slot qris slot gacor terbaru slot gacor terbaik slot dana link slot gacor slot deposit qris slot pulsa slot gacor situs slot gacor slot deposit qris slot qris bokep indo
| uswah-academy
WhatsApp Book A Free Trial
القائمة

🕋 تفسير سورة يوسف

(Yusuf) • المصدر: AR-TAFSIR-AL-WASIT

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ

📘 افتتحت سورة يوسف - عليه السلام - ببعض الحروف المقطعة . وقد سبق أن تكلمنا عن آراء العلماء فى هذه الحروف فى سورة البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ، وهود .وقلنا ما ملخصه : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض السور على سبيل الايقاظ والتنبيه إلى إعجاز القرآن الكريم .فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله - تعالى - : هاكم ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الجهائية التى تنظمون منها حروفكم . . فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك .ومما يشهد لصحة هذا الرأى : أن الآيات التى تلى هذه الحروف المقطعة تراها تتحدث - صراحة أو ضمنا - عن القرآن الكريم وعن كونه من عند الله - تعالى - وعن كونه معجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ففى مطلع سورة البقرة : ( الاما . ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ . . . ) وفى مطلع سورة آل عمران : ( الاما . الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم . نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل . . ) وفى أول سورة يونس : ( الار تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم . أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ . . . ) وفى أول سورة هود : ( الار كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ . . . ) وهكذا نجد أن معظم الآيات التى تلى الحروف المقطعة ، منها ما يتحدث عن أن هذا الكتاب من عند الله - سبحانه - ومنها ما يتحدث عن وحدانية الله - تعالى - ، ومنها ما يتحدث عن صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته . .وهذا كله لتنبيه الغافلين إلى أن هذا القرآن من عند الله ، وأنه المعجزة الخالدة للرسول - صلى الله عليه وسلم - .ثم قال - تعالى - : ( تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين )و " تلك " اسم إشارة ، المشار إليه الآيات ، والمراد بها آيات القرآن الكريم ويندرجح فيها آيات السورة التى معنا .والكتاب : مصدر كتب كالكتب . وأصل الكتب ضم أديم إلى آخر بالخياطة . واستعمل عرفا فى ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، والمراد به القرآن الكريم .والمبين : أى الواضح الظاهر من أبان بمعنى بان أى ظهر .والمعنى : تلك الآيات التى نتلوها عليك - أيها الرسول الكريم - فى هذه السورة اوفى غيرها ، هى آيات الكتاب الظاهر أمره ، الواضح إعجازه ، بحيث لا تشتبه على العقلاء حقائقه ، ولا تلتبس عليهم هداياته .وصحت الإِشارة إلى آيات الكتاب الكريم ، مع أنها لم تكن قد نزلت جميعها ، لأن الإِشارة إلى بعضها كالإِشارة إلى جميعها ، حيث كانت بصدد الإِنزال ، ولأن الله - تعالى - قد وعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - بنزول القرآن عليه ، كما فى قوله ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) ووعد الله - تعالى - لا يتخلف .

قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ

📘 وقوله - سبحانه - ( قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) بيان للرأى الذى اقترحه أحدهم ، واستقر عليه أمرهم .قال القرطبى ما ملخصه : قوله ( وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب ) قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة " فى غيابة الجب " بالإِفراد - وقرأ أهل المدينة " فى غيابات الجب " - بالجمع- .وكل شئ غيب عنك شيئا فهو غيابة ، ومنه قيل للقبر غيابة - قال الشاعر :فإن أنا يوما غيبتنى غيابتى ... فسيروا بسيرى فى العشيرة والاهلوالجب : الركية - أى الحفرة - التى لم تطو - أى لم بتن بالحجارة - فإذا طويت فهى بئر . وسميت جبا لأنها قطعت فى الأرض قطعا . وجمع الجب جببه وجباب وأجباب .وجمع بين الغيابة والجبن ، لأنه أراد ألقوه فى موضع مظلم الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين . . .والسيارة : جمع سيار ، والمراد بهم جماعة المسافرين الذين يبالغون فى السير ليصلوا إلى مقصودهم .والمعنى : قال قائل من إخوة يوسف أفرزعه ما هم مقدمون علهي بشأن أخيهم الصغير : لا تقتلوا يوسف ، لأن قتله جرم عظيم ، وبدلا من ذلك ، ألقوه فى قعر الجب حيث يغيب خبره ، إلى أن يلتقطه من الجب بعض المسافرين ، فيذهب به إلى ناحية بعيدة عنكم ، وبذلك تستريحون منه ويخل لكم وجه أبيكم .ولم يذكر القرآن اسم هذا القائل أو وصفه ، لأنه لا يتعلق بذكر ذلك غرض ، وقد رجح بعض المفسرين أن المراد بهذا القائل " يهوذا "والفائدة فى وصفه بأنه منهم ، الإِخبار بأنهم لم يجمعوا على قتله أو طرحه فى أرض بعيدة حتى يدركه الموت .وأتى باسم يوسف دون ضميره ، لاستدرار عطفهم عليه ، وشفقتهم به ، واستعظام أمر قتله .وجواب الشرط فى قوله ( إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) محذوف لدلالة " وألقوه " عليه .والمعنى : إن كنتم فاعلين ما هو خير وصواب ، فألقوه فى غيابة الجب ، ولا تقتلوه ولا تطرحوه أرضا .وفى هذه الجملة من هذا القائل ، محاولة منه لتثبيطهم عما اقترحوه من القتل أو التغريب بأسلوب بليغ ، حيث فوض الأمر إليهم ، تعظيما لهم ، وحذرا من سوء ظنهم به ، فكان أمثلهم رأيا ، وأقربهم إلى التقوى .قالوا : وفى هذا الرأى عبرة فى الاقتصاد عند الانتقام ، والاكتفاء بما حصل به الغرض دون إفراط ، لأن غرضهم إنما هو إبعاد يوسف عن أبيهم . وهذا الإِبعاد يتم عن طريق إلقائه فى غيابة الجب .

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

📘 والمراد بالعرش فى قوله ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش ) السرير الذى يجلس عليه .أى : وأجلس يوسف أبويه معه على السرير الذى يجلس عليه ، تكريماً لهما ، وإعلاء من شأنهما .( وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ) أى : وخر يعقوب وأسرته ساجدين من أجل يوسف ، وكان ذلك جائزا فى شريعتهم على أنه لون من التحية ، وليس المقصود به السجود الشرعى لأنه لا يكون إلا الله - تعالى - .( وَقَالَ ) يوسف متحدثاً بنعمة الله ( ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً . . . )أى : وقال يوسف لأبيه : هذا السجود الذى سجدتموه لى الآن ، هو تفسير رؤياى التى رأيتها فى صغرى ، فقد جعل ربى هذه الرؤيا حقاً ، وأرانى تأويلها وتفسيرها بعد أن مضى عليها الزمن الطويل .قالوا : وكان بين الرؤيا وبين ظهور تأويلها أربعون سنة .والمراد بهذه الرؤيا ما أشار إليه القرآن فى مطلع هذه السورة فى قوله ( ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) ثم قال يوسف لأبيه أيضاً : ( وَقَدْ أَحْسَنَ بي ) ربى - عز وجل - ( إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن ) بعد أن مكثت بين جدرانه بضع سنين .وعدى فعل الإِحسان بالباء مع أن الأصل فيه أن يتعدى بإلى ، لتضمنه معنى اللطف ولم يذكر نعمة إخراجه من الجب ، حتى لا يجرح شعور إخوته الذين سبق أن قال لهم : ( لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ ) وقوله ( وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو ) معطوف على ما قبله تعدادا لنعم الله - تعالى - .أى : وقد أحسن بى ربى حيث أخرجنى من السجن ، وأحسن بى أيضاً حيث يسر لكم أموركم ، وجمعنى بكم فى مصر ، بعد أن كنتم مقيمين فى البادية فى أرض كنعان بفلسطين .وقوله ( مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي ) أى جمعنى بكم من بعد أن أفسد الشيطان بينى وبين إخوتى ، حيث حملهم على أن يلقوا بى فى الجب .وأصل ( نَّزغَ ) من النزغ بمعنى النخس والدفع . يقال : نزغ الراكب دابته إذا نخسها ودفعها لتسرع فى سيرها .وأسند النزغ إلى الشيطان ، لأنه هو الموسوس به ، والدافع إليه ، ولأن فى ذلك ستراً على إخوته وتأدباً معهم .وقوله ( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم ) تذييل قصد به الثناء على الله - تعالى - بما هو أهله .أى : إن ربى وخالقى ، لطيف التدبير لما يشاء تدبيره من أمور عباده ، رفيق بهم فى جميع شئونهم من حيث لا يعلمون .إنه - سبحانه - هو العليم بأحوال خلقه علماً تاماً ، الحكيم في جميع أقواله وأفعاله .

۞ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ

📘 ثم ختم يوسف - عليه السلام - ثناءه على الله - تعالى - بهذا الدعاء الذى حكاه القرآن عنه فى قوله : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك ) أى : يا رب قد أعطيتنى شيئاً عظيماً من الملك والسلطان بفضلك وكرمك .( وَعَلَّمْتَنِي ) - أيضاً - شيئاً كثيراً ( مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ) أى : من تفسيرها وتعبيرها تعبيراً صادقاً بتوفيقك وإحسانك .( فَاطِرَ السماوات والأرض ) أى : خالقهما على غير مثال سابق ، وهو منصوب على النداء بحرف مقدر أى : يا فاطر السموات والأرض .( أَنتَ وَلِيِّي ) وناصرى ومعينى ( فِي الدنيا والآخرة ) .( تَوَفَّنِي ) عندما يدركنى أجلى على الإِسلام ، وأبقنى ( مُسْلِماً ) مدة حياتى .( وَأَلْحِقْنِي ) فى قبرى ويوم الحساب ( بالصالحين ) من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .وبهذا الدعاء الجامع الذى توجه به يوسف إلى ربه - تعالى - يختتم القرآن الكريم قصة يوسف مع أبيه ومع إخوته ومع غيرهم ممن عاشرهم والتقى بهم وهو دعاء يدل على أن يوسف - عليه السلام - لم يشغله الجاه والسلطان ولم يشغله لقاؤه عن طاعة ربه ، وعن تذكر الآخرة وما فيها من حساب . .وهذا هو شأن المصطفين الأخيار الذين نسأل الله - تعالى - أن يحشرنا معهم ، ويحلقنا بهم ، ويوفقنا للسير على نهجهم . . .ثم يختتم الله - تعالى - هذه السورة الكريمة بما يدل على أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - وبما يدخل التسلية على قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبما يفتح له باب الأمل فى النصر على أعدائه . . . فيقول :( وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ . . . )

ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۖ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ

📘 اسم الإشارة فى قوله - سبحانه - ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ . . . ) يعود على ما ذكره الله - تعالى - فى هذه السورة من قصص يتعلق بيوسف وإخوته وأبيه وغيرهم ، أى : ذلك الذى قصصناه عليك - أيها الرسول الكريم - فى هذه السورة ، وما قصصناه عليك فى غيرها ( مِنْ أَنْبَآءِ الغيب ) أى : من الأخبار الغيبية التى لا يعلمها علماً تاما شاملاً إلا الله - تعالى - وحده .ونحن ( نُوحِيهِ إِلَيْك ) ونعلمك به لما فيه من العبر والعظات .وقوله : ( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) مسوق للتدليل على أن هذا القصص من أنباء الغيب الموحاة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - .أى : ومما يشهد بأن هذا الذى قصصناه عليك فى هذه السورة من أنباء الغيب ، أنك - أيها الرسول الكريم - ما كنت حاضرا مع إخوة يوسف ، وقت أن أجمعوا أمرهم للمكر به ، ثم استقر رأيهم على إلقائه فى الجب ، وما كنت حاضراً أيضاً وقت أن مكرت امرأة العزيز بيوسف ، وما كنت مشاهداً لتلك الأحداث المتنوعة التى اشتملت عليها هذه السورة الكريمة ، ولكنا أخبرناك بكل ذلك لتقرأه على الناس ، ولينتفعوا بما فيه من حكم وأحكام ، وعبر وعظات .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى خلال قصة نوح - عليه السلام - : ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ ) وقوله - تعالى - فى خلال قصة موسى - عليه السلام - ( وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين ) وقوله - تعالى - فى خلال حديثه عن مريم ( ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) إلى غير ذلك من الآيات التى تدل على أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معاصرا لمن جاء القرآن بقصصهم ، ولم يطلع على كتاب فيه خبرهم ، فلم يبق لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بذلك طريق إلا طريق الوحى .

وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ

📘 ثم ساق - سبحانه - ما يبعث التسلية والتعزية فى قلب النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) .أى : لقد جئت - أيها الرسول - للناس بدين الفطرة ، الذى ترتاح له النفوس وتتقبله القلوب بسرور وانشراح . ولكن أكثر الناس قد استحوذ عليهم الشيطان ، فمسخ نفوسهم وقلوبهم ، ، فصاروا مع حرصك على إيمانهم ، ومع حرصك على دعوتهم إلى الحق على بصيرة ، لا يؤمنون بك ، ولا يستجيبون لدعوتك ، لاستيلاء المطامع والشهوات والأحقاد على نفوسهم .وفى التعبير بقوله - سبحانه - ( وَمَآ أَكْثَرُ الناس . . . ) إشعار بأن هناك قلة من الناس قد استجابت بدون تردد لدعوة النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فدخلت فى الدين الحق ، عن طواعيه واختيار .وقوله ( وَلَوْ حَرَصْتَ ) جملة معترضة لبيان أنه مهما بالغ النبى - صلى الله عليه وسلم - فى كشف الحق ، فإنهم سادرون ، فى ضلالهم وكفرهم ، إذ الحرص طلب الشئ باجتهاد .قال الآلوسى ما ملخصه : " سألت قريش واليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قصة يوسف ، فنزلت مشروحة شرحاً وافياً ، فأمل النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يكون ذلك سبباً فى إسلامهم ، فلما لم يفعلوا حزن - صلى الله عليه وسلم - فعزاه الله - تعالى - بذلك " .

وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ

📘 وقوله ( وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) زيادة فى تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفى إعلاء شأنه .أى أنك - أيها الرسول الكريم - ما تسألهم على هذا القرآن الذى تتلوه عليهم لهدايتهم وسعادتهم من أجر ولو كان زهيداً ضئيلاً . كما يفعل غيرك من الكهان والأحبار والرهبان . . .وإنما تفعل ابتغاء رضا الله - تعالى - ونشر دينه .وقوله ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) أى : ما هذا القرآن الذى تقرؤه عليهم إلا تذكير وعظة وهداية للعالمين كافة لا يختص به قوم دون قوم ، ولا جنس دون جنس .قالوا : وهذه الجملة كالتعليل لما قبلها ، لأن التذكير العام لكل الناس ، يتنافى مع أخذ الأجرة من العبض دون البعض ، وإنما تتأتى الأجرة ، إذا كانت الدعوة خاصة وليست عامة .

وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ

📘 ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المشركين تطالعهم الدلائل والبراهين الدالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، ولكنهم فى عمى عنها فقال : ( وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) .و ( كأين ) كلمة مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة ، ثم تنوسى معنى جزيئيتها وصارت كلمة واحدة بمعننى كم الخبرية المفيدة للتكثير .والمراد بالآية هنا : العبرة والعظمة الدالة على وحدانية الله وقدرته يمر بها هؤلاء المشركون فلا يلتفتون إليها ، ولا يتفكرون فيها ، ولا يعتبرون بها ، لأن بصائرهم قد انطمست بسبب استحواذ الأهواء والشهوات والعناد عليها .قال ابن كثير ما ملخصه : يخبر - تعالى - فى هذه الآية عن غفلة أكثر الناس عن التفكير فى آيات الله ودلائل توحيده ، بما خلقه - سبحانه - فى السموات من كواكب زاهرات ، وسيارات وأفلاك . . . . وفى الأرض من حدائق وجنات ، وجبال راسيات ، وبحار زاخرات ، وحيوانات ونبات . . . فسبحان الواحد الأحد ، خالق أنواع المخلوقات ، المنفرد بالدوام والبقاء والصمدية .. .

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ

📘 ثم بين - سبحانه - أنهم بجانب غفلتهم وجهالتهم ، لا يؤمنون إيماناً صحيحاً فقال - تعالى - ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ) .أى : وما يؤمن أكثر هؤلاء الضالين بالله فى إثقرارهم بوجوده ، وفى اعترافهم بأنه هو الخالق ، إلا وهم مشركون به فى عقيدتهم وفى عبادتهم وفى تصرفاتهم ، فإنهم مع اعترافهم بأن خالقهم وخالق السموات والأرض هو الله لكنهم مع ذلك كانوا يتقربون إلى أصنامهم بالعبادة ويقولون ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى ) والآية تشمل كل شرك سواء أكان ظاهراً أم خفياً ، كبيراً أم صغيراً . وقد ساق ابن كثير هنا جملة من الأحاديث فى هذا المعنى ، كلها تنهى عن الشرك أياً كان لونه ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : " عندما سئل أى الذنب أعظم؟ قال : " أن تجعل لله نداً وهو خلقك " ومنها قوله؛ " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " " .ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا : ما الشرك الأصغر؟ قال : الرياء " .ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : فيما يرويه عن ربه - عز وجل - يقول الله - تعالى - " أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معى غيرى ، تركته وشركه " .فالآية الكريمة تنهى عن كل شرك ، وتدعو إلى إخلاص العبادة والطاعة لله رب العالمين .

أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

📘 ثم هددهم - سبحانه - بحلول قارعة تدمرهم تدميراً فقال - تعالى - : ( أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ) .والغاشية؛ كل ما يغطى الشئ ويستره ، والمراد بها : ما يغشاهم ويغمرهم من العذاب . والاستفهام للتوبيخ والتقريع .والمعنى : أفأمن هؤلاء الضالون ، أن يأتيهم عذاب من الله - تعالى - يغشاهم ويغمرهم ويشمل كل أجزائهم ، وأمنوا أن تأتيهم الساعة فجأة دون أن يسبقها ما يدل عليها ، بحيث لا يشعرون بإتيانها إلا عند قيامها .

قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ

📘 إن كانوا قد أمنوا كل ذلك ، فهم فى غمرة ساهون ، وفى الكفر والطغيان غارقون ، فإنه ( فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون ) ثم أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم : إن يسير فى طريقه الذى رسمه له ، وأن يدعو الناس إليه فقال : ( قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني . . . ) والبصيرة : المعرفة التى يتميز بها الحق من الباطل .أى : قل - أيها الرسول الكريم - للناس هذه طريقى وسبيلى واحدة مستقيمة لا عوج فيها ولا شبهة ، وهى أنى أدعو إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، ببصيرة مستنيرة ، وحجة واضحة ، وكذلك أتباعى يفعلون ذلك . . . ولن نكفّ عن دعوتنا هذه مهما اعترضنا العقبات .واسم الإِشارة ( هذه ) مبتدأ ، و ( سبيلى ) خبر ، وجملة ( أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ .. . ) حالية ، وقد جئ بها على سبيل التفسير للطريقة التى انتهجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته .وقوله ( وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين ) تنزيه لله - تعالى - عن كل ما لا يليق به على أبلغ وجه .أى : وأنزه الله - تعالى - تنزيهاً كاملاً عن الشرك والشركاء ، وما أنا من المشركين ببه فى عبادته أو طاعته فى أى وقت من الأوقات .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ۗ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

📘 ثم بين - سبحانه - أن رسالته - صلى الله عليه وسلم - ليست بدعا من بين الرسالات السماوية ، وإنما قد سبقه إلى ذلك رجال يشبهونه فى الدعوة إلى الله ، فقال - تعالى - ( وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى . . . )أى : وما أرسلنا من قبلك - أيها الرسول الكريم - لتبليغ أوامرنا ونواهينا إلى الناس ، إلا رجالاً مثلك ، وهؤلاء الرجال اختصصناهم بوحينا ليبلغوه إلى من أرسلوا إليهم واصطفيناهم من بين أهل القرى والمدائن ، لكونهم أصفى عقولاً وأكثر حلما .وإنما جعلنا الرسل من الرجال ولم نجعلهم من الملائكة أو من الجن أو من غيرهم ، لأن الجنس إلى جنسه أميل ، وأكثرهم تفهما وإدراكاً لما يلقى عليه من أبناء جنسه .ثم نعى - سبحانه - على هؤلاء المشركين غفلتهم وجهالتهم فقال : ( أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ . . . )أى : أوصلت الجهالة والغفلة بهؤلاء المشركين ، أنهم لم يتعظوا بما أصاب الجاحدين من قبلهم من عذاب دمرهم تدميراً ، وهؤلاء الجاحدين الذين دمروا ما زالت آثار بعضهم باقية وظاهرة فى الأرض . وقومك - يا محمد - يمرون عليهم فى الصباح وفى المساء وهم فى طريقهم إلى بلاد الشام ، كقوم صالح وقوم لوط - عليهما السلام - .فالجملة توبيخ شديد لأهل مكة على عدم اعتبارهم بسوء مصير من كان على شاكلتهم فى الشرك والجحود .وقوله ( وَلَدَارُ الآخرة ) وما فيها من نعيم دائم ( خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا ) الله - تعالى - وصانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضيه .( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) أيها المشركون ما خاطبناكم به فيحملكم هذا التعقل والتدبر إلى الدخول فى الإِيمان ، ونبذ الكفر والطغيان .

قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ

📘 ثم حكى - سبحانه - محاولاتهم مع أبيهم ، ليأذن لهم بخروج يوسف معهم فقال : ( قَالُواْ ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ . أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) .أى : قال إخوة يوسف لأبيهم - محاولين استرضاءه لاستصحاب يوسف معهم - يا أبانا ( مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ ) أى : أى شئ جعلك لا تأمنا على أخينا يوسف فى خروجه معنا ، والحال أننا له لناصحون ، فهو أخونا ونحن لا نريد له إلا الخير الخالص ، والود الصادق .وفى ندائهم له بلفظ " يا أبانا " استمالة لقلبه ، وتحريك لعطفه ، حتى يعدل عن تصميمه على عدم خروج يوسف معهم .والاستفهام فى قولهم : ( مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا . . . ) للتعجيب من عدم ائتمانهم عليه مع أنهم إخوته ، وهو يوحى بأنهم بذلوا محاولات قبل ذلك فى اصطحابه معم ولكنها جميعا باءت بالفشل .

حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ

📘 ثم حكى - سبحانه - سنة من سننه التى لا تتخلف ولا تتبدل فقال : ( حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا . . . )وفى قوله ( قَدْ كُذِبُواْ ) وردت قراءتان سبعيتان إحداهما بتشديد الذال والثانية بالتخفيف .وعلى القراءتين فالغاية فى قوله - تعالى - ( حتى إِذَا استيأس الرسل ) غاية لكلام محذوف دل عليه السياق .والمعنى على القراءة التى بالتشديد . لقد أرسلنا رسلنا لهداية الناس ، فأعرض الكثيرون منهم عن دعوتهم ، ووقفوا منهم موقف المنكر والمعاند والمحارب لهدايتهم ، وضاق الرسل ذرعاً بموقف هؤلاء الجاحدين ، حتى إذا استيأس الرسل الكرام من إيمان هؤلاء الجاحدين ، وظنوا - أى الرسل - أن أقوامهم الجاحدين قد كذبوهم فى كل ما جاءوهم به لكثرة إعراضهم عنهم ، وإيذائهم لهم .. . أى : حتى إذا ما وصل الرسل إلى هذا الحد من ضيقهم بأقوامهم الجاحدين جاءهم نصرنا الذى لا يتخلف .والمعنى على القراءة الثانية التى هى بالتخفيف : حتى إذا يئس الرسل من إيمان أقوامهم يأساً شديداً ، وظن هؤلاء الأقوم أن الرسل قد كذبوا عليهم فيما جاءوهم به ، وفيما هددوهم به من عذاب إذا ما استمروا على كفرهم . .حتى إذا ما وصل الأمر بالرسل وبالأقوام إلى هذا الحد ، جاء نصرنا الذى لا يتخلف إلى هؤلاء الرسل ، فضلاً منا وكرماً . . .فالضمير فى قوله ( كُذِّبواْ ) بالتشديد يعود على الرسل ، أما على قراءة التخفيف ( كُذِبوا ) فيعود إلى الأقوام الجاحدين .ومنهم من جعل الضمير - أيضاً - على قراءة ( كذبوا ) بالتخفيف يعود على الرسل ، فيكون المعنى : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم ، وظنوا - أى الرسل - أن نفوسهم قد كذبت عليهم فى تحديد موعد انتصارهم على أعدائهم لأن البلاء قد طال . والنصر قد تأخر . . جاءهم - أى الرسل - نصرنا الذى لا يتخلف .قال الشيخ القاسمى فى بيان هذا المعنى : قال الحكيم الترمذى : ووجهه - أى هذا القول السابق - أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر ، أن يتخلف النصر ، لا عن تهمة بوعد الله ، بل عن تهمة لنفوسهم أن تكون قد أحدثت حدثاً ينقض ذلك الشرط ، فكان النصر إذا طال انتظاره واشتد البلاء عليهم ، دخلهم الظن من هذه الجهة .وهذا يدل على شدة محاسبة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لنفوسهم ، وحسن صلتهم بخالقهم - عز وجل - .وقوله - سبحانه - ( فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين ) معطوف على ما قبله ، ومتفرع عليه .أى : جاءهمنصرنا الذى وعدناهم به ، بأن أنزلنا العذاب على أعدائهم ، فنجا من نشاء إنجاءه وهم المؤمنون بالرسل ، ولا يرد بأسنا وعذابنا عن القوم المجرمين عند نزوله بهم .

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

📘 ثم ختم - سبحانه - هذه السورة الكريمة بقوله : ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب ) أى : لقد كان فى قصص أولئك الأنبياء الكرام وما جرى لهم من أقوامهم ، عبرة وعظة لأصحاب العقول السليمة ، والأفكار القويمة ، بسبب ما اشتمل عليه هذا القصص من حكم وأحكام ، وآداب وهدايات .و ( مَا كَانَ ) هذا المقصوص فى كتاب الله - تعالى - ( حَدِيثاً يفترى ) أى يختلق .( ولكن ) كان ( تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ ) من الكتب السابقة عليه ، كالتوراة والإِنجيل والزبور ، فهو المهيمن على هذه الكتب ، والمؤيد لما فيها من أخبار صحيحة ، والمبين لما وقع فيها من تحريف وتغيير ، والحاكم عليها بالنسخ أو بالتقرير .( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) أى : وكان فى هذا الكتاب - أيضاً - تفصيل وتوضيح كل شئ من الشرائع المجملة التى تحتاج إلى ذلك .( وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) أى : وكان هداية تامة ، ورحمة شاملة ، لقوم يؤمنون به ، ويعملون بما فيه من أمر ونهى ، وينتفعون بما اشتمل عليه من وجوه العبر والعظات .وبعد : فهذا تفسير لسورة يوسف - عليه السلام - تلك السورة الزاخرة بالحكم والأحكام ، وبالآداب والأخلاق ، وبالمحاورات والمجادلات ، وبأحوال النفوس البشرية فى حبها وبغضها ، وعسرها ويسرها ، وخيرها وشرها . وعطائها ومنعها وسرها وعلانيتها ، ورضاها وغضبها ، وحزنها وسرورها .

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ

📘 ثم أضافوا إلى ذلك قولهم ( أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ . . . ) .والرتع والرتوع هو الاتساع فى الملاذ والتنعم فى العيش ، يقال : رتع الإِنسان فى النعمة إذا أكل ما يطيب له ورتعت الدابة إذا أكلت حتى شبعت ، وفعله كمنع والمراد باللعب هنا الاستجمام ورفع السآمة ، كالتسابق عن طريق العدو ، وما يشبه ذلك من ألوان الرياضة المباحة .أى : أرسله معنا غدا ليتسع فى أكل الفواكه ونحوها وليدفع السآمة عن نفسه عن طريق القفز والجرى والتسابق معنا .( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) كل الحفظ من أن يصيبه مكروه ، أو يمسه سوء .وقد أكدو هذه الجملة والتى قبلها وهى قوله ( وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ) بألوان من المؤكدات ، لكى يستطيعوا الحصول على مقصودهم فى اصطحاب يوسف معهم .وهو أسلوب يبدوا فيه التحايل الشديد على أبيهم ، لإِقناعة بما يريدون تنفيذه وتحقيقه من مآرب سيئة .

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ

📘 ثم أخبر - سبحانه - عما رد به عليهم أبوهم فقال : ( قَالَ إِنِّي ليحزنني أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) .والحزن : الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فقد محبوب .والخوف : فزع النفس من مكروه يتوقع حصوله .والذئب : حيوان معروف بعدوانه على الضعاف من الإِنسان ومن الحيوان ، وال فيه للجنس ، والمراد به أى فرد من أفراد الذئاب .أى : قال يعقوب لأبنائه ردا على إلحاحهم فى طلب يوسف للذهاب معهم يا أبنائى إننى ليحزننى حزناً شديداً فراق يوسف لى ، وفضلا عن ذلك فإننى أخشى إذا أخذتموه معكم فى رحلتكم أن يأكله الذئب ، وأنتم عنه غافلون ، بسبب اشتغالكم بشئون أنفسكم ، وقلة اهتمامكم برعايته وحفظه .قالوا : وخص الذائب بالذكر من بين سائر الحيوانات ، ليشعرهم بأن خوفه عليه مما هو أعظم من الذئب توحشا وافتراسا أشد وأولى .أو خصه بالذكر لأن الأرض التى عرفوا بالنزول فيها كانت كثيرة الذئاب .

قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ

📘 وقوله - سبحانه - ( قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ) رد مؤكد من إخوة يوسف على تخوف أبيهم وتردده فى إرساله معهم . إذ اللام فى قوله : " لئن " موطئة للقسم ، وجواب القسم قوله : ( إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ) .أى : قال إخوة يوسف لأبيهم محاولين إدخال الطمأنينة على قلبه ، وإزالة الحزن والخوف عن نفسه : يا أبانا والله لئن أكل الذئب يوسف وهو معنا ، ونحن عصابة من الرجال الأقوياء الحريصين على سلامته ، إنا إذا فى هذه الحالة لخاسرون خسارة عظيمة ، نستحق بسببها عدم الصلاح لأى شئ نافع .وأخيراً استسلم الأب ، لإِلحاح أبنائه الكبار ، ليتحقق قدر الله الذى قدره على يوسف . ولتسير قصة حياته فى الطريق الذى شاء الله تعالى - له أن تسير فيه .

