصحابة والصحيح ما تقدم من روايته عن زهرة بن معبد وعروة بن الزبير وقال شعبة وهمام عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر. وقال أبو داود الطيالسي وغيره عن شعبة أخبرني عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب قال: سمعت عبدالرحمن بن أبان بن عثمان يحدث عن أبيه عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى هي الظهر ورواه ابن جرير عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة عن عبدالصمد عن شعبة عن عمر بن سليمان عن زيد بن ثابت في حديث رفعه قال "الصلاة الوسطى صلاة الظهر" وممن روي عنه أنها الظهر ابن عمر وأبو سعيد وعائشة على اختلاف عنهم وهو قول عروة بن الزبير وعبدالله بن شداد بن الهاد ورواية عن أبي حنيفة رحمهم الله وقيل إنها صلاة العصر قال الترمذي والبغوي رحمهما الله: وهو قول أكثر علماء الصحابة وغيرهم. وقال القاضي الماوردي هو قول جمهور التابعين. وقال الحافظ أبو عمر بن عبدالبر هو قول أكثر أهل الأثر وقال أبو محمد بن عطية في تفسيره وهو قول جمهور الناس وقال الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي في كتابه المسمى بكشف الغطا في تبيين الصلاة الوسطى وقد نص فيه أنها العصر وحكاه عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي أيوب وعبدالله بن عمرو وسمرة بن جندب وأبي هريرة وأبي سعيد وحفصة وأم حبيبة وأم سلمة وعن ابن عمر وابن عباس وعائشة على الصحيح عنهم وبه قال عبيدة وإبراهيم النخعي وأبو رزين وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن وقتادة والضحاك والكلبي ومقاتل وعبيد بن مريم وغيرهم وهو مذهب أحمد بن حنبل. قال القاضي الماوردي: والشافعي قال ابن المنذر وهو الصحيح عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد واختاره ابن حبيب المالكي رحمهم الله. ذكر الدليل على ذلك ـ قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن شتير بن شكل عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا" ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء " وكذا رواه مسلم من حديث أبي معاوية محمد بن حازم الضرير والنسائي من طريق عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى عن شتير بن شكل بن حميد عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله وقد رواه مسلم أيضا من طريق شعبة عن الحكم بن عيينة عن يحيى بن الجزار عن علي بن أبي طالب وأخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وغير واحد من أصحاب المساند والسنن والصحاح من طرق يطول ذكرها عن عبيدة السلماني عن علي به ورواه الترمذي والنسائي من طريق الحسن البصري عن علي به قال الترمذي: ولا يعرف سماعه منه وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن عاصم عن زر قال: قلت لعبيدة سل عليا عن الصلاة الوسطى فسأله فقال: كنا نراها الفجر- أو الصبح - حتى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وأجوافهم أو بيوتهم نارا ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي به. وحديث يوم الأحزاب وشغل المشركين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن أداء صلاة العصر يومئذ فروي عن جماعة من الصحابة يطول ذكرهم وإنما المقصود رواية من نص منهم في روايته أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر وقد رواه مسلم أيضا من حديث ابن مسعود والبراء بن عازب رضي الله عنهما "حديث آخر" قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال صلاة الوسطى صلاة العصر وحدثنا بهز وعفان قالا: حدثنا أبان حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" وسماها لنا أنها هي صلاة العصر وحدثنا محمد بن جعفر وروح قالا: حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال هي العصر قال ابن جعفر: سئل عن صلاة الوسطى ورواه الترمذي من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة وقال: حسن صحيح وقد سمع منه حديث آخر وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن منيع حدثنا عبدالوهاب بن عطاء عن التيمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الصلاة الوسطى صلاة العصر" "طريق أخرى بل حديث آخر" قال ابن جرير وحدثني المثنى حدثنا سليمان بن أحمد الجرشي الواسطي حدثنا الوليد بن مسلم قال: أخبرني صدقة بن خالد حدثني خالد بن دهقان عن خالد بن سيلان عن كهيل بن حرملة قال: سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال: اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها ونحن بفناء بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فقال: أنا أعلم لكم ذلك فقام فاستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليه ثم خرج إلينا فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر غريب من هذا الوجه جدا "حديث آخر" قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحق حدثنا أبو أحمد حدثنا عبدالسلام عن مسلم مولى أبي جبير حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي قال: كنت جالسا عند عبد العزيز بن مروان فقال: يا فلان اذهب إلى فلان فقل له: أي شيء سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة الوسطى؟ فقال رجل جالس: أرسلني أبو بكر وعمر وأنا غلام صغير أسأله عن الصلاة الوسطى فأخذ أصبعي الصغير فقال هذه صلاة الفجر وقبض التي تليها فقال هذه الظهر ثم قبض الإبهام فقال هذه المغرب ثم قبض التي تليها فقال هذه العشاء ثم قال: أي أصابعك بقيت فقلت الوسطى فقال أي الصلاة بقيت؟ فقلت العصر فقال هي العصر غريب أيضا جدا "حديث آخر" قال ابن جرير: حدثني محمد بن عوف الطائي حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني أبو ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة الوسطى صلاة العصر إسناده لا بأس به "حديث آخر" قال أبو حاتم بن حبان في صحيحه: حدثنا أحمد بن يحيى بن زهير حدثنا الجراح بن مخلد حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام بن مورق العجلي عن أبي الأحوص عن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الوسطى صلاة العصر وقد روى الترمذي من حديث محمد بن طلحة بن مصرف عن زبيد اليامي عن مرة الهمداني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الوسطى صلاة العصر ثم قال: حسن صحيح وأخرجه مسلم في صحيحه من طريق محمد بن طلحة به ولفظة شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر الحديث فهذه نصوص في المسألة لا تحتمل شيئا ويؤكد ذلك الأمر بالمحافظة عليها وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح من رواية الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله وفي الصحيح أيضا من حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي كثير عن أبي المجاهر عن بريدة بن الحصيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "بكروا بالصلاة في يوم الغيم فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحق أخبرنا ابن لهيعة عن عبدالله بن هبيرة عن أبي تميم عن أبي نضرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في واد من أوديتهم يقال له الحميص صلاة العصر فقال إن هذه الصلاة عرضت على الذين من قبلكم فضيعوها ألا ومن صلاها ضعف له أجره مرتين ألا ولا صلاة بعدها حتى تروا الشاهد "ثم قال: رواه عن يحيى بن إسحق عن الليث عن جبير بن نعيم عن عبدالله بن هبيرة به وهكذا رواه مسلم والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث ورواه مسلم أيضا من حديث محمد بن إسحق حدثني يزيد بن أبي حبيب كلاهما عن جبير بن نعيم الحضرمي عن عبدالله بن هبيرة السبائي به فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد أيضا حدثنا إسحق أخبرني مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم عن أبي يونس مولى عائشة قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا قالت: إذا بلغت هذه الآية "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فآذني فلما بلغتها آذنتها فأملت عليّ "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" قالت: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك به وقال ابن جرير: حدثني ابن المثنى حدثنا الحجاج حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر" وهكذا رواه من طريق الحسن البصري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأها كذلك وقد روى الإمام مالك أيضا عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع قال: كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فلما بلغتها آذنتها فأملت عليّ "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" وهكذا رواه محمد بن إسحق بن يسار فقال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي ونافع مولى ابن عمر أن عمر بن نافع قال: فذكر مثله وزاد كما حفظتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - "طريق أخرى عن حفصة" قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن عبدالله بن يزيد الأزدي عن سالم بن عبدالله أن حفصة أمرت إنسانا أن يكتب لها مصحفا فقالت إذا بلغت هذه الآية "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فآذني فلما بلغ آذنها فقالت اكتب "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" "طريق أخرى" قال ابن جرير: حدثني ابن المثنى حدثنا عبدالوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا فقالت إذا بلغت هذه الآية "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأها فلما بلغتها أمرته فكتبها "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" قال نافع: فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو. وكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وعبيد بن عمير أنهما قرآ كذلك وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عبيدة حدثنا محمد بن عمرو حدثني أبو سلمة عن عمرو بن رافع مولى عمر قال: كان في مصحف حفصة "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" وتقرير المعارضة أنه عطف صلاة العصر على الصلاة الوسطى بواو العطف التي تقتضي المغايرة فدل ذلك على أنها غيرها وأجيب عن ذلك بوجوه "أحدها" أن هذا إن روي على أنه خبر فحديث علي أصح وأصرح منه وهذا يحتمل أن تكون الواو زائدة كما في قوله "وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين" "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين" أو تكون لعطف الصفات لا لعطف الذوات كقوله "ولكن رسول الله وخاتم النبيين" وكقوله "سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى" وأشباه ذلك كثيرة وقال الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم وقال أبو داود الإيادي: سلط الموت والمنون عليهم فلهم في صدى المقابر هام والموت هو المنون قال عدي بن زيد العبادي: فقددت الأديم لراهشيه فألفى قولها كذبا ومينا والكذب هو المين وقد نص سيبويه شيخ النحاة على جواز قول القائل: مررت بأخيك وصاحبك ويكون الصاحب هو الأخ نفسه والله أعلم وأما إن روي على أنه قرآن فإنه لم يتواتر فلا يثبت بمثل خبر الواحد قرآن ولهذا لم يثبته أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في المصحف ولا قرأ بذلك أحد من القراء الذين تثبت الحجة بقراءتهم لا من السبعة ولا من غيرهم ثم قد روي ما يدل على نسخ هذه التلاوة المذكورة في هذا الحديث قال مسلم: حدثنا إسحق بن راهويه أخبرنا يحيى بن آدم عن فضيل بن مرزوق عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال: نزلت "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر" فقرأناها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله ثم نسخها الله عز وجل فأنزل "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فقال له زاهر رجل كان مع شقيق: أفهي العصر؟ قال: قد حدثتك كيف نزلت وكيف نسخها الله عز وجل قال مسلم: ورواه الأشجعي عن الثوري عن الأسود عن شقيق قلت: وشقيق هذا لم يرو له مسلم سوى هذا الحديث الواحد والله أعلم فعلى هذا تكون هذه التلاوة وهي تلاوة الجادة ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة ولمعناها إن كانت الواو دالة على المغايرة وإلا فلفظها فقط والله أعلم وقيل إن الصلاة الوسطى هي صلاة المغرب رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وفي إسناده نظر فإنه رواه عن أبيه عن أبي الجماهر عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي الخليل عن عمه عن ابن عباس قال: صلاة الوسطى المغرب وحكى هذا القول ابن جرير عن قبيصة بن ذؤيب وحكي أيضا عن قتادة على اختلاف عنه ووجه هذا القول بعضهم بأنها وسطى في العدد بين الرباعية والثنائية وبأنها وتر المفروضات وبما جاء فيها من الفضيلة والله أعلم . وقيل إنها العشاء الأخيرة اختاره علي بن أحمد الواحدي في تفسيره المشهور وقيل هي واحدة من الخمس بعينها وأبهمت فيهن كما أبهمت ليلة القدر في الحول أو الشهر أو العشر ويحكى هذا القول عن سعيد بن المسيب وشريح القاضي ونافع مولى ابن عمر والربيع بن خثيم ونقل أيضا عن زيد بن ثابت واختاره إمام الحرمين الجويني في نهايته وقيل بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر وفي صحته أيضا نظر والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري إمام ما وراء البحر وإنها لإحدى الكبر إذ اختاره مع اطلاعه وحفظه ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر وقيل إنها صلاة العشاء وصلاة الفجر وقيل بل هي صلاة الجماعة وقيل صلاة الجمعة وقيل صلاة الخوف وقيل بل صلاة عيد الفطر وقيل بل صلاة الأضحى وقيل الوتر وقيل الضحى وتوقف فيها آخرون لما تعارضت عندهم الأدلة ولم يظهر لهم وجه الترجيح ولم يقع الإجماع على قول واحد بل لم يزل النزاع فيها موجودا من زمان الصحابة وإلى الآن قال ابن جرير: حدثني محمد بن بشار وابن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها وإنما المدار ومعترك النزاع في الصبح والعصر وقد ثبتت السنة بأنها العصر فتعين المصير إليها وقد روى الإمام أبو محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي رحمهما الله في كتاب الشافعي رحمه الله حدثنا أبي سمعت حرملة بن يحيى اللخمي يقول: قال الشافعي كل ما قلت فكان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف قولي مما يصح فحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى ولا تقلدوني وكذا روى الربيع والزعفراني وأحمد بن حنبل عن الشافعي وقال موسى أبو الوليد بن أبي الجارود عن الشافعي إذا صح الحديث وقلت قولا فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك فهذا من سيادته وأمانته وهذا نفس إخوانه من الأئمة رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين آمين ومن ههنا قطع القاضي الماوردي بأن مذهب الشافعي رحمه الله أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر وإن كان قد نص في الجديد وغيره أنها الصبح لصحة الأحاديث أنها العصر وقد وافقه على هذه الطريقة جماعة من محدثي المذهب ولله الحمد والمنة ومن الفقهاء في المذهب من ينكر أن تكون هي العصر مذهب الشافعي وصمموا على أنها الصبح قولا واحدا قال الماوردي: ومنهم من حكى في المسألة قولين ولتقرير المعاوضات والجوابات موضع آخر غير هذا وقد أفردناه على حدة ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى "وقوموا لله قانتين" أي خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه وهذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة لمنافاته إياها ولهذا لما امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرد على ابن مسعود حين سلم عليه وهو في الصلاة اعتذر إليه بذلك وقال "إن في الصلاة لشغلا" وفي صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة" إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله " وقال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل حدثني الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال: كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية "وقوموا لله قانتين" فأمرنا بالسكوت رواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن إسماعيل به وقد أشكل هذا الحديث على جماعة من العماء حيث ثبت عندهم أن تحريم الكلام في الصلاة كان بمكة قبل الهجرة إلى المدينة وبعد الهجرة إلى أرض الحبشة كما دل على ذلك حديث ابن مسعود الذي في الصحيح قال: كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة فيرد علينا قال فلما قدمنا سلمت عليه فلم يرد علي فأخذني ما قرب وما بعد فلما سلم قال "إني لم أرد عليك إلا أني كنت في الصلاة وإن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة" وقد كان ابن مسعود ممن أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ثم قدم منها إلى مكة مع من قدم فهاجر إلى المدينة وهذه الآية "وقوموا لله قانتين" مدنية بلا خلاف فقال قائلون إنما أراد زيد بن أرقم بقوله كان الرجل يكلم أخاه في حاجته في الصلاة الإخبار عن جنس الكلام واستدل على تحريم ذلك بهذه الآية بحسب ما فهمه منها والله أعلم وقال آخرون إنما أراد أن ذلك قد وقع بالمدينة بعد الهجرة إليها ويكون ذلك فقد أبيح مرتين وحرم مرتين كما اختار ذلك قوم من أصحابنا وغيرهم والأول أظهر والله أعلم وقال الحافظ أبو يعلى: أخبرنا بشر بن الوليد أخبرنا إسحق بن يحيى عن المسيب عن ابن مسعود قال: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة فمررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه فلم يرد علي فوقع في نفسي أنه نزل في شيء فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال" وعليك السلام أيها المسلم ورحمة الله إن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء فإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تكلموا".

فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ۖ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ

📘 وقوله "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون" لما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات والقيام بحدودها وشدد الأمر بتأكيدها ذكر الحال الذي يشتغل الشخص فيما عن أدائها على الوجه الأكمل وهي حال القتال والتحام الحرب فقال "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا" أي فصلوا على أي حال كان رجالا أو ركبانا: يعني مستقبلي القبلة وغير مسقبليها كما قال مالك عن نافع أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه البخاري وهذا لفظ مسلم ورواه البخاري أيضا من وجه آخر عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه أو قريبا منه ولمسلم أيضا عن ابن عمر قال: فإن كان خوف أشد من ذلك فصل راكبا أو قائما تومئ إيماء وفي حديث عبدالله بن أنيس الجهني لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله وكان نحو عرفة أو عرفات فلما وجهه حانت صلاة العصر قال: فخشيت أن تفوتني فجعلت أصلي وأنا أومئ إيماء - الحديث بطوله رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد وهذا من رخص الله التي رخص لعباده ووضعه الآصار والأغلال عنهم وقد روى ابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس قال: في هذه الآية يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه قال: وروي عن الحسن ومجاهد ومكحول والسدي والحكم ومالك والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح نحو ذلك - وزاد ويومئ برأسه أينما توجه ثم قال: حدثنا أبي حدثنا غسان حدثنا داود يعني ابن علية عن مطرف عن عطية عن جابر بن عبدالله قال: إذا كانت المسايفة فليومئ برأسه إيماء حيث كان وجهه فذلك قوله "فرجالا أو ركبانا" وروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعطية والحكم وحماد وقتادة نحو ذلك وقد ذهب الإمام أحمد فيما نص عليه إلى أن صلاة الخوف تفعل في بعض الأحيان ركعة واحدة إذا تلاحم الجيشان وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبدالله اليشكري - زاد مسلم والنسائي وأيوب بن عائذ كلاهما عن بكير بن الأخنس الكوفي عن مجاهد عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة وبه قال الحسن البصري وقتادة والضحاك وغيرهم وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا ابن مهدي عن شعبة قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة عن صلاة المسايفة فقالوا: ركعة وهكذا روى الثوري عنهم سواء وقال ابن جرير أيضا: حدثني سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثنا المسعودي حدثنا يزيد الفقير عن جابر بن عبدالله قال: صلاة الخوف ركعة واختار هذا القول ابن جرير وقال البخاري "باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو" وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلوا ركعتين فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا وبه قال مكحول وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها. هذا لفظ البخاري ثم استشهد على ذلك بحديث تأخيره - صلى الله عليه وسلم - العصر يوم الخندق لعذر المحاربة إلى غيبوبة الشمس وبقوله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك لأصحابه لما جهزهم إلى بني قريظة لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فمنهم من أدركته الصلاة في الطريق فصلوا وقالوا لم يرد منا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تعجيل السير ومنهم من أدركته فلم يصل إلى أن غربت الشمس في بني قريظة فلم يعنف واحدا من الفريقين وهذا يدل على اختيار البخاري لهذا القول والجمهور على خلافه ويعولون على أن صلاة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة النساء ووردت بها الأحاديث لم تكن مشروعة في غزوة الخندق وإنما شرعت بعد ذلك وقد جاء مصرحا بهذا في حديث أبي سعيد وغيره وأما مكحول والأوزاعي والبخاري فيجيبون بأن مشروعية صلاة الخوف بعد ذلك لا تنافي جواز ذلك لأن هذا حال نادر خاص فيجوز فيه مثل ما قلنا بدليل صنيع الصحابة زمن عمر في فتح تستر وقد اشتهر ولم ينكر والله أعلم وقوله "فإذا آمنتم فاذكروا الله" أي أقيموا صلاتكم كما أمرتم فأتموا ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها "كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون" أي مثل ما أنعم عليكم وهداكم للإيمان وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة فقابلوه بالشكر والذكر والذي كقوله بعد ذكر صلاة الخوف "فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا" وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" الآية.

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ

📘 ولهذا قال تعالى "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا" لن لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبدا وهذه أيضا معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبرا جازما قاطعا مقدما غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن وأني يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى قال الله تعالى "الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحادي ولا يداني فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء وأمر بكل خير ونهى عن كل شر كما قال تعالى "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا" أي صدقا في الإخبار وعدلا في الأحكام فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها كما قيل في الشعر إن أعذبه أكذبه. وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئا إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ثم تجد له فيه بيتا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة وسواء تكررت أم لا وكلما تكررت حلا وعلا لا يخلق عن كثرة الرد ولا يمل منه العلماء وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات فما ظنك بالقلوب الفاهمات وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ومشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" وقال "فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون" وقال في الترهيب "أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر" و "أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير" وقال في الزجر: "فكلا أخذنا بذنبه" وقال في الوعظ "أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون" إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء كما قال ابن مسعود وغيره من السلف إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن يا أيها الذين أمنوا فارعها سمعك فإنها خير يأمر به أو شر ينهى عنه ولهذا قال تعالى "يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" الآية وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم بشرت به وحذرت وأنذرت ودعت إلى فعل الخير واجتناب المنكرات وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى وثبتت على الطريقة المثلى وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم. ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما الذي كان أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" لفظ مسلم - وقوله صلى الله عليه وسلم "وإنما كان الذي أوتيته وحيا" أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ولله الحمد والمنة. وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة. فقال إن كان هذا القرآن معجزا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته فقد حصل المدعى وهو المطلوب وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له كان ذلك دليلا على أنه من عند الله لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر وإنا أعطيناك الكوثر. وقوله تعالى "فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين" أما الوقود بفتح الواو فهو ما يلقى في النار لاضرامها كالحطب ونحوه كما قال تعالى "وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا" وقال تعالى "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون" والمراد بالحجارة هي ههنا حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت أجارنا الله منها. وقال عبدالملك بن ميسرة الزراد عن عبدالرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن عبدالله بن مسعود في قوله تعالى "وقودها الناس والحجارة" قال هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين. رواه ابن جرير وهذا لفظه وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين. وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون به مع النار. وقال مجاهد حجارة من كبريت أنتن من الجيفة وقال أبو جعفر محمد بن علي حجارة من كبريت. وقال ابن جريج حجارة من كبريت أسود في النار. وقال لي عمرو بن دينار أصلب من هذه الحجارة وأعظم. وقيل المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" الآية حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول: قال لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمستنكر فجعلها هذه الحجارة أولى. وهذا الذي قاله ليس بقوي وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ولا سيما على ما ذكره السلف من إنها حجارة من كبريت معدة لذلك ثم إن أخذ النار بهذه الحجارة أيضا مشاهد وهذا الجص يكون أحجارا فيعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها وشدة ضرامها وقوة لهبها قال تعالى "كلما خبت زدناهم سعيرا" وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها قال ليكون ذلك أشد عذابا لأهلها. قال: وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "كل مؤذ في النار" وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف. ثم قال القرطبي وقد فسر بمعنيين أحدهما أن كل من آذى النار دخل النار والآخر أن كل ما يؤذي في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك. وقوله تعالى "أعدت للكافرين" الأظهر أن الضمير في أعدت عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة ويحتمل عوده على الحجارة كما قال ابن مسعود ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان وأعدت أي أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أعدت للكافرين أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله تعالى "أعدت" أي أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها "تحاجت الجنة والنار" ومنها "استأذنت النار ربها فقالت رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف" وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها" وهو عند مسلم وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس. "تنبيه ينبغي الوقوف عليه" قوله تعالى "فأتوا بسورة من مثله" وقوله في سورة يونس "بسورة مثله" يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أو قصيرة لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كـما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه. فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها وهذا لا أعلم فيه نزاعا بين الناس سلفا وخلفا. وقد قال الرازي في تفسيره: فإن قيل قوله تعالى "فأتوا بسورة من مثله" يتناول سورة الكوثر وسورة العصر وقل يا أيها الكافرون ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم إن الأتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار البشر كان مكابرة والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين "قلنا" فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني وقلنا إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود وإن لم يكن كذلك كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزا فعلى التقديرين يحصل المعجز هذا لفظه بحروفه والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة قال الشافعي رحمه الله لو تدبر الناس هذه السور لكفتهم "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين فقال له عمرو لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال وما هي فقال "والعصر إن الإنسان لفي خسر" ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل علي مثلها فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حقر فقر ثم قال كيف ترى يا عمرو فقال له عمرو والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب.

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ۚ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

📘 قال الأكثرون هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهي قوله "يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا" قال البخاري: حدثنا أمية حدثنا يزيد بن زريع عن حبيب عن ابن أبي مليكة قال ابن الزبير: قلت لعثمان بن عفان "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا" قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها قال: يا أبن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها؟ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها حيث وجدتها قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج" فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة فنسختها آية المواريث فجعل لهن الثمن أو الربع مما ترك الزوج ثم قال: وروي عن أبي موسى الأشعري وابن الزبير ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل بن حيان وعطاء الخراساني والربيع بن أنس أنها منسوخة وروي عن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأة اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل الله بعد "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا" فهذه عدة المتوفى عنها زوجها إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها وقال "ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم" فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة قال: وروي عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان قالوا نسختها "أربعة أشهر وعشرا" قال وروي عن سعيد بن المسيب قال نسختها التي في الأحزاب "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات" الآية "قلت" وروي عن مقاتل وقتادة أنها منسوخة بآية الميراث وقال البخاري حدثنا إسحق بن منصور حدثنا روح حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا" قال كانت هذه للمعتدة تعتد عند أهل زوجها واجب فأنزل الله "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف" قال: جعل الله تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت وهو قول الله "غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم" فالعدة كما هي واجب عليها زعم ذلك عن مجاهد رحمه الله وقال عطاء قال ابن عباس نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى "غير إخراج" قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقول الله "فلا جناح عليكم فيما فعلن" قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه بهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما زعمه الجمهور حتى يكون ذلك منسوخا بالأربعة الأشهر وعشر وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن يمكن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا إن اخترن ذلك ولهذا قال "وصية لأزواجهم" أي يوصيكم الله بهن وصية كقوله "يوصيكم الله في أولادكم" الآية وقوله "وصية من الله" وقيل إنما انتصب على معنى فلتوصوا لهن وصية وقرأ آخرون بالرفع وصية على معنى كتب عليكم وصية واختارها ابن جرير ولا يمنعن من ذلك لقوله "غير إخراج" فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة الأشهر والعشر أو بوضع الحمل واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله "فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف" وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس بن تيمية ورده آخرون منهم الشيخ أبو عمر بن عبد البر وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة الأشهر والعشر فمسلم وإن أرادوا أن سكنى الأربعة الأشهر وعشر لا تجب في تركة الميت فهذا محل خلاف بين الأئمة وهما قولان للشافعي رحمه الله وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه عن سعد بن إسحق بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعم قالت فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أمر بي فنوديت له فقال كيف قلت؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به. ورواه النسائي أيضا وابن ماجه من طرق عن سعد بن إسحاق وبه قال الترمذي حسن صحيح.

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ

📘 وقوله "وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين" قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم لما نزل قوله تعالى "متاع بالمعروف حقا على المحسنين" قال رجل: إن شئت أحسنت ففعلت وإن شئت لم أفعل فأنزل الله هذه الآية "وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين" وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة سواء كانت مفوضة أو مفروضا لها أو مطلقة قبل المسيس أو مدخولا بها وهو قول الشافعي رحمه الله وإليه ذهب سعيد بن جبير وغيره من السلف واختاره ابن جرير ومن لم يوجبها مطلقا يخصص من هذا العموم مفهوم قوله تعالى "لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين" وأجاب الأولون بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم فلا تخصيص على المشهور المنصوص والله أعلم.

كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

📘 وقوله "كذلك يبين الله لكم آياته" أي في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه بينه ووضحه وفسره ولم يتركه مجملا في وقت احتياجكم إليه "لعلكـم تعقلون" أي تفهمون وتتدبرون.

۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ

📘 وروي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه كانوا ثمانية آلاف وقال أبو صالح: تسعة آلاف وعن ابن عباس أربعون ألفا وقال وهب بن منبه وأبو مالك: كانوا بضعة وثلاثين ألفا. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانوا أهل قرية يقال لها ذاوردان. وكذا قال السدي وأبو صالح وزاد من قبل واسط وقال سعيد بن عبد العزيز: كانوا من أهل أذرعات وقال ابن جريج عن عطاء قال: هذا مثل وقال علي بن عاصم: كانوا من أهل ذاوردان قرية على فرسخ من قبل واسط وقال وكيع بن الجراح في تفسيره. حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي عن المنهال بن عمرو الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت" قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون قالوا: نأتي أرضا ليس بها موت حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم "موتوا" فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم فذلك قوله عز وجل "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت" الآية وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فرارا من الموت هاربين إلى البرية فنزلوا واديا أفيح فملاءوا ما بين عدوتيه فأرسل الله إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه فصاحا بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبنى عليهم جدران وفنوا وتمزقوا وتفرقوا فلما كان بعد دهر مر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له حزقيل فسأل الله أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض ثم أمره فنادى أيتها العظام إن الله يأمرك بأن تكتسي لحما وعصبا وجلدا فكان ذلك وهو يشاهده ثم أمره فنادى أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة وهم يقولون: سبحانك لا إله إلا أنت وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ولهذا قال "إن الله لذو فضل على الناس" أي فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة "ولكن أكثر الناس لا يشكرون" أي لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه فإن هؤلاء خرجوا فرارا من الوباء طلبا لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعا في آن واحد ومن هذا القبيل الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى أخبرنا مالك وعبدالرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري عن عبد الحميد بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبدالله بن الحارث بن نوفل عن عبدالله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فذكر الحديث فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا لبعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه" فحمد الله عمر ثم انصرف وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به بطريق أخرى لبعضه قال أحمد: حدثنا حجاج ويزيد العمي قالا أخبرنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن عبدالله بن عامر بن ربيعة أن عبدالرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا" قال فرجع عمر من الشام وأخرجه في الصحيحين من حديث مالك عن الزهري بنحوه.

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

📘 وقوله "وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم" أي كما أن الحذر لا يغني من القدر كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلا ولا يبعده بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى "الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين" وقال تعالى "وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة" وروينا عن أمير الجيوش ومقدم العساكر وحامي حوزة الإسلام وسيف الله المسلول على أعدائه أبي سليمان خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أنه قال وهو في سياق الموت: لقد شهدت كذا وكذا موقفا وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء - يعني أنه يتألم لكونه ما مات قتيلا في الحرب ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه.

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

📘 وقوله "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة" يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيل الله وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع وفي حديث النزول أنه يقول تعالى من يقرض غير عديم ولا ظلوم وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبدالله بن الحارث عن عبدالله بن مسعود قال: لما نزلت "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له" قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح" قال أرني يدك يا رسول الله قال فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي قال وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها قال فجاء أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح قالت لبيك قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل. وقد رواه ابن مردويه من حديث عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر - رضي الله عنه - مرفوعا بنحوه وقوله "قرضا حسنا" روي عن عمر وغيره من السلف هو النفقة في سبيل الله وقيل هو النفقة على العيال وقيل هو التسبيح والتقديس وقوله "فيضاعفه له أضعافا كثيرة" كما قال تعالى "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء" الآية وسيأتي الكلام عليها وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أخبرنا مبارك بن فضلة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي قال:أتيت أبا هريرة - رضي الله عنه - فقلت له إنه بلغني أنك تقول إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة قال: وما عجبك من ذلك لقد سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة هذا حديث غريب وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد المؤدب حدثنا يونس بن محمد المؤدب حدثنا محمد بن عقبة الرفاعي عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي قال: لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني فقدم قبلي حاجا قال: وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة" فقلت ويحكم والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني فما سمعت هذا الحديث قال: فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث فلقيته لهذا فقلت: يا أبا هريرة ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك؟ قال ما هو؟ قلت: زعموا أنك تقول إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة قال: يا أبا عثمان وما تعجب من ذا والله يقول "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة" ويقول "ما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل" والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار عن سالم عن عبدالله بن عمر بن الخطاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " من دخل سوقا من الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة" الحديث وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر قال: لما نزلت "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل" إلى آخرها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رب زد أمتي فنزلت "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة" قال "رب زد أمتي" فنزلت "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" وروى ابن أبي حاتم أيضا عن كعب الأحبار أنه جاء رجل فقال: إنى سمعت رجلا يقول من قرأ "قل هو الله أحد" مرة واحدة بنى الله له عشرة آلاف ألف غرفة من در وياقوت في الجنة أفأصدق بذلك؟ قال: نعم أوعجبت من ذلك؟ قال: نعم وعشرين ألف ألف وثلاثين ألف ألف وما يحصي ذلك إلا الله ثم قرأ "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة" فالكثير من الله لا يحصى وقوله "والله يقبض ويبسط" أي أنفقوا ولا تبالوا فالله هو الرزاق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين له الحكمة البالغة في ذلك "وإليه ترجعون" أي يوم القيامة.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ

📘 قال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة: هذا النبي هو يوشع بن نون. قال ابن جرير: يعني ابن أفرايم بن يوسف بن يعقوب وهذا القول بعيد لأن هذا كان بعد موسى بدهر طويل وكان ذلك في زمان داود عليه السلام كما هو مصرح به في القصة وقد كان بين داود وموسى ما ينيف عن ألف سنة والله أعلم وقال السدي: هو شمعون وقال مجاهد: هو شمويل عليه السلام وكذا قال محمد بن إسحق عن وهب بن منبه وهو شمويل بن بالي أن علقمة بن ترخام بن اليهد بن بهرض بن علقمة بن ماجب بن عمرصا بن عزريا بن صفية بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل عليه السلام وقال وهب بن منبه وغيره كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا خلقا كثيرا وأخذوا منهم بلادا كثيرة ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم الزمان وكان ذلك موروثا لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلاما يكون نبيا لهم ولم تزل المرأة تدعو الله عز وجل أن يرزقها غلاما فسمع الله لها ووهبها غلاما فسمته شمويل أي سمع الله دعائي ومنهم من يقول شمعون وهو بمعناه فشب ذلك الغلام ونشأ فيهم وأنبته الله نباتا حسنا فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا يقاتلون معه أعداءهم وكان الملك أيضا قد باد فيهم فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكا ألا تقاتلوا وتفوا بما التزمتم من القتال معه "قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا" أي وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد قال الله تعالى: "فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين" أي ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم والله عليم بهم.

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

📘 أي لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكا منهم فعين لهم طالوت وكان رجلا من أجنادهم ولم يكن من بيت الملك فيهم لأن الملك كان في سبط يهوذا ولم يكن هذا من ذلك السبط فلهذا قالوا "أنى يكون له الملك علينا" أي كيف يكون ملكا علينا "ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال" أي ثم هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء وقيل دباغا وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف ثم قد أجابهم النبي قائلا "إن الله اصطفاه عليكم" أي اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم يقول لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي بل الله أمرني به لما طلبتم مني ذلك "وزاده بسطة في العلم والجسم" أي وهو مع هذا أعلم منكم وأنبل وأشكل منكم وأشد قوة وصبرا في الحرب ومعرفة فيها أي أتم علما وقامة منكم ومن ههنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه ثم قال "والله يؤتي ملكه من يشاء" أي هو الحاكم الذي ما شاء فعل ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه وحكمته ورأفته بخلقه ولهذا قال "والله واسع عليم" أي هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه.

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

📘 يقول لهم نبيهم إن علامة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد الله عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم "وفيه سكينة من ربكم" قيل معناه فيه وقار وجلالة قال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة "فيه سكينة" أي وقار وقال الربيع: رحمة وكذا روي عن العوفي عن ابن عباس وقال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله "فيه سكينة من ربكم" قال: ما تعرفون من آيات الله فتسكنون إليه وكذا قال الحسن البصري وقيل السكينة طست من ذهب كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء أعطاها الله موسى عليه السلام فوضع فيها الألواح ورواه السدي عن أبي مالك عن ابن عباس وقال سفيان الثوري: عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن علي قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان ثم هي روح هفافة وقال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا أبو داود حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم عن سماك عن خالد بن عرعرة عن علي قال: السكينة ريح خجوج ولها رأسان وقال مجاهد لها جناحان وذنب وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: السكينة رأس هرة ميتة إذا صرخت في التابوت بصراخ هر أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح وقال عبدالرزاق: أخبرنا بكار بن عبدالله أنه سمع وهب بن منبه يقول: السكينة روح من الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء تكلم فتخبرهم ببيان ما يريدون. وقوله "وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون" قال ابن جرير: أخبرنا ابن مثنى حدثنا أبو الوليد حدثنا حماد عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية "وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون" قال عصاه ورضاض الألواح وكذا قال قتادة والسدي والربيع بن أنس وعكرمة وزاد والتوراة وقال أبو صالح "وبقية مما ترك آل موسى" يعنى عصا موسى وعصا هرون ولوحين من التوراة والمن وقال عطية بن سعد: عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ورضاض الألواح وقال عبدالرزاق: سألت الثوري عن قوله "وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون" فقال منهم من يقول قفيز من منّ ورضاض الألواح ومنهم من يقول العصا والنعلان وقوله "تحمله الملائكة" قال ابن جريج: قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون وقال السدي: أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت وقال عبدالرزاق عن الثوري عن بعض أشياخه: جاءت الملائكة تسوقه على عجلة على بقرة وقيل على بقرتين. وذكر غيره أن التابوت كان بأريحاء وكان المشركون لما أخذوه وضعوه في بيت آلهتهم تحت صنمهم الكبير فأصبح التابوت على رأس الصنم فأنزلوه فوضعوه تحته فأصبح كذلك فسمروه تحت فأصبح الصنم مكسور القوائم ملقى بعيدا. فعلموا أن هذا أمر من الله لا قبل لهم به فأخرجوا التابوت من بلدهم فوضعوه في بعض القرى فأصاب أهلها داء في رقابهم فأمرتهم جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى بني إسرائيل حتى يخلصوا من هذا الداء فحملوه على بقرتين فسارتا به لا يقربه أحد إلا مات حتى اقتربتا من بلد بني إسرائيل فكسرتا النيرين ورجعتا وجاء بنو إسرائيل فأخذوه فقيل إنه تسلمه داود عليه السلام وأنه لما قام إليهما خجل من فرحه بذلك وقيل شابان منهم فالله أعلم. وقيل كان التابوت بقرية من قرى فلسطين يقال لها أزدوه. وقوله "إن في ذلك لآية لكم" أي على صدقي فيما جئتكم به من النبوة وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت "إن كنتم مؤمنين" أي بالله واليوم الآخر.

