🕋 تفسير سورة الأحقاف
(Al-Ahqaf) • المصدر: AR-TAFSIR-AL-WASIT
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ حم
📘 سورة " الأحقاف " من السور التى افتتحت ببعض الحروف الهجائية ، وأقرب الأقوال إلى الصواب فى معناها أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى افتتاح بعض السور ، للإِشعار بأن هذا القرآن الذى تحدى به الله - تعالى - المشركين ، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التى يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه فى الفصاحة والحكمة مرتبةً فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة .وفضلا عن كل ذلك فإن تصدير بعض السور ، يمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إى الإِنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم فى أول التلاوة بألفاظ غير مألوفة فى مجارى كلامهم .وذلك مما يلفت أنظارهم ، ليتبينوا ما يراد منها ، فيسمعوا حكما وحججا ومواعظ من شأنها أنها تهديهم إلى الحق ، لو كانوا يعقلون .وقد سبق أن بينا - بشئ من التفصيل - آراء العلماء فى هذه الحروف المقطعة .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
📘 ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى ، أن يذكرهم بإيمان العقلاء من أهل الكتاب بهذا الدين ، لعلهم عن طريق هذا التذكير يقلعون عن كفرهم وعنادهم فقال : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ ) .أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الكافرين : أخبرونى إن كان هذا الذى أوحاه الله - تعالى - إلىّ من قرآن ، هو من عنده - تعالى - وحده ، والحال أنكم كفرتم به ألستم فى هذه الحالة تكونون ظالمين لأنفسكم وللحق الذى جئتكم به من عند خالقكم؟ لا شك أنكم فى هذه الحالة تكونون ظالمين جاحدين .وقوله - سبحانه - : ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ واستكبرتم . . ) معطوف على ما قبله على سبيل التأكيد لظلمهم .أى : أخبرونى إن كان هذا القرآن من عند الله ، والحال أنكم قد كفرتم به ، مع أن شهادا من بنى إسرائيل الذين تثقون بشهادتهم ، قد شهد على مثل القرآن بالصدق . لاتفاق التوراة والقرآن على وحدانية الله - تعالى - وعلى أن البعث حق ، وعلى أن الجزاء حق . . فآمن هذا الشاهد بالقرآن وبمن جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستكبرتم أنتم عن الإِيمان . .ألستم فى هذا الحالة تكونون على رأس الظالمين الجاحدين لكل ما هو حق وصدق؟! فجواب الشرط فى الآية محذوف . أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا ومع ذلك لم تؤمنوا فقد كفرتم وظلمتم ، والله - تعالى - لا يهدى القوم الذين من شأنهم استحباب الظلم على العدل ، والعمى على الهدى .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) قال صاحب الكشاف - رحمه الله - : جواب الشرط محذوف وتقديره . إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ، ألستم ظالمين ، ويدل على هذا المحذوف قوله - تعالى - : ( إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ) .والشاهد من بنى إسرائيل : عبد الله بن سلام . . وفيه نزل : ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ . . . ) .والضمير للقرآن . أى : على مثله فى المعنى ، وهو ما فى التوارة من المعانى المطابقة لمعانى القرآن من التوحيد والوعيد وغير ذلك .وعلى رأى صاحب الكشاف تكون الآية مدنية فى سورة مكية ، لأن إيمان عبد الله بن سلام - رضى الله عنه - كان بالمدينة ولم يكن بمكة .ومن المفسرين من يرى أن الآية الكريمة نزلت فى شأن من كل من آمن من أهل الكتاب ، وأنها لم تنزل فى عبد الله بن سلام بصفة خاصة . .قال الإِمام ابن كثير : وهذا الشاهد اسم جنس ، يعم عبد الله بن سلام وغيره ، فإن هذه الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام ، وهذه كقوله - تعالى - : ( وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) قال مسروق والشعبى : ليس بعبد الله بن سلام . هذه الآية مكية ، وإسلامه كان بالمدينة . .وقال مالك عن ابى النضر ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشى على الأرض : " إنه من أهل الجنة " إلا لعبد الله بن سلام ، قال : وفيه نزلت : ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ ) . . وكذا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة .وعلى آية حال فالمقصود من الآية الكريمة إثبات أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما يبلغه عن ربه ، وأن العقلاء من أهل الكتاب قد شهدوا بذلك ، وآمنوا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - فكان من الواجب على المشكرين - لو كانوا يعقلون -أن يقعلوا عن عنادهم ، وأن يتبعوا الحق الذى جاءهم به النبى - صلى الله عليه وسلم - .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ۚ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ
📘 ثم حكى - سبحانه - بعض الأعذار الفاسدة ، التى اعتذر بها الكافرون عن عدم دخولهم فى الإِسلام ، ورد عليهم بما يكبتهم ، وبشر المؤمنين الصادقين بما يشرح صدورهم فقال : ( وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ . . . بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) .وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : ( وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ) روايات منها : أن مشركى مكة حين رأوا أن أكثر المؤمنين من الفقراء ، كعمار ، وبلال ، وعبد الله بن مسعود . قالوا ذلك .وسبب قولهم هذا ، اعتقادهم الباطل ، أنهم هم الذين لهم عند الله العظمة والجاه والسبق إلى كل مكرمة ، لأنهم هم أصحاب المال والسلطان ، أما أولئك الفقراء فلا خير فيهم ، ولا سبق لهم إلى خير .أى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا - على سبيل السخرية والاستخفاف بهم - ، لو كان هذا الذى أنتم عليه من الإِيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - حقا وخيرا ، لما سبقتمونا إليه ، ولما سبقنا إليه غيركم من المؤمنين لأننا نحن العظماء الأغنياء . . وأنتم الضعفاء الفقراء . .فهم - لانطماس بصائرهم وغرورهم - توهموا أنهم لغناهم وجاههم هم المستحقون للسبق إلى كل خير ، وأن غيرهم من الفقراء لا يعقل ما يعقلونه ، ولا يفهم ما يفهمونه . . ومن الآيات الكريمة التى تشبه هذه الآية قوله - تعالى - : ( وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ ) وقوله - سبحانه - : ( وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ ) تعجيب من غرروهم وعنادهم ، ورميهم بما هو برئ منه .و " إذ " ظرف لكلام محذوف دل عليه الكلام ، أى : وإذا لم يهتدوا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ، ظهر عنادهم واستكبارهم وقالوا هذا القرآن كذب قديم من اخبار السابقين ، نسبة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه .وشبيه بهذا الآية . قوله - تعالى - : ( وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ).
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ وَهَٰذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ
📘 ثم بين - سبحانه - أن هذا القرآن هو المهيمن على الكتب السماوية التى سبقته فقال - تعالى - : ( وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً . . ) .أى : ومن قبل هذا القرآن الذى أنزلناه على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - كان كتاب موسى وهو التوراة ( إِمَاماً ) يهتدى به فى الدين ( وَرَحْمَةً ) من الله - تعالى - لمن آمن به .وقوله : ( وَمِن قَبْلِهِ ) خبر مقدم ، و ( كِتَابُ موسى ) مبتدأ مؤخر ، وقوله : ( إِمَاماً وَرَحْمَةً ) حالان من ( كِتَابُ موسى ) .والمقصود من هذه الجملة الكريمة ، الرد على قولهم فى القرآن ( هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ ) فكأنه - تعالى - يقول لهم : كيف تصفون القرآن بذلك ، مع أنه قد سبقه كتاب موسى الذى تعرفونه ، والذى وافق القرآن فى الأمر بإخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، وفى غير ذلك من أصول الشرائع .ثم مدح - سبحانه - هذا القرآن بقوله : ( وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ ) .أى : وهذا القرآن الذى أنزلناه على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مصدق لكتاب موسى الذى هو إمام ورحمة ، ومصدق لغيره من الكتب السماوية السابقة وأمين عليها ، وقد أنزلناه بلسان عربى مبين ، امتنانا منا على من بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم وهم العرب .وقد اقتضت حكمتنا أن نجعل من وظيفة هذا الكتاب : الإِنذار للظالمين بسوء المصير إذا ما أصروا على ظلمهم ، والبشارة للمحسنين بحسن عاقبتهم بسبب إيمانهم وإحسانهم .فاسم الاشارة فى قوله : ( وهذا ) يعود للقرآن الكريم ، وقوله مصدق صفة لكتاب .وقوله ( لِّسَاناً عَرَبِيّاً ) حال من الضمير فى " مصدق " الذى هو صفة للكتاب والضمير فى " لينذر " يعود إلى الكتاب ، و " الذين ظلموا " مفعوله . أى : لينذر الكتاب الذين ظلموا ، وقوله : ( وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ ) فى محل نصب عطفا على محل " لينذر " .وقال - سبحانه - فى صفة هذا الكتاب ( مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً ) ولم يقل : مصدق لكتاب موسى ، للتنبيه على أنه مصدق لكتاب موسى ولغيره من الكتب السماوية السابقة .والتعبير بقوله ( لِّسَاناً عَرَبِيّاً ) فيه تكريم للعرب ، وتذكير لهم بنعمة الله عليهم ، حيث جعل القرآن الذى هو أجمع الكتب السماوية للهدايات والخيرات بلسانهم ، وهذا يقتضى إيمانهم به ، وحصرهم على اتباع إرشاداته .وقوله - تعالى - : ( لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ ) بيان لوظيفة هذا الكتاب ، وتحديد لمصير كل فريق ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من من حى عن بينه .