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ

📘 وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال : ( فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الجب وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ) .أى : فلما أقنعوا أباهم بإرسال يوسف معهم ، وذهبوا به فى الغد إلى حيث يريدون ، وأجمعوا أمرهم على أن يلقوا به فى قعر الجب ، فعلوا به ما فعلوا من الأذى ، ونفذوا ما يريدون تنفيذه بدون رحمة أو شفقة .فالفاء فى قوله فلما : للتفريع على كلام مقدر ، وجواب " لما " محذوف ، دل عليه السياق . وفعل " أجمع " يتعدى إلى المفعول بنفسه ، ومعناه العزم والتصميم على الشئ ، تقول : أجمعت المسير أى : عزمت عزما قويا عليه .وقوله " أن يجعلوه " مفعول أجمعوا .قال الآلوسى : " والروايات فى كيفية إلقائه فى الجب ، وما قاله لإِخوته عند إلقائه وما قالوه له كثيرة ، وقد تضمنت ما يلين له الصخر ، لكن ليس فها ماله سند يعول عليه " .والضمير فى قوله ، وأوحينا إليه يعود على يوسف - عليه السلام - .أى : وأوحينا إليه عند إلقائه فى الجب عن طريق الإِلهام القلبى ، أو عن طريق جبريل - عليه السلام - أو عن طريق الرؤيا الصالحة . ( لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا ) أى : لتخبرنهم فى الوقت الذى يشاؤه الله - تعالى - فى مستقبل الأيام ، بما فعلوه معك فى صغرك من إلقائك فى الجب ، ومن إنجاء الله - لك ، فالمراد بأمرهم هذا : إيذاؤهم له وإلقاؤهم إياه فى قعر الجب ، ولم يصرح - سبحانه - به ، لشدة شناعته .وجملة ( وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ) حالية ، أى : والحال أنهم لا يحسون ولا يشعرون فى ذلك الوقت الذى تخبرهم فيه بأمرهم هذا ، بأنك أنت يوسف . لاعتقادهم أنك قد هلكت ولطول المدة التى حصل فيها الفراق بينك وبينهم ، ولتباين حالك وحالهم فى ذلك الوقت ، فأنت ستكون الأمين على خزائن الأرض ، وهم سيقدمون عليك فقراء يطلبون عونك ورفدك .وقد تحقق كل ذلك - كما سيأتى - عند تفسير قوله تعالى - : ( فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر . . . ) وكان هذ الإِيحاء - على الراجح - قبل أن يبلغ سن الحلم ، وقبل أن يكون نبيا .وكان المقصود منه ، إدخال الطمأنينة على قلبه ، وتبشيره بما سيصير إليه أمره من عز وغنى وسلطان .قالوا : وكان هذا الجب الذى ألقى فيه يوسف على بعد ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب - عليه السلام - بفلسطين .

وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ

📘 ثم حكى - سبحانه - أقوالهم لأبيهم بعد أن فعلوا فعلتهم وعادوا إليه ليلا يبكون فقال :( وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً . . . ) .قوله : ( وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ ) .والعشاء : وقت غيبوبة الشفق الباقى من بقايا شعاع الشمس ، وبدء حلول الظلام والمراد بالبكاء هنا : البكاء المصطنع للتمويه والخداع لأبيهم ، حتى يقنعوه - فى زعمهم - أنهم لم يقصروا فى حق أخيهم .أى : وجاءوا أباهم بعد ان أقبل الليل بظلامه يتباكون ، متظاهرين بالحزن والأسى لما حدث ليوسف ، وفى الأمثال : " دموع الفاجر بيديه " .

قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ

📘 ( قَالُواْ ياأبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ) أى : نتسابق عن طريق الرمى بالسهام ، أو على الخيل ، أو على الأقدام . يقال : فلان وفلان استبقا أى : تسابقا حتى ينظر أيها يسبق الآخر .( وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا ) أى : عند الأشياء التى نتمتع بها وننتفع فى رحلتنا ، كالثياب والأطعمة ، وما يشبه ذلك .( فَأَكَلَهُ الذئب ) فى تلك الفترة التى تركناه فيها عند متاعنا .والمراد : قتله الذئب ، ثم أكله دون أن يبقى منه شيئا ندفنه .( وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ) أى : وما أنت بمصدق لنا فيما أخبرناك به من أن يوسف قد أكله الذئب ، حتى ولو كنا صادقين فى ذلك ، لسوء ظنك بنا ، وشدة محبتك له .وهذه الجملة الكريمة توحى بكذبهم على أبيهم ، وبمخادعتهم له ، ويكاد المريب أن يقول خذونى - كما يقولون - .

وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ

📘 ولكنهم لم يكتفوا بهذا التباكى وبهذا القول ، بل أضافوا إلى ذلك تمويها آخر حكاه القرآن فى قوله : ( وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ . . . ) أى : بدم ذى كذب ، فهو مصدر بتقدير مضافه ، أو وصف الدم بالمصدر مبالغة ، حتى لكأنه الكذب بعينه ، والمصدر هنا بمعنى المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق ، أى : بدم مكذوب .والمعنى : وبعد أن ألفوا بيوسف فى الجب ، واحتفظوا بقميصه معهم ، ووضعوا على هذا القميص دما مصطنعا ليس من جسم يوسف ، وإنما من جمس شئ آخر قد يكون ظبيا وقد يكون خلافه .وقال - سبحانه - ( على قَمِيصِهِ ) للإِشعار بأنه دم موضوع على ظاهر القميص وضعا متكلفا مصطنعا ، ولو كان من أثر افتراس الذئب لصاحبه ، لظهر التمزق والتخريق فى القميص ، ولتغلغل الدم فى قطعة منه .ولقد أدرك يعقوب - عليه السلام - من قسمات وجوههم ، ومن دلائل حالهم ، ومن نداء قلبه المفجوع أن يوسف لم يأكله الذئب ، وأن هؤلاء المتباكين هم الذين دبروا له مكيدة ما ، وأنهم قد اصطنعوا هذه الحيلة المكشوفة مخادعة له ، ولذا جابههم بقوله : ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً . . . ) .والتسويل : التسهيل والتزيين . يقال : سولت لفلان نفسه هذا الفعل أى زينته وحسنته له ، وصورته له فى صورة الشئ الحسن مع أنه قبيح .أى : قال يعقوب لأبنائه بأسى ولوعة بعد أن فعلوا ما عفلوا وقالوا ما قالوا : قال لهم ليس الأمر كما زعمتم من أن يوسف قد أكله الذئب ، وإنما الحق أن نفوسكم الحاقدة عليه هى التى زينت لكم أن تفعلوا معه فعلا سيئا قبيحا ، ستكشف الأيام عنه بإذن ربى ومشيئته .ونكر الأمر فى قوله : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً ) لاحتماله عدة أشياء مما يمكن أن يؤذوا به يوسف ، كالقتل ، أو التغريب ، أو البيع فى الأسواق لأنه لم يكن يعلم على سبيل اليقين ما فعلوه به .وفى هذا التنكير والإِبهام - أيضا - ما فيه من تهويل والتشنيع لما اقترفوه فى حق أخيهم .وقوله ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) أى : فصبرى صبر جميل ، وهو الذى لا شكوى فيه لأحد سوى الله - تعالى - ولا رجاء معه إلا منه - سبحانه - .ثم أضاف إلى ذلك وقوله : ( والله المستعان على مَا تَصِفُونَ ) أى : والله - تعالى - هو الذى أستعين به على احتمال ما تصفون من أن ابنىيوسف قد أكله الذئب .أو المعنى : والله - تعالى - وحده هو المطلوب عونه على إظهار حقيقة ما تصفون ، وإثبات كونه كذبا ، وأن يوسف مازال حيا ، وأنه - سبحانه - سيجمعنى به فى الوقت الذى يشاؤه .قال الآلوسى : " أخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن قتادة : أن إخوة يوسف - بعد أن ألقوا به فى الجب - أخذوا ظبيا فذبحوه ، ولطخوا بدمه قميصه ، ولما جاءوا به إلى أبيهم جعل يقلبه ويقول : تا الله ما رأيت كاليوم ئبا أحلم من هذا الذئب!! أكل ابنى ولم يمزق عليه قميصه . . " .وقال القرطبى : " استدل الفقهاء بهذه الآية فى إعمال الأمارات فى مسائل الفقه كالقسامة وغيرها ، وأجمعوا على أن يعقوب - عليه السلام - قد استدل على كذب أبنائه بصحة القميص ، وهكذا يجب على الحاكم أن يلحظ الأمارات والعلامات . . . " .وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه : " وفى الآية من الفوائد : أن الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود وبمن يراعيه . . . وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة ، لم يصدق ، وأن من طلب مراده بمعصية الله - تعالى - فصحه الله - عز وجل - ، وأن القدر كائن ، وأن الحذر لا ينجى منه . . . " .وإلى هنا نجد الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوبها البليغ ، وتصويرها المؤثر ، ما تآمر به إخوة يوسف عليه ، وما اقترحوه لتنفيذ مكرهم ، وما قاله لهم أوسطهم عقلا ورأيا ، وما تحايلوا به على أبيهم لكى يصلوا إلى مآربهم ، وما رد به عليهم أبوهم ، وما قالوه له بعد أن نفذوا جريمتهم فى أخيهم . بأن ألقوا به فى الجب . .

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ ۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ

📘 ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، لتقص علينا مرحلة أخرى من مراحل حياة يوسف - عليه السلام - حيث حدثتنا عن انتشاله من الجب ، وعن بيعه بثمن بخس وعن وصية الذى اشتراه لامرأته ، وعن مظاهر رعاية الله - تعالى - له فقال - سبحانه -( وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فأدلى دَلْوَهُ . . . )قوله - سبحانه - : ( وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فأدلى دَلْوَهُ . . . ) شروع فى الحديث عما جرى ليوسف من أحداث بعد أن ألقى به إخوته فى الجب .والسيارة : جماعة المسافرين ، وكانوا - كما قيل - متجهين من بلاد الشام إلى مصر .والوارد : هو الذى يرد الماء ليستقى للناس الذين معه . ويقع هذا اللفظ على الفرد والجماعة ، فيقال لكل من يرد الماء وارد ، كما يقال للماء مورود .وقوله ( فأدلى ) من الإِدلاء بمعنى إرسال الدول فى البئر لأخذ الماء .والدلو : إناء معروف يوضع فيه الماء .وفى الآية الكريمة كلام محذوف دل عليه المقام ، والتقدير :وبعد أن ألقى إخوة يوسف به فى الجب وتركوه وانصرفوا لشأنهم ، جاءت إلى ذلك المكان قافلة من المسافرين ، فأرسلوا واردهم ليبحث لهم عن ماء ليستقوا ، فوجد جبا ، فأدلى دلوه فيه ، فتعلق به يوسف ، فلما خرج ورآه فرح به وقال : يا بشرى هذا غلام .وأوقع النداء على البشرى ، للتعبير عن انتهاجه وسروره ، حتى لكأنها شخص عاقل يستحق النداء ، أى : يا بشارتى أقبلى فهذا أوان إقبالك .وقيل المنادى محذوف والتقدير : يا رفاقى فى السفر أبشروا فهذا غلام ، وقد خرج من الجب .وقرأ أهل المدينة ومكة : يا بشراى هذا غلام . بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم . والضمير المنصوب وهو الهاء فى قوله : ( وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ) يعود إلى يوسف .أما الضمير المرفوع فيعود إلى السيارة ، وأسر من الإِسرار الذى هو ضد الإِعلان .والبضاعة : عرضو التجاة ومتاعها . وهذا اللفظ مأخذو من البضع بمعنى القطع ، وأصله جملة من اللحم تبضع أى : تقطع . وهو حال من الضمير المنصوب فى ( وأسروه ) .والمعنى : وأخفى جماعة المسافرين خبر التقاط يوسف من الجب مخافة أن يطلبه أحد من السكان المجاورين للجب ، واعتبره بضاعة سرية لهم ، وعزموا على بيعه على أنه من العبيد الأرقاء .ولعل يوسف - عليه السلام - قد أخبرهم بقصته بعد إخراجه من الجب .ولكنهم لم يلتفتوا إلى ما أخبرهم به طمعا فى بيعه والانتفاع بثمنه .ومن المفسرين من يرى أن الضمير المرفوع فى قوله ( وأسروه ) يعود على الوارد ورفاقه ، فيكون المعنى :وأسر الوارد ومن معه أمر يوسف عن بقية أفراد القافلة ، مخافة أن يشاركهوهم فى ثمنه إذا علموا خبره ، وزعموا أن أهل هذا المكان الذى به الجب دفعوه إليهم ليبيعوه لهم فى مصر على أنه بضاعة لهم .ومنهم من يرى أن الضمير السابق يعود إلى إخوة يوسف .قال الشوكانى ما ملخصه : وذلك أن يهوذا كان يأتى إلى يوسف كل يوم بالطعام ، فأتاه يوم خروجه من الجب فلم يجده ، فأخبر إخوته بذلك ، فأتوا إلى السيارة وقالوا لهم : " إن الغلام الذى معكم عبد لنا قد أبق ، فاشتروه منهم بثمن بخس ، وسكت يوسف مخافة أن يأخذه إخوته فيقتلوه " .وعلى هذا الرأى يكون معنى ( وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ) : أخفى إخوة يوسف كونه أخا لهم ، واعتبروه عرضا من عروض التجارة القابلة للبيع والشراء .ويكون المراد بقوله - تعالى - بعد ذلك ( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ) الشراء الحقيقى ، بمعنى أن السيارة اشتروا يوسف من إخوته بثمن بخس .والحق أن الرأى الأول هو الذى تطمئن إليه النفس ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية ، ولأنهبعيد عن التكلف الذى يرى واضحا فى القولين الثانى والثالث .وقوله : ( والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) أى : لا يخفى عليه شئ من إسرارهم . ومن عملهم السئ فى حق يوسف . حيث إنهم استرقوه وباعوه بثمن بخس ، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، كما جاء فى الحديث الشريف .

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

📘 ثم بين - سبحانه - الحكمة من إنزاله بلسان عربى مبين فقال : ( إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .أى : إنا أنزلنا هذا الكتاب الكريم على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بلسان عربى مبين ، لعلكم أيها المكلفون بالإِيمان به ، تعقلون معانيه ، وتفهمون ألفاظه ، وتنتفعون بهداياته ، وتدركون أنه ليس من كلام البشر ، وإنما هو كلام خالق القوى والقدر وهو الله - عز وجل - .فالضمير فى " أنزلناه " يعود إلى الكتاب ، وقرآنا حال من هذا الضمير أو بدلا منه .والتأكيد بحرف إن متوجه إلى خبرها وهو أنزلناه ، للرد على أولئك المشركين الذين أنكروا أن يكون هذا القرآن من عند الله .وجملة ( لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) بيان لحكمة إنزاله بلغة العرب وحذف مفعول " تعقلون " للإِشارة إلى أن نزلوه بهذه الطريقة ، يترتب عليه حصول تعقل أشياء كثيرة لا يحصيها العد .قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : قوله : ( إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات ، وأبينها وأوسعها ، وأكثرها تأدية للمعانى التى تقوم بالنفوس ، فلهذا أنزل أشرف الكتب ، بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل ، بسفارة أشرف الملائكة ، وكان ذلك فى أشرف بقاع الأرض ، وفى أشرف شهور السنة ، فكمل له الشرف من كل الوجوه .وقال الجمل : " واختلف العلماء هل يمكن أن يقال : فى القرآن شئ غير عربى " .قال أبو عبيدة : من قال بأن فى القرآن شئ غير عربى فقد أعظم على الله القول . واحتج بهذه الآية .وروى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة بأن فيه من غير العربى مثل : سجيل ، والمشكاة ، واليم ، وإستبرق ونحو ذلك .وهذا هو الصحيح المختار ، لأن هؤلاء أعلم من أبى عبيدة بلسان العرب . وكلا القولين صواب - إن شاء الله - .ووجه الجمع بينهما أن هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب ، ودارت على ألسنتهم صارت عربية فصيحة ، وإن كانت غير عربية فى الأصل ، لكنهم لما تكلموا بها نسبت إليهم ، وصارت لهم لغة ، فظهر بهذا البيان صحة القولين ، وأمكن الجمع بينهما .

وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ

📘 وقوله : - سبحانه - ( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين ) بيان لما فعله السايرة بيوسف بعد أن أسروه بضاعة .وقوله ( شروه ) هنا بمعنى باعوه .والبخس : النقص ، يقال بخس فلا فلانا حقه ، إذا نقصه وعابه . وهو هنا بمعنى المبخوس .و ( دراهم ) جمع درهم ، وهى بدل من ( ثمن ) .و ( معدود ) صفة لدراهم ، وهى كناية عن كونها قليلة ، لأن الشئ القليل يسهل عده ، بخلاف الشئ الكثير ، فإنه فى الغالب يوزن وزنا .والمعنى : أن هؤلاء المسافرين بعد أن أخذوا يوسف ليجعلوه عرضا من عروض تجارتهم ، باعوه فى الأسواق بثمن قليل تافه ، وهو عبارة عن دراهم معدودة ، ذكر بعضهم أنها لا تزيد على عشرين درهما .وقوله : ( وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين ) بيان لعدم حرصهم على بقائه معهم ، إذ أصل الزهد قلة الرغبة فى الشئ ، تقول زهدت فى هذا الشئ ، إذا كنت كارها له غير مقبل عليه .أى : وكان هؤلاء الذين باعوه من الزاهدين فى بقائه معهم ، الراغبين فى التخلص منه بأقل ثمن قبل أن يظهر من يطالبهم به .قال الآلوسى ما ملخصه : " وزهدهم فيه سببه أنهم التقطوه من الجب ، والملتقط للشئ متهاون به لا يبالى أن يبيعه بأى ثمن خوفا من أن يعرض له مستحق ينزعه منه . . "

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

📘 وقوله - سبحانه - : ( وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً . . . ) بيان لبعض مظاهر رعاية الله - تعالى - ليوسف - عليه السلام - .والذى اشتراه ، قالوا إنه كان رئيس الشرطة لملك مصر فى ذلك الوقت ولقبه القرآن بالعزيز كما سيأتى فى قوله - تعالى - : ( قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق . . . ) و ( مِن مِّصْرَ ) صفة لقوله ( الذي اشتراه ) .وامرأته : المراد بها زوجته ، واسمها كما قيل زليخا أو راعيل .ومثواه من المثوى وهو مكان الإِقامة والاستقرار . يقال : ثوى فلان بمكان كذا ، إذا أطال الإِقامة به . ومنه قوله - تعالى -( وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ . . . ) أى مقيما معهم .أى : وقال الرجل المصرى الذى اشترى يوسف لامرأته : اجعلى محل إقامته كريما ، وأنزليه منزلا حسنا مرضيا .وهذا كناية عن وصيته لها بإكرامه على أبلغ وجه ، لأن من أكرم المحل بتنظيفه وتهيئته تهيئة حسنة فقد أكرم صاحبه .قال صاحب الكشاف : قوله ( أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ) أى : اجعلى منزله ومقامه عندنا كريما : أى حسنا مرضيا بدليل قوله بعد ذلك ( إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) والمراد تفقديه بالإِحسان ، وتعهديه بحسن الملكة ، حتى تكون نفسه طيبة فى صحبتنا ، ساكنة فى كنفنا ، ويقال للرجال : كيف أبو مثواك وأم مثواك؟ لمن ينزل به من رجل أو امرأة ، يراد هلى تطيب نفسك بثوائك عنده وهل يراعى حق نزولك به؟ واللام فى ( لامرأته ) متعلق بقال . . .وقوله : ( عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً . . . ) بيان لسبب أمره لها بإكرام مثواه .أى : عسى هذا الغلام أن ينفعنا فى قضاء مصالحنا ، وفى مختلف شئوننا ، أو نتبناه فيكون منا بمنزلة الولد ، فإنى أرى فيه علامات الرشد والنجابة ، وأمارات الأدب وحسن الخلق .قالوا وهذه الجملة ( أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) توحى بأنهما لم يكن عندهما أولاد . والكاف فى قوله - سبحانه - ( وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض ) فى محل نصب ، على أنه نعت لمصدر محذوف والإِشارة إلى ما تقدم من إنجائه من إخوته ، وانتشاله من الجب ، ومحبة العزيز له . . و " مكنا " من التمكين بمعنى التثبيت ، والمراد بالأرض : أرض مصر التى نزل فيها .أى : ومثل ذلك التمكين البديع الدال على رعايتنا له ، مكنا ليوسف فى أرض مصر ، حتى صار أهلا للأمر والنهى فيها .وقوله - سبحانه - ( وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ) علة لمعلل محذوف ، فكأنه قيل : وفعلنا ذلك التمكين له ، لنعلمه من تأويل الأحاديث ، بأن نهيه من صدق اليقين ، واستنارة العقل ، ما يجعله يدرك معنى الكلام إدراكا سليما ، ويفسر الرؤى تفسيرا صحيحا صادقا .وقوله : ( والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ) تذييل قصد به بيان قدرة الله - تعالى - ونفاذ مشيئته .فأمر الله هنا : هو ما قدره وأراده .أى : والله - تعالى - متمم ما قدره وأراده ، لا يمنعه من ذلك مانع ، ولا ينازعه منازع ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك حق العلم ، فيما يأتون ويذرون من أقوال وأفعال .والتعبير بقوله : ( ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ) احتراس لإِنصاف ومدح القلة من الناس الذين يعطيهم الله - تعالى - من فضله ما يجعلهم لا يندرجون فى الكثرة التى لا تعلم ، بل هو - سبحانه - يعطيهم من فضله ما يجعلهم يعلمون مالا يعلمه غيرهم .

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

📘 ثم بين - سبحانه - مظهرا آخر من مظاهر إنعامه على يوسف فقال : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وكذلك نَجْزِي المحسنين ) .والأشد : قوة الإِنسان ، وبلوغه النهاية فى ذلك ، مأخوذ من الشدة بمعنى القوة والارتفاع ، يقال : شد النهار إذا ارتفع .ويرى بعضهم أنه مفرد جاء بصيغة الجمع ويرى آخرون أنه جمع لا واحد له من لفظه وقيل هو جمع شدة كأنعم ونعمة .والمعنى : وحين بلغ يوسف - عليه السلام - منتهى شدته وقوته ، وهى السن التى كان فيها - على ما قيل - ما بين الثلاثين والأربعين .( آتيناه ) أى : أعطيناه بفضلنا وإحساننا .( حكما ) أى : حكمة ، وهى الإِصابة فى القول والعمل أو هى النبوة .و ( علما ) أى فقها فى الدين ، وفهما سليما لتفسير الرؤى ، وإدراكا واسعا لشئون الدين والدنيا .وقوله : ( وكذلك نَجْزِي المحسنين ) أى : ومثل هذا الجزاء الحسن والعطاء الكريم ، نعطى ونجازى الذين يحسنون أداء ما كلفهم الله - تعالى - به ، فكل من أحسن فى أقواله وأعماله أحسن الله - تعالى - جزاءه .ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، لتحدثنا عن مرحلة من أدق المراحل وأخطرها ، فى حياة يوسف - عليه السلام - وهى مرحلة التعرض للفتن والمؤامرات بعد أن أبلغ أشده ، وآتاه الله - تعالى - حكما وعلما ، وقد واجه يوسف - عليه السلام - هذه الفتن بقلب سليم ، وخلق قويم ، فنجاه الله - تعالى - منها .

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ

📘 استمع إلى السورةالكريمة وهى تحكى بأسلوبها البليغ ما فعلتهه معه امرأة العزيز من ترغيب وترهيب ، وإغراء وتهديد . . . فتقول :( وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ . . . )قوله - سبحانه - ( وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ . . . ) رجوع إلى شرح ما جرى ليوسف فى منزل العزيز بعد أن أمر امرأته بإكرام مثواه ، وما كان من حال تلك المرأة مع يوسف ، وكيف أنها نظرت إليه بعين ، تخالف العين التى نظر بها إليه زوجها .والمراودة - كما يقول صاحب الكشاف - مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب ، كأن المعنى : خادعته عن نفسه ، أى : فعلت معه ما يفعله المخادع لصاحبه عن الشئ الذى لا يريد أن يخرجه من يده ، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه ، وهو عبارة عن التحايل لمواقعته إياها .والتعبير عن حالها معه بالمراودة المقتضية لتكرار المحاولة ، للإِشعار بأنها كان منها الطلب المستمر ، المصحوب بالإِغراء والترفق والتحايل على ما تشتهيه منه بشتى الوسائل والحيل . وكان منه - عليه السلام - الإِباء والامتناع عما تريده خوفا من الله - تعالى . .وقال - سبحانه - ( التي هُوَ فِي بَيْتِهَا ) دون ذكر لاسمها ، سترا لها ، وابتعادا عن التشهير بها ، وهذا من الأدب السامى الذى التزمه القرآن فى تعبيراته وأساليبه ، حتى يتأسى أتباعه بهذا اللون من الأدب فى التعبير .والمراد ببيتها : يبت سكناها ، والإِخبار عن المراودة بأنها كانت فى بيتها . أدعى لإظهار كما نزاهته عليه السلام - فإن كونه فى بيتها يغرى بالاستجابة لها ، ومع ذلك فقد أعرض عنها ، ولم يطاوعها فى مرادها .وعدى فعل المراودة بعن ، لتضمنه معنى المخادعة .قال بعض العلماء : و " عن " هنا للمجاوزة ، أى : راودته مباعدة له عن نفسه ، أى : بأن يجعل نفسه لها ، والظاهر أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن الكريم ، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة ، قاله ابن عطية ، أى : فالنفس أريد به عفافه وتمكينها منه لما تريد ، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه فى نفسه .وقوله ( وَغَلَّقَتِ الأبواب ) أى : أبواب بيت سكناها الذى تبيت فيه بابا فباباً ، قيل : كانت الأبواب سبعة .والمراد أنها أغلقت جميع الأبواب الموصلة إلى المكان الذى راودته فيه إغلاقا شديدا محكما ، كما يشعر بذلك التضعيف فى " غلّقت " زيادة فى حمله على الاستجابة لها .ثم أضاقت إلى كل تلك المغريات أنها قالت له : هيت لك ، أى : هأنذا مهيئة لك فأسرع فى الإقبال على . . .وهذه الدعوة السافرة منها له ، تدل على أنه تلك المرأة كانت قد بلغت النهاية فى الكشف عن رغبتها ، وأنها قد خرجت من المألوف من بنات جنسها ، فقد جرت العادة أن تكون المرأة مطلوبة لا طالبة . . .و " هيت " اسم فعل أمر بمعنى أقبل وأسرع ، فهى كلمة حض وحث على الفعل ، واللام فى " لك " لزيادة بيان المقصود بالخطاب ، كما فى قولهم : سقيا لك وشكراً لك .وهى متعلقة بمحذوف فكأنما تقول : إرادتى كائنة لك .قال الجمل ما ملخصه : " ورد هذه الكلمة قراءات : " هَيتِ " كليت ، و " هِيتَ " كفيل و " هَيتُ " كحيث ، و " هِيئتُ " بكسر الهاء وضم التاء ، و " هِئتَ " بكسر الهاء وفتح التاء .ثم قال : فالقراءات السبعية خمسة ، وهذه كلها لغات فى هذه الكلمة ، وهى فى كلها اسم فعل بمعنى هلم أى أقبل وتعال .وقوله - سبحانه - ( قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون )بيان لما ردّ به يوس عليها ، بعد أن تجاوزت فى إثارته كل حد .و " معاذ " مصدر أضيف إلى لفظ الجلالة ، وهو منصوب بفعل محذوف أى : قال يوسف فى الرد عليها : أعوذ بالله معاذا مما تطلبينه منى ، وأعتصم به اعتصاما مما تحاولينه معى ، فإن ما تطلبينه وتلحين فى طلبه يتنافى مع الدين والمروءة والشرف . . ولا يفعله إلا من خبث منبته ، وساء طبعه ، وأظلم قلبه .وقوله : ( إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) تعليل لنفوره مما دعته إليه ، واستعاذ بالله منه .والضمير فى " إنه " يصح أن يعود إلى الله - تعالى - فيكون لفظ ربى بمعنى خالقى . والتقدير : قال يوسف فى الرد عليها : معاذ الله أن أفعل الفحشاء والمنكر ، بعد أن أكرمنى الله - تعالى - بما أكرمنى به من النجاة من الجب ، ومن تهيئة الأسباب التى جعلتنى أعيش معززا مكرما ، وإذا كان - سبحانه - قد حبانى كل هذه النعم فيكف ارتكب ما يغضبه؟وجوز بعضهم عودة الضمير فى " إنه " إلى زوجها ، فيكون لفظ ربى بمعنى سيدى ومالكى ، والتقدير : معاذ الله أن أقابل من اشترانى بماله ، وأحسن منزلى ، وأمرك بإكرامى - بالخيانة له فى عرضه .وفى هذه الجملة الكريمة تذكير لها بألطف أسلوب بحقوق الله - تعالى - وبحقوق زوجها ، وتنبيه لها إلى وجوب الإقلاع عما تريده منه من مواقعتها ، لأنه يؤدى إلى غضب الله وغضب زوجها عليها .وجملة ( إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون ) تعليل آخر لصدها عما تريده منه .والفلاح : الظفر وإدراك المأمول .أى : إن كل من ارتكب ما نهى الله - تعالى - عنه ، تكون عاقبته الخيبة والخسران وعدم الفلاح فى الدنيا والآخرة فكيف تريدين منى أن أكون كذلك؟هذا ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يرى أن القرآن الكريم قد قابل دواعى الغواية الثلاث التى جاهرت بها امرأة العزيز والمتمثلة فى المراودة ، وتغليق الأبواب ، وقولها ، هيت لك : بدواعى العفاف الثلاث التى رد بها عليها يوسف ، والمتمثلة فى قوله - كما حكى القرآن عنه - ( مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون ) .