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ

📘 يقول تعالى مخبرا عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملإ بني إسرائيل وكان جيشه يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفا فالله أعلم أنه قال "إن الله مبتليكم" أي مختبركم بنهر قال ابن عباس وغيره: وهو نهر بين الأردن وفلسطين يعني نهر الشريعة المشهور "فمن شرب منه فليس مني" أي فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه "ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده" أي فلا بأس عليه قال الله تعالى "فشربوا منه إلا قليلا منهم" قال ابن جريج قال ابن عباس: من اغترف منه بيده روي ومن شرب منه لم يرو وكذا رواه السدي عن أبي مالك عن ابن عباس. وكذا قال قتادة وابن شوذب قال السدي: كان الجيش ثمانين ألفا فشرب منه ستة وسبعون ألفا وتبقى معه أربعة آلاف كذا قال. وقد روى ابن جرير من طريق إسرائيل وسفيان الثوري ومسعر بن كدام عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر وما جازه معه إلا مؤمن ورواه البخاري عن عبدالله بن رجاء عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن جده عن البراء بنحوه ولهذا قال تعالى "فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده" أي استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم فشجعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حق فإن النصر من عند الله ليس عن كثرة عدد ولا عدة ولهذا قالوا "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

📘 لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه وحاصله ذكر الشيء ومقابله. وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله فلهذا قال تعالى وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ولا منافاة بينهما فطينها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم. وقال ابن أبي حاتم: قرأ علي الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا أبو ثوبان عن عطاء بن قرة عن عبدالله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنهار الجنة تفجر من تحت تلال - أو من تحت جبال - المسك" وقال أيضا حدثنا أبو سعيد حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق قال: قال عبدالله أنهار الجنة تفجر من جبل مسك. وقوله تعالى "كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل" قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قالوا هذا الذي رزقنا من قبل. قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا وهكذا قال قتادة وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم ونصره ابن جرير وقال عكرمة "قالوا هذا الذي رزقنا من قبل" قال معناه مثل الذي كان بالأمس وكذا قال الربيع بن أنس. وقال مجاهد يقولون ما أشبهه به قال ابن جرير وقال آخرون بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من قبل ثمار الجنة من قبل هذا لشدة مشابهة بعضه بعض لقوله تعالى "وأتوا به متشابها" قال سنيد بن داود حدثنا شيخ من أهل المصيصة عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول هذا الذي أوتينا به من قبل فتقول الملائكة كلا فاللون واحد والطعم مختلف. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عامر بن يساف عن يحيى بن أبي كثير قال: عشب الجنة الزعفران وكثبانها المسك ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ثم يؤتون بمثلها فيقول لهم أهل الجنة هذا الذي أتيتمونا آنفا به فتقول لهم الولدان كلوا فاللون واحد والطعم مختلف وهو قول الله تعالى "وأتوا به متشابها" وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية "وأتوا به متشابها" قال يشبه بعضه بعضا ويختلف في الطعم قال ابن أبي حاتم ورُوي عن مجاهد والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى "وأتوا به متشابها" يعني في اللون والمرأى وليس يشتبه في الطعم وهذا اختيار ابن جرير. وقال عكرمة "وأتوا به متشابها" قال: يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب. وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء وفي رواية ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ورواه ابن جرير من رواية الثوري وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى "وأتوا به متشابها" قال يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا التفاح بالتفاح والرمان بالرمان قالوا في الجنة هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا وأتوا به متشابها يعرفونه وليس هو مثله في الطعم. وقوله تعالى "ولهم فيها أزواج مطهرة" قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس مطهرة من القذر والأذى. وقال مجاهد من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد وقال قتادة مطهرة من الأذى والمأثم. وفي رواية عنه لا حيض ولا كلف. وروى عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك. وقال ابن جرير حدثني يونس بن عبدالأعلى أنبأنا ابن وهب عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم قال المطهرة التي لا تحيض قال: وكذلك خلقت حواء عليها السلام فلما عصت قال الله تعالى إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة - وهذا غريب - وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا إبراهيم بن محمد حدثني جعفر بن محمد بن حرب وأحمد بن محمد الخواري قالا: حدثنا محمد بن عبيد الكندي حدثنا عبدالرزاق بن عمر البزيعي حدثنا عبدالله بن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "ولهم فيها أزواج مطهرة" قال من الحيض والغائط والنخامة والبزاق". هذا حديث غريب - وقد رواه الحاكم في مستدركه عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن محمد بن عبيد به. وقال صحيح على شرط الشيخين وهذا الذي ادعاه فيه نظر فإن عبدالرزاق بن عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان العبسي لا يجوز الاحتجاج به "قلت" والأظهر أن هذا من كلام قتادة كما تقدم والله أعلم. وقوله تعالى "وهم فيها خالدون" هذا هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام والله المسئول أن يحشرنا في زمرتهم إنه جواد كريم بر رحيم.

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

📘 أي لما واجه حزب الإيمان وهم قليل من أصحاب طالوت لعدوهم أصحاب جالوت وهم عدد كثير قالوا "ربنا أفرغ علينا صبرا" أي أنزل علينا صبرا من عندك "وثبت أقدامنا" أي في لقاء الأعداء وجنبنا الفرار والعجز "وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله" قال الله تعالى "فهزموهم بإذن الله" أي غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم "وقتل داود جالوت" ذكروا في الإسرائيليات أنه قتله بمقلاع كان في يده رماه به فأصابه فقتله وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه في أمره فوفى له ثم آل الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة ولهذا قال تعالى "وآتاه الله الملك" الذي كان بيد طالوت "والحكمة" أي النبوة بعد شمويل "وعلمه مما يشاء" أي مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به - صلى الله عليه وسلم - ثم قال تعالى "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" أي لولا الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال تعالى "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم لله كثيرا" الآية. وقال ابن جرير: حدثني أبو حميد الحمصي أحد بني المغيرة حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة بن عبدالرحمن عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء ثم قرأ ابن عمر "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" وهذا إسناد ضعيف فإن يحيى بن سعيد هذا هو ابن العطار الحمصي وهو ضعيف جدا ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو حميد الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عثمان بن عبدالرحمن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله عز وجل ما دام فيهم وهذا أيضا غريب ضعيف لما تقدم أيضا وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا علي بن إسماعيل بن حماد أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد أخبرنا زيد بن الحباب حدثني حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي السمان عن ثوبان رفع الحديث قال لا يزال فيكم سبعة بهم تنصرون وبهم تمطرون وبهم ترزقون حتى يأتي أمر الله وقال ابن مردويه أيضا وحدثنا محمد بن أحمد حدثنا محمد بن جرير بن يزيد حدثنا أبو معاذ نهار بن معاذ بن عثمان الليثي أخبرنا زيد بن الحباب أخبرني عمر البزار عن عنبسة الخواص عن قتادة عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأبدال في أمتي ثلاثون: بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم تنصرون قال قتادة: إنى لأرجو أن يكون الحسن منهم. وقوله "ولكن الله ذو فضل على العالمين" أي ذو من عليهم ورحمة بهم يدفع عنهم ببعضهم بعضا وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله.

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ

📘 لا يوجد تفسير لهذه الأية

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ

📘 ثم قال تعالى "تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين" أي هذه آيات الله التي قصصناها عليك من أمر الذين ذكرناهم بالحق أي بالواقع الذي كان عليه الأمر المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق الذي يعلمه علماء بني إسرائيل "وإنك" أي يا محمد "لمن المرسلين" وهذا توكيد وتوطئة للقسم.

۞ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ

📘 يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال تعالى "ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا" وقال ههنا "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله" يعني موسى ومحمدا - صلى الله عليه وسلم - وكذلك آدم كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر - رضي الله عنه - "ورفع بعضهم درجات" كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنبياء في السموات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل "فإن قيل" فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين فرفع المسلم يده فلطم بها وجهه اليهودي فقال: أي خبيث؟ وعلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ فجاء اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى على المسلم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ فلا تفضلوني على الأنبياء" وفي رواية "لا تفضلوا بين الأنبياء" فالجواب من وجوه "أحدها" أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر "الثاني" أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع "الثالث" أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر "الرابع" لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية "الخامس" ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به. وقوله "وآتينا عيسى ابن مريم البينات" أي الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به من أنه عبدالله ورسوله إليهم "وأيدناه بروح القدس" يعني أن الله أيده بجبريل عليه السلام ثم قال تعالى "ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا" أي كل ذلك عن قضاء الله وقدره ولهذا قال "ولكن الله يفعل ما يريد".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ

📘 يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا "من قبل أن يأتي يوم" يعني يوم القيامة "لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة" أي لا يباع أحد من نفسه ولا يفادى بمال لو بذله ولو جاء بملء الأرض ذهبا ولا تنفعه خلة أحد يعني صداقته بل ولا نسابته كما قال "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" ولا شفاعة: أي ولا تنفعهم شفاعة الشافعين وقوله "والكافرون هم الظالمون" مبتدأ محصور في خبره أي ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال "والكافرون هم الظالمون" ولم يقل والظالمون هم الكافرون.

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ

📘 هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول - صلى الله عليه وسلم - بأنها أفضل آية في كتاب الله قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق حدثنا سفيان عن سعيد الجريري عن أبي السليل عن عبدالله بن رباح عن أبي هو ابن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله أي آية في كتاب الله أعظم قال: الله ورسوله أعلم فرددها مرارا ثم قال: آية الكرسي قال" ليهنك العلم أبا المنذر والذي نفسي بيده إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش" وقد رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبدالأعلى بن عبدالأعلى عن الجريري به وليس عنده زيادة والذي نفسي بيده إلخ. "حديث آخر" عن أبي أيضا في فضل آية الكرسي قال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا ميسرة عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبيدة بن أبي لبابة عن عبدالله بن أبي بن كعب أن أباه أخبره أنه كان له جرن فيه تمر قال: فكان أبي يتعاهده فوجده ينقص قال فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم قال: فسلمت عليه فرد السلام قال: فقلت ما أنت؟ جني أم إنسي؟ قال: جني. قال: قلت له ناولني يدك قال فناولني يده فإذا يد كلب وشعر كلب فقلت هكذا خلق الجن؟ قال لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني. قلت فما حملك على ما صنعت؟ قال بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك قال: فقال له أبي فما الذي يجيرنا منكم؟ قال: هذه الآية آية الكرسي ثم غدا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال النبي صدق الخبيث وهكذا رواه الحكم في مستدركه من حديث أبي داود الطيالسي عن حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن الحضرمي بن لاحق عن محمد بن عمرو بن أبي بن كعب عن جده به وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه "طريق أخرى" قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عثمان بن عتاب قال: سمعت أبا السليل قال: كان رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث الناس حتى يكثروا عليه فيصعد على سطح بيت فيحدث الناس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي آية في القرآن أعظم فقال رجل "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" قال فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي أو قال فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر "حديث آخر" عن الأسقع البكري قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو يزيد القراطيسي حدثنا يعقوب بن أبي عباد المكي حدثنا مسلم بن خالد عن ابن جريج أخبرني عمر بن عطاء أن مولى ابن الأسقع رجل صدق أخبره عن الأسقع البكري أنه سمعه يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان: أي آية في القرآن أعظم؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم" حتى انقضت الآية. "حديث آخر" عن أنس قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالله بن الحارث حدثني سلمة بن وردان أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل رجلا من صحابته فقال أي فلان هل تزوجت؟ قال: لا وليس عندي ما أتزوج به قال أو ليس معك: قل هو الله أحد؟ قال بلى قال "ربع القرآن" قال "أليس معك قل يا أيها الكافرون؟ قال بلى قال ربع القرآن قال أليس معك إذا زلزلت؟ قال: بلى قال ربع القرآن قال أليس معك إذا جاء نصر الله؟ قال بلى. قال ربع القرآن قال أليس معك آية الكرسي الله لا إله إلا هو؟ قال بلى قال ربع القرآن. "حديث آخر" عن أبي ذر جندب بن جنادة قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا المسعودي أنبأني أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فجلست فقال يا أبا ذر هل صليت؟ قلت لا قال قم فصل قال فقمت فصليت ثم جلست فقال يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن قال: قلت يا رسول الله أوللإنس شياطين؟ قال نعم قال: قلت يا رسول الله الصلاة قال خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر قال: قلت يا رسول الله فالصوم؟ قال فرض مجزئ وعند الله مزيد قلت يا رسول الله فالصدقة؟ قال أضعاف مضاعفة قلت يا رسول الله فأيها أفضل؟ قال جهد من مقل أو سر إلى فقير قلت يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال آدم قلت يا رسول الله ونبي كان؟ قال نعم نبي مكلم قلت يا رسول الله كم المرسلون قال ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا وقال مرة وخمسة عشر قلت يا رسول الله أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال آية الكرسي "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" ورواه النسائي "حديث آخر" عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري - رضي الله عنه - وأرضاه قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى عن أخيه عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب أنه كان في سهوة له وكانت الغول تجيء فتأخذ فشكاها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال فإذا رأيتها فقل باسم الله أجيبي رسول الله قال فجاءت فقال لها فأخذها فقالت إني لا أعود فأرسلها فجاء فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعل أسيرك؟ قال أخذتها فقالت: إني لا أعود فأرسلتها فقال: إنها عائدة فأخذتها مرتين أو ثلاثا كل ذلك تقول لا أعود وأجيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول ما فعل أسيرك فأقول أخذتها فتقول لا أعود فيقول إنها عائدة فأخذتها فقالت أرسلني وأعلمك شيئا تقوله فلا يقربك شيء: آية الكرسي فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال صدقت وهي كذوب ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن بندار عن أبي أحمد الزبيري به وقال حسن غريب والغول في لغة العرب: الجان إذا تبدى في الليل. وقد ذكر البخاري هذه القصة عن أبي هريرة فقال في كتاب فضائل القرآن وفي كتاب الوكالة وفي صفة إبليس من صحيحة قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال فخليت عنه فأصبحت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال أما إنه قد كذبك وسيعود فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيعود فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة قلت يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال أما إنه قد كذبك وسيعود فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله بها وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال: ما هي؟ قال: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" وقال لي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شيء على الخير فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أما إنه صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب من ثلات ليال يا أبا هريرة قلت لا قال: ذاك شيطان كذا رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم وقد رواه النسائي في اليوم والليلة عن إبراهيم بن يعقوب عن عثمان بن الهيثم فذكره - وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة بسياق آخر قريب من هذا فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدثنا محمد بن عبدالله بن عمرويه الصفار حدثنا أحمد بن زهير بن حرب أنبأنا مسلم بن إبراهيم أنبأنا إسماعيل بن مسلم العبدي أنبأنا أبو المتوكل الناجي أن أبا هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة وكان فيه تمر فذهب يوما ففتح الباب فوجد التمر قد أخذ منه ملء كف ودخل يوما آخر فإذا قد أخذ منه ملء كف ثم دخل يوما آخر ثالثا فإذا قد أخذ منه مثل ذلك فشكى ذلك أبو هريرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - تحب أن تأخذ صاحبك هذا قال نعم قال فإذا فتحت الباب فقل سبحان من سخرك محمد" فذهب ففتح الباب فقال سبحان من سخرك محمد فإذا هو قائم بين يديه قال: يا عدو الله أنت صاحب هذا؟ قال: نعم دعني فإني لا أعود ما كنت آخذا إلا لأهل بيت من الجن فقراء فخلى عنه ثم عاد الثانية ثم عاد الثالثة فقلت أليس قد عاهدتني ألا تعود؟ لا أدعك اليوم حتى أذهب بك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تفعل فإنك إن تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها لم يقربك أحد من الجن صغير ولا كبير ذكر ولا أنثى قال له لتفعلن؟ قال نعم قال ما هن قال "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" قرأ آية الكرسي حتى ختمها فتركه فذهب فلم يعد فذكر ذلك أبو هريرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما علمت أن ذلك كذلك وقد رواه النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد الله عن شعيب بن حرب عن إسماعيل بن مسلم عن أبي المتوكل عن أبي هريرة به وقد تقدم لأبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضا فهذه ثلات وقائع. "قصة أخرى" قال أبو عبيد في كتاب الغريب: حدثنا أبو معاوية عن أبي عاصم القفي عن الشعبي عن عبدالله بن مسعود قال: خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من الجن فقال: هل لك أن تصارعني؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخل شيطان فصارعه فصرعه فقال: إني أراك ضئيلا شخيتا كأن ذراعيك ذراعا كلب أفهكذا أنتم أيها الجن كلكم أم أنت من بينهم؟ فقال إني بينهم لضليع فعاودني فصارعه فصرعه الإنسي فقال: تقرأ آية الكرسي فإنه لا يقرأها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خيخ كخيخ الحمار فقيل لابن مسعود: أهو عمر؟ فقال: من عسى أن يكون إلا عمر قال أبو عبيد: الضئيل النحيف الجسيم والخيخ بالخاء المعجمة ويقال بالحاء المهملة الضراط. "حديث آخر" عن أبي هريرة قال الحاكم أبو عبدالله في مستدركه: حدثنا علي بن حماد حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثني حكيم بن جبير الأسدي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه: آية الكرسي وكذا رواه من طريق آخر عن زائدة عن حكيم بن جبير ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه كذا قال وقد رواه الترمذي من حديث زائدة ولفظه لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة أي القرآن: آية الكرسي ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير وقد تكلم فيه شعبة وضعفه "قلت" وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد من الأئمة وتركه ابن مهدي وكذبه السعدي. "حديث أخر" قال ابن مردويه: حدثنا عبدالباقي بن نافع أخبرنا عيسى بن محمد المروزي أخبرنا عمر بن محمد البخاري أخبرنا عيسى بن موسى غنجار عن عبدالله بن كيسان حدثنا يحيى أخبرنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال: أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن فقال ابن مسعود على الخبير سقطت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أعظم آية في القرآن "الله لا إله إلا هو الحي القيوم". "حديث آخر" في اشتماله على اسم الله الأعظم قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكير أنبأنا عبدالله بن أبي زياد حدثنا شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هاتين الآيتين "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" و "الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم" إن فيهما اسم الله الأعظم وكذا رواه أبو داود عن مسدد والترمذي عن علي بن خشرم وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ثلاثتهم عن عيسى بن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد به وقال الترمذي: حسن صحيح. "حديث آخر" في معنى هذا عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال ابن مردويه: أخبرنا عبدالله بن نمير أخبرنا إسحق بن إبراهيم بن إسماعيل أخبرنا هشام بن عمار أنبأنا الوليد بن مسلم أخبرنا عبدالله بن العلاء بن زيد أنه سمع القاسم بن عبدالرحمن يحدث عن أبي أمامة يرفعه قال اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورة البقرة وآل عمران وطه وقال هشام وهو ابن عمار خطيب دمشق: أما البقرة "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" وفي آل عمران "الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم" وفي طه "وعنت الوجوه للحي القيوم". "حديث آخر" عن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلاة المكتوبة قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن محرز بن يناور الأدمي أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن أخبرنا الحسن بن بشر بطرسوس أخبرنا محمد بن حمير أخبرنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت. وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن الحسن بن بشر به وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث محمد بن حمير وهو الحمصي من رجال البخاري أيضا فهو إسناد على شرط البخاري وقد زعم أبو الفرج بن الجوزي أنه حديث موضوع والله أعلم وقد روى ابن مردويه من حديث علي والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبدالله نحو هذا الحديث ولكن في إسناد كل منهما ضعف وقال ابن مردويه أيضا حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري أخبرنا يحيى بن درستويه المروزي أخبرنا زياد بن إبراهيم أخبرنا أبو حمزة السكري عن المثنى عن قتادة عن الحسن عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرأها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب النبيين وأعمال الصديقين ولا يواظب على ذلك إلا نبي أو صديق أو عبد امتحنت قلبه للإيمان أو أريد قتله في سبيل الله وهذا حديث منكر جدا. "حديث آخر" في أنها تحفظ من قرأها أول النهار وأول الليل قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي المديني أخبرنا ابن أبي فديك عن عبدالرحمن المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قرأ: "حم" المؤمن إلى "إليه المصير" وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح ثم قال هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل العلم في عبدالرحمن بن أبي يكر بن أبي مليكة المليكي من قبل حفظه. وقد ورد في فضلها أحاديث أخر تركناها اختصارا لعدم صحتها وضعف أسانيدها كحديث علي في قراءتها عند الحجامة أنها تقوم مقام حجامتين وحديث أبي هريرة في كتابتها في اليد اليسرى بالزعفران سبع مرات وتلحس للحفظ وعدم النسيان أوردهما ابن مردويه وغير ذلك. "وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة" فقوله "الله لا إله إلا هو" إخبار بأنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق "الحي القيوم" أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبدا القيم لغيره وكان عمر يقرأ القيام فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ولا قوام لها بدون أمره كقوله "ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره" وقوله "لا تأخذه سنة ولا نوم" أي لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم فقوله "لا تأخذه" أي لا تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس ولهذا قال ولا نوم لأنه أقوى من السنة وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله "لا تأخذه سنة ولا نوم" أن موسى عليه السلام سأل الملائكة هل ينام الله عز وجل؟ فأوحى الله تعالى إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما قال فجعل ينعس وهما في يده في كل يد واحدة قال فجعل ينعس وينبه وينعس وينبه حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله عز وجل يقول فكذلك السموات والأرض في يده وهكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن يحيى عن عبدالرزاق فذكره وهو من أخبار بني إسرائيل وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز وجل وأنه منزه عنه وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي عكرمة عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر قال وقع في نفس موسى هل ينام الله؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما قال فجعل ينام وكادت يداه تلتقيان فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان قال: ضرب الله عز وجل مثلا إن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض وهذا حديث غريب جدا والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع والله أعلم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية حدثنا أحمد بن عبدالرحمن الدستكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال اتقوا الله فناداه ربه عز وجل يا موسى سألوك هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليلة ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا فقال يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكت كما هلكت الزجاجتان في يديك فأنزل الله عز وجل على نبيه آية الكرسي. وقوله "له ما في السموات وما في الأرض" إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله "إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا" وقوله "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه" كقوله "وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى" وكقوله "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى" وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة آتي تحت العرش فأخر ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع "قال" فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة. وقوله "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم" دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها كقوله إخبارا عن الملائكة "وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا". وقوله "ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء" أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون أحدا على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله "ولا يحيطون به علما". وقوله "وسع كرسيه السموات والأرض" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن إدريس عن مطرف بن طريف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله "وسع كرسيه السموات والأرض" قال: علمه وكذا رواه ابن جرير من حديث عبدالله بن إدريس وهشيم كلاهما عن مطرف بن طريف به قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير مثله ثم قال ابن جرير: وقال آخرون: الكرسي موضع القدمين ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين وقال شجاع بن مخلد في تفسيره: أخبرنا أبو عاصم عن سفيان عن عمار الذهبي عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سئل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن قول الله عز وجل "وسع كرسيه السموات والأرض" قال كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاس فذكره وهو غلط وقد رواه وكيع في تفسيره حدثنا سفيان عن عمار الذهبي عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي العباس بن محمد بن أحمد المحبوبي عن محمد بن معاذ عن أبي عاصم عن سفيان وهو الثوري بإسناده عن ابن عباس موقوفا مثله وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ظهير الفزاري الكوفي وهو متروك عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا ولا يصح أيضا وقال السدي عن أبي مالك: الكرسي تحت العرش: وقال السدي: السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش وقال الضحاك عن ابن عباس: لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرني ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس قال وقال أبو ذر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض. وقال أبو بكر بن مردويه أخبرنا سليمان بن أحمد أخبرنا عبدالله بن وهيب المقري أخبرنا محمد بن أبي اليسرى العسقلاني أخبرنا محمد بن عبدالله التميمي عن القاسم بن محمد الثقفي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر الغفاري أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكرسي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا زهير حدثنا ابن أبي بكر حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالله بن خليفة عن عمر - رضي الله عنه - قال: أتت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة قال فعظم الرب تبارك وتعالى وقال إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد من ثقله وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما والطبراني وابن أبي عاصم في كتابي السنة لهما والحافظ الضياء في كتاب المختار من حديث أبي إسحاق السبيعي عن عبدالله بن خليفة وليس بذاك المشهور وفي سماعه من عمر نظر ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفا ومنهم من يرويه عن عمر مرسلا ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة ومنهم من يحذفها وأغرب من هذا حديث جابر بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو داود في كتابه السنة من سننه والله أعلم وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الآية وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين أن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع وهو الفلك الأثير ويقال له الأطلس وقد رد ذلك عليهم آخرون وروى ابن جرير من طريق جويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول الكرسي هو العرش والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبدالله بن خليفة عن عمر في ذلك وعندي في صحته نظر والله أعلم. وقوله "ولا يئوده حفظهما" أي لا يثقله ولا يكترثه حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما بل ذلك سهل عليه يسير لديه وهو القائم على كل نفس بما كسبت الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه محتاجة فقيرة وهو الغني الحميد الفعال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم لا إله غيره ولا رب سواه فقوله "وهو العلي العظيم" كقوله "وهو الكبير المتعال" وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح أمروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه.

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

📘 يقول تعالى "لا إكراه في الدين" أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينه ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار وإن كان حكمها عاما وقال ابن جرير: حدثنا ابن يسار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بندار به ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم أنها نزلت في ذلك وقال محمد بن إسحق عن محمد بن أبي محمد الجرشي عن زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد عن ابن عباس قوله "لا إكراه في الدين" قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله فيه ذلك رواه ابن جرير وروى السدي نحو ذلك وزاد وكانا قد تنصرا على أيدي تجار قدموا من الشام يحملون زبيبا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما وطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث في آثارهما فنزلت هذه الآية وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أسبق قال: كنت في دينهم مملوكا نصرانيا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي الإسلام فآبى فيقول "لا إكراه في الدين" ويقول يا أسبق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام فإن أبى أحد منهم الدخول ولم ينقد له أو يبذل الجزية قوتل حتى يقتل وهذا معنى لا إكراه قال الله تعالى "ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون" وقال تعالى "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" وقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين" وفي الصحيح عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونوا من أهل الجنة فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا يحيى عن حميد عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل أسلم قال إنى أجدني كارها قال وإن كنت كارها فإنه ثلاثي صحيح ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم يكرهه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام بل دعاه إليه فأخبره أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له أسلم وإن كنت كارها فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص. وقوله "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم" أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو "فقد استمسك بالعروة الوثقى" أي فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم قال أبو القاسم البغوي: حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم عن أبي إسحق عن حسان هو ابن قائد العبسي قال: قال عمر - رضي الله عنه - إن الجبت السحر والطاغوت الشيطان وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من أمه وإن كرم الرجل دينه وحسبه خلقه وإن كان فارسيا أو نبطيا وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحق عن حسان بن قائد العبسي عن عمر فذكره ومعنى قوله في الطاغوت إنه الشيطان قوي جدا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها. وقوله "فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب وشبه ذلك بالعروة الوثقى التي لا تنفصم هي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد ولهذا قال "فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" الآية قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الإيمان وقال السدي: هو الإسلام وقال سعيد بن جبير والضحاك: يعني لا إله إلا الله وعن أنس بن مالك العروة الوثقى القرآن وعن سالم بن أبي الجعد قال هو الحب في الله والبغض في الله وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها وقال معاذ بن جبل في قوله "لا انفصام لها" دون دخول الجنة وقال مجاهد وسعيد بن جبير "فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" ثم قرأ "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وقال الإمام أحمد: أنبأنا إسحق بن يوسف حدثنا ابن عوف عن محمد بن قيس بن عبادة قال: كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال القوم هذا رجل من أهل الجنة فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما استأنس قلت له إن القوم لما دخلت المسجد قالوا كذا وكذا قال سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم وسأحدثك لم: إنى رأيت رؤيا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصصتها عليه رأيت كأني في روضة خضراء - قال ابن عون فذكر من خضرتها وسعتها - وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة فقيل لي اصعد عليه فقلت لا أستطيع فجاءني منصف - قال ابن عون هو الوصيف - فرفع ثيابي من خلفي فقال اصعد فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال استمسك بالعروة فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصصتها عليه فقال أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود الإسلام وأما العروة فهي العروة الوثقى أنت على الإسلام حتى تموت قال وهو عبدالله بن سلام أخرجاه في الصحيحين من حديث عبدالله بن عون فقمت إليه وأخرجه البخاري من وجه آخر عن محمد بن سيرين به. "طريق أخرى وسياق آخر" قال الإمام أحمد: أنبأنا حسن بن موسى وعثمان قالا: أنبأنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن المسيب بن رافع عن خرشة بن الحر قال: قدمت المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء شيخ يتوكأ على عصا له فقال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فقام خلف سارية فصلى ركعتين فقلت له: قال بعض القوم كذا وكذا فقال: الجنة لله يدخلها من يشاء وإني رأيت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا كأن رجلا أتاني فقال انطلق فذهبت معه فسلك بي منهجا عظيما فعرضت لي طريق عن يساري فأردت أن أسلكها فقال: إنك لست من أهلها ثم عرضت لي طريق عن يميني فسلكتها حتى انتهت إلى جبل زلق فأخذ بيدي فدحا بي فإذا أنا على ذروته فلم أتقار ولم أتماسك فإذا عمود حديد في ذروته حلقة من ذهب فأخذ بيدي فدحا بي حتى أخذت بالعروة فقال: استمسك فقلت نعم فضرب العمود برجله فاستمسك بالعروة فقصصتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رأيت خيرا أما المنهج العظيم فالمحشر وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار ولست من أهلها وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام فاستمسك بها حتى تموت قال فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة. قال: وإذا هو عبدالله بن سلام وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن الحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن سليمان بن مسهر عن خرشة بن الحر الفزاري به.

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

📘 يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير وأن الكافرين إنما وليهم الشيطان يزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك "أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون". ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" وقال تعالى "وجعل الظلمات والنور" وقال تعالى "عن اليمين وعن الشمال" إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن ميسرة حدثنا عبد العزيز بن أبي عثمان عن موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد قال: يبعث أهل الأهواء أو قال تبعث أهل الفتن فمن كان هواه الإيمان كانت فتنته بيضاء مضيئة ومن كان هواه الكفر كانت فتنته سوداء مظلمة ثم قرأ هذه الآية "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

📘 هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ويقال: نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح والأول قول مجاهد وغيره: قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران فالمؤمنان سليمان بن داود وذو القرنين والكافران نمرود وبختنصر والله أعلم ومعنى قوله "ألم تر" أي بقلبك يا محمد "إلى الذي حاج إبراهيم في ربه" أي وجود ربه وذلك أنه أنكر أن يكون إله غيره كما قال بعده فرعون لملئه "ما علمت لكم من إله غيري" وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره وطول مدته في الملك وذلك أنه يقال أنه مكث أربعمائة سنة في ملكه ولهذا قال "أن أتاه الله الملك" وكان طلب من إبراهيم دليلا على وجود الرب الذي يدعو إليه فقال إبراهيم "ربي الذي يحيي ويميت" أي إنما الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها وعدمها بعد وجودها وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له. فعند ذلك قال المحاج وهو النمرود "أنا أحيي وأميت" قال قتادة ومحمد بن إسحق والسدي وغير واحد وذلك أني أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل فذلك معنى الإحياء والإماتة والظاهر والله أعلم أنه ما أراد هذا لأنه ليس جوابا لما قال إبراهيم ولا في معناه لأنه مانع لوجود الصانع وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عنادا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت كما اقتدى به فرعون في قوله "ما علمت لكـم من إله غيري" ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة "فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب" أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق فإن كنت إلها كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب؟ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي أخرس فلا يتكلم وقامت عليه الحجة قال الله تعالى "والله لا يهدي القوم الظالمين" أي لا يلهمهم حجة ولا برهانا بل حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه ومنهم من قد يطلق عبارة ترديه وليس كما قالوه بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ويبين بطلان ما ادعاه نمرود في الأول والثاني ولله الحمد والمنة وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة وروى عبدالرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم أن النمرود كان عنده طعام وكان الناس يغدون إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس بل خرج وليس معه شيء من الطعام فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه وقال أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاما طيبا فعملت طعاما فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال: أنى لكم هذا؟ قالت: من الذي جئت به فعلم أنه رزق رزقهم الله عز وجل قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس وأرسل الله عليهم بابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة عذبه الله بها فكان يضرب برأسه بالمرازب في هذه المدة حتى أهلكه الله بها.

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ۖ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

📘 تقدم قوله تعالى "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه" وهو في قوة قوله هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه ولهذا عطف عليه بقوله "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها" اختلفوا في هذا المار من هو فروى ابن أبي حاتم عن عصام بن داود عن آدم بن أبي إياس عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي طالب أنه قال: هو عزير ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بريدة وهذا القول هو المشهور وقال وهب بن منبه وعبدالله بن عبيد هو أرميا بن حلقيا قال محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه أنه قال: وهو اسم الخضر عليه السلام وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال سمعت سليمان بن محمد اليساري الجاري من أهل الجاري ابن عم مطرف قال سمعت سلمان يقول إن رجلا من أهل الشام يقول إن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه اسمه حزقيل بن بوار وقال مجاهد بن جبر هو رجل من بني إسرائيل وأما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها "وهي خاوية" أي ليس فيها أحد من قولهم خوت الدار تخوي خويا. وقوله "على عروشها" أي ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال "أنى يحيي هذه الله بعد موتها" وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العودة إلى ما كانت عليه قال الله تعالى "فأماته الله مائة عام ثم بعثه" قال وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها وتراجع بنو إسرائيل إليها فلما بعثه الله عز وجل بعد موته كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه فلما استقل سويا قال الله له أي بواسطة الملك "كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم" قال وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر النهار فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال "أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه" وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما تقدم لم يتغير منه شيء لا العصير استحال ولا التين حمض ولا أنتن ولا العنب نقص "وانظر إلى حمارك" أي كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر "ولنجعلك آية للناس" أي دليلا على المعاد "وانظر إلى العظام كيف ننشزها" أي نرفعها فيركب بعضها على بعض وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نعيم عن إسماعيل بن حكيم عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ "كيف ننشزها" بالزاي ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقرئ "ننشرها" أي نحييها قاله مجاهد "ثم نكسوها لحما" وقال السدي وغيره تفرقت عظام حماره حوله يمينا ويسارا فنظر إليها وهي تلوح من بياضها فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارا قائما من عظام لا لحم عليها ثم كساها الله لحما وعصبا وعروقا وجلدا وبعث الله ملكا فنفخ في منخري الحمار فنهق كله بأذن الله عز وجل وذلك كله بمرأى من العزير فعند ذلك لما تبين له هذا كله "قال أعلم أن الله على كل شيء قدير" أي أنا عالم بهذا وقد رأيته عيانا فأنا أعلم أهل زماني بذلك وقرأ آخرون قال اعلم على أنه أمر له بالعلم.

۞ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ

📘 قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" وقوله "أو كصيب من السماء" الآيات الثلاث قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى "هم الخاسرون" وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" وقال سعيد عن قتادة أي إن الله لا يستحي من الحق أن يذكر شيئا مما قل أو كثر وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" قلت: العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية وليس كذلك وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب والله أعلم. وروى ابن جريج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة: وقال ابن أبي حاتم: رُوي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا أن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء" هكذا رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية بنحوه فالله أعلم فهذا اختلافهم في سبب النزول. وقد اختار ابن جرير ما حكاه السدي لأنه أمس بالسورة وهو مناسب ومعني الآية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحي أي لا يستنكف وقيل لا يخشي أن يضرب مثلا ما أي مثل كان بأي شيء كان صغيرا كان أو كبيرا وما هاهنا للتقليل وتكون بعوضة منصوبة على البدل كما تقول لأضربن ضربا ما فيصدق بأدنى شيء أو تكون ما نكرة موصوفة ببعوضة واختار ابن جرير أن ما موصولة وبعوضة معربة بإعرابها قال: وذلك سائغ في كلام العرب أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة ونكرة أخرى كما قال حسان بن ثابت: يكفي بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا قال ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار وتقدير الكلام إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلي ما فوقها وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء وقرأ الضحاك وإبراهيم بن عبلة بعوضة بالرفع قال ابن جني وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله "تماما على الذي أحسن" أي على الذي هو أحسن. وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئا. أي بالذي هو قائل لك شيئا وقوله تعالى "فما فوقها" فيه قولان أحدهما فما دونها في الصغر والحقارة كما إذا وصف لك رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك - يعني فيما وصفت - وهذا قول الكسائي وأبي عبيد قاله الرازي وأكثر المحققين. وفي الحديث "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافرا منها شربة ماء" والثاني فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة وهذا قول قتادة ابن دعامة واختيار ابن جرير فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" فأخبر أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة كما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله "يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب" وقال "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" وقال تعالى "ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء" وقال تعالى "ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء" الآية ثم قال "وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل" الآية كما قال "ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم" الآية. وقال "ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون" الآية. وقال "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وفي القرآن أمثال كثيرة. قال بعض السلف إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن الله قال "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وقال مجاهد في قوله تعالى "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ويهديهم الله بها. وقال قتادة "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله ورُوي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك وقال أبو العالية "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" يعني هذا المثل "وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا" كما قال في سورة المدثر "وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو" وكذلك قال هاهنا "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين" قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة يضل به كثيرا يعني به المنافقين ويهدي به كثيرا يعني به المؤمنين فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم وأنه لما ضرب له موافق فذلك إضلال الله إياهم به ويهدي به يعني المثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق لما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به وذلك هداية من الله لهم به "وما يضل به إلا الفاسقين" قال هم المنافقون وقال أبو العالية "وما يضل به إلا الفاسقين" قال هم أهل النفاق. وكذا قال ربيع بن أنس وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس "وما يضل به إلا الفاسقين" قال يقول يعرفه الكافرون فيكفرون به. وقال قتادة "وما يضل به إلا الفاسقين" فسقوا فأضلهم الله على فسقهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عن إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن سعد "يضل به كثيرا" يعني الخوارج.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

📘 ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام أسبابا منها أنه لما قال لنمرود "ربي الذي يحيي ويميت" أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك إلى عين اليقين وأن يرى ذلك مشاهدة فقال "رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي" فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي وكذا رواه مسلم عن حرملة بن يحيى عن وهب به فليس المراد ههنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده بلا خلاف وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة أحدها. وقوله "قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك" اختلف المفسرون في هذه الأربعة ما هي وإن كان لا طائل تحت تعيينها إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن فروي عن ابن عباس أنه قال هي الغرنوق والطاوس والديك والحمامة وعنه أيضا أنه أخذ وزا ورألا وهو فرخ النعام وديكا وطاوسا وقال: مجاهد وعكرمة كانت حمامة وديكا وطاوسا وغرابا وقوله "فصرهن إليك" أي وقطعهن قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو مالك وأبو الأسود الدؤلي ووهب ابن منبه والحسن والسدي وغيرهم وقال العوفي عن ابن عباس "فصرهن إليك" أوثقهن فلما أوثقهن ذبحهن ثم جعل على كل جبل منهن جزءا فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن ثم قطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض ثم جزأهن أجزاء وجعل على كل جبل منهن جزءا قيل أربعة أجبل وقيل سبعة قال ابن عباس: وأخذ رءوسهن بيده ثم أمره الله عز وجل أن يدعوهن فدعاهن كما أمره الله عز وجل فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش والدم إلى الدم واللحم إلى اللحم والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض حتى قام كل طائر على جدته وأتينه يمشين سعيا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام فإذا قدم له غير رأسه يأباه فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته ولهذا قال "واعلم أن الله عزيز حكيم" أي عزيز لا يغلبه شيء ولا يمتنع منه شيء وما شاء كان بلا ممانع لأنه القاهر لكل شيء حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب في قوله "ولكن ليطمئن قلبي" قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرجى عندي منها وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل عن سعيد بن المسيب قال: اتفق عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمرو بن العاص أن يجتمعا قال: ونحن شببة فقال أحدهما لصاحبه أي آية في كتاب الله أرجى عندك لهذه الأمة فقال عبدالله بن عمرو قول الله تعالى "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا" الآية فقال ابن عباس أما إن كنت تقول هذا فأنا أقول أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم "رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي" وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي حدثنا عبدالله بن صالح كاتب الليث حدثني محمد بن أبي سلمة عن عمرو حدثني ابن المنكدر أنه قال: التقى عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمرو بن العاص فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص أي آية في القرآن أرجى عندك؟ فقال عبدالله بن عمرو: قول الله عز وجل "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا" الآية فقال ابن عباس: لكن أنا أقول قول الله عز وجل "وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى" فرضي من إبراهيم قوله "بلى" قال فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان وهكذا رواه الحاكم في المستدرك عن أبي عبدالله محمد بن يعقوب بن الأحزم بن إبراهيم بن عبدالله السعدي عن بشر بن عمر الزهراني عن عبد العزيز بن أبي سلمة بإسناده مثله ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

📘 هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته وإن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فقال "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله" قال سعيد بن جبير يعني في طاعة الله وقال مكحول يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس الجهاد والحج يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف ولهذا قال الله تعالى "كـمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة" وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف قال الإمام أحمد: حدثنا زياد بن الربيع أبو خداش حدثنا واصل مولى ابن عيينة عن بشار بن أبي سيف الجرمي عن عياض بن غطيف قال: دخلنا على أبي عبيدة نعوده من شكوى أصابه بجنبه وامرأته نحيفة قاعدة عند رأسه قلنا كيف بات أبو عبيدة؟ قالت: والله لقد بات بأجر قال أبو عبيدة ما بت بأجر وكان مقبلا بوجهه على الحائط فأقبل على القوم بوجهه وقال ألا تسألوني عما قلت؟ قالوا ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فسبعمائة ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضا أو ماز أذى فالحسنة بعشر أمثالها والصوم جنة ما لم يخرقها ومن ابتلاه الله عز وجل ببلاء في جسده فهو له حطة وقد روى النسائي في الصوم بعضه من حديث واصل به ومن وجه آخر موقوقا. "حديث آخر" قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سليمان سمعت أبا عمرو الشيباني عن ابن مسعود أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة ورواه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن مهران عن الأعمش به ولفظ مسلم جاء رجل بناقة مخطومة فقال يا رسول الله هذه في سبيل الله فقال لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة. "حديث آخر" قال أحمد حدثنا عمرو بن مجمع أبو المنذر الكندي أخبرنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله جعل حسنة ابن آدم إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم والصوم لي وأنا أجزي به وللصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. "حديث آخر" قال أحمد أخبرنا وكيع أخبرنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله يقول الله إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه من أجلي وللصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك الصوم جنة الصوم جنة. وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي سعيد الأشج كلاهما عن وكيع به. "حديث آخر" قال أحمد حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن الدكين عن بشر بن عميلة عن حريم بن وائل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنفق نفقة في سبيل الله تضاعفت بسبعمائة ضعف. "حديث آخر" قال أبو داود أنبأنا محمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن يحيى بن أيوب وسعيد بن أبي أيوب عن زبان بن فائد عن سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف. "حديث آخر" قال ابن أبي حاتم: أنبأنا أبي حدثنا هارون بن عبدالله بن مروان حدثنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبدالله عن الحسن عن عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة ومن غزا في سبيل الله وأنفق في جهة ذلك فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الآية "والله يضاعف لمن يشاء" وهذا حديث غريب وقد تقدم حديث أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة في تضعيف الحسنة إلى ألفي ألف حسنة عند قوله "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة" الآية. "حديث آخر" قال ابن مردويه: حدثنا عبدالله بن عبيد الله بن العسكري البزار أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب أخبرنا محمود بن خالد الدمشقي أخبرنا أبي عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر لما نزلت هذه الآية "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله" قال النبي - صلى الله عليه وسلم - رب زد أمتي قال فأنزل الله "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" قال رب زد أمتي قال فأنزل الله "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" وقد رواه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه عن حاجب بن أركين عن أبي عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز المقري عن أبي إسماعيل المؤدب عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر فذكره وقوله ههنا "والله يضاعف لمن يشاء" أي بحسب إخلاصه في عمله "والله واسع عليم" أي فضله واسع كثير أكثر من خلقه عليم بمن يستحق ومن لا يستحق سبحانه وبحمده.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

📘 يمدح تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من أعطوه فلا يمنون على أحد ولا يمنون به لا بقول ولا فعل. وقوله "ولا أذى" أي لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحيطون به ما سلف من الإحسان ثم وعدهم الله تعالى الجزاء الجزيل على ذلك فقال "لهم أجرهم عند ربهم" أي ثوابهم على الله لا على أحد سواه "ولا خوف عليهم" أي فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة "ولاهم يحزنون" أي على ما خلفوه من الأولاد ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها لا يأسفون عليها لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك.