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
📘 ثم فصل - سبحانه - ما أعده للمحسين من جزيل الثواب فقال : ( إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله . . ) أى : قالوا ذلك بألسنتهم ، وصدقت هذا القول قلوبهم ( ثُمَّ استقاموا ) بعد ذلك على صراط الله المستقيم ، بأن فعلوا بإخلاص وطاعة كل ما أمرهم - سبحانه - بفعله ، واجتنبوا بقوة كل ما أمرهم بإجتنابه ، وقوله : ( فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) خبر " إن " وجئ بالفاء فى خبر الموصول لما فيه من معنى الشرط .أى : إن الذين قالوا ذلك ، ثم استقاموا وثبتوا على طاعتنا فلا خوف عليهم من لحوق مكروه بهم ، ولا هم يحزنون بسبب فوات محببو لديهم ، وإنما هم فى سعادة مستمرة ، وفى سرور دائم ، لا يعكره خوف من مستقبل مجهول ، ولا حزن على أمر قد مضى .
أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
📘 ( أولئك ) الموصوفون بما ذكر من الإِيمان والاستقامة ، هم ( أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا ) خلودا أبديا . ( جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) أى : يجزون هذا الجزاء الطيب بسب أعمالهم الصالحة ، التى كانوا يعملونها فى الدنيا .
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
📘 وبعد هذا الحديث عن حقيقة هذا الدين ، وعن حسن عاقبة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، جاء الحديث عن وجوب الإِحسان إلى الوالدين وعما يترتب عليه هذا الإِحسان من ثواب عظيم ، قال - تعالى - : ( وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ . . . كَانُواْ يُوعَدُونَ ) .قال الإِمام ابن كثير : لما ذكر - تعالى - فى الآية الأولى التوحيد له ، وإخلاص العبادة والاستقامة إليه ، عطف ، بالوصية بالوالدين ، كما هو مقرون فى غير ما آية من القرآن ، كقوله : ( وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً ) وقال : ( أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة .وقوله - سبحانه - : ( وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً ) من الإِيصاء بالشئ بمعنى الأمر به . قال - تعالى - : ( وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً ) أى : أمرنى بالمحافظة على أدائهما .وقوله : ( إِحْسَاناً ) قراءة عاصم وحمزة والكسائى . وقرأ غيرهم من بقية السبعة ( حسنا ) وعلى القراءتين فانتصابهما على المصدرية . أى : ووصينا الإِنسان وأمرناه بأن يحسن إلى والديه إحسانا أو حسنا ، بأن يقدم إليهما كل ما يؤدى إلى برهما وإكرامهما .ويصح أن يكون وصينا بمعنى ألزمنا ، فيتعدى لاثنين ، فيكون المفعول الثانى منها ، قوله : ( ِحْسَاناً ) أو ( حسنا ) .وقوله - سبحانه - : ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ) تعليل للإِيصاء المذكور ولفظ ( كُرْهاً ) قرئ بضم الكاف وفتحها ، وهما قراءتان سبعيتان ، قالوا : ومعناهما واحد كالضُّعف - بتشديد الضاد وفتحها أو ضمها - فهما لغتان بمعنى واحد .وهذا اللفظ منصوب على الحال من الفاعل . أى : حملته أمة ذات كره . ووضعته ذات كره ، أو هو صفة لمصدر مقدر ، أى : حملته حملا ذا كره ، ووضعته كذلك .ولا شك فى أن الأم تعانى فى أثناء حملها ووضعها لوليدها ، الكثير من المشاق والآلام والمتاعب . . فكان من الوفاء أن يقابل ذلك منها بالإِحسان والإِكرام .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى آية أخرى : ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ ) أى : حملته أمة ضعفا على ضعف ، لأن الحمل كلما تزايد وعظم فى بطنها ، ازداد ضعفها . .وقوله - تعالى - : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ) بيان لمدة الحمل والفطام ، والكلام على حذف مضاف . والفصال : مصدر فاصل ، وهو بمعنى الفطام ، وسمى الفطام فصالا ، لأن الطفل ينفصل عن ثدى أمه فى نهاية الرضاع .أى : ومدة حمل الطفل مع مدة فصاله عن ثدى أمه ، ثلاثون شهرا .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : المراد بيان مدة الرضاع لا الفطام ، فكيف عبر عنه بالفصال . . . لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه ، لأنه ينتهى به ويتم ، سمى فصالا . . . وفيه فائدة ، وهى الدلالة على الرضاع التام المنتهى بالفصال ووقته . .وقال الشوكانى : وقد استدل بهذه الآية على أن أقل المل ستة أشهر ، لأن مدة الرضاع سنتان ، أى : مدة الرضاع الكامل ، كما فى قوله - تعالى - : ( والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة ) فذكر - سبحانه - فى هذه الآية أقل مدة الحمل ، وأكثر مدة الرضاع .وفى هذه الآية إشارة الى أن حق الأم ، آكد من حق الأب ، لأنها هى التى حملت وليدها بمشقة ووضعته بمشقة ، وأرضعته هذه المدة بتعب ونصب ..وقوله - تعالى - : ( حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ . . ) غاية لمحذوف يفهم من سياق الكلام .والأشد : قوة الإِنسان واشتعال حرارته ، من الشدة بمعنى القوة والارتفاع . يقال : شد النهار ، إذا ارتفع ، وهو مفرد جاء بصيغة الجمع ، ولا واحد له من لفظه .والمراد ببلوغ أشده : أن يصل سنه على الراجح - إلى ثلاث وثلاثين سنة .وقوله : ( أوزعني ) أى : رغبنى ووفقنى ، من قولك : أوزعت فلانا بكذا ، إذا أغريته وحببته فى فعله . أى : هذا الإِنسان بعد أن بقى فى بطن أمه ما بقى ، وبعد أن وضعته وأرضعته وفطمته وتولته برعايتها ، واستمرت حياته " حتى إذا بلغ اشده " أى : حتى إذا بلغ زمن استكمال قوته ، وبلغ أربعين سنة وهى تمام اكتمال العقل والقوة والفتوة .( قَالَ ) على سبيل الشكر لخالقه ( رَبِّ أوزعني . . . ) أى : يا رب وقفنى وألهمنى ( أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ ) بأن وفقتنى ووفقتهما إلى صراطك المستقيم ، وبأن رزقتها العطف علىَّ ، ورزقنى الشكر لها ، ووفقنى - أيضا - ( وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ) منى ، وتقبله عندك ( وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي ) أى : واجعل - يا إلهى - الصلاح راسخا فى ذريتى ، وساريها فيها ، لأن صلاح الذرية فيه السعادة الغامرة للآباء .( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ ) توبة صادقة نصوحا وإنى من المسلمين الذين أخلصوا نفسوهم لطاعتك ، وقلوبهم لمرضاتك .فأنت ترى ان الآية الكريمة قد اشتملت على أسمى ألوان الدعوات ، التى عن طريق إجابتها تتحق السعادة الدنيوية والأخروية .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى " فى " فى قوله : ( وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي ) ؟ قلت : معناه أن يجعل ذريته موقعا للصلاح ومظنته ، كأنه قال هب : لى الصلاح فى ذريتى ، وأوقعه فيهم .وفى الآية الكريمة تنبيه للعقلاء ، إلى أن شأنهم - خصوصا عند بلوغ سن الأربعين . أن يكثروا من التضرع إلى الله بالدعاء ، وأن يتزودوا بالعمل الصالح ، فإنها السن التى بعث الله - تعالى - فيها معظم الأنبياء ، والتى فيها يكتمل العقل ، وتستجمع القوة ، ويرسخ فيها خلق الإِنسان الذى تعوده وألفه ورحم الله القائل :إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يهوى حياء ولا سترفدعه ولا تنفس عليه الذى مضى ... وإن جر أسباب الحاية له العمر
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة من يسلك هذا الطريق القويم فقال : ( أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ . . ) .واسم الإِشارة يعود إلى الإِنسان باعتبار الجنس . أى : أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الجميلة ، هم ( الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ ) من الأعمال الطيبة المتقبلة عندنا . . . ( وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ ) فلا نعاقبهم عليها ، لكثرة توبتهم إلينا .. بل نجعلهم ( في ) عداد ( أَصْحَابِ الجنة ) الخالدين فيها ، والمتنعمين بخيراتها .فالجار والمجرور فى قوله ( صْحَابِ الجنة ) فى محل نصب على الحال ، على سبيل التشريف والتكريم ، كما تقول : أكرمنى الأمير فى أصحابه ، أى : حالة كونى معدودا من أصحابه .وقوله - تعالى - : ( وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ ) تذييل مؤكد لما قبله . ولفظ ( وَعْدَ ) مصدر لفعل مقدر . أى : وعدهم الله - تعالى - وعد الصدق الذى كانوا يوعدون به على ألسنة الرسل فى الدنيا .هذا ، وقد ذكر بعض المفسرين أن هاتين الآيتين نزلتا فى شأن أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - ، وقد استجاب الله دعاءه ، فأسلم أبواه وأولاده جميعا .