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ

📘 وذلك ليثبت أن الاعتصام بالعفاف والشرف والأمانة ، كان سلاح - يوسف - عليه السلام - فى تلك المعركة العنيفة بين نداء العقل ونداء الشهوة . . .ولكن نداء العقل ونداء الشهوة الجامحة لم ينته عند هذا الحد ، بل نرى القرآن الكريم بحكى لنا بعد ذلك صداما آخر بينهما فيقول : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ . . . ) .وهذه الآية الكريمة من الآيات التى خلط المفسرون فيها بن الأقوال الصحيحة والأقوال السقيمة .وسنبين أولا الرأى الذى نختاره فى تفسيرها ثم نتبعه بعد ذلك بغيره فنقول : ألهّم : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه ، تقول هممت على فعل هذا الشئ ، إذا أقبلت نفسك عليه دون أن تفعله .وقال : بعض العلماء : الهم نوعان : هم ثابت معه عزم وعقد ورضا ، وهو مذموم مؤاخد به صاحبه ، وهَمٌّ بمعنى خاطر وحديث نفس ، من غير تصميم وهو غير مؤاخذ به صاحبه ، لأن خطور المناهى فى الصدور ، وتصورها فى الأذهان ، لا مؤاخذة بها ما لم توجد فى الأعيان .روى الشيخان وأهل السنن عن أبى هريرة ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به " .وقد أجمع العلماء على أن همَّ امرأة العزيز بيوسف كان هما بمعصية ، وكان مقرونا بالعزم والجزم والقصد ، بدليل المراودة وتغليق الأبواب ، وقولها " هيْت لك " .كما أجمعوا على أن يوسف - عليه السلام - لم يأت بفاحشة ، وأن همه كان مجرد خاطرة قلب بمقتضى الطبيعة البشرية : من غير جزم وعزم . . .وهذا اللون من الهم لا يدخل تحت التكليف ، ولا يخل بمقام النبوّة ، كالصائم يرى الماء البارد فى اليوم الشديد الحرراة ، فتميل نفسه إليه ، ولكن دينه يمنعه من الشرب منه ، فلا يؤاخذ بهذا الميل .والمراد ببرهان ربه هو : ما غرسه الله - تعالى - فى قلبه من العلم المصحوب بالعمل ، بأن هذا الفعل الذى دعته إليه امرأة العزيز قبيح ، ولا يليق به .أو هو - كما يقول ابن جرير - رؤيته من آيات الله ما زجره عما كان همّ به . .والمعنى : ولقد همت به ، أى : ولقد قصدت امرأة العزيز مواقعة يوسف - عليه السلام - قصداً جازما ، بعد أن أغرته بشتى الوسائل فلم يستجب لها . . .( وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) أى : ومال إلى مطاوعتها بمقتضى طبيعته البشرية وبمقتضى توفر كل الدواعى لهذا الميل . . .ولكن مشاهدته للأدلة على شناعة المعصية ، وخوفه لمقام ربه ، وعون الله - تعالى - له على مقاومة شهوته . . . كل ذلك حال بينه وبين تنفيذ هذا الميل ، وصرفه عنه صرفا كليا ، وجعله يفر هاربا طالبا النجاة مما تريده منه تلك المرأة .هذا هو الرأى الذى نختاره فى تفسير هذه الآية الكريمة ، وقد استخلصناه من أقوال المفسرين القدامى والمحدثين .فمن المفسرين القدامى الذن ذكروا هذا الرأى صاحب الكشاف ، فقد قال ما ملخصه .وقوله - تعالى - ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) معناه : ولقد همت بمخالطته؛ " وهم بها " أى : وهم بمخالطتها ( لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) جوابه محذوف تقديره؛ لولا أن رأى برهان ربه لخالطها ، فحذف لأن قوله وهم بها يدل عليه ، كقولك : هممت بقتله لولا أنى خفت الله . معناه : لولا أنى خفت الله لقتلته .فإن قلت : كيف جاز على نبى الله أن يكون منه هم بالمعصية؟قلت : " المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ، ونازعت إليها عن شهوة الشباب ، ميلا يشبه الهم به ، وكما تقتضيه تلك الحال التى تكاد تذهب بالعقول والعزائم ، وهو يكسر ما به ، ويرده بالنظر فى برهان الله المأخوذ على المكلفين بوجوب اجتناب المحارم ، ولو لم يكن ذلك الميل الشديؤد المسمى هما لشدته ، لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع ، لأن استعظام الصبر على الابتلاء ، على حسب عظم الابتلاء وشدته ، ولو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه بأنه من عباده المخلصين "ومن المفسرين المحدثين الذين ذكروا هذا الرأى الإمام الآلوسى ، فقد قال ما ملخصه : قوله : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) أى : بمخالطته . . والمعنى : أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما ، لا يلويها عنها صارف بعدما باشرت مباديها . . .والتأكيد - باللام وقد - لدفع ما يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه .( وَهَمَّ بِهَا ) أى : مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية . . . ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحتل التكليف ، وليس المراد أنه قصدها قصدا اختياريا ، لأن ذلك أمر مذموم تنادى الآيات بعدم اتصافه به ، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه فى صحبة همها فى الذكر على سبيل المشاكلة لا لشبهه به . . . ( لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) أى محبته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا ، وسوء سبيله .والمراد برؤيته له : كمال إيقانه به ، ومشاهدته له مشاهدة وصلت إلى مرتبة عين اليقين . . .ومن المفسرين من يرى أن المراد بهما به : الهم بضربه نتيجة عصيانه لأمرها .وان المراد بهمه بها : الدفاع عن نفسه برد الاعتداء ، ولكنه آثر الهرب .وقد قرر هذا الرأى ودافع عنه وأنكر سواه صاحب المنار ، فقد قال ما ملخصه :( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) أى : وتالله لقد قهمت المرأة بالبطش به لعصيانه لأمرها ، وهى فى نظرها سيدته وهو عبدها ، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها ، بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه . . . فخرجت بذلك عن طبع أنوثتها فى التمنع . . مما جعلها تحاول البطش به بعد أن أذل كرامتها ، وهو انتقام معهود من مثلها ، وممن دونها فى كل زمان ومكان ..وكاد يرد صيالها ويدفعه بمثله ، وهو قوله - تعالى - ( وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) ولكنه رأى من برهان ربه فى سريرة نفسه ، ما هو مصداق قوله - تعالى - ( والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ) وهو إما النبوة . . . وإما معجزتها . . وإما مقدمتها من مقام الصديقية العليا ، وهى مراقبته لله - تعالى - ورؤيته ربه متجليا له ، ناظرا إليه .وما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم منها بالبطش بيوسف ، وتفسير الهم منه برد الاعتداء الذى وقع عليه منها . . . اقول : ما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم بذلك ، لا أرى دليلا عليه من الآية ، لا عن طريق الإِشارة ، ولا عن طريق العبارة . . .ولعل صاحب المنار - رحمه الله - أراد بهذا التفسير أن يبعد يوسف - عليه السلام - عن أن يكون قدهم بها هم ميل بمقتضى الطبيعة البشرية ، ونحن لا نرى مقتضيا لهذا الإِبعاد ، لأن خطور المناهى فى الأذهان ، لا مؤاخذة عليها ، ما دامت لم يصاحبها عزم أو قصد - كما سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبل .هذا وهناك أقوال أخرى لبعض المفسرين فى معنى الآية الكيرمة ، رأينا أن نضرب عنها صفحا؛ لأنه لا دليل عليها لا من العقل ولا من النقل ولا من اللغة . . . وإنما هى من الأوهام الإِسرائيلية التى تتنافى كل التنافى مع أخلاق عباد الله المخلصين ، الذين على رأسهم يوسف - عليه السلام .قوله - سبحانه - ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين ) بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله - تعالى - به ، ورعايته له .والكاف : نعت لمصدر محذوف والإِشارة بذلك إلى الإِراءة المدلول عليها بقوله ( لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك .والصرف : نقل الشئ من مكان إلى مكان والمراد به هنا : الحفظ من الوقوع فيما نهى الله عنه ، أى : أريناه مثل هذه الإِراءة أو ثبتناه تثبيتا مثل هذا التثبيت لنعصمه ونحفظه ونصونه عن الوقوع فى السوء - أى فى المنكر والفجور والمكروه - والفحشاء - أى كل ما فحش وقبح من الأفعال كالزن ونحوه .( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين ) - بفتح اللام - أى : إنه من عبادنا الذين أخلصناهم لطاعتنا وعصمناهم من كل ما يغضبنا .وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمر " المخلصين " - بكسر اللام - أى : إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم لنا .والجملة الكريمة على القراءتين تعليل لحكمة صرفه - عليه السلام - عن السوء والفحشاء .

وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

📘 وقوله - سبحانه - ( واستبقا الباب . . . ) متصل بقوله - سبحانه - قبل ذلك ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ . . . ) وقوله ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء . . . ) اعتراض جئ به بين المتعاطفين تقريرا لنزاهته .وقوله ( واستبقا . . ) من الاستباق وهو افتعال من السبق بمعنى أن كل واحد منهما يحالو أن يكون هو السابق إلى الباب .ووجه تسابقهما : أن يوسف - عليه السلام - أسرع بالفرار من أمامها إلى الباب هروبا من الفاحشة التى طلبتها منه . وهى أسرعت خلفه لتمنعه من الوصول إلى الباب ومن الخروج منه .وأفرد - سبحانه - الباب هنا ، وجمعه فيما تقدم ، لأن المراد به هنا الباب الخارجى ، الذى يخلص منه يوسف إلى خارج الدار ، وهو منصوب هنا على نزع الخافض أى : واستبقا إلى الباب .وجملة ( وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ ) حالية ، والقد : القطع والشق ، وأكثر استعماله فى الشق والقطع الذى يكون طولا ، وهو المراد هن ، لأن الغالب أنها جذبته من الخلف وهو يجرى أمامها فانخرق القميص إلى أسفله .وقوله : ( وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الباب ) أى : وصادفا ووجدا زوجها عند الباب الذى تسابقا للوصول إليه .قالوا : والتعبير عن الزوج بالسيد ، كان عادة من عادات القوم فى ذلك الوقت ، فعبر عنه القرآن بذلك حكاية لدقائق ما كان متبعا فى التاريخ القديم .وقال - سبحانه - ( وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا ) لأن ملك العزيز ليوسف - عليه السلام - لم يكن ملكا صحيحا ، فيوسف ليس رقيقا يباع ويشترى ، وإنما هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، وبيع السيارة له ، إنما كان على سبيل التخلص منه بعد أن التقطوه من الجب .وقوله - سبحانه - ( قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) حكاية لما قالته لزوجها عندما فوجئت به عند الباب وهى تسرع وراء يوسف .أى قالت تلك المرأة لزوجها عندما فوجئت به لدى الباب : ليس من جزاء لمن أراد بأهلك - تعنى نفسها - سوءا ، أى ما يسوءك ويؤلمك ، إلا أن يسجن ، عقوبة له ، أو أن يعذب عذابا أليما عن طريق الضرب أو الجلد ، لتجاوزه الحدود ، واعتدائه على أهلك .وهذه الجملة الكريمة التى حكاها القرآن الكريم عنها ، تدل على أن تلك المرأة كانت فى نهاية المكر والدهاء والتحكم فى إرادة زوجها . . .ورحم الله الآلوسى فقد علق على قولها ها الذى حكاه القرآن عنها بقوله ما ملخصه : " ولقد آتت - تلك المرأة - فى هذه الحالة التى يدهش فيها الفطن اللوذعى - حيث شاهدها زوجها على تلك الحالة المريبة - بحيلة جمعت فيها غرضيها ، وهما تبرئة ساحتها مما يلوح من ظاهر حالها ، واستنزال يوسف عن رأيه فى استعصائه عليها ، وعدم طاعته لها ، بإلقاء الرعب فى قلبه . . .ولم تصرح بالاسم ، بل أتت بلفظ عام ( مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا . . . ) تهويلا للأمر ، ومبالغة فى التخويف ، كأن ذلك قانون مطرد فى حق كل من أراد بأهله سوءاً .وذكرت نفسها بعنوان أهلية العزيز ، إعظاما للخطب . . .ثم إن حبها الشديد ليوسف - عليه السلام - حملها على أن تبدأ بذكرالسجن ، وتؤخر ذكر العذاب لأن المحب لا يسعى فى إيلام المحبوب ، لا سيما أن قولها : " إلا أن يسجن .. . قد يكون المراد منه السجن لمدة يوم أو يومين . . . " .والحق أن هذه الجملة التى حكاها القرآن عنها ، تدل على اكتمال قدرتها على المكر والدهاء - كما سبق أن أشرنا - ومن مظاهر ذلك ، محاولتها إيهام زوجها بأن يوسف قد اعتدى عليها بما يسؤوها ويسوؤه ، ولكن بدون تصريح بهذا العدوان - شأن العاشق مع معشوقه - حتى لا يسعى زوجها فى التخلص منه ببيعه - مثلا - .وفى الوقت نفسه إفهام يوسف عن طريق مباشر ، بأن أمره بيدها لا بيد زوجها ، وأنها هى الآمرة الناهية ، فعليه أن يخضع لما تريده منه ، وإلا فالسجن أو العذاب الأليم هو مصيره المحتوم .

قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ

📘 وهنا نجد يوسف - عليه السلام - لا يجد مفرا من الرد على هذا الاتهام الباطل ، فيقول - كما حكى القرآن عنه - : ( قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي . . . ) .أى : قال يوسف مدافعا عن نفسه : إنى ما أردت بها سوءا كما تزعم وإنما هى التى بالغت فى ترغيبى وإغرائى بارتكاب ما لا يليق معها . .ثم قال - تعالى - : ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ . وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ) .وهذا الشاهد ذهب بعضهم إلى أنه كان ابن خال لها ، وقيل ابن عم لها . .قال صاحب المنار : " ولكن الرواية عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ، أنه كان صبيا فى المهد ، ويؤيدها ما رواه أحمد وابن جرير والبيهقى فى الدلائل عن ابن عباس عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " تكلم فى المهد أربعة وهم : صفار ابن ماشطة ابنة فرعون . وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى بن مريم " .وروى ابن جرير عن أبى هريرة قال : " عيسى ابن مريم وصاحب يوسف وصاحب جريج تكلموا فى المهد " وهذا موقوف ، والمرفوع ضعيف ، وقد اختاره ابن جرير ، وحكاه ابن كثير بدون تأييد ولا تضعيف . . "وعلى أية حال فالذى يهمنا أن الله - تعالى - قد سخر فى تلك اللحظة الحرجة ، من يدلى بشهادته لتثبت براءة يوسف أمام العزيز .وألقى الله - تعالى - هذه الشهادة على لسان من هو من أهلها ، لتكون أوجب للحجة عليها ، وأوثق لبراءة يوسف ، وأنفى للتهمة عنه .وقد قال هذا الشاهد فى شهادته - كما حكى القرآن عنه - ( إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ) أى : من أمام " فَصَدَقَتْ " فى أنه أراد بها سوءا ، لأن ذلك يدل على أنها دافعته من الأمام وهو يريد الاعتداء عليها .( وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ) فى قوله ( هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ) .

وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ

📘 ( وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ ) أى من خلف ( فَكَذَبَتْ ) فى دعواها على أنه أراد بها سوءا ، لأن ذلك يدل على أنه حاول الهرب منها ، فتعقبته حتى الباب ، وأمسكت به من الخلف ( وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ) فى دعواه أنها راودته عن نفسه .وسمى القرآن الكريم ذلك الحكم بينهما شهادة ، لأن قوله هذا يساعد على الوصول إلى الحق فى قضية التبس فيها الأمر على العزيز .وقدم الشاهد فى شهادته الغرض الأول وهو - إن كان قميصه قد من قبل - لأنه إن صح يقتضى صدقها ، وقد يكون هو حريصا على ذلك بمقتضى قرابته لها ، إلا أن الله - تعالى - أظهر ما هو الحق ، تكريما ليوسف - عليه السلام - أو يكون قد قدم ذلك باعتبارها سيدة ، ويوسف فتى ، فمن باب اللياقة أن يذكر الفرض الأول رحمة بها .وزيادة جملة ( وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ) بعد " فصدقت " وزيادة جملة ( وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ) بعد " فكذبت " تأكيد لزيادة تقرير الحق كما هو الشأن فى إصدار الأحكام .

فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ

📘 وقوله - سبحانه - ( فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ . . . ) بيان لما قاله زوجها بعد أن انكشفت له الحقيقة انكشافا تاما .أى : فلما رأى العزيز قميص يوسف قد قطع من الخلف . وجه كلامه إلى زوجته معاتبا إياها بقوله : إن محاولتك اتهام ليوسف بما هو برئ منه ، هو نوع من " كيدكن " ومكركهن وحيلكن ( إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) فى بابه ، لأن كثيرا من الرجال لا يفطنون إلى مراميه .وهكذا واجه ذلك الرجل خيانة زوجه له بهذا الأسلوب الناعم الهادئ ، بأن نسب كيدها ومكرهها لا إليها وحدها بل الجنس كله ( إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ) .

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ

📘 ثم وجه كلامه إلى يوسف فقال له ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ) أى : يا يوسف أعرض عن هذا الأمر الذى دار بينك وينها فاكتمه . ولا تتحدث به خوفا من الفضيحة ، وحفاظا على كرامتى وكرامتها .وقوله : ( واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين ) خطاب منه لزوجته التى ثبتت عليها الجريمة ثبوتا تاما .أى : واستغفرى الله من ذنبك الذى وقع منك ، بإساءتك فعل السوء مع يوسف ، ثم اتهامك له بما هو برئ منه .وجملة : ( إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين ) تعليل لطلب الاستغفار . أى توبى إلى الله مما حدث منك ، لأن ما حدث منك مع يوسف جعلك من جملة القوم المتعمدين لارتكاب الذنوب ، وجعلها من جملة الخاطئين للتخفيف عليها فى المؤاخذة .وهكذا نجد هذا الرجل - صاحب المنصب الكبير - يعالج الجريمة التى تثور لها الدماء فى العروق ، وتستلزم حسما وجزماً فى الأحكام ، بهذا الأسلوب الهادئ البارد ، شأن المترفين فى كل زمان ومكان ، الذين يهمهم ظواهر الأمور دون حقائقها وأشكالها دون جواهرها ، فهو يلوم امرأته لوما خفيفا يشبه المدح ، ثم يطلب من يوسف كتمان الأمر ، ثم يطلب منها التوبة من ذنوبها المتعمدة .. ثم تستمر الأمور بعد ذلك على ما هى عليه من بقاء يوسف معها فى بيتها ، بعد أن كان منها معه ما يستلزم عدم اجتماعهما .هذا ومن العبر والعظات والأحكام التى نأخذها من هذه الآيات الكريمة :1 - أن اختلاط الرجال بالنساء . كثيرا ما يؤدى إلى الوقوع فى الفاحشة وذلك لأن ميل الرجل إلى المرأة وميل المرأة إلى الرجل أمر طبيعى ، وما بالذات لا يتغير .ووجود يوسف - عليه السلام - مع ارمأة العزيز تحت سقف واحد فى سن كانت هى فيه مكتملة الأنوثة ، وكان هو فيها فتى شابا جميلا . . أدى إلى فتنتها به ، وإلى أن تقول له فى نهاية الأمر بعد إغراءات شتى له منها : ( هَيْتَ لَكَ ) .ولا شك أن من الأسباب الأساسية التى جعلتها تقول هذا القول العجيب وجودهما لفترة طويلة تحت سقف واحد .لذا حرم الإِسلام تحريما قاطعا الخلوة بالأجنبية ، سدا لباب الوقوع فى الفتن ، ومنعا من تهيئة الوسائل للوقوع فى الفاحشة .ومن الأحاديث التى وردت فى ذلك ما رواه الشيخان عن عقبة بن عامر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إياكم والدخول على النساء ، فقال رجل من الأنصار ، أفرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال : الحمو الموت " والحمو هو قريب الزوج كأخيه وابن عمه .وسئلت امرأة انحرفت عن طريق العفاف ، لماذا كان منك ذلك فقالت : قرب الوساد ، وطول السواد .أى : حملنى على ذلك قربى ممن أحبه وكثرة محادثتى له!2 - أن هم الإِنسان لفعل ، ثم رجوعه عنه قبل الدخول فى مرحلة التصميم والتنفيذ لا مؤاخذة فيه .قال القرطبى ما ملخصه : " الهم الذى هم به يوسف ، من نوع ما يخطر فى النفس ، ولا يثبت فى الصدر ، وهو الذى رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق ، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه " .وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قالت الملائكة يا ربنا ذلك عبدك يريد أن يعمل السيئة - وهو أبصر به - فقال : ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من أجلى " .وفى الصحيح : " إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به " .3 - أن من الواجب على المؤمن إذا ما دعى إلى معصية أن يستعيذ بالله من ذلك ، وأن يذكِّر اللداعى له بضررها ، وبسوء عاقبة المرتكب لها . . كما قال يوسف - عليه السلام - ( مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون ) .4 - أن يوسف - عليه السلام - قد خرج من هذه المحنة مشهودا له بالبراءة ونقاء العرض ، من الله - تعالى - ومن خلقه الذين سخرهم لهذه الشهادة .قال الإِمام الرازى ما ملخصه : واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة ، يوسف - عليه السلام - وتلك المرأة وزوجها ، ورب العالمين . . والكل شهد ببراءة يوسف عن المعصية ، أما يوسف - عليه السلام - فقد قال ( قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ) وقال : ( قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ ) . .وأما امرأة العزيز فقد قالت : ( أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ) وأما زوجها فقد قال : ( إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ . . )أما شهادة رب العالمين ببراءته ففى قوله - تعالى - : ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين ) .فقد شهد الله - تعالى - على طهارته فى هذه الآية أربع مرات ، أولها : " لنصرف عنه السوء " وثانيها " الفحشاء " وثالثها " إنه من عبادنا " ورابعها " المخلصين " .5 - أن موقف العزيز من امرأته كان موقفا ضعيفا متراخيا . . وهذا الموقف هو الذى جعل تلك المرأة المتحكمة فى زمام زوجها ، تقول بعد ذلك بكل تبجح وتكشف واستهتار : ( وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين ) 6 - أن القرآن الكريم صور تلك المحنة فى حياة يوسف وامرأة العزيز ، تصويرا واقعيا صادقا ، ولكن بأسلوب حكيم ، بعيد عما يخدش الحياء أو يجرح الشعور .قال بعض العلماء : " والذى خطر لى أن قوله - تعالى - ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) هو نهاية موقف طويل من الإِغراء ، بعدما أبى يوسف فى أول الأمر واستعصم ، وهو تصوير واقعى صادق لحالة النفس البشرية الصالحة فى المقاومة والضعف ، ثم الاعتصام بالله فى النهاية والنجاة ، ولكن السياق القرآنى لم يفصل فى تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة ، لأنه المنهج القرآنى لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة فى محيط القصة وفى محيط الحياة البشرية المكتملة كذلك فذكر طرفى الموقف بين الاعتصام فى أوله والاعتصام فى نهايته ، مع الإِلمام بلحظة الضعف بينهما ، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا . . "

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ

📘 ثم بين - سبحانه - أن هذا القرآن مشتمل على أحسن القصص وأحكمها وأصدقها فقال - تعالى - ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين ) .قال الفخر الرازى ما ملخصه : " القصص : إتباع الخبر بعضه بعضا ، وأصله فى اللغة المتابعة قال - تعالى - ( وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ . . ) أى اتبعى أثره . وقال - تعالى - ( فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً ) أى : اتباعاً ، وإنما سميت الحكاية قصصا ، لأن الذى يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئا فشيئا ، كما يقال : " تلا فلان القرآن ، أى قرأه آية فآية " .والمعنى : نحن نقص عليك - أيها الرسول الكريم " أحسن القصص " أى : أحسن أنواع البيان ، وأوفاه بالغرض الذى سبق من أجله .وإنما كان قصص القرآن أحسن القصص ، لاشتماله على أصدق الأخبار ، وأبلغ الأساليب ، وأجمعها للحكم والعبر والعظات .والباء فى قوله ( بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن ) للسببية متعلقة بنقص ، و ( ما ) مصدرية .أى : نقص عليك أحسن القصص ، بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذى هو فى الذورة العليا فى بلاغته وتأثيره فى النفوس .وجملة ( وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين ) فى موضع الحال من كاف الخطاب فى ( إليك ) و " إن " مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف .والضمير فى قوله ( مِن قَبْلِهِ ) يعود إلى الإِيحاء المفهوم من قوله ( أَوْحَيْنَآ ) .والمعنى : نحن نقص عليك أحسن القصص بسبب ما أوحيناه إليك من هذا القرآن . والحال أنك كنت قبل إيحائنا إليك بهذا القرآن ، من الغافلين عن تفاصيل هذا القصص ، وعن دقائق أخباره وأحداثه ، شأنك فى ذلك شأن قومك الأميين .قال تعالى : ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ ) .

۞ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

📘 ثم حكت السورة الكريمة بعد ذلك ما قالته بعض النساء ، بعد ان شاع خبر امرأة العزيز مع فتاها ، وما فعلته معهن من أفعال تدل على شدة مكرها ودهائها ، وما قاله يوسف - عليه السلام - بعد أن سمع من تهديدهن وإغرائهن . . قال - تعالى - :( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز . . . ) .قوله - سبحانه - ( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ . . ) حكاية لما تناقلته الألسنة عن امرأة العزيز ، فقد جرت العادة بين النساء ، أن يتحدثن عن أمثال هذه الأمور فى مجالسهن ، ولا يكتمنها خصوصا إذا كانت صاحبة الحادثة من نساء الطبقة المرموقة . . كامرأة العزيز .والنسوة : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ومفرده حيث المعنى : امرأة .والمراد بالمدينة : مدينة مصر التى كان يعيش فيها العزيز زوجته والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لنسوة .أى : وقال نسوة من نساء مدينة مصر - على سبيل النقد والتشهير والتعجب - إن امرأة العزيز ، صاحبة المكانة العالية ، والمنزلة الرفيعة ، بلغ بها الحال فى انقيادها لهواها ، وفى خروجها عن طريق العفة . . أنها تراود فتاها عن نفسه ، أى : تطلب منه مواقعتها ، وتتخذ لبلوغ غرضها شتى الوسائل والحيل .ولم يبين لنا القرآن الكريم عدد هؤلاء النسوة ولا صفاتهم ، لأنه لا يتعلق بذلك غرض نافع ، ولأن الذى يهدف إليه القرآن الكريم هو بيان ما حدث بين يوسف وامرأة العزيز ، قد شاع أمره بين عدد من النساء فى مدينة كبيرة كمصر وفى وصفها بأنها ( امرأة العزيز ) زيادة فى التشهير بها . فقد جرت العادة بين الناس ، بأن ما يتعلق بأصحاب المناصب الرفيعة من أحداث ، يكون أكثر انتشارا بينهم ، وأشد فى النقد والتجريح .والتعبير بالمضارع فى قوله - سبحانه - ( تُرَاوِدُ ) يشعر بأنها كانت مستمرة على ذلك ، دون أن يمنعها منه افتضاح أمرها ، وقول زوجها لها ( واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين )والمراد بفتاها يوسف - عليه السلام - ووصفْتَه بذلك لأنه كان فى خدمتها ، والمبالغة فى رميها بسوء السلوك ، حيث بلغ بها الحال فى احتقار نفسها ، أن تكون مراودة لشخص هو خادم لها . .وجملة ( قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً ) بيان لحالها معه ، وهى فى محل نصل حال من فاعل تراود أو من مفعوله والمقصود بها تكرير لومها ، وتأكيد انقيادها لشهواتها .وشغف مأخوذ من الشغاف - بكسر الشين - وهو غلاف القلب ، أو سويداؤه أو حجابه ، يقال : شغف الهوىو قلب فلان شغفا ، أى بلغ شغافه .والمراد أن حبها إياه قد شق شغاف قلبها . وتمكن منه تمكنا لا مزيد عليه و " حبا " تمييز محول عن الفاعل ، والأصل : شغفها حبها إياه .وجملة ( إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) مقررة لمضمون ما قبلها من لوم امرأة العزيز ، وتحقير سلوكها ، والمراد بالضلال : مخالفة طريق الصواب .أى : إنا لنرى هذه المرأة بعين بصيرتنا ، وصادق علمنا . فى خطأ عظيم واضح بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ، لأنها - وهى المرأة المرموقة وزوجة الرجل الكبير - تراود خادمها عن نفسه .والتعبير " بإنا لنراها . . " للإِشعار بأن حكمهن عليها بالضلال ليس عن جهل ، وإنما هو عن علم ورورية ، مع التلويح بأنهن يتنزهن عن مثل هذا الضلال المبين الصادر عنها .قال صاحب المنار : " وهن ما قلن هذا إنكارا للمنكر ، وكرها للرذيلة ، ولا حبا فى المعروف ، ونصرا للفضيلة ، وإنما قلنه مكرا وحيلة ، ليصل إليها قولهن فيحملها على دعوتهن ، وإراءتهن بأعين أبصارهن ، ما يبطل ما يدعين رؤيته بأعين بصائرهن ، فيعذرنها فيما عذلنها عليه فهو مكر لا رأى " .

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ

📘 وهنا تحكى السورة الكريمة كيف قابلت تلك المرأة الداهية الجريئة ، مكر بنات جنسها وطبقتها بمكر أشد من مكرهن بها فقال - تعالى - :( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ) أى : فاغتيابهن لها . وسوء مقالتهن فيها ، وسمى ذلك مكرا لشبهه به فى الإِخفاء والخداع .أو قصدن بما قلنه - كما سبق أن أشرنا - إثارتها ، لكى تطلعهن على فتاها الذى راودته عن نفسه ، ليعرفن السر فى هذه المراودة ، وعلى هذا يكون المكر على حقيقته . ومثل هذا المكر ليس غريبا على النساء فى مثل هذه الأحوال .وقوله : ( أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ . . ) الخ بيان لما فعلته معهن .أى : أرسلت إلى النسوة اللائى وصفنها بأنها فى ضلال مبين ، ودعتهن إلى الحضور إليها فى دراها لتناول الطعام .( وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً ) أى : وهيأت لهن فى مجلس طعامها ، ما يتكئن عليه من الوسائد والنمارق وما يشبه ذلك .فالمتكأ : اسم مفعول من الإتكاء ، وهو الميل إلى أحد الجانبين فى الجلوس كما جرت بذلك عادة المترفين عند تناول الطعام ، وعندما يريدون إطالة المكث مع انتصاب قليل فى النصف الأعلى من الجسم والاستراحة بعد الأكل .أخرج ابن شيبة عن جابر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يأكل الرجل بشماله ، وأن يأكل متكئا .( وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً ) أى : وأعطت كل واحدة من هؤلاء النسوة سكينا ليقطعن به ما يأكلن من لحم وفاكهة .ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الحضارة المادية فى مصر فى ذلك الوقت كانت قد بلغت شأوا بعيدا ، وأن الترف فى القصور كان عظيما ، فإن استعمال السكاكين فى الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته فى تصوير الترف والحضارة المادية .وهنا نجد المرأة الجريئة الماكرة ، تقول ليوسف - عليه السلام - كما حكى القرآن عنها : ( اخرج عَلَيْهِنَّ ) أى ابرز لهن ، وادخل عليهن ، وهن على تلك الحالة من الأكل والاتكاء وتقطيع ما يحتاج إلى تقطيع الطعام . .وهى ترمى من وراء خروجه عليهن إلى إطلاعهن عليه حتى يعذرنها فى حبها له وقد كان لهذه المفاجأة من يوسف لهن وهن مشغولات بما يقطعنه ويأكلنه ، أثرها الشديد فى نفوسهن ، وهذا ما حكاه القرآن الكريم فى قوله : ( فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) .والجملة الكريمة معطوفة على كلام محذوف دل عليه السياق ، والتقدير : قالت امرأة العزيز ليوسف اخرج عليهن ، فخرج عليهن وهن على تلك الحالة فلما رأينه أكبرنه ، أى : أعظمنه ، ودهشن لهيئته ، وجمال طلعته وحسن شمائله .( وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) أى : جرحن أيديهن وخدشنها بالسكاكين التى فى أيديهن دون أن يشعرن بذلك ، لشدة دهشتهن المفاجئة بهيئة يوسف . .( وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً ) وحاش فعل ماض ، واللام فى " لله " للتعليل ، والمراد بهذه الجملة الكريمة التعبير عن عجيب صنع الله فى خلقه أى : وقلن عندما فوجئن بخروج يوسف عليهن : تنزه الله - تعالى - تنزيها كبيرا عن صفات العجز ، ونتعجب تعجبا شديدا من قدرته - سبحانه - على خلق هذا الجمال البديع ، وما هذا الذى نراه أمامنا بشرا كسائر البشر ، لتفرقه فى الحسن عنهم ، وإنما هو ملك كريم من الملائكة المقربين تمثل فى هذه الصورة البديعة التى تخلب الألباب .ووصفوه بذلك بناء على ما ركز فى الطباع من تشبيه ما هو مفرط فى الجمال والعفة بالملك وتشبيه ما هو شديد القبح والسوء بالشيطان .

قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ

📘 وهنا شعرت امرأة العزيز بانتصارها على بنات جنسها ، الائى عذلنها فى حبها ليوسف ، فقالت لهن على سبيل التفاخر والتشفى ، وبدون استحياء أو تلميح : ( قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ) .والفاء هنا فصيحة ، والخطاب للنسوة اللائى قطعن أيديهن دهشا من جمال يوسف ، والإِشارة إليه - عليه السلام - .أى : قالت لهن على سبيل التشفى والتباهى والاعتذار عما صدر منها معه : إن كان الأمر كما قلتن ، فذلك هو الملك الكريم الذى لمتننى فى حبى له ، وقلتن ما قلتن فى شأنى لافتتانى به ، فالآن بعد رؤيتكن له ، وتقطيع أيديكن ذهولا لطلعته ، قد علمتن أنى معذورة فيما حدث منى معه . .ثم جاهرت أمامهن بأنها أغرته بمواقعتها فلم يستجيب فقالت :( وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم . . ) أى : والله لقد حاولت معه بشتى المغريات أن يطوع نفسه ، فأبى وامتنع امتناع بليغا ، وتحفظ تحفظا شديدا .والتعبير بقوله " فاستعصم " للمبالغة فى عصمته لنفسه من الزلل ، فالسين والتاء للمبالغة ، وهو من العصمة بمعنى المنع . يقال : عصمه الطعام أى : منعه من الجوع ، وعصم القربة أى : شدها بالعصام ليمنع نزول الماء منها .وفى الآية - كما يقول الآلوسى - دليل على أنه - عليه السلام - لم يصدر منه ما سوَّد به القصَّاص وجوه الطروس - أى الأوراق .ثم قالت أمامهن بعد ذلك فى تبجح واستهتار وتهديد : ( وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين )أى : والله لقد راودته عن نفسه فاستعصم ، ولله لئن لم يفعل ما آمر به ، - وأنا سيدته الآمرة الناهية لا غيرى - ليسجنن عقوبة له ، وليكونا من الصاغرين ، أى : من الأذلاء المهانين المقهورين ، من الصغار .يقال : صغر فلان - كفرح - يصغر صغارا ، إذا ذل وهان .قالوا : وأكدت السجن بالنون الثقيلة وبالقسم لتحققه فى نظرها ، وأكدت الصغار بالنون الخفيفة لأنه غير متحقق فيه ، ولأنه من توابع السجن ولوازمه .وفى هذا التهديد ما فيه من الدلالة على ثقتها من سلطانها على زوجها ، وأنه لا يستطيع أن يعصى لها أمرا ، مع أنه عزيز مصر . .

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ

📘 ويترامى على مسامع يوسف - عليه السلام - هذا التهديد السافر . . فيلجأ إلى ربه مستجيرا به ، ومحتميا بحماه ويقول : ( قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ . . . )أى : قال يوسف - عليه السلام - متضرعا إلى ربه - تعالى - يا رب السجن الذى هددتنى به تلك المرأة ومن معها ، أحب إلى ، وآثر عندي مما يدعوننى إليه من ارتكاب الفواحش .وقال أحب إلى مما يدعوننى إليه ، ولم يقل مما تدعونى إليه امرأة العزيز ، لأنهن جميعا كن مشتركات فى دعوته إلى الفاحشة سواء بطريق مباشر أو غير مباشر ، بعد أن شاهدن هيئته وحسنه ، وبعد أن سمعن ما قالته فى شأنه ربة الدار . .قال الآلوسى : " وإسناد الدعوة إليهن ، لأنهن خوفنه من مخالفتها ، وزين له مطاوعتها .فقد روى أنهن قلن له أطع مولاتك ، واقض حاجتها ، لتأمن عقوبتها . . وروى أن كل واحدة منهن طلبت الخلوة به لنصيحته ، فلما خلت به دعته إلى نفسها . .وقوله : ( وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين ) واعتراف منه - عليه السلام - بضعفه البشرى الذى لا قدرة له على الصمود أمام الإِغراء ، إذا لم يكن معه عون الله - تعالى - وعنايته ورعايته .و ( أصب ) من الصبوة وهى الميل إلى الهوى ، يقال : صبا فلان يصبو صبوا وصبوة ، إذا مال إلى شهوات نفسه واتبع طريق الشر ، ومنه ريح الصبا ، وهى التى تميل إليها النفوس لطيب نسيمها واعتدال هوائها .والمعنى : وإلا تدفع عنى يا إلهى كيد هؤلاء النسوة ، ومحاولاتهن إيقاعى فى حبائلهن ، أمل إليهن . وأطاوعهن على ما يردنه منى ، وأكن بذلك من الجاهلين السفهاء الذين يخضعون لأهوائهم وشهواتهم ، فيقعون فى القبائح والمنكرات .

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

📘 وقوله - سبحانه - ( فاستجاب لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم ) بيان لتقبل الله - تعالى - لدعائه بفضله ورحمته .أى : فاستجاب الله - تعالى - ليوسف دعاءه وضراعته ، فدفع عنه بلطفه وقدرته كيد هؤلاء النسوة ومكرهن ، بأن أدخل اليأس فى نفوسهن من الطمع فى استجابته لهن ، وبأن زاده ثباتا على ثباته ، وقوة على قوته ، فلم ينخدع بمكرهن ، ولم تلن له قناة أمام ترغيبهن أو ترهيبهن .وقال - سبحانه - ( فاستجاب ) بفاء التعقيب للإِشارة إلى أنه - سبحانه - بفضله وكرمه ، قد أجاب دعاء عبده يوسف - عليه السلام - بدون تأخير أو إبطاء .قال الإِمام ابن كثير : وقوله - سبحانه - ( فاستجاب لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ . . . ) .وذلك لأن يوسف - عليه السلام - عصمه الله عصمة عظيمة ، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع ، واختار السجن على ذلك ، وهذا فى غاية مقامات الكمال ، أنه مع شبابه وجماله وكماله ، تدعوه سيدته ، وهى امرأة عزيز مصر ، وهى مع هذا فى غاية الجمال والمال والرياسة ، فيمتنع من ذلك ويختار السجن خوفا من الله ، ورجاء فى ثوابه .ولهذا ثبت فى الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ فى عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنى أخاف الله " .ثم ساقت لنا السورة الكريمة بعد ذلك قصة دخول يوسف - عليه السلام - السجن ، مع ثبوت براءته ، مما نسب إليه ، وكيف أنه وهو فى السجن لم ينس الدعوة إلى عبادة الله - تعالى - وحده ، وترك عبادة ما سواه ، وكيف أنه أقام الأدلة على صحة ما يدعو إليه ، وفسر لصاحبيه فى السجن رؤياهما تفسيرا صادقا صحيحا . .

ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ

📘 استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول :( ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ . . . ) .قوله - سبحانه - ( ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ ) بيان لما فعله العزيز وحاشيته مع يوسف - عليه السلام - بعد أن ثبتت براءته .وبدا هنا من البداء - بالفتح - وهو - كما يقول الإِمام الرازى - عبارة عن تغير الرأى عما كان عليه فى السابق .والضمير فى " لهم " يعود إلى العزيز وأهل مشورته .والمراد بالآيات : الحجج والبراهين الدالة على براءة يوسف ونزاهته ، كانشقاق قميصه من دبر ، وقول امرأة العزيز ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، وشهادة الشاهد بأن يوسف هو الصادق وهى الكاذبة . . . والحين : الزمن غير المحدد بمدة معينة .والمعنى : ثم ظهر للعزيز وحاشيته ، من بعد ما راوا وعاينوا البراهين المتعددة الدالة على صدق يوسف - عليه السلام - وطهارة عرضه . . بدا لهم بعد كل ذلك أن يغيروا رأيهم فى شأنه ، وأن يسجنوه فى المكان المعد لذلك ، إلى مدة غير معلومة من الزمان .واللام فى قوله " ليسجننه " جواب القسم محذوف على تقدير القول أى : ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين ، والله ليسجننه حتى حين .ولا شك أن الأمر بسجن يوسف - عليه السلام - كان بتأثير من امرأة العزيز ، تنفيذا لتهديدها بعد أن صمم يوسف - عليه السلام - على عصيانها فيما تدعوه إليه ، فقد سبق أن حكى القرآن عنها قولها ( وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين ) ولا شك - أيضا - أن هذا القرار بسجن يوسف يدل على أن المرأة العزيز كانت مالكة لقياد زوجها صاحب المنصب الكبير ، فهى تقوده حيث تريد كما يقود الرجل دابته .ولقد عبر عن هذا المعنى صاحب الكشاف فقال ما ملخصه : قوله ( ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات . . . )وهى الشواهد على براءته ، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها ، وفتلها منه فى الذروة والغارب ، وكان مطواعا لها ، وجملا ذلولا زمامه فى يدها ، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات ، وعمل برأيها فى سجنه ، لإِلحاق الصغار به كما أوعدته ، وذلك لما أيست من طاعته لها ، وطمعت فى أن يذلله السجن ويسخره لها .

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ

📘 ثم بين - سبحانه - جانبا من أحواله بعد أن دخل السجن فقالك ( وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ . . )والفتيان : تثنية فتى ، وهو من جاوز الحلم ودخل فى سن الشباب .قالوا : وهذان الفتيان كان أحدهما : خبازا للملك وصاحب طعامه وكان الثانى : ساقيا للملك ، وصاحب شرابه .وقد أدخلهما الملك السجن غضبا عليهما ، لأنهما اتهما بخيانته .والجملة الكريمة عطف على كلام محذوف يفهم من السياق ، والتقدير بعد أن بدا للعزيز وحاشيته سجن يوسف .نفذا ما بدا لهم فسجنوه ، ودخل معه فى السجن فتيان من خدم الملك " قال أحدهما " وهو ساقى الملك ليوسف - عليه السلام - :( إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً ) أى : إنى رأيت فيما يرى النائم . إنى عصرا عنبا ليصير خمرا . سماه بما يؤول إليه .( وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ ) أى : وقال الثانى وهو خباز الملك ، إنى رأيت فى المنام أنى أحمل فوق رأسى سلالا بها خبز ، وهذا الخبز تأكل الطير منه وهو فوق رأسى .والضمير المجرور فى قوله : ( نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين ) يعود إلى المرئى فى المنام أى : أخبرنا بتفسير ما رأيناه فى منامنا ، إذ نراك ونعتقدك من القوم الذين يحسنون تأويل الرؤى ، كما أننا نتوسم فيك الخير والصلاح ، لإِحسانك إلى غيرك ، من السجناء الذين أنت واحد منهم .وقبل أن يبدأ يوسف - عليه السلام - فى تأويل رؤياهما ، أخذ يمهد لذلك بأن يعرفهما بنفسه ، وبعقيدته ، ويدعوهما إلى عبادة الله وحده ويقيم لهما الأدلة على ذلك . .وهذا شأن المصلحين العقلاء المخلصين لعقيدتهم الغيورين على نشرها بين الناس ، إنهم يسوقون لغيرهم من الكلام الحكيم ما يجعل هذا الغير يثق بهم ، ويقبل عليهم ، ويستجيب لهم . .

قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ

📘 وهذا ما كان من يوسف - عليه السلام - فقد بدأ فى رده عليهما بقوله : ( قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا . . ) .أى : قال يوسف لرفيقيه فى السجن اللذين سألاه أن يفسر لهما رؤياهما : " لاَ يَأْتِيكُمَا " أيها الرفيقان ( طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ ) فى سجنكما ، فى حال من الأحوال ، إلا وأخبرتكما بما هيته وكيفيته وسائر أحواله قبل أن يصل إليكما .وإنما قال لهما ذلك ليبرهن على صدقه فيما يقول ، فيستجيبا لدعوته لهما إلى وحدانية الله بعد ذلك .وقوله ( ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي ) نفى لما قد يتبادر إلى ذهنهما من أن علمه مأخوذ عن الكهانة أو التنجيم أو غير ذلك مما لا يقره الدين .أى : ذلك التفسير الصحيح للرؤيا ، والأخبار عن المغيبات ، كأخباركما عن أحوال طعامكما قبل أن يصل إليكما . .ذلك كله إنما هو العلم الذى علمنى إياه ربى وخالقى ومالك أمرى ، وليس عن طريق الكهانة أو التنجيم كما يفعل غيرى .وقوله : ( مِمَّا عَلَّمَنِي ربي ) فيه إشعار بأن ما أخبرهما به من مغيبات هو جزء من علوم كثيرة علمها إياه ربه - عز وجل - فضلا منه - سبحانه - وكرما .ثم أضاف إلى ذلك قوله : ( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ ) أى دين قوم ( لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله ) أى لا يدينون بالعبودية لله - تعالى - وحده الذى خلقهم ورزقهم ، وإنما يدينون بالعبودية لآلهة أخرى لا تنفع ولا تضر .( وَهُمْ بالآخرة ) وما فيها من ثواب وعقاب ( هُمْ كَافِرُونَ ) جاحدون لما يجب الإِيمان به .وفى هذه الجملة الكريمة تعريض بما كان عليه العزيز وقومه ، من إشراك وكفر ، ولم يواجه الفتيان بأنهما على دين قومهما ، وإنما ساق كلامه على سبيل العموم ، لكى يزيد فى استمالتهما إليه ، وإقبالهما عليه . .وهذا شأن الدعاة العقلاء ، يلتزمون فى دعوتهم إلى الله الحكمة والموعظة الحسنة ، بدون إحراج أو تنفير .

وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ

📘 ولما كان تركه لملة هؤلاء القوم ، يقتضى دخلو فى ملة قوم آخرين ، تراهيصرح بالملة التى اتبعها فيقولك ( واتبعت مِلَّةَ آبآئي ) الكرام المؤمنين بوحدانية الله وبالآخرة وما فيها من حساب وجزاء .( إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) وسماهم آباء جميعا ، لأن الأجداد آباء ، وقدم الجد الأعلى ثم الجد الأقرب ثم الأب ، لكون إبراهيم هو أصل تلك الملة التى اتبعها ، ثم تلقاها عنه إسحاق ، ثم تلقاها عن إسحاق يعقوب - عليهم السلام - .وفى هذه الجملة الكريمة ، بيان منه - عليه السلام - لرفيقيه فى السجن ، بأنه من سلسلة كريمة ، كلها أنبياء ، فحصل له بذلك الشرف الذى ليس بعده شرف ، وقوله ( مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ ) تنزه عن الشرك بأبلغ وجه .أى : ما صح وما استقام لنا أن نشرك بالله - تعالى - أى شئ من الإِشراك ، فنحن أهل بيت النبوة الذين عصمهم الله - تعالى - عن ذلك .و " من " فى قوله " من شئ " لتأكيد النفى وتعميمه . أى : ما كان لنا أهل هذا البيت الكريم أن نشرك بالله شيئا من الإِشراك ، قليلا ذلك الشئ أو حقيرا .وقوله ( ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس . . . ) اعتراف منه - عليه السلام - برعاية الله - تعالى - له ولآبائه .واسم الإِشارة . يعود إلى الإيمان بالله - تعالى - المدلول عليه بنفى الشرك .أى : ذلك الإِخلاص لله - تعالى - فى العبادة ، كائن من فضله - سبحانه - علينا معاشر هذا البيت ، وعلى غيرنا من الناس ، الذين هداهم إلى الإِيمان الحق .وقوله : ( ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ ) إنصاف للقلة الشاكرة لله - تعالى - .أى : ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله - تعالى - على نعمه الجزيلة وآلائه التى لا تحصى .

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ

📘 وبعد أن عرف يوسف صاحبيه فى السجن وبنفسه وبملته وبآبائه . شرع يقيم لهم الأدلة على صحة عقيدته ، وعلى فساد عقيدتهما فقال - كما حكى القرآن عنه : ( ياصاحبي السجن أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار ) .أى : يا صاحبى ورفيقى فى السجن أخبرانى بربكما ، أعبادة عدد من الأرباب المتفرقة فى ذواتها وصفاتها " خير " لكما " أم " عبادة الله - تعالى - " الواحد " فى ذاته وصفاته " القهار " لكل من غالبه أو نازعه؟وكرر نداءهما بالصحبة ليتحبب إليهما بهذه الصفة التى فيها إيناس للقلوب ، وليسترعى انتباههما إلى ما سيقوله لهما .قال صاحب المنار ما ملخصه : " وقوله : ( أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ . . . ) هذا استفهام تقرير بعد تخيير ، ومقدمة لأظهر برهان على التوحيد ، وكان المصريون المخاطبون به ، يعبدون كغيرهم من الأمم أربابا متفرقين فى ذواتهم وفى صفاتهم وفى الأعمال التى يسندونها إليهم بزعمهم ، فهو يقول لصاحبيه أأرباب متفرقون ، أى عديدون هذا شأنهم فى التفرق والانقسام " خير " لكما ولغيركما ( أَمِ الله الواحد القهار . . )ولا شك أن الجواب الذى لا يختلف فيه عاقلان ، أن عبادة الله - تعالى - الواحد القهار ، هى العبادة الصحيحة التى توافق الفطرة السليمة والعقول القويمة .

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ

📘 ثم حكى - سبحانه - قصة يوسف - عليه السلام - كمثال لأحسن القصص فقال - تعالى - ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) .و ( إذ ) ظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر .ويوسف : اسم أعجمى ، مشتق - كما يقول الآلوسى - من الأسف ، وسمى به لأسف أبيه عليه . وأبوه : هو يعقب بن إسحاق بن إبراهيم . وفى الحديث الصحيح عن ابن عمر - رضى الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " .وقوله : ( ياأبت ) أصله يا أبى ، فحذفت الياء وعوض عنها تاء التأنيث ، ونقلت إليها كسرة الباء ، ثم فتحت الباء لمناسبة تاء التأنيث .والمعنى : اذكر - أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب - وقت أن قال يوسف لأبيه ، يا أبت إنى رأيت فى منامى ( أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ) تسجد لى : ورأيت كذلك ( والشمس والقمر ) لى ( سَاجِدِينَ ) .ولم يدرج الشمس والقمر فى الكواكب مع أنهما منها ، لإِظهار مزيتهما ورفعا لشأنهما ، وجملة ( رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) مستأنفة لبيان الحالة التى رآهم عليها .وأجريت هذه الكواكب مجرى العقلاء فى الضمير المختص بها ، لوصفها بوصفهم حيث إن السجود من صفات العقلاء ، والعرب تجمع ما لا يعقلجمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته .قال ابن كثير : " وقد تكلم المفسرون على تبعير هذا المنام : أن الأحد عشر كوكبا عبارة عن إخوته ، وكانوا أحد عشر رجلا ، والشمس والقمر عبارة عن أبيه وأمه .روى هذا عن ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة وسفيان الثورى ، وعبد الرحمن بن زيد ، وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة ، وقيل بعد ثمانين سنة ، وذلك حين رفع أبويه على العرش ، وهو سريره . وإخوته بين يديه . . وخروا له سجدوا وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل ، قد جعلها ربى حقا . . . " .

مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

📘 ثم انتقل يوسف - عليه السلام - إلى تفنيد العقائد الباطلة والأوهام الكاذبة فقال : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ ) أى من دون الله - تعالى - المستحق للعبادة .( إِلاَّ أَسْمَآءً ) أى ألفاظا فارغة لا قيمة لها .( سَمَّيْتُمُوهَآ ) آلهة بزعمكم ( أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ ) أما هى فليس لها من هذا الاسم المزعوم ظل من الحقيقة ، لأنها مخلوقة وليست خالقة ، ومرزوقة وليست رازقة ، وزائلة وليست باقية ، وما كان كذلك لا يستحق أن يكون إلها .ومفعول ( سَمَّيْتُمُوهَآ ) الثانى محذوف . والتقدير سميتموها آلهة .وقوله ( وَآبَآؤُكُمْ ) لقطع عذرهم ، حتى لا يقولوا : إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ، فكأنه - تعالى - يقول لهم : إن آباءكم كانوا أشد من كم جهلا وضلالا ، فلا يصح لكم أن تقتدوا بهم .والمراد بالسلطان فى قوله - تعالى - ( مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ ) الحجة والبرهان .أى : ما أنزل الله - تعالى - بتسميتها أربابا - كما سميتموها بزعمكم - من برهان أو دليل يشعر بتسميتها بذلك ، وإنما أنتم الذين خلعتم عليها هذه الأسماء .وقوله : ( إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ ) إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم . .أى : ما الحكم فى شأن العقائد والعبادات والمعاملات وفى صحتها أو عدم صحتها إلا الله - تعالى - وحده ، لأنه الخالق لكل شئ ، والعليم بكل شئ .وقوله ( أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) انتقال من الأدلة الدالة على وحدانيته - سبحانه - إلى الأمر بإخلاص العبادة له وحده .أى : أمر - سبحانه - عباده أن لا يجعلوا عبادتهم إلا له وحده ، لأنه هو خالقهم ورازقهم ، وهو يحييهم ويمييتهم .ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : ( ذلك الدين القيم ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ) .أى : ذلك الذى أمرناكم به من وجوب إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، هو الدين القيم .أى : الحق المستقيم الثابت ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك حق العلم ، لاستيلاء الشهوات والمطامع على نفوسهم .وبعد أن عرف يوسف صاحبيه فى السجن بنفسه ، وأقام لهما الأدلة على أن عبادة الله - تعالى - وحده هى الدين الحق ودعاهما إلى الدخول فيه ..

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ۚ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ

📘 بعد كل ذلك شرع فى تفسير رؤياهما ثقة فى قوله ، فقال : ( ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا ) وهو ساقى الملك ، فيخرج من السجن برئيا ويسقى " ربه " أى : سيده الملك " خمرا " .( وَأَمَّا الآخر ) وهو خباز الملك وصاحب طعامه " فيصلب " أى : فيقتل ثم يصلب ( فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ ) بعد موته .ولم يعين يوسف - عليه السلام - من هو الذى سيسقى ربه خمرا ، ومن هو الذى سيصلب ، وإنما اكتفى بقوله " أما أحدكما . . . وأما الآخر " تلطفا معهما ، وتحرجا من مواجهة صاحب المصير السئ بمصيره ، وإن كان فى تعبيره ما يشير إلى مصير كل منهما بطريق غير مباشر .ثم أكد لهما الأمر واثقا من صدق العلم الذى علمه الله إياه ، فقال : ( قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) .والاستفتاء : مصدر استفتى إذا طلب الفتوىو من غيره فى أمر خفى عليه فهمه أى : ثم التفسير الصحيح لرؤييكما اللتين سألتمانى عن تأويلهما .

وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ

📘 ثم ختم يوسف - عليه السلام - حديثه مع صاحبيه فى السجن ، بأن أوصى الذى سينجوا منهما بوصية حكاها القرآن فى قوله : ( وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذكرني عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ ) .أى : " وقال " يوسف - عليه السلام - للفتى الذى اعتقد أنه سينجو منهما وهو ساقى الملك ، أيها الساقى بعد أن تخرج من السجن وتعود إلى عملك عند سيدك الملك ، اذكر حقيقة حالى عنده ، وأنى سجين مظلوم .ولكن الساقى بعد أن عاد إلى عمله عند الملك ، لم ينفذ الوصية ، لأن الشيطان أنساه ما قاله له يوسف ، فكانت النتيجة أن لبث يوسف - عليه السلام - فى السجن مظلوما بعض سنين .والبضع - بالكسر - من ثلاث إلى تسع ، وهو مأخذو من البضع - بالفتح - بمعنى القطع والشق . يقال : بضعت الشئ أى : قطعته .وقد اختلفوا فى المدة الى قضاها يوسف فى السجن على أقوال من أشهرها أنه لبث فيه سبع سنين .وعلى هذا التفسير يكون الضمير فى " فأنساه " يعود إلى ساقى الملك ، ويكون المراد بربه أى : سيده ملك مصر .وهناك من يرى أن الضمير فى قوله " فأنساه " يعود إلى يوسف - عليه السلام - وأن المراد بالرب عننا : الخالق - عز وجل - ، وعليه يكون المعنى .وقال يوسف - عليه السلام - للفتى الذى اعتقد نجاته وهو ساقى الملك : اذكر مظلمتى عند سيدك الملك عندما تعود إليه . واذكر له إحسانى لتفسير الرؤى . .وقوله ( فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ ) أى : فأنسى الشيطان يوسف أن يذكر حاجته لله وحد ، ولا يذركها للساقى ليبلغها إلى الملك .فكانت النتيجة أن لبث يوسف فى السجن بضع سنين بسبب هذا الاعتماد على المخلوق؟والذى يبدو لنا أن التفسير الأول أقرب إلى الصواب ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ، ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك ( وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ .. . ) يدل دلالة واضحة على أن الضمير فى قوله " فأنساه " يعود إلى ساقى الملك ، وأن المراد بربه أى سيده .وقد علق الإِمام الرازى على هذه الآية تعليقا يشعر بترجيحه للرأى الثانى فقال ما ملخصه : " واعلم أن الاستعانة بالناس فى دفع الظلم جائزة فى الشريعة ، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فهذا وإن كان جائزا لعامة الخلق ، إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية ، وألا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب . .ثم قال والذى جربته من أول عمري إلى آخره أ الإِنسان كلما عول فى أمر من الأمور على غير الله ، صار ذلك سببا إلى البلاء وإلى المحنة . . وإذا عول العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه ، فهذه التجربة قد استمرت لى من أول عمرى إلى هذا الوقت الذى بعث فيه السابعة والخمسين من عمرى .ثم قال : واعلم أن الحق هو قول من قال إن الضمير فى قوله : ( فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ ) راجع إلى يوسف . . والمعنى : أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر به وخالقه . .ونحن مع احترامنا لرأى الفخر الرازى ، إلا أننا ما زلنا نرى أن عودة الضمير فى قوله " فأنساه " إلى الساقى الذى ظن يوسف أنه هو الناجى من العقوبة ، أولى لما سبق أن ذكرناه .قال ابن كثير : وقوله ( اذكرني عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ . . . )أى : " قال يوسف اذكر قصتى عند ربك وهو الملك ، فنسى ذلك الموصى أن يذكر مولاه بذلك ، وكان نسيانه من جملة مكايد الشيطان . . هذا هو الصواب أن الضمير فى قوله : " فأنساه " . . عائد على الناجى كما قال مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد . .وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد قصت علينا بأسلوبها المشوق الحكيم جابنا من حياة يوسف - عليه السلام - فى السجن فماذا كان بعد ذلك؟

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ

📘 لقد كان بعد ذلك أن أراد الله - تعالى - فتح باب الفرج ليوسف - عليه السلام - ، وكان من أسباب ذلك أن رأى الملك فى منامه رؤيا أفزعته ، ولم يستطع أحد تأويلها تأويلا صحيحا سوى يوسف - عليه السلام - استمع إلى القرآن وهو يقص ذلك فيقول :( وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ . . . ) .قوله - سبحانه - : ( وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ ) شروع فى حكاية الرؤيا التى رآها ملك مصر فى ذلك الوقت . .قال ابن كثير : " هذه الرؤيا من ملك مصر ، مما قدر الله - تعالى - أنها كانت سببا لخروج يوسف - عليه السلام - من السجن معززا مكرما ، وذلك أن الملك رأى هذه الرؤيا ، فهالته وتعجب من أمرها ، وما يكون تفسيرها فجمع الكهنة وكبراء دولته وأمراءها ، وقص عليهم ما رأى ، وسألهم عن تأويلها ، فلم يعرفوا ذلك . .وقوله " عجاف " جمع عجفاء والعجف - بفتح العين والجيم - ذهاب السمن ، يقال : هذا رجل أعجف وامرأة عجفاء ، إذا ظهر ضعفهما وهزالهما . .أى : وقال ملك مصر فى ذلك الوقت لكبار رجال ممكلته : إنى رأيت فيما برى النائم " سبع بقرات " قد امتلأن شحما وحلما ( يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ ) أى : يأكل هذه البقرات السبع السمان ، سبع بقرات أخرى عجاف أى : مهازيل ضعاف .ورأيت - أيضا - فيما يرى النائم ( وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْر ) قد امتلأت حبا ، ورأيت إلى جانبها سبع سنبلات ( وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ) قد ذهبت نضارتها وخضرتها ، ومع هذا فقد التوت اليابسات على الخضر على غلبتها .( ياأيها الملأ ) أى : الأشراف والعلماء من قومى ( أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ ) أى : فسروا لى رؤياى هذه وبينوا لى ما تدل عليه .( إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ) أى : إن كنتم تعرفون تفسيرها وتأويلها معرفة سليمة ، وتعلمون تعبيرها علما مستمرا .و " تعبرون " من العبر ، وهو اجتياز الطريق أو النهر من جهة إلى أخرى وسمى المفسر للرؤيا عابرا ، لأنه يتأمل فيها وينتقل من كل طرف فيها إلى الطرف الآخر ، كما ينتقل عابر النهر أو الطريق من جهة إلى أخرى .قال بعض العلماء : والتعريف فى " الملك " للعهد ، أى ملك مصر ، وسماه القرآن هنا ملكا ولم يسمه فرعون ، لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر القبط ، وإنما كان ملكا لمصر أيام أن حكمها " الهكسوس " وهم العمالقة الذين ملكوا مصر من 1900 قبل الميلاد إلى سنة 1525 ق . م .فالتعبير عنه بالملك هنا ، دون التعبير عنه بفرعون مع أنه عبر عن مالك مصر فى زمن موسى بفرعون ، يعتبر من دقائق إعجاز القرآن العلمى .وقال " إنى أرى " بصيغة المضارع مع أنه قد رأى بالفعل ، استحضارا لصورة الرؤيا حتى لكأنها ماثلة أمامه .وقال ( وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ) بدون إعادة لفظ سبع كما فى البقرات ، للاكتفاء بدلالة المقابل فى البقرات عليه .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هل فى الآية دليل على أن السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر؟قلت : الكلام مبنى على انصبابه إلى هذا العدد فى البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر ، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ، ويكون قوله ( وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ) بمعنى : وسبعا أخر يابسات .وفى نداء الملك لقومه قوله ( ياأيها الملأ أَفْتُونِي . . . ) تشريف لهم ، وحض على استعمال عقولهم وعلومهم فى تفسير هذه الرؤيا التى أزعجته .واللام فى قوله " للرؤيا " لتقوية الفعل " تعبرون " حيث تأخر عن معموله .ويدبو أن القوم فى ذلك الزمان ، كان بعضهم يشتغل بتفسر الرؤى ، وكان لهذا التفسير مكانته الهامة فيهم . . .فقد مرت بنا رؤيا يوسف ، ورؤيا رفيقيه فى السجن ، ثم جاءت رؤيا الملك هنا ، وهذا يشعر بأن انفراد يوسف - عليه السلام - بتأويل رؤيا الملك ، فى زمن كثر فيه البارعون فى تأويل الرؤى ، كان بمثابة معجزة أو ما يشبه المعجزة من الله - تعالى - ليوسف - عليه السلام - حتى تزداد مكانته عند الملك وحاشيته .

قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ

📘 وقوله - سبحانه - ( قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ ) حكاية لما ردبه الكهان والأشراف على ما طلبه الملك منهم .والأَضغاث : جمع ضغث - بكسر الضاد - وهو ما جمع فى حزمة واحدة من مختلف النيات وأعواد الشجر ، فصار خليطا غير متجانس .والأحلام : جمع حلْم وحلُم - بإسكان اللام وضمها تبعا للحاء - وهو ما يراه النائم فى منامه ، وتطلق كثيرا على ما ليس بحسن ، ففى الحديث الصحيح : " الرؤيا من الله والحلم الشيطان " .أى : قال الملأ للملك : ما رأيته أيها الملك فى نومك ما هو إلا تخاليط أحلام ومنامات باطلة ، فلا تهتم بها .فهم قد شبهوا ما رآه بالأضغاث فى اختلاطه ، وعدم التجانس بين أطرافها .ثم أضافوا إلى ذلك قولهم : ( وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ ) .أى : إننا لسنا من أهل العلم بتفسير تخاليط الأحلام ، وإنما نحن من أهل العلم بتفسير المنامات المعقولة المفهومة .وقولهم هذا إنما هو اعتذار عن جهلهم ، بمعرفة تفسير رؤيا الملك ، ويبدو أن الملك كان يتوقع منهم هذا الجهل ، كما يشعر به قوله - تعالى - ( إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ) فقد أتى بإن المفيدة للشك .قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : ما هو إلا حلم واحد فلماذا قالوا أضغاث أحلام فجمعوا!؟قلت : هو كما تقول فلان يركب الخيل ، ويلبس عمائم الخز ، لمن لا يركب إلا فرسا واحدا وماله إلا عمامه فردة ، تزيدا فى الوصف ، فهؤلاء أيضا تزيدوا فى وصف الحلم بالبطلان فجعلوه أضغاث أحلام - ويجوز أن يكون قد قص عليهم مع هذه الرؤيا سواها .

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ

📘 ثم بين - سبحانه - ما حدث بعد أن عجز الملأ من قوم الملك عن تأويل رؤياه فقال : ( وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا ) أى : وقال أحد الرجلين اللذين كانا مع يوسف فى السجن ثم خرج منه بريئا وهو ساقى الملك .( وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ ) : وتذكر بعد حين طويل من الزمان كيف فسر له يوسف رؤياه تفسيرا صادقا أيام أن كان معه فى السجن .واصل " ادكر " اذتكر بوزن افتعل ، مأخوذ من الذكر - بتشديد الذال وضمها - قلبت تاء الافتعال دالا لثقلها ولتقارب مخرجيهما ، ثم قلبت الذال دالا ليتأتى إدغامها فى الدال ، لأنها أخف من الذال .والأمة : الجماعة التى تؤم وتقصد لأمر ما ، والمراد بها هنا : المدة المتطاولة من الزمان وكان هذا الساقى قد نسى ما أوصاه به يوسف من قوله ( اذكرني عِندَ رَبِّكَ ) فلما قال الملك ما قاله بشأن رؤياه ، تذكر هاذا الساقى حال يوسف .قالوا : وكان ذلك بعد سنتين من خروجه من السجن .وقوله ( أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) أى : قال الساقى للمك وحاشيته : أنا أخبركم بتأويله : بتفسير رؤيا الملك التى خفى تفسيرها على الملأ من قومه . فأرسلون ، أى : فابعثونى إلى من عنده العلم الصحيح الصادق بتفسيرها .ولم يذكر لهم اسم المرسل إليه ، وهو يوسف - عليه السلام - لأنه أراد أن يفاجئهم بخبره بعد حصول تأويله للرؤيا ، فيكون ذلك أوقع فى قلوبهم ، وأسمى لشأن يوسف - عليه السلام - .وقال ( فَأَرْسِلُونِ ) ليشعرهم أن هذا التأويل ليس من عند نفسه ، وإنما هو من عند من سيرسلونه إليه وهو يوسف - عليه السلام .

يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ

📘 وقوله ( يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا . . . ) من بديع الإِيجاز بالحذف فى القرآن الكريم ، لأن المحذوف لا يتعلق بذكره غرض .والتقدير : قال لهم أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون إلى من عند العلم بذلك ، فأرسلوه فجاء إلى يوسف فى السجن فقال له : يا يوسف يأيها الصديق .والصديق : هو الإِنسان الذى صار الصدق دأبه وشيمته فى كل أحواله ، ووصفه بذلك لأنه جرب منه الصدق التام أيام أن كان معه فى السجن .وقوله " أفتنا " أى فسر لنا تلك الرؤيا التى رآها الملك ، والتى عجز الناس عن تفسيرها ، وهى أن الملك رأى فى منامه ( سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ) .وقوله ( لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ) تعليل لطلب الفتوى ، وبيان لأهميتها بالنسبة له وليوسف - عليه السلام .أى : فسر لنا هذه الرؤيا ( لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس ) تعليل لطلب الفتوى ، وبيان لأهميتها بالنسبة له وليوسف - عليه السلام .

قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ

📘 أى : فسر لنا هذه الرؤيا تأويلا مجردا بل يؤولها تأويلا صادقا صحيحا ، ومعه النصح والإِرشاد إلى ما يجب عمله فى مثل هذه الأحوال ، فقال : - كما حكى القرآن عنه - : ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً . . . )وتزرعون ها هنا : خبر فى معنى الأمر ، بدليل قوله بعد ذلك " فذروه " .وعبر عن الأمر بالمضارع مبالغة فى التعبير عن استجابتهم لنصيحته ، فكأنهم قد امتثلوا أمره ، وهو يخبر عن هذا الامتثال .و ( دأبا ) مصدر دأب على الشئ إذا استمر عليه ولازمه يقال : دأب فلان على فعل هذا الشئ يدأب دأْبا ودأَبا إذا داوم عليه ، وهو حال من ضمير " تزرعون " أى قال يوسف للساقى : فارجع إلى قومك فقل لهم إن يوسف يأمركم أن تزرعوا أرضكم سبع سنين زراعة مستمرة على حسب عادتكم .( فَمَا حَصَدتُّمْ ) من زرعكم فى كل سنة ، فذروه فى سنبله ، أى : فاتركوا الحب فى سنبله ولا تخرجوه منها حتى لا يتعرض للتلف بسبب السوس أو ما يشبهه : إلا قليلا مما تأكلون ، أى : اتركوا الحب فى سنبله فلا تخرجوه منها ، إلا شيئا قليلا منه فأخرجوه من السنابل لحاجتكم إليه فى مأكلكم .وفى هذه الجملة إرشاد لهم إلى أن من الواجب عليهم أن يقتصدوا فى مأكولاتهم إلى أقصى حد ممكن لأن المصلحة تقتضى ذلك .قال القرطبى : هذه الآية أصل فى القول بالمصالح الشرعية التى هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال ، فكل ما تضمن تحصيل شيئ من هذه الأمور فهو مصلحة ، وكلما يفوت شيئا منها فهو مفسدة ودفعه مصلحة ولا خلاف ، فإن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية ليحصل لهم التمكن من معرفة الله - تعالى - وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية ، ومراعاة ذلك فضل من الله - عز وجل - ورحمة رحم بها عباده . . .

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ

📘 وقوله ( ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك ) أى : من بعد ذلك السنين السبع المذكورات التى تزرعونها على عادتكم المستمرة فى الزراعة .( سَبْعٌ شِدَادٌ ) أى : سبع سنين صعاب على الناس ، لما فيهن من الجدب والقحط ، يأكلن ما قدمتم لهن ، أى : يأكل أهل تلك السنين الشداد ، كل ما ادخروه فى السنوات السبع المتقدمة من حبوب فى سنابلها .وأسند الأكل إلى السنين على سبيل المجاز العقلى ، من إسناد الشئ إلى زمانه .وقوله : ( إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ) أى : أن تلك السنين المجدبة ستأكلون فيها ما ادخرتموه فى السنوات السابقة ، إلا شيئا قليلا منه يبقى محرزا ، لتنتفعوا به فى زراعتكم لأرضكم .فقوله ( تُحْصِنُونَ ) من الإِحصان بمعنى الإِحراز والادخار ، يقال أحصن فلان الشئ ، إذا جعله فى الحصن ، وهو الموضع الحصين الذى لا يوصل إليه إلا بصعوبة .وحاصل تفسير يوسف - عليه السلام - لتلك الرؤيا : أنه فسر البقرات السمان والسنبلات الخضر ، بالسنين السبع المخصبة ، وفسر البقرات العجاف والسنبلات اليابسات بالسنين السبع المجدبة التى ستأتى فى أعقاب السنين المخصبة وفسر ابتلاع البقرات العجاف للبقرات السمان ، بأكلهم ما جمع فى السنين المخصبة ، فى السنين المجدبة .ولقد كان هذا التأويل لرؤيا الملك تأويلا صحيحا صادقا من يوسف - عليه السلام - بسببه أنقذ الله - تعالى - مصر من مجاعة سبع سنين .

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ

📘 وقوله ( ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) تبشير لهم بأن الخير سيأتيهم ، بعد تلك السنوات الشداد ، فقد جرت سنة الله - تعالى - أن يعقب العسر باليسر .ولفظ ( يغاث ) من الغوث بمعنى إزالة الهم والكرب عن طريق الأمطار التى يسوقها الله - تعالى - لهم بعد تلك السنوات الشداد التى قل فيها المطر .يقال : غاث الله - تعالى - البلاد غيثا ، إذا ساق لها المطر بعد أن يئسوا من نزوله ، ويعصرون من العصر وهو الضغط على ما من شأنه أن يعصر ، لإِخراج ما فيه من مائع سواء كان هذا المائع زيتاً أم ماء أم غيرهما .أى : ثم يأتى من بعد تلك السنين السبع الشداد ، عام فيه تزول الهموم والكروب ونقص الأموال عن الناس ، بسبب إرسال الله - تعالى - المطر عليهم ، فتخضر الأرض وتنبتمن كل زوج بهيج ، وفيه يعصرون من ثمار مزروعاتهم ما من شأنه أن يعصر كالزيتون وما يشبهه .وهذا كناية عن بدء حلول الرخاء بهم ، بعد تلك السنوات الشداد ، وما قاله يوسف - عليه السلام - عن هذا العام الذى يأتى فى أعقاب السنوات السبع الشداد ، لا مقابل له فى رؤيا الملك ، بل هو خارج عنها ، وذلك لزيادة التبشير لملك والناس ، ولإِفهامهم أن هذا العلم إنما بوحى من الله - تعالى - الذى يجب أن يخلص له الجميع العبادة والطاعة .وإلى هنا نرى أن يوسف - عليه السلام - قد فسر رؤيا الملك تفسيرا سليما حكيما ، من نتائجه الخير للملك وقومه . . .فماذا فعل الملك مع يوسف - عليه السلام - بعد ذلك؟

قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ

📘 ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله يعقوب لابنه يوسف بعد أن قص عليه رؤياه فقالك ( قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) .وقوله ( يابني ) تصغير ابن . والتصغير هنا سببه صغر سنه مع الشفقة عليه ، والتلطيف معه .وقوله ( رُؤْيَاكَ ) من الرؤيا التى هى مصدر رأى العلمية الدالة على ما وقع للإِنسان فى نومه ، أما رأى البصرية فيقال فى مصدرها الرؤية .وقوله " فيكيدوا لك . . " من الكيد وهو الاحتيال الخفى بقصد الإِضرار والفعل كاد يتعدى بنفسه ، فيقال : كاده يكيده كيدا ، إذا احتال لإِهلاكه . ولتضمنه معنى احتال عدى باللام .والمعنى : قال يعقوب لابنه يوسف - عليهما السلام - بشفقة ورحمة ، بعد أن سمع منه ما رآه فى منامه : " يا بنى " لا تخبر إخوتك بما رأيته فى منامك فإنك إن أخبرتهم بذلك احتالوا لإِهلاكك احتيالا خفيا ، لا قدرة لك على مقاومته أو دفعه . .وإنما قال له ذلك ، لأن هذه الرؤيا تدل على أن الله - تعالى - سيعطى يوسف من فضله عطاء عظيما . ويهبه منصبا جليلا ، ومن شأن صاحب النعمة أن يكون محسودا من كثير من الناس ، فخاف يعقوب من حسد إخوة يوسف له ، إذا ما قص عليهم رؤياه ، ومن عدوانهم عليه .والتنوين فى قوله " كيدا " للتعظيم والتهويل ، زيادة فى تحذيره من قص الرؤيا عليهم .وجملة " إن الشيطان للإِنسان عدو مبين " واقعة موقع التعليل للنهى عن قص الرؤيا على إخوته ، وفيها إشارة إلى أن الشيطان هو الذى يغريهم بالكيد له إذا ما قص عليهم ما رآه ، وهو بذلك لا يثير فى نفسه الكراهة لإِخوته .أى : لا تخبر إخوتك بما رأيته فى منامك ، فيحتالوا للإِضرار بك حسدا منهم لك ، وهذا الحسد يغرسه الشيطان فى نفوس الناس ، لتتولد بينهم العداوة والبغضاء ، فيفرح هو بذلك ، إذ كل قبيح يقوله أو يفعله الناس يفرح له الشيطان .هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاما منها :أنه يجوز للإنسان فى بعض الأوقات أن يخفى بعض النعم التى أنعم الله بها عليه ، خشية حسد الحاسدين ، أو عدوان المعتدين .وأن الرؤيا الصادقة حالة يكرم الله بها بعض عباده الذني زكت نفوسهم فيكشف لهم عما يريد أن يطلعهم عليه قبل وقوعه . ومن الأحاديث التى وردت فى فضل الرؤيا الصالحة ما رواه البخارى عن عائشة - رضى الله عنها - أنها قالت : " أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحى الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . . " .وفى حديث آخر : " الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح ، جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة " .وفى حديث ثالث : " لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، وهى الرؤيا الصالحة للرجل الصالح ، يراها أو ترى له " .كذلك أخذ جمهور العلماء من هذه الآية أن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء .قال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : " والظاهر أن القوم - أى إخوة يوسف - كانوا بحيث يمكن أن يكون للشيطان عليهم سبيل ، ويؤيد هذا أنهم لم يكونوا أنبياء .وهذا ما عليه الأكثرون سلفا وخلفا . أما السلف فإنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أو التابعين أنه قال بنبوتهم .وأما الخلف فكثير منهم نفى عنهم أن يكونوا أنبياء ، وعلى رأى من قال بذلك الإِمام ابن تيمية ، فى مؤلف له خاص بهذه المسألة ، وقد قال فيه :الذى يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار ، أن إخوة يوسف ليسوا بأنبياء ، وليس فى القرآن ولا فى السنة ما يشير إلى أنهم كانوا أنبياء . . .

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ

📘 لقد قص علينا القرآن الكريم ما طلبه الملك من حاشيته وما رد به يوسف - عليه السلام - على رسول الملك ، وما قالته النسوة وامرأة العزيز فى شأن يوسف وما طلبه - عليه السلام - من الملك ، استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بأسلوبه الخاص فيقول :( وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرسول . . . ) .قوله - سبحانه - ( وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ . . . ) حكاية لما طلبه الملك فى ذلك الوقت من معاونيه فى شأن يوسف - عليه السلام - ، وفى الكلام حذف يفهم من المقام ، والتقدير :وقال الملك بعد أن سمع من ساقيه ما قاله يوسف فى تفسير الرؤيا أحضروا إلى يوسف هذا لأراه وأسمع منه ، وأستفيد من علمه .وهذا يدل - كما يقول الإِمام الرازى - على فضيلة العلم ، فإنه - سبحانه - جعل ما علمه ليوسف سببا لخلاصه من المحنة الدنيوية ، فكيف لا يكون العلم سببا للخلاص من المحن الأخروية .وقوله - سبحانه - ( فَلَمَّا جَآءَهُ الرسول قَالَ ارجع إلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) بيان لما قاله يوسف - عليه السلام - لرسول الملك . . .أى : فلما جاء رسول الملك إلى يوسف بأناة وإباء : اجرع إلى ربك ، أى إلى سيدك الملك " فاسأله " قبل خروجى من السجن وذهابى إليه ( مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) أى : ما حالهن ، وما حقيقة أمرهن معى ، لأن الجميع أننى برئ ، وأننى نقى العرض طاهر الذيل .والمراد بالسؤال فى قوله ( ارجع إلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ ) الحث والتحريض على معرفة حقيقة أمر النسوة اللائى قطعن أيديهن . . .ولم يكشف له يوسف عن حقيقة أمرهن معه لزيادة تهييجه على البحث والتقصى إذ من شأن الإِنسان - خصوصا إذا كان - حاكما - أن يأنف من أن يسأل عن شئ مهم ، ثم لا يهتم بالإِجابة عنه .وقد آثر يوسف - عليه السلام - أن يكون هذا السؤال وهو فى السجن لتظهر الحقيقة خالصة ناصعة ، دون تدخل منه فى شأنها .وجعل السؤال عن النسوة اللائى قطعن أيديهن دون امرأة العزيز ، وفاء لحق زوجها ، واحترازا من مكرها ، ولأنهن كن شواهد على إقرارها بأنها قد راودته عن نفسه ، فقد قالت أمامهن بكل تبجح وتكشف ( فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين ) واكتفى بالسؤال عن تقطيع أيديهن ، دون التعرض لكيدهن له ، سترا لهن ، وتنزها منه - عليه السلام - عن ذكرهن بما يسؤوهن .ولذا فقد اكتفى بالإِشارة الإِجمالية إلى كيدهن ، وفوض أمرهن إلى الله - تعالى - فقال : ( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) .أى إن ربى وحده هو العليم بمكرهن بى ، وكيدهن لى ، وهو - سبحانه - هو الذى يتولى حسابهن على ذلك .ولا شك فى امتناع يوسف - عليه السلام - عن الذهاب إلى الملك إلا بعد التحقيق فى قضيته ، يدل دلالة واضحة على صبره ، وسمو نفسه ، وعلو همته . . .ولقد أجاد صاحب الكشاف فى تعليله لامتناع يوسف عن الخروج من السجن للقاء الملك إلا بعد أن تثبت براءته فقال :" إنما تأنى وتثبت يوسف فى إجابة الملك ، وقدم سؤال النسوة ، ليظهر براءة ساحته عما قذف به وسجن فيه ، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده ، ويجعلوه سلما إلى حط منزلته لديه ، ولئلا يقولوا : ما خلد فى السجن إلا لأمر عظيم ، وجرم كبير ، حق به أن يسجن ويعذب ، ويستكف شره .وفيه دليل على أن الاجتهاد فى نفى التهم ، واجب وجوب اتقاء الوقوف فى مواقفها "وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بعض الأحاديث فى فضل يوسف - عليه السلام - فقال ما ملخصه :وقد وردت السنة بمدحه على ذلك - أى على امتناعه من الخروج من السجن حتى يتحقق الملك ورعيته من براءة ساحته ونزاهة عرضه - ففى الصحيحين عن أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نحن أحق بالشك من إبراهيم ، إذ قال : رب أرنى كيف تحيى الموتى؟ قال : أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبى ، ويرحم الله لوطا ، لقد كان يأوى إلى ركن شديد ، ولو لبثت فى السجن ما لبثت يوسف لأجبت الداعى " .وروى الإِمام أحمد عن أبى هريرة فى قوله - تعالى - ( فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ . . . ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : " لو كنت أنا لأسرعت الإِجابة ، وما ابتغيت العذر " .وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : " لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه؛ والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترط أن يخرجونى .ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له ، حين أتاه الرسول ، ولو كنت مكانه لبادرتهم إلى الباب ، ولكنه أراد أن يكون له العذر " .

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ۚ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ

📘 هذا ، وقوله - سبحانه - ( قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ) حكاية لما فعله الملك بعد أن بلغه الرسول بما طلبه يوسف منه .وفى الكلام حذف يفهم من السياق ، والتقدير : وبعد أن رجع رسول الملك إليه وأخبره بما قاله يوسف ، استجاب الملك لما طلبه يوسف منه ، فأحضر النسوة وقال لهن : ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه .والخطب : مصدر خطب يخطب ، ويطلق - غالبا - على الأمر المهم الذى يجعل الناس يتحدثون فيه كثيراً ، وجمعه خطوب .والمعنى : بعد أن جمع الملك النسوة قال لهن : ما الأمر الهام الذى حملكن فى الماضى على أن تراودن يوسف عن نفسه؟ وهل وجدتن فيه ميلا إلى الاستجابة لكنَّ . . "قال صاحب الظلال ما ملخصه : " والخطب الأمر الجلل .. . فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن ، وهو المعتاد فى مثل هذه الأحوال ، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه ، فهو يواجههن مقررا الاتهام ، ومشيرا إلى أمر لهن جلل . .ون هذا نعلم شيئاً بما دار فى حفل الاستقبال فى بيت الوزير ، وما قالته النسوة ليوسف ، وما لمحن به وأشرن إليه ، من الإِغراء الذى بلغ حد المراودة .ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى فى ذلك العهد الموغل فى التاريخ ، فالجاهلية هى الجاهلية دائماً ، وِأنه حيثما كان الترف ، وكانت القصور والحاشية ، كان التحلل والتميع والفجور الناعم الذى يرتدى ثياب الأرستقراطية " .وأمام هذه المواجهة التى واجههن بها الملك ، لم يملكن الإِنكار ، بل قلن بلسان واحد : ( حَاشَ للَّهِ ) أى : معاذ الله .( مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء ) قط ، وإنما الذى علمناه منه هو الاستعصام عن كل سوء .وهنا ( قَالَتِ امرأت العزيز ) ويبدو أنها كانت حاضرة ، معهم عند الملك .( الآن حَصْحَصَ الحق ) أى : الآن ظهر الحق وانكشف انكشافا تاما بعد أن كان خافيا والفعل حصحص أصله حص ، كما قيل : كبكب فى كب ، وهو مأخوذ من الحص بمعنى الاستئصال والإِزالة ، تقول : فلان حص شعره إذا استأصله وأزاله فظهر ما كان خافيا من تحته . . .ثم أضافت إلى ذلك قولها ( أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ ) أى : أنا التى طلبت منه ما طلبت ( وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ) فى قوله ( هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ) وهكذا يشاء الله - تعالى - أن تثبت براءة يوسف على رءوس الأشهاد ، بتلك الطريقة التى يراها الملك ، وتنطق بها امرأة العزيز ، والنسوة اللائى قطعن أيديهن .قال صاحب الكشاف : " ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة ، واعترافهن على أنفسهن بأنه لم يتعلق بشئ مما قذفته به لأنهن خصومة ، وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق وهو على الباطل لم يبق لأحد مقال " - إذ الفضل ما شهدت به الأعداء - .

ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ

📘 ثم وصلت امرأة العزيز حديثها فقال : ( ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين ) .أى : ذلك الذى قلته واعترفت به على نفسى من أنى راودته عن نفسه ، إنما قلته ليلعم يوسف أنى لم أخنه فى غيبته ، ولم أقل فيه شيئاً يسؤوه بعد أن فارقنى ، ولبث بعيدا عنى فى السجن بضع سنين ، وإنما أنا أقرر أمام الملك وحاشيته بأنه من الصادقين . . .وإنما قررت ذلك لأن الله - تعالى - لا يهدى كيد الخائنين ، أى : لا ينفذ كيدهم ولا يسدده ، بل يفضحه ويزهقه ولو بعد حين من الزمان .لذا فأنا التزمت الأمانة فى الحديث عنه ، وابتعدت عن الخيانة ، لأن الله - تعالى - لا يرضاها ولا يقبلها .فأنت ترى أن هذه المرأة التى شهدت على نفسها شهادة لا تبالى بما يترتب عليها بشأنها ، قد عللت شهادتها هذه بعلتين :إحداهما : كراهتها أن تخونه فى غيبته بعد أن فقد الدفاع عن نفسه وهو فى السجن ..وثانيتهما : علمها بأن الله - تعالى - لا يهدى كيد الخائنين ولا يسدده ، وإنما يبطله ويزهقه . . .

۞ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ

📘 ثم أضافت إلى كل ذلك قولها : ( وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .أى : ومع أنى أعترف بأنه من الصادقين ، وأعترف بأنى لم أخنه بالغيب ، إلا أنى مع كل ذلك لا أبرئ نفسى ولا أنزهها عن الميل إلى الهوى ، وعن محاولة وصفه بما هو برئ منه ، فنا التى قلت لزوجى فى حالة دهشتى وانفعالى الشديد ، ( مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) وما حملنى على هذا القول إلا هواى وشهواتى ، ونفسى؛ إن النفس البشرية لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء إلا نفسا رحمها الله وعصمها من الزلل والانحراف ، كنفس يوسف - عليه السلام - .وجملة ( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) تعليل لما قبلها ، أى : إن ربى كثير الغفران وكثير الرحمة ، لمن يشاء أن يغفر له ويرحمه من عباده .والذى يتأمل هذا الكلام الذى حكاه القرآن عن امرأة العزيز ، يراه زاخرا بالصراحة التى ليس بعدها صراحة ، وبالمشاعر والانفعالات الدالة على احترامها ليوسف الذى خاخف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، رغم الإِغراءات المصحوبة بالترغيب والترهيب ، ويبدو لنا - والله أعلم - أن هذا الكلام ما قالته امرأة العزيز ، إلا بعد أن استقرت عقيدة الإِيمان التى آمن بها يوسف فى قلبها ، وبعد أن رأت فيه إنسانا يختلف فى استعصامه بالله وفى سمو نفسه ، عن غيره من الناس الذين رأتهم .هذا ، ويرى كثير من المفسرين أن كلام امرأة العزيز قد انتهى عند قوله - تعالى - ( وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ) وأن قوله - تعالى - بعد ذلك ( ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب . . . ) إلى قوله - تعالى - ( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) هو من كلام يوسف - عليه السلام - ، فيكون المعنى :وذلك ليعلم " أى العزيز " أنى لم أخنه ، فى أهله ( بالغيب ) أى في غيبته ( وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين ) من النساء والرجال ، بل يبطل هذا الكيد ويفضحه .( وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي ) أى : ولا أنزهها عن السوء ، وهذا من باب التواضع منه - عليه السلام - ( إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء ) أى : إن هذا الجنس من الأنفس البشرية ، شأنه الأمر بالسوء والميل إلى الشهوات .( إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي ) من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء .( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من خلقه .والذى نراه أن الرأى الأول الذى سرنا عليه هو الجدير بالقبول ، لأنه هو المناسب لسياق الآيات من غير تكلف ، ولأنه لا يؤدى إلى تفكك الكلام وانقطاع بعضه عن بعض ، بخلاف الرأى الثانى الذى يرى أصحابه أن كلام امرأة العزيز قد انتهى عند قوله - تعالى - ( وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ) فإنه يؤدى إلى تفكك الكلام ، وعدم ارتباط بعضه ببعض ، فضلا عن أن وقائع التاريخ لا يؤيده ، لأن يوسف - عليه السلام - كان فى السجن عندما أحضر الملك النسوة وقال لهن : ( مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ .. . ) وعندما قالت امرأة العزيز أمام الملك وأمامهن : ( الآن حَصْحَصَ الحق . . ) إلى قوله - تعالى - ( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .ومن المفسرين الذين أيدوا الرأى الأول الإِمام ابن كثير فقد قال ما ملخصه : ( ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب . . ) نقول : إنما اعترفت بهذا على نفسى ، بأنى راودت هذا الشاب فامتنع ، ( وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي . . . ) تقول المرأة : ولست أبرئ نفسى ، فإن النفس تتحدث وتتمنى ، ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء .( إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي ) أى : من عصمه الله - تعالى - . . .ثم قال : " وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصه ومعانى الكلام . لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ، ولم يكن يوسف - عليه السلام - عندهم ، بل بعد ذلك أحضره الملك " .وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن القسم الأول من حياة يوسف - عليه السلام - القسم الذى تعرض خلاله لألوان من المحن والآلام ، بعضها من إخوته ، وبعضها من امرأة العزيز ، وبعضها من السجن ومراراته . . .ثم بدأت بعد ذلك فى الحديث عن الجانب الثانى من حياته عليه السلام .

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ

📘 وهو جانب الرخاء والعز والتمكين فى حياته ، فقال - تعالى - : ( وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي . . . )وفى الكلام إيجاز بالحذف ، والتقدير : وبعد أن انكشفت للملك براءة يوسف - عليه السلام - انكشافا تاما ، بسبب ما سمعه عنه من النسوة ومن امرأة العزيز ، وبعد أن سمع تفسيره للرؤيا وأعجب به ، كما أعجب بسمو نفسه وإبائه . .بعد كل ذلك قال الملك لخاصته : ائتونى بيوسف هذا ، ليكون خالصا لنفسى ، وخاصا بى فى تصويف أمورى ، وكتمان أسرارى ، وتسيير دفة الحكم فى مملكتى .والسين والتاء فى قوله " أستخلصه " للمبالغة فى الخلوص له ، فهما للطلب كما فى استجاب ، والاستخلاص طلب خلوص الشئ من شوائب الشركة .فكأن الملك قد شبه يوسف - عليه السلام - بالشئ النفيس النادر ، الذى يجب أن يستأثر به الملك دون أن يشاركه فيه أحد سواه .والفاء فى قوله ( فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ) معطوفة على محذوف يفهم من السياق .والضمير المنصوب فى " كلَّمه " يعود على الملك - على الراجح - .والمراد باليوم : الذى حدث فيه التخاطب بين الملك ويوسف .و ( مكين ) صفة مشبهة من الفعل مكن - بضم الكاف - ، بمعنى صاحب مكانة ومرتبة عظيمة ، يقال : مكن فلان مكانة إذا ارتفعت منزلته ، ويقال : مكنت فلانا من هذا الشئ إذا جعلت له عليه سلطانا وقدرة .( أمين ) بزنة فعيل بمعنى مفعول ، أى : مأمون على ما نكلفك به ، ومحل ثقتنا .والمعنى : وقال الملك لجنده ائتونى بيوسف هذا أستخلصه لنفسى فأتوه به إلى مجلسه .فازداد حب الملك له وتقديره إياه وقال له : إنك منذ اليوم عندنا صاحب الكلمة النافذة ، والمنزلة الرفيعة ، التى تجعلنا نأتمنك على كل شئ فى هذه المملكة ، وتلك المقالة من الملك ليوسف ، هى أولى بشائر عاقبة الصبر؛ وعزة النفس ، وطهارة القلب ، والاستعصام بحبل الله المتين . . .