۞ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ

📘 ثم قال تعالى "قول معروف" أي من كلمة طيبة ودعاء لمسلم "ومغفرة" أي عفو وغفر عن ظلم قولي أو فعلي "خير من صدقة يتبعها أذى" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن فضيل قال: قرأت على معقل بن عبدالله عن عمرو بن دينار قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من صدقة أحب إلى الله من قول معروف ألم تسمع قوله "قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني" عن خلقه "حليم" أي يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة ففي صحيح مسلم من حديث شعبة عن الأعمش عن سليمان بن مسهر عن خرشة بن الحر عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى والمسبل إزاره والمنفق سلعته بالحلف الكاذب وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى أخبرنا عثمان بن محمد الدوري أخبرنا هشيم بن خارجة أخبرنا سليمان بن عقبة عن يونس بن ميسرة عن أبي إدريس عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا مدمن خمر ولا مكذب بقدر. وروى أحمد وابن ماجه من حديث يونس بن ميسرة نحوه ثم روى ابن مردويه وابن حبان والحاكم في مستدركه والنسائي من حديث عبدالله بن يسار الأعرج عن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان بما أعطى وقد روى النسائي عن مالك بن سعد عن عمه روح بن عبادة عن عتاب بن بشير عن خصيف الجراري عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق لوالديه ولا منان وقد رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن المنهال عن محمد بن عبدالله بن عصار الموصلي عن عتاب عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس ورواه النسائي من حديث عبد الكريم بن مالك الحوري عن مجاهد قوله وقد روي عن مجاهد عن أبي سعيد وعن مجاهد عن أبي هريرة نحوه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ

📘 وقد روى النسائي عن مالك بن سعد عن عمه روح بن عبادة عن عتاب بن بشير عن خصيف الجراري عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق لوالديه ولا منان وقد رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن المنهال عن محمد بن عبدالله بن عصار الموصلي عن عتاب عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس ورواه النسائي من حديث عبد الكريم بن مالك الحوري عن مجاهد قوله وقد روي عن مجاهد عن أبي سعيد وعن مجاهد عن أبي هريرة نحوه ولهذا قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى" فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى فما بقي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى ثم قال تعالى "كالذي ينفق ماله رئاء الناس" أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كما تبطل صدقة من راءى بها الناس فأظهر لهم أنه يريد وجه الله وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكر بين الناس أو يقال إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ولهذا قال "ولا يؤمن بالله واليوم الآخر" ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه قال الضحاك: والذي يتبع نفقته منا أو أذى فقال "فمثله كمثل صفوان" وهو جمع صفوانة فمنهم من يقول الصفوان يستعمل مفردا. أيضا وهو الصفا وهو الصخر الأملس "عليه تراب فأصابه وابل" هو المطر الشديد "فتركه صلدا" أي فترك الوابل ذلك الصفوان صلدا أي أملس يابسا أي لا شيء عليه من ذلك التراب بل قد ذهب كله أي وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب ولهذا قال "لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين".

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

📘 وهذا مثل المؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضات الله عنهم في ذلك "وتثبيتا من أنفسهم" أي وهم متحققون ومتثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ونظير هذا في المعنى قوله عليه السلام في الحديث الصحيح المتفق على صحته من صام رمضان إيمانا واحتسابا أي يؤمن أن الله شرعه ويحتسب عند الله ثوابه قال الشعبي: "وتثبيتا من أنفسهم" أي تصديقا ويقينا وكذا قال قتادة وأبو صالح وابن زيد واختاره ابن جرير وقال مجاهد والحسن أي يتثبتون أين يضعون صدقاتهم. وقوله "كمثل جنة بربوة" أي كمثل بستان بربوة وهو عند الجمهور المكان المرتفع من الأرض وزاد ابن عباس والضحاك وتجري فيه الأنهار قال ابن جرير رحمه الله: وفي الربوة ثلاث لغات هن ثلاث قراءات بضم الراء وبما قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق وفتحها وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة ويقال إنها لغة تميم وكسر الراء ويذكر أنها قراءة ابن عباس. وقوله "أصابها وابل" وهو المطر الشديد كما تقدم فآتت "أكلها" أي ثمرتها "ضعفين" أي بالنسبة إلى غيرها من الجنان "فإن لم يصبها وابل فطل" قال الضحاك هو الرذاذ وهو اللين من المطر أي هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبدا لأنها إن لم يصبها وابل فطل وأيا ما كان فهو كفايتها وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدا بل يتقبله الله ويكثره وينميه كل عامل بحسبه ولهذا قال "والله بما تعملون بصير" أي لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء.

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ

📘 قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام هو ابن يوسف عن ابن جريج سمعت عبدالله بن أبي مليكة يحدث عن ابن عباس وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عمير قال: قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن ترون هذه الآية نزلت؟ "أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب" قالوا: الله أعلم فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك فقال ابن عباس رضي الله عنهما ضربت مثلا بعمل قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله ثم رواه البخاري عن الحسن بن محمد الزعفراني عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج فذكره وهو من أفراد البخاري رحمه الله وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولا ثم بعد ذلك انعكس سيره فبدل الحسنات بالسيئات عياذا بالله من ذلك فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال فلم يحصل منه شيء وخانه أحوج ما كان إليه ولهذا قال تعالى "وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار" وهو الريح الشديد "فيه نار فاحترقت" أي أحرق ثمارها وأباد أشجارها فأي حال يكون حاله؟ وقد روى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: ضرب الله مثلا حسنا وكل أمثاله حسن قال "أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات" يقول ضيعة في شيبته "وأصابه الكبر" وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره فجاءه "إعصار فيه نار" فاحترق بستانه فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه وكذلك الكافر يكون يوم القيامة إذ رد إلى الله عز وجل ليس له خير فيستعتب كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه كما لم يغن عن هذا ولده وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه حرم هذا جنته عندما كان أفقر ما كان إليها عند كره وضعف ذريته وهكذا روى الحاكم في مستدركه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري ولهذا قال تعالى "كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون" أي تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني وتنزلونها على المراد منها كما قال تعالى "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ

📘 يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق والمراد به الصدقة ههنا قاله ابن عباس من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها قال مجاهد: يعني التجارة بتيسيره إياها لهم وقال علي والسدي "من طيبات ما كسبتم" يعني الذهب والفضة ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض قال ابن عباس أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ولهذا قال "ولا تيمموا الخبيث" أي تقصدوا الخبيث "منه تنفقون ولستم بآخذيه" أي لو أعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتغاضوا فيه فالله أغنى عنه منكم فلا تجعلوا لله ما تكرهون وقيل معناه "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" أي لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد حدثنا إسحق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم لأن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه - قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: غشه وظلمه ولا يكسب عبد مالا من حرام فينقق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث. والصحيح القول الأول قال ابن جرير رحمه الله: حدثنا الحسين بن عمر العبقري حدثني أبي عن أسباط عن السدي عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - في قول الله "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" الآية قال: نزلت في الأنصار كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأكل فقراء المهاجرين منه فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع قناء البسر يظن أن ذلك جائز فأنزل الله فيمن فعل ذلك "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" ثم رواه ابن جرير وابن ماجه وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طريق السدي عن عدي بن ثابت عن البراء بنحوه وقال الحاكم صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن السدي عن أبي مالك عن البراء - رضي الله عنه - "ولا تيمموا الخبيث منهم تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" قال: نزلت فينا كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه فسقط منه البسر والتمر فيأكل وكان أناس منه لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه فنزلت "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" قال لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده وكذا رواه الترمذي عن عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي عن عبيد الله هو ابن موسى العبسي عن إسرائيل عن السدي وهو إسماعيل بن عبدالرحمن عن أبي مالك الغفاري واسمه غزوان عن البراء فذكر نحوه ثم قال وهذا حديث حسن غريب وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد حدثنا سليمان بن كثير عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لونين من التمر الجعرور والحبيق وكان الناس يتيممون شرار ثمارهم ثم يخرجونها في الصدقة فنزلت "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين عن الزهري ثم قال أسنده أبو الوليد عن سليمان بن كثير عن الزهري ولفظه نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذ في الصدقة وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حميد اليحصبي عن الزهري عن أبي أمامة ولم يقل عن أبيه فذكر نحوه وكذا رواه ابن وهب عن عبد الجليل وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن عبدالله بن مغفل في هذه الآية "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" قال كسب المسلم لا يكون خبيثـا ولكن لا يصدق بالحشف والدرهم الزيف وما لا خير فيه وقال الإمام أحمد: حدثنا أبـو سعيد حدثنا حماد بن سلمة عن حماد هو ابن سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضب فلم يأكله ولم ينه عنه قلت: يا رسول الله نطعمه المساكين قال لا تطعموهم مما لا تأكلون ثم رواه عن عفان عن حماد بن سلمة به فقلت يا رسول الله ألا أطعمه المسكين؟ قال لا تطعموهم مما لا تأكلون وقال الثوري: عن السدي عن أبي مالك عن البراء "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" يقول لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه؟ رواه ابن جرير وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" يقول لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه قال فذلك قوله "إلا أن تغمضوا فيه" فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه؟ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد وهو قوله "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" ثم روى من طريق العوفي وغيره عن ابن عباس نحو ذلك وكذا ذكره غير واحد. وقوله "واعلموا أن الله غني حميد" أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها وما ذاك إلا أن يساوي الغني الفقير كقوله "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" وهو غني عن جميع خلقه وجميع خلقه فقراء إليه وهو واسع الفضل لا ينقذ ما لديه فمن تصدق بصدقة من كسب طيب فليعلم أن الله غني واسع العطاء كريم جواد وسيجزيه بها ويضاعفها له أضعافا كثيرة من يقرض غير عديم ولا ظلوم وهو الحميد أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره لا إله إلا هو ولا رب سواه.

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

📘 قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشا والله يعدكم مغفرة منه وفضلا" الآية وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننهما جميعا عن هناد بن السري وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى الموصلي عن هناد به وقال الترمذي: حسن غريب وهو حديث أبي الأحوص يعني سلام بن سليم لا نعرفه مرفوعا إلا من حديثه كذا قال: وقد رواه أبو بكر بن مردويه في تفسره عن محمد بن أحمد عن محمد بن عبدالله بن مسعود مرفوعا نحوه ولكن رواه مسعر عن عطاء بن السائب عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة عن ابن مسعود فجعله من قوله والله أعلم ومعنى قوله تعالى "الشيطان يعدكم" أي يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله "ويأمركم بالفحشاء" أي مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاق قال تعالى "والله يعدكم مغفرة منه" أي في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء "وفضلا" أي في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر "والله واسع عليم".

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ

📘 وقوله "يؤتي الحكمة من يشاء" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا الحكمة القرآن يعني تفسره قال ابن عباس فإنه قد قرأه البر والفاجر رواه ابن مردويه وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد يعني بالحكمة الإصابة في القول وقال: ليث بن أبي سليم عن مجاهد "يؤتي الحكمة من يشاء" ليست بالنبوة ولكنه العلم والفقه والقرآن وقال أبو العالية: الحكمة خشية الله فإن خشية الله رأس كل حكمة وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن عثمان بن زفر الجهني عن أبي عمار الأسدي عن ابن مسعود مرفوعا رأس الحكمة مخافة الله وقال أبو العالية في رواية عنه الحكمة الكتاب والفهم وقال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم وقال أبو مالك: الحكمة السنة وقال ابن وهب عن مالك قال زيد بن أسلم: الحكمة العقل قال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا إذا نظر فيها وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه عالما بأمر دينه بصيرا به يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا فالحكمة الفقه في دين الله وقال السدي: الحكمة النبوة والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة والرسالة أخص ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع كما جاء في بعض الأحاديث من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه رواه وكيع بن الجراح في تفسيره عن إسماعيل بن رافع عن رجل لم يسمه عن عبدالله بن عمر وقوله وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ويزيد قالا: حدثنا إسماعيل يعني ابن أبي خالد عن قيس وهو ابن أبي حازم عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق متعددة عن إسماعيل بن أبي خالد به وقوله "وما يذكر إلا أولو الألباب" أي وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل يعني به الخطاب ومعنى الكلام.

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

📘 وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد قال: سألت أبي فقلت قوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" إلى آخر الآية فقال: هم الحرورية وهذا الإسناد وإن صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فهو تفسير على المعنى لا أن الآية أريد منها التنصيص على الخوارج الذين خرجوا على علي بالنهروان فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الآية وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل لأنهم سموا خوارج لخروجهم عن طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام والفاسق في اللغة هو الخارج عن الطاعة أيضا. وتقول العرب فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها ولهذا يقال للفأرة فويسقة لخروجها عن جحرها للفساد. وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" فالفاسق يشمل الكافر والعاصي ولكن فسق الكافر أشد وأفحش والمراد من الآية الفاسق الكافر والله أعلم بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون" وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين كما قال تعالى في سورة الرعد "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب" الآيات إلى أن قال "والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار" وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به وقال آخرون بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا. وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان. وقال آخرون بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله الشاهدة لهم على صدقهم قالوا ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق. ورُوي عن مقاتل بن حيان أيضا نحو هذا وهو حسن وإليه مال الزمخشري فإنه قال فإن قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم وهو معنى قوله تعالى "وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" إذا أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" وقال آخرون العهد الذي ذكره تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله "وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا" الآيتين. ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به وهكذا ُروي عن مقاتل بن حيان أيضا حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه - إلى قوله - أولئك هم الخاسرون" قال هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا وإذا وعدوا أخلفوا وإذا اؤتمنوا خانوا ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث إذا حدثوا كذبوا وإذا وعدوا أخلفوا وإذا اؤتمنوا خانوا. وكذا قال الربيع بن أنس أيضا وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" قال هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه. وقوله "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" قيل المراد به صلة الأرحام والقرابات كما فسره قتادة كقوله تعالى "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم" ورجحه ابن جرير وقيل المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه. وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى "أولئك هم الخاسرون" قال في الآخرة وهذا كما قال تعالى "أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار" وقال الضحاك عن ابن عباس كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر فإنما يعني به الكفر وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب. وقال ابن جرير في قوله تعالى "أولئك هم الخاسرون" الخاسرون جمع خاسر وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته يقال منه خسر الرجل يخسر خسرا وخسرانا وخسارا كما قال جرير بن عطية: إن سليطا في الخسار أنه أولاد قوم خلقوا أقنه

وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ۗ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ

📘 يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده وتوعد من لا يعمل بطاعته بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره فقال "وما للظالمين من أنصار" أي يوم القيامة ينقذونهم من عذاب الله ونقمته.

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

📘 وقوله "إن تبدوا الصدقات فنعما هي" أي إن أظهرتموها فنعم شيء هي. وقوله "وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم" فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها لأنه أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة والأصل أن الإسرار أفضل لهذه الآية ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم - قال لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال فقالت: يا رب هل في خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال نعم الحديد قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد قال: نعم النار قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم الماء قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم الريح قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم ابن آدم يتصدق بيمنه فيخفيها من شماله وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال سر إلى فقير أو جهد من مقل ورواه أحمد ورواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن أبي ذر فذكره وزاد ثم شرع في هذه الآية "إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم" الآية وفي الحديث المروي صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب أنا موسى بن عمير عن عامر الشعبي في قوله "إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم" قال: أنزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر قال: خلفت لهم نصف مالي وأما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟ فقال عدة الله وعدة رسوله فبكى عمر رضي الله عنه وقال بأبي أنت وأمي يا أبا بكر والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا وهذا الحديث روي من وجه آخر عن عمر - رضي الله عنه - وإنما أوردناه ههنا لقول الشعبي إن الآية نزلت في ذلك ثم إن الآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل سواء كانت مفروضة أو مندوبة لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها يقال بسبعين ضعفا وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفا. وقوله "ويكفر عنكم من سيئاتكم" أي بدل الصدقات ولا سيما إذا كانت سرا يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات وقد قرئ ويكفر بالجزم عطفا على محل جواب الشرط وهو قوله "فنعما هي" كقوله فأصدق وأكون وأكن وقوله "والله بما تعملون خبير" أي لا يخفى عليه من ذلك شيء وسيجزيكم عليه.

۞ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ

📘 قال أبو عبدالرحمن النسائي: أنبأنا محمد بن عبدالسلام بن عبدالرحيم أنبأنا الفريابي حدثنا سفيان عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا فرخص لهم فنزلت هذه الآية "ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون" وكذا رواه أبو حذيفة وابن المبارك وأبو أحمد الزبيري وأبو داود الحضرمي عن سفيان وهو الثوري به وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا أحمد بن القاسم بن عطية حدثني أحمد بن عبدالرحمن يعني الدشتكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن إسحق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية "ليس عليك هداهم" إلى آخرها فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين وسيأتي عند قوله تعالى "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم" الآية حديث أسماء بنت الصديق في ذلك وقوله "وما تنفقوا من خير فلأنفسكم" كقوله "من عمل صالحا فلنفسه" ونظائرها في القرآن كثيرة وقوله "وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله" قال الحسن البصري: نفقة المؤمن لنفسه ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء وجه الله وقال عطاء الخراسانى: يعني إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله وهذا معنى حسن وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجره على الله ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب البر أو فاجر أو مستحق أو غيره وهو مثاب على قصده ومستند هذا تمام الآية "وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون" والحديث المخرج في الصحيحين من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبح الناس يتحدثون تصدق على زانية فقال: اللهم لك الحمد على زانية لأتصدقن الليلة بصدقة فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على غني قال: اللهم لك الحمد على غني لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على سارق فقال: اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق فأتى فقيل له أما صدقتك فقد قبلت وأما الزانية فلعلها أن تستعفف بها عن زنا ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته.

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ

📘 وقوله "للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" يعني المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم "ولا يستطيعون ضربا في الأرض" يعني سفرا للتسبب في طلب المعاش والضرب في الأرض هو السفر قال الله تعالى "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" وقال تعالى "علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله" الآية. وقوله "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف" أي الجاهل بأمرهم وحالهم يحسبهم أغنياء من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان والأكلة والأكلتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا وقد رواه أحمد من حديث ابن مسعود أيضا. وقوله "تعرفهم بسيماهم" أي بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى "سيماهم في وجوههم" وقال "ولتعرفنهم في لحن القول" وفي الحديث الذي في السنن "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ "إن في ذلك لآيات للمتوسمين". وقوله "لا يسألون الناس إلحافا" أي لا يلحون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة فقد ألحف في المسألة قال البخاري حدثنا ابن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شريك بن أبي نمر أن عطاء بن يسار وعبدالرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف اقرءوا إن شئتم يعني قوله "لا يسألون الناس إلحافا" وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن جعفر المديني عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر عن عطاء بن يسار وحده عن أبي هريرة به وقال أبو عبدالرحمن النسائي: أخبرنا علي بن حجر حدثنا إسماعيل أخبرنا شريك وهو ابن أبي نمر عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرءوا إن شئتم "لا يسألون الناس إلحافا" وروى البخاري من حديث شعبة عن محمد بن أبي زياد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نحوه وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبدالأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن أبي الوليد عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليس المسكين بالطواف عليكم فتطعمونه لقمة لقمة إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا وقال ابن جرير: حدثني معتمر عن الحسن بن مالك عن صالح بن سويد عن أبي هريرة قال: ليس المسكين بالطواف الذي ترده الأكلة والأكلتان ولكن المسكين المتعفف في بيته لا يسأل الناس شيئا تصيبه الحاجة اقرءوا إن شئتم "لا يسألون الناس إلحافا" وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رجل من مزينة أنه قالت له أمه ألا تنطلق فتسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يسأله الناس فانطلقت أسأله فوجدته قائما يخطب وهو يقول "ومن استعف أعفه الله ومن استغنى أغناه الله ومن يسأل الناس له عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا" فقلت بيني وبين نفسي لِناقةٍ له خير من خمس أواق لغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق فرجعت ولم أسأل وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة حدثنا عبدالرحمن بن أبي الرجال عن عمارة بن عرفة عن عبدالرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال: سرحتني أمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فأتيته فقعدت قال: فاستقبلني فقال من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله ومن استكف كفاه الله ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف قال فقلت ناقتي الياقوتة خير من أوقية فرجعت فلم أسأله وهكذا رواه أبو داود والنسائي كلاهما عن قتيبة زاد أبو داود وهشام بن عمار كلاهما عن عبدالرحمن بن أبي الرجال بإسناده نحوه وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا عبدالرحمن بن أبي الرجال عن عمارة بن عرفة عن عبدالرحمن بن أبي سعيد قال: قال أبو سعيد الخدري قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سأل وله قيمة أوقية فهو ملحف والأوقية أربعون درهما وقال أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبدالرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خـدوشا أو كدوحا في وجهه قالوا: يا رسول الله وما غناه؟ قال: خمسون درهما أو حسابها من الذهب وقد رواه أهل السنن الأربعة من حديث حكيم بن جبير الأسدي الكوفي وقد تركه شعبة بن الحجاج وضعفه غير واحد من الأئمة من جراء هذا الحديث وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي حدثنا أبو حسين عبدالله بن أحمد بن يونس حدثني أبي حدثنا أبو بكر بن عياش عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال: بلغ الحارث رجلا كان بالشام من قريش أن أبا ذر كان به عوز فبعث إليه ثلاثمائة دينار فقال: ما وجد عبدالله رجلا أهون عليه مني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من سأل وله أربعون فقد ألحف ولآل أبي ذر أربعون درهما وأربعون شاة وما هنان قال أبو بكر بن عياش: يعني خادمين وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم أخبرنا إبراهيم بن محمد أنبأنا عبدالجبار أخبرنا سفيان عن داود بن شابور عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من سأل وله أربعون درهما فهو ملحف وهو مثل سف الملة يعني الرمل ورواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن أحمد بن آدم عن سفيان وهو ابن عيينة بإسناده نحوه قوله "وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم" أي لا يخفى عليه شيء منه وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

📘 هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل أو نهار والأحوال من سر وجهار حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضا كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لسعد بن أبي وقاص حين عاده مريضا عام الفتح وفى رواية عام حجة الوداع وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى ما تجعل في في امرأتك وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وبهز قالا: حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت قال: سمعت عبدالله بن يزيد الأنصاري يحدث عن أبي مسعود رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة أخرجاه من حديث شعبة به وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا سليمان بن عبدالرحمن حدثنا محمد بن شعيب قال: سمعت سعيد بن يسار عن يزيد بن عبدالله بن عريب المليكي عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال نزلت هذه الآية "الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم" في أصحاب الخيل وقال حنش الصنعاني: عن ابن شهاب عن ابن عباس في هذه الآية قال: هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله رواه ابن أبي حاتم ثم قال: وكذا روي عن أبي أمامة وسعيد بن المسيب ومكحول وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج أخبرنا يحيى بن يمان عن عبدالوهاب بن مجاهد عن ابن جبير عن أبيه قال: كان لعلي أربعة دراهم فأنفق درهما ليلا ودرهما نهارا ودرهما سرا ودرهما علانية فنزلت "الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية" وكذا رواه ابن جرير من طريق عبدالوهاب بن مجاهد وهو ضعيف لكن رواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب وقوله "فلهم أجرهم عند ربهم" أي يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" تقدم تفسيره.

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

📘 لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات المخرجين الزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم فقال "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له وذلك أنه يقوم قياما منكرا وقال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق رواه ابن أبي حاتم قال وروي عن عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك وحكي عن عبدالله بن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: في قوله "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" يعني لا يقومون يوم القيامة وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد والضحاك وابن زيد وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حنيف عن أبي عبدالله بن مسعود عن أبيه أنه كان يقرأ: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة" وقال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا ربيعة بن كلثوم حدثنا أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب وقرأ "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" وذلك حين يقوم من قبره وفي حديث أبي سعيد في الإسراء كما هو مذكور في سورة سبحان أنه عليه السلام مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت فسأل عنهم فقيل: هؤلاء أكلة الربا رواه البيهقي مطولا وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات تجري من خارج بطونهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان كلاهما عن حماد بن سلمة به وفى إسناده ضعف وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجرا وذكر في نفسه أنه آكل الربا. وقوله "ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا" أي إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه وليس هذا قياسا منهم للربا على البيع لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع وإنما قالوا "إنما البيع مثل الربا" أى هو نظيره فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع أي هذا مثل هذا وقد أحل هذا وحرم هذا يحتمل أن يكون من تمام الكلام ردا عليهم أي على ما قالوه من الاعتراض مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع عباده فيبيحه لهم وما يضرهم فينهاهم عنه وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل ولهذا قال "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله" أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله "عفا الله عما سلف" وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين وأول ربا أضع ربا العباس ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية عفا عما سلف كما قال تعالى "فله ما سلف وأمره إلى الله" قال سعيد بن جبير والسدي: فله ما سلف ما كان أكل من الربا قبل التحريم وقال ابن أبي حاتم قرأ علي محمد بن عبدالله بن عبدالحكم أخبرنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن أبي إسحق الهمداني عن أم يونس يعني امرأته العالية بنت أبقع أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت لها أم بحنة أم ولد زيد بن أرقم يا أم المؤمنين أتعرفين زيد بن أرقم قالت: نعم قالت: فإني بعته عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة فقالت: بئس ما اشتريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطل إن لم يتب قالت: فقلت أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة قالت: نعم "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف" وهذا الأثر مشهور وهو دليل لمن حرم مسألة العينة مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة المقررة في كتاب الأحكام ولله الحمد والمنة ثم قال تعالى "من عاد" أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحجة ولهذا قال "فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" وقد قال أبو داود: حدثنا يحيى أبو داود حدثنا يحيى بن معين أخبرنا عبدالله بن رجاء المكي عن عبدالله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير عن جابر قال: لما نزلت "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي خيثم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض والمزابنة وهي اشتراء الرطب في رءوس النخل بالتمر على وجه الأرض والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسما لمادة الربا لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقه المفاضلة ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم وقد قال تعالى "وفوق كل ذي علم عليم" وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ثلاث وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه: الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا - يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله لأن ما أفضى إلى الحرام حرام كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه وفي السنن عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وفي الحديث الآخر الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس وفي رواية استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك وقال الثوري عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس قال: آخر ما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية الربا رواه البخاري عن قبيصة عنه وقال أحمد عن يحيى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر قال من آخر ما نزل آية الربا وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة وقال: رواه ابن ماجه وابن مردويه عن طريق هياج بن بسطام عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا وإنه قد مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم وقد قال ابن أبي عدي بالإسناد موقوفا فذكره ورده الحاكم في مستدركه وقد قال ابن ماجه حدثنا عمرو بن علي الصيرفي حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن زبيد عن إبراهيم عن مسروق عن عبدالله هو ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الربا ثلاثة وسبعون بابا ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عمرو بن علي الفلاس بإسناد مثله وزاد أيسرها أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال ابن ماجه حدثنا عبدالله بن سعيد حدثنا عبدالله بن إدريس عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الربا سبعون جزءا أيسرها أن ينكح الرجل أمه وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم عن عباد بن راشد عن سعيد بن أبي خيرة حدثنا الحسن منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا قال قيل له الناس كلهم؟ قال من لم يأكله ناله من غباره وكذا روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن به ومن هذا القبيل تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد فقرأهن فحرم التجارة في الخمر وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي من طرق عن الأعمش به وهكذا لفظ رواية البخاري عند تفسير هذه الآية فحرم التجارة وفي لفظ له عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات من أخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس ثم حرم التجارة في الخمر قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك كما قال عليه السلام في الحديث المتفق عليه لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما عند لعن المحلل في تفسيره قوله "حتى تنكح زوجا غيره" قوله - صلى الله عليه وسلم - لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه قالوا وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا فالاعتبار بمعناه لا بصورته لأن الأعمال بالنيات وفي الصحيح "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" وقد صنف الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية كتابا في إبطال التحليل تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل وقد كفى في ذلك وشفى فرحمه الله ورضي عنه.

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ

📘 يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة كما قال تعالى "قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث" وقال تعالى: "ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم" وقال "وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله" الآية وقال ابن جرير: في قوله "يمحق الله الربا" وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا حجاج حدثنا شريك عن الركين بن الربيع عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل وقد رواه ابن ماجه عن العباس بن جعفر عن عمرو بن عون عن يحيى بن زائدة عن إسرائيل عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قل وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود كما قال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا الهيثم بن نافع الظاهري حدثني أبو يحيى رجل من أهل مكة عن فروخ مولى عثمان أن عمر وهو يومئذ أمير المؤمنين خرج من المسجد فرأى طعاما منشورا فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: طعام جلب إلينا قال: بارك الله فيه وفيمن جلبه قيل يا أمير المؤمنين إنه قد احتكر قال: من احتكره؟ قالوا فروخ مولى عثمان وفلان مولى عمر فأرسل إليهما فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا: يا أمير المؤمنين نشتري بأموالنا ونبيع فقال عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام فقال فروخ عند ذلك أعاهد الله وأعاهدك أن لا أعود في طعام أبدا وأما مولى عمر فقال إنما نشتري بأموالنا ونبيع قال أبو يحيى فلقد رأيت مولى عمر مجذوما ورواه ابن ماجه من حديث الهيثم بن رافع به ولفظه من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس والجذام. وقوله "ويربي الصدقات" قرئ بضم الياء والتخفيف من ربا الشيء يربو وأرباه يربيه أي كثره ونماه ينميه وقرئ يربي بالضم والتشديد من التربية قال البخاري حدثنا عبدالله بن كثير أخبرنا كثير سمع أبا النضر حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل كذا رواه في كتاب الزكاة وقال في كتاب التوحيد وقال خالد بن مخلد بن سليمان بن بلال عن عبدالله بن دينار فذكر بإسناده نحوه وقد رواه مسلم في الزكاة عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن خالد بن مخلد فذكره وقال البخاري: ورواه مسلم بن أبي مريم وزيد بن أسلم وسهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت أما رواية مسلم بن أبي مريم فقد تفرد البخاري بذكرها وأما طريق زيد بن أسلم فرواها مسلم في صحيحه عن أبي الطاهر بن السرح عن أبي وهب عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم به وأما حديث سهيل فرواه عن قتيبة عن يعقوب بن عبدالرحمن عن سهيل به والله أعلم قال البخاري وقال ورقاء عن ابن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي عن الحاكم وغيره عن الأصم عن العباس المروزي عن أبي الزناد هاشم بن القاسم عن ورقاء وهو ابن عمر اليشكري عن عبدالله بن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل أحد وهكذا روى هذا الحديث مسلم والترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث بن سعد عن سعيد المقبري وأخرجه النسائي من رواية مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري ومن طريق يحيى القطان عن محمد بن عجلان ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر فقال ابن أبي حاتم حدثنا عمرو بن عبدالله الأودي حدثنا وكيع عن عباد بن منصور حدثنا القاسم بن محمد قال سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله "يمحق الله الربا ويربي الصدقات" وكذا رواه أحمد عن وكيع وهو في تفسير وكيع ورواه الترمذي عن أبي كريب عن وكيع به وقال حسن صحيح وكذا رواه الترمذي عن عباد بن منصور به ورواه أحمد أيضا عن خلف بن الوليد عن ابن المبارك عن عبدالواحد بن ضمرة وعباد بن منصور كلاهما عن أبي نضرة عن القاسم به وقد رواه ابن جرير عن محمد بن عبدالملك بن إسحاق عن عبدالرزاق عن معمر عن أيوب عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله أو قال في كف الله حتى تكون مثل أحد فتصدقوا وهكذا رواه أحمد عن عبدالرزاق وهذا طريق غريب صحيح الإسناد ولكن لفظه عجيب والمحفوظ ما تقدم وروي عن عائشة أم المؤمنين فقال الإمام أحمد حدثنا عبدالصمد حدثنا حماد عن ثابت عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال البزار حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور حدثنا إسماعيل حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب ولا يقبل الله إلا الطيب فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه أو قال فصيله ثم قال لا نعلم أحدا رواه عن يحيى بن سعيد بن عمرة إلا أبا أويس. وقوله "والله لا يحب كل كفار أثيم" أي لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة فهو جحود لما عليه من النعمة ظلوم آثم يأكل أموال الناس بالباطل .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

📘 ثم قال تعالى مادحا للمؤمنين بربهم المطيعين أمره المؤدين شكره المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مخبرا عما أعد لهم من الكرامة وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون فقال "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

📘 يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه ناهيا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه فقال "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله" أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون "وذروا ما بقي من الربا" أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رءوس الأموال بعد هذا الإنذار "إن كنتم مؤمنين" أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك. وقد ذكر زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم فتشاوروا وقالت بنو المغيرة لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فكتب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" فقالوا نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا فتركوه كلهم وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار قال ابن جريج قال ابن عباس فأذنوا بحرب أي استيقنوا بحرب من الله ورسوله.

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ

📘 وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار قال ابن جريج قال ابن عباس فأذنوا بحرب أي استيقنوا بحرب من الله ورسوله وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب ثم قرأ "فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبدالأعلى حدثنا هشام بن حسان عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح وقال قتادة أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون وجعلهم بهرجا أين ما أتوا فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن أبي حاتم وقال الربيع بن أنس أوعد الله آكل الربا بالقتل رواه ابن جرير وقال السهيلي: ولهذا قالت عائشة لأم محبة مولاة زيد بن أرقم في مسألة العينة أخبريه أن جهاده مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أبطل إلا أن يتوب فخصت الجهاد لأنه ضد قوله "فأذنوا بحرب من الله ورسوله" قال وهذا المعنى ذكره كثير قال ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف. ثم قال الله تعالى "وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون" أي بأخذ الزيادة "ولا تظلمون" أي بوضع رءوس الأموال أيضا بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن الحسن بن إشكاب حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن شبيب بن غرقدة المبارقي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فقال "ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبدالمطلب موضوع كله". كذا وجده سليمان بن الأحوص وقد قال ابن مردويه حدثنا الشافعي حدثنا معاذ بن المثنى أخبرنا مسدد أخبرنا أبو الأحوص حدثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون". وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن عمرو هو ابن خارجة فذكره.

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

📘 يقول تعالى محتجا على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده كيف تكفرون بالله أي كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره "وكنتم أمواتا فأحياكم" أي وقد كنتم عدما فأخرجكم إلى الوجود كما قال تعالى "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون" وقال تعالى "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا" والآيات في هذا كثيرة وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه "قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا" قال هي التي في البقرة "وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم" وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: كنتم أمواتا فأحياكم أمواتا في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئا حتى خلقكم ثم يميتكم موتة الحق ثم يحييكم حين يبعثكم قال وهي مثل قوله تعالى "أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين": وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى "ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" قال كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ثم يميتكم فترجعون إلى القبور. فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى - فهذه ميتتان وحياتان فهو كقوله "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم" وهكذا رُوي عن السدي بسنده عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة وعن أبي العالية والحسن ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نحو ذلك وقال الثوري عن السدي عن أبي صالح "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون" قال يحييكم في القبر ثم يميتكم وقال ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: قال خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة. وذلك كقوله تعالى "قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" وهذا غريب والذي قبله. والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس وأولئك الجماعة من التابعين وهو كقوله تعالى "قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه"الآية كما قال تعالى في الأصنام "أموات غير أحياء وما يشعرون" الآية وقال "وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون".

وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

📘 يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء فقال "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين إما أن تقضي وإما أن تربي ثم يندب إلى الوضع عنه ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل فقال "وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون" أي وإن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك "فالحديث الأول" عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال الطبراني حدثنا عبدالله بن محمد بن شعيب المرجاني حدثنا يحيى بن حكيم المقوم حدثنا محمد بن بكر البرساني حدثنا عبدالله بن أبي زياد حدثني عاصم بن عبيدالله عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله فلييسر علي معسر أو ليضع عنه". "حديث آخر" عن بريدة قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبدالوارث حدثنا محمد بن جحادة عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول "من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة". قال ثم سمعته يقول "من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة" قلت سمعتك يا رسول الله تقول "من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة" ثم سمعتك تقول "من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة" قال "له بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثلاه صدقة". "حديث آخر" عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري قال أحمد حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا أبو جعفر الخطمي عن محمد بن كعب القرظي أن أبا قتادة كان له دين على رجل وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه فقال: نعم هو في البيت يأكل خزيرة فناداه فقال يا فلان اخرج فقد أخبرت أنك هاهنا فخرج إليه فقال ما يغيبك عني؟ فقال إني معسر وليس عندي شيء قال آلله إنك معسر؟ قال نعم فبكى أبو قتادة ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة". ورواه مسلم في صحيحه "حديث آخر" عن حذيفة بن اليمان قال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا الأخنس أحمد بن عمران حدثنا محمد بن فضيل حدثنا أبو مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال ماذا عملت لي في الدنيا؟ فقال ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها - قالها ثلاث مرات - قال العبد عند آخرها يارب إنك كنت أعطيتني فضل مال وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر قال فيقول الله عز وجل أنا أحق من ييسر ادخل الجنة" وقد أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه من طرق عن ربعي بن حراش عن حذيفة زاد مسلم وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه ولفظ البخاري حدثنا هشام بن عمار حدثنا يحيى بن حمزة حدثنا الزهري عن عبدالله بن عبدالله أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه". "حديث آخر" عن سهل بن حنيف قال الحاكم في مستدركه حدثنا أبو عبدالله محمد بن يعقوب حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى حدثنا أبو الوليد هشام بن عبدالملك حدثنا عمرو بن ثابت حدثنا عبدالله بن محمد بن عقيل عن عبدالله بن سهل بن حنيف أن سهلا حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من أعان مجاهدا في سبيل الله أو غازيا أو غارما في عسرته أو مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. "حديث آخر" عن عبدالله بن عمر قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد عن يوسف بن صهيب عن زيد العمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر" انفرد به أحمد "حديث آخر" عن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا أبو مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة أن رجلا أتى به الله عز وجل فقال ماذا عملت في الدنيا؟ فقال له الرجل ما عملت مثقال ذرة من خير فقال له ثلاثا وقال في الثالثة إني كنت أعطيتني فضلا من المال في الدنيا فكنت أبايع الناس فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر فقال تبارك وتعالى نحن أولى بذلك منك تجاوزوا عن عبدي فغفر له قال أبو مسعود هكذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا رواه مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به. "حديث آخر" عن عمران بن حصين قال الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر أخبرنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي داود عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة" غريب من هذا الوجه وقد تقدم عن بريدة نحوه. "حديث آخر" عن أبي اليسر كعب بن عمرو قال الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن عبدالملك بن عمير عن ربعي قال حدثني أبو اليسر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله" وقد أخرجه مسلم في صحيحه من وجه آخر من حديث عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه غلام له معه ضمامة من صحف وعلى أبي اليسر بردة ومعافري وعلى غلامه بردة ومعافري فقال له أبي يا عم إني أرى في وجهك سفعة من غضب قال أجل كان لي على فلان بن فلان الرامي مال فأتيت أهله فسلمت فقلت أثم هو؟ قالوا لا فخرج علي ابن له جفر فقلت أين أبوك؟ فقال سمع صوتك فدخل أريكة أمي فقلت اخرج إلي فقد علمت أين أنت فخرج فقلت ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك خشيت والله أن أحدثك فأكذبك أو أعدك فأخلفك وكنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت والله معسرا قال: قلت آلله قال: قلت آلله؟ آلله ثم قال فأتى بصحيفته فمحاها بيده ثم قال فإن وجدت قضاء فاقضني وإلا فأنت في حل فأشهد أبصر عيناي هاتان - ووضع أصبعيه على عينيه - وسمع أذناي هاتان ووعا - قلبي - وأشار إلى نياط قلبه - رسول اللـّه صلى الله عليه وسلم وهو يقول "من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله" وذكر تمام الحديث. "حديث آخر" عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال عبدالله بن الإمام أحمد حدثني أبو يحيى البزاز محمد بن عبدالرحمن حدثنا الحسن بن أسيد بن سالم الكوفي حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري عن هشام بن زياد القرشي عن أبيه عن محجن مولى عثمان عن عثمان قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "أظل الله عينا في ظله يوم لا ظل إلا ظله من أنظر معسرا أو ترك لغارم". "حديث آخر" عن ابن عباس قال الإمام أحمد حدثنا عبدالله بن يزيد حدثنا نوح بن جعونة السلمي الخراساني عن مقاتل بن حيان عن عطاء عن ابن عباس قال خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد وهو يقول بيده هكذا وأومأ أبو عبدالرحمن بيده إلى الأرض "من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من فيح جهنم ألا إن عمل الجنة حزن بربوة- ثلاثا - ألا إن عمل النار سهل بسهوة والسعيد من وقي الفتن وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا" تفرد به أحمد. "طريق آخر" قال الطبراني حدثنا أحمد بن محمد البوراني قاضي الحديبية من ديار ربيعة حدثنا الحسن بن علي الصدائي حدثنا الحكم بن الجارود حدثنا ابن أبي المتئد خال ابن عيينة عن أبيه عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من أنظر معسرا إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته".

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

📘 ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر ويحذرهم عقوبته: "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" وقد روي أن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن العظيم فقال ابن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال آخر ما نزل من القرآن كله "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" وعاش النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية تسع ليال ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول رواه ابن أبي حاتم وقد رواه ابن مردويه من حديث المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال آخر آية نزلت "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" وقد رواه النسائي من حديث يزيد النحوي عن عكرمة عن عبدالله بن عباس قال آخر شيء نزل من القرآن "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" وكذا رواه الضحاك والعوفي عن ابن عباس وروى الثوري عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال آخر آية نزلت "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" فكان بين نزولها وموت النبي - صلى الله عليه وسلم - واحد وثلاثون يوما. وقال ابن جريج قال ابن عباس آخر آية نزلت "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" الآية. قال ابن جريج يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاش بعدها تسع ليال وبدئ يوم السبت. ومات يوم الاثنين رواه ابن جرير ورواه ابن عطية عن أبي سعيد قال آخر آية نزلت "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ۖ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

📘 هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال حدثني سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه قال لما نزلت آية الدين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن أول من جحد آدم عليه السلام إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذار إلى يوم القيامة فجعل يعرض ذريته عليه فرأى فيهم رجلا يزهر فقال أي رب من هذا؟ قال هو ابنك داود قال أي رب كم عمره؟ قال ستون عاما قال رب زد في عمره قال لا إلا أن أزيده من عمرك وكان عمر آدم ألف سنة فزاده أربعين عاما فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة فلما احتضر آدم وأتته الملائكة قال إنه قد بقي من عمري أربعون عاما فقيل له إنك قد وهبتها لابنك داود قال ما فعلت فأبرز الله عليه الكتاب وأشهد عليه الملائكة" وحدثنا أسود بن عامر عن حماد بن سلمة فذكره وزاد فيه "فأتمها الله لداود مائة وأتمها لآدم ألف سنة". وكذا رواه ابن أبي حاتم عن يوسف بن أبي حبيب عن أبي داود الطيالسي عن حماد بن سلمة. هذا حديث غريب جدا وعلي بن زيد بن جدعان في أحاديثه نكارة وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه من حديث الحارث بن عبدالرحمن بن أبي وثاب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ومن رواية أبي داود بن أبي هند عن الشعبي عن أبي هريرة ومن طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومن حديث تمام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه. فقوله "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه" هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال "ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا" وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه" قال أنزلت في السلم إلى أجل معلوم وقال قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس قال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه ثم قرأ "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى". رواه البخاري وثبت في الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عبدالله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس. قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم" وقوله "فاكتبوه" أمر منه تعالى بالكتابة للتوثقة والحفظ فإن قيل فقد ثبت في الصحيحين عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة فالجواب أن الدين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلا لأن كتاب الله قد سهل الله ويسر حفظه على الناس والسنن أيضا محفوظة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس فأمروا أمر إرشاد لا أمر إيجاب كما ذهب إليه بعضهم قال ابن جريج من ادان فليكتب ومن ابتاع فليشهد وقال قتادة ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي كان رجلا صحب كعبا فقال ذات يوم لأصحابه هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له؟ فقالوا وكيف يكون ذلك؟ قال رجل باع بيعا إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب فلما حل ماله جحده صاحبه فدعا ربه فلم يستجب له لأنه قد عصى ربه. وقال أبو سعيد والشعبي والربيع بن أنس والحسن وابن جريج وابن زيد وغيرهم كان ذلك واجبا ثم نسخ بقوله"فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته" والدليل على ذلك أيضا الحديث الذي حكي عن شرع من قبلنا مقررا في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والإشهاد قال الإمام أحمد حدثنا يونس بن محمد حدثنا ليث عن جعفر بن ربيعة عن عبدالرحمن بن هرمز عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ائتني بشهداء أشهدهم قال كفى بالله شهيدا قال ائتني بكفيل قال كفى بالله كفيلا قال صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ثم زجج موضعها ثم أتى بها البحر ثم قال اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانا ألف دينار فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا فرضي بذلك وسألني شهيدا فقلت كفى بالله شهيدا فرضي بذلك وإنى قد جهدت أن أجد مركبا أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركبا وإني استودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركبا إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا تجيئه بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا فلما كسرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينار وقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه. قال هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال ألم أخبرك أني لم أجد مركبا قبل هذا الذي جئت فيه؟ قال فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة فانصرف بألفك راشدا. وهذا إسناد صحيح وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة معلقا بصيغة الجزم فقال: وقال الليث بن سعيد فذكره ويقال إنه رواه في بعضها عن عبدالله بن صالح كاتب الليث عنه.

۞ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ

📘 يقول تعالى "وإن كنتم على سفر" أي مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى "ولم تجدوا كاتبا" يكتب لكم قال ابن عباس أو وجدوه ولم يجدوا قرطاسا أو دواة أو قلما فرهان مقبوضة أي فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة أي في يد صاحب الحق وقد استدل بقوله "فرهان مقبوضة" على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض كما هو مذهب الشافعي والجمهور واستدل بها آخرون على أنه لا بد أن يكون الرهن مقبوضا في يد المرتهن وهو رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه طائفة واستدل آخرون من السلف بهذه الآية على أنه لا يكون الرهن مشروعا إلا في السفر قاله مجاهد وغيره وقد ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير رهنها قوتا لأهله وفي رواية من يهود المدينة وفي رواية الشافعي عند أبي الشحم اليهودي وتقرير هذه المسائل في كتاب الأحكام الكبير ولله الحمد والمنة وبه المستعان. وقوله "فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذين ائتمن أمانته" روى ابن أبي حاتم بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري أنه قال: هذه نسخت ما قبلها وقال الشعبي: إذا ائتمن بعضكم بعضا فلا بأس أن لا تكتبوا أو لا تشهدوا وقوله "وليتق الله ربه" يعنى المؤتمن كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية قتادة عن الحسن عن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "على اليد ما أخذت حتى تؤديه". وقوله "ولا تكتموا الشهادة" أي لا تخفوها وتغلوها ولا تظهروها قال ابن عباس وغيره: شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك ولهذا قال "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" قال السدي يعني فاجر قلبه وهذه كقوله تعالى "ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين" وقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا" وهكذا قال ههنا "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم".

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

📘 يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهن وأنه المطلع على ما فيهن لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر والضمائر وإن دقت وخفيت وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال تعالى "قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير". وقال "يعلم السر وأخفى" والآيات في ذلك كثيرة جدا وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم وهو المحاسبة على ذلك ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة وخافوا منها ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا عبدالرحمن بن إبراهيم حدثني أبو عبدالرحمن يعني العلاء عن أبيه عن أبي هريره قال: لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير" اشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" إلى آخره ورواه مسلم منفردا به من حديث يزيد بن زريع عن روح بن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة فذكر مثله ولفظه فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" قال نعم "ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا" قال نعم "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" قال نعم "واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين" قال نعم حديث ابن عباس في ذلك قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن آدم بن سليمان سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا" فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" إلى قوله "فانصرنا على القوم الكافرين" وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وإسحق بن إبراهيم ثلاثتهم عن وكيع به وزاد "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" قال قد فعلت "ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا" قال قد فعلت "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" قال قد فعلت "واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين" قال قد فعلت "طريق أخرى" عن ابن عباس قال الإمام أحمد حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: دخلت على ابن عباس فقلت يا أبا عباس كنت عند ابن عمر فقرأ هذه الآية فبكى قال: أية آية؟ قلت "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" قال ابن عباس إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غما شديدا وغاظتهم غيظا شديدا يعني وقالوا يا رسول الله هلكنا إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل فأما قلوبنا فليست بأيدينا فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قولوا سمعنا وأطعنا" فقالوا سمعنا وأطعنا قال فنسختها هذه الآية "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله" إلى "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال "طريق أخرى" عنه قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سعيد بن مرجانة سمعه يحدث أنه بينما هو جالس مع عبدالله بن عمر تلا هذه الآية "لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء" الآية فقال: والله لئن واخذنا الله بهذا لنهلكن ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه قال ابن مرجانة: فقمت حتى أتيت ابن عباس فذكرت له ما قال ابن عمر وما فعل حين تلاها فقال ابن عباس يغفر الله لأبي عبدالرحمن لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبدالله بن عمر فأنزل الله بعدها "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" إلى آخر السورة قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها وصار الأمر إلى أن قضى الله عز وجل أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل "طريق أخرى" قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا إسحق حدثنا يزيد بن هرون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم أن أباه قرأ "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكـم به الله" فدمعت عيناه فبلغ صنيعه ابن عباس فقال: يرحم الله أبا عبدالرحمن لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت فنسختها الآية التي بعدها "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس وقد ثبت عن ابن عمر كما ثبت عن ابن عباس قال البخاري: حدثنا إسحق حدثنا روح حدثنا شعبة عن خالد الحذاء عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" قال: نسختها الآية التي بعدها وهكذا روي عن علي وابن مسعود وكعب الأحبار والشعبي والنخعي ومحمد بن كعب القرظي وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة أنها منسوخة بالتي بعدها وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة من طريق قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعلم". وفى الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قال الله إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرا" لفظ مسلم وهو في إفراده من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "قال الله: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة" وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "قال الله إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها" وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قالت الملائكة رب وذاك أن عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة وإنما تركها من جراي "وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا أحسن أحد إسلامه فإن له بكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل" تفرد به مسلم عن محمد بن رافع عن عبدالرزاق بهذا السياق واللفظ وبعضه في صحيح البخاري وقال مسلم أيضا: حدثنا أبو كريب حدثنا خالد الأحمر عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب له وإن عملها كتبت" تفرد به مسلم دون غيره من أصحاب الكتب وقال مسلم أيضا: حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا عبدالوارث عن الجعد أبي عثمان حدثنا أبو رجاء العطاردي عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تعالى قال "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده سيئة واحدة" ثم رواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان في هذا الإسناد بمعنى حديث عبدالرزاق زاد "ومحاها الله ولا يهلك على الله إلا هالك" وفي حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فقالوا إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال "وقد وجدتموه؟" قالوا نعم قال "ذاك صريح الإيمان" لفظ مسلم وهو عند مسلم أيضا من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به وروى مسلم أيضا من حديث مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال "تلك صريح الإيمان". وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" فإنها لم تنسخ لكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله "يحاسبكم به الله" يقول يخبركم وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب وهو قوله "فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" وهو قوله "ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" أي من الشك والنفاق وقد روى العوفي والضحاك عنه قريبا من هذا. وروى ابن جرير عن مجاهد والضحاك نحوه وعن الحسن البصري أنه قال: هي محكمة لم تنسخ واختار ابن جرير ذلك واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة وأنه تعالى قد يحاسب ويغفر وقد يحاسب ويعاقب بالحديث الذي رواه عند هذه الآية قائلا: حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد بن هشام "ح" وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية حدثنا ابن هشام قالا جميعا في حديثهما عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبدالله بن عمر وهو يطوف إذا عرض له رجل فقال يا ابن عمر ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى ؟ قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول له هل تعرف كذا فيقول رب أعرف مرتين حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم قال فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الأشهاد "هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين" وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة عن قتادة به وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبيه قال: سألت عائشة عن هذه الآية "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها فقالت: هذه مبايعة الله العبد وما يصيبه من الحمى والنكبة والبضاعة يضعها في يد كمه فيفقدها فيفزع لها ثم يجدها في ضبنته حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر وكذا رواه الترمذي وابن جرير من طريق حماد بن سلمة به وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديثه قلت وشيخه علي بن زيد بن جدعان ضعيف يغرب في رواياته وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه أم محمد أمية بنت عبدالله عن عائشة وليس لها عنها في الكتب سواه.

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ

📘 "ذكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الآيتين الكريمتين نفعنا الله بهما" "الحديث الأول" قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن عبدالرحمن عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "من قرأ الآيتين وحدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عبدالرحمن بن يزيد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ بالآيتين - من آخر سورة البقرة - في ليلة كفتاه" وقد أخرجه بقية الجماعة من طريق سليمان بن مهران الأعمش بإسناده مثله وهو في الصحيحين من طريق الثوري عن منصور عن إبراهيم عن عبدالرحمن عنه به وهو في الصحيحين أيضا عن عبدالرحمن عن علقمة عن ابن مسعود قال عبدالرحمن: ثم لقيت أبا مسعود فحدثني به وهكذا رواه أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن آدم حدثنا شريك عن عاصم عن المسيب بن رافع عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلته كفتاه. "الحديث الثاني" قال الإمام أحمد: حدثنا حسين حدثنا شيبان عن منصور عن ربعي عن خرشة بن الحر عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي" وقد رواه ابن مردويه من حديث الأشجعي عن الثوري عن منصور عن ربعي عن زيد بن ظبيان عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش". "الحديث الثالث" قال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا مالك بن مغول "ح" وحدثنا ابن نمير وزهير بن حرب جميعا عن عبدالله بن نمير وألفاظهم متقاربة قال ابن نمير: حدثنا أبي حدثنا مالك بن مغول عن الزبير بن عدي عن طلحة عن مرة عن عبدالله قال: لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهي به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها. قال "إذ يغشى السدرة ما يغشى" قال فراش من ذهب قال وأعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات. "الحديث الرابع" قال أحمد: حدثنا إسحق بن إبراهيم الرازي حدثنا سلمة بن الفضل حدثني محمد بن إسحق عن يزيد أبي حبيب عن مرثد بن عبدالله اليزني عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فإني أعطيتهما من كنز تحت العرش" هذا إسناد حسن ولم يخرجوه في كتبهم. "الحديث الخامس" قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل حدثنا إبراهيم بن إسحق الحربي أخبرنا مروان أنبأنا ابن عوانة عن أبي مالك عن ربعي عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فضلنا على الناس بثلاث أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش لم يعطها أحد قبلي ولا يعطاها أحد بعدي" ثم رواه من حديث نعيم بن أبي هندي عن ربعي عن حذيفة بنحوه. "الحديث السادس" قال ابن مردويه حدثنا عبدالباقي بن نافع أنبأنا إسماعيل بن الفضل أخبرنا محمد بن حاتم بن بزيع أخبرنا جعفر بن عون عن مالك بن مغول عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: لا أرى أحدا عقل الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة فإنها من كنز عطية نبيكم - صلى الله عليه وسلم - من تحت العرش ورواه وكيع في تفسيره عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمير بن عمرو المخارقي عن علي قال: ما أرى أحدا يعقل بلغه الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة فإنها من كنز تحت العرش. "الحديث السابع" قال أبو عيسى الترمذي حدثنا بندار حدثنا عبدالرحمن بن مهـدي حدثنا حماد بن سلمة عن أشعث بن عبدالرحمن الحرمي عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرأ بهن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان" ثم قال هذا حديث غريب وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث حماد بن سلمة به وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. "الحديث الثامن" قال ابن مردويه حدثنا عبدالرحمن بن محمد بن مدين أخبرنا الحسن بن الجهم أخبرنا إسماعيل بن عمرو أخبرنا ابن مريم حدثني يوسف بن أبي الحجاج عن سعيد عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسي ضحك وقال "إنهما من كنز الرحمن تحت العرش" وإذا قرأ "من يعمل سوءا يجز به" "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى" استرجع واستكان. "الحديث التاسع" قال ابن مردويه حدثنا عبدالله بن محمد بن كوفي حدثنا أحمد بن يحيى بن حمزة حدثنا محمد بن بكر حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا عبدالله بن أبي حميد عن أبي مليح عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش والمفصل نافلة". "الحديث العاشر" قد تقدم في فضائل الفاتحة من رواية عبدالله بن عيسى بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط قال: فنزل منه ملك فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته رواه مسلم والنسائي وهذا لفظه. فقوله تعالى "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" إخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك قال ابن جرير: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لما نزلت عليه هذه الآية "ويحق له أن يؤمن" وقد روى الحاكم في مستدركه حدثنا أبو النضر الفقيه: حدثنا معاذ بن نجدة القرشي حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا أبو عقيل عن يحيى بن أبي كثير عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية على النبي - صلى الله عليه وسلم - "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "حق له أن يؤمن" ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقوله "والمؤمنون" عطف على الرسول ثم أخبر عن الجميع فقال "كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله" فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره ولا رب سواه ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مهديون هادون إلى سبيل الخير وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين وقوله "وقالوا سمعنا وأطعنا" أي سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه "غفرانك ربنا" سؤال للمغفرة والرحمة واللطف قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون" إلى قوله "غفرانك ربنا" قال قد غفرت لكم "وإليك المصير" أي المرجع والمآب يوم الحساب. قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن سنان عن حكيم عن جابر قال: لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" قال جبريل إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه فسأل "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" إلى آخر الآية.

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

📘 قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن سنان عن حكيم عن جابر قال: لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" قال جبريل إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه فسأل "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" إلى آخر الآية. وقوله "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" أي لا يكلَّف أحد فوق طاقته وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة في قوله "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" أي هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه فأما ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها فهذا لا يكلف به الإنسان وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان وقوله "لها ما كسبت" أي من خير "وعليهـا ما اكتسبت" أي من شر وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف. ثم قال تعالى مرشدا عباده إلى سؤاله وقد تكفل لهم بالإجابة كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" أي إن تركنا فرضا على جهة النسيان أو فعلنا حراما كذلك أو أخطأنا أي الصواب في العمل جهلا منا بوجهه الشرعي وقد تقدم في صحيح مسلم من حديث أبي هريره قال: "قال الله نعم" ولحديث ابن عباس قال الله "قد فعلت" وروى ابن ماجه في سننه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي عمرو الأوزاعي عن عطاء قال ابن ماجه في روايته عن ابن عباس وقال الطبراني وابن حبان عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقد روي من طريق آخر وأعله أحمد وأبو حاتم والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبو بكر الهذلي عن شهر عن أم الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "إن الله تجاوز لأمتي عن ثلات عن الخطإ والنسيان والاستكراه" قال أبو بكر فذكرت ذلك للحسن فقال: أجل أما تقرأ بذلك قرآنا "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا". وقوله "ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا" أي لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم التي بعثت نبيك محمدا - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به من الدين الحنيفي السهـل السمح وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "قال الله نعم" وعن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله قد فعلت" وجاء في الحديث من طرق عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "بعثت بالحنيفية السمحة". وقوله "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلنا بما لا قبل لنا به وقد قال مكحول في قوله "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" قال العزبة والغلمة رواه ابن أبي حاتم قال الله نعم وفي الحديث الآخر قال الله قد فعلت. وقوله "واعف عنا" أي فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا "واغفر لنا" أي فيما بيننا وبين عبادك فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة "وارحمنا" أي فيما يستقبل فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر ولهذا قالوا إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره. وقد تقدم في الحديث أن الله قال نعم وفي الحديث الآخر قال الله "قد فعلت". وقوله "أنت مولانا" أي أنت ولينا وناصرنا وعليك توكلنا وأنت المستعان وعليك التكلان ولا حول لنا ولا قوة إلا بك "فانصرنا على القوم الكافرين" أي الذين جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيك وعبدوا غيرك وأشركوا معك من عبادك فانصرنا عليهم واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة قال الله نعم. وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس قال الله: "قد فعلت". وقال ابن جرير: حدثني مثنى بن إبراهيم حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن أبي إسحاق أن معاذا - رضي الله عنه - كان إذا فرغ من هذه السورة "انصرنا على القوم الكافرين" قال آمين ورواه وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن رجل عن معاذ بن جبل أنه كان إذا ختم البقرة قال آمين.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

📘 لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه من خلق السماوات والأرض فقال "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات" أي قصد إلى السماء والاستواء هاهنا مضمن معنى القصد والإقبال لأنه عدي بإلى فسواهن أي فخلق السماء سبعا والسماء هاهنا اسم جنس فلهذا قال "فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم" أي وعلمه محيط بجميع ما خلق كما قال "ألا يعلم من خلق" وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله تعالى "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم" ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعا وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك وقد صرح المفسرون بذلك كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله. فأما قوله تعالى "أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم" فقد قيل أن ثم هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل كما قال الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده وقيل إن الدحي كان بعد خلق السماوات والأرض رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم" قال إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين فخلق الأرض على حوت والحوت هو الذي ذكره في القرآن "ن والقلم" والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الأرض فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأُرسي عليها الجبال فقرت فالجبال تفخر على الأرض فذلك قوله تعالى "وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم" وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء وذلك حين يقول "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها" يقول أنبت شجرها "وقدر فيها أقواتها لأهلها في أربعة أيام سواء للسائلين" يقول من سأل فهكذا الأمر "ثم استوى إلى السماء وهي دخان" وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ثم فتقهـا فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض "وأوحى في كل سماء أمرها" قال خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد ومما لا يعلم ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش فذلك حين يقول "خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش" ويقول" كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي" وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا عبدالله بن صالح حدثني أبو معشر سعيد بن أبي سعيد عن عبدالله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ الخلق يوم الأحد فخلق الأرضين في الأحد والإثنين وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء وخلق السماوات في الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة. وقال مجاهد في قوله تعالى "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" قال خلق الله الأرض قبل السماء فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك حين يقول "ثم استوى إلى السماء" وهي دخان "فسواهن سبع سموات" قال بعضهم فوق بعض وسبع أرضين يعني بعضها تحت بعض وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كما قال في آية السجدة "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظ ذلك تقدير العزيز العليم" فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى "أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها" قالوا فذكر خلق السماء قبل الأرض. وفي صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديما وحديثا وقد حررنا ذلك في سورة النازعات وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله تعالى "والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها" ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعا فيها بالقوة إلى الفعل لما أكملت سورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض فأخرجت ما كان مودعا فيها من المياه فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسيره هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير أيضا من رواية ابن جريج قال أخبرني إسمعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال "خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم وقد تكلم عليه علي بن المدينى والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا وقد حرر ذلك البيهقي.

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ

📘 قال أبو جعفر الرازي عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله قال: الإيمان التصديق وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما يؤمنون يصدقون وقال معمر عن الزهري: الإيمان العمل وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس يؤمنون يخشون. قال ابن جرير: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادا وعملا وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل والإيمان كلمة جامعة للإيمان بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل "قلت" أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض وقد يستعمل في القرآن والمراد به ذلك كما قال تعالى "يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين" وكما قال إخوة يوسف لأبيهم "وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين" وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال كقوله تعالى "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" فأما إذا استعمل مطلقا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا. هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعا: أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة. ومنهم من فسره بالخشية كقوله تعالى "إن الذين يخشون ربهم بالغيب" وقوله "من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب" والخشية خلاصة الإيمان والعلم كما قال تعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وقال بعضهم يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة وليسوا كما قال تعالى عن المنافقين "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون" وقال "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" فعلى هذا يكون قوله بالغيب حالا أي في حال كونهم غيبا عن الناس. وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "يؤمنون بالغيب" قال يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث فهذا غيب كله. وكذا قال قتادة بن دعامة وقال السدى عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بالغيب قال بما جاء منه - يعني من الله تعالى - وقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر قال الغيب القرآن وقال عطاء بن أبي رباح من آمن بالله فقد آمن بالغيب وقال إسماعيل بن أبي خالد يؤمنون بالغيب قال بغيب الإسلام وقال زيد بن أسلم الذين يؤمنون بالغيب قال بالقدر.فكل هذه متقاربة في معنى واحد لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به. وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبدالرحمن بن يزيد قال كنا عند عبدالله بن مسعود جلوسا فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به فقال عبدالله إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب - إلى قوله - المفلحون" وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن الأعمش به وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وفي معنى هذا الحديث الذي رواه أحمد حدثنا أبو المغيرة أنا الأوزاعي حدثني أسد بن عبدالرحمن عن خالد بن دريك عن ابن محيريز قال: قلت لأبي جمعة حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم أحدثك حديثا جيدا: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال يا رسول الله هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال "نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" طريق أخرى قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره حدثنا عبدالله بن جعفر حدثنا إسماعيل عن عبدالله بن مسعود حدثنا عبدالله بن صالح حدثنا معاوية بن صالح عن صالح بن جبير قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلى فيه ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة رضي الله عنه فلما انصرف خرجنا نشيعه فلما أراد الانصراف قال إن لكم جائزة وحقا أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا هات رحمك الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة فقلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجرا؟ آمنا بالله واتبعناك قال "ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجرا" مرتين - ثم رواه من حديث ضمرة بن ربيعة عن مرزوق بن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة بنحوه. وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث كما قررته في أول شرح البخاري لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرا من هذه الحيثية لا مطلقا وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن المغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أى الخلق أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا الملائكة قال "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم" قالوا فالنبيون قال "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ "قالوا فنحن قال "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم" قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا إن أعجب الخلق إلي إيمانا لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها" قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث "قلت" ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده وابن مردويه في تفسيره والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن حميد - وفيه ضعف - عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أو نحوه. وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد رُوي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعا والله أعلم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبدالله بن محمد المسندي حدثنا إسحاق بن إدريس أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري أخبرني جعفر بن محمود عن جدته بديلة بنت أسلم قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام قال إبراهيم فحدثني رجال من بني حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال "أولئك قوم آمنوا بالغيب" هذا حديث غريب من هذا الوجه.

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ

📘 يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم فقال تعالى "وإذ قال ربك للملائكة" أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك حكى ابن جرير عن بعض أهل العربية وهو أبو عبيدة أنه زعم أن إذ هاهنا زائدة وأن تقدير الكلام وقال ربك ورده ابن جرير قال القرطبي وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج هذا اجتراء من أبي عبيدة "إني جاعل في الأرض خليفة" أي قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل كما قال تعالى "هو الذي جعلكم خلائف الأرض" وقال "ويجعلكم خلفاء الأرض" وقال "ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون" وقال "فخلف من بعدهم خلف" وقرئ في الشاذ "إني جاعل في الأرض خليفة" حكاها الزمخشري وغيره ونقل القرطبي عن زيد بن علي وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين وعزاه القرطبي إلى ابن عباس وابن مسعود وجميع أهل التأويل وفي ذلك نظر بل الخلاف في ذلك كثير حكاه الرازي في تفسيره وغيره والظاهر أنه لم يرد آدم عينا إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة "أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء" فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم قاله القرطبي أو أنهم قاسوهم على من سبق كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وههنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقا قال قتادة وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" الآية وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي لك كما سيأتي. أي ولا يصدر منا شيء من ذلك وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال "إني أعلم ما لا تعلمون" أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده يسألهم وهو أعلم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه الصلاة والسلام "يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل" فقولهم أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله لهم "إني أعلم ما لا تعلمون" وقيل معنى قوله جوابا لهم "إني أعلم ما لا تعلمون" إني لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها وقيل إنه جواب "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" فقال "إني أعلم ما لا تعلمون" أي من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل بل تضمن قولهم "أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" طلبا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم فقال الله تعالى لهم "إني أعلم ما لا تعلمون" من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة والله أعلم. "ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه" قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالوا: قال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قال لهم إني فاعل هذا ومعناه أنه أخبرهم بذلك وقال السدي استشار الملائكة في خلق آدم رواه ابن أبي حاتم وقال وروي عن قتادة نحوه وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن والله أعلم في الأرض قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن عطاء بن السائب عن عبدالرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "دحيت الأرض من مكة وأول من طاف بالبيت الملائكة فقال الله إني جاعل في الأرض خليفة يعني مكة" وهذا مرسل وفي سنده ضعف وفيه مدرج وهو أن المراد بالأرض مكة والله أعلم فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك خليفة قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة إن الله تعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا: ربنا وما يكون ذاك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قال ابن جرير فكان تأويل الآية على هذا إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه: قال ابن جرير: وإنما معنى الخلافة التي ذكرها إنما هي خلافة قرن منهم قرنا. قال: والخليفة الفعلية من قولك خلف فلان فلانا في هذا الأثر إذا قام مقامه فيه بعده كما قال تعالى "ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم خليفة لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر فكان منه خلفا قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى "إني جاعل في الأرض خليفة" يقول ساكنا وعامرا يعمرها ويسكنها خلفا ليس منكم: قال ابن حرير: وحدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضا قال فبعث الله إليهم إبليس فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ثم خلق آدم فأسكنه إياها فلذلك قال "إني جاعل في الأرض خليفة" وقال سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن ابن سابط "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال: يعنون به بني آدم. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: قال الله للملائكة إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس للّه عز وجل خلق إلا الملائكة والأرض وليس فيها خلق. قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها. وقد تقدم ما رواه السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم فقالت الملائكة ذلك وتقدم آنفا ما رواه الضحاك عن ابن عباس أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم فقالت الملائكة ذلك فقاسوا هؤلاء بأولئك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا على بن محمد الطنافسي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبدالله بن عمرو قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوا بجزائر البحور فقال الله للملائكة: "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال: إني أعلم ما لا تعلمون. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "إني جاعل في الأرض خليفة - إلى قوله - أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" قال: خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة فكفر قوم من الجن فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم وكان الفساد في الأرض فمن ثم قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسدت الجن ويسفك الدماء كما سفكوا. قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا مبارك بن فضالة أخبرنا الحسن قال: قال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قال لهم إني فاعل فآمنوا بربهم فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه ولم يعلموه. فقالوا بالعلم الذي علمهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون قال الحسن إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي علمهم. وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله "أتجعل فيها من يفسد فيها" كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خليفة أفسدوا فيها وسفكوا الدماء فذلك حين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا هشام الرازي حدثنا ابن المبارك عن معروف يعني ابن خربوذ المكي عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول السجل ملك وكان هاروت وماروت من أعوانه وكان له كل يوم ثلاث لمحات في أم الكتاب فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور فأسر ذلك إلى هاروت وماروت وكانا من أعوانه فلما قال تعالى "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قالا ذلك استطالة على الملائكة. وهذا أثر غريب وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر فهو نقله عن أهل الكتاب وفيه نكارة توجب رده والله أعلم ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط وهو خلاف السياق وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم أيضا بحيث قال: حدثنا أبي حدثنا هشام بن أبي عبيد الله حدثنا عبدالله بن يحيى بن أبي كثير قال: سمعت أبي يقول إن الملائكة الذين قالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" كانوا عشرة الآف فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم وهذا أيضا إسرائيلي منكر كالذي قبله والله أعلم. قال ابن جريج إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. قال ابن جرير: وقال بعضهم إنما قالت الملائكة ما قالت أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم فأجابهم ربهم "إني أعلم ما لا تعلمون" يعني أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض ما ترونه لي طائعا. قال: وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك فكأنهم قالوا يا رب خبرنا- مسألة استخبار منهم لا على وجه الإنكار - واختاره ابن جرير وقال سعيد عن قتادة قوله تعالى "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" قال استشار الملائكة في خلق آدم فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء - وقد علمت الملائكة أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض - ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال إني أعلم ما لا تعلمون. فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة قال وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام قالت الملائكة ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال الله تعالى "ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين" وقوله تعالى "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك". قال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال: التسبيح التسبيح والتقديس الصلاة. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال: يقولون نصلي لك. وقال مجاهد: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال: نعظمك ونكبرك. فقال الضحاك: التقديس التطهير. وقال محمد بن إسحق: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال: لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه. وقال ابن جرير: التقديس هو التعظيم والتطهير. ومنه قولهم سبوح قدوس يعني بقولهم سبوح تنزيه له وبقولهم قدوس طهارة وتعظيم له: وكذلك للأرض أرض مقدسة يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذا "ونحن نسبح بحمدك" ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك "ونقدس لك" ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال "ما اصطكى الله لملائكته سبحان الله وبحمده" وروى البيهقي عن عبدالرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به سمع تسبيحا في السماوات العلا "سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى" "قال إني أعلم ما لا تعلمون" قال قتادة فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى قال "إني أعلم ما لا تعلمون" وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعته واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع والله أعلم. أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف وقد نص عليه الشافعي وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف فمنهم من قال لا يشترط وقيل بلى ويكفي شاهدان. وقال الجبائي يجب أربعة وعاقد ومعقود له كما ترك عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة فوقع الأمر على عاقد وهو عبدالرحمن بن عوف ومعقود له وهو عثمان واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين في هذا نظر والله أعلم. ويجب أن يكون ذكرا حرا بالغا عاقلا مسلما عدلا مجتهدا بصيرا سليم الأعضاء خبيرا بالحروب والآراء قرشيا على الصحيح ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافا للغلاة الروافض ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان" وهل له أن يعزل نفسه فيه خلاف وقد عزل الحسن بن علي رضي الله عنه نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك: فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام "من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان" وهذا قول الجمهور وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد منهم إمام الحرمين. وقالت الكرامية: يجوز اثنين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة. قالوا: وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف. وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما وتردد إمام الحرمين في ذلك قلت وهذا يشبه حال الخلفاء بني العباس بالعراق والفاطمين بمصر والأمويين بالمغرب ولنقرر هذا كله في موضع آخر من كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

📘 هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم وهذا كان بعد سجودهم له وإنما قدم هذا الفصل على ذاك لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة حين سألوا عن ذلك فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم فقال تعالى "وعلم آدم الأسماء كلها" قال السدي عمن حدثه عن ابن عباس "وعلم آدم الأسماء كلها" قال علمه أسماء ولده إنسانا إنسانا والدواب فقيل هذا الحمار هذا الجمل هذا الفرس وقال الضحاك عن ابن عباس "وعلم آدم الأسماء كلهـا" قال هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس إنسان ودواب وسماء وأرض وسهل وبحر وخيل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عاصم بن كليب عن سعيد بن معبد عن ابن عباس "وعلم آدم الأسماء كلها" قال علمه اسم الصحفة والقدر قال نعم حتى الفسوة والفسية وقال مجاهد "وعلم آدم الأسماء كلها" قال علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شيء وكذلك رُوي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف أنه علمه أسماء كل شيء وقال الربيع في رواية عنه أسماء الملائكة. وقال حميد الشامي أسماء النجوم. وقال عبدالرحمن بن زيد علمه أسماء ذريته كلهم. واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية لأنه قال "ثم عرضهم" عبارة عما يعقل. وهذا الذي رجح به ليس بلازم فإنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب كما قال تعالى "والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير" وقد قرأ عبدالله بن مسعود ثم عرضهن. وقرأ أبي بن كعب ثم عرضها أي السماوات. الصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذراتها وصفاتها وأفعالها كـما قال ابن عباس حتى الفسوة والفسية يعني ذوات الأسماء والأفعال المكبر والمصغر ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية في كتاب التفسير من صحيحه: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقال لي خليفة. حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناكم ويذكر ذنبه فيستحي ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتونه فيقول لست هناكم ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي. فيقول ائتوا خليل الرحمن فيأتونه فيقول لست هناكم. فيقول ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتونه فيقول لست هناكم ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه. فيقول ائتوا عيسى عبدالله ورسوله وكلمة الله وروحه فيأتونه فيقول لست هناكم. ائتوا محمدا عبدا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن ربي فيأذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله ثم يقال ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي مثله ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة ثم أعود الرابعة فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود هكذا ساق البخاري هذا الحديث ههنا وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام وهو ابن أبي عبدالله الدستوائي عن قتادة به وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة. ووجه إيراده هاهنا والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام. فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء. فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ولهذا قال "ثم عرضهم على الملائكة" يعني المسميات كما قال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة "فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة "وعلم آدم الأسماء كلها" ثم عرض الخلق على الملائكة. وقال ابن جريج عن مجاهد ثم عرض أصحاب الأسماء على الملائكة وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا: علمه اسم كل شيء وجعل يسمي كل شيء باسمه وعرضت عليه أمة أمة وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى "إن كنتم صادقين" إني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. وقال الضحاك عن ابن عباس "إن كنتم صادقين" إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. وقال ابن جرير وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله ومعني ذلك فقال أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيها الملائكة القائلون: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ من غيرنا أم منا. فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك - إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني وذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم والتقديس فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين.

قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

📘 هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله تعالى ولهذا قالوا "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" أي العليم بكل شيء الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء لك الحكمة في ذلك والعدل التام. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس: سبحان الله. قال تنزيه الله نفسه عن السوء ثم قال: قال عمر لعلي وأصحابه عنده لا إله إلا الله قد عرفناها فما سبحان الله فقال له على كلمة أحبها الله لنفسه ورضيها وأحب أن تقال. قال وحدثنا أبي حدثنا فضيل بن النضر بن عدي قال سأل رجل ميمون بن مهران عن سبحان الله قال اسم يعظم الله به ويحاشا به من السوء.

قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ

📘 قوله تعالى "قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" قال زيد بن أسلم قال أنت جبرائيل أنت ميكائيل أنت إسرافيل حتى عدد الأسماء كلها حتى بلغ الغراب. وقال مجاهد في قول الله "قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم" قال اسم الحمامة والغراب واسم كل شيء ورُوي عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة نحو ذلك فلما ظهر فضل آدم عليه السلام على الملائكة في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء قال الله تعالى للملائكة "ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" أى ألم أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي كما قال تعالى "وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى" وكما قال إخبارا عن الهدهد أنه قال لسليمان "ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم" وقيل في قوله تعالى "وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" غير ما ذكرناه فروى الضحاك عن ابن عباس "وأعلم ما تبدون وما كنتم" تكتمون قال أعلم السر كما أعلم العلانية يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قال قولهم " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" الآية فهذا الذي أبدوا "وما كنتم تكتمون" يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري. واختار ذلك ابن جرير وقال أبو العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة هو قولهم لم يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه: وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس "وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" فكان الذي أبدوا هو قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. وكان الذي كتموا بينهم قولهم لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم قال ابن جرير حدثنا يونس حدثنا ابن وهب عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في قصة الملائكة وآدم: فقال الله للملائكة كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها هذا عندي قد علمته فكذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني قال وقد سبق من الله "لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" قال ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه قال فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل. وقال ابن جرير وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عباس وهو أن معنى قوله تعالى: "وأعلم تبدون" وأعلم مع علمي غيب السماوات والأرض ما تظهرونه بألسنتكم. وما كنتم تخفون في أنفسكم فلا يخفى علي شيء سواء عندي سرائركم وعلانيتكم والذي أظهروه بألسنتهم قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها والذي كانوا يكتمون ما كان منطويا عليه إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته. قال وصح ذلك وكما تقول العرب قتل الجيش وهزموا وإنما قتل الواحد أو البعض وهزم الواحد أو البعض فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم كما قال تعالى "إن الذين ينادونك من وراء الحجرات" ذكر أن الذي نادى إنما كان واحدا من بني تميم قال وكذلك قوله "وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون".

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ

📘 وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وقد دل على ذلك أحاديث أيضا كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم وحديث موسى عليه السلام "رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة فلما اجتمع به قال أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته" قال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء الله. وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة وكان خازنا من خزان الجنة قال وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي قال وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت قال وخلق الإنسان من طين فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا قال فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه فقال قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد قال فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه فقال الله تعالى للملائكة الذين كانوا معه: "إني جاعل في الأرض خليفة" فقالت الملائكة مجيبين له: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء وإنما بعثتنا عليهم لذلك؟ فقال الله تعالى "إني أعلم ما لا تعلمون" يقول إني قد اطلعت على قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره قال ثم أمر بتربة آدم فرفعت فخلق الله آدم من طين لازب واللازب اللازج الطيب من حمأ مسنون منتن وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب فخلق منه آدم بيده قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت فهو قول الله تعالى "من صلصال كالفخار" يقول كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت قال ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ويدخل من دبره ويخرج من فيه ثم يقول لست شيئا للصلصلة ولشيء ما خلقت ولئن سلطت عليك لأهلكنك ولئن سلطت علي لأعصينك. قال فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه فجعل لا يجري. شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده فذهب لينهض فلم يقدر فهو قول الله تعالى "وخلق الإنسان عجولا" قال ضجرا لا صبر له على سراء ولا ضراء قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال "الحمد لله رب العالمين" بإلهام الله فقال الله له "يرحمك الله يا آدم" قال ثم قال تعالى: للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السماوات اسجدوا لآدم فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار فقال لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا خلقتني من نار وخلقته من طين يقول إن النار أقوى من الطين قال فلما أبى أبليس أن يسجد أبلسه الله أي آيسه من الخير كله وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته ثم علم آدم الأسماء كلها وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم وقال لهم "أنبئوني بأسماء هؤلاء" أي يقول أخبروني بأسماء هؤلاء "إن كنتم صادقين" إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة قال: فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم "قالوا سبحانك" تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره تبنا إليك "لا علم لنا إلا ما علمتنا" تبريا منهم من علم الغيب إلا ما علمتنا كما علمت آدم فقال "يا آدم أنبئهم بأسمائهم" يقول "أخبرهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم" قال "ألم أقل لكم" أيتها الملائكة خاصة "إني أعلم غيب السماوات والأرض" ولا يعلم غيري "وأعلم ما تبدون" يقول ما تظهرون "وما كنتم تكتمون" يقول أعلم السر كما أعلم العلانية يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار هذا سياق غريب وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازنا فوقع في صدره وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك فقال الله للملائكة "إني جاعل في الأرض خليفة" فقالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا قالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال "إني أعلم ما لا تعلمون" يعني من شأن إبليس. فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ وقال يا رب إنها عاذت بك فأعذتها فبعث ميكائيل فعاذت منه فعاذها فرجع فقال كما قال جبريل فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به قبل التراب حتى عاد طينا لازبا واللازب هو الذي يلتزق بعضه ببعض ثم قال للملائكة "إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه ليقول له تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه بخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه فكان أشدهم فزعا منه إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة فذلك حين يقول "من صلصال كالفخار" ويقول لأمر ما خلقت ودخل من فيه فخرج من دبره وقال للملائكة لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف لئن سلطت عليه لأهلكنه فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله فقال فقال له الله "يرحمك الله" فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل الروح إلى جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول الله تعالى "خلق الإنسان من عجل" فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين أبى واستكبر وكان من الكافرين قال الله له ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين قال الله له "اخرج منها فما يكون لك" يعني ما ينبغي لك "أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين" والصغار هو الذل قال وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرض الخلق على الملائكة "فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء "فقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" قال الله يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قال: قولهم "أتجعل فيها من يفسد فيها" فهذا الذي أبدوا "وأعلم ما كنتم تكتمون" يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ويقع فيه إسرائيليات كثيرة فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه أشياء ويقول على شرط البخاري. والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم لأنه لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر وسنبسط المسألة إن شاء الله تعالى عند قوله "إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه" ولهذا قال: محمد بن إسحاق عن خلاد بن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل وكان من سكان الأرض وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما فذلك دعاه إلى الكبر وكان من حي يسمون جنا. وفي رواية عن خلاد عن عطاء عن طاوس أو مجاهد عن ابن عباس أو غيره بنحوه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان إبليس اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد وقال سنيد: عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان سماء الدنيا وكان له سلطان على الأرض وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس سواء. وقال صالح مولى التوأمة عن ابن عباس: إن من الملائكة قبيلا يقال لهم الجن وكان إبليس منهم وكان يوسوس ما بين السماء والأرض فعصى فمسخه الله شيطانا رجيما رواه ابن جرير. وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عدي بن أبي عدي عن عوف عن الحسن قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس وهذا إسناد صحيح عن الحسن وهكذا قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم سواء. وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء رواه ابن جرير. وقال سنيد بن داود: حدثنا هشيم أنبأنا عبدالرحمن بن يحيى عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل عن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة يتعبد معها فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا فأبى إبليس فلذلك قال تعالى "إلا إبليس كان من الجن" وقال ابن جرير حدثنا محمد بن سنان البزار حدثنا أبو عاصم عن شريك عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال:إن الله خلق خلقا فقال اسجدوا لآدم فقالوا لا نفعل فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم ثم خلق خلقا آخر فقال "إني خالق بشرا من طين" اسجدوا لآدم قال فأبوا فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم ثم خلق هؤلاء فقال اسجدوا لآدم قالوا نعم وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم - وهذا غريب ولا يكاد يصح إسناده فإن فيه رجلا مبهما ومثله لا يحتج به والله أعلم. وقال: ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا صالح بن حيان حدثنا عبدالله بن بريدة: قوله تعالى "وكان من الكافرين" من الذين أبوا فأحرقتهم النار وقال أبو جعفر رضي الله عنه عن الربيع عن أبي العالية "وكان من الكافرين" يعني من العاصين وقال السدي "وكان من الكافرين" الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد وقال محمد بن كعب القرظي ابتدأ الله خلق إبليس من الكفر والضلالة وعمل بعمل الملائكة فصيره الله إلى ما أبدى عليه خلقه على الكفر قال الله تعالى "وكان من الكافرين" وقال قتادة في قوله تعالى "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته وقال بعض الناس كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى "ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا" وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا. قال معاذ: قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك فقال "لا. لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" ورجحه الرازي وقال بعضهم بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال تعالى "أقم الصلاة لدلوك الشمس" وفي هذا التنظير نظر والأظهر أن القول الأول أولى والسجدة لآدم إكراما وإعظاما واحتراما وسلاما وهي طاعة لله عز وجل لأنها امتثال لأمره تعالى. وقد قواه الرازي في تفسيره وضعف ما عداه من القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف والآخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال وقال قتادة في قوله تعالى "فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين" حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة وقال أنا ناري وهذا طيني وكان بدء الذنوب الكبر استكبر عدو الله أن يسجد لآدم عليه السلام قلت وقد ثبت في الصحيح "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر" وقد كان في قلب إبليس من الكبر- والكفر- والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس قال بعض المعربين وكان من الكافرين أي وصار من الكافرين بسبب امتناعه كما قال "فكان من المغرقين" وقال "فتكونا من الظالمين" وقال الشاعر: بتيهاء فقر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها أي قد صارت وقال ابن فورك تقديره وقد كان في علم الله من الكافرين ورجحه القرطبي وذكر هاهنا مسألة فقال: قال علماؤنا من أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق العادات فليس ذلك دالا على ولايته خلافا لبعض الصوفية والرافضة هذا لفظه ثم استدل على ما قال بأنا لا نقطع بهذا الذي جرى الخارق على يديه أنه يوافي الله بالإيمان وهو لا يقطع بنفسه لذلك يعني والولي الذي يقطع له بذلك الأمر قلت وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يد غير الولي بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضا بما ثبت عن ابن صياد أنه قال هو الدخ حين خبأ له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين" وبما كان يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبدالله بن عمر وبما ثبتت به الأحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب وأن يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة. وقد قال: يونس بن عبدالأعلى الصدفي قلت للشافعي كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله. بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة وقد حكى الرازي وغيره قولين للعلماء هل المأمور بالسجود لآدم خاص بملائكة الأرض أو عام بملائكة السماوات والأرض وقد رجح كلا من القولين طائفة وظاهر الآية الكريمة العموم " فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس" فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم والله أعلم.

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ

📘 يقول الله تعالى إخبارا عما أكرم به آدم: أنه أمر الملائكة بالسجود فسجدوا إلا إبليس وأنه أباح له الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء رغدا أي هنيئا واسعا طيبا. وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث محمد بن عيسى الدامغاني. حدثنا سلمة بن الفضل عن ميكائيل عن ليث عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبيا كان قال "نعم نبيا رسولا يكلمه الله قبيلا" - يعني عيانا - فقال "اسكن أنت وزوجك الجنة" وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم أهي في السماء أو في الأرض فالأكثرون على الأول وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق حيث قال لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وعلمه الأسماء كلها فقال يا آدم أنبئهم بأسمائهم إلى قوله "إنك أنت العليم الحكيم" قال ثم ألقيت السنة على آدم فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم عن ابن عباس وغيره ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما وآدم نائم لم يهب من نومه حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء فسواها امرأة ليسكن إليها فلما كشف عنه السنة وهب من نومه رآها إلى جنبه فقال فيما يزعمون والله أعلم "لحمي ودمي وزوجتي" فسكن إليها فلما زوجه الله وجعل له سكنا من نفسه قال له قبيلا "يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين" ويقال إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وحيشا ليس له زوج يسكن إليه فنام نومة قاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه فسألها ما أنت؟ قالت امرأة قال ولم خلقت؟ قالت لتسكن إلي قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه ما اسمها يا آدم؟ قال حواء قالوا ولم حواء؟ قال إنها خلقت من شيء حي. قال الله "يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما" وأما قوله "ولا تقربا هذه الشجرة" فهو إخبار من الله تعالى وامتحان لآدم وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي. قال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي الكرم. وكذا قال سعيد بن جبير والسدي والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس قال السدي أيضا في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود عن ناس من الصحابة "ولا تقربا هذه الشجرة" هي الكرم. وتزعم يهود أنها الحنطة. وقال ابن جرير وابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا أبو النضر أبو عمر الخراز عن عكرمة عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة وقال عبدالرزاق: أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي السنبلة وقال محمد بن إسحاق عن رجل من أهل العلم عن حجاج عن مجاهد عن ابن عباس قال: هي البر وقال ابن جرير: وحدثني المثنى بن إبراهيم حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا القاسم حدثني رجل من بني تميم أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها آدم فكتب إليه أبو الجلد: سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة وكذلك فسره الحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبو مالك ومحارب بن دثار وعبدالرحمن بن أبي ليلى. وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل اليمن عن وهب بن منبه أنه كان يقول: هي البر ولكن الحبة منها في الجنة ككلي البقر وألين من الزبد وأحلى من العسل. وقال سفيان الثوري عن حصين عن أبي مالك "ولا تقربا هذه الشجرة" قال النخلة وقال ابن جرير عن مجاهد "ولا تقربا هذه الشجرة" قال التينة وبه قال قتادة وابن جريج وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية كانت الشجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث وقال عبدالرزاق: حدثنا عمر بن عبدالرحمن بن مهران قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة ونهاه عن أكل الشجرة وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من بعض وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم وهي الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته. فهذه أقوال ستة في تفسير هذه الشجرة. قال الإمام العلامة أبو جعفر بن جرير رحمه الله: والصواب في ذلك أن يقال إن الله عز وجل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ولا علم. عندنا بأي شجرة كانت على التعيين لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة وقد قيل: كانت شجرة البر. وقيل كانت شجرة العنب. وقيل كانت شجرة التين. وجائز أن تكون واحدة منها وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه وإن جهله جاهل لم يضره جهله به والله أعلم وكذلك رجح الإبهام الرازي في تفسيره وغيره وهو الصواب.

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ

📘 وقوله تعالى "فأزلهما الشيطان عنها" يصح أن يكون الضمير في قوله عنها عائدا إلى الجنة فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم فأزالهما أي فنحاهما ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين وهو الشجرة فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة فأزلهما أي من قبل الزلل فعلى هذا يكون تقدير الكلام "فأزلهما الشيطان عنها" أي بسببها كما قال تعالى "يؤفك عنه من أفك" أي يصرف بسببه من هو مأفوك ولهذا قال تعالى "فأخرجهما مما كانا فيه" أي من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة "وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين" أي قرار وأرزاق وآجال - إلى حين - أي إلى وقت مؤقت ومقدار معين ثم تقوم القيامة وقد ذكر المفسرون من السلف كالسدي بأسانيده وأبي العالية ووهب بن منبه وغيرهم. هاهنا أخبارا إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته وسنبسط ذلك إن شاء الله في سورة الأعراف فهناك القصة أبسط منها هاهنا والله الموفق. وقد قال ابن أبي حاتم ههنا: حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب حدثنا على بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه فأول ما بدا منه عورته فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة فأخذت شعره شجرة فنازعها فناداه الرحمن يا آدم مني تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال يا رب لا ولكن استحياء". قال: وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القرشي سنة أربع وخمسين ومائتين حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثنا علي بن عاصم عن سعيد عن قتادة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما ذاق آدم من الشجرة فر هاربا فتعلقت شجرة بشعره فنودي: يا آدم أفرارا مني؟ قال: بل حياء منك قال: يا آدم أخرج من جواري فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين". هذا حديث غريب وفيه انقطاع بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب رضي الله عنهما. وقال الحاكم: حدثنا أبو بكر بن باكويه عن محمد بن أحمد بن النضر عن معاوية بن عمرو عن زائدة عن عمار بن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال عبد بن حميد في تفسيره حدثنا روح عن هشام عن الحسن قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا. وقال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس قال: خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة فأخرج آدم معه غصنا من شجر الجنة على رأسه تاج من شجر الجنة وهو الإكليل من ورق الجنة. وقال السدي: قال الله تعالى "اهبطوا منها جميعا" فهبطوا ونزل آدم بالهند ونزل معه الحجر الأسود وقبضة من ورق الجنة فبثه بالهند فنبتت شجرة الطيب فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من الهند من قبضة الورق التي هبط بها آدم وإنما قبضها آسفا على الجنة حين أخرج منها. وقال عمران بن عيينة: عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أهبط آدم بدحنا أرض الهند. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد عن ابن عباس قال: أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال لها دحنا بين مكة والطائف. وعن الحسن البصري قال: أهبط آدم بالهند وحواء بجدة وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال وأهبطت الحية بأصبهان رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحرث حدثنا محمد بن سعيد بن سابق حدثنا عمر بن أبي قيس عن الزبير بن عدي عن ابن عمر قال: أهبط آدم بالصفا وحواء بالمروة. وقال رجاء بن سلمة: أهبط آدم عليه السلام يداه على ركبتيه مطأطئا رأسه وأهبط إبليس مشبكا بين أصابعه رافعا رأسه إلى السماء. وقال عبدالرزاق: قال معمر أخبرني عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى قال إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء وزوده من ثمار الجنة فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير. وقال الزهري عن عبدالرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها" رواه مسلم والنسائي. وقال الرازي: اعلم أن في هذه الآية تهديدا عظيما عن كل المعاصي من وجوه "الأول" إنما يتصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي قال الشاعر: يا ناظرا يرنو بعينــــي راقد ومشاهدا للأمر غير مشاهـــد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان ونيل فوز العابد أنسيت ربــك حين أخـــرج آدما منها إلى الدنيا بذنب واحد وقال ابن القاسـم: ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم قال الرازي عن فتح الموصلي أنه قال: كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها. فإن قيل فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقول الجمهور من العلماء فكيف تمكن إبليس من دخول الجنة وقد طرد من هنالك طردا قدريا والقدري لا يخالف ولا يمانع؟ فالجواب أن هذا بعينه استدل به من يقول إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء كما قد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية وأجاب الجمهور بأجوبة أحدها أنه منع من دخول الجنة مكرما فأما على وجه السرقة والإهانة فلا يمتنع ولهذا قال بعضهم كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية إلى الجنة. وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة. وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض وهما في السماء ذكرها الزمخشري وغيره. وقد أورد القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك فأجاد وأفاد.

فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

📘 قيل إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى: " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" ورُوي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب القرظي وخالد بن معدان وعطاء الخراساني وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وقال أبوإسحاق السبيعي عن رجل من بني تميم قال: أتيت ابن عباس فسألته ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: علم شأن الحج. وقال سفيان الثوري عن عبدالعزيز بن رفيع أخبرني من سمع عبيد بن عمير. وفي رواية قال مجاهد عن عبيد بن عمير أنه قال: قال آدم يا رب خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته علي قبل أن تخلقني أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال "بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك" قال: فكما كتبته علي فاغفر لي. قال فذلك قوله تعالى "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه" وقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس فتلقى آدم من ربه كلمات قال: قال آدم عليه السلام: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال له بلى. قال: ونفخت في من روحك؟ قيل له بلى قال: أرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال نعم. وهكذا رواه العوفي وسعيد بن جبير وسعيد بن معبد عن ابن عباس بنحوه ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن جبير عن ابن عباس وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وهكذا فسره السدي وعطية العوفي. وقد روى ابن أبي حاتم ههنا حديثا شبيها بهذا فقال: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب حدثنا ابن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال آدم عليه السلام أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال نعم فذلك قوله "فتلقى آدم من ربه كلمات "وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع: وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه. قال إن آدم لما أصاب الخطيئة قال أرأيت إن تبت يا رب وأصلحت؟ قال الله "إذا أدخلك الجنة" فهي الكلمات ومن الكلمات أيضا "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه. قال الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. وقوله تعالى "إنه هو التواب الرحيم" أي إنه يتوب على من تاب إليه وأناب كقوله "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده" وقوله "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه" الآية وقوله "ومن تاب وعمل صالحا" إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب ويتوب على من يتوب وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده لا إله إلا هو التواب الرحيم.

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

📘 يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة والمراد الذرية أنه سينزل الكتب ويبعث الأنبياء والرسل كما قال أبو العالية الهدى الأنبياء والرسل والبينات والبيان وقال مقاتل بن حيان: الهدى محمد صلى الله عليه وسلم وقال الحسن الهدى القرآن وهذان القولان صحيحان. وقول أبي العالية أعم "فمن اتبع هداي" أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل "فلا خوف عليهم" أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة "ولا هم يحزنون" على ما فاتهم من أمور الدنيا كما قال في سورة طه "قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى" قال ابن عباس فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

📘 أي مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص. أورد ابن جرير هاهنا حديثا ساقه من طريقين عن أبي سلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد واسمه سعد بن مالك بن سنان الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة" وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به. وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول وزعم بعضهم أنه تأكيد وتكرير كما يقال قم قم وقال آخرون بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض والصحيح الأول والله أعلم.

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ

📘 قال ابن عباس والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك أي يصدقون بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم وبالآخرة هم يوقنون أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هنا هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى "الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون" ومن هم؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير أحدها أن الموصوفين أولا هم الموصوفون ثانيا وهم كل مؤمن مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم قاله مجاهد وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والثاني هما واحد وهم مؤمنو أهل الكتاب وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات كما قال تعالى "سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى" وكما قال الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم فعطف الصفات بعضها على بعض والموصوف واحد والثالث أن الموصوفين أولا مؤمنو العرب والموصوفون ثانيا بقوله "والذي يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون" لمؤمني أهل الكتاب نقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة واختاره ابن جرير رحمه الله ويستشهد لما قال بقوله تعالى "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله" الآية وبقوله تعالى "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون" وبما ثبت في الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها" وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين كافر ومنافق فكذلك المؤمنون صنفهم إلى صنفين عربي وكتابي "قلت" والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاثة عشر في المنافقين فهذه الآيات الأربع عامات في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي من إنسي وجني وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والإيقان بالآخرة كما أن هذا لا يصح إلا بذاك وقد أمر الله المؤمنين بذلك كما قال "يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل" الآية. وقال تعالى "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد" الآية. وقال تعالى "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم" وقال تعالى "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم" وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك فقال تعالى "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله" وقال تعالى "والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم" إلى غير ذلك من الآيات الدالة على جميع أمر المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية وذلك أنهم يؤمنون بما بأيديهم مفصلا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلا كان لهم على ذلك الأجر مرتين وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان بما تقدم مجملا كما جاء في الصحيح "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم" ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية فغيرهم يحصل له من التصديق ما ينيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم والله أعلم.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ

📘 يقول تعالى آمرا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام ومهيجا لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه السلام وتقديره يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق كما تقول يا ابن الكريم افعل كذا يا ابن الشجاع بارز الأبطال يا ابن العالم اطلب العلم ونحو ذلك. ومن ذلك أيضا قوله تعالى "ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا" فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي حدثنا عبدالحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب قال: حدثني عبدالله بن عباس قال حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم "هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟ "قالوا اللهم نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم اشهد" وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن عبدالله بن عباس أن إسرائيل كقولك عبدالله وقوله تعالى "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" قال مجاهد نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك أن فجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى ونجاهم من عبودية آل فرعون وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل أو نزل عليهم الكتب قلت وهذا كقول موسى عليه السلام لهم يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يعني في زمانهم. وقال محمد بن إسحق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" قال بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم. وقال الحسن البصري هو قوله تعالى "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار" الآية وقال آخرون هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيا عظيما يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال أبو العالية "وأوفوا بعهدي" قال عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه. وقال الضحاك عن ابن عباس: أوف بعهدكم قال أرض عنكم وأدخلكم الجنة وكذا قال السدي والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس وقوله تعالى "وإياي فارهبون" أي فاخشون قاله أبو العالية والسدي والربيع بن أنس وقتادة. وقال ابن عباس في قوله تعالى "وإياي فارهبون" أي إن نزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاتعاظ بالقرآن وزواجره وامتثال أوامره وتصديق أخباره والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۖ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ

📘 ولهذا قال "وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم" يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي بشيرا ونذيرا وسراجا منيرا مشتملا على الحق من الله تعالى مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل. قال أبو العالية رحمه الله في قوله تعالى "وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم" يقول يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم يقول لأنهم يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ورُوي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك وقوله "ولا تكونوا أول كافر به" قال بعض المعربين أول فريق كافر به أو نحو ذلك. قال ابن عباس: ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم قال أبو العالية: يقول ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه وكذا قال الحسن والسدي والربيع بن أنس واختار ابن جرير أن الضمير في قوله به عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله "بما أنزلت" وكلا القولين صحيح لأنهما متلازمان لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن وأما قوله "أول كافر به" فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم وقوله تعالى "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا" يقول لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية كما قال عبدالله بن المبارك: أنبأنا عبدالرحمن بن زيد بن جابر عن هارون بن يزيد قال: سئل الحسن يعني البصري عن قوله تعالى "ثمنا قليلا" قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا" إن آياته كتابه الذي أنزله إليهم وإن الثمن القليل الدنيا وشهواتها وقال السدي: "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا" يقول لا تأخذوا طمعا قليلا ولا تكتموا اسم الله فذلك الطمع هو الثمن وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا" يقول لا تأخذوا عليه أجرا قال وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا وقيل معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة" فأما تعليم العلم بأجرة فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب فهو كما لم يتعين عليه وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ" إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" وقوله في قصة المخطوبة "زوجتكها بما معك من القرآن" فأما حديث عبادة بن الصامت أنه علم رجلا من أهل الصفة شيئا من القرآن فأهدى له قوسا فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله" فتركه رواه أبو داود وروي مثله عن أبي بن كعب مرفوعا فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم أبو عمر بن عبد البر على أنه لما علمه الله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة والله أعلم وقوله "وإياى فاتقون" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر الدوري حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عاصم الأحول عن أبي العالية عن طلق بن حبيب قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله وأن ترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله. ومعنى قوله "وإياي فاتقون" أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ

📘 يقول تعالى ناهيا لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل. تمويهه وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" فنهاهم عن الشيئين معا وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس - ولا تلبسوا الحق بالباطل - لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب وقال أبو العالية - ولا تلبسوا الحق بالباطل - يقول ولا تخلطوا الحق بالباطل وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحوه وقال قتادة "ولا تلبسوا الحق بالباطل" ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله. ورُوي عن الحسن البصري نحو ذلك. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم ورُوي عن أبي العالية نحو ذلك وقال مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس "وتكتموا الحق" يعني محمدا صلى الله عليه وسلم "قلت" وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوما ويحتمل أن يكون منصوبا أي لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال لا تأكل السمك وتشرب اللبن قال الزمخشري وفي مصحف ابن مسعود وتكتمون الحق أي في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضا ومعناه وأنتم تعلمون الحق. ويجوز أن يكون المعنى وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروجوه عليهم والبيان الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل.

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ

📘 قال مقاتل قوله تعالى لأهل الكتاب "وأقيموا الصلاة" أمرهم أن يصلوا مع النبي "وآتوا الزكاة" أمرهم أن يؤتوا الزكاة أي يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم "واركعوا مع الراكعين" أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقول كونوا معهم ومنهم وقال علي بن طلحة عن ابن عباس يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص وقال وكيع عن أبي جناب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله "وآتوا الزكاة" قال: ما يجب الزكاة؟ قال: مائتان فصاعدا وقال مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تعالى "وآتوا الزكاة" قال فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي حيان التيمي عن الحارث العكلي في قوله تعالى "وآتوا الزكاة" قال صدقة الفطر وقوله تعالى "واركعوا مع الراكعين" أي وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة. وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة وأبسط لك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله تعالى وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد.

۞ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

📘 يقول تعالى كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بما تأمرون الناس به وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم فتنتبهوا من رقدتكم وتتبصروا من عمايتكم. وهذا كما قال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" قال كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون فعيرهم الله عز وجل وكذلك قال السدي وقال ابن جريج "أتأمرون الناس بالبر" أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ويدعون العمل بما يأمرون به الناس فعيرهم الله بذلك فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة. وقال محمد بن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وتنسون أنفسكم" أى تتركون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي وتنقضون ميثاقي وتجحدون ما تعلمون من كتابي وقال الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية يقول أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم وقال أبو جعفر بن جرير حدثني علي بن الحسن حدثنا أسلم الحرمي حدثنا مخلد بن الحسين عن أيوب السختياني عن أبي قلابة في قول الله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب" قال أبو الدرداء رضي الله عنه لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق فقال الله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له بل على تركهم له فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السلام "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي ينهى غيره عنها وهذا ضعيف وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية فإنه لا حجة لهم فيها والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله وينهى عن المنكر وإن ارتكبه قال مالك عن ربيعة سمعت سعيد بن جبير يقول لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء؟ "قلت" لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي العمري قالا حدثنا هشام بن عمار حدثنا علي بن سليمان الكلبي حدثنا الأعمش عن أبي تميمة الهجيمي عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه" هذا حديث غريب من هذا الوجه. حديث آخر. قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا وكيع حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد هو ابن جدعان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار- قال قلت من هؤلاء؟ قالوا خطباء أمتك من أهل الدنيا من كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون" ورواه عبد بن حميد في مسنده وتفسيره عن الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة به ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث يونس بن محمد المؤدب والحجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة به وكذا رواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة به ثم قال ابن مردويه حدثنا محمد بن عبدالله بن إبراهيم حدثنا موسى بن هارون حدثنا.إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا عمر بن قيس عن علي بن زيد عن ثمامة عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم" وأخرجه ابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم وابن مردويه أيضا من حديث هشام الدستوائي عن المغيرة يعني ابن حبيب ختن مالك بن دينار عن مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس بن مالك قال لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم تقرض شفاههم فقال "يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم أفلا يعقلون" حديث آخر. قال الإمام أحمد حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال: قيل لأسامة وأنا رديفه ألا تكلم عثمان. فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه ألا أسمعكم إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه والله لا أقول لرجل إنك خير الناس وإن كان علي أميرا بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - قالوا وما سمعته - يقول؟ قال: سمعته يقول "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان ما أصابك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه" ورواه البخاري ومسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به نحوه وقال: أحمد حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء" وقد ورد في بعض الآثار: إنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب" وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن أناسا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون بم دخلتم النار؟ فو الله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم فيقولون إنا كنا نقول ولا نفعل" ورواه ابن جرير الطبري عن أحمد بن يحيى الخباز الرملي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الزهري عبدالله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره وقال: الضحاك عن ابن عباس إنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال أبلغت ذلك؟ قال أرجو قال إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل قال وما هن؟ قال قوله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" أحكمت هذه؟ قال لا قال فالحرف الثاني قال قوله تعالى "لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" أحكمت هذه؟ قال لا قال فالحرف الثالث قال قول العبد الصالح شعيب عليه السلام "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح" أحكمت هذه الآية؟ قال لا قال فابدأ بنفسك. رواه ابن مردويه في تفسيره وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا زيد بن الحارث حدثنا عبدالله بن خراش عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه" إسناده فيه ضعف وقال إبراهيم النخعي إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" وقوله "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" وقوله إخبارا عن شعيب "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ

📘 يقول تعالى آمرا عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الآية استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة فأما الصبر فقيل إنه الصيام نص عليه مجاهد قال القرطبي وغيره ولهذا يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث وقال: سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن جري ابن كليب عن رجل من بني سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الصوم نصف الصبر" وقيل المراد بالصبر الكف عن المعاصي ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها فعل الصلاة. قال ابن أبي حاتم حدثنا عبدالله بن حمزة بن إسماعيل حدثنا إسحق بن سليمان عن أبي سنان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال الصبر صبران صبر عند المصيبة حسن وأحسن منه الصبر عن محارم الله. قال: وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر. وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينار عن سعيد بن جبير قال الصبر اعتراف العبد لله بما أصيب فيه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر. وقال أبو العالية في قوله تعالى "واستعينوا بالصبر والصلاة" قال على مرضاة الله واعلموا أنها من طاعة الله وأما قوله والصلاة إن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر كما قال تعالى "اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر" الآية وقال الإمام أحمد حدثنا خلف بن الوليد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبدالله الدؤلي قال: قال عبدالعزيز أخو حذيفة قال حذيفة يعني ابن اليمان رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى ورواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي وقد رواه ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة بن عمار عن محمد بن أبي عبيد بن أبي قدامة عن عبدالعزيز بن اليمان عن حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ورواه بعضهم عن عبدالعزيز بن أخي حذيفة ويقال: أخي حذيفة مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمار قال: محمد بن عبدالله الدؤلي قال: عبدالعزيز قال حذيفة رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي وكان إذا حزبه أمر صلى. حدثنا عبدالله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا رضي الله عنه يقول لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح. قال ابن جرير وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه مر بأبي هريرة وهو منبطح على بطنه فقال له "أشكم درد" ومعناه أيوجعك بطنك ! قال: نعم - قال: "قم فصل فإن الصلاة شفاء" قال ابن جرير وقد حدثنا محمد بن الفضل ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية حدثنا عيينة بن عبدالرحمن عن أبيه أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين" وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج "واستعينوا بالصبر والصلاة" قال إنهما معونتان على رحمة الله والضمير في قوله وإنها لكبيرة عائد إلى الصلاة نص عليه مجاهد واختاره ابن جرير ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك كقوله تعالى في قصة قارون "وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون" وقال تعالى "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم" أي وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا وما يلقاها أي يؤتاها ويلهمها إلا ذو حظ عظيم. وعلى كل تقدير فقوله تعالى وإنها لكبيرة أي مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس يعني المصدقين بما أنزل الله وقال: مجاهد المؤمنين حقا وقال: أبو العالية إلا على الخاشعين الخائفين وقال مقاتل بن حيان إلا على الخاشعين يعني به المتواضعين وقال: الضحاك وإنها لكبيرة قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته الخائفين سطوته المصدقين بوعده ووعيده. وهذا يشبه ما جاء في الحديث. "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه" وقال: ابن جرير معنى الآية واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر المقربة من رضاء الله العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين أي المتواضعين المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته. هكذا قال: والظاهر أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص وإنما هي عامة لهم ولغيرهم والله أعلم.

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ

📘 وقوله تعالى الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون هذا من تمام الكلام الذي قبله أي أن الصلاة أو الوصاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة معروضون عليه وأنهم إليه راجعون أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات فأما قوله "يظنون أنهم ملاقو ربهم" قال ابن جرير رحمه الله العرب قد تسمي اليقين ظنا والشك ظنا نظير تسميتهم الظلمة سدفة والضياء سدفة والمغيث صارخا والمستغيث صارخا وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده كما قال دريد بن الصمة. فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد يعني بذلك تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم وقال عمير بن طارق. فإن يعبروا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما يعني وأجعل مني اليقين غيبا مرجما قال والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية ومنه قول الله تعالى "ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها" ثم قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن جابر عن مجاهد كل ظن في القرآن يقين أي ظننت وظنوا وحدثني المثنى حدثنا أبو داود الجبري عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال كل ظن في القرآن فهو علم وهذا سند صحيح وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم" قال: الظن هاهنا يقين قال: ابن أبي حاتم ورُوي عن مجاهد والسدي والربيع بن أنس وقتادة نحو قول أبي العالية وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج "الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم" علموا أنهم ملاقو ربهم كقوله "إني ظننت أني ملاق حسابيه" يقول علمت وكذا قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم "قلت" وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة "ألم أزوجك ألم أكرمك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وترتع"؟ فيقول بلى فيقول الله تعالى "أظننت أنك ملاقي"؟ فيقول لا فيقول الله "اليوم أنساك كما نسيتني" وسيأتي مبسوطا عند قوله تعالى "نسوا الله فنسيهم" إن شاء الله تعالى.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ

📘 يذكرهم تعالى بسالف نعمه على آبائهم وأسلافهم وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم كما قال تعالى "ولقد اخترناهم على علم على العالمين" وقال تعالى "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين" قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "وأني فضلتكم على العالمين" قال بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان فإن لكل زمان عالما ورُوي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك ويجب الحمل على هذا لأن هذه الأمة أفضل منهم لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم" وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى "كنتم خير أمة أخرجت للناس" وقيل المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس ويلزم تفضيلهم مطلقا حكاه الرازي وفيه نظر وقيل إنهم فضلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم حكاه القرطبي في تفسيره وفيه نظر لأن العالمين عام يشتمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة صلوات الله وسلامه عليه.

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ

📘 لما ذكرهم تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من طول نقمه يوم القيامة فقال: "واتقوا يوما" يعني يوم القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئا أي لا يغني أحد عن أحد كما قال "ولا تزر وازرة وزر أخرى" وقال: "لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه" وقال: "يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا" فهذا أبلغ المقامات أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا وقوله تعالى "ولا يقبل منها شفاعة" يعني من الكافرين كما قال "فما تنفعهم شفاعة الشافعين" وكما قال عن أهل النار "فما لنا من شافعين ولا صديق حميم" وقوله تعالى "ولا يؤخذ منها عدل" أي لا يقبل منها فداء كما قال تعالى "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به" وقال "إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم" وقال تعالى "وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها" وقال "فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم" الآية. فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهبا كما قال تعالى "من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة" وقال "لا بيع فيه ولا خلال" قال: سنيد حدثني حجاج حدثني ابن جريج قال: قال مجاهد قال ابن عباس "ولا يؤخذ منها عدل" قال بدل والبدل الفدية وقال السدي أما عدل فيعد لها من العدل يقول لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها وكذا قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله "ولا يقبل منها عدل" يعني فداء قال ابن أبي حاتم ورُوي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك وقال عبدالرزاق أنبأنا الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه في حديث طويل قال والصرف والعدل التطوع والفريضة وكذا قال الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة عن عمير بن هانئ وهذا القول غريب هاهنا والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية وقد ورد حديث يقويه وهو ما قال ابن جرير حدثني نجيح بن إبراهيم حدثنا علي بن حكيم حدثنا حميد بن عبدالرحمن عن أبيه عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن عليه الثناء قال قيل يا رسول الله ما العدل؟ قال "العدل الفدية" وقوله تعالى "ولا هم ينصرون" أي ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه ولا يقبل منهم فداء هذا كله من جانب التلطف ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم كما قال "فما له من قوة ولا ناصر" أي أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ولا يخلص منه أحد ولا يجير منه أحد كما قال تعالى "وهو يجير ولا يجار عليه" وقال "فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد" وقال "ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون" وقال "فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم" الآية وقال: الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى "ما لكم لا تناصرون" ما لكم اليوم لا تمانعون منا هيهات ليس ذلك لكم اليوم قال ابن جرير وتأويل قوله "ولا هم ينصرون" يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر كما لا يشفع لهم شافع ولا يقبل منهم عدل ولا فدية بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشى والشفاعات وارتفع من القوم التناصر والتعاون وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها وذلك نظير قوله تعالى "وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون".