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
📘 وبعد أن ساق - سبحانه - هذه الصورة الوضيئة لأصحاب الجنة ، أتبع ذلك ببيان صورة سيئة لنوع آخر من الناس ، فقال - تعالى - : ( والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ . . . وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ) .والاسم الموصول فى قوله - تعالى - : ( والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ ) بمعنى الذين ، وهو مبتدأ وخبره قوله : ( أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول . . ) وهذا صريح فى أن المراد بقوله : ( والذي ) العموم وليس الإِفراد ، وهذا يدل - أيضا - على فساد قول من قال إن الآية نزلت فى شأن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق - رضى الله عنهما - والصحيح أنها فى حق كل كافر عاق لوالديه ، منكر للبعث .قال ابن كثير عند تفسير لهذه الآية : وهذا عام فى كل من قال هذا ، ومن زعم أنها نزلت فى عبد الرحمن بن أبى بكر ، فقوله ضعيف ، لأن بعد الرحمن اسلم بعد ذلك ، وحسن إسلامه ، وكان من خيار أهل زمانه .أخرج البخارى عن يوسف بن مَاهَك قال : كان مروان على الحجاز ، استعمله معاوية بن أبى سفيان ، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكى يبايع له بعد أبيه .فقال له بعد الرحمن بن أبى بكر شيئا . . فقال مروان : إن هذا الذى أنزل فيه : ( والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ . . . ) .فقالت عائشة من وراء حجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن ، إلا أن الله أنزل عذرى . وفى رواية للنسائى أنها قالت : كذب مروان ، والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمى الذى نزلت فيه لسميته . .ولفظ " أف " : اسم صوت ينبى عن التضجر ، أو اسم فعل مضارع هو أتضجر .والمقصود به هنا : إظهار الملل والتأفف والكراهية لما يقوله أبواه من نصح له .وقوله : ( أتعدانني ) فعل مضارع من وعد الماضى ، وحذف واوه فى المضارع مطرد .والنون الأولى نوع الرفع ، والثانية نون الوقاية .وقوله : ( أَنْ أُخْرَجَ ) : أن وما دخلت عليه فى تأويل مصدر هو المفعول الثانى لقوله : ( أتعدانني ) . أى : والذى قال لوالديه - على سبيل الإِنكار والإِعراض عن نصحهما - ( أُفٍّ لَّكُمَآ ) أى : أقول بعدا وكرها لقولكما ، أو إنى متضج من قولكما .( أتعدانني أَنْ أُخْرَجَ ) أى : أتعذاننى الخروج من قبرى بعد أن أموت ، لكى أبعث وأحاسب على عملى ، والحال أنه ( قَدْ خَلَتِ ) أى : مضت ( القرون ) الكثيرة ( مِن قَبْلِي ) دون أن يخرج أحد منهم من قبره ، ودون أن يرجع بعد أن مات .فالآية الكريمة تصور بوضوح ما كان عليه هذا الإِنسان ، من سوء أدب مع أبويه ، ومن إنكار صريح للبعث والحساب والجزاء .ثم حكى - سبحانه - ما رد به الأبوان فقال : ( وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ) .وقوله : ( يَسْتَغثِيَانِ الله ) أى : يلتمسان غوثه وعونه فى هداية هذا الإِنسان إلى الصراط المستقيم ، والجملة فى محل نصب على الحال .ولفظ " ويلك " فى الأصل ، يقال فى الدعاء على شخص بالهلاك والتهديد .والمراد به هنا : حض المخاطب على الإِيمان والطاعة لله رب العالمين .أى : هذا هو حال الإِنسان العاق الجاحد ، أما حال أبواه ، فإنهما يفزعان لما قاله وترتعش أفئدتهما لهذا التطاول والصدود عن الحق ، فليجآن إلى الله ، ويلتمسان منه - سبحانه - الهداية لابنهما ، ويحضان هذا الابن على الإِيمان بوحدانية الله - تعالى - ، وبالبعث والحساب والجزاء ، فيقولان له : ( وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ) ولا خلف فيه ، ولا راد له . .والمتأمل فى هذه الجملة الكريمة يراها تصور لهفة الوالدين على إيمان ولدهما أكمل تصوير ، فهو يلتمسان من الله له الهداية ، ثم يهتفان بهذا الابن العاف بفزع أن يترك هذا الجحود ، وأن يبادر إلى الإِيمان بالحق . .ولكن الابن العاق يصر على كفره ، ويلج فى جحوده : ( فَيَقُولُ ) فى الرد على أبويه ( مَا هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين ) . أى : ما هذا الذى تعداننى إياه من البعث والحساب والجزاء . . إلا أباطيل الأولين وخرافاتهم التى سطروها فى كتبهم .فالأساطير : جمع أسطورة ، وهى ما سجله الأقدمون فى كتبهم من خرافات وأكاذيب .وقوله : ( أولئك ) اسم الإِشارة هذا يعود إلى العاقين المكذبين بالبعث والجزاء المذكورين فى قوله - تعالى - قبل ذلك : ( والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ ) .أى : أولئك القائلون ذلك .
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ
📘 هم ( الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول ) أى : وجب عليهم العذاب الذى حكم به - سبحانه - على أمثالهم فى قوله - تعالى - لإِبليس ( لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) كما يفيده قوله - سبحانه - بعد ذلك . ( في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس ) . أى : أولئك الذين وجب عليهم العذاب ، حالة كونهم مندرجين فى أمم قد مضت من قبلهم من طائفة الجن ومن طائفة الإِنس ( إِنَّهُمْ ) جميعا ( كَانُواْ خَاسِرِينَ ) لأنهم استحبوا الكفر على الإِيمان .
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ۖ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - مظهرا من مظاهر عدالته فى حكمه بين عباده فقال : ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) .والتنوين فى قوله ( وَلِكُلٍّ ) عوض عن المضاف إليه المحذوف ، والجار والجرور فى قوله ( مِّمَّا عَمِلُواْ ) صفة لقوله ( دَرَجَاتٌ ) ، و ( مِّنَ ) بيانية ، ( مَّا ) موصولة .وقوله : ( وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) علة لمحذوف . . والمعنى : ولك فريق من الفريقين : فريق المؤمنين المعبر عنهم بقوله : - تعالى - : ( أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ . . ) وفريق الكافرين المعبر عنهم بقوله - تعالى - : ( أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول ) . لكل فريق من هؤلاء وهؤلاء ( دَرَجَاتٌ ) حاصلة من الذى عملوه من الخير والشر ، وقد فعل - سبحانه - ذلك معهم ، ليوفيهم جزاء أعمالهم .( وَهُمْ ) جميعا ( لاَ يُظْلَمُونَ ) شيئا ، بل كل فريق منهم يجازى على حسب عمله . كما قال - تعالى - : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ).
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
📘 وقوله - تعالى - : ( تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم ) بيان لمصدر هذا القرآن ، وأنه من عند الله - تعالى - ، لا من عند غيره .أى : أن هذا القرآن منزل من عند الله - تعالى - ( العزيز ) أى : صاحب العزة الغابة ، والسلطان القاهر ( الحكيم ) فى كل أقواله وأفعاله وتصريفه لشئون خلقه .