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ

📘 وهنا طلب يوسف - عليه السلام - من الملك بعزة وإباء أن يجعله فى الوظيفة التى يحسن القيام بأعبائها ( قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) والخزائن جمع خزانة - بكسر الخاء وهى اسم للمكان الذى يخزن فيه الشئ ، والمراد بالأرض : أرض مصر .أى : قال يوسف - عليه السلام - للملك : اجعلنى - أيها الملك - المتصرف الأول فى خزائن أرض مملتك ، المشتملة على ما يحتاج إليه الناس من أموال وأطعمة ، لأنى شديد الحفظ لما فيها ، عليم بوجوه تصريفها فيما يفيد وينفع . . .فأنت ترى أن يوسف - عليه السلام - لم يسأل الملك شيئا لنفسه من أعراض الدنيا ، وإنما طلب منه أن يعينه فى منصب يتمكن بواسطته من القيام برعاية مصالح الأمة ، وتدبير شئونها . . . لأنها مقبلة على سنوات عجاف ، تحتاج إلى خبرة يوسف وأمانته وكفاءته وعلمه . . .قال صاحب الكشاف : " وصف يوسف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه ، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى - وإقامة الحق ، وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه فى ذلك ، فطلب التولية ابتغاء وجه الله - لا لحب الملك والدنيا "وقال القرطبى ما ملخصه : " ودلت الآية - أيضاً - على جواز أن يطلب الإِنسان عملاً يكون له أهلاً .فإن قيل : فإن ذلك يعارضه ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى الأحاديث الصحيحة من نهيه عن طلب الإِمارة . . .فالجواب : أولاً : أن يوسف - عليه السلام - إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه فى العدل والإِصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم ، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه ، فإنه لم يكن هناك غيره . . .الثانى : أنه لم يقل اجعلنى على خزائن الأرض لأنى حسيب كريم ، وإن كان كذلك ، ولم يقل إنى جميل مليح . . . وإنما قال ( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) فسألها بالحفظ والعلم لا بالنسب والجمال .الثالث : إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه ، وصار ذلك مستثنى من قوله - تعالى - ( فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ . . ) والخلاصة أن يوسف - عليه السلام - إنما قال ما قال للملك ، ، وطلب ما طلب منه ، لأنه علم أن هذا المنصب لا يصلح له أحد سواه فى ذلك الوقت وفى تلك الظروف ، فهو يريد من ورائه خدمة الأمة لأجر منفعة شخصية لنفسه . . .وما قاله إنما هو من باب التحدث بنعمة الله - تعالى - الذى أعطاه هذه الصفات الكريمة ، والمناقب العالية ، وليس من باب تزكية النفس المحظورة .

وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ

📘 هذا ، وقوله - سبحانه - ( وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض . . . ) بيان لسنة الله - تعالى - فى خلقه ، من كونه - سبحانه - لا يضيع أجر الصابرين المحسنين أى : ومثل هذا التمكين العظيم . مكنا ليوسف فى أرض مصر ، بعد أن مكث فى سجنها بضع سنين ، لا لذنب اقترفه ، وإنما لاستعصامه بأمر الله .وقوله ( يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ ) تفصيل للتمكين الذى منحه الله - تعالى - ليوسف فى أرض مصر ، والتبوأ اتخاذ المكان للنزول به . يقال : بوأ فلان فلانا منزلاً . أى مكنه منه وأنزله به أى : ومثل هذا التمكين العظيم ، مكنا ليوسف فى أرض مصر ، حيث هيأنا له أن يتنقل فى أماكنها ومنازلها حيث يشاء له التنقل ، دون أن يمنعه مانع من الحلول فى أى مكان فيها .فالجملة الكريمة كناية عن قدرته على التصرف والتنقل فى جميع أرض مصر ، كما يتصرف ويتنقل الرجل فى منزله الخاص .وقوله : ( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ . . . ) بيان لكمال قدرته ونفذا إرادته - سبحانه - أى نصيب برحمتنا وفضلنا وعطائنا من نشاء عطاءه من عبادنا بمقتضى حكمتنا ومشيئتنا .( وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين ) الذين يتقنون أداء ما كلفهم الله بأدائه ، بل نوفيهم أجورهم على إحسانهم فى الدنيا قبل الآخرة إذا شئنا ذلك .

وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ

📘 ( وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ ) وأبقى ( لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ) يالله - إيماناً حقا ( وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ) خالقهم - عز وجل - فى لك ما يأتون وما يذرون ، بأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضبه .وهكذا كافأ الله - تعالى - يوسف على صبره وتقواه وإحسانه ، بما يستحقه من خير وسعادة فى الدنيا والآخرة .ثم تطوى السورة بعد ذلك أحداثاً تكل معرفتها إلى فهم القارئ وفطنته ، فهى لم تحدثنا - مثلاً - عن الطريقة التى اتبعها يوسف فى إدراته لخزائن أرض مصر ، اكتفاء بقوله ( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) للدلالة على كفايته وأمانته .كذلك لم تحدثنا عن أحوال الناس فى السنوات السعب العجاف ، وفى السنوات الخضر لأن هذا مقرر ومعروف فى دنيا الناس .كذلك لم تحدثنا عن صلة الملك وحاشيته بيوسف ، بعد أن صار أميناً على خزائن الأرض ، بل أفسحت المجال كله للحديث عن يوسف ، إنزالاً للناس منازلهم ، إذ هو صاحب التفسير الصحيح لرؤيا الملك ، وصاحب الأفكار الحكيمة التى أنقذت الأمة من فقر سبع سنوات شداد ، وصابح الدعوة إلى وحدانية الله - تعالى - وإخلاص العبادة له ، بين قوم يشركون مع الله فى العبادة آلهة أخرى .

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ

📘 لم تحدثنا السورة الكريمة عن كل ذلك ، فى أعقاب حديثها عن تمكين الله - تعالى - ليوسف فى الأرض ، وإنما انتقلت بنا بعد ذلك مباشرة إلى الحديث عن لقاء يوسف بإخوته ، وعما دار بينه وبينهم من محاورات ، وعن إكرامه لهم . . .قال تعالى :( وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ . . . )قال الفخر الرازى - رحمه الله - اعلم أنه لما عم القحط فى البلاد ، ووصل أيضاً إلى البلدة التى ان يسكنها يعقوب - عليه السلام - وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه : إن بمصر صالحاً يمير الناس - أي يعطيهم الطعام وما هم فى حاجة إليه فى معاشهم - فاذهبوا إليه بدراهمكم ، وخذوا منه الطعام ، فخرجوا إليه وهم عشرة وبقى " بنيامين " مع أبيه ، ودخلوا على يوسف - عليه السلام - وصارت هذه الواقعة كالسبب فى اجتماع يوسف مع إخوته ، وظهور صدق ما أخبره الله - تعالى - عنه فى قوله ليوسف حال ما ألقوه فى الجب ( لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ) وقد جاءوا إليه جميعاً - ما عدا " بنيامين " وهو الشقيق الأصغر ليوسف ليحصلوا منه على أكبر كمية من الطعام على حسب عددهم ، وليكون عندهم القدرة عل صد العدوان إذا ا تعرض لهم قطاع الطرق الذين يكثرون فى أوقات الجدب والجوع .وعبر عن معرفة يوسف لهم بالجملة الفعلية ، وعن جهلهم له بالجملة الإسمية للإشعار بأن معرفته لهم حصلت بمجرد رؤيته لهم ، أما هم فعدم معرفتهم له كان أمرا ثابتاً متمكناً منهم .قال صاحب الكشاف : " لم يعرفوه لطول العهد ، ومفارقته إياهم فى سن الحداثة ولاعتقادهم أنه قد هلك ، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه ، واهتمامهم بشأنه ، ولبعد حاله التى بلغها من الملك والسلطان عن حاله التى فارقوه عليها طريحاً فى البئر ، حتى لو تخيلوا أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم ، ولأن الملك مما يبدل الزى ، ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف . . . "ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن المجاعة الى حدثت فى السبع السنين الشداد شملت مصر وما جاورها من البلاد - كما سبق أن أشرنا - .كما يؤخذ منها أن مصر كانت محط أنظار المعسرين من مختلف البلاد بفضل حسن تدبير يوسف - عليه السلام - وأخذه الأمور بالعدالة والرحمة وسهره على مصالح الناس ، ومراقبته لشئون بيع الطعام ، وعدم الاعتماد على غيره حتى إن إخوته قد دخلوا عليه وحده ، دون غيره من المسئولين فى مصر .

وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ۚ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ

📘 وقوله - سبحانه - ( وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ . . . ) بيان لما فعله يوسف معهم بعد ان عرفهم دون أن يعرفوه .وأصل الجهاز - بفتح الجيم وكسرها قليل - : ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع ، يقال : جهزت المسافر ، أى هيأت له جهازه الذى يحتاج إليه فى سفره ، ومنه جهاز العروس وهو ما تزف به إلى زوجها ، وجهاز الميت وهو ما يحتاج إليه فى دفنه . . .والمراد : أن يوسف بعد ان دخل عليه إخوته وعرفهم ، أكرم وفادتهم .وعاملهم معاملة طبية جعلتهم يأنسون إليه ، وهيأ لهم ما هم فى حاجة إلأيه من الطعام وغيره ، ثم استدرجهم بعد ذلك فى الكلام حتى عرف منهم على وجه التفصيل أحوالهم .وذلك لأن قوله لهم ( ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ ) يستلزم أن حديثا متنوعاً نشأ بيته وبينهم ، عرف منه يوسف ، أن لهم أخا من أبيهم لم يحضر معهم وإلا فلو كان هذا الطلب منه لهم بعد معرفت لهم مباشرة ، لشعروا بأنه يعرفهم وهو لا يريد ذلك .ومن هنا قال المفسرون : إن قوله ( ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ ) يقتضى كلاماً دار بينه وبينهم نشأ عنه هذا الطلب ، ومما قالوه فى توضيح هذا الكلام : ما روى من أنهم بعد أن دخلوا عليهم قال لهم : من أنتم وما شأنكم؟ فقالوا : نحن قوم من أهل الشام ، جئنا نمتار ، ولنا أب شيخ صديق نبى من الأنبياء اسمه يعقوب ، فقال لهم : كم عددكم قالوا عشرة ، وقد كنا اثنى عشر ، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك ، وكان أحبنا إلى أبينا ، وقد سكن بعده إلى أخ له أصغر منه ، هو باق لديه يتسلى به ، فقال لهم حينئذ؛ ( ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ ) .ويروى أنه قال لهم ذلك بعد أن طلبوا منه شيئا زائداً عن عددهم ، لأن لهم أخاً لم يحضر معهم ، فأعطاهم ما طلبوه ، واشترط عليهم إحضار أخيهم هذا معهم ، ليتأكد من صدقهم .والمعنى : وبعد أن أعطى يوسف إخوته ما هم فى حاجة إليه ، وعرف منهم أن لهم أخاً من أبيهم قد تركوه فى منازلهم ولم يحضر معهم ، قال لهم : أنا أريدكم فى الزيارة القادمة لى ، أن تحضروه معكم لأراه . . .وقوله ( مِّنْ أَبِيكُمْ ) حال من قوله ( بِأَخٍ لَّكُمْ ) أى : أخ لكم حاله كونه من أبيكم ، وليس شقيقاً لكم ، فإن هذا هو الذى أريده ولا أريد غيره .وهذا من باب المبالغة فى عدم الكشف لهم عن نفسه ، حتى لكأنه لا معرفة له بهم ولا به إلا من ذكرهم إياه له .وقوله : ( أَلاَ تَرَوْنَ أني أُوفِي الكيل وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين ) تحريض لهم على الإِتيان به ، وترغيب لهم فى ذلك حتى ينشطوا فى إحضاره معهم .أى : ألا ترون أنى أكرمت وفادتكم ، وأعطيتكم فوق ما تريدون من الطعام ، وأنزلتكم ببلدى منزلاً كريماً . . . وما دام أمرى معكم كذلك ، فلابد من أن تأتونى معكم بأخيكم من أبيكم فى المرة القادمة ، لكى أزيد فى إكرامكم وعطائكم .والمراد بإيفاء الكيل : إتمامه بدون تطفيف أو تنقيص .وعبر بصيغة الاستقبال ( أَلاَ تَرَوْنَ . . . ) مع كونه قد قال هذا القول بعد تجهيزه لهم . للدالة على أن إيفاءه هذا عادة مستمرة له معهم كلما أتوه .وجملة ( وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين ) حالية ، والمنزل : المضيف لغيره .أى : والحال أنى خير المضيفين لمن نزل فى ضيافتى ، وقد شاهدتم ذلك بأنفسكم .

وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

📘 ثم حكى - سبحانه - ما توقعه يعقوب لابنه يوسف من خير وبركة فقال :( وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )والكاف فى قوله ( وكذلك ) حرف تشبيه بمعنى مثل ، وهى داخله على كلام محذوف .وقوله ( يَجْتَبِيكَ ) من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والاختيار ، مأخوذ من جبيت الشئ إذا اخترته لما فيه من النفع والخير .و ( تَأْوِيلِ الأحاديث ) معناه تفسيرها صحيحا ، إذا التأويل مأخوذ من الأَوْل بمعنى الرجوع ، وهو رد الشئ إلى الغاية المرادة منه .والأحاديث جمع تكسير مفرده حديث ، وسميت الرؤى أحاديث باعتبار حكايتها والتحدث بها .والمعنى : وكما اجتباك ربك واختارك لهذه الرؤيا الحسنة ، فإنه - سبحانه - يجتبيك ويختارك لأمور عظام فى مستقبل الأيام ، حيث يهبك من صدق الحسَّ ، ونفاذ البصيرة ، ما يجعلك تدرك الأحاديث إدراكا سليما ، وتعبر الرؤى تعبيرا صحيحا صادقاً ." ويتم نعمته عليك " بالنبوة والرسالة والملك والرياسة " وعلى آل يعقوب " وهم إخوته وذريتهم ، بأن يسبغ عليهم الكثير من نعمه .( كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ ) أى : من قبل هذه الرؤيا أو من قبل هذا الوقت .وقوله " إبراهيم وإسحاق " بيان لأبويه .أى : يتم نعمته عليك إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك من قبل ، وهما إبراهيم وإسحاق بأن وهبهما - سبحانه - النبوة والرسالة .وعبر عنهما بأنهما أبوان ليوسف ، مع أن إبراهيم جد أبيه ، وإسحاق جده ، للإِشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم السلام - وللمبالغة فى إدخال السرور على قلبه ، ولأن هذا الاستعمال مألوف فى لغة العرب ، فقد كان أهل مكة يقولون للنبى - صلى الله عليه وسلم - يا ابن عبد المطلب ، وأثر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أنا النبى لا كذب - أنا ابن عبد المطلب " وجملة ( إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) مستأنفة لتأكيد ما سبقها من كلام .أى : إن ربك عليم بمن يصطفيه لحمل رسالته ، وبمن هو أهل لنعمه وكرامته ، حكيم فى صنعه وتصرفاته .وبذلك نرى الآيات الكريمة قد نوهت بشأن القرآن الكريم ، وساقت بأسلوب حكيم ما قاله يعقوب لابنه يوسف - عليهما السلام - بعد أن قص ما رآه فى المنام .

فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ

📘 ثم أتبع هذا الترغيب والترهيب فقال : ( فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ ) .أى : لقد رأيتم منى كل خير فى لقائكم معى هذا ، وقد طلبت منكم أن تصحبوا معكم أخاكم من أبيكم فى لقائكم القادم معى ، فإن لم تأتونى به معكم عند عودتكم إلى ، فإنى لن أبيعكم شيئاً مما تريدونه من الأطعمة وغيرها ، وفضلاً عن ذلك فإنى أحذركم من أن تقربوا بلادى فضلاً عن دخولها .هذا التحذير منه - عليه السلام - لهم ، يشعر بأن إخوته قد ذكروا له بأنهم سيعودون إليه مرة أخرى ، لأن ما معهم من طعام لا يكفيهم إلا لوقت محدود من الزمان .

قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ

📘 وقوله - سبحانه - : ( قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ) حكاية لما رد به إخوة يوسف عليه .أى قال إخوة يوسف له بعد أن أكد لهم وجوب إحضار أخيهم لأبيهم معهم : ( سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ ) أى : سنطلب حضوره معنا من أبيه برفق ولين ومخادعة ومحايلة ( وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ) هذه المراودة باجتهاد لا كلل ولا ملل معه وفاء لحقك علينا .وقولهم هذا يدل دلالة واضحة على أنهم كانوا يشعرون بأن إحضار أخيهم لأبيهم معهم - وهو " بنيامين " الشقيق الأصغر ليوسف - ، ليس أمراً سهلاً أو ميسوراً ، وإنما يحتاج إلى جهد كبير مع أبيهم حتى يقنعوه بإرساله معهم .

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

📘 ثم بين - سبحانه - ما فعله يوسف مع إخوته وهم على وشك الرحيل فقالك ( وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .والفتيان : جمع فتى والمراد بهم هنا من يقومون بخدمته ومساعدته فى عمله .والبضاعة فى الأصل : القطعة الوفيرة من الأموال التى تققنى للتجارة ، مأخوذة من البضع بمعنى القطع .والمراد بها هنا : أثمان الطعام الذى أعطاه لهم يوسف - عليه السلام - .والرحال : جمع رحل ، وهو ما يوضع على البعير من متاع الراكب .والمعنى : وقال يوسف - عليه السلام - لفتيانه الذين يقومون بتلبية مطالبه : أعيدوا إلى رحال هؤلاء القوم - وهم إخوته - الأثمان التى دفعوها لنا فى مقابل ما أخذوه منا من طعام ، وافعلوا ذلك دون أن يشعروا بكم ، لعل هؤلاء القوم عندما يعودون إلى بلادهم ، ويفتحون أمتعتهم ، فيجدون فيها الأثمان التى دفعوها لنا فى مقابل ما أخذوه من طعام غيره .لعلهم حينئذ يرجعون إلينا مرة أخرى ، ليدفعوها لنا فى مقابل ما أخذوه .وكأن يوسف - عليه السلام - أراد بفعله هذا حملهم على الرجوع إليه ومعهم " بنيامين " لأن من شأن النفوس الكبيرة أن تقابل الإِحسان بالإِحسان وأن تأنف من أخذ المبيع دون أن تدفع لصاحبه ثمنه .وقوله ( لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ ) تعليل لأمره فتيانه يجعل البضاعة فى رحال إخوته .إذ أن معرفتهم بأن بضاعتهم قد ردت إليهم لا يتم إلا بعد انقلابهم - أى رجوعهم - إلى أهلهم ، وبعد تفريغها عندهم .وقوله ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) جواب للأمر . أى : اجعلوها كذلك ، لعلهم بعد اكتشافهم أنهم ما دفعوا لنا ثمن ما أخذوه ، يرجعون إلينا ليدفعوا لنا حقنا .وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عما دار بين يوسف وإخوته بعد أن دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ، وبعد أن طلب منهم بقوة أن يعودوا إليه ومعهم أخوهم لأبيهم . . . فماذا كان بعد ذلك؟

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ

📘 لقد حكت لنا السورة الكريمة ما دار بين إخوة يوسف وبين أبيهم من محاروات طلبوا خلالها منه أن يأذن لهم فى اصطحاب " بنيامين " معهم فى رحلتهم القادمة إلى مصر ، كما حكت ما رد به أبوهم عليهم . قال - تعالى - :( فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ . . . )قوله - سبحانه - : ( فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ . . . ) حكاية لما قاله إخوة يوسف لأبيهم قور التقائهم به .والمراد بالكيل : الطعام المطيل الذى هم فى حاجة إليه .والمراد بمنعه : الحيلولة بينهم وبينه فى المستقبل ، لأن رجوعهم بالطعام قرينة على ذلك .والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف ، يدرك من السياق والتقدير : ترك إخوة يوسف مصر ، وعادوا إلى بلادهم ، بعد أن وعدوه بتنفيذ ما طلبه منهم ، فلما وصلوا إلى بلادهم ، ودخلوا على أبيهم قالوا له بدون تمهل .( ياأبانا ) لقد حكم عزيز مصر بعدم بيع أى طعام لنا بعد هذه المرة إذا لم نأخذ معنا أخانا " بنيامين " ليراه عند عودتنا إليه؛ فقد قال لنا مهدداً عند مغادرتنا له : ( فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ ) .وأنت تعلم أننا لا بد من عودتنا إليه ، لجلب احتياجاتنا من الطعام وغيره ، فنرجوك أن توافقنا على اصطحاب " بنيامين " معنا ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) حفظاً تاماً من أن يصيبه مكروه .والآية الكريمة واضحة لدلالة على أن قولهم هذا لأبيهم ، كان بمجرد رجوعهم إليه ، وكان قبل أن يفتحوا متاعهم ليعرفوا ما بداخله . . .وكأنهم فعلوا ذلك ليشعروه بأن إرسال بنيامين معهم عند سفرهم إلى مصر ، أمر على أكبر جانب من الأهمية ، وأن عدم إرساله سيترتب عليه منع الطعام عنهم .وقرأ حمزة والكسائى : ( فأرسل معنا أخانا يكتل ) - بالياء - أى : فأرسله معنا ليأخذ نصيبه من الطعام المكال ، لأن عزيز مصر طعاماً لمن كان غائباً .وعلى كلا القراءتين فالفعل مجزوم فى جواب الطلب .وقالوا له ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) بالجملة الإِسمية ، لتأكيد حفظهم له : وأن ذلك أمر ثابت عندهم ثبوتاً لا مناص منه .

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ۖ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

📘 ولكن يبدو أن قولهم هذا قد حرك كوامن الأحزان والآلام فى نفس يعقوب ، فهم الذين سبق أن قالوا له فى شأن يوسف - أيضاً - ( أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) لذا نجده يرد عليهم فى استنكار وألم بقوله : ( قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ . . . ) .أى : قال يعقوب لأولاده بعد أن طلبوا منه بإلحاح إرسال أخيهم معهم ، وبعد أن تعهدوا بحفظه : أتريدون أن أأتمنكم على ابنى " بنيامين " كما أئتمنتكم على شقيقه يوسف من قبل هذا الوقت ، فكانت النتيجة التى تعرفونها جمعاً ، وهى فراق يوسف لى فراقاً لا يعلم مداه إلا الله - تعالى -؟!! لا ، إننى لا أثق بوعودكم بعد الذى حدث منكم معى فى شأن يوسف . فالاستفهام فى قوله ( هَلْ آمَنُكُمْ . . . ) للإِنكار والنفى .وقوله ( فالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين ) تفريع على استنكاره لطلبهم إرسال " بنيامين " معهم ، وتصريح منه لهم بأن حفظ الله - تعالى - خير من حفظهم .أى : إننى لا أثق بوعودكم لى بعد الذى حدث منكم بالنسبة ليوسف ، وإنما أثق بحفظ الله ورعايته ( فالله ) - تعالى - ( خَيْرٌ حَافِظاً ) لمن يشاء حظفه ، فمن حفظه سلم ، ومن لم يحفظه لم يسلم ، كما لم يسلم أخوه يوسف من قبل حين ائتمنتكم عليه " وهو " - سبحانه - ( أَرْحَمُ الراحمين ) لخلقه ، فأرجو أن يشملنى برحمته ، ولا يفجعنى فى " بنيامين " ، كما فجعت فى شقيقه يوسف من قبل .ويبدو أن الأبناء قد اقتنعوا برد أبيهم عليهم ، واشتموا من هذا الرد إمكان إرساله معهم ، لذا لم يراجعوه مرة أخرى .قال الآلوسى ما ملخصه : " وهذا - أى رد يعقوب عليهم - ميل منه - عليه السلام - إلى الإذن والإِرسال لما رأى فيه من المصلحة ، وفيه أيضاً من التوكل على الله - تعالى ما لا يخفى ، ولذا روى أن الله - تعالى - قال : " وعزتى وجلالى لأردهما عليك إذ توكلت على . . . " وقرأ أكثر السبعة ( فالله خير حفظا . . . ) وقرأ حمزة والكسائى وحفص ( حَافِظاً . . . ) وعلى القراءتين فهو منصوب على أنه تمييز . . . "

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ۖ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي ۖ هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ۖ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ۖ ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ

📘 ثم اتجه الأبناء بعد هذه المحاورة مع أبيهم إلى أمتعتهم ليفتحوها ويخرجوا ما بها من زاد حضروا به من مصر ، فكانت المفاجأة التى حكاها القرآن فى قوله :( وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ . . . )أى : وحين فتحوا أوعيتهم التى بداخلها الطعام الذى اشتروهن من عزيز مصر . فوجئوا بوجود أثمان هذا الطعام قد رد إليهم معه ، ولم يأخذها عزيز مصر ، بل دسها داخل أوعيتهم دون أن يشعروا ، فدهشوا وقالوا لأبيهم متعجبين :( ياأبانا مَا نَبْغِي هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ) أى : يا أبانا ماذا نطلب من الإِحسان والكرم أكثر من هذا الذى فعله معنا عزيز مصر؟ لقد أعطانا الطعام الذى نريده ، ثم رد إلينا ثمنه الذى دفعناه له دون أن يخبرنا بذلك .فما فى قوله ( مَا نَبْغِي ) استفهامية ، والاستفهام للتعجب من كرم عزيز مصر ، وهى مفعول نبغى ، ونبغى من البُغَاء - بضم الباء - وهو الطلب .والمراد ببضاعتهم : الثمن الذى دفعوه للعزيز فى مقابل ما أخذوه منه من زاد .وجملة ( هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ) مستأنفة لتوضيح ما دل عليه الاستفهام من التعجب ، بسبب ما فعله معهم عزيز مصر من مروءة وسخاء .فكأنهم قالوا لأبيهم : كيف لا نعجب وندهش ، وهذه بضاعتنا ردت إلينا من حيث لا ندرى ومعها الأحمال التى اشتريناها من عزيز مصر لم ينقص منها شئ؟وقوله ( وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ) معطوف على مقدر يفهم من الكلام ، أى : ( هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ) فننتفع بها فى معاشنا ، ونمير أهلنا ، أى : نجلب لهم الميرة - بكسر الميم وسكون الياء - وهى الزاد الذى يؤتى به من مكان إلى آخر .( وَنَحْفَظُ أَخَانَا ) عند سفره معنا من أى مكروه .( وَنَزْدَادُ ) بوجوده معنا عند الدخول على عزيز مصر .( كَيْلَ بَعِيرٍ ) أى : ويعطينا العزيز حمل بعير من الزاد ، زيادة على هذه المرة نظراً لوجود أخينا معنا .ولعل قولهم هذا كان سببه أن يوسف - عليه السلام - كان يعطى من الطعام على عدد الرءوس ، حتى يستطيع أن يوفر القوت للجميع فى تلك السنوات الشداد .واسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - ( ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ ) يعود إلى الزاد الذى أحضروه من مصر أى : ذلك الطعام الذى أعطانا إياه عزيز مصر طعام يسير ، لا يكفينا إلا لمدة قليلة من الزمان ، ويجب أن نعود إلى مصر لنأتى بطعام آخر .وفى هذه الجمل المتعددة التى حكاها القرآن عنهم ، تحريض واضح منهم لأبيهم على أن يسمح لهم باصطحاب " بنيامين " معهم فى رحلتهم القادمة إلى مصرومن مظاهر هذا التحريض : مدحهم لعزيز مصر الذى رد لهم أثمان مشترياتهم ، وحاجتهم الملحة إلى استجلاب طعام جديد ، وتعهدهم بحفظ أخيهم وازدياد الأطعمة بسبب وجودهم معهم .

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ۖ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ

📘 ولكن يعقوب - عليه السلام - مع كل هذا التحريض والإِلحاح ، لم يستجب لهم إلا على كره منه ، واشترط لهذه الاستجابة ما حكاه القرآن فى قوله :( لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ) .والموثق : العهد الموثق باليمين ، وجمعه مواثيق .أى : قال يعقوب - عليه السلام - لهم : والله لن أرسل معكم " بنيامين " إلى مصر ، حتى تحلفوا لى بالله ، بأن تقولوا : والله لنأتينك به عند عودتنا ، ولن نتخلى عن ذلك ، ( إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ) أى : إلا أن نهلك جميعاً ، أو أن نغلب عليه بما هو فوق طاقتنا .يقولون : أحيط بفلان إذا هلك أو قارب الهلاك ، وأصله من إحاطة العدو بالشخص ، واستعمل فى الهلاك ، لأن من أحاط به العدو يهلك غالباً .وسمى الحلف بالله - تعالى - موثقاً ، لأنه مما تؤكد به العهود وتقوى وقد أذن الله - تعالى - بذلك عند وجود ما يقتضى الحلف به - سبحانه - .وقوله : ( لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ) جواب لقسم محذوف والاستثناء فى قوله ( إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ) مفرغ من أعم الأحوال ، والتقدير : لن أرسله معكم حتى تحلفوا بالله وتقولوا : والله لنأتينك به معنا عند عودتنا ، فى جميع الأحوال والظروف إلا فى حال هلاككم أو فى حال عجزكم التام عن مدافعة أمر حال بينكم وبين الإِتيان به معكم .وقوله ( فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ) أى : فلما أعطى الأبناء أباهم العهد الموثق باليمين بأن أقسموا له بأن يأتوا بأخيهم معهم عند عودتهم من مصر ." قال " لهم على سبيل التأكيد والحض على وجوب الوفاء : الله - تعالى - على ما نقول أنا وأنتم وكيل ، أى : مطلع ورقيب ، وسيجازى الأوفياء خيراً ، وسيجازى الناقضين لعهودهم بما يستحقو من عقاب .قال ابن كثير : " وإنما فعل ذلك ، لأنه لم يجد بداً من بعثهم لأجل الميرة التى لا غنى لهم عنها فبعثه معهم " .

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ

📘 ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما وصى به يعقوب أبناءه عند سفرهم فقال ( وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ . . . ) .أى : وقال يعقوب - الأب العطوف - لأبنائه وهو يودعهم : يا بنى إذا وصلتم إلى مصر ، فلا تدخلوا كلكم من باب واحد ، وأنتم أحد عشر رجلاً بل ادخلوا من أبوابها المتفرقة ، بحيث يدخل كل اثنين أو ثلاثة من باب .قالوا : وكانت أبواب مصر فى ذلك الوقت أربعة أبواب .وقد ذكر المفسرون أسباباً متعددة لوصية يعقوب هذه لأبنائه ، وأحسن هذه الأسباب ما ذكره الآلوسى فى قوله : نهاهم عن الدخول من باب واحد ، حذراً من إصابة العين ، أى من الحسد ، فإنهم كانوا ذوى جمال وشارة حسنة . . فكانوا مظنة لأن يعانوا - أى لأن يحسدوا - إذا ما - دخلوا كوكبة واحدة . . .ثم قال : والعين حق ، كما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصح أيضاً بزيادة " ولو كان شئ يسبق القدر سبقته العين " .وقد ورد أيضاً : " إن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر " .وقيل : إن السبب فى وصية يعقوب لأبنائه بهذه الوصية ، خوفه عليهم من أن يسترعى عددهم حراس مدينة مصر إذا ما دخلوا من باب واحد ، فيترامى فى أذهانهم أنهم جواسيس أو ما شابه ذلك ، فربما سجنوهم ، أو حالوا بينهم وبين الوصول إلى يوسف - عليه السلام - . . .وقوله ( وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ ) اعتراف منه - عليه السلام - بأن دخولهم من الأبواب المتفرقة ، لن يحول بينهم وبين ما قدره - تعالى - وأراده لهم ، وإنما هو أمرهم بذلك من باب الأخذ بالأسباب المشروعة .أى : وإنى بقولى هذا لكم ، لا أدفع عنكم شيئا قدره الله عليكم ، ولو كان هذا الشئ قليلا .( إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ ) أى : ما الحكم فى كل شئ إلى لله - تعالى - وحده لا ينازعه فى ذلك منازع . ولا يدافعه مدافع .( وعليه ) وحده ( توكلت ) فى كل أمورى .( وعليه ) وحده ( فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون ) أى المريدون للتوكل الحق ، والاعتماد الصدق الذى لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب التى شرعها الله وأمر بها .إذ أن كلا من التوكل والأخذ بالأسباب مطلوب من العبد ، إلا أن العاقل عندما يأخذ فى الأسباب يجزم بأن الحكم لله وحده فى كل الأمور ، وأن الأسباب ما هى إلا أمور عادية ، يوجد الله - تعالى - معها ما يريد إيجاده ، ويمنع ما يريد منعه ، فهو الفعال لما يريد .ويعقوب - عليه السلام - عندما أوصى أبناءه بهذه الوصية ، أرادبها تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه ، مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة تأدباً مع الله - تعالى - واضع الأسباب ومشرعها . . .

وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ۚ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

📘 ثم بين - سبحانه - أن الأبناء قد امتثلوا أمر أبيهم لهم فقال : ( وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ) .والمراد بالحاجة هنا : نصيحته لأبنائه بأن يدخلوا من أبواب متفرقة ، خوفاً عليهم من الحسد . ومعنى ( قضاها ) أظهرها ولم يستطع كتمانها يقال : قضى فلان حاجة لنفسه إذا أظهر ما أضمره فيها .أى : وحين دخل أبناء يعقوب من الأبواب المتفرقة التى أمرهم أبوهم بالدخول منها ، ( ما كان ) هذا الدخول ( يُغْنِي عَنْهُمْ ) أى يدفع عنهم من قدر ( الله مِن شَيْءٍ ) قدره عليهم ، ولكن الذى حمل يعقوب على أمرهم بذلك ، حاجة أى رغبة خطرت فى نفسه ( قضاها ) أى : أظهرها ووصاهم بها ولم يستطع إخفاءها لشدة حبه لهم مع اعتقاده بأن كل شئ بقضاء الله وقدره .وقوله - سبحانه - ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ) ثناء من الله - تعالى - على يعقوب بالعلم وحسن التدبير .أى : وإن يعقوب - عليه السلام - لذو علم عظيم ، للشئ الذى علمناه إياه عن طريق وحينا ، فهو لا ينسى منه شيئاً إلا ما شاء الله .وقوله ( ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ) أى : لا يعلمون ما يعلمه يعقوب - عليه السلام - من أن الأخذ بالأسباب لا يتنافى مع التوكل على الله - تعالى - أو : ولكن أكثر الناس لا يعلمون ما أعطاه الله - تعالى - لأنبيائه وأصفيائه من العلم والمعرفة وحسن التأتى للأمور .وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد فصلت الحديث عما دار بين إخوة يوسف وبين أبيهم فى شأن سفر أخيهم معهم . . . فماذا كان بعد ذلك؟

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ ۖ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

📘 لقد كان بعد ذلك أن سافر إخوة يوسف إلى مصر ، ومعهم " بنيامين " الشقيق الأصغر ليوسف ، والتقوا هناك بيوسف ، وتكشف هذا اللقاء عن أحداث مثيرة ، زاخرة بالانفعالات والمفاجآت والمحاورات . . . التى حكاها القرآن فى قوله - تعالى - :( وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ . . . ) .قوله - سبحانه - ( وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ . . . ) شروع فى بيان ما داربين يوسف - عليه السلام - وبين شقيقه " بنيامين " بعد أن حضر مع إخوته .وقوله ( آوى ) من الإِيواء بمعنى الضم . يقال : آوى فلان فلانا إذا ضمه إلى نفسه ، ويقال : تأوت الطير وتآوت ، إذا تضامت وتجمعت .وقوله ( فَلاَ تَبْتَئِسْ ) : افتعال من البؤس وهو الشدة والضر . يقال يَئِس - كسَمِع - فلان بؤساً وبئوساً ، إذا اشتد حزنه وهمه .والمعنى : وحين دخل إخوة يوسف عليه ، ما كان منه إلا أن ضم إليه شقيقه وقال له مطمئناً ومواسياً : إنى أنا أخوك الشقيق . فلا تحزن بسبب ما فعله إخوتنا معنا من الحسد والأذى ، فإن الله - تعالى - قد عوض صبرنا خيراً ، وأعطانا الكثير من خيره وإحسانه .قال الإِمام ابن كثير : يخبر الله - تعالى - عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه " بنيامين " وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته وأفاض عليهم الصلاة والإِحسان ، واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه وما جرى له وقال : ( فَلاَ تَبْتَئِسْ ) أى : لا تأسف على ما صنعوا بى ، وأمره بتمان هذا عنهم ، وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززاً مكرماً معظماً .

۞ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ

📘 ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك حالة إخوة يوسف وهم يتآمرون عليه ، وحالتهم وهم يجادلون أباهم فى شأنه . وحالتهم وهم ينفذون مؤامراتهم المنكرة وحالتهم بعد أن نفذوهاوعادوا إلى أبيهم ليلا يتباكون فقال - تعالى - :( لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ . . . ) .قوله - سبحانه - ( لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ) شروع فى حكاية قصة يوسف مع إخوته ، بعد أن بين - سبحانه - صفة القرآن الكريم ، وبعد أن أخبر عما رآه يوسف فى منامه ، وما قاله أبوه له .وإخوة يوسف هم : رأو بين ، وشمعون ، ولاوى ، ويهوذا ، ويساكر ، وزبولون ، ودان ، ونفتالى ، وجاد ، وأشير ، وبينامين .والآيات : جمع آية والمراد بها هنا العبر والعظات والدلائل الدالة على قدرة الله - تعالى - ووجوب إخلاص العبادة له .والمعنى : لقد كان فى قصة يوسف مع إخوته عبر وعظات وعظيمة ، ودلائل تدل على قدرة الله القاهرة ، وحكمته الباهرة ، وعلى ما للصبر وحسن الطوية من عواقب الخير والنصر ، وعلى ما للحسد والبغى من شرور وخذلان .وقوله : " للسائلين " أى : لمن يتوقع منهم السؤال ، بقصد الانتفاع بما ساقه القرآن الكريم من مواعظ وأحكام .أى : لقد كان فيما حدث بين يوسف وإخوته ، آيات عظيمة ، لكل من سأل عن قصتهم ، وفتح قلبه للانتفاع بما فيها من حكم وأحكام ، تشهد بصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه .وهذا الافتتاح لتلك القصة ، كفيل بتحريك الانتباه لما سيلقى بعد ذلك منها ، ومن تفصيل لأحداثها ، وبيان لما جرى فيها .

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ

📘 ثم بين - سبحانه - ما فعله يوسف - عليه السلام - مع إخوته ، لكى يبقى أخاه معه فلا يسافر معهم عند رحيلهم فقال : ( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ . . . ) والجهاز كما سبق أن بينا : ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع . .والسقاية : إناء كان الملك يشرب فيه ، وعادة ما يكون من معدن نفيس ولقد كان يوسف - عليه السلام - يكتال به فى ذلك الوقت نظراً لقلة الطعام وندرته .وهذه السقاية هى التى أطلق عليها القرآن بعد ذلك لفظ الصواع أى :وحين أعطى يوسف إخوته ما هم فى حاجة إليه من زاد وطعام ، أوعز إلى بعض فتيانه أن يدسوا الصواع فى متاع أخيه " بنيامين " دون أن يشعر بهم أحد . .وقوله ( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) بينا لما قاله بعض أعوان يوسف لإِخوته عندما تهيئوا للسفر ، وأوشكوا على الرحيل .والمراد بالمؤذن هنا : المنادى بصوت مرتفع ليعلم الناس ما يريد إعلامهم به . والمراد بالعير هنا : أصحابها . والأصل فيها أنها اسم للإِبل التى تحمل الطعام وقيل العير تطلق فى الأصل على قافلة الحمير ، ثم تجوز فيها فأطلقت على كل قافلة تحمل الزاد وألوان التجارة .أى : ثم نادى مناد على إخوة يوسف - عليه السلام - وهم يتجهزون للسفر ، أو وهم منطلقون إلى بلادهم بقوله : يا أصحاب هذه القافلة حتى يفصل فى شأنكم فأنتم متهمون بالسرقة .قال الآلوسى ما ملخصه : " والذى يظهر أن ما فعله يوسف ، من جعله السقاية فى رحل أخيه . ومن اتهامه لإِخواته بالسرقة . . إنما كان بوحى من الله - تعالى - لما علم - سبحانه - فى ذلك من الصلاح ، ولما أراد من امتحانهم بذلك . ويؤيده قوله - تعالى - : ( كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ ) .

قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ

📘 ثم بين - سبحانه - ما قاله إخوة يوسف بعد أن سمعوا المؤذن يستوقفهم ويتهمهم بالسرقة فقال - تعالى - ( وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ ) .ثم بين - سبحانه - ما قاله إخوة يوسف بعد ان سمعوا المؤذن يستوقفهم ويتهمهم بالسرقة فقال - تعالى - ( وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ ) .وتفقدون : من الفقد ، وهوغيبة الشئ عن الحس بحيث لا يعرف مكانه .أى : قال إخوة يوسف بدهشة وفزع لمن ناداهم وأخبرهم بأنهم سارقون ، قالوا لهم : ماذا تفقدون - أيها الناس - من أشياء حتى اتهتمونا بأننا سارقون؟!!!

قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ

📘 وهنا رد عليهم المؤذن ومن معه من حراس : ( قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك ) أى : صاعه الذى يشرب فيه ، ويكتال به للممتارين .( وَلِمَن جَآءَ بِهِ ) أى بهذا الصاع ، أو دل على سارقه .( حِمْلُ بَعِيرٍ ) من الطعام زيادة على حقه كمكافأة له .( وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ) أى : وأنا بهذا الحمل كفيل بأن أدفعه لمن جاءنا بصواع الملك .ويبدو أن القائل لهذا القول هو المؤذن السابق ، ولعله قد قال ذلك بتوجيه من يوسف - عليه السلام - .

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ

📘 وهنا نجدة إخوة يوسف يردون علهيم رداً يدل على استنكارهم لهذه التهمة وعلى تأكدهم من براءتهم فيقولون : ( قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ) .أى : قال إخوة يوسف للمنادى ومن معه الذين اتهموهم بالسرقة : تالله يا قوم ، لقد علمتم من حالنا وسلوكنا وأخلاقنا ، أننا ما جئنا إلى بلادكم ، لكى نفسد فيها أو نرتكب ما لا يليق ، وما كنا فى يوم من الأيام ونحن فى أرضكم لنرتكب هذه الجريمة ، لأنها تضرنا ولا تنفعنا ، حيث إننا فى حاجة إلى التردد على بلادكم لجلب الطعام ، والسرقة تحول بيننا وبين ذلك ، لأنكم بسببها ستمنعوننا من دخول أرضكم ، وهذه خسارة عظيمة بالنسبة لنا .

قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ

📘 وهنا يرد عليهم المنادى وأعوانه بقولهم : ( قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ ) .أى : قال المنادى وأعوانه لإِخوة يوسف الذين نفوا عن أنفسهم تهمة السرقة نفياً تاماً .إذاً فما جزاء وعقاب هذا السارق لصواع الملك فى شريعتكم ، إن وجدنا هذا الصواع فى حوزتكم ، وكنتم كاذبين فى دعواكم أنكم ما كنتم سارقين .

قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ

📘 فرد عليهم إخوة يوسف ببيان حكم هذا السارق فى شريعتهم بقولهم : ( قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كذلك نَجْزِي الظالمين ) .والمراد بالجزاء : العقاب الذى يعاقب به السارق فى شريعتهم ، والضمير فى قوله ( جزاءه ) يعود إلى السارق .أى : قال إخوة يوسف : جزاء السارق الذى يوجد صواع المكل فى رحله ومتاعه أن يسترق لمدة سنة ، هذا هو جزاؤه فى شريعتنا .قال الشوكانى ما ملخصه : وقوله : ( جزاؤه ) مبتدأ ، وقوله ( مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ) خبر المبتدأ .والتقدير : جزاء السرقة للصواع أخذ من وجد فى رحله - أى استرقاقه لمدة سنة - وتكون جملة ( فَهُوَ جَزَاؤُهُ ) لتأكيد الجملة الأولى وتقريرها . قال الزجاج وقوله ( فَهُوَ جَزَاؤُهُ ) زيادة فى البيان . " أى : جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غيره " .وقالوا ( جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ) ولم يقولوا جزاء السارق أو جزاء سرقته ، للإِشارة إلى كمال نزاهتهم ، وبراءة ساحتهم من السرقة ، حتى لكأن ألسنتهم لا تطاوعهم بأن ينطقو بها فى هذا المقام .وقوله : ( كذلك نَجْزِي الظالمين ) مؤكد لما قبله ، أى مثل هذا الجزاء العادل ، وهو الاسترقاق لمدة سنة ، نجازى الظالمين الذين يعتدون على أموال غيرهم .

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ

📘 وقوله - سبحانه - ( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ ) معطوف على كلام محذوف يفهم من المقام .والتقدير : وبعد هذه المحاورة التى دارت بين إخوة يوسف وبين الذين اتهموهم بالسرقة أخبر الإخوة بتفتيش أمتعتهم للبحث عن الصواع بداخلها ." فبدأ " المؤذن بتفتيش أوعيتهم ، قبل أن يفتش وعاء " بنيامين " فلم يجد شيئاً بداخل أوعيتهم .فلما وصل إلى وعاء " بنيامين " وقام بتفتيشه وجد السقاية بداخله ، فاستخرجها منه على مشهد منهم جميعاً .ويبدو أن هذا الحوار من أوله كان بمشهد ومرأى من يوسف - عليه السلام - وكان أيضاً بتدبير وتوجيه منه للمؤذن ومن معه ، فهو الذى أمر المؤذن بأن ينادى ( أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) وهو الذى أشار عليه بأن يسألهم عن حكم السارق فى شريعتهم ، وهو الذى أمره بأن يبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل أن يفتش وعاء شقيقه " بنيامين " فدعا للتهمة ، ونفيا للشبهة . . .روى أنه لما بلغت النوبة إلى وعاء " بنيامين " لتفتيشه قال يوسف - عليه السلام - : ما أظن هذا أخذ شيئاً؟ فقالوا : " والله لا تتركه حتى تنظر فى رحله ، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا " .ويطوى القرآن ما اعترى إخوة يوسف من دهشه وخزى ، بعد أن وجدت السقاية فى رحل " بنيامين " وبعد أن أقسموا بالله على براءتهم من تهمة السرقة . . يطوى القرآن كل ذلك ، ليترك للعقول أن تتصوره . . .ثم يعقب على ما حدث ببيان الحكمة التى من أجلها ألهم الله - تعالى - يوسف أن يفعل ما فعل من دس السقاية فى رحل أخيه ، ومن سؤال إخوته عن جزاء السارق فى شريعتهم فيقول ( كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله .. . )و " كدنا " من الكيد وأصله الاحتيال والمكر ، وهوصرف غيرك عما يريده بحيله ، وهو مذموم إن تحرى به الفاعل الشر والقبيح ، ومحمود إن تحرى به الفاعل الخير والجميل .والمراد به هنا : النوع المحمود ، واللام فى " ليوسف " للتعليل .والمراد بدين الملك : شريعته التى يسير عليها فى الحكم بين الناس .والمعنى : مثل هذا التدبير الحكيم دبرنا من أجل يوسف ما يوصله إلى غرضه ومقصده ، وهو احتجاز أخيه بنيامين معه ، بأن ألهمناه بأن يضع السقاية فى رحل أخيه ، وبأن يسأل إخوته عن حكم السارق فى شريعتهم . . وما كان يوسف ليستطيع أن يحتجز أخاه معه ، لو نفذ شريعة ملك مصر ، لأن شريعته لا تجيز استرقاق السارق سنة كما هو الحال فى شريعة يعقوب ، وإنما تعاقب السارق بضربه وتغريمه قيمة ما سرقه .وما كان يوسف ليفعل كل ذلك التدبير الحكيم فى حال من الأحوال ، إلا فى حال مشيئة الله ومعونته وإذنه بذلك ، فهو - سبحانه - الذى ألهمه أن دس السقاية فى رحل أخيه ، وهو - سبحانه - الذى ألهمه أن يسأل إخوته عن عقوبة السارق فى شريعتهم حتى يطبقها على من يوجد صواع الملك فى رحله منهم .والجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر فضل الله - تعالى - على يوسف حيث ألهمه ما يوصله إلى مقصوده بأحكم أسلوب .قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : ( كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ ) أى : مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الإِخوة إلى الإِفتاء المذكور . . . دبرنا وصنفنا من أجل يوسف ما يحصل به غرضه . . .وقوله ( مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك ) أى فى حكمه وقضائه والكلام استئناف وتعليل لذلك الكيد ، كأنه قيل : لماذا فعل؟ فقيل : لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده فى دين الملك فى أمر السارق إلا بذلك الكيد ، لأن جزاء السارق فى دينه أن يضاعف عليه الغرم . . . دون أن يسترق كما هو الحال فى شريعة يعقوب .وقوله ( إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ) أى : لم يكن يوسف ليتمكن من أخذ أخيه فى حال نم الأحوال ، إلا فى حال مشيئته - تعالى - التى هى عبارة عن ذلك الكيد المذكور . . .قالوا : وفى الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاص ثابتاً .وقوله - سبحانه - ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) استئناف لبيان قدرة الله - تعالى - وسعة رحمته وعطائه .أى : نرفع من نشاء رفعه من عبادنا إلى درحات عالية من العلوم والمعارف والعطايا قدرة الله - تعالى - وسعة رحمته وعطائه .أى : نرفع من نشاء رفعه من عبادنا إلى درجات عالية من العلوم والمعارف والعطايا والمواهب .. كما رفعنا درجات يوسف - عليه السلام - .( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ ) من أولئك المرفوعين ( عليم ) يزيد عنهم فى علمهم وفى مكانتهم عند الله - تعالى - فهو - سبحانه - العليم بأحوال عباده ، وبمنازلهم عنده ، وبأعلاهم درجة ومكانة .وقال - سبحانه - ( نرفع ) بصيغة الاستقبال وللأشعار بأن ذلك سنة من سننه الإِلهية التى لا تتخلف ولا تتبدل ، وأن عطاءه - سبحانه - لايناله إلا الذين تشملهم إرادته ومشيئته كما تقتضيه حكمته .وجاءت كلمة ( درجات ) بالتنكير ، للإِشارة إلى عظمها وكثرتها .

۞ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ۚ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ۚ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا ۖ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ

📘 ثم حكى - سبحانه - ما قاله إخوة يوسف فى أعقاب ثبوت تهمة السرقة على أخيه " بنيامين " فقال - تعالى - ( قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ . . . )أى : قال إخوة يوسف - عليه السلام - بعد هذا الموقف المحرج لهم . إن يسرق بنيامين هذا الصواع الخاص بالملك فقد سرق أخ له من قبل - وهو يوسف - ما يشبه ذلك .وقولهم هذا يدل على أن صنيعهم بيوسف وأخيه ما زال متمكناً من نفوسهم .وقد ذكر المفسرون هنا روايات متعددة فى مرادهم بقولهم هذا ، ومن بين هذه الروايات ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فى الآية : " سرق يوسف - عليه السلام - صنماً لجده وكان هذا الصنم من ذهب وفضه ، فكسره وألقاه فى الطريق ، فعير إخوته بذلك " .وقوله ( فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ) بيان لموقفه من مقالتهم ، والضمير فى ( فأسرها ) يعود إلى تلك المقالة التى قالوها .أى : سمع يوسف - عليه السلام - ما قاله إخوته فى حقه وفى حق شقيقه فساءه ذلك ، ولكنه كظم غيظه ، ولم يظهر لهم تأثره مما قالوه وإنما رد عليهم بقوله : ( قَالَ أَنْتُمْ ) أيها الإخوة ( شَرٌّ مَّكَاناً ) أى : موضعاً ومنزلاً ممن نسبتموه إلى السرقة وهو برئ ، لأنكم أنتم الذين كذبتم على أبيكم وخدعتموه ، وقلتم له بعد أن ألقيتم أخاكم فى الجب ، لقد أكله الذئب .( والله ) - تعالى - ( أَعْلَمْ ) مننى ومنكم ( بِمَا تَصِفُونَ ) به غيركم من الأوصاف التى يخالفها الحق ، ولا يؤيدها الواقع .

قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ

📘 ثم حكى - سبحانه - ما قالوا ليوسف على سبيل الرجاء والاستعطاف لكى يطلق لهم أخاهم حتى يعود معهم إلى أبيهم فقالك ( قَالُواْ ياأيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين ) .أى : قال إخوة يوسف له على سبيل الاستعطاف : ( ياأيها العزيز ) الذى أكرمنا وأحسن إلينا ( إن ) أخانا الذى أخذته على سبيل الاسترقاق لمدة سنة ، قد ترك من خلفه فى بلادنا ( أَباً شَيْخاً كَبِيراً ) متقدماً فى السن ، وهذا الأب يحب هذا الابن حباً جماً فإذا كان ولا بد من أن تأخذ واحدا على سبيل الاسترقاق بسبب هذه السرقة ( فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ) حتى لا نفجع أبانا فيه .وإننا ما طلبنا منك هذا الطلب ، إلا لأننا ( نَرَاكَ مِنَ المحسنين ) إلينا ، المكرمين لنا ، فسر على طريق هذا الإِحسان والإكرام ، وأطلق سراح أخينا " بنيامين " ليسافر معنا .

قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ

📘 ولكن هذا الرجاء والتلطف والاستعطاف منهم يوسف ، لم ينفعهم شيئاً ، فقد رد عليهم فى حزم وحسم بقوله : ( قَالَ مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ . . ) و ( معاذ ) منصوب بفعل محذوف .أى : قال يوسف لهم : نعوذ بالله - تعالى - معاذا ، من أن نأخذ فى جريمة السرقة إلا الشخص الذى وجدثنا صواع الملك عنده وهو " بنيامين "وأنتم الذين أفتيتم بأن السارق فى شريعتكم عقوبته استرقاقه لمدة سنة ، فنحن نسير فى هذا الحكم تبعاً لشريعتكم .( إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ ) إذا أخذنا شخصاً آخر سوى الذى وجدنا متاعنا عنده ، والظلم تأباه شريعتنا كما تأباه شريعتكم ، فاتركوا الجدال فى هذا الأمر الذى لا ينفع معه الجدال ، لأننا لا نريد أن نكون ظالمين .وبهذا الرد الحاسم قطع يوسف حبال آمال إخوته فى العفو عن بنيامين أو فى أخذ أحدهم مكانه ، فانسحبوا من أمامه تعلوهم الكآبة ، وطفقوا يفكرون فى مصيرهم وفى موقفهم من أبيهم عند العودة إليه .

إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

📘 وقوله - سبحانه - : ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ . . ) .بيان لما قاله إخوة يوسف فيما بينهم ، قبل أن ينفذوا جريمتهم .و " إذ " ظرف متعلق بالفعل " كان " فى قوله - سبحانه - قبل ذلك : ( لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ . . ) .واللام فى قوله ( ليوسف ) لتأكيد أن زيادة محبة أبيهم ليوسف وأخيه ، أمر ثابت ، لا يقبل التردد أو التشكك .والمراد بأخيه : أخوه من أبيه وأمه وهو " بنيامين " وكان أصغر من يوسف - عليه السلام - أما بقيتهم فكانوا إخوة له من أبيه فقط .ولم يذكروه باسمه ، للاشعار بأن محبة يعقوب له ، من أسبابها كونه شقيقا ليوسف ، ولذا كان حسدهم ليوسف أشد .وجملة " نحن عصبة " حالية . والعصبة كلمة تطلق على ما بين العشرة إلى الأربعين من الرجال ، وهى مأخوذة من العصب بمعنى الشد ، لأن كلا من أفرادها يشد الآخر ويقويه ويعضده ، أو لأن الأمور تعصب بهم . أى تشتد وتقوى .أى : قال إخوة يوسف وهم يتشاورون فى المكر به : ليوسف وأخوه " بنيامين " أحب إلى قلب أبينا منا ، مع أننا نحن جماعة من الرجال الأقوياء الذين عندهم القدرة على خدمته ومنفعته والدفاع عنه دون يوسف وأخيه .وقولهم - كما حكى القرآن عنهم - : ( إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) تذييل قصدوا به درء الخطأ عن أنفسهم فيما سيفعلونه بيوسف وإلقائه على أبيه الذى فرق بينهم - فى زعمهم - فى المعاملة .والمراد بالضلال هنا : عدم وضع الأمور المتعلقة بالأبناء فى موضعها الصحيح ، وليس المراد به الضلال فى العقيدة والدين .أى : إن أبانا لفى خطأ ظاهر ، حيث فضل فى المحبة صبيين صغيرين على مجموعة من الرجال الأشداء النافعين له القادرين على خدمته .قال القرطبى : لم يريدوا بقولهم ( إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) الضلال فى الدين إذلو أرادواه لكانوا كفارا ، بل أرادوا : إن أبانا لفى ذهاب عن وجه التدبير فى إيثاره اثنين على عشرة ، مع استوائهم فى الانتساب إليه .وهذا الحكم منهم على أبيهم ليس فى محله ، لأن يعقوب - عليه السلام - كان عنده من أسباب التفضيل ليوسف عليهم ما ليس عندهم .قال الآلوسى ما ملخصه : يروى أن يعقوب - عليه السلام - كان يوسف أحب إليه لما يرى فيه من المناقب الحميدة ، فلام رأى الرؤيا تضاعفت له المحبة .وقال بعضهم : إن زيادة حبه ليوسف وأخيه ، صغرهما ، وموت أمهما ، وقد قيل لإِحدى الأمهات : أى بنيك أحب إليك؟ قالت : الصغير حتى يكبر ، والغائب حتى يقدم ، والمريض حتى يشفى .ولا لوم على الوالد فى تفضيله بعض ولده على بعض فى المحبة لمثل ذلك وقد صرح غير واحد أن المحبة ليست مما يدخل تحت وسع البشر . .

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ۖ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ۖ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ

📘 وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال : ( فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ . . . ) .وقوله ( استيأسوا ) يئسوا يأساً تاماً فالسين والتاء للمبالغة .و ( خلصوا ) من الخلوص بمعنى الانفراد .و ( نجيا ) حال من فاعل خلصوا . وهو مصدر أطلق على المتناجين فى السر على سبيل المبالغة .والفاء فى قوله ( فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ . . . ) معطوفة على محذوف يفهم من الكلام .والتقدير : لقد بذل إخوة يوسف أقصى جهودهم معه ليطلق لهم سراح أخيهم بنيامين ، فلما يئسوا يأساً تاماً من الوصول إلى مطلوبهم ، انفردوا عن الناس ليتشاوروا فيما يفعلونه ، وفيما سيقولونه لأبيهم عندما يعودون إليه ولا يجد معهم " بنيامين " .هذه الجملة الكريمة وهى قوله - تعالى - ( فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً ) من أبلغ الجمل التى اشتمل عليها القرآن الكريم ، ومن العلماء الذين أشاروا إلى ذلك الإِمام الثعالبى فى كتاب " الإيجاز والإعجاز " فقد قال : من أراد أن يعرف جوامع الكلم ، ويتنبه لفضل الاختصار ويحيط ببلاغة الإِيجاز ، ويفطن لكفاية الإِيجاز ، فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام .ثم قال : فمن ذلك قوله - تعالى - فى إخوة يوسف ( فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً ) وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس ، وتقليبهم الآراء ظهراً لبطن ، وأخذهم فى تزوير ما يلقون به أباهم عند عودتهم إليه ، وما يوردون عليه من ذكر الحادث .فتضمنت تلك الكلمات القصيرة ، معانى القصة الطويلة .وقوله : ( قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ . . . ) إلخ بيان لما قاله لهم أحدهم خلال تناجيهم مع بعهضم فى عزلة عن الناس .ولم يذكر القرآن اسم كبيرهم ، لأنه لا يتعلق بذكره غرض منهم ، وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد به " روبيل " لأنه أسنهم ، وذكر بعضهم أنه " يهوذا " لأنه كبيرهم فى العقل . .أى : وحين اختلى إخوة يوسف بعضهم مع بعض لينظروا فى أمرهم بعد أن احتجز عزيز مصر أخاهم بنيامين ، قال لهم كبيرهم :( أَلَمْ تعلموا ) وأنتم تريدون الرجعو إلى أبيكم وليسم معكم " بنيامين " .( أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله ) عندما أرسله معكم ، بأن تحفظوا عليه ، وأن لا تعودوا إليه بدونه إلا أن يحاط بكم .وألم تعلموا كذلك أنكم فى الماضى قد فرطتم وقصرتم فى شأن يوسف ، حيث عاهدتم أباكم على حفظه ، ثم ألقيتم به فى الجب .والاستفهام فى قوله : ( أَلَمْ تعلموا . . . ) للتقرير ، أى : لقد علمتم علما يقينا بعهد أبيكم عليكم بشأن بنيامين ، وعلمت علما يقينا بخيانتكم لعهد أبيكم فى شأن يوسف ، فبأى وجه ستعودون إلى أبيكم وليس معكم أخوكم بنيامين؟قال الشوكانى : قوله : ( أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله ) أى عهدا من الله - تعالى - بحفظ ابنه ورده إليه . ومعنى كونه من الله : أنه بإذنه .وقوله ( وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ ) معطوف على ما قبله . والتقدير : ألم تعلموا أن أباكم . . . وتعلموا تفريطكم فى يوسف ، فقوله ( وَمِن قَبْلُ ) متعلق بتعلموا .أى : تعلموا تفريطكم فى يوسف من قبل . على أن ما مصدرية .وقوله ( فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي . . . ) حكاية للقرار الذى اتخذه كبيرهم بالنسبة لنفسه .أى : قال كبير إخوة يوسف لهم : لقد علمتم ما سبق أن قلته لكم ، فانظروا فى أمركم ، أما أنا ( فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض ) أى : فلن أفارق أرض مصر ( حتى يَأْذَنَ لي ) بمفارقتها ، لأنه قد أخذ علينا العهد الذى تعلمونه بشأن أخى بنيامين ( أَوْ يَحْكُمَ الله لِي . . ) حكاية للقرار الذى اتخذه كبيرهم بالنسبة لنفسه .أى : قال كبير إخوة يوسف لهم : لقد علمتم ما سبق أن قلته لكم ، فانظروا فى أمركم ، أما أنا ( فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض ) أى : فلن أفارق مصر ( حتى يَأْذَنَ لي أبي ) بمفارقتها ، لأنه قد أخذ علينا العهد الذى تعلمونه بشأن أخى بنيامين . ( أَوْ يَحْكُمَ الله لِي ) بالخروج منها وبمفارقتها على وجه لا يؤدى إلى نقض الميقا مع أبى ( وهو ) - سبحانه - ( خَيْرُ الحاكمين ) لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل .