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ

📘 يقول تعالى اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب أي خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام وقد كانوا يسومونكم أي يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل ويقال بعد تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة وهكذا جاء حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها وههنا فسر العذاب بذبح الأبناء وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال "يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم" وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص إن شاء الله تعالى وبه الثقة والمعونة والتأييد. ومعنى يسومونكم يولونكم قاله أبو عبيدة كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها قال: عمرو بن كلثوم: إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا وقيل معناه يديمون عذابكم كما يقال سائمة الغنم من إدامتها الرعي. نقله القرطبي وإنما قال هاهنا "يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم" ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله "يسومونكم سوء العذاب" ثم فسره بهذا لقوله ههنا "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" وأما في سورة إبراهيم فلما قال "وذكرهم بأيام الله" أي بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك "يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم" بعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل. وفرعون علم كل من ملك مصر كافرا من العماليق وغيرهم كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرا وكسرى لمن ملك الفرس وتبع لمن ملك اليمن كافرا والنجاشي لمن ملك الحبشة وبطليموس لمن ملك الهند ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام الوليد بن مصعب بن الريان وقيل: مصعب بن الريان فكان من سلالة عمليق بن الأود بن إرم بن سام بن نوح وكنيته أبو مرة وأصله فارسي من اصطخر وإياما كان فعليه لعنة الله وقوله تعالى "وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم" قال ابن جرير وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم أي نعمة عظيمة عليكم في ذلك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى "بلاء من ربكم عظيم" قال نعمة وقال مجاهد "بلاء من ربكم عظيم" قال نعمة من ربكم عظيمة وكذا قال أبو العالية وأبو مالك والسدى وغيرهم وأصل البلاء الاختبار وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" وقال "وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون" قال ابن جرير وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاء وفي الخير أبليه إبلاء وبلاء قال زهير بن أبي سلمى: جزى الله بإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو قال فجمع بين اللغتين لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده وقيل المراد بقوله "وفي ذلكم بلاء" إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء قال: القرطبي وهذا قول الجمهور ولفظه بعد ما حكى القول الأول ثم قال: وقال الجمهور الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هاهنا في الشر والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان.

أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

📘 يقول الله تعالى أولئك أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق من الذي رزقهم الله والإيمان بما أنزل الله إلى الرسول ومن قبله من الرسل والإيقان بالدار الآخرة وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات على هدى أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى وأولئك هم المفلحون أي في الدنيا والآخرة وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أولئك على هدى من ربهم أي على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به وأولئك هم المفلحون أي الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا وقال ابن جرير وأما معنى قوله تعالى أولئك على هدى من ربهم فإن معنى ذلك فإنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه لهم وتأويل قوله تعالى "وأولئك هم المفلحون أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب والخلود في الجنات والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب. وقد حكى ابن جرير قولا عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى "والذين يؤمنون بما أنزل إليك" الآية على ما تقدم من الخلاف. وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى. "والذين يؤمنون بما أنزل إليك" الآية على ما تقدم من الخلاف. وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى "والذين يؤمنون بما أنزل إليك" منقطعا مما قبله وأن يكون مرفوعا على الابتداء وخبره أولئك هم المفلحون واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب لما رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال "أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة والإشارة عائدة عليهم والله أعلم. وقد نقل عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة رحمهم الله وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري حدثنا أبي حدثنا ابن لهيعة حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن عبدالله عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس أو كما قال: قال "أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار" قالوا بلى يا رسول الله. قال الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين - إلى قوله تعالى - المفلحون هؤلاء أهل الجنة" قالوا إنا نرجو أن نكون هؤلاء ثم قال "إن الذين كفروا سواء عليهم - إلى قوله - عظيم" هؤلاء أهل النار" قالوا لسنا هم يا رسول الله. قال: "أجل".

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ

📘 معناه وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلا كما سيأتي في مواضعه ومن أبسطها ما في سورة الشعراء إن شاء الله "فأنجيناكم" أي خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم وأنتم تنظرون ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم. قال عبدالرزاق أنبأنا معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى "وإذ فرقنا بكم البحر- إلى قوله - وأنتم تنظرون" قال لما خرج موسى ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا فدعا بشاة فذبحت ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلى ستمائة ألف من القبط فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط فلما أتي موسى البحر قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون أين أمر ربك؟ قال أمامك؟ يشير إلى البحر فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر فذهب به الغمر ثم رجع فقال: أين أمر ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت فعل ذلك ثلاث مرات ثم أوحى الله إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم - يقول مثل الجبل - ثم سار موسى ومن معه واتبعهم فرعون في طريقهم حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال "وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون" وكذلك قال غير واحد من السلف كما سيأتي بيانه في موضعه وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء كما قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عبدالله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال "ما هذا اليوم الذي تصومون"؟ قالوا هذا يوم صالح هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا أحق بموسى منكم" فصامه وأمر بصومه وروى هذا الحديث البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق عن أيوب السختياني به نحو ما تقدم وقال أبو يعلى الموصلي حدثنا أبو الربيع حدثنا سلام يعني ابن سليم عن زيد العمي عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء" وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيد العمي فيه ضعف وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه.

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ

📘 يقول تعالى واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة وكانت أربعين يوما وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى "وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر" قيل إنها ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر.

ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

📘 يقول تعالى واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة وكانت أربعين يوما وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى "وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر" قيل إنها ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر.

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

📘 "وإذ آتينا موسى الكتاب" يعني التوراة "والفرقان" وهو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلالة لعلكم تهتدون وكان ذلك أيضا بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف ولقوله تعالى "ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون" وقيل الواو زائدة والمعنى ولقد آتينا موسى الكتاب الفرقان وهذا غريب وقيل عطف عليه وإن كان المعنى واحدا كما في قول الشاعر: وقدمت الأديم لراقشيه فألفى قولها كذبا ومينا وقال الآخر: ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونهـا النأي والبعد فالكذب هو المين والنأي هو البعد. وقال عنترة: حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو.

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

📘 هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى "وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل" فقال ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حتى قال الله تعالى "ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا" الآية. قال: فذلك حين يقول موسى "يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل" قال أبو العالية وسعيد بن جبير والربيع بن أنس "فتوبوا إلى بارئكم" أي إلى خالقكم قلت وفي قوله هاهنا "إلى بارئكم" تنبيه على عظم جرمهم أى فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره. وقد روى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث يزيد بن هارون عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فقال الله تعالى: إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله على ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا به فغفر الله للقاتل والمقتول وهذا قطعة من حديث الفنون وسيأتي في سورة طه بكماله إن شاء الله. وقال ابن جرير: حدثني عبدالكريم بن الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم. قال أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم قال: وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضه بعضا فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل كل من قتل منهم كان له توبة وكل من بقي كانت له توبة. وقال ابن جرير: أخبرني القاسم بن أبي برة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدا يقولان في قوله تعالى "فاقتلوا أنفسكم" قالا: قال بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعض لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد حتى ألوى موسى بثوبه فطرحوا ما بأيديهم فكشف عن سبعين ألف قتيل وأن الله أوحى إلى موسى أن حسبي فقد اكتفيت فذلك حين ألوى موسى بثوبه. وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا حتى بلغ الله فيهم نقمته فسقطت الشفار من أيديهم فأمسك عنهم القتل فجعل لحيهم توبة وللمقتول شهادة. وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة حندس فقتل بعضهم بعضا ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك وقال السدي: في قوله "فاقتلوا أنفسكم" قال فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف فكان من قتل من الفريقين شهيدا حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل منهم سبعون ألفا وحتى دعا موسى وهارون ربنا أهلكت بني إسرائيل ربنا البقية البقية فأمرهم أن يلقوا السلاح وتاب عليهم فكان من قتل منهم من الفريقين شهيدا ومن بقي مكفرا عنه فذلك قوله "فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم" وقال الزهري: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسهم برزوا ومعهم موسى فاضطربوا بالسيوف وتطاعنوا بالخناجر وموسى رافع يديه حتى إذا فتر بعضهم قالوا يا نبي الله ادع الله لنا وأخذوا بعضديه يسندون يديه فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم بعضهم عن بعض فألقوا السلاح وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى ما يحزنك أما من قتل منهم فحي عندي يرزقون وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه. وقال: ابن إسحاق لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذراه في اليم خرج إلى ربه بمن اختار من قومه فأخذتهم الصاعقة ثم بعثوا فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى نصبر لأمر الله فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده فجلسوا بالأفنية وأصلت عليهم القوم السيوف فجعلوا يقتلونهم فهش موسى فبكى إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم لما رجع موسى إلى قومه وكانوا سبعين رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه فقال: لهم موسى انطلقوا إلى موعد ربكم فقالوا يا موسى ما من توبة قال بلى: اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم - الآية فاخترطوا السيوف والجزرة والخناجر والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابة قال فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضا قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لا يدري. قال ويتنادون فيها رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه قال فقتلاهم شهداء وتِيب على أحيائهم ثم قرأ "فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم".

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ

📘 يقول تعالى واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانا مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم كما قال ابن جريج قال: ابن عباس في هذه الآية "وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" قال علانية وكذا قال: إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبي الحويرث عن ابن عباس أنه قال: في قوله تعالى "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" أي علانية أي حتى نرى الله وقال قتادة والربيع بن أنس "حتى نرى الله جهرة" أي عيانا وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه قال فسمعوا كلاما فقالوا "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" قال فسمعوا صوتا فصعقوا يقول مالوا. وقال: مروان بن الحكم فيما خطب به على منبر مكة الصاعقة صيحة من السماء وقال السدي في قوله "فأخذتكم الصاعقة" نار وقال: عروة بن رويم في قوله "وأنتم تنظرون" قال: صعق بعضهم وبعض ينظرون ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء وقال السدي "فأخذتكم الصاعقة" فماتوا فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجل رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون.

ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

📘 وقال الربيع بن أنس كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم وكذا قال: قتادة وقال: ابن جرير حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحق قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه وللسامري ما قال: وحرق العجل وذراه في اليم اختار موسى منهم سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله قالوا: يا موسى اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال: للقوم ادنوا وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا لموسى "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعا وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول "رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي" قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا؟ أي إن هذا لهم هلاك واخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ "إنا هدنا إليك" فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل فقال لا إلا أن يقتلوا أنفسهم - هذا سياق محمد بن إسحاق - وقال إسماعيل بن عبدالرحمن السدي الكبير لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موسى فاختار موسى سبعين رجلا على عينه ثم ذهب بهم ليعتذروا وساق البقية وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله "وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" والمراد السبعون المختارون منهم ولم يحك كثير من المفسرين سواه وقد أغرب الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين أنهم بعد إحيائهم قالوا يا موسى إنك لا تطلب من الله شيئا إلا أعطاك فادعه أن يجعلنا فدعا بذلك فأجاب الله دعوته وهذا غريب جدا إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هرون ثم يوشع بن نون وقد غلط أهل الكتاب أيضا في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمنع منه كيف يناله هؤلاء السبعون. القول الثاني في الآية قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية قال: لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة فوجدهم يعبدون العجل فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا فتاب الله عليهم فقال إن هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه فقالوا ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله علينا ويقول هذا كتابي فخذوه فماله لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى وقرأ قول الله "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" قال فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون قال ثم أحياهم الله من بعد موتهم وقرأ قول الله "ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون" فقال لهم موسى خذوا كتاب الله فقالوا لا فقال أي شيء أصابكم؟ فقالوا أصابنا أنا متنا ثم أحيينا قال خذوا كتاب الله قالوا لا فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماوردي في ذلك قولين أحدهما أنه سقط التكليف عنهم لمعاينته الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق والثاني أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف قال القرطبي وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورا عظاما من خوارق العادات وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح والله أعلم.

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

📘 لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضا بما أسبغ عليهم من النعم فقال وظللنا عليكم الغمام وهو جمع غمامة سمي بذلك لأنه يغم السماء أي يواريها ويسترها وهو السحاب الأبيض ظللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون قال: ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام قال ابن أبي حاتم وروى عن ابن عمر والربيع بن أنس وأبي مجلز والضحاك والسدي نحو قول ابن عباس وقال الحسن وقتادة "وظللنا عليكم الغمام" كان هذا في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس وقال: ابن جرير قال: آخرون وهو غمام أبرد من هذا وأطيب. وقال ابن أبى حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "وظللنا عليكم الغمام" قال ليس بالسحاب هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ولم يكن إلا لهم. وهكذا رواه ابن جرير عن المثنى بن إبراهيم عن أبي حذيفة وكذا رواه الثوري وغيره عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وكأنه يريد والله أعلم أنه ليس من زي هذا السحاب بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: قال ابن عباس "وظللنا عليكم الغمام" قال غمام أبرد من هذا وأطيب وهو الذي يأتي الله فيه في قوله "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة" وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس وكان معهم في التيه: وقوله تعالى "وأنزلنا عليكم المن" اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو؟ فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كان المن ينزل عليهم على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤا. وقال مجاهد المن صمغة وقال: عكرمة المن شيء أنزله الله عليهم مثل الظل شبه الرب الغليظ وقال: السدي قالوا يا موسى كيف لنا بما ههنا أين الطعام فأنزل الله عليهم المن فكان يسقط على شجرة الزنجبيل وقال: قتادة كان المن ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء وهذا كله في البرية وقال: الربيع بن أنس المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه. وقال وهب بن منبه وسئل عن المن فقال خبز رقاق مثل الذرة أو مثل النقي وقال أبو جعفر بن جرير حدثني محمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا إسرائيل عن جابر عن عامر وهو الشعبي قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن وكذا قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنه العسل وقع في شعر أمية بن أبي الصلت حيث قال: فرأى الله أنهم بمضيع لا بذي مزرع ولا مثمورا فسناها عليهم غاديات ويرى مزنهم خلايا وخورا عسلا ناطفا وماء فراتا وحليبا ذا بهجة مزمورا فالناطف هو السائل والحليب المزمور الصافي منه والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن فمنهم من فسره بالطعام ومنهم من فسره بالشراب والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كذا فالمن المشهور أن أكل وحده كان طعاما وحلاوة وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا وإن ركب مع غيره صار نوع آخر ولكن ليس هو المراد من الآية وحده والدليل على ذلك قول البخاري حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبدالملك بن عمير بن حريث عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة عن عبدالملك وهو ابن عمير به وأخرجه الجماعة في كتبهم إلا أبا داود من طرق عن عبدالملك وهو ابن عمير به وقال الترمذي حسن صحيح ورواه البخاري ومسلم من رواية الحسن العرني عن عمرو بن حريث به وقال: الترمذي حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن عيلان قالا: حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " تفرد بإخراجه الترمذي ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن محمد بن عمرو ولا من حديث سعيد بن عامر عنه وفي الباب عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وجابر كذا قال- وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من طريق آخر عن أبي هريرة فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري حدثنا أسلم بن سهل حدثنا القاسم بن عيسى حدثنا طلحة بن عبدالرحمن عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " وهذا حديث غريب من هذا الوجه وطلحة بن عبدالرحمن هذا السلمي الواسطي يكنى بأبي محمد وقيل أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها. ثم قال الترمذي حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا الكمأة جدري الأرض فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم " وهذا الحديث قد رواه النسائي عن محمد بن بشار به وعنه عن غندر عن شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة به وعن محمد بن بشار عن عبدالأعلى عن خالد الحذاء عن شهر بن حوشب بقصة الكمأة فقط. وروى النسائي أيضا وابن ماجه من حديث محمد بن بشار عن أبي عبدالصمد بن عبدالعزيز بن عبدالصمد عن مطر الوراق عن شهر بقصة العجوة عند النسائي وبالقصتين عند ابن ماجه وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة فإنه لم يسمع منه بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبدالأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة وبعضهم يقول جدري الأرض فقال " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " وروى عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر كما قال الإمام أحمد حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن جابر بن عبدالله وأبي سعيد الخدري قالا قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم " وقال النسائي في الوليمة أيضا حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشـر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " ثم رواه أيضا ابن ماجه من طرق عن الأعمش عن أبي بشر عن شهر عنهما به وقد رويا - أعني النسائي من حديث جرير وابن ماجه من حديث سعيد بن أبي سلمة - كلاهما عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد رواه النسائي وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " ورواه ابن مردويه عن أحمد بن عثمان عن عباس الدوري عن لاحق بن صواب عن عمار بن رزيق عن الأعمش كابن ماجه وقال: ابن مردويه أيضا حدثنا أحمد بن عثمان حدثنا عباس الدوري حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأعمش عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أبي سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت فقال " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " وأخرجه النسائي عن عمرو بن منصور عن الحسن بن الربيع به ثم ابن مردويه رواه أيضا عن عبدالله بن إسحاق عن الحسن بن سلام عن عبيد الله بن موسى عن شيبان عن الأعمش به وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن عبيد الله بن موسى وقد روى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه كما قال ابن مردويه حدثنا محمد بن عبدالله بن إبراهيم حدثنا حمدون بن أحمد حدثنا جويرة بن أشرس حدثنا حماد عن شعيب بن الحجاب عن أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تداروا في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار فقال بعضهم نحسبه الكمأة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " الكمأة من المن وماؤها شفاء العين والعجوة من الجنة وفيها شفاء من السم " وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئا من هذا والله أعلم: وروى عن شهر عن ابن عباس كما رواه النسائي أيضا في الوليمة عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد عن عبدالله بن عون الخراز عن أبي عبيدة الحداد عن عبد الجليل بن عطية عن عبدالله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " فقد اختلف كما ترى فيه على شهر بن حوشب ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه الطرق كلها وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم فإن الأسانيد إليه جيدة وهو لا يتعمد الكذب وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم من رواية سعيد بن زيد رضي الله عنه. وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس السلوى طائر يشبه بالسماني كانوا يأكلون منه. وقال السدي في خبره ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة السلوى طائر يشبه السماني وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عبدالصمد بن عبد الوارث حدثنا قوة بن خالد عن جهضم عن ابن عباس قال السلوى هو السماني وكذا قال: مجاهد والشعبي والضحاك والحسن وعكرمة والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى وعن عكرمة أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور أو نحو ذلك. وقال قتادة: السلوى كان من طير إلى الحمرة تحشرها عليهم الريح الجنوب وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك فإذا تغذى فسد ولم يبق عنده حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه وقال: وهب بن منبه: السلوى طير سمين مثل الحمامة كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت وفي رواية عن وهب وقال: سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام لحما فقال الله لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض فأرسل عليهم ريح فأذرت عند مساكنهم السلوى وهو السماني مثل ميل في ميل قيد رمح في السماء فخبئوا للغد فنتن اللحم وخنز الخبر وقال السدي لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام كيف لنا بما ههنا أين الطعام فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجر الزنجبيل والسلوى وهو طائر يشبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله فإذا سمن أتاه فقالوا هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عين فشرب كل سبط من عين فقالوا هذا الشراب فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام فقالوا هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان ولا يتخرق لهم ثوب فذلك قوله تعالى "وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى" وقوله "وإذا ستسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين" وروي عن وهب بن منبه وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي وقال: سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن قال ابن جريج: فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسدا قال: ابن عطية السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي في قوله إنه العسل وأنشد في ذلك مستشهدا: وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما أشورها قال فظن أن السلوى عسلا قال القرطبي: دعوى الإجماع لا يصح لأن المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير قال إنه العسل واستدل ببيت الهذلي هذا وذكر أنه كذلك فى لغة كنانة لأنه يسلي به ومنه عين سلوان وقال الجوهري: السلوى العسل واستشهد ببيت الهذلي أيضا والسلوانة بالضم خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا قال الشاعر: شربت على سلوانة ماء مزنة فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو واسم ذلك الماء السلوان وقال بعضهم السلوان دواء يشفي الحزين فيسلو والأطباء يسمونه مفرج قالوا والسلوى جمع بلفظ الواحد أيضا كما يقال سماني للمفرد والجمع وويلي كذلك وقال الخليل واحده سلواة وأنشد: وإني لتعروني لذكـراك هزة كما انتفض السلواة من بلل القطر وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوي نقله كله القرطبي وقوله تعالى "كلوا من طيبات ما رزقناكم" أمر إباحة وإرشاد وامتنان وقوله تعالى "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا كما قال "كلوا من رزق ربكم واشكروا له" فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات وخوارق العادات ومن ههنا متبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم و رضى عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته منها عام تبوك في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلا على النبي ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملؤا كل وعاء معهم وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملؤا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر. فهذا هو الأكمل في اتباع الشيء مع قدر الله مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ

📘 يقول تعالى لائما لهم على نكولهم عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من برد مصر صحبة موسى عليه السلام فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل وقتال من فيها من العماليق الكفرة فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والربيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى حاكيا عن موسى "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا" الآيات. وقال: آخرون هي أريحا ويحكى عن ابن عباس وعبدالرحمن بن زيد وهذا بعيد لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحا وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر حكاه الرازي في تفسيره والصحيح الأول أن بيت المقدس وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام وفتحها الله عليهم عشية جمعة وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح ولما فتحوها أقروا أن يدخلوا الباب باب البلد "سجدا" أي شكر الله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس إنه كان يقول في قوله تعالى "وادخلوا الباب سجدا" أي ركعا وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله "وادخلوا الباب سجدا" قال ركعا من باب صغير رواه الحاكم من حديث سفيان به ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان وهو الثوري به وزاد فدخلوا من قبل استاههم وقال الحسن البصري أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي وحكى عن بعضهم أن المراد ههنا في السجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته وقال الخصيف: قال عكرمة قال ابن عباس كان الباب قبل القبلة وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس وحكى الرازي عن بعضهم أنه عنى بالباب جهة من جهات القبلة وقال خصيف قال عكرمة قال: ابن عباس فدخلوا على شق وقال السدي عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن عبدالله بن مسعود قيل لهم ادخلوا الباب سجدا فدخلوا مقنعي رؤسهم أي رافعي رؤسهم خلاف ما أمروا وقوله تعالى "وقولوا حطة" قال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "وقولوا حطة" قال مغفرة استغفروا وروى عن عطاء والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه وقال الضحاك عن ابن عباس "وقولوا حطة" قال قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم وقال عكرمة قولوا "لا إله إلا الله" وقال الأوزاعي. كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه فسأله عن قوله تعالى "وقولوا حطة" فكتب إليه أن أقروا بالذنب وقال: الحسن وقتادة أي احطط عنا خطايانا "نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين" وقال هذا جواب الأمر أي إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضعفنا لكم الحسنات وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى "إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا" فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر وفسره ابن عباس بأنه نعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها وأقره على ذلك عمر رضي الله عنه ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ونعي إليه روحه الكريمة أيضا ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جدا عند النصر كما روي أنه كان يوم الفتح فتح مكة داخلا إليها من الثنية العليا وإنه لخاضع لربه حتى أن عثنونه ليمس مورك رحله شكرا لله على ذلك ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى وقال: بعضهم هذه صلاة الضحى وقال: آخرون بل هي صلاة الفتح فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلدا أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتي بتسليم وقيل يصليها كلها بتسليم واحد والله أعلم.

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ

📘 وقوله تعالى فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم قال: البخاري حدثني محمد حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة - فدخلوا يزحفون على استاهم فبدلوا وقالوا حبة في شعرة" ورواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن عبدالرحمن به موقوفا وعن محمد بن عبيد بن محمد عن ابن المبارك ببعضه مسندا في قوله تعالى "حطة" قال فبدلوا وقالوا حبة وقال عبدالرزاق أنبأنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله لبني إسرائيل "ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم" فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على استاههم فقالوا حبة في شعرة" وهذا حديث صحيح رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ومسلم عن محمد بن رافع والترمذي عن عبدالرحمن بن حميد كلهم عن عبدالرزاق به وقال الترمذي حسن صحيح وقال محمد بن إسحاق كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة وعمن لا أتهم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا - يزحفون على استاههم وهم يقولون حنطة في شعيرة" وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح وحدثنا سليمان بن داود حدثنا عبدالله بن وهب حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال الله لبني إسرائيل "ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم" ثم قال أبو داود حدثنا أحمد بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك عن هشام بمثله هكذا رواه منفردا به في كتاب الحروف مختصرا وقال: ابن مردويه حدثنا عبدالله بن جعفر حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا أحمد بن محمد بن المنذر القزاز حدثنا محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل أجزنا فى ثنية يقال لها ذات الحنظل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل "ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم" وقال: سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء "سيقول السفهاء من الناس" قال: اليهود قيل لهم ادخلوا الباب سجدا قال: ركعا وقولوا حطة أي مغفرة فدخلوا على أستاههم وجعلوا يقولون حنطة حمراء فيها شعيرة فذلك قول الله تعالى "فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم" وقال الثوري عن السدي عن أبي سعد الأزدي عن أبي الكنود عن ابن مسعود وقولوا حطة فقالوا حنطة حبة حمراء فيها شعيرة فأنزل الله "فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم" وقال أسباط عن السدي عن مرة عن ابن مسعود أنه قال إنهم قالوا هطا سمعانا أزبة مزبا فهي بالعربية حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء فذلك قوله تعالى" فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم" وقال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد عن ابن عباس في قوله تعالى" ادخلوا الباب سجدا" قال ركعا من باب صغير فدخلوا من قبل استاههم وقالوا حنطة فذلك قوله تعالى "فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم" وهكذا روى عن عطاء ومجاهد وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن رافع. وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل فأمروا أن يدخلوا سجدا فدخلوا يزحفون على استاههم من قبل استاههم رافعي رؤسهم وأمروا أن يقولوا حطة أي احطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزءوا فقالوا حنطة في شعيرة وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته. ولهذا قال "فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون" وقال الضحاك عن ابن عباس كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب وهكذا روى عن مجاهد وأبي مالك والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب وقال أبو العالية الرجز الغضب وقال الشعبي الرجز إما الطاعون وإما البرد وقال سعيد بن جبير هو الطاعون وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم بن سعد يعني ابن أبي وقاص عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم" وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت "إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها" الحديث قال ابن جرير أخبرني يونس بن عبدالأعلى عن ابن وهب عن يونس عن الزهري قال: أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن هذا الوجع والسقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم" وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين من حديث الزهري ومن حديث مالك عن محمد ابن المنكدر وسالم بن أبي النضر عن عامر بن سعد بنحوه.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

📘 يقول تعالى "إن الذين كفروا" أي غطوا الحق وستروه وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك سواء عليهم إنذارك وعدمه فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به. كما قال تعالى "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم" وقال تعالى في حق المعاندين من أهل الكتاب "ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك" الآية أي أن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له ومن أضله فلا هادي له فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وبلغهم الرسالة فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يهمنك ذلك "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "إن الذين كفروا" أي بما أنزل إليك وإن قالوا إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" أي إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق وقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا وقد كفروا بما عندهم من علمك وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب وهم الذين قال الله فيهم "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها" والمعنى الذي ذكرناه أولا وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة أظهر ويفسر ببقية الآيات التي في معناها والله أعلم. وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا فقال: حدثنا أبي حدثنا يحيي بن عثمان بن صالح المصري حدثنا أبي حدثنا ابن لهيعة حدثني عبدالله بن المغيرة عن أبي الهيثم عن عبدالله بن عمرو قال قيل يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن نيأس فقال "ألا أخبركم" ثم قال "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" هؤلاء أهل النار" قالوا: لسنا منهم يا رسول الله. قال "أجل" وقوله تعالى "لا يؤمنون" محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم" أي هم كفار في كلا الحالين فلهذا أكد ذلك بقوله تعالى "لا يؤمنون" ويحتمل أن يكون لا يؤمنون خبرا لأن تقديره إن الذين كفروا لا يؤمنون ويكون قوله تعالى "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم" جمله معترضة والله أعلم.

۞ وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ

📘 يقول تعالى واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه السلام حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر يحمل معكم وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي عشرة عينا كل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها فكلو من المن والسلوى واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد واعبدوا الذي سخر لكم ذلك "ولا تعثوا في الأرض مفسدين" ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها. وقد بسطه المفسرون في كلامهم كما قال: ابن عباس رضي الله عنه وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع وأمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وهو حديث الفتون الطويل. وقال: عطية العوفي وجعل لهم حجرا مثل رأس الثور يحمل على ثور فإذا نزلوا منزلا وضعوه فضربه موسى عليه السلام بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا فإذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء وقال: عثمان ابن عطاء الخراساني عن أبيه كان لبني إسرائيل حجر فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا وقال قتادة كان حجرا طوريا من الطور يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه وقال: الزمخشري وقيل كان من رخام وكان ذراعا في ذراع وقيل مثل رأس الإنسان وقيل كان من الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان يتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار قال وقيل أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا وقيل هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل فقال: له جبريل ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته قال الزمخشري محتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر وعن الحسن لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه قال وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس فقالوا إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون والله أعلم وقال يحيى بن النضر: قلت لجويبر كيف علم كل أناس مشربهم؟ قال: كان موسى يضع الحجر ويقوم من كل سبط رجل ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا فينضح من كل عين على رجل فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين وقال الضحاك: قال ابن عباس لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهارا وقال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس: قال ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتي عشرة عينا من ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها وقال مجاهد نحو قول ابن عباس وهذه القصة شبيهة بالقصة التي في سورة الأعراف ولكن تلك مكية; فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب لأن الله تعالى يقص على رسوله - صلى الله عليه وسلم ما فعل بهم. وأما في هذه السورة وهي البقرة فهي مدنية فلهذا كان الخطاب فيها متوجها إليهم وأخبر هناك بقوله "فانبجست منه اثنتا عشرة عينا" وهو أول الانفجار وأخبر هاهنا بما آل إليه الحال آخرا وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار هاهنا وذاك هناك والله أعلم. وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الزمخشري في تفسيره وأجاب عنها بما عنده والأمر في ذكل قريب والله أعلم.

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ

📘 يقول تعالى واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاما طيبا نافعا هنيئا سهلا واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم قال الحسن البصري فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه وكانوا قوما أهل أعداس وبصل وبقل وفوم فقالوا "يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها" وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم فهو مأكل واحد. فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة وأما الفوم فقد اختلف السلف في معناه فوقع في قراءة ابن مسعود وثومها بالثاء وكذا فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم عنه بالثوم. وكذا الربيع بن أنس وسعيد بن جبير وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحق البصري عن يونس عن الحسن في قوله "وفومها" قال: قال ابن عباس الثوم قال وفي اللغة القديمة فوموا لنا بمعنى اختزوا قال ابن جرير: فإن كان ذلك صحيحا فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر وأثافي وأثاثي ومغافير ومغاثير وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما والله أعلم وقال آخرون الفوم الحنطة وهو البر الذي يعمل منه الخبز قال: ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبدالأعلى قراءة أنبأنا ابن وهب قراءة حدثني نافع بن أبي نعيم أن ابن عباس سئل عن قول الله "وفومها" ما فومها؟ قال الحنطة. قال ابن عباس. أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول: قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ورد المدينة عن زراعة فوم وقال ابن جرير حدثنا علي بن الحسن حدثنا مسلم الجهني حدثنا عيسى بن يونس عن رشيد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس في قول الله "وفومها" قال الفوم الحنطة بلسان بني هاشم وكذا قال علي بن أبي طلحة والضحاك عن ابن عباس وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم الحنطة وقال سفيان الثوري: عن ابن جريج عن مجاهد وعطاء "وفومها" قالا وخبزها. وقال هشيم عن يونس عن الحسن وحصين أبي مالك "وفومها" قال الحنطة وهو قول عكرمة والسدي والحسن البصري وقتادة وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم فالله أعلم وقال الجوهري: الفوم الحنطة وقال ابن دريد: الفوم السنبلة. وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة أن الفوم كل حب يختبز. قال وقال بعضهم هو الحمص لغة شامية ومنه يقال لبائعه فامي مغير عن فومي قال البخاري. وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم وقوله تعالى "قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير" فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنيء الطيب النافع. وقوله تعالى "اهبطوا مصرا" هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف. قال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك: وقال ابن عباس "اهبطوا مصرا" من الأمصار رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان عن عكرمة عنه قال: وروى عن السدي وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك وقال ابن جرير وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود "اهبطوا مصر" من غير إجراء يعني من غير صرف ثم روى عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والربيع وعن الأعمش أيضا. قال ابن جرير ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الأجراء أيضا مكون ذلك من باب الاتباع لكتابة المصحف كما في قوله تعالى "قواريرا قواريرا" ثم توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار وهذا الذي قاله فيه نظر والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره والمعنى على ذلك لأن موسى عليه السلام يقول لهم هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز بل هو كثيرا في أي بلد دخلتموها وجدتموه فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه. ولهذا قال "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم" أي ما طلبتم ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم يقول تعالى "وضربت عليهم الذلة والمسكنة" أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعا وقدرا أي لا يزالون مستذلين من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء مستكينون. وقال الضحاك عن ابن عباس "وضربت عليهم الذلة والمسكنة" قال هم أصحاب القبالات يعني الجزية. وقال عبدالرزاق عن معمر عن الحسن وقتادة في قوله تعالى "وضربت عليهم الذلة" قال يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وقال الضحال وضربت عليهم الذلة قال الذل. وقال الحسن أذلهم الله فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي المسكنة الفاقة. وقال عطية العوفي الخراج وقال الضحاك الجزية وقوله تعالى "وباءوا بغضب من الله" قال الضحاك استحقوا لغضب من الله وقال الربيع بن أنس فحدث عليهم غضب من الله وقال سعيد بن جبير "وباءوا بغضب من الله" يقول استوجبوا سخطا وقال ابن جرير: يعني بقوله وباءوا بغضب من الله انصرفوا ورجعوا ولا يقال باء إلا موصولا إما بخير وإما بشر يقال منه باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء ومنه قوله تعالى "إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك" يعني تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام إذا رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب ووجب عليهم من الله سخط. وقوله تعالى "ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق" يقول تعالى هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم من الذلة بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم فلا كفر أعظم من هذا أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الكبر بطر الحق وغمط الناس" وقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا إسماعيل عن ابن عون عن عمرو بن سعد عن حميد بن عبدالرحمن قال: قال ابن مسعود كنت لا أحجب عن النجوى ولا عن كذا ولا عن كذا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي فأدركته من آخر حديثه وهو يقول يا رسول الله قد قسم لي من الجمال ما ترى فما أحب أن أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما أليس ذلك هو البغي؟ فقال "لا ليس ذلك من البغي ولكن البغي من بطر أو قال سفه الحق وغمط الناس" يعني رد الحق وانتقاص الناس والازدراء بهم والتعاظم عليهم ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله وقتلهم أنبياءه أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقا قال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبدالله بن مسعود قال كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار وقد قال الإمام أحمد حدثنا عبدالصمد حدثنا أبان حدثنا عاصم عن أبي وائل عن عبدالله يعني ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبيا وإمام ضلالة وممثل من الممثلين" وقوله تعالى "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون فالعصيان فعل المناهي والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به والله أعلم.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

📘 لما بين تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى وكذلك الأمر إلى قيام الساعة كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون" قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمر بن أبي عمر العدوي حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر" الآية وقال السدي إن "الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا" الآية نزلت في أصحاب سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال: كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك ستبعث نبيا فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم "يا سلمان من أهل النار" فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا. قال ابن أبي حاتم: وروى عن سعيد بن جبير نحو هذا " قلت "هذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر" - قال - فأنزل الله بعد ذلك "ومن يبتغ غير الإسلام دين فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه به فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة فاليهود أتباع موسى عليه السلام والذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة كقول موسى عليه السلام "إنا هدنا إليك" أي تبنا فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض وقل لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب وقال أبو عمرو بن العلاء لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له فأصحابه وأهل دينه هم النصارى وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم وقد يقال لهم أنصار أيضا كما قال عيسى عليه السلام "من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله" وقيل إنهم سموا ذلك من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها ناصرة قاله قتادة وابن جريج وروى عن ابن عباس أيضا والله أعلم. والنصارى جمع نصران كنشاوي جمع نشوان وسكارى جمع سكران ويقال للمرأة نصرانة قال الشاعر: نصرانة لم تحنف فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتما للنبيين ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق وجب عليهم تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والانكفاف عما عنه زجر وهؤلاء هم المؤمنون حقا وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية وأما الصابئين فقد اختلف فيهم فقال سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه. وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي وأبو الشعثاء جابر بن زيد والضحاك وإسحق بن راهويه الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور ولهذا قال أبو حنيفة وإسحق لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم. وقال هشيم عن مطرف: كنا عند الحكم بن عتبة فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين إنهم كالمجوس فقال الحكم ألم أخبركم بذلك وقال عبدالرحمن بن مهدي عن معاوية بن عبدالكريم سمعت الحسن ذكر الصابئين فقال: هم قوم يعبدون الملائكة. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبدالأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن قال: أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية قال فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة وقال أبو جعفر الرازي بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرءون الزبور ويصلون للقبلة وكذا قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة وقال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبدالأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال: الصابئون قوم مما يلي العراق وهم بكوثى وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال: الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا. وقال عبدالله بن وهب: قال عبدالرحمن بن زيد الصابئون أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله قال ولم يؤمنوا برسول فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هؤلاء الصابئون يشبهونهم بهم يعني في قوله لا إله إلا الله. وقال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم قال القرطبي: والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم وأنهم فاعلة ولهذا أفتى أبو سعيد الأصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم واختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها قال: وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام رادا عليهم ومبطلا لقولهم وأظهر الأقوال والله أعلم. قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه. ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئ أي أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك وقال بعض العلماء الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي والله أعلم.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

📘 يقول تعالى مذكرا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له واتباع رسله وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل فوق رؤسهم ليقروا بما عوهدوا عليه ويأخذوه بقوة وجزم وامتثال كما قال تعالى "وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون" فالطور هو الجبل كما فسره به في الأعراف ونص على ذلك ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس وغير واحد وهذا ظاهر وفي رواية عن ابن عباس الطور ما أنبت من الجبال وما لم ينبت فليس بطور وفي حديث الفتون عن ابن عباس أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا. وقال السدي: فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم فنظروا إليه وقد غشيهم فسقطوا سجدوا فسجدوا على شق ونظروا بالشق الآخر فرحمهم الله فكشفه عنهم فقالوا والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك وذلك قول الله تعالى "ورفعنا فوقكم الطور" وقال الحسن في قوله "خذوا ما آتيناكم بقوة" يعني التوراة وقال أبو العالية والربيع بن أنس بقوة أي بطاعة وقال مجاهد: بقوة بعمل بما فيه وقال قتادة "خذوا ما آتيناكم بقوة" قوة الجد وإلا قذفته عليكم. قال: فأقروا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة ومعنى قوله وإلا قذفته عليكم أي أسقطه عليكم يعني الجبل. وقال أبو العالية والربيع "واذكروا ما فيه" يقول اقرءوا ما في التوراة واعملوا به.