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - ما سيكون عليه الكافرون يوم القيامة من حال سيئة فقال : ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا .. ) .والظرف متلعق بمحذوف تقديره : اذكر . وقوله ( يُعْرَضُ ) من العرض بمعنى الوقوف على الشئ ، وتلقى ما يترتب على هذا الوقوف على هذا الشئ من خير أو شر .والمراد بالعرض على النار هنا : مباشرة عذابها ، وإلقائهم فيها ، ويشهد لهذا قوله - تعالى - بعد ذلك ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار أَلَيْسَ هذا بالحق قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ) قال الآلوسى : قوله : ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار ) . أى : يعذبون بها ، من قولهم : عُرِض بنو فلان على السيف ، إذا قتلوا به ، وهو مجاز شائع . .وقوله : ( أَذْهَبْتُمْ . . ) إلخ مقول لقول محذوف . وهذا اللفظ قرأه ابن كثير وابن عامر ( أأذهبتم ) بهمزتين على الاستفهام الذى هو للتقريع والتوبيخ ، وقرأه الجمهور ( أذهبتم ) بهمزة واحدة على الخبر من غير استفهام .أى : واذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ ، يوم يقف الذين كفروا على النار ، فيرون سعيرها ثم يلقون فيها ، ويقال لهم - على سبيل الزجر والتأنيب - ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا ) أى : ضيعتم وأتلفتم بالطيبات التى أنعم الله بها عليكم فى حياتكم الدنيا ، حيث ( استمتعتم بِهَا ) استمتاعا دنيويا دون أن تدخروا للآخرة منها شيئا . .( فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون ) أى : تجزون عذاب الهون والخزى والذل .( بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق ) أى : بسبب استكبارهم فى الأرض بغير الحق . .( وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ) أى : وبسبب خروجكم فى الدنيا عن طاعة الله - تعالى - ، وعن هدى أنبيائه .وقيد - سبحانه - استكبارهم فى الأرض بكونه بغري الحق ، ليسجل عليهم هذه الرذيلة ، وليبين أنهم قوم دينهم التكبر والغرور وإيثار اتباع الباطل على الحق .قال الجمل : والحاصل أنه - تعالى - علل ذلك العذاب بأمرين :أحدهما : الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب .والثانى : الفسق وهو ذنب الجوارح ، وقدم الأول على الثانى ، لأن أحوال القلب أعظم وقعا من أعمال الجوارح .
۞ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
📘 ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن مصارع الغابرين الذين كانوا أشد قوة وأكثر جمعا من مشركى قريش ، لكى يعتبروا بهم ، ويقلعوا عن كفرهم ، حتى لا يكون مصيرهم كمصير من سبقوهم فى الكفر والطغيان ، فقال - سبحانه - : ( واذكر أَخَا عَادٍ . . . وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) .والمقصود بقوله - تعالى - : ( أَخَا عَادٍ ) : هود - عليه السلام - فقد أرسله الله - تعالى - إلى قبيلة عاد ، ليأمرهم بعبادة الله - تعالى - ، وكانوا قوما جبارين ، فلم يستمعوا إلى نصحه ، فكانت عاقبتهم الهلاك والتدمير .وقد وردت قصته معهم فى سور متعددة ، منها : سورة الأعراف ، وسورة هود ، وسورة الشعراء ، وسورة الحاقة . .قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : ( واذكر أَخَا عَادٍ ) هو هود بن عبد الله بن رباح ، كان أخاهم فى النسب لا فى الدين ، إذ أنذر قومه بالأحقاف ، والأحقاف : ديار عاد . . وهى جمع حقف - بكسر الحاء - ، وهو ما استطال من الرمل العظيم واعوج ، ولم يلغ أن يكون جبلا . .ويغلب على الظن أن مساكنهم كانت على مرتفعات من الأرض فى شمال حضر موت ، وعلى مقربة من المكان الذى يسمى الآن بالرَّبْع الخالى غربى عُمَان . .والمعنى : واذكر - أيها الرسول الكريم - لقومك ليعتبروا ويتعظوا قصة هود - عليه السلام - وقت أن أنذر قومه ، وهم يعيشون بتلك الأماكن المرتفعة المسماة بالأحقاف .وقوله : ( وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) جملة حالية من محل نصب .أى : جاد هود إلى قومه فأمرهم بإخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، وخوفهم من سوء عاقبة مخالفته ، والحال أنه قد أخبرهم بأن الرسل الذين سبقوه ، والذين يأتون من بعده ، كليهم قد بعثهم الله - تعالى - لهداية أقوامهم ، ولعبادته - سبحانه - وحده .فالنذر : جمع نذير ، والمراد بهم الرسل الذين يخوفون أقوامهم من سوء عاقبة الإِشراك مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة .والمراد بقوله : ( مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) الرسل السابقون عليه ، والمتأخرون عنه .ثم ذكر - سبحانه - جانبا من نصائح هود لقومه فقال : ( أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .أى : أنذرهم قائلا لهم : إنى أحذركم من عبادة أحد سوى الله - تعالى - وآمركم بإخلاص العبادة له - تعالى - وحده ، لأنى أخاف عليكم عذاب يوم هائل عظيم ، وهو يوم القيامة ، ( يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) فأنت ترى أن هودا - عليه السلام - بجانب أنه قد أمر قومه بما يسعدهم ، فإنه قد بين لهم - أيضا - أنه ما حمله على هذا الأمر إلا خوف عليهم ، وحرصه على نجاتهم من عذاب يوم القيامة .
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
📘 ولكن قومه لم يقابلوا ذلك بالطاعة والإِذعان ، بل قابلوا دعوة نبيهم لهم بالإِعراض والاستخفاف ، وقد حكى القرآن ذلك بقوله : ( قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ) . أى : قال هود له - على سبيل الإِنكار والسفاهة - أجئتنا بهذه الدعوة ( لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا ) أى : لتصرفنا وتبعدنا عن عبادة آلهتنا التى ألفنا عبادتها يقال : أَفَك فلان فلانا عن الشئ ، إذا صرفه عنه .ثم أضافو إلى هذا الإِنكار ، إنكارا آخر مصحوبا بالتحدى والاستهزاء فقالوا : ( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ) . أى : إن كان الأمر كما تقول فأتتا بما تعدنا به من العذاب العظيم ، ( إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ) فيما أخبرتنا به .وهكذا نلمس فى ردهم سوء الظن ، وعدم الفهم ، واستعجال العذاب ، والإِصرار على الباطل الذى ألفوه . .
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ
📘 ولكن هودا - عليه السلام - قابل كل هذه الجهالات بالحلم والأناة ، فرد عليهم بقوله : ( قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله . . ) أى : قال لهم : إنما علم وقت نزول العذاب كم عند الله - تعالى - وحده ، ولا مدخل لى فى ذلك .وإنما أنا ( وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ ) إليكم من ربى وربكم ، وتلك هى وظيفتى .ثم عقب على هذا الرد بما يدل على حمقهم وغبائهم فقال : ( ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ) .أى : أنا لا علم لى بوقت نزول العذاب عليكم ، لأن رسالتى محصورة فى التبليغ والإِنذار . .وهذا كان يجب أن يكون مفهوما لديكم لوضوحه . . ولكنى أراكم قوما تجهلون ما هو واضح ، وتنكرون ما هو حق ، وتصرون على ما هو باطل ، وتطالبونى بما لا أملكه .
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
📘 ثم يجمل السياق بعد ذلك ما كان بين هود وقومه من جدال طويل ، ليصل إلى العذاب الذى استعجلوه فيقول : ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ) والفاء فى قوله ( فَلَمَّا رَأَوْهُ . . . ) فصيحة .والضمير فى قوله ( رَأَوْهُ ) يعود إلى ( مَّا ) فى قوله - تعالى - قبل ذلك : ( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ) والمراد به العذاب .قال الشوكانى : الضمير فى " رأوه " يرجع إلى " ما " فى قوله ( بِمَا تَعِدُنَآ ) . وقال المبرد والزجاج : الضمير فى " رأوه " يعود إلى غير مذكور ، وبينه قوله ( عَارِضاً ) ، فالضمير يعود إلى السحاب . أى : فلما رأوا السحاب عارضا ، فعارضا نصب على التكرير ، أى : التفسير . وسمى الحساب عارضا لأنه يبدو فى عرض السماء . قال الجوهرى : العارض : السحاب يعترض فى الأفق .والمعنى : وأتى العذاب الذى استعجله قوم هود إليهم ، فلما رأوه بأعينهم ، متمثلا فى سحاب يظهر فى أفق السماء ، ومتجها نحو أوديتهم ومساكنهم .( قَالُواْ ) وهم يجهلون أنه العذاب الذى استعجلوه ( هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ) أى : هذا سحاب ننتظر من ورائه المطر الذى ينفعنا . .قيل : إنها حبس عنهم المطر لفترة طويلة ، فلما رأوا السحاب فى أفق السماء ، استبشروا وفرحوا وقالوا : ( هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ) .وهنا جاءهم الرد على لسان هود بأمر ربه ، فقال لهم : ( بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .أى : قال لهم هود - عليه السلام - ليس الأمر كما توقعتم من أن هذا العارض سحاب تنزل منه الأمطار عليكم ، بل الحق أن هذا العارض هو العذاب الذى استعجلتم نزوله ، وهو يتمثل فى ريح عظيمة تحمل العذاب المهلك الأليم لكم .فقوله : ( رِيحٌ ) يصح أن يكون بدلا من " ما " أو من " هو " فى قوله ( بَلْ هُوَ مَا استعجلتم ) كما يصح أن يكون خبر المبتدأ محذوف ، وجملة ( فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) صفة لقوله : ( رِيحٌ ) .