ارْجِعُوا إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ

📘 ثم واصل كبيرهم حديثه معهم فقال : ( ارجعوا ) يا إخوتى ( إلى أَبِيكُمْ ) يعقوب ( فَقُولُواْ ) له برفق وتلطف .( ياأبانا إِنَّ ابنك ) بنيامين ( سرق ) صواع الملك ، ووجد الصواع فى رحله وقولا له أيضاً : إننا ( وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ) أى : وما شهدنا على أخينا بهذه الشهادة إلا على حسب علمنا ويقيننا بأنه سرق .( وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ) أى : وما كنا نعلم الغيب بأنه سيسرق صواع الملك ، عندما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا بأن نأتيك به معنا إلا أن يحاط بنا .

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ

📘 وقولوا كذلك على سبيل زيادة التأكيد ، إن كنت فى شك من قولنا هذا فاسأل ( القرية التي كُنَّا فِيهَا ) والمراد بالقرية أهلها .أى : فأرسل من تريد إرساله إلى أهل القرية التى حصلت فيها حادثة السرقة فإنهم سيذكرون لك تفاصيلها .قالوا : ومرادهم بالقرية مدينة مصر التى حدث فيها ما حدث ، وعبروا عنها بالقرية لأنهم يقصدون مكانا معيناً منها ، وهو الذى حصل فيه التفتيش لرحالهم ، والمراجعة بينهم وبين عزيز مصر ومعاونيه .وقوله : ( والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا ) معطوف على ما قبله .أى : اسأل أهل القرية التى كنا فيها ، واسأل ( العير ) أى : قوافل التجارة التى كنا فيها عند ذهابنا وإيابنا فإن أصحاب هذه القوافل يعلمون ما حدث من ابنك " بنيامين " .وقوله ( وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) أى : وإنا لصادقون فى كل ما أخبرناك به . فكن واثقاً من صدقنا .وقد ختم كبيرهم كلامه بهذه الجملة ، زيادة فى تأكيد صدقهم ، لأن ماضيهم معه يبعث على الريبة والشك ، فهم الذين قالوا له قبل ذلك فى شأن يوسف : ( أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ثم ألقوا به الجب ، ( وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ ) وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد صورت بأسلوب حافل بالإِثارة والمحاورة ، والأخذ والرد ، والترغيب والترهيب . . ما دار بين يوسف وإخوته عندما قدموا إليه للمرة الثانية ومعهم شقيقة " بنيامين " .فماذا كان بعد ذلك؟ لقد كان بعد ذلك أن عاد الإِخوة إلى أبيهم وتركوا بمصر كبيرهم وأخاهم بنيامين ، ويطوى القرآن الحكيم - على عادته فى هذه السورة الكريمة - أثر ذلك على قلب أبيهم المفجوع ، إلا أنه يسوق لنا رده عليهم ، الذى يدل على كمال إيمانه ، وسعة آماله فى رحمة الله - تعالى - فيقول :( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ . . . )

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

📘 أى : ( قال ) يعقوب لبنيه ، الذين حضروا إليه من رحلتهم ، فأخبروه بما هيج أحزانه . . .قال لهم : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) أى : ليس الأمر كما تدعون ، ولكن أنفسكم هى التى زينت لكم أمراً أنتم أردتموه ، فصبرى على ما قلتم صبر جميل ، أى لا جزع معه ، ولا شكوى إلا الله - تعالى - .قال ابن كثير : قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) .قال محمد بن إسحاق : لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما جرى ، اتهمهم ، وظن أن ما فعلوه ببنيامين يشبه ما فعلوه بيوسف فقال : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً . . . )وقال بعض الناس : لما كان صنيعهم هذا مرتبا على فعلهم الأول ، سحب حكم الأول عليه ، وصح قوله ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً . . . )والخلاصة أن الذى حمل يعقوب - عليه السلام - على هذا القول لهم ، المفيد لتشككه فى صدق ما أثبتوه لأنفسهم من البراءة ، هو ماضيهم معه ، فإنهم قد سبق لهم أن فجعوه فى يوسف بعد أن عاهدوه على المحافظة عليه .ولكن يعقوب هنا أضاف إلى هذه الجملة جملة أخرى تدل على قوة أمله فى رحمة الله ، وفى رجائه الذى لا يخيب فى أن يجمع شمله بأبنائه جميعاً فقال - عليه السلام - ( عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم ) .أى : عسى الله - تعالى - أن يجمعنى بأولادى جميعاً - يوسف وبنيامين وروبيل الذى تخلف عنهم فى مصر - إنه - سبحانه - هو العليم بحالى ، الحكيم فى كل ما يفعله ويقضى به .وهذا القول من يعقوب - عليه السلام - يدل دلالة واضحة على كمال إيمانه ، وحسن صلته بالله - تعالى - وقوة رجائه فى كرمه وعطفه ولطفه - سبحانه - .وكأنه بهذا القول يرى بنور الله الذى غرسه فى قلبه ، ما يراه غيره بحواسه وجوارحه .

وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ

📘 ثم يصور - سبحانه - ما اعترى يعقوب من أحزانه على يوسف ، جددها فراق بنيامين له فقال - تعالى - ( وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفى عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ ) .وقوله ( ياأسفى ) من الأسف وهو أشد الحزن والتحسر على ما فات من أحداث . يقال : أسف فلان على كذا يأسف أسفا ، إذا حزن حزناً شديداً .وألفه بدل من ياء المتكلم للتخفيف والأصل يا أسفى .وكظيم بمعنى مكظوم ، وهو الممتلئ بالحزن ولكنه يخفيه من الناس ولا يبديه لهم .ومنه قوله - تعالى - ( والكاظمين الغيظ ) أى : المخففين له ، مأخوذ من كظم فلان السقاء : إذا سده على ما بداخله .والمعنى : وبعد أن استمع يعقوب إلى ما قاله له أبناؤه ، ورد عليهم .. انتابته الأحزان والهموم ، وتجددت فى قلبه الشجون . . فتركهم واعتزل مجلسهم وقال :( ياأسفى عَلَى يُوسُفَ ) أى : يا حزنى الشديد على يوسف أقبل فهذا أوان إقبالك .( وابيضت ) عينا يعقوب من شدة الحزن على يوسف وأخيه حتى ضعف بصره ، حيث انقلب سواد عينيه بياضاً من كثرة البكاء .( فَهُوَ كَظِيمٌ ) أى : ممتلئ زنا على فراق يوسف له ، إلا أنه كاتم لهذا الحزن لا يبوح به لغيره من الناس .قالوا : وإنما تأسف على يوسف دون أخويه - بنيامين وروبيل - مع أن الرزء الأحدث أشد على النفس . . . لأن الرزء فى يوسف كان قاعدة مصيباته التى ترتبت عليها الرزايا والخطوب ولأن حبه ليوسف كان حباً خاصاً لا يؤثر فيه مرور الأعوام . . . ولأن من شأن المصيبة الجديدة أن تذكر بالمصيبة السابقة عليها ، وتهيج أحزانها ، وقد عبر عن هذا المعنى متمم ابن نويرة فى رثائه لأخيه مالك فقال :لقد لامنى عند القبور على البكا ... رفيقى لتذراف الدموع السوافكفقال أتبكى كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والد كادكفقلت له : إن الشجى يبعث الشجى ... فدعنى ، فهذا كله قبر مالكوقال صاحب الكشاف : " فإن قلت : كيف جاز لنبى الله يعقوب أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟ "قلت : الإِنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن .ولقد بكى النبى - صلى الله عليه وسلم - على ولده إبراهيم وقال : إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون .وإنما الجز المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ، ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب .وعن الحسن أنه بكى على ولده له ، فقيل له فى ذلك؟ فقال : " ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب "

قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ

📘 ثم يحكى القرآن ما قاله أبناء يعقوب له ، وقد رأوه على هذه الصورة من الهم والحزن فيقول : ( قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين ) .قال الشوكانى : قوله ( تفتأ ) أى : لا تفتأ ، فحذف حرف النفى لأمن اللبس . قال الكسائى : فتأت وفَيِئْتُ أفعل كذا : أى مازلت أفعل كذا .وقال الفراء : إن " لا " مضمرة ، أى لا تفتأ . . ومنه قول الشاعر :فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالىأى : " لا أبرح قاعدا . . . "و ( حَرَضاً ) مصدر حرض . كتعب - والحرض : الإِشراف على الهلاك من شدة الحزن أو المرض أو غيرهما .والمعنى : قال أبناء يعقوب له بعد أن سمعوه وهو يتحسر على فراق يوسف له : تالله - يا أبانا - ما تزال تذكر يوسف بهذا الحنين الجارف ، والحزن المضنى ، ( حتى تَكُونَ حَرَضاً ) أى : مشرفا على الموت لطول مرضك .( أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين ) المفارقين لهذه الدنيا .

قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

📘 وهنا يرد عليهم الأب الذى يشعر بغير ما يشعرون به من ألم وأمل . . . ( قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ )و ( البث ) ما ينزل بالإِنسان من مصائب يعظم حزن صاحبها بسببها . حتى أنه لا يستطيع إخفاء هذا الحزن ، وأصله التفريق وإثارة الشئ ومنه قولهم : بثت الريح التراب إذا فرقته .قالوا : والإِنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان حزناً ، وإذا لم يقدر على كتمه كان بثاً . . .والمعنى : قال يعقوب لأولاده الذن لاموه على شدة حزنه على يوسف : إنما أشكو ، ( بثى ) أى : همى الذى انطوى عليه صدريى ( إلى الله ) - تعالى - وحده ، لا إلى غيره ، فهو العليم بحالى ، وهو القادر على تفريج كربى ، فاتركونى وشأنى مع ربى وخالقى . فإنى ( وَأَعْلَمُ مِنَ الله ) أى : من لطفه وإحسانه وثوابه على الصبر على المصيبة ( مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) أنتم ، وإنى لأرجو أن يرحمنى وأن يلطف بى ، وأن يجمع شملى بمن فارقنى من أولادى ، فإن حسن ظنى به - سبحانه - عظيم .قال صاحب الظلال : " وفى هذه الكلمات - التى حكاها القرآن عن يعقوب - عليه السلام - يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية فى هذا القلب الموصول ، كما تتجلى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر ، ولألائها الباهر .إن هذا الواقع الظاهر الميئس من يوسف ، وهذا المدى الطويل الذى يقطع الرجاء من حياته فضلاً عن عودته إلى أبيه . . . إن هذا كله لا يؤثر شيئاً فى شعور الرجل الصالح بربه ، فهو يعلم من حقيقة ربه ومن شأنه ما لا يعلمه هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة . . .وهذه قيمة الإِيمان بالله . . .إن هذه الكلمات ( وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها ، وتعرض مذاقا يعرفه من ذاق مثله ، فيدرك ماذا تعنى هذه الكلمات فى نفس العبد الصالح يعقوب . . . والقلب الذى ذاق هذا المذاق ، لا تبليغ الشدائد منه - مهما - بلغت إلا أن يتعمق اللمس والمشاهدة والمذاق . . . "

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ

📘 ثم يمضى يعقوب - عليه السلام - فى رده على أولاده فيأمرهم أن يواصلوا بحثهم عن يوسف وأخيه ، وأن لا يقنطوا من رحمة الله فيقول : ( يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون ) .والتحسس : هو طلب الشئ بطريق الحواس بدقة وحكمة وصبر على البحث .أى : قال يعقوب لأبنائه : يا بنى ( اذهبوا ) إلى أرض مصر وإلى أى مكان تتوقعون فيه وجود يوسف وأخيه ( فتحسسوا ) أمرهما . وتخبروا خبرهما ، وتعرفوا نبأهما بدون كلل أو ملل .وفى التعبير بقوله ( فَتَحَسَّسُواْ ) إشارة إلى أمره لهم بالبحث الجاد الحكيم المتأنى ( وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله ) أى : ولا تقنطوا من فرج الله وسعة رحمته ، وأصل معنى الروح التنفس .يقال : أراح الإِنسان إذا تنفس ، ثم استعير لحلول الفرج .وكلمة ( روح ) - بفتح الراء - أدل على هذا المعنى ، لما فيها من ظل الاسترواح من الكرب الخالق بما تتنسمه الأرواح من رحمة الله .وقوله ( إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون ) تعليل لحضهم على التحسس أى : لا تقصروا فى البحث عن يوسف وأخيه ، ولا تقنطوا من رحمة الله ، فإنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الكافرون ، لعدم علمهم بالله - تعالى - وبصفاته وبعظيم قدرته ، وبواسع رحمته . . .أما المؤمنون فإنهم لا ييأسوا من فرج الله أبداً ، حتى ولو أحاطت بهم الكروب ، واشتدت عيهم المصائب .

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ

📘 واستجاب الأبناء لنصيحة أبيهم ، فأعدوا عدتهم للرحيل إلى مصر للمرة الثالثة ، ثم ساروا فى طريقهم حتى دخلوها ، والتقوا بعزيز مصر الذى احتجز أخاهم بنيامين ، وتحكى السورة الكريمة ما دار بينهم وبينه فتقول :( فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأيها العزيز . . . ) .قوله - تعالى - ( فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ . . . ) حكاية لما قاله إخوة يوسف له ، بعد أن امتثلوا أمر أبيهم ، فخجوا إلى مصر للمرة الثالثة ، ليتحسسوا من يوسف وأخيه ، وليشتروا من عزيزها ما هم فى حاجة إليه من طعام .والبضاعة : هى القطعة من المال ، يقصد بها شراء شئ .والمزجاة : هى القليلة الرديئة التى ينصرف عنها التجار إهمالاً لها .وقالوا : وكانت بضاعتهمدراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة - أى : بأقل قيمة - وقيل غير ذلك .وأصل الإِزجاء : السوق والدفع قليلاً قليلاً ، ومنه قوله - تعالى - ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً . . . ) أى : يرسله رويدا رويدا . . .وسميت البضاعة الرديئة القلية مزجاة ، لأنها ترد وتدفع ولا يقبلها التجار إلى بأبخس الأثمان .والمعنى : وقال إخوة يوسف له بأدب واستعطاف ، بعد أن دخلوا عليه للمرة الثالثة ( ياأيها العزيز ) أى : الملك صاحب الجاه والسلطان والسعة فى الرزق ، ( مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر ) أى : أصابنا وأصاب أهلنا معنا الفقر والجدب والهزل من شدة الجوع .( وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ ) أى : وجئنا معنا من بلادنا ببضاعة قليلة رديئة يردها وينصرف عنها كل من يراها من التجار ، إهمالاً لها ، واحتقارا لشأنها .وإنما قالوا له ذلك : استدراراً لعطفه ، وتحريكاً لمروءته وسخائه ، قبل أن يخبروه بمطلبهم الذى حكاه القرآن فى قوله :( فَأَوْفِ لَنَا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ . . . ) أى : هذا هو حالنا شرحناه لك ، وهو يدعو إلى الشفقة والرحمة ، ما دام أمرنا كذلك ، فأتمم لنا كيلنا ولا تنقص منه شيئا ، وتصدق علينا فوق حقنا بما أنت أهل له من كرم ورحمة ( إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين ) على غيرهم جزاء كريما حسنا .

قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ

📘 ويبدو أن يوسف - عليه السلام - قد تأثر بما أصابهم من ضر وضيق حال ، تأثراً جعله لا يستطيع أن يخفى حقيقته عنهم أكثر من ذلك ، فبادرهم بقوله : ( قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ) .أى : قال لهم يوسف - عليه السلام - على سبيل التعريض بهم ، والتذكير بأخطائهم : هل علمتم ما فعلتموه بيوسف وأخيه من أذى وعدوان عليهما ، وقت أن كنتم تجهلون سوء عاقبة هذا الأذى والعدوان .قالوا : وقوله هذا يدل على سمو أخلاقه حتى لكأنه يلتمس لهم العذر ، لأن ما فعلوه معه ومع أخيه كان فى وقت جهلهم وقصور عقولهم ، وعدم علمهم بقبح ما أقدموا عليه . . .وقيل : نفى عنهم العلم وأثبت لهم الجهل ، لأنهم لم يعملوا بمقتضى علمهم .والأول أولى وأقرب إلى ما يدل عليه سياق الآيات بعد ذلك ، من عفوه عنهم ، وطلب المغفرة لهم .

اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ

📘 ثم أخبر - سبحانه - عما اقترحوه للقضاء على يوسف فقال - تعالى - : ( اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ) .ولفظ " اطرحوه " مأخوذ من الطرح ، ومعناه رمى الشئ وإلقاؤه بعيداً ، ولفظ " أرضاً " منصوب على نزع الخافض ، والتنوين فيه للإِبهام . أى : أرضا مجهولة .والمعنى : لقد بالغ أبونا فى تفضيل يوسف وأخيه علينا ، مع أننا أولى بذلك منهما؛ وما دام هو مصراً على ذلك ، فالحل أن تقتلوا يوسف ، أو أن تلقوا به فى أرض بعيدة مجهولة حتى يموت فيها غريبا .قال الآلوسى : " وحاصل المعنى : اقتلوه أو غربوه ، فإن التغريب كالقتل فى حصول المقصود ، ولعمرى لقد ذكروا أمرين مرين ، فإن الغربة كربة اية كبرة ، ولله - تعالى - در القائل :حسنوا القول وقالوا غربة ... إنما الغربة للأحرار ذبحوالخلو : معناه الفراغ . يقال خلا المكان يخلو خلوا وخلاء ، إذا لم يكن به أحد .والمعنى : اقتلوا يوسف أو اقذفوا به فى أرض بعيدة مجهولة حتى يموت ، فإنكم إن فعلتم ذلك ، خلصت لكم محبة أبيكم دون أن يشارككم فيها أحد ، فيقبل عليكم بكليته ، ويكن كل توجهه إليكم وحدكم ، بعد أن كان كل توجهه إلى يوسف .قال صاحب الكشاف : ( يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ) أى : يقبل عليكم إقبالة واحدة ، لا يلتفت عنكم إلى غيركم والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها ، وينازعهم إياها ، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم ، لأن الرجل إذا أقبل على الشئ أقبل عليه بوجهه .. . "وقوله ( وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ) معطوف على جواب الأمر .أى : وتكونوا من بعد الفراغ من أمر يوسف بسبب قتله أو طرحه فى أرض بعيدة ، قوما صالحين فى دينكم ، بأن تتوبوا إلى الله بعد ذلك فيقبل الله توبتكم ، وصالحين فى دنياكم بعد أن خلت من المنغصات التى كان يثيرها وجود يوسف بينكم .وهكذا النفوس عندما تسيطر علها الأحقاد ، وتقوى فيها رذيلة الحسد ، تفقد تقديرها الصحيح للأمور ، وتحاول التخلص ممن يزاحمها بالقضاء عليه ، وتصور الصغائر فى صورة الكبائر ، والكبائر فى صورة الصغائر .فإخوة يوسف هنا ، يرون أن محبة أبيهم لأخيهم جرم عظيم ، يستحق إرهاق روح الأخ . وفى الوقت نفسه يرون أن هذا الإِزهاق للروح البريئة شئ هين ، فى الإِمكان أن يعودوا بعده قوما صالحين أمام خالقهم ، وأمام أبيهم ، وأمام أنفسهم .

قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ

📘 وهنا عود إلى الإِخوة صوابهم ، وتلوح لهم سمات أخيهم يوسف ، وفيقولون له فى دهشة وتعجب ( قالوا أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ ) ؟فرد عليهم بقوله ( قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ ) الذى تتحدثون عنه .والذى فعلتم معه ما فعلتم . . . ( وهذا أَخِي ) بنيامين الذى ألهمنى الله الفعل الذى عن طريقه احتجزته عندى ، ولم أرسله معكم . . .( قَدْ مَنَّ الله ) - تعالى - ( علينا ) حيث جمعنا بعد فراق طويل ، وبدل أحوالنا من عسر إلى يسر ومن ضيق إلى فرج . . .ثم علل ذلك بما حكاه القرآن عنه فى قوله ( إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين ) .أى : إن من شأن الإِنسان الذى يتقى الله - تعالى - ويصون نفسه عن كل ما لا يرضاه ، ويصبر على قضائه وقدره ، فإنه - تعالى - يرحمه برحمته ، ويكرمه بكرمه ، لأنه - سبحانه - لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وتلك سنته - سبحانه - التى لا تتخلف . . .

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ

📘 وهنا يجسد فى أذهان إخوة يوسف ما فعلوه معه فى الماضى ، فينتابهم الخزى والخجل ، حيث قابل إساءتهم إليه بالإِحسان عليهم ، فقالواله فى استعطاف وتذلل : ( قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) أى : نقسم بالله - تعالى - لقد اختارك الله - تعالى - لرسالته ، وفضلك علينا بالتقوى وبالصبر وبكل الصفات الكريمة .أما نحن فقد كنا خاطئين فيما فعلناه معك ، ومتعمدين لما ارتكبناه فى حقك من جرائم ، ولذلك أعزك الله - تعالى - وأذلنا ، وأغناك وأفقرنا ، ونرجو منك الصفح والعفو .

قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

📘 فرد عليهم يوسف - عليه السلام - بقوله : ( قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين ) .والتثريب : التعبير والتوبيخ والتأنيب . وأصله كما يقول الآلوسى : من الثرب ، وهو الشحم الرقيق فى الجوف وعلى الكرش . . . فاستعير للتأنيب الذى يمزق الأعراض ويذهب بهاء الوجه ، لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال ، كما أنه بالتأنيب واللوم تظهر العيوب ، فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال .أى : قال يوسف لإِخوته على سبيل الصفح والعفو يا إخوتى : لا لوم ولا تأنيب ولا تعيير عليكم اليوم ، فقد عقوت عما صدر منكم فى حقى وفى حق أخى من أخطاء وآثام وأرجو الله - تعالى - أن يغفر لكم ما فرط منكم من ذنوب وهو - سبحانه - أرحم الراحمين بعباده .وقوله ( لاَ تَثْرِيبَ ) اسم لا النافية للجنس ، و ( عَلَيْكُمُ ) متعلق بمحذوف خبر لا ، و ( اليوم ) متعلق بذلك الخبر المحذوف .أى : لا تقريع ولا تأنيب ثابت أو مستقر عليكم اليوم .وليس التقييد باليوم لإِفادة أن التقريع ثابت فى غيره ، بل المراد نفيه عنهمفى كل ما مضى من الزمان ، لأن الإِنسان إذا لم يوبخ صاحبه فى أول لقاء معه على أخطائه فلأن يترك ذلك بعد أول لقاء أولى .

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ

📘 ثم انتقل يوسف - عليه السلام - من الحديث عن الصفح عنهم إلى الحديث عن الصفح عنهم إلى الحديث عن أبيه الذى ابيضت عيناه عليه من الحزن فقال :( اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) .أى : اذهبوا يا إخوتى بقميصى هذا ( فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي ) الذى طال حزنه بسبب فراقى له ( يَأْتِ بَصِيراً ) أى يرتد إيله كامل بصره ، بعد أن ضعف من شدة الحزن .( وأتونى ) معه إلى هنا ومعكم أهلكم جميعاً من رجال ونساء وأطفال .وقول يوسف هذا إنا هو بوحى من الله - تعالى - فهو - سبحانه الذى ألهمه أن إلقاء قميصه على وجه أبيه يؤدى إلى ارتداد بصره إليه كاملا ، وهذا من باب خرق العادة بالنسبة لهذين النبيين الكريمين .

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ

📘 واستجاب الإِخوة لتوجيه يوسف ، فأخذوا قميصه وعادوا إلى أوطانهم ويصور القرآن ما حدث فيقول : ( وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ) .و ( فَصَلَتِ العير ) أى خرجت من مكان إلى مكان آخر . يقال : فصل فلان من بلده كذا فصولاً ، إذا جاوز حدودها إلى حدود بلدة أخرى .و ( تفندون ) من الفند وهو ضعف العقل بسبب المرض والتقدم فى السن .والمعنى : وحين غادرت الإِبل التى تحمل إخوة يوسف حدود مصر ، وأخذت طريقها إلى الأرض التى يسكنها يعقوب وبنوه ، قال يعقوب - عليه السلام - لمن كان جالساً معه من أهله وأقاربه ، استمعوا إلى ( إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) .أى : رائحته التى تدل عليه ، وتشير إلى قرب لقائى به .و ( لولا ) أن تنسبونى إلى الفند وضعف العقل لصدقتمونى فيما قلت ، أو لولا أن تنسبونى إلى ذلك لقلت لكم إنى أشعر أن لقائى بيوسف قد اقترب وقته وحان زمانه .فجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه .وقد أشم الله - تعالى - يعقوب - عليه السلام - ما عبق من القميص من رائحة يوسف من مسيرة أيام ، وهى معجزة ظاهرة له - عليه السلام - .وقال الإِمام مالك - رحمه الله - أوصل الله - ريح قميص يوسف ليعقوب ، كما أوصل عرش بلقيس إلى سليمان قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه .

قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ

📘 ولكن المحيطين بيعقوب الذين قال لهم هذا القول ، لم يشموا ما شمه ، ولم يجدوا ما وجده ، فردوا عليه بقولهم : ( قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم ) .قالوا له على سبيل التسلية : إنك يا يعقوب مازلت غارقاً فى خطئك القديم الذى لا تريد أن يفارقك . وهو حبك ليوسف وأملك فى لقائه والإِكثار من ذكره .

فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

📘 وتحقق ما وجده يعقوب من رائحة يوسف . . وحل أوان المفاجأة التى حكاها القرآن فى قوله ( فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) .أى : وحين أقترب أبناء يعقوب من دار أبيهم ، تقدم البشير الذى يحمل قميص يوسف إلى يعقوب ، فألقى القميص على وجهه فعاد إلى يعقوب بصره كأن لم يكن به ضعف أو مرض من قبل ذلك .وهذه معجزة أكرم الله - تعالى - بها نبيه يعقوب - عليه السلام - حيث رد إليه بصره بسبب إلقاء قميص يوسف على وجهه .وهنا قال يعقوب لأبنائه ولمن أنكر عليه قوله ( إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) ( أَلَمْ أَقُلْ ) قبل ذلك ( إني أَعْلَمُ مِنَ الله ) أى : من رحمته وفضله وإحسانه ( مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) أنتم .

قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ

📘 وهنا قال الأبناء لأبيهم فى تذلل واستعطاف : ( ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ ) .أى : تضرع إلى الله - تعالى - أن يغفر لنا ما فرط منا من ذنوب فى حقك وفى حق أخوينا يوسف وبنيامين .( إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) فى حقك وفى حق أخوينا ، ومن شأن الكريم أن يصفح ويعفو عمن اعترف له بالخطأ .

قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

📘 فكان رد أبيهم عليهم أن قال لهم : ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي ) أى : سوف أتضرع إلى ربى لكى يغفر لكم ذنوبكم .( إِنَّهُ ) - سبحانه - ( هُوَ الغفور ) أى الكثير المغفرة ( الرحيم ) أى : الكثير الرحمة لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من عباده .وهكذا صورت لنا السورة الكريمة ما دار بين يوسف وإخوته ، وبين يعقوب وبنيه فى هذا اللقاء المثير الحافل بالمفاجآت والبشارات .

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ

📘 ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد ، فقد كانت هناك مفاجآت وبشارات أخرى تحققت معها رؤيا يوسف وهو صغير ، كما تحقق معها تأويل يعقوب لها فقد هاجر يعقوب ببنيه وأهله إلى مصر للقاء ابنه يوسف ، وهناك اجتمع شملهم واستمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك فى نهاية القصة فيقول :( فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ . . . ) .وقوله - سبحانه - ( فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ . . . ) معطوف على كلام محذوف والتقدير :استجاب إخوة يوسف لقوله لهم : ( اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) فأتوا بأهلهم أجمعين ، حيث رحلوا جميعاً من بلادهم إلى مصر ومعهم أبوهم ، فلما وصلوا إليها ودخلوا على يوسف ، ضم إليه أبويه وعانقهما عناقاً حاراًَ .وقال للجميع ( دَخَلُواْ ) بلاد ( مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ ) من الجوع والخوف .وقد ذكر المفسرون هنا كلاماً يدل على أن يوسف - عليه السلام - وحاشيته ووجهاء مصر ، عندما بلغهم قدوم يعقوب بأسرته إلى مصر ، خرجوا جميعاً لاستقبالهم كما ذكروا أن المراد بأبويه : أبوه وخالته ، لأن أمه ماتت وهو صغير .إلا أن ابن كثير قال : " قال محمد بن إسحاق وابن جرير : كان أبوه وأمه يعيشان ، وأنه لم يقم دليل على موت أمه ، وظاهر القرآن يدل على حياتها " .ثم قال : " وهذا الذى ذكره ابن جرير ، هو الذى يدل عليه السياق " .والمراد بدخول مصر : الاستقرار بها ، والسكن فى ربوعها .قالوا : وكان عدد أفراد أسرة يعقوب الذين حضروا معه ليقيموا فى مصر ما بين الثمانين والتسعين .