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ

📘 قوله تعالى "ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم" يقول تعالى ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه "فلولا فضل الله عليكم ورحمته" أي بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم "لكنتم من الخاسرين" بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ

📘 يقول تعالى "ولقد علمتم" يا معشر اليهود ما حل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره إذ كان مشروعا لهم فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل فلم تخلص منها يومها ذلك فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي فى الشكل الظاهر وليس بإنسان حقيقة فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن كان جزاؤهم من جنس عملهم وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون" القصة بكمالها. وقال السدي: أهل هذه القرية هم أهل أيلة وكذا قال قتادة وسنورد أقوال المفسرين هناك مبسوطة إن شاء الله وبه الثقة وقوله تعالى "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" قال مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة. وإنما هو مثل ضربه الله "كمثل الحمار يحمل أسفارا" ورواه ابن جرير عن المثنى عن أبي حذيفة وعن محمد بن عمر الباهلي وعن أبي عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به وهذا سند جيد عن مجاهد وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره قال الله تعالى "قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت" الآية وقال العوفي فى تفسيره عن ابن عباس "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" فجعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن الشيخة صاروا خنازير: وقال شيبان النحوي عن قتادة "فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" فصار القوم قردة تعاوى لها أذناب بعد ما كانوا رجالا ونساء وقال عطاء الخراساني نودوا يا أهل القرية كونوا قردة خاسئين فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا فلان ألم ننهكم فيقولون برؤسهم أي بلى وقال ابن أبى حاتم حدثنا علي بن الحسن حدثنا عبدالله بن محمد بن ربيعة بالمصيصية حدثنا محمد بن مسلم يعني الطائفي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقا ثم هلكوا ما كان للمسخ نسل. وقال الضحاك عن ابن عباس فمسخهم الله قردة بمعصيتهم يقول إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام قال ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة أيام التي ذكرها الله في كتابه فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء. ويحوله كما يشاء وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله "كونوا قردة خاسئين" قال يعني أذلة صاغرين وروى عن مجاهد وقتادة والربيع وأبي مالك نحوه وقال محمد بن إسحاق عن داود بن أبي الحصين عن عكرمة قال: قال ابن عباس إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم - يوم الجمعة - فخالفوا إلى السبت فعظموه وتركوا ما أمروا به فلما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها مدين فحرم الله عليهم فى السبت الحيتان صيدها وأكلها وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم حتى إذا ذهب السبت ذهبن فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا حتى إذا كان يوم السبت أتين شرعا حتى إذا ذهب السبت ذهبن فكانوا كذلك حتى طال عليهم الأمد وقوموا إلى الحيتان عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت فحزمه بخيط ثم أرسله في الماء وأوتد له وتدا في الساحل فأوثقه ثم تركه حتى إذا كان الغد جاء فأخذه أي إني لم آخذه في يوم السبت فانطلق به فأكله حتى إذا كان يوم السبت الآخر عاد لمثل ذلك ووجد الناس ريح الحيتان فقال أهل القرية والله لقد وجدنا ريح الحيتان ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل قال ففعلوا كما فعل وصنعوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله عليهم العقوبة حتى صادوها علانية وباعوها في الأسواق فقالت طائفه منهم من أهل البقية ويحكم اتقوا الله ونهوهم عما كانوا يصنعون فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان ولم تنه القوم عما صنعوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاب شديدا؟ قالوا معذرة إلى ربكم بسخطنا أعمالهم ولعلهم يتقون قال ابن عباس: فبينا هم على ذلك أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم فقدوا الناس فلم يروهم قال: فقال بعضهم لبعض إن للناس شأنا فانظروا ما هو فذهبوا ينظرون في دورهم فوجدوها مغلقة عليهم قد دخلوها ليلا فغلقوها على أنفسهم كما يغلق الناس على أنفسهم فأصبحوا فيها قردة وإنهم ليعرفون الرجل بعينة وإنه لقرد والمرأة بعينها وإنها لقردة والصبى بعينه وإنه لقرد قال: قال ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه نجى الذين نهوا عن السوء لقد أهلك الله الجميع منهم قال وهي القرية التي قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" الآية. وروى الضحاك عن ابن عباس نحوا من هذا وقال السدي في قوله تعالى "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" قال هم أهل أيلة وهي القرية التي كانت حاضرة البحر فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت - وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا فى السبت شيئا- لم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت فذلك قوله تعالى "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون فى السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم" فاشتهى بعضهم السمك فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر فإذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة فيريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر فيمكث فيها فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه فجعل الرجل يشوي السمك فيجد جاره روائحه فيسأله فيخبره فيصنع مثل ما صنع جاره حتى فشا فيهم أكل السمك فقال لهم علماؤهم: ويحكم إنما تصطادون يوم السبت وهو لا يحل لكم فقالوا إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه فقال الفقهاء لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل قال وغلبوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض "لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاب شديدا" يقول لم تعظوهم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم فقال بعضهم "معذرة إلى ربكم ولعلم يتقون" فلما أبوا قال المسلمون والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار ففتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا ولعنهم داود عليه السلام فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفار بابهم فلما أبطؤا عليهم تسور المسلمون عليهم الحائط فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض ففتحوا عنهم فذهبوا في الأرض فذلك قول الله تعالى "فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين" وذلك حين يقول "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم" الآية فهم القردة "قلت" والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه الله من أن مسخهم إنما كان معنويا لا صوريا بل الصحيح أنه معنوي صوري والله تعالى أعلم.

فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ

📘 وقوله تعالى "فجعلناها نكالا" قال بعضهم الضمير في فجعلناها عائد على القردة وقيل على الحيتان وقيل على العقوبة وقيل على القرية حكاها ابن جرير والصحيح أن الضمير عائد على القرية أي فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم "نكالا" أي ما عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة كما قال الله عن فرعون "فأخذه الله نكال الآخرة والأولى" وقوله تعالى لما بين يديها وما خلفها أي من القرى قال ابن عباس: يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى كما قال تعالى "ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون" ومنه قوله تعالى "أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" الآية على أحد الأقوال فالمراد لما بين يديها وما خلفها في المكان كما قال محمد بن إسحق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى وكذا قال سعيد بن جبير لما بين يديها وما خلفها قال من بحضرتها من الناس يومئذ. وروى عن إسماعيل بن أبي خالد وقتادة وعطية العوفي "فجعلناها نكالا لما بين يديها" قال ما قبلها من الماضين في شأن السبت وقال أبو العالية والربيع وعطية: وما خلفها لما بقي بعدهم من الناس من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم وكان هؤلاء يقولون المراد لما بين يديها وما خلفها فى الزمان. وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن تكون أهل تلك القرية عبرة لهم وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تضر الآية به وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم؟ وهذا لعل أحدا من الناس لا يقوله بعد تصوره - فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان وهو ما حولها من القرى كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والله أعلم. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية "فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها" أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم وقال ابن أبي حاتم: وروى عن عكرمة ومجاهد والسدي والفراء وابن عطية: لما بين يديها من ذنوب القوم وما خلفها لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب وحكى الرازي ثلاثة أقوال أحدها أن المراد بما بين يديها وما خلفها من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم يخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها. والثاني المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم. والثالث أنه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده وهو قول الحسن "قلت" وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها من بحضرتها من القرى يبلغهم خبرها وما حل بها كما قال تعالى "ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى" الآية وقال تعالى "ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة" الآية وقال تعالى "أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" فجعلهم عبرة ونكالا لمن في زمانهم وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم ولهذا قال "وموعظة للمتقين": وقوله تعالى "وموعظة للمتقين" قال محمد بن إسحق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس "وموعظة للمتقين" الذين من بعدهم إلى يوم القيامة وقال الحسن وقتادة "وموعظة للمتقين" بعدهم فيتقون نقمة الله ويحذرونها وقال السدي وعطية العوفي "وموعظة للمتقين" قال أما محمد صلى الله عليه وسلم "قلت" المراد بالموعظة هاهنا الزاجر أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله وما تحيلوا به من الحيل فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم كما قال الإمام أبو عبدالله بن بطة حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني حدثنا يزيد بن هرون حدثنا محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى فى الحيل" وهذا إسناد جيد وأحمد بن مسلم هذا وثق الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح والله أعلم.

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ

📘 يقول تعالى: واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم فى شأن البقرة وبيان القاتل من هو بسببها وإحياء الله المقتول ونصه على من قتله منه. " ذكر بسط القصة " قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا يزيد بن هرون أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له وكان له مال كثير وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض. فقال ذوو الرأي منهم والنهي: علام يقتل بعضكم بعضا وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له فقال "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين" قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا فأخذوها فذبحوها فضربوه ببعضها فقام فقالوا من قتلك؟ فقال: هذا - لابن أخيه- ثم مال ميتا فلم يعط من ماله شيئا فلم يورث قاتل بعد ورواه ابن جرير من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة بنحو من ذلك والله أعلم. ورواه عبد بن حميد في تفسيره أنبأنا يزيد ابن هرون به ورواه آدم بن أبي أياس في تفسيره عن أبي جعفر هو الرازي عن هشام بن حسان به وقال آدم ابن أبي إياس في تفسيره: أنبأنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية في قول الله تعالى "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" قال: كان رجل من بني إسرائيل وكان غنيا ولم يكن له ولد وكان له قريب وكان وارثه فقتله ليرثه ثم ألقاه على مجمع الطريق وأتى موسى عليه السلام فقال له إن قريبي قتل وإني إلى أمر عظيم وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله قال: فنادى موسى في الناس فقال: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا يبينه لنا فلم يكن عندهم علم فأقبل القاتل على موسى عليه السلام فقال له أنت نبي الله فسل لنا ربك أن يبين لنا فسأل ربه فأوحى الله "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" فعجبوا من ذلك "فقالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض" يعني لا هرمة "ولا بكر" يعني ولا صغيره "عوان بين ذلك" أي نصف بن البكر والهرمة "قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها" أي صاف لونها "تسر الناظرين" أي تعجب الناظرين "قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول" أي لم يذللها العمل "تثير الأرض ولا تسقى الحرث" يعني وليست بذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث يعني ولا تعمل في الحرث "مسلمة" يعني مسلمة من العيوب "لا شية فيها" يقول لا بياض فيها قالوا "الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون" قال ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ولولا أن القوم استووا فقالوا وإنا إن شاء الله لمهتدون هدوا إليها أبدا فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعت لهم إلا عند عجوز وعندها يتامى وهي القيمة عليهم فلما علمت أنه لا يزكو لهم غيرها أضعفت عليهم الثمن فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة وأنها سألت أضعاف ثمنها فقال موسى إن الله قد خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا واشتروها فذبحوها فأمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فرجع إليه روحه فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان فأخذ قاتله وهو الذي كان أتى موسى عليه السلام فشكا إليه فقتله الله على أسوأ عمله وقال محمد بن جرير حدثني محمد بن سعيد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس في قوله في شأن البقرة وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد موسى عليه السلام كان مكثرا من المال وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم وكان الشيخ لا ولد له وكان بنو أخيه ورثته فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله. وإنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم أتاهم الشيطان فقال لهم هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله وتغرموا أهل المدينة التي لستم بهاديته وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما وكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين قيس ما بين القتيل والقريتين فأيتهما كانت أقرب إليه غرمت الدية وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم عمدوا إليه فقتلوه ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ فقالوا عمنا قتل على باب مدينتكم فوالله لتغرمن لنا دية عمنا. قال أهل المدينة نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا وإنهم عمدوا إلى موسى عليه السلام فلما أتوه قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا. وأن جبريل جاء بأمر السميع العليم إلى موسى عليه السلام فقال قل لهم "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" فتضربوه ببعضها. وقال السدي "وإذا قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال فكانت له ابنة وكان له ابن أخ محتاج فخطب إليه ابن أخيه ابنته فأبى أن يزوجه فغضب الفتى وقال والله لأقتلن عمي ولآخذن ماله ولأنكحن ابنته ولآكلن ديته فأتاه الفتى وقد قدم تجار فى بعض أسباط بني إسرائيل فقال يا عم انطلق معي فخذ من تجارة هؤلاء القوم لعلي أن أصيب منها فإنهم إذا رأوك معي أعطوني فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ثم رجع إلى أهله فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه كأنه لا يدري أبن هو فلم يجده فانطلق نحوه فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه فأخذهم وقال قتلتم عمي فأدوا إلي ديته فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي واعماه فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية فقال له يا رسول الله ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه فيؤخذ صاحب القضية فوالله إن ديته علينا لهينة ولكن نستحي أن نعير به فذلك حين يقول تعالى "وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون" فقال لهم موسى "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" قالوا نسألك عن القتيل وعمن قتله وتقول اذبحوا بقرة أتهزأ بنا وقال "أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين" قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكن شددوا وتعنتوا على موسى فشدد الله عليهم فقالوا "ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك" والفارض الهرمة التي لا تولد والبكر التي لم تلد إلا ولدا واحدا والعوان النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها "فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها" قال نقي لونها "تسر الناظرين" قال تعجب الناظرين "قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة شية فيها" من بياض ولا سواد ولا حمرة "قالوا الآن جئت بالحق" فطلبوها فلم يقدروا عليها وكان رجل في بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه وكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفا قال الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا. فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف فلما أكثر عليه قال والله لا أشتريه منك بشيء أبدا وأبى أن يوقظ أباه فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن يجعل له تلك البقرة فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة وأبصروا البقرة عنده فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة فأبى فأعطوه ثنتين فأبى فزادوه حتى بلغوا عشرا. فقالوا والله لا نتركك حتى نأخذها منك فانطلقوا به إلى موسى عليه السلام فقالوا يا نبي الله إنا وجدناها عند هذا وأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمنا. فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله أنا أحق بمالي. فقال صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهبا فأبى فأضعفوه له حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهبا فباعهم إياها وأخذ ثمنها فذبحوها قال اضربوه ببعضها فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش فسألوه من قتلك؟ فقال لهم ابن أخي قال: أقتله فآخذ ماله وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه وقال سنيد: حدثنا حجاج هو ابن محمد عن ابن جريح عن مجاهد وحجاج عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - دخل حديث بعضهم في حديث بعض - قالوا إن سبط من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه وإذا أصبحوا أقام رئيسهم فنظر وأشرف فإذا له ير شيئا فتح المدينة فكانوا مع الناس حتى يمسوا قال: وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير ولم يكن له وارث غير أخيه فطال عليه حياته فقتله ليرثه ثم حمله فوضعه على باب المدينة ثم كمن في مكان هو وأصحابه قال فأشرف رئيس المدينة على باب المدينة فنظر فله ير شيئا ففتح الباب فلما رأى القتيل رد الباب فناداه أخو المقتول وأصحابه هيهات قتلتموه ثم تردون الباب؟ وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في بني إسرائيل كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذه فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال حتى لبس الفريقان السلاح ثم كف بعضهم عن بعض فأتوا موسى فذكروا له شأنهم قالوا: يا موسى إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب قال أهل المدينة: يا رسول الله قد عرفت اعتزلنا الشرور وبنينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس والله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا. فأوحى الله تعالى إليه أن يذبحوا بقرة فقال لهم موسى "إن الله أمره أن تذبحوا بقرة" وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم فيها اختلاف الظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها ولكن لا نصدق ولا تكذب فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا والله أعلم.

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ

📘 أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم وهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عليهم ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد ولكنهم شددوا فشدد عليهم فقالوا "ادع لنا ربك يبين لنا ما هي" أي ما هذه البقرة وأي شيء صفتها قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا هشام بن علي عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ولكنهم شددوا فشدد عليهم - إسناده صحيح - وقد رواه غير واحد عن ابن عباس وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد وقال ابن جريج: قال لي عطاء لو أخذوا أدنى بقرة لكفتهم قال ابن جريج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم وايم الله لو أنهم لو يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد" قال "إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر" أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل كما قاله أبو العالية والسدي ومجاهد وعكرمة وعطية العوفي وعطاء الخراساني ووهب بن منبه والضحال والحسن وقتادة وقاله ابن عباس أيضا وقال الضحاك عن ابن عباس: عوان بين ذلك يقول نصف بين الكبيرة والصغيرة وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون وروى عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وعطاء الخراساني والضحاك نحو ذلك وقال السدي العوان النصف الثاني بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها: وقال هشيم عن جويبر عن كثير بن زياد عن الحسن في البقرة كانت بقرة وحشية وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها.

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ

📘 قوله تعالى "تسر الناظرين" وكذا قال مجاهد ووهب بن منبه كانت صفراء. وعن ابن عمر كانت صفراء الظلف. وعن سعيد بن جبير كانت صفراء القرن والظلف. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا نصر بن علي حدثنا نوح بن قيس أنبأنا أبو رجاء عن الحسن في قوله تعالى "بقرة صفراء فاقع لونها" قال سوداء شديدة السواد وهذا غريب والصحيح الأول ولهذا أكد صفرتها بأنه "فاقع لونها" وقال عطية العوفي "فاقع لونها" تكاد تسود من صفرتها وقال سعيد بن جبير "فاقع لونها" وقال صافية اللون. وروى عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه. وقال شريك عن معمر عن ابن عمر "فاقع لونها" قال صاف وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس "فاقع لونها" شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض. وقال السدي "تسر الناظرين" أي تعجب الناظرين وكذا قال أبو العالية وقتاده والربيع بن أنس. وقال وهب بن منبه إذا نظرت إلى جلدها تخيلت أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. وفي التوراة أنها كانت حمراء فلعل هذا خطأ في التعريب أو كما قال الأول أنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد والله أعلم.

خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

📘 قال السدي ختم الله أي طبع الله وقال قتادة في هذه الآية استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. وقال ابن جريج: قال مجاهد ختم الله على قلوبهم: قال الطبع ثبتت الذنوب على القلب فحفت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع والطبع الختم. قال ابن جريج الختم على القلب والسمع قال ابن جريج: وحدثني عبدالله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: الران أيسر من الطبع والطبع أيسر من الإقفال والإقفال أشد من ذلك كله. وقال الأعمش: أرانا مجاهد بيده. فقال: كانوا يرون أن القلب في مثل هذه يعني الكف فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه وقال بإصبعه الخنصر هكذا فإذا أذنب ضم وقال بإصبع أخرى فإذا أذنب ضم. وقال بإصبع أخرى وهكذا حتى ضم أصابعه كلها. ثم قال: يطبع عليه بطابع وقال مجاهد كانوا يرون أن ذلك الرين ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن الأعمش عن مجاهد بنحوه قال ابن جرير وقال بعضهم إنما معنى قوله تعالى "ختم الله على قلوبهم" إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق كما يقال إن فلانا أصم عن هذا الكلام إذا امتنع عن سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا قال وهذا لا يصح لأن الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم "قلت" وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جدا وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده ولو فهم قوله تعالى "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" وقوله "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون" وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح فلو أحاط عالما بهذا لما قال ما قال والله أعلم. قال القرطبي وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال "بل طبع الله عليها بكفرهم" وذكر حديث تقليب القلوب "ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا علي دينك" وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير علي قلبين على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا" الحديث. قال ابن جرير والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثنا به محمد بن بشار حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال الله تعالى "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " هذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة والليث بن سعد وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم ثلاثتهم عن محمد بن عجلان به وقال الترمذي حسن صحيح ثم قال ابن جرير فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر عنها مخلص فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى "ختم الله علي قلوبهم وعلى سمعهم" نظير الختم والطبع علي ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم علي قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحله رباطها عنها. واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى "ختم الله علي قلوبهم وعلى سمعهم" وقوله "وعلى أبصارهم غشاوة" جملة تامة فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع والغشاوة وهي الغطاء يكون على البصر كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "ختم الله علي قلوبهم وعلى سمعهم" فلا يعقلون ولا يسمعون يقول وجعل على أبصارهم غشاوة يقول على أعينهم فلا يبصرون وقال ابن جرير حدثني محمد بن سعد حدثنا أبي حدثني عمي الحسين بن الحسن عن أبيه عن جده عن ابن عباس "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" والغشاوة على أبصارهم. قال: وحدثنا القاسم حدثنا الحسين يعني ابن داود وهو سنيد حدثني حجاج وهو ابن محمد الأعور حدثني ابن جريج قال: الختم على القلب والسمع والغشاوة على البصر قال الله تعالى "فإن يشأ الله يختم على قلبك" وقال "وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة" قال ابن جرير ومن نصب غشاوة من قوله تعالى وعلى أبصارهم غشاوة يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره وجعل على أبصارهم غشاوة ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل وعلى سمعهم كقوله تعالى "وحور عين" وقول الشاعر: علفتها تبنا وماء باردا حتى غدت همالة عيناها وقال الآخر: ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا تقديره وسقيتها ماء باردا ومعتقلا رمحا لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات ثم عرف حال الكافرين بهاتين الآيتين شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة كل منها نفاق كما أنزل سورة براءة فيهم وسورة المنافقين فيهم وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفا لأحوالهم لتجتنب ويجتنب من تلبس بها.

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ

📘 قوله تعالى "إن البقرة تشابه عليها" أي لكثرتها فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا "وإنا إن شاء الله" إذا بينتها لنا "لمهتدون" إليها وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي ابن أخي منصور بن زاذان عن عباد بن منصور عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا أن بني إسرائيل قالوا "وإنا إن شاء الله لمهتدون" لما أعطوا ولكن استثنوا" ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر عن سرور بن المغيرة عن زاذان عن عباد بن منصور عن الحسن عن حديث أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا أن بني إسرائيل "قالوا وإنا إن شاء الله لمهتدون" ما أعطوا أبدأ ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوا لأجزأت عنهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم" وهذا حديث غريب من هذا الوجه وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله عن السدي والله أعلم.

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ

📘 "قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث" أي إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في الساقية بل هي مكرمة حسنة صبيحة مسلمة صحيحة لا عيب بها "لا شية فيها" أي ليس فيها لون غير لونها وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة مسلمة يقول لا عيب فيها وكذا قال أبو العالية والربيع وقال مجاهد: مسلمة من الشية. وقال عطاء الخراساني: مسلمة القوائم والخلق لا شية فيها قال مجاهد: لا بياض ولا سواد وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة: ليس فيها بياض. وقال عطاء الخراساني: لا شية فيها قال لونها واحد بهيم وروي عن عطية العوفي ووهب بن منبه وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك وقال السدي لا شية فيها من بياض ولا سواد ولا حمرة. وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى "إنها بقرة لا ذلول" ليس بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال "تثير الأرض" أي يعمل عليها بالحراثة لكنها لا تسقي الحرث وهذا ضعيف لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث كذا قرره القرطبي وغيره "قالوا الآن جئت بالحق" قال قتادة الآن بينت لنا وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وقيل ذلك والله جاءهم الحق "فذبحوها وما كادوا يفعلون" قال الضحاك عن ابن عباس كادوا أن لا يفعلوا ولم يكن ذلك الذي أرادوا لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد وفي هذا ذم لهم وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت فلهذا ما كادوا يذبحونها. وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس فذبحوها وما كادوا يفعلون لكثرة ثمنها وفي هذا نظر لأن كثرة الثمن لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدى ورواه العوفي عن ابن عباس قال عبيدة ومجاهد ووهب بن منبه وأبو العالية وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنهم اشتروها بمال كثير وفيه اختلاف ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك وقال عبدالرزاق أنبأنا ابن عيينة أخبرني محمد بن سوقة عن عكرمة قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير وهذا إسناد جيد عن عكرمة والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضا وقال ابن جرير وقال آخرون لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه ولم يسنده عن أحد ثم اختار أن الصواب فى ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها وللفضيحة وفي هذا نظر بل الصواب والله أعلم ما تقدم من رواية الضحاك عن ابن عباس على ما وجهناه وبالله التوفيق. "مسئلة" استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الاطلاق على صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفا وخلفا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها" وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله وحكى مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبدالرحمن بن سمرة وغيرهم.

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ

📘 قال البخاري "فادارءتم فيها" اختلفتم وهكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبى حذيفة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى "وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها" اختلفتم وقال عطاء الخراساني والضحاك اختصمتم فيها وقال ابن جريج "وإذ قتلتم نفس فادارءتم فيها" قال: قال بعضهم أنتم قتلتموه وقال آخرون بل أنتم قتلتموه وكذا قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم "والله مخرج ما كنتم تكتمون" قال مجاهد ما تغيبون وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرة بن أسلم البصري حدثنا محمد بن الطفيل العبدي حدثنا صدقة بن رستم سمعت المسيب بن رافع يقول ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وتصديق ذلك فى كلام الله "والله مخرج ما كنتم تكتمون".

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

📘 "فقلنا اضربوه ببعضها" هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به وخرق العادة به كائن وقد كان معينا في نفس الأمر فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا ولكنه أبهمه ولم يجيء من طريق صحيح عن معصوم بيانه فمن نبهمه كما أبهمه الله ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبدالواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له وكانت بقرة تعجبه قال فجعلوا يعطونه بها فيأبى حتى أعطوه ملء مسكها دنانير فذبحوها فضربوه - يعني القتيل - بعضو منها فقام تشخب أوداجه دم فقالوا له من قتلك؟ قال قتلني فلان وكذا قال الحسن وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنه ضرب ببعضها وفي رواية ابن عباس أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف وقال عبدالرزاق أنبأنا معمر قال: قال أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة ضربوا القتيل ببعض لحمها قال معمر: قال قتادة ضربوه بلحم فخذها فعاش فقال قتلني فلان وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا النضر بن عربي عن عكرمة "فقلنا اضربوه ببعضها" فضرب بفخذها فقام فقال قتلني فلان قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد وقتادة وعكرمة نحو ذلك. وقال السدي فضربوه بالبضعة التي بين الكفتين فعاش فسألوه فقال قتلني ابن أخي وقال أبو العالية أمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظما من عظامها فيضربوا به القتيل ففعلوا فرجع إليه روحه فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: فضربوه ببعض ارابها وقيل بلسانها وقيل بعجب ذنبها وقوله تعالى "كذلك يحيى الله الموتي" أي فضربوه فحي ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة والعناد والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع "ثم بعثناكم من بعد موتكم" وهذه القصة وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة أخبرني يعلى بن عطاء قال سمعت وكيع بن عدس يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال "أما مررت بواد ممحل ثم مررت به خضرا" قال بلى: قال "كذلك النشور" أو قال "كذلك يحيي الله الموتى" وشاهد هذا قوله تعالى "وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون" "مسألة" استدل لمذهب الإمام مالك في كون قول الجريح فلان قتلني لوثا بهذه القصة لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله فقال فلان قتلني فكان ذلك مقبولا منه لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق ولا يتهم والحالة هذه. ورجحوا ذلك لحديث أنس أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فرضخ رأسها بين حجرين فقيل فعل بك هذا أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكروا اليهودي فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فلم يزل به حتى اعترف فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرض رأسه بين حجرين وعند مالك إذا كان لوثا حلف أولياء القتيل قسامة وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثا.

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

📘 يقول تعالى توبيخا لبني إسرائيل وتقريعا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى الله وإحيائه الموتى "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" كله فهي كالحجارة التي تلين أبدا ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون" قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط فقيل له من قتلك قال بنو أخي قتلوني ثم قبض فقال بنو أخيه حين قبضه الله والله ما قتلناه فكذبوا بالحق بعد أن رأوه فقال الله "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك" يعني أبناء أخي الشيخ فهي كالحجارة أو أشد قسوة فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء وإن لم يبن جاريا ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله وفيه إدراك لذلك بحسبه كما قال "تسبح له السموات والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا" وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء أو يتردى من رأس جبل لمن خشية الله نزل بذلك القرآن وقال محمد بن إسحق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله" أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق "وما الله بغافل عما تعملون" وقال أبو علي الجياني في تفسيره "وإن منها لما يهبط من خشية الله" هو سقوط البرد من السحاب قال القاضي الباقلاني وهذا تأويل بعيد وتبعه في استبعاده الرازي وهو كما قال فإن هذا خروج عن اللفظ بلا دليل والله أعلم وقال: ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا الحكم بن هشام الثقفي حدثني يحيى ابن أبي طالب يعني ويحيى بن يعقوب في قوله تعالى "وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار" قال كثرة البكاء "وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء" قال قليل البكاء "وإن منها لما يهبط من خشية الله" قال بكاء القلب غير دموع العين وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة ما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله "يريد أن ينقض" قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها" وقال "تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن" الآية وقال "والنجم والشجر يسجدان" "أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله" الآية "قالتا أتينا طائعين" "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل" الآية "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله" الآية وفي الصحيح "هذا جبل يحبنا ونحبه" وكحنين الجذع المتواتر خبره وفي صحيح مسلم "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن" وفى صفة الحجر الأسود إنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة وغير ذلك مما فى معناه وحكى القرطبي قولا إنها للتخيير أي مثلا لهذا وهذا وهذا مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين. وكذا حكاه الرازي فى تفسيره وزاد قولا آخر أنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل وقال آخر إنها بمعنى قول القائل كل حلوا أو حامضا أي لا يخرج عن واحد منهما. أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين والله أعلم. " تنبيه" اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" بعد الإجماع على استحالة كونها للشك فقال بعضهم أو ههنا بمعنى الواو تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى "ولا تطع منهم آثما أو كفورا" "عذرا أو نذرا" وكما قال النابغة الذبياني: قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد تريد ونصفه قاله ابن جرير: وقال جرير بن عطية: نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر قال ابن جرير يعني نال الخلافة وكانت له قدرا وقال آخرون أو ههنا بمعنى بل فتقديره: فهي كالحجارة بل أشد قسوة وكقوله "إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية" وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون" "فكان قاب قوسين أو أدنى" وقال آخرون معنى ذلك "فهي كالحجارة أو أشد قسوة" عندكم حكاه ابن جرير: وقال آخرون المراد بذلك الإبهام على المخاطب كما قال أبو الأسود: أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة والوصيا فإن يك حبهم رشدا أصبه وليس بمخطئ إن كان غيا قال ابن جرير قالوا ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى رشد ولكنه أبهم على من خاطبه قال وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له شككت فقال كلا والله ثم انتزع يقول الله تعالى "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" فقال أوكان شاكا من أخبر بهذا من الهادي منهم ومن الضال؟ وقال بعضهم معنى ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها فى القسوة. قال: ابن جرير ومعنى ذلك على هذا التأويل فبعضها كالحجارة قسوة وبعضها أشد قسوة من الحجارة وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره "قلت" وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" مع قوله "أو كصيب من السماء" وكقوله "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة" مع قوله "أو كظلمات في بحر لجي" الآية أي إن منهم من هو هكذا ومنهم من هو كهذا والله أعلم. وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن أيوب حدثنا محمد بن عبدالله بن أبي الثلج حدثنا علي بن حفص حدثنا إبراهيم بن عبدالله بن حاطب عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي". رواه الترمذي في كتابه الزهد من جامعه عن محمد بن عبدالله بن أبي الثلج صاحب الإمام أحمد به ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبدالله بن الحارث بن حاطب به وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم. وروى البزار عن أنس مرفوعا "أربع من الشقاء جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا".

۞ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

📘 يقول تعالى "أفتطمعون" أيها المؤمنون "أن يؤمنوا لكم" أي ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرفة الضالة من اليهود الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه ثم قست قلوبهم من بعد ذلك "وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه" أي يتأولونه على غير تأويله "من بعد ما عقلوه" أي فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة "وهم يعلمون" أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله وهذا المقام شبيه بقوله تعالى "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه" قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال ثم قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله" وليس قوله ليسمعون التوراة كلهم قد سمعها ولكن هم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها. وقال محمد بن إسحاق فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى يا موسى قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا تعالى فأسمعنا كلامه حين يكلمك فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى فقال نعم مرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا ففعلوا ثم خرج بهم حتى أتوا الطور فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا فوقعوا سجودا وكلمه ربه فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا منه ما سمعوا ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل فلما جاءهم حرف فريق منهم ما أمرهم به وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل إن الله قد أمركم بكذا وكذا قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله إنما قال كذا وكذا خلافا لما قال الله عز وجل لهم فهم الذين عنى الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم وقال السدي "وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه" قال هي التوراة حرفوها وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه كما سمعه الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام وقد قال الله تعالى "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله" أي مبلغا إليه ولهذا قال قتادة في قوله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون" قال هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه وقال مجاهد الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم وقال: أبو العالية عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - فحرفوه عن مواضعه وقال السدي "وهم يعلمون" أي أنهم أذنبوا وقال ابن وهب قال: ابن زيد في قوله "يسمعون كلام الله ثم يحرفونه" قال: التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حراما والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا وإذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فيه محق وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق فقال الله لهم "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون".

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

📘 وقوله تعالى "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض" الآية قال محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا" أي إن صاحبكم رسول الله ولكنه إليكم خاصة وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم فأنزل الله "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم" أي تقرون بأنه نبي وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا اجحدوه ولا تقروا به يقول الله تعالى "أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون" وقال: الضحاك عن ابن عباس: يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا آمنا وقال السدي هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا. وكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وغير واحد من السلف والخلف حتى قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه ابن وهب عنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال "لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن" فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق اذهبوا فقولوا آمنا واكفروا إذا رجعتم إلينا فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهما بعد العصر. وقرأ قوله الله تعالى "وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون" وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة نحن مسلمون ليعلموا خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره. فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر فلما أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون بلى. فإذا رجعوا إلى قومهم يعني الرؤساء فقالوا "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" الآية. وقال أبو العالية "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" يعني بما أنزل الله في كتابكم من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم. وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم" قال كانوا يقولون سيكون نبي فخلا بعضهم ببعض "فقالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" - قول آخر في المراد بالفتح قال: ابن جريج: حدثني القاسم بن أبي برزة عن مجاهد في قوله تعالى "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" قال قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة تحت حصونهم فقال "يا إخوان القردة والخنازير ويا عبدة الطاغوت" فقالوا من أخبر بهذا الأمر محمدا؟ ما خرج هذا القول إلا منكم "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" بما حكم الله للفتح يكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج عن مجاهد هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا - صلى الله عليه وسلم وقال السدي "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" من العذاب "ليحاجوكم به عند ربكم" هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به فقال بعضهم لبعض "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" من العذاب ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم وأكرم على الله منكم وقال عطاء الخراساني "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم" يعني بما قضى لكم وعليكم وقال الحسن البصري: هؤلاء اليهود كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قال بعضهم لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم.

أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ

📘 قوله تعالى "أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون" قال أبو العالية: يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوبا عندهم وكذا قال قتادة وقال الحسن "إن الله يعلم ما يسرون" قال كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد وخلا بعضهم إلى بعض تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بما فتح الله عليهم مما في كتابهم خشية أن يحاجهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بما في كتابهم عند ربهم "وما يعلنون" يعني حين قالوا لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - آمنا وكذا قال أبو العالية والربيع وقتادة.

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ

📘 يقول تعالى "ومنهم أميون" أي ومن أهل الكتاب قاله مجاهد: والأميون جمع أمي وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة. قاله أبو العالية والربيع وقتادة وإبراهيم النخعي وغير واحد وهو ظاهر في قوله تعالى "لا يعلمون الكتاب" أي لا يدرون ما فيه. ولهذا فى صفات النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه الأمي لأنه لم يكن يحسن الكتابة كما قال تعالى "وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون" وقال عليه الصلاة والسلام "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا" الحديث أي لا نفتقر في عبادتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب وقال تبارك وتعالى "هو الذي بعث في الأميين رسولا" منهم وقال ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه. قال وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قول خلاف هذا وهو ما حدثنا به أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد عن بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى "ومنهم أميون" قال الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله ولا كتابا أنزله الله فكتبوا كتابا بأيديهم ثم قالوا لقوم سفلة جهال هذا من عند الله وقال قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله ثم قال ابن جرير: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم وذلك أن الأمي عند العرب الذي لا يكتب. قلت ثم في صحة هذا عن ابن عباس بهذا الإسناد نظر والله أعلم. وقوله تعالى "إلا أماني" قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس إلا أماني الأحاديث وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى "إلا أماني" يقول إلا قولا يقولون بأفواههم كذبا وقال مجاهد إلا كذبا: وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج عن مجاهد "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني" قال أناس من اليهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله ويقولون هو من الكتاب أماني يتمنونها وعن الحسن البصري نحوه وقال أبو العالية والربيع وقتادة إلا أماني يتمنون على الله ما ليس لهم وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم إلا أماني قال تمنوا فقالوا نحن من أهل الكتاب وليسوا منهم قال ابن جرير والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس وقال مجاهد إن الأميين الذين وصفهم الله تعالى أنهم لا يفقهون من الكتب الذي أنزله الله تعالى على موسى شيئا ولكنهم يتخرصون الكذب. يتخرصون الأباطيل كذبا وزورا والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ما تغنيت ولا تمنيت يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب. وقيل المراد بقوله "إلا أماني" بالتشديد والتخفيف أيضا أي إلا تلاوة فعلى هذا يكون استثناء منقطعا واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى "إلا إذا تمنى" أي تلا "ألقى الشيطان في أمنيته" الآية وقال كعب بن مالك الشاعر: تمنى كتاب الله أول ليلة وآخره لاقى حمام المقادر وقال آخر: تمنى كتاب الله آخر ليلة تمني داود الكتاب على رسل وقال محمد بن إسحق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون" أي ولا يدرون ما فيه وهم يجحدون نبوتك بالظن وقال مجاهد "وإن هم إلا يظنون" يكذبون وقال قتادة وأبو العالية والربيع: يظنون بالله الظنون بغير الحق.