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ
📘 ثم وصف - سبحانه - هذا الريح بصفة أخرى فقال : ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ) . أى : هذه الريح التى أرسلها الله - تعالى - عليهم ، من صفاتها أنها تدمر وتهلك كل شئ مرت به يتعلق بهؤلاء الظالمين من نفس أو مال أو غيرهما . .والتعبير بقوله : ( بِأَمْرِ رَبِّهَا ) لبيان أنها لم تأتهم من ذاتها ، وإنما أتتهم بأمر الله - تعالى - وبقضائه وبمشيئته .والفاء فى قوله : ( فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ) فصيحة - أيضا - . أى : هذه الريح أرسلناها عليهم قدمرتهم ، فصار الناظر إليهم لا يرى شيئا من آثارهم سوى مساكنهم ، لتكون هذه المساكن عبرة لغيرهم .قال الجمل : وقوله : ( لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ) قرأ حمزة وعاصم ( لاَ يرى ) بضم الياء على البناء للمفعول ، ومساكنهم بالرفع لقيامه مقام الفاعل . والباقون من السبعة بفتح تاء الخطاب - على البناء للفاعل - و ( مَسَاكِنُهُمْ ) بالنصب على أنه مفعول به . .وقوله : ( كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين ) أى : مثل ذلك الجزاء المهلك المدمر ، نجازى القوم الذين من دأبهم الإِجرام والطغيان .وهكذا طوى - سبحانه - صفحة أولئك الظالمين من قوم هود - عليه السلام - وما ظلمهم - سبحانه - ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
📘 ولم تكتف السورة الكريمة بعرض مصارع هؤلاء المجرمين ، الذين لا يخفى أمرهم على المشركين المعاصرين للنبى - صلى الله عليه وسلم - بل أخذت فى تذكير هؤلاء المشركين ، بما يحملهم على الزيادة من العظة والعبرة لو كانوا يعقلون ، فقال - تعالى - : ( وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً ) .و " ما " فى قوله : ( فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ ) موصولة . و " إن " نافية . أى : والله لقد مكنا قوم هود وغيرهم من الأقوام السابقين عليكم - يا أهل مكة فى الذى لم نمكنكم فيه ، بأن جعلناهم أشد منكم قوة ، وأكثر جمعا ، وأعطيناهم من فضله أسماعا وأبصارا وأفئدة .فالمقصود من الاية بيان أن المشركين السابقين ، أعطاهم الله - تعالى - من الأموال والأولاد والقوة . . أكثر مما أعطى الكافرين المعاصرين للنبى - صلى الله عليه وسلم - .ولكن هؤلاء الطغاة السابقين لما لم يشكروا الله - تعالى - على نعمه كانت عاقبتهم الهلاك ، كما يدل عليه قوله - سبحانه - بعد ذلك : ( فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ ) .أى : أعطيناهم من النعم ما لم نعطكم يا أهل مكة ، ولكنهم لما لم يشكرونا على نعمنا ، ولم يستعملوها فى طاعتنا ، أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، دون أن تنفعهم شيئا أسماعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم ، حين نزل بهم عذابنا ، بل كل ما بين أيديهم من قوة ومن نعم ذهب أدراج الرياح وصار معهم هباء منثورا .و " من " فى قوله : ( مِّن شَيْءٍ ) لتأكيد عدم الإِغناء . أى : ما أغنت عنهم شيئا حتى ولو كان هذا الشئ فى غاية القلة والحقارة .ثم بين - سبحانه - أن ما أصابهم من دمار كان بسبب جحودهم للحق واستهزائهم به ، فقال : ( إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ الله وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) .أى : هذا الهلاك والدمار الذى حاق بهم ، كان بسبب جحودهم لآيات الله الدالة على وحدانيته وكمال قدرته ، واستهزائهم بما جاءهم به رسلهم من الحق .ومن الآيات القرآنية التى وردت فى هذا المعنى ، قوله - تعالى - : ( فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً ومضى مَثَلُ الأولين ) وقوله - سبحانه - ( أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرض فَمَآ أغنى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ )
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
📘 ثم أضاف - سبحانه - إلى هذا التذكير والتخويف للمشركين ، تذكيرا وتخويفا آخر ، فقال : ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى ) أى : والله لقد أهلكنا ما حولكم يا أهل مكة من القرى الظالمة ، كقوم هود وصالح وغيرهم .( وَصَرَّفْنَا الآيات ) أى : كررناها ونوعناها بأساليب مختلفة ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) عما كانوا عليه من الشرك والفجور ، ولكنهم لم يرجعوا عما كانوا فيه من ضلال وبغى ، فدمرناهم تدميرا . .
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ۖ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ۚ وَذَٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
📘 ( فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ ) أى : فهلا نصرهم ومنعهم من الهلاك . هؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم من دون الله قربانا يتقربون بهم إليه - سبحانه - كما قالوا ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى ) " فلولا " هنا حرف تحضيض بمعنى " هلا " والمفعول الأول لاتخذوا محذوف أى : الذين اتخذوهم ، و ( آلِهَةَ ) هو المفعول الثانى ، و " قربانا " حال . وهو كل ما يتقرب به إلى الله - تعالى - من طاعة أو نسك . والجمع قرابين .وقوله - تعالى - : ( بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) إضراب انتقالى عن نفى النصرة إلى ما هو أشد من ذلك .أى : أن هؤلاء الآلهة لم يكتفوا بعدم نصر أولئك الكافرين ، بل غابوا عنهم وتركوهم وحدهم ، ولم يحضروا إليهم . . وذلك الغياب الذى حدث من آلهتهم عنهم . مظهر من مظاهر كذب هؤلاء الكافرين وافترائهم على الحق فى الدنيا . حيث زعموا أن هذه الآلهة الباطلة ستشفع لهم يوم القيامة ، وقالوا - مكا حكى القرآن عنهم - : ( هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله . . . ) وما هم اليوم لا يرون آلهتهم ، ولا يجدون لهم شيئا من النفع .
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ
📘 وبعد هذا التذكير والوعيد للكافرين ، بيَّن - سبحانه - جانبا من مظاهر تكريمه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث أرسل له نفرا من الجن ، يستمعون القرآن ، ويؤمنون به ، فقال - تعالى - : ( وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً . . . فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) .قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : ( وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن . . . ) هذا توبيخ لمشركى قريش . أى : أن الجن سمعوا القرآن فآمنا به وعلموا أنه من عند الله ، وأنتم معرضون مصرون على الكفر .قال المفسرون : لما مات أبو طالب ، خرج النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ، يلتمس من أهلها النصرة ، ويدعوهم إلى الإِيمان . . أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويضحكون به . .فانصرف - صلى الله عليه وسلم - عنهم ، حتى إذا كان ببطن نخلة - وهو موضع بين مكة والطائف - قام يصلى من الليل ، فمر به نفر من جن نصيبين - وهو موضع قرب الشام - فاستمعوا إليه وقالوا : أنصتوا .وهناك روايات أخرى كثيرة فى عدد هؤلاء الجن ، وفى الأماكن التى التقوا فيها مع النبى - صلى الله عليه وسلم - عليهم ، وفيمن كان مع النبى - صلى الله عليه وسلم - خلال التقائه بهم . .ويبدو لنا من مجموع هذه الروايات أن لقاء النبى - صلى الله عليه وسلم - بالجن قد تعدد ، وأن هذه الآيات تحكى لقاء معينا ، وسورة الجن تحكى لقاء آخر .قال الآلوسى : وقد أخرج الطبرانى فى الأوسط ، وابن مردويه عن الحبر ، أى : عن ابن عباس أنه قال : صرفت الجن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين .وذكر الخفاجى أنه قد دلت الأحاديث ، على أن وفادة الجن كانت ست مرات ، ويجمع بذلك اختلاف الروايات فى عددهم ، وفى غير ذلك .و " النفر " على المشهور - ما بين الثلاة والعشرة من الرجال وهو مأخوذ من النفير ، لأن الرجل إذا حزبه أمر نفر بعض الناس الذين يهتمون بأمره لإِغاثته .والمعنى : واذكر - أيها الرسول الكريم - لقومك ، وقت أن صرفنا إليك ، ووجهنا نحوك ، نفراً من الجن ، يستمعون القرآن منك .( فَلَمَّا حَضَرُوهُ ) أى : فحين حضروا القرى ، عند تلاوة منك ، أو فحين حضروا مجلسك ( قالوا ) على سبيل التناصح - ( أَنصِتُواْ ) أى : قالوا بعضهم لبعض : اسكتوا لأجل أن نستمع إلى هذا القرآن ، وهذا يدل على سمو أدبهم وحرصهم على تلقى العلم .( فَلَمَّا قُضِيَ ) أى : فحين انتهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قراءته .( وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ) أى : انصروفوا إلى قومهم ليخوفوهم من عذاب الله - تعالى - إذا ما عصموه أو خالفوا أمره - سبحانه - .
مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ۚ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - أنه لم يخلق هذا الكن عبثا ، فقال : ( مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى . . . ) .وقوله : ( إِلاَّ بالحق ) استثناء مفرغ من أهم الأحوال ، وهو صفة لمصدر محذوف ، وقوله : ( وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ) معطوف على " الحق " والكلام على تقدير مضاف محذوف .أى : ما خلقنا هذا الكون بسمائه وأرضه وما بينهما من مخلوقات لا يعلمها إلا الله ، ما خلقنا كل ذلك إلا خلقنا ملتبسا بالحق الذى لا يحوم حوله باطل وبالحكمة التى اقتضتها إرادتنا ومشيئتنا .وما خلقنا كل ذلك - أيضا - إلا بتقدير أجل معين ، هو يوم القيامة الذى تفنى عنده جميع المخلوقات .فالمراد بالأجل المسمى : يوم القيامة الذى ينتهى عنده آجال الناس ، ويقفون بين يديى الله - تعالى - للحساب والجزاء .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : ( وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار ) وقوله - سبحانه - : ( وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) ثم بين - سبحانه - موقف المشركين من خالقهم فقال : ( والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ ) . والإِنذار : الإِعلام المقترن بتهديد ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذار .و " ما " فى قوله : ( عَمَّآ أُنذِرُواْ ) يصح أن تكون موصولة والعائد محذوف ، ويصح أن تكون مصدرية .والإِعراض عن الشئ : الصدود عنه ، وعدم الإِقبال عليه ، وأصله من العُرْ - ضبضم العين - وهو الجانب ، لأن المعرض عن الشئ يعطيه جانب عنقه ، مبتعدا عنه .أى : نحن الذين خلقنا بقدرتنا وحكمتنا ، السماوات والأرض وما بينهما ، بالحق الذى اقتضته مشيئتنا ، وبتقدير أمد معين ، عند انتهائه ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات ) ومع كل هذه الدلائل الساطعة الدالة على واحدانيتنا وقدرتنا ، فالذين كفروا بالحق ، عن الذى أنذروه من الحساب والجزاء معرضون ، وفى طغيانهم يعمهون .فالآية الكريمة قد وضحت أن هذا الكون لم يخلقه الله - تعالى - عبثا ، وأن لهذا الكون نهاية ينتهى عندها ، وأن الكافرين - لجهلهم وعنادهم - لم يستجيبوا لمن دعاهم إلى إخلاص العبادة لله الواحد القهار ، ولم يستعدوا لاستقبال يوم القيامة بالإِيمان والعمل الصالح .
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ
📘 ( قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى . . ) أى : وبعد أن انصرفوا إلى قومهم منذرين ، ووصلوا إليهم . قالوا لهم : يا قومنا إنا سمعنا كتابا عظيم الشأن ، جليل القدر ، أنزل من بعد نبى الله - تعالى - موسى - عليه السلام - .وهذا الكتاب ( مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) أى : مصدقا لما قبله من الكتب وهو - أيضا - ( يهدي إِلَى الحق ) الذى لا يحوم حوله الباطل ، ويهدى - أيضا - ( إلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ) أى : إلى طريق قويم واضح يصل بأتباعه إلى السعادة .قال الآلوسى : قوله : ( أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى ) ذكروه دون عيسى - عليهما السلام - لأنه متفق عليه عند أهل الكتابين ، ولأن الكتاب المنزل عليه أجل الكتب قبل القرآن ، وكان عيسى مأمورا بمعظم ما فيه أو بكله .وقال عطاء : لأنهم كانوا على اليهودية ، وهذا القول يحتاج إلى نقل صحيح .وعن ابن عباس : أن الجن لم تكن سمعت بعيسى ، فلذا قالوا ذلك . وفى هذا القول بُعْدٌ ، فإ اشتهار أمر عيسى ، وانتشار أمر دينه ، أظهر من أن يخفى ، لا سيما على الجن ، ومن هنا قال أبو حيان : إن هذا لا يصح عن ابن عباس .
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
📘 ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على إيمانهم بما سمعوه فقال : ( ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله . . . ) .أى : وقالوا لقومهم - أيضا - : يا قومنا أجيبوا داعى الله الذى دعاهم الى الحق وإلى طريق مستقيم . ( وَآمِنُواْ بِهِ ) أى : وآمنوا بهذا الرسول اكريم وبما جاء من عند ربه .( يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ) أى : أجيبوا داعى الله وآمنوا به ، يغفر لكم ربكم من ذنوبكم التى وقعتم فيها ، ويبعدكم بفضله ورحمته من عذاب أليم .والتعبير بقوله : ( مِّن ذُنُوبِكُمْ ) يدل على حسن أدبهم ، وعلى أنهم يفوضون المغفرة إلى ربهم ، فهو - سبحانه - إنشاء غفرها جميعا ، وإن شاء غفر بعضها .
وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
📘 ثم ختموا الترغيب فى الإِيمان بالترهيب من الإِصرار على الكفر والمعاصى فقالوا - كما حكى القرآن عنهم - : ( وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض ) .أى : قالوا لقومهم إنكم إذا أجبتم داعى الله ، غفر لكم - سبحانه - ذنوبكم أما الذى يعرض عن هذا الداعى الصادق الأمين ، فإنه لن يستطيع أن يفلت من عذاب الله ، ولن يقدر على الهرب من عقابه ، لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ ، ولا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء .( وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ ) أى : وليس لهذا المُعْرِض من أنصار يستطيعون دفع عذاب الله عنه .( أولئك ) أى : الذين لم يجيبوا داعى الله ( فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) أى : فى ضلال واضح لا يخفى على أحد من العقلاء .هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآيات :1- أن رسالة النبى - صلى الله عليه وسلم - كانت إلى الإِنس والجن ، لأن هذه الآيات تحكى إيمان بعض الجن به - صلى الله عليه وسلم - ودعوتهم غيرهم إلى الإِيمان به .2- أن هذه الآيات تدل على أن حكم الجن كحكم الإِنس فى الثواب واعقاب وفى وجوب العمل بما أمرهم الله - تعالى - به وفى وجوب الانتهاء عما نهاهم عنه ، لأن قوله - تعالى - : ( ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) .أقول : هاتان الآيتان اللتان حكاهما الله - تعالى - على ألسنة بعض الجن تدلان على ثواب المطيع ، وعذاب العاصى .قال بعض العلماء ما ملخصه : وقد دلت آية أخرى على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة وهى : قوله - تعالى - فى سورة الرحمن : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) ويستأنس لهذا - أيضا - بقوله - تعالى - : ( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ) فإنه يشير إلى أن فى الجنة جنا يطمثون النساء كالإِنس .وبهذا يعلم أن ما ذهب إليه بعض العلماء ، أنه يفهم من قوله - تعالى - : ( ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة ، وأن جزاء إيمانهم ، وإجابتهم داعى الله ، هو الغفران وإجارتهم من العذاب الأليم فقط . . هذا الفهم إنما هو خلاف التحقيق ، وأن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة . .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ۚ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
📘 ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بتوبيخ المشركين على جهلهم وعدم تفكيرهم ، وبيَّن ما سيكونون عليه من خزى يوم القيامة ، وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أذاهم . فقال : ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ . . . إِلاَّ القوم الفاسقون ) .والهمزة فى قوله : ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله . . . ) للاستفهام الإِنكارى ، والواو للعطف على مقدر يستدعيه المقام . .أى : بلغ العمى والجهل بهؤلاء الكافرين ، أنهم لم يروا ولم يعقلوا أن الله - تعالى - الذى خلق السماوات والأرض بقدرته ( وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ) أى : ولم يتعب ولم ينصب بسبب خلقهن ، من قولهم عيى فلان بالأمر - كفرح - إذا تعب ، أو المعنى : ولم يعجز عن خلقهن ولم يتحير فيه ، مأخوذ من قولهم : عيى فلان بأمره ، إذا تحير ولم يعرف ماذا يفعل .وقوله : ( بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى ) فى محل رفع خبر ( أَن ) ، والباء فى قوله - تعالى - ( بِقَادِرٍ ) مزيدة للتأكيد .فالمقصود بالآية الكريمة توبيخ المشركين على جهلهم وانطماس بصائرهم ، حيث لم يعرفوا أن الله - تعالى - الذى أوجد الكون ، قادر على أن يعيدهم الى الحياة بعد موتهم .وأورد القرآن ذلك فى أسلوب الاستفهام الإِنكار ، ليكون تأنيبهم على جهلهم أشد .وقوله : ( بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) تقرير وتأكيد لقدرته - تعالى - على إحياء الموتى ، لأن لفظ ( بلى ) يؤتى به فى الجواب لإِبطال النفى السابق ، وتقرير نقيضه ، بخلاف لفظ ( نعم ) فإنه يقرر النفى نفسه .أى : بل إنه - سبحانه - قادر على إحياء الموتى ، لأنه - تعالى - على كل شئ قدير .
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا ۚ قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
📘 ثم كرر - سبحانه - التذكير للناس بأحوال الكافرين يوم الحساب ليعتبروا ويتعظوا فقال : ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار ) أى : واذكر - أيها العاقل - يوم يلقى الذين كفروا فى النار ، بعد مشاهدتها ورؤيتها . .ثم يقال لهم على سبيل الزجر والتهكم ( أَلَيْسَ هذا بالحق ) أى : أليس هذا العذاب كنتم تنكرونه فى الدنيا . قد ثبت عليكم ثبوتا لا مفر لكم منه ، ولا محيد لكم عنه . .( قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا ) أى : قالوا فى الجواب . . بلى يا ربنا إن هذا العذاب حق ، وإنكارنا له فى الدنيا إنما كان عن جهل وغفلة وغرور منا . .فهم قد اعترفوا بأن الحساب حق ، الجزاء حق . . فى وقت لا ينفع فيه الاعتراف .ولذا جاء الرد عليهم بقوله - تعالى - : ( قَالَ ) - سبحانه - ( فَذُوقُواْ العذاب ) أى : فتذوقوا طعمه الأليم ، ووقعه المهين ( بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ) أى : بسبب كفركم وجحودكم .
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ
📘 ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على مكرهم فقال : ( فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل ) . أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - فاصبر على أذى قومك ، كما صبر إخوانك أولو العزم من الرسل ، أى : أصحاب الجد والثبات والصبر على الشدائد والبلاء . . وهم - على أشهر الأقوال - : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - صلوات الله عليهم جميعا - .وقوله : ( وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) نهى منه - تعالى - لنبيه عن استعجال العذاب لهم . أى : ولا تستعجل لهم العذاب . فالمفعول محذوف للعلم به . . ثم بين - سبحانه ما يدعو إلى عدم الاستعجال فقال : ( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ . . ) . أى : اصبر - ايها الرسول - على أذى قومك كما صبر إخوانك أولو العزم من الرسل . ولا تستعجل العذاب لهؤلاء الكافرين فإنه آتيهم لا ريب فيه ، وكأنهم عندما يرون هذا العذاب ويحل بهم ، لم يلبثوا فى الدنيا إلا وقتا قليلا وزمنا يسيرا ، لأن شدة هذا العذاب تنسيهم كل متع الدنيا وشهواتها .وقوله - تعالى - : ( بَلاَغٌ ) خبر لمبتدأ محذوف أى : هذا الذى أنذرتكم به ، أو هذا القرآن بلاغ كاف فى وعظكم وإنذاركم إذا تدبرتم فيه ، وتبليغ من الرسول - صلى الله عليه وسلم إليكم .( فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون ) كلا ، إنه لا يهلك بعذاب الله - تعالى - إلا القوم الخارجون عن طاعته ، الواقعون فى معصيته فالاستفهام للنفى . .وبعد فهذا تفسير لسورة " الأحقاف نسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده . والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات .وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ۖ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
📘 ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يوبخ هؤلاء الكافرين على جهالاتهم وعنادهم ، فقال : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات . . . ) .وقوله : ( أَرَأَيْتُمْ ) بمعنى أخبرونى ، ومفعوله الأول قوله ( مَّا تَدْعُونَ ) وجملة " ماذا خلقوا " سدت مسد مفعوله الثانى .وجملة : " أرونى " مؤكدة لقوله : ( أَرَأَيْتُمْ ) لأنها - أيضا - بمعنى أخبرونى .والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - هؤلاء المشركين - على سبيل التوبيخ والتأنيب - : أخبرونى عن هذه الآلهة التى تعبدونها من دول الله - تعالى - ، أى شئ فى الأرض أوجدته هذه الآلهة؟ إنها قطعا لم تخلق شيئا من الأرض . فالأمر فى قوله ( أَرُونِي ) للتعجيز والتبكيت .و " أم " فى قوله ( أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات ) للإِضراب عن أن يكونوا قد خلقوا شيئا ، إلى بيان أنهم لا مشاركة لهم مع الله فى خلق السماوات أو الأرض أو غيرهما . فقوله : ( شِرْكٌ ) بمعنى مشاركة . .أى : بل ألهم مشاركة من الله - تعالى - فى خلق شئ من السماوات؟ كلا ، لا مشاركة لهم فى خلق أى شئ ، وإنما الخالق لكل شئ هو الله رب العالمين .فالاستفهام للتوبيخ والتقريع .فالمراد من الآية الكريمة نفى استحقاق معبوداتهم لأى لون من ألوان العبادة بأبلغ وجه ، لأن هذه المعبودات لا مدخل لها فى خلق أى شئ لا من العوالم السفلية ولا من العوالم العلوية ، وإنما الكل مخلوق لله - تعالى - وحده .ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : ( هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ ) وبعد أن أفحمهم - سبحانه - من الناحية العقلية ، أتبع ذلك بإفحامهم بالأدلة النقلية ، فقال - تعالى - : ( ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) .والأمر فى قوله - تعالى - ( ائتوني ) للتعجيز والتهكم - أيضا - كما فى قوله : ( أَرُونِي ) .وقوله : ( أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ ) أى : بقية من علم بؤثر عن الأولين ، وينسب إليهم .قال القرطبى : وفى الصحاح : " أو أثارة من علم " أى : بقية منه . وكذلك الأَثَرة - بالتحريك - ويقال : سمنت الإِبل على أثارة ، أى : على بقية من شحم كان فيها قبل ذلك . .والأثارة : مصدر كالسماحة والشجاعة ، وأصل الكلمة من الأَثَر ، وهى الرواية ، يقال : أثرتُ الحديث آثَرُه أَثْراً وأَثَارةً وأَثْرةً فأنا آثِر ، إذا ذكرته من غيرك ، ومنه قيل : حديث مأثوة ، أى نقله الخلق عن السلف .أى : هاتوا لى - أيها المشكرون - كتابا من قبل هذا القرآن يدل على صحة ما أنتم عليه من شرك ، فإن لم تستطيعوا ذلك - ولن تستطيعوا - ، فأتونى ببقية من علم يؤثر عن السابقين ، ويسند إليهم ، ويشهد لكم بصحة ما أنتم فيه من كفر .( إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) فيما تزعمونه من أنكم على الحق .وهكذا أخذ عليهم القرآن الحجة ، وألزمهم بطلان ما هم عليه من ضلال ، بالأدلة العقلية المتمثلة فى شهادة هذا الكون المفتوح ، وبالأدلة النقلية المتمثلة فى أنه لا يوجد عندهم كتاب أو ما يشبه الكتاب . يستندون إليه فى استحقاق تلك المعبودات للعبادة .والحق أن هذا الآية الكريمة على رأس الآيات التى تخرس أصحاب الأقوال التى لا دليل على صحتها ، وتعلم الناس مناهج البحث الصحيح الذى يوصلهم إلى الحق والعدل . .
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ
📘 ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المشركين قد بلغوا الذروة فى ضلالهم وجهلهم فقال : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة ) .أى : لا أحد أشد ضلالا وجهلا من هؤلاء المشركين الذين يعبدون من دون الله - تعالى - آلهة ، هذه الآلهة لا تسمع كلامهم ، ولا تعقل نداءهم ، ولا تشعر بعبادتهم لها منذ أن عبدوها ، إلى أن تقوم الساعة .فإذا ما قامت الساعة ، تحولت هذه الآلهة - بجانب عدم شعورها بشئ إلى عدوة لهؤلاء العابدين لها .قال بعض العلماء : وفى قوله : ( إلى يَوْمِ القيامة ) نكتة حسنة ، وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة ، ومن شأن الغاية انتهاء المغيا عندها . لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية ، لأنهم فى يوم القيامة لا يستجيبون لهم .فالوجه - والله أعلم - أنها من الغايات المشعرة ، بأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها ، إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثانى ، حتى كأنه الحالتين وإن كانتا نوعا واحدا ، لتفاوت ما بينهما كالشئ وضده ، وذلك أن الحالة الأولى التى جعات غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة ، والحالة الثانية التى فى القيامة زادت على الاستجابة ، بالعداوة بالكفر بعبادتهم إياهم .ثم أكد - سبحانه - عدم إحساس الأصنام بعابديها فقال : ( وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ ) .أى : وهذه الاصنام عن عبادة عابديها غافلة ، لا تدرك شيئا ، ولا تحس بمن حولها .قال صاحب الكشاف : وإنما قيل " من " و " هم " لأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولى العلم من الاستجابة والغفلة ، ولأنهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلا وغباوة .ويجوز أن يريد : كل معبود من دون الله من الجن والإِنس والأوثان .
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ
📘 ثم بين ما يكون بين العابدين من عداوة يوم القيامة فقال : ( وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ) .أى : وإذا جمع الله - تعالى - الناس للحساب والجزاء يوم القيامة ، صار الكفار مع من بعدوهم من دون الله أعداء ، يلعن بعضهم بعضا ، ( وَكَانُواْ ) أى : المعبودن ( بِعِبَادَتِهِمْ ) أى بعبادة الكفر إياهم ( كَافِرِينَ ) أى : جاحدين مكذبين .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : ( واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ) .وقوله - سبحانه - : ( وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ) .
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ
📘 ثم لقن الله - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أجوبة أخرى ، ليرد بها على الأقوال الزائفة التى تفوه بها المشركون فقال - تعالى - : ( وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا . . . القوم الظالمين ) .وقوله ( تتلى ) من التلاوة بمعنى القراءة بتمهل وترتيل . أى : وإذا تتلىعلى هؤلاء الكافرين ، آياتنا الواضحة الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ( قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ ) أى : قالوا للآيات المتلوة عليهم . والتى اشتملت على الحق الذى يهديهم إلى الصراط المستقيم .( هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) أى : قالوا : هذا الذى جئتنا به يا محمد سحر واضح ، وتمويه ظاهر .والتعبير بقوله - سبحانه - : ( قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ ) : يشعر بأن هؤلاء الجاحدين الجاهلين ، قد بادروا إلى وصف ما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه سحر ، بدون تفكر أو تأمل أو انتظار .وفى وصفهم لما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه سحر ، دليل على عجزهم عن الإِتيان بمثله ، أو بسورة من مثله .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ۖ كَفَىٰ بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۖ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
📘 ثم حكى - سبحانه - جانبا من أكاذيبهم فقال : ( أَمْ يَقُولُونَ افتراه . . . ) و " أم " هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة ، وتفيد الإِضراب والانتقال من حكاية أقوالهم الباطلة السابقة . إلى أقوال أخرى أشد منها بطلانا وكذبا . والاستفهام للإِنكار والتعجب من حالهم .والافتراء : أشنع الكذب . أى : بل أيقول هؤلاء الكافرون لك - أيها الرسول الكريم - إنك إفتريت هذا القرآن واختلقته من عند نفسك؟ثم لقن الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم الرد الذى يخرسهم فقال ( أَمْ يَقُولُونَ افتراه ) .أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - فى الرد على زعمهم أنك افتريت هذا القرآن : إن كنت على سبيل الفرض والتقدير قد افتريته من عند نفسى ، عاقبنى ربى ، ولا تستطيعون أنتم أو غيركم أن تمنعوا عنى شيئا من عذابه وعقابه ، وما دام الأمر كذلك فكيف أفتريه ، وأنا أعلم علم اليقين أن افتراء شئ منه يؤدى إلى عقابى؟فجواب " إن " فى قوله : ( إِنِ افتريته ) محذوف . وتقديره : عاجلنى بالعقوبة ، وقوله : ( فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً ) قام مقامه .قال - تعالى - : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) وقوله : ( هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ) أى : الله - تعالى - الذى زعمتم أنى أفترى عليه الكذب ، هو أعلم منى ومنكم ومن كل المخلوقات ، بما تندفعون فيه من القدح فى آياته ، والإِعراض عن دعوته ، وسيجازيكم على ذلك بما تستحقونه من عقاب .فقوله : ( تُفِيضُونَ ) من الإِفاضة ، وهى الأخذ فى الشئ باندفاع وعنف ، وأصله من فاض الإِناء ، إذا سال بشدة .وقوله - سبحانه - : ( كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الغفور الرحيم ) ترهيب لهم من الإِنسياق فى كفرهم ، وترغيب لهم فى الدخول فى الإِيمان لينالوا مغفرة الله - تعالى - ورحمته .أى : كفى بشهادة الله - تعالى - بينى وبينكم شهادة ، فهو الذى يعلم أنى صادق فيما أبلغه عنه ، ويعلم أنكم الكاذبون فيما تزعمونه ، وهو - سبحانه - لاواسع المغفرة والرحمة ، لمن تاب إليه وأناب .
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ
📘 ثم أمره الله - تعالى - أن يبين لهم ما جاءهم به من هداية ، قد جاء بها الرسل من قبله لأقوامهم ، وأنه رسول كسائر الرسل السابقين فقال - تعالى - : ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل . . ) .والبدع من كل شئ : أوله ومبدؤه . يقال : فلان بدع فى هذا الأمر ، أى : هو أول فيه دون أن يسبقه فيه سابق ، من الابتداع بمعنى الاختراع .أى : وقل لهم - أيها الرسول الكريم - إنى لست أول رسول أرسله الله - تعالى - إلى الناس ، وإنما سبقنى كثيرون أنتم تعرفون شيئا من أخبارهم ومن أخبار أقوامهم ، وما دام الأمر كذلك فكيف تنكرون نبوتى ، وتشككون فى دعوتى؟ .وقوله - سبحانه - : ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) بيان لوظيفته - صلى الله عليه وسلم - . أى : وإننى وأنا رسول الله لا أعلم ما سيفعله الله - تعالى - بى أو بكم فى المستقبل من أمور الدنيا ، هل سأبقى معكم فى مكة أو سأهاجر منها . وهل سيصيبكم العذاب عاجلا أو آجلا؟ فإنى ما أفعل معكم ، ولا أقول لكم إلا ما أوحاه الله - تعالى -إلىَّ ، وما أنا إلا نذير مبين ، أوضح لكم الحق من الباطل ، وأُخوِّفكُم من سوء المصير ، إذا ما بقيتم على كفركم وشرككم .فالمقصود بقوله - تعالى - : ( وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ) أى : فى دار الدنيا ، أما بالنسبة للآخرة ، فالله - تعالى - قد بشره وبشر أتباعه بالثواب العظيم فى آيات كثيرة ، ومن ذلك قوله - تعالى - : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى ) وقوله - سبحانه - : ( وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كَبِيراً ) .قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : قال الحسن البصرى فى قوله : ( وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ) أى : فى الدنيا ، أأخرج كما أخرجت الأنبياء قبلى؟ أم أقتل كما قتلوا ، ولا أدرى أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة؟ أما فى الآخرة فمعاذ الله ، قد علم أنه فى الجنة .وهذا القول هو الذى عوّل عليه ابن جرير ، وأنه لا يجوز غيره ، ولا شك أن هذا هو اللائق به - صلى الله عليه وسلم ، فإنه بالنسبة للآخرة ، جازم أنه يصير إلى الجنة ومن اتبعه ، وأما فى الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره وأمر المشركين . أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم؟والمتدبر فى هذه الآية الكريمة ، يراها قد اشتملت على أسمى ألوان الأدب من النبى - صلى الله عليه وسلم - مع خالقه - عز وجل - فقد فوّض - صلى الله عليه وسلم - أمره إلى خالقه ، وصرح بأنه لا يتبع إلا ما يوحيه إليه سبحانه - وأنه لا علم له بالغيب ، وإنما علم ذلك إلى الله - تعالى - وحده .