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ

📘 وقوله تعالى "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم" ثم يقولون "هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا" الآية. هؤلاء صنف آخر من اليهود وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل والويل والهلاك والدمار وهي كلمة مشهورة في اللغة: وقال سفيان الثوري عن زياد بن فياض سمع أبا عياض يقول: ويل صديد في أصل جهنم. وقال عطاء بن يسار: الويل واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت. وقال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبدالأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره" ورواه الترمذي عن عبدالرحمن بن حميد عن الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج به وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة "قلت" لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى ولكن الآفة ممن بعده وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوع منكر والله أعلم. قال ابن جرير حدثنا المثنى حدثنا إبراهيم بن عبدالسلام حدثنا صالح القشيري حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة عن عبدالحميد بن جعفر عن كنانة العدوي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون" قال "الويل جبل في النار" وهو الذي أنزل في اليهود لأنهم حرفوا التوراة زادوا فيها ما أحبوا ومحوا منها ما يكرهون ومحوا اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - من التوراة ولذلك غضب الله عليهم فرفع بعض التوراة فقال تعالى "فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون" وهذا غريب أيضا جدا وعن ابن عباس الويل المشقة من العذاب وقال: الخليل بن أحمد الويل شدة الشر وقال سيبويه ويل لمن وقع في الهلكة وويح لمن أشرف عليها وقال الأصمعي الويل تفجع والويل ترحم وقال: وغيره الويل الحزن وقال الخليل وفي معنى ويل ويح وويش وويه وويك وويب ومنهم من فرق بينها وقال بعض النحاة إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة لأن فيها معنى الدعاء ومنهم من جوز نصبها بمعنى ألزمهم ويلا "قلت" لكن لم يقرأ بذلك أحد وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم" قال هم أحبار اليهود وكذا قال سعيد عن قتادة هم اليهود وقال سفيان الثوري عن عبدالرحمن بن علقمة سألت ابن عباس - رضي الله عنه - عن قوله تعالى فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم قال: نزلت في المشركين وأهل الكتاب وقال: السدي كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم يبيعونه من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله فيأخذوا به ثمنا قليلا وقال الزهري أخبرني عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس أنه قال: يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرءونه غضا لم يشب وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ولا والله ما رأينا منهم أحدا قط سألكم عن الذي أنزل عليكم رواه البخاري من طرق عن الزهري وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها. وقوله تعالى "فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون" أي فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء وويل لهم مما أكلوا به من السحت كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما فويل لهم يقول فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب وويل لهم مما يكسبون يقول مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ

📘 النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر وهو أنواع: اعتقادي وهو الذي يخلد صاحبه في النار وعملي وهو من أكبر الذنوب كما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله وسره علانيته ومدخله مخرجه ومشهده مغيبه وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه من الناس من كان يظهر الكفر مستكرها وهو في الباطن مؤمن فلما هاجر رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم وكانوا ثلاث قبائل بنو قينقاع حلفاء الخزرج وبنو النضير وبنو قريظة حلفاء الأوس فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج وقل من أسلم من اليهود إلا عبدالله بن سلام رضي الله عنه ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله قال عبدالله بن أبي بن سلول وكان رأسا في المدينة وهو من الخزرج وكان سيد الطائفتين في الجاهلية وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه فبقي في نفسه من الإسلام وأهله فلما كانت وقعة بدر قال هذا أمر قد توجه فأظهر الدخول في الإسلام ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته وآخرون من أهل الكتاب فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد يهاجر مكرها بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة. قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين" يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسدي ولهذا نبه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون فيقع لذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر وهذا من المحذورات الكبار أن يظن لأهل القبور خير فقال تعالى "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين" أي يقولون ذلك قولا ليس وراءهم شيء آخر كما قال تعالى "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله" أي إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط لا في نفس الأمر ولهذا يؤكدون الشهادة بأن ولام التأكيد في خبرها. أكدوا أمرهم قالوا آمنا بالله وباليوم الآخر وليس الأمر كذلك كما كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" وبقوله "وما هم بمؤمنين".

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

📘 يقول تعالى إخبارا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ثم ينجون منها فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى "قل أتخذتم عند الله عهدا" أي بذلك فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده ولكن هذا ما جرى ولا كان ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه. قال محمد بن إسحق بن سيف عن سليمان عن مجاهد عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما في النار وإنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" إلى قوله "خالدون" ثم رواه عن محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس بنحوه وقال العوفي عن ابن عباس "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" اليهود قالوا لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة زاد غيره وهي مدة عبادتهم العجل وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة وقال الضحاك قال ابن عباس زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم التي هي ثابتة في أصل الجحيم وقال أعداء الله إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك. فذلك قوله تعالى "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" وقال: عبدالرزاق عن معمر عن قتادة "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" يعني الأيام التي عبدنا فيها العجل وقال عكرمة خاصمت اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لن ندخل النار إلا أربعين ليلة وسيخلفنا فيها قوم آخرون يعنون محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده على رءوسهم " بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد " فأنزل الله عز وجل "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" الآية. وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله حدثنا عبدالرحمن بن جعفر حدثنا محمد بن محمد بن صخر حدثنا أبو عبدالرحمن المقرئ حدثنا ليث بن سعد حدثني سعيد بن أبى سعيد عن أبي هريرة قال لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة فيها سم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اجمعوا إلي كان من اليهود ههنا" فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من أبوكم؟" قالوا فلان قال "كذبتم بل أبوكم فلان" فقالوا صدقت وبررت ثم قال لهم "هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟" قالوا نعم يا أبا القاسم وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا فقال: لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من أهل النار؟" فقالوا نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها فقال: لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبدا" ثم قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟" قالوا: نعم يا أبا القاسم قال: "هل جعلتم في هذه الشاة سما؟" فقالوا نعم قال "فما حملكم على ذلك" فقالوا: أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك وإن كنت نبيا لم يضرك ورواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي من حديث الليث بن سعد بنحوه.

بَلَىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

📘 يقول تعالى ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار "والذين آمنوا وعملوا الصالحات" أي آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة وهذا المقام شبيه بقوله تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا" قال محمد بن إسحق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس "بلى من كسب سيئة" أي عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره فما له من حسنة وفي رواية عن ابن عباس قال الشرك قال ابن أبي حاتم. وروي عن وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه وقال: الحسن أيضا والسدي السيئة الكبيرة من الكبائر. وقال ابن جريج عن مجاهد "وأحاطت به خطيئته" قال بقلبه وقال: أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن "وأحاطت به خطيئته" قالوا أحاط به شركه. وقال: الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خثيم "وأحاطت به خطيئته" قال الذي يموت على خطاياه من أن يتوب وعن السدي وأبي رزين نحوه وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما وقتادة والربيع بن أنس "وأحاطت به خطيئته" الموجبة الكبيرة وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى والله أعلم. ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال حدثنا سليمان بن داود حدثنا عمرو بن قتادة عن عبدربه عن أبي عياض عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه" وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب لهم مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا فأنضجوا ما قذفوا فيها.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

📘 وقال محمد بن إسحق حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس "والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون" أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ

📘 يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخده ميثاقهم على ذلك وأنهم تولوا عن ذلك كله وأعرضوا قصدا وعمدا وهم يعرفونه ويذكرونه فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وبهذا أمر جميع خلقه ولذلك خلقهم كما قال تعالى "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" وقال تعالى "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له ثم بعده حق المخلوقين وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين كما قال تعالى "أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير" وقال تبارك وتعالى "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا" إلى أن قال "وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل" وفي الصحيحين عن ابن مسعود قلت يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال "الصلاة على وقتها" قلت ثم أي؟ قال "بر الوالدين" قلت ثم أي؟ قال "الجهاد في سبيل الله" ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رجلا قال يا رسول الله من أبر؟ قال "أمك" قال ثم من؟ قال "أمك" قال ثم من؟ قال "أباك؟ ثم أدناك ثم أدناك" وقوله تعالى "لا تعبدون إلا الله" قال الزمخشري خبر بمعنى الطلب وهو آكد وقيل كان أصله "أن لا تعبدوا إلا الله" كما قرأها من قرأها من السلف فحذفت أن فارتفع وحكي عن أبي وابن مسعود أنهما قرآها "لا تعبدوا إلا الله" ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه. قال واختاره الكسائي والفراء قال "واليتامى" وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء والمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء التي أمرنا الله تعالى بها صريحا في قوله "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا" الآية. وقوله تعالى "وقولوا للناس حسنا" أي كلموهم طيبا ولينوا لهم جانبا ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف كما قال الحسن البصري في قوله تعالى "وقولوا للناس حسنا" فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ويقول للناس حسنا كما قال الله وهو كل خلق حسن رضيه الله. وقال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا أبو عامر الخراز عن أبي عمران الجوني عن عبدالله بن الصامت عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "لا تحقرن من المعروف شيئا وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق" وأخرجه مسلم في صحيحه والترمذي وصححه من حديث أبي عامر الخراز واسمه صالح بن رستم به وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنا بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة فقال: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله أي تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به إلا القليل منهم. وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا" فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها ولله الحمد والمنة. ومن النقول الغريبة ههنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا عبدالله بن يوسف يعني التنيسي حدثنا خالد بن صبيح عن حميد بن عقبة عن أسد بن وداعة أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهوديا ولا نصرانيا إلا سلم عليه فقيل له: ما شأنك تسلم على اليهودي والنصراني؟ فقال: إن الله تعالى "يقول وقولوا للناس حسنا" وهو السلام قال: وروي عن عطاء الخراساني نحوه "قلت" وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدءون بالسلام والله أعلم.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ

📘 يقول الله تبارك وتعالى منكرا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا فى الجاهلية عباد أصنام وكانت بينهم حروب كثيرة وكانت يهود المدينة ثلات قبائل بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج وبنو قريظة حلفاء الأوس فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه فيقتل اليهودي أعداءه وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة ولهذا قال تعالى "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" ولهذا قال تعالى "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم" أي لا يقتل بعضكم بعضا ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه كما قال تعالى "فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم" وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وقوله تعالى "ثم أقررتم وأنتم تشهدون" أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به.

ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

📘 "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم" الآية قال محمد بن إسحق بن يسار حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم" الآية. قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم فكانوا فريقين طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير وقريظة وهم حلفاء الأوس فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا نارا ولا بعثا ولا قيامة ولا كتابا ولا حلالا ولا حراما فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة وأخذا به بعضهم من بعض يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم ويطلبون ما أصابوا من دمائهم وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه إلا من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة. وقال أسباط عن السدي: كانت قريظة حلفاء الأوس وكانت النضير حلفاء الخزرج فكانوا يقتتلون في حرب بينهم فتقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءهم وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه فتعيرهم العرب بذلك ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن تستذل حلفاؤنا فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى فقال تعالى "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم" الآية. وقال أسباط عن السدي عن الشعبي: نزلت هذه الآية في قيس بن الحطيم "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم" الآية. وقال أسباط عن السدي عن عبد خير قال: غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبدالله بن سلام يهودية بسبعمائة فلما مر برأس الجالوت نزل به فقال له عبدالله: يا رأس الجالوت هل لك في عجوز ههنا من أهل دينك تشتريها مني قال: نعم قال: أخذتها بسبعمائة درهم قال: فإني أربحك سبعمائة أخرى قال: فإني قد حلفت أن لا أنقصها من أربعة آلاف قال: لا حاجة فيها قال: والله لتشترينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه قال: ادن مني فدنا منه فقرأ في أذنه مما في التوراة: إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقته "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهـو محرم عليكم إخراجهم" قال: أنت عبدالله بن سلام؟ قال: نعم قال: فجاء بأربعة آلاف فأخذ عبدالله ألفين ورد عليه ألفين. وقال آدم بن إياس في تفسيره: حدثنا أبو جعفر يعني الرازي حدثنا الربيع بن أنس أخبرنا أبو العالية أن عبدالله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه العرب فقال عبدالله: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الآية الكريمة وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شئونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم ولهذا قال تعالى "فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا" أي بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره "ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب" جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم وما الله بغافل عما تعملون".

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ

📘 "أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة" واختاروها "فلا يخفف عنهم العذاب" أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة ولا هم ينصرون أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه.

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ

📘 ينعت تبارك وتعالى بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة والاستكبار على الأنبياء وأنهم إنما يتبعون أهواءهم فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب وهو التوراة فحرفوها وبدلوها وخالفوا أوامرها وأولوها وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء" الآية ولهذا قال تعالى "وقفينا من بعده بالرسل" قال السدي عن أبي مالك: أتبعنا وقال غيره: أردفنا. والكل قريب كما قال تعالى "ثم أرسلنا رسلنا تترى" حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ولهذا أعطاه الله من البينات وهي المعجزات. قال ابن عباس: من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله وإبراء الأسقام وإخباره بالغيوب وتأييده بروح القدس وهو جبريل عليه السلام - ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به فاشتد تكذيب بني إسرائيل له وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة البعض كما قال تعالى إخبارا عن عيسى "ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم" الآية. فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ المعاملة ففريقا يكذبونه وفريقا يقتلونه وما ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبالإلزام بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم وربما قتلوا بعضهم ولهذا قال تعالى "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريق تقتلون". والدليل على أن روح القدس هو جبريل كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية وتابعه على ذلك أبن عباس ومحمد بن كعب وإسماعيل بن خالد والسدي والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة مع قوله تعالى "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين" ما قال البخاري وقال ابن أبى الزناد عن أبيه عن أبي هريرة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد فكان ينافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: رسول الله الله - صلى الله عليه وسلم - أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك" فهذا من البخاري تعليقا وقد رواه أبو داود في سننه عن ابن سيرين والترمذي عن علي بن حجر وإسماعيل بن موسى الفزاري ثلاثتهم عن أبي عبدالرحمن بن أبي الزناد عن أبيه وهشام بن عروة كلاهما عن عائشة به قال الترمذي حسن صحيح وهو حديث أبي الزناد وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "أجب عني اللهم أيده بروح القدس" فقال اللهم نعم وفي بعض الروايات أن رسول الله قال لحسان "اهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك" وفي شعر حسان قوله: وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس به خفاء وقال محمد بن إسحق حدثني عبدالرحمن بن أبي حسين المكي عن شهر بن حوشب الأشعري أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا أخبرنا عن الروح فقال "أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبرائيل وهو الذي يأتيني؟" قالوا نعم: وفي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". أقوال أخر: قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا منجاب بن الحارث حدثنا بشر بن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس "وأيدناه بروح القدس" قال: هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. وقال ابن جرير حدثت عن المنجاب فذكره وقال ابن أبي حاتم وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير أيضا قال: وهو الاسم الأعظم. وقال ابن أبي نجيح: الروح هو حفظة على الملائكة وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: القدس هو الرب تبارك وتعالى. وهو قول كعب وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا: القدس هو الله تعالى وروحه جبريل. فعلى هذا يكون القول الأول وقال السدي: القدس البركة. وقال العوفي عن ابن عباس القدس الطهر وقال ابن جرير حدثنا يونس بن عبدالأعلى أنبأنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى "وأيدناه بروح القدس" قال: أيد الله عيسى بالإنجيل روحا كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله كما قال تعالى "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا" ثم قال ابن جرير وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال الروح في هذا الموضع جبرائيل فإن الله تعالى أخبر أنه أيد عيسى به كما أخبر فى قوله تعالى "إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" الآية. فذكر أنه أيده به فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل لكان قوله "وإذ أيدتك بروح القدس" "وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" تكرير قول لا معنى له والله سبحانه وتعالى أعز وأجل أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به "قلت" ومن الدليل على أنه جبرائيل ما تقدم من أول السياق ولله الحمد وقال الزمخشري "بروح القدس" بالروح المقدسة كما تقول حاتم الجود ورجل صدق ووصفها بالقدس كما قال "وروح منه" فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة وميل لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث وقيل بجبريل وقيل بالإنجيل كما قال في القرآن "روحا من أمرنا" وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره فتضمن كلامه قولا آخر وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة وقال الزمخشري في قوله تعالى "فريقا كذبتم وفريقا تقتلون" إنما لم يقل وفريقا قتلتم لأنه أراد بذلك وصفهم فى المستقبل أيضا لأنهم حاولوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسم والسحر وقد قال عليه السلام في مرض موته "ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري" "قلت" وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره.

وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ

📘 قال محمد بن إسحق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس "وقالوا قلوبنا غلف" أي في أكنة: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "وقالوا قلوبنا غلف" أي لا تفقه وقال العوفي عن ابن عباس "وقالوا فلوبنا غلف" هي القلوب المطبوع عليها وقال مجاهد وقالوا قلوبنا غلف عليها غشاوة وقال عكرمة: عليها طابع وقال أبو العالية: أي لا تفقه وقال السدي يقولون عليها غلاف وهو الغطاء: وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة: فلا تعي ولا تفقه قاله مجاهد وقتادة: وقرأ ابن عباس غلف بضم اللام وهو جمع غلاف أي قلوبنا أوعية لكل علم فلا تحتاج إلى علمك قاله ابن عباس وعطاء "بل لعنهم الله بكفرهم" أي طردهم الله وأبعدهم من كل خير "فقليلا ما يؤمنون" قال قتادة معناه لا يؤمن منهم إلا القليل "وقالوا قلوبنا غلف" هو كقوله "وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه" وقال عبدالرحمن ابن أسلم في قوله غلف قال: تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء وقرأ "وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه" وهذا الذي رجحه ابن جرير واستشهد بما روي من حديث عمرو بن مرة الجملي عن أبي البختري عن حذيفة قال "القلوب أربعة - فذكر منها - وقلب أغلف مغضوب عليه وذاك قلب الكافر" وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبدالرحمن العرزمي أنبأنا أبي عن جدي عن قتادة عن الحسن في قوله: "قلوبنا غلف" قال: لم تختن وهذا القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم وأنها بعيدة من الخير. قول آخر: قال الضحاك عن ابن عباس "وقالوا قلوبنا غلف" قال يقولون قلوبنا غلف مملوءة لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره وقال عطية العوفي عن ابن عباس "وقالوا قلوبنا غلف" أي أوعية للعلم وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار فيها حكاه ابن جرير وقالوا قلوبنا غلف بضم اللام نقلها الزمخشري أي جمع غلاف أي أوعية بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر كما كانوا يفتون بعلم التوراة ولهذا قال تعالى "بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون" أي ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها كما قال في سورة النساء "وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا" وقد اختلفوا في معنى قوله "فقليلا ما يؤمنون" وقوله "فلا يؤمنون إلا قليلا" فقال بعضهم فقليل من يؤمن منهم وقيل فقليل إيمانهم بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ولكنه إيمان لا ينفعهم لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم إنما كانوا غير مؤمنين بشيء وإنما قال: فقليلا ما يؤمنون وهم بالجميع كافرون كما تقول العرب قلما رأيت مثل هذا قط. تريد ما رأيت مثل هذا قط وقال الكسائي: تقول العرب من زنى بأرض قلما تنبت أي لا تنبت شيئا حكاه ابن جرير رحمه الله والله أعلم.

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ

📘 يقول تعالى "ولما جاءهم" يعني اليهود "كتاب من عند الله" وهو القرآن الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - "مصدق لما معهم" يعني من التوراة وقوله "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا" أي وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم يقولون إنه سيبعث نبي فى آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم كما قال محمد بن إسحق عن عاصم بن عمرو عن قتادة الأنصاري عن أشياخ منهم قال: فينا والله وفيهم يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة يعني "ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" قالوا كنا قد علوناهم قهرا دهرا في الجاهلية ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب وهم يقولون إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به يقول الله تعالى "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين" وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا" وقال يستنصرون يقولون نحن نعين محمدا عليهم وليسوا كذلك بل يكذبون وقال محمد بن إسحق أخبرني محمد بن أبي محمد أخبر عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يهودا كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم. فأنزل الله في ذلك من قولهم "ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم" الآية. وقال العوفي عن ابن عباس "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا" يقول يستنصرون بخروج محمد - صلى الله عليه وسلم - على مشركي العرب يعني بذلك أهل الكتاب فلما بعث محمد ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه. وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على مشركي العرب يقولون اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين" وقال قتادة "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا" قال وكانوا يقولون إنه سيأتي نبي "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" وقال مجاهد "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين" قال هم اليهود.

يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ

📘 وقوله تعالى "يخادعون الله والذين آمنوا" أي بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك وأن ذاك نافعهم عنده وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين كما قال تعالى "يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله "وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون" يقول وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى "إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم" ومن القراء من قرأ "وما يخدعون إلا أنفسهم" وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد. قال ابن جرير فإن قال قائل: كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية لينجو بما هو له خائف مخادعا فكذلك المنافق سمي مخادعا لله وللمؤمنين بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية بما يخلص به من القتل والسبي والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهره مستبطن وذلك من فعله وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها وهو موردها حياض عطبها ومجرعها به كأس عذابها ومزبرها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به فذلك خديعته نفسه ظنا منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن كما قال تعالى "وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون" إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم بكفرهم وشركهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين ولكنهم على عمى من أمرهم مقيمين. وقال ابن أبي حاتم أنبأنا علي بن المبارك فيما كتب إلي حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن نور عن ابن جريج في قوله تعالى يخادعون الله قال يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك. وقال سعيد عن قتادة "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون" نعت المنافق عند كثير: خنع الأخلاق يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله يصبح على حال ويمسي على غيره ويمسي على حال ويصبح على غيره ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبت ريح هبت معها.

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ

📘 قال مجاهد "بئسما اشتروا به أنفسهم" يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن يبينوه وقال السدي "بئسما اشتروا به أنفسهم" يقول باعوا به أنفسهم يقول بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - عن تصديقه وموأزرته ونصرته وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية "أن ينزل الله فضله على من يشاء من عباده" ولا حسد أعظم من هذا قال ابن إسحق عن محمد عن عكرمة أو سعيد ابن عباس "بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده" أي إن الله جعله من غيرهم "فباءوا بغضب على غضب" قال ابن عباس في الغضب على الغضب فغضب عليهم في ما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم وغضب عليهم بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم " قلت " ومعنى "باءوا" استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن وعن عكرمة وقتادة مثله قال السدي: أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العجل وأما الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس مثله. وقوله تعالى "وللكافرين عذاب مهين" ولما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة كما قال تعالى "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" أي صاغرين حقيرين ذليلين راغمين وقد قال الإمام أحمد حدثنا يحيى حدثنا ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار".

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

📘 يقول تعالى "وإذا قيل لهم" أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب "آمنوا بما أنزل الله" على محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدقوه واتبعوه "قالوا نؤمن بما أنزل علينا" أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك "ويكفرون بما وراءه" يعنى بما يعدوه "وهو الحق مصدق لما معهم" أي وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - "الحق مصدقا لما معهم" منصوبا على الحال أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل فالحجة قائمة عليهم بذلك كما قال تعالى "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ثم قال تعالى "فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين" أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغيا وعنادا واستكبارا على رسل الله فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي كما قال تعالى "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريق تقتلون" وقال السدي في هذه الآية يعيرهم الله تبارك وتعالى "قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين" وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا: لم تقتلون - إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله - أنبياء الله يا معشر اليهود وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم نؤمن بما أنزل علينا وتعيير لهم.

۞ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ

📘 "ولقد جاءكم موسى بالبينات" أي بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا إله إلا الله والآيات البينات هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد وفرق البحر وتظليلهم بالغمام والمن والسلوى والحجر وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها ثم اتخذتم العجل أي معبودا من دون الله في زمان موسى وأيامه وقوله من بعده أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل كما قال تعالى "واتخذ قوم موسى من حليهم عجلا جسدا له خوار" "وأنتم ظالمون" أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من بعده عبادتكم العجل وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى "ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين".

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

📘 يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ولهذا قالوا "سمعنا وعصينا" وقد تقدم تفسير ذلك "وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" قال عبدالرزاق عن قتادة "وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" قال أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقال الإمام أحمد حدثنا عصام بن خالد حدثني أبو بكر بن عبدالله بن أبي مريم الغساني عن خالد بن محمد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال "حبك الشيء يعمي ويصم" ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بقية بن أبي بكر بن عبدالله بن أبي مريم به وقال السدي أخذ موسى عليه السلام العجل فذبحه بالمبرد ثم ذراه في البحر ثم لم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب فذلك حين يقول الله تعالى "وأشربوا في قلوبهم العجل" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبدالله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن عمارة بن عمير وأبي عبدالرحمن السلمي عن علي - رضي الله عنه - قال: عمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد فبرده بها وهو على شاطئ نهر فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب وقال سعيد بن جبير "وأشربوا في قلوبهم العجل" قال لما أحرق العجل برد ثم نسف فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران وحكى القرطبي عن كتاب القشيري أنه ما شرب أحد منه ممن عبد العجل إلا جن ثم قال القرطبي: وهذا شيء غير ما ههنا لأن المقصود من هذا السياق أنه ظهر على شفاههم ووجوههم والمذكور ههنا أنهم أشربوا في قلوبهم العجل يعني في حال عبادتهم له ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة: غلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير غلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرور كاد إذا ذكرت العهد منها أطير لو أن إنسـانا يطير وقوله "قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين" أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمور عليكم إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين فكيف تدعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق وكفركم بآيات الله وعبادتكم العجل من دون الله.

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

📘 قال محمد بن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه - يقول الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - "قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين" أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب فأبوا ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ

📘 "ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" أي يعلمهم بما عندهم من العلم بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات. وقال الضحاك عن ابن عباس فتمنوا الموت: فسلوا الموت وقال عبدالرزاق عن معمر عن عبدالكريم الجزري عن عكرمة قوله: "فتمنوا الموت إن كنتم صادقين". قال: قال ابن عباس لو تمنى يهود الموت لماتوا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا عثام سمعت الأعمش قال لا أظنه إلا عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس وقال ابن جرير في تفسيره وبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا" حدثنا بذلك أبو كريب حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبدالكريم عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي حدثنا فرات عن عبدالكريم به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبدالله بن بشار حدثنا سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قال قول الله: ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم. قلت أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين؟ قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت وما كانوا ليتمنوه. وقد قال الله ما سمعت "ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" وهذا غريب عن الحسن ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة "قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون" فهم عليهم لعائن الله تعالى لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك فلما تأخروا علم كذبهم وهذا كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم فى المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة فقال الله تعالى "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين" فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون فضربها عليهم وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أمينا ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا" أي من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه ومد له واستدرجه كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما من فسر الآية على معنى "إن كنتم صادقين" أي في دعواكم فتمنوا الآن الموت ولم يتعرض هؤلاء للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول: فإنه قال القول في تأويل قوله تعالى "قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس" الآية فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره وفضح بها أحبارهم وعلماءهم وذلك أن الله تعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذا خالفوه في عيسى ابن مريم عليه السلام وجادلوه فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة فقال لفريق اليهود إن كنتم محقين فتمنوا الموت فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله لكم لكي يعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا وإن لم تعظوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا وانكشف أمرنا وأمركم لهم فامتنع اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي في عيسى إذا دعوا للمباهلة من المباهلة. فهذا الكلام منه أوله حسن وآخره فيه نظر وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل إذ يقال إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنون الموت فإنه لا علاقة بين وجود الصلاح وتمني الموت وكم من صالح لا يتمنى الموت بل يود أن يعمر ليزداد خيرا ويرتفع درجته في الجنة كما جاء في الحديث "خيركم من طال عمره وحسن عمله" ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا فهل أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم؟ وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى فأما على تفسير ابن عباس فلا يلزم عليه شيء من ذلك بل قيل لهم كلام نصف إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس وأنكم أبناء الله وأحباؤه وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم اعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونعته وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. وسميت هذه المباهلة تمنيا لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت ولهذا قال تعالى "ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين".

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ

📘 "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة" أي على طول العمر لما يعلمون مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم وهذا من باب عطف الخاص على العام قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "ومن الذين أشركوا" قال الأعاجم وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري وقال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. قال وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي وقال الحسن البصري "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة" قال المنافق أحرص الناس وأحرص من المشرك عل حياة "يود أحدهم" أي يود أحد اليهود كما يدل عليه نظم السياق وقال أبو العالية يود أحدهم أي أحد المجوس وهو يرجع إلى الأول لو يعمر ألف سنة. قال الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" قال هو كقول الفارسي " ده هزارسال "يقول عشرة آلاف سنة. وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضا وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق سمعت أبي عليا يقول حدثنا أبو حمزة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس فى قوله "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" قال هو الأعاجم هزارسال نوروزر مهرجان وقال مجاهد "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" قال: حببت إليهم الخطيئة طول العمر وقال مجاهد بن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس "وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر" أي وما هو بمنجيه من العذاب وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت فهو يحب طول الحياة وأن اليهودي لو عرف ما له في الآخرة من الخزي ما ضيع ما عنده من العلم. وقال العوفي عن ابن عباس "وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر" قال هذا الذين عادوا جبرائيل قال أبو العالية وابن عمر فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجيه منه. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية يهود أحرص على الحياة من هؤلاء وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرا "والله بصير بما يعملون" أي خبير بما يعمل عباده من خير وشر وسيجازي كل عاطل بعمله.

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ

📘 قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله جمع أهل العلم بالتأويل جميعا أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدو لهم وأن ميكائيل ولي لهم ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك فقال بعضهم إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر نبوته: " ذكر من قال ذلك "حدثنا أبو كريب حدثنا يونس بن بكير عن عبدالحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سلوا عما شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام" فقالوا ذلك لك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سلوا عما شئتم" قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة ومن وليه من الملائكة؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني؟" فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق فقال "نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من مرضه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها" فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اللهم اشهد عليهم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض وأن ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عز وجل وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عز وجل" قالوا: اللهم نعم. قال "اللهم اشهد وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه" قالوا اللهم نعم. قال "اللهم اشهد" قالوا: أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك. قال "فإن وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه" قالوا: فعندها نفارقك ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك. قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا فأنزل الله عز وجل "قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه" - إلى قوله- "لو كانوا يعلمون" فعندها باءوا بغضب على غضب وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبدالرحمن بن حميد فى تفسيره عن أحمد بن يونس كلاهما عن عبدالحميد بن بهرام به ورواه أحمد أيضا عن الحسين بن محمد المروزي عن عبدالحميد بنحوه وقد رواه محمد بن إسحق بن يسار حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب فذكر مرسلا وزاد فيه قالوا فأخبرنا عن الروح قال "فأنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبريل وهو الذي يأتيني" قالوا: اللهم نعم ولكنه عدو لنا وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء فلولا ذلك اتبعناك. فأنزل الله تعالى فيهم "قل من كان عدوا لجبريل" - إلى قوله - "لا يعلمون" وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد حدثنا عبدالله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أقبلت يهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك. فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال والله على ما نقول وكيل قال "هاتوا" قالوا فأخبرنا عن علامة النبي؟ قال "تنام عيناه ولا ينام قلبه" قالوا أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر. قال "يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت" قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه قال "كان يشتكي عرق النساء فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا" قال أحمد: قال بعضهم يعني الإبل فحرم لحومها قالوا صدقت قالوا أخبرنا ما هذا الرعد. قال "ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى" قالوا فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال "صوته" قالوا صدقت قالوا إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال "جبريل عليه السلام" قالوا جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان. فأنزل الله تعالى "قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله" إلى آخر الآية ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبدالله بن الوليد وقال الترمذي: حسن غريب. وقال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج أخبرني القاسم بن أبي بزة أن يهود سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي قال "جبرائيل". قالوا فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال. فنزلت "قل من كان عدوا لجبريل" الآية قال ابن جرير: قال مجاهد قالت يهود يا محمد ما نزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال فإنه لنا عدو فنزل "قل من كان عدوا لجبريل" الآية قال البخاري قوله تعالى "من كان عدوا لجبريل" قال عكرمة جبر وميك وإسراف: عبد. إيل: الله. حدثنا عبدالله بن منير سمع عبدالله بن بكر حدثنا حميد عن أنس بن مالك قال سمع عبدالله بن سلام بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أرض يخترف فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام أهل الجنة وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه قال "أخبرني بهذه جبرائيل آنفا" قال جبريل: قال "نعم" قال ذاك عدو اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك" "وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت" قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أي رجل عبدالله بن سلام فيكم؟" قالوا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. قال " أرأيتم إن أسلم " قالوا أعاذه الله من ذلك فخرج عبدالله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه. فقال هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله. انفرد به البخاري من هذا الوجه وقد أخرجه من وجه آخر عن أنس بنحوه وفي صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريب من هذا السياق كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وحكاية البخاري كما تقدم عن عكرمة هو المشهور أن إيل هو الله وقد رواه سفيان الثوري عن خصيف عن عكرمة ورواه عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة ورواه ابن جرير عن الحسين بن يزيد الطحان عن إسحق بن منصور عن قيس بن عاصم عن عكرمة أنه قال إن جبريل اسمه عبدالله وميكائيل اسمه عبدالله إيل الله. ورواه يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس مثله سواء وكذا قال غير واحد من السلف كما سيأتي قريب ومن الناس من يقول إيل عبارة عن عبد والكلمة الأخرى هي اسم الله لأن كلمة إيل لا تتغير في الجميع فوزانه عبدالله عبدالرحمن عبدالملك عبدالقدوس عبدالسلام عبدالكافي عبدالجليل فعبد موجودة فى هذا كله واختلف الأسماء المضاف إليها وكذلك جبرائيل وميكائيل وعزائيل وإسرافيل ونحو ذلك وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف والله أعلم. ثم قال ابن جرير: وقال آخرون بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم. "ذكر من قال ذلك "حدثني بن المثنى حدثني ربعي ابن علية عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال نزل عمر الروحاء فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها فقال ما بال هؤلاء؟ قالوا يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ههنا قال فكفر ذلك وقال أيما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدركته الصلاة بواد صلاها ثم ارتحل فتركه ثم أنشأ يحدثهم فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق القرآن ومن القرآن كيف يصدق التوراة فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب ما من صحابك أحد أحب إلينا منك " قلت "ولم ذلك؟ قالوا لأنك تغشانا وتأتينا. فقلت: إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدق التوراة ومن التوراة كيف تصدق القرآن قالوا: ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم عند ذلك نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه وما استودعكم من كتابه هل تعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا. فقال لهم عالمهم وكبيرهم: إنه قد غلظ عليكم فأجيبوه قالوا فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا بما نشدتنا فإنا نعلم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم. قلت: ويحكم إذا هلكتم. قالوا: إنا لم نهلك قلت كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ولا تتبعونه ولا تصدقونه. قالوا إن لنا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة وإنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة. قلت ومن عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل وسلمنا ميكائيل قالوا إن جبرائيل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة والتخفيف ونحو هذا قال: قلت وما منزلتهما من ربهما عز وجل؟ قالا أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره قال: فقلت فوالذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما وما ينبغي لجبرائيل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبرائيل. قال: ثم قمت فاتبعت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان فقال "يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات نزلن قبل فقرأ علي "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله" حتى قرأ الآيات قال: قلت بأبي وأمي أنت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك وأنا أسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن مجالد أنبأنا عامر قال: انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود فقال أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتبكم؟ قالوا نعم قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولا إلا جعل له من الملائكة كفلا وإن جبرائيل كفل محمدا وهو الذي يأتيه وهو عدونا من الملائكة وميكائيل سلمنا لو كان ميكائيل الذي يأتيه أسلمنا. قال: فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما منزلتهما عند الله تعالى؟ قالوا: جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله. قال عمر: وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبرائيل وما كان جبرائيل ليسالم عدو ميكائيل. فبينما هو عندهم إذ مر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا هذا صاحبك يا ابن الخطاب فقام إليه عمر فأتاه وقد أنزل الله عز وجل: "من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين" وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر فإنه لم يدرك زمانه والله أعلم. وقال ابن جبير: حدثنا بشير حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود فلما انصرف رحبوا به فقال لهم عمر: أما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم ولكن جئت لأسمع منكم فسألهم وسألوه فقالوا من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم جبرائيل. فقالوا ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمدا على سرنا وإذا جاء جاء بالحرب والسنة ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل وكان إذا جاء جاء بالخصب والسلم فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل وتنكرون محمدا - صلى الله عليه وسلم؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحدثه حديثهم فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية "قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله" الآيات. ثم قال حدثني المثنى حدثنا آدم حدثنا أبو جعفر حدثنا قتادة. قال بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يوما فذكر نحوه. وهذا في تفسير آدم وهو أيضا منقطع وكذلك رواه أسباط عن السدي عن عمر مثل هذا أو نحوه وهو منقطع أيضا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار حدثنا عبدالرحمن يعني الدستلي حدثنا أبو جعفر عن حصين بن عبد الرحمن عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا لقي عمر بن الخطاب فقال إن جبرائيل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا. فقال عمر "من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين" قال فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه ورواه عبد بن حميد عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن أبي جعفر هو الرازي: وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثني هشيم أخبرنا حصين بن عبدالرحمن عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى "من كان عدوا لجبريل" قال: قالت اليهود للمسلمين لو أن ميكائيل كان هو الذي ينزل عليكم اتبعناكم فإنه ينزل بالرحمة والغيث وإن جبرائيل ينزل بالعذاب والنقمة فإنه عدو لنا قال فنزلت هذه الآية. حدثنا يعقوب أخبرنا هشيم أخبرنا عبدالملك عن عطاء بنحوه. وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "قل من كان عدوا لجبريل" قال: قالت اليهود إن جبرائيل عدو لنا لأنه ينزل بالشدة والسنة وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب فجبرائيل عدو لنا. فقال الله تعالى "من كان عدوا لجبريل" الآية.

مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ

📘 وأما تفسير الآية فقوله تعالى "قل من كان عدوا لجبريل" فإنه نزله على قلبك بإذن الله أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك فهو رسول من رسل الله ملكي ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل كما قال تعالى "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض" الآيتين فحكم عليهم بالكفر المحقق إذا آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه كما قال "وما نتنزل إلا بأمر ربك" الآية وقال تعالى "وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين" وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من عاد لي وليا فقد بارزني بالحرب" ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاداه فقال تعالى "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه" أي من الكتب المتقدمة "وهدى وبشرى للمؤمنين" أي هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء" الآية وقال تعالى "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين" الآية ثم قال تعالى "من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين" يقول تعالى من عاداني وملائكتي ورسلي - ورسله تشمل رسله من الملائكة كما قال تعالى "الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس" - وجبريل وميكال وهذا من باب عطف الخاص على العام فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل ثم خصصا بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبرائيل وهو السفير بين الله وأنبيائه وقرن معه مكائيل في اللفظ لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا ولأنه أيضا ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان كما قرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ابتداء الأمر ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته وميكائيل موكل بالنبات والقطر هذاك بالهدى وهذا بالرزق كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يقول " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وقد تقدم ما حكاه البخاري ورواه ابن جرير عن عكرمة وغيره أنه قال جبر وميك وإسراف: عبيد وإيل: الله وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن إسماعيل بن أبي رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبدالله وعبدالرحمن وقيل جبر عبد وإيل الله. وقال محمد بن إسحق عن الزهري عن علي بن الحسين قال: أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم؟ قلنا لا قال: اسمه عبدالله وكل اسم مرجعه إلى إيل فهو إلى الله عز وجل قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك ثم قال: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني عبدالعزيز بن عمير قال: اسم جبرائيل في الملائكة خادم الله قال: فحدثت به أبا سليمان الداراني فانتفض وقال: لهذا الحديث أحب إلي من كل شيء في دفتر كان بين يديه. وفي جبرائيل وميكائيل لغات وقراءات تذكر في كتب اللغة والقراءات ولم نطول كتابنا هذا بسرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه أو يرجع الحكم في ذلك إليه وبالله الثقة وهو المستعان وقوله تعالى "فإن الله عدو للكافرين" فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل فإنه عدو بل قال: "فإن الله عدو للكافرين" كما قال الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شيء سبق الموت ذا الغني والفقيرا وقال الآخر: ليت الغراب غداة ينعب دائبا كان الغراب مقطع الأوداج وإنما أظهر الله هذا الاسم ههنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره وإعلامهم أن من عادى وليا لله فقد عادى الله ومن عادى الله فإن الله عدو له ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة كما تقدم الحديث "من عادى لي وليا فقد آذنته بالمحاربة" وفى الحديث الآخر "إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب" وفي الحديث الصحيح "من كنت خصمه خصمته".

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۖ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ

📘 قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات" الآية أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة فاطلع الله في كتابه الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعها إلى هلاكه الحسد والبغي إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الآيات البينات التي وصف من غير تعلم تعلمه من بشر ولا أخذ شيئا منه عن آدمي كما قال الضحاك عن ابن عباس "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات" يقول فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه يقول الله تعالى لهم في ذلك عبرة وبيان وعليهم حجة لو كانوا يعلمون. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة وسعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا القطويني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بينه فنتبعك فأنزل الله في ذلك من قوله "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون".