🕋 تفسير سورة المزمل
(Al-Muzzammil) • المصدر: AR-TAFSIR-AL-WASIT
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ
📘 وقد ذكرالمفسرون عند تفسيرهم لهذه السورة الكريمة روايات منها ما رواه البزار والطبرانى فى الأوسط ، وأبو نعيم فى الدلائل عن جابر - رضى الله عنه - قال : اجتمعت قريش فى دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما تصدوا الناس عنه فقالوا : كاهن . قالوا : ليس بكاهن . قالوا : مجنون . قالوا : ليس بمجنون . قالوا : ساحر . قالوا : ليس بساحر . . فتفرق المشركون على ذلك . فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فتزمل فى ثيابه وتدثر فيها ، فأتاه جبريل فقرأ عليه : ( ياأيها المزمل ) ( ياأيها المدثر . . . ) وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم كان نائما بالليل متزملا فى قطيفة . . فجاءه جبريل بقوله - تعالى - ( ياأيها المزمل . قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً . . ) .وقيل : إن سبب نزول هذه الآيات ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جاورت بحراء ، فلما قضيت جوارى ، هبطت ، فنوديت فنظرت عن يمينى فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالى فلم أر شيئا . . فرفعت رأسى فإذا الذى جاءنى بحراء ، جالس على كرسى بين السماء والأرض . . فرجعت فقلت : دثرونى دثرونى " ، وفى رواية : " فجئت أهلى فقلت : زملونى زملونى ، فأنزل الله - تعالى - : ( ياأيها المدثر . . . ) " .وجمهور العلماء يقولون : وعلى أثرها نزلت : ( ياأيها المزمل . . . ) .و ( المزمل ) : اسم فاعل من تزمل فلان بثيابه ، إذا تلفف فيها ، وأصله المتزمل ، فأدغمت التاء فى الزاى والميم .وافتتح الكلام بالنداء للتنبيه على أهمية ما يلقى على المخاطب من أوامر أو نواه .وفى ندائه صلى الله عليه وسلم بلفظ " المزمل " تلطف معه ، وإيناس لنفسه ، وتحبب إليه ، حتى يزداد نشاطا ، وهو يبلغ رسالة ربه .والمعنى : يأيها المزمل بثيابه ، المتلفف فيه ، رهبة مما رآه من عبدنا جبريل . او هما وغما مما سمعه من المشركين ، من وصفهم له بصفات هو برئ منها .
وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا
📘 ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالصبر الجميل ، على أذى قومه فقال : ( واصبر على مَا يَقُولُونَ واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً . . . ) .أى : اجعل يا محمد اعتمادك وتوكلك على وحدى ، واصبر على ما يقوله أعداؤك فى حقك من أكاذيب وخرافات . . واهجرهم هجرا جميلا ، أى : واعتزلهم وابتعد عنهم ، وقاطعهم مقاطعة حسنة ، بحيث لا تقابل السيئة يمثلها ، ولا تزد على هجرهم : بأن تسبهم ، أو ترميهم بالقبيح من القول . .قال الإِمام الرازى ما ملخصه : والمعنى أنك لما اتخذتنى وكيلا فاصبر على ما يقولون ، وفوض أمرهم إلى ، فإنى لما كنت وكيلا لك أقوم بإصلاح أمرك ، أحسن من قيامك بإصلاح نفسك .واعلم أن مهمات العباد محصورة فى أمرين : فى كيفية معاملتهم مع الله ، وقد ذكر - سبحانه - ذلك فى الآيات السابقة ، وفى كيفية معاملتهم مع الخلق ، وقد جمع - سبحانه - كل ما يحتاج إليه فى هذا الباب فى هاتين الكلمتين ، وذلك لأن الإِنسان إما أن يكون مخالطا للناس ، أو مجانبا لهم .فإن كان مخالطا لهم فعليه أن يصبر على إيذائهم . . وإما أن يكون مجانبا لهم ، فعليه أن يهجرهم هجرا جميلا . . بأن يجانبهم بقلبه وهواه ، ويخالفهم فى أفعالهم ، مع المداراة والإِغضاء ..
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا
📘 وقوله - سبحانه - : ( وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ) أى : ودعنى وشأنى مع هؤلاء المكذبين بالحق ، ولا تهتم أنت بأمرهم ، فأنا خالقهم ، وأنا القادر على كل شئ يتعلق بهم .وقوله : ( أُوْلِي النعمة ) وصف لهم جئ به على سبيل التوبيخ لهم ، والتهكم بهم ، حيث جحدوا نعم الله ، وتوهموا أن هذه النعم من مال أو ولد ستنفعهم يوم القيامة .والنَّعمة - بفتح النون مع التشديد - : تطلق على التنعم والترفه وغضارة والعيش فى الدنيا .وأما النِّعمة - بكسر النون - فاسم للحالات الملائمة لرغبة الإِنسان من غنى أو عافية أو نحوهما .وأما النُّعمة - بالضم - فهى اسم المسرة . يقال : فلان فى نُعْمة - بضم النون - أى : فى فرح وسرور .وقوله : ( وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ) أى : واتركهم ودعهم فى باطلهم وقتا قليلا ، فسترى بعد ذلك سوء عاقبة تكذيبهم للحق .
إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا
📘 وقوله - سبحانه - : ( إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً . . ) تعليل لما قبله . والأنكال : جمع نكل - بكسر النون وسكون الكاف - وهو القيد الثقيل ، يوضع فى الرجل لمنع الحركة . وسميت القيود بذلك لأنها تجعل صاحبها موضع عبرة وعظة ، أو لأنها تجعل صاحبها ممنوعا من الحركة ، والتقلب فى مناكب الأرض .أى : إن لدنيا ما هو أشد من ردك عليهم . . وهو تلك القيود التى نقيد حركتهم بها ، وإن لدينا " جحيما " أى : نارا شديدة الاشتعال تلقى بهم فيها .
وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا
📘 وإن لدينا كذلك " طعاما ذا غصة " أى : طعاما يلتصق فى الحلوق ، فلا هو خارج منها ، ولا هو نازل عنها ، بل هو ناشب فيها لبشاعته ومرارته .وهذا الطعام ذو الغُصَّة ، يشمل ما يتناولونه من الزقوم ومن الغسلين ومن الضريع ، كما جاء فى فى آيات أخرى . والغصة : ما يَنْشَب فى الحلق من عَظْم أو غيره ، وجمعه غُصَص .وإن لدينا فوق كل ذلك ( وَعَذَاباً أَلِيماً ) أى : عذابا شديد الإِيلام لمن ينزل به .فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد توعدت هؤلاء المكذبين بألوان من العقوبات الشديدة ، توعدتهم بالقيود التى تشل حركتهم ، وبالنار المشتعلة التى تحرق أجسادهم ، وبالطعام البشع الذى ينشب فى حلوقهم ، وبالعذاب الأليم الذى يشقيهم ويذلهم .
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا
📘 والظرف فى قوله - تعالى - : ( يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال . . . ) منصوب بالاستقرار العامل فى " الدنيا " الذى هو الخبر فى الحقيقة .أى : استقر لهم ذلك العذاب الأليم الدنيا ، يوم القيامة ، يوم تضطرب وتتزلزل الأرض والجبال .( وَكَانَتِ الجبال ) فى هذا اليوم ( كَثِيباً مَّهِيلاً ) أو : رملا مجتمعا ، بعد أن كانت قبل ذلك الوقت أحجارا صلبة كبيرة .فقوله : ( كَثِيباً ) من كثَب الشئَ يَكْثَبه ، إذا جمعه من قرب ثم صبه ، وجمعه كُثُب وكُثبْان ، وهى تلال الرمال المجتمعة كالربوة .وقوله ( مَّهِيلاً ) اسم مفعول من هال الشئ هيلا ، إذا نثره ، وفرقه بعد اجتماعه والشئ المهيل : هو الذى يحرَّك أسفله فينهار أعلاه ويتساقط بسرعة .
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا
📘 ثم يذكر - سبحانه - بعد ذلك هؤلاء المكذبين بما حل بالمكذبين من قبلهم ، فيقول : ( كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ) للتشبيه ، أى : أرسلنا إليكم - يا أهل مكة - رسولا شاهدا عليكم هو محمد صلى الله عليه وسلم كما أرسلنا من قبلكم إلى فرعون رسولا شاهدا عليه ، هو موسى - عليه السلام - .وأكد الخبر فى قوله - تعالى - : ( إِنَّآ أَرْسَلْنَآ . . . ) لأن المشركين كانوا ينكرون نبوة النبى صلى الله عليه وسلم .ونكر رسولا ، لأنهم كانوا يعرفونه حق المعرفة ، وللتعظيم من شأنه صلى الله عليه وسلم أى : أرسلنا إليكم رسولا عظيم الشأن ، سامى المنزلة جامعا لكل الصفات الكريمة .
فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا
📘 والفاء فى قوله : ( فعصى فِرْعَوْنُ الرسول ) للتفريع . أى : أرسلنا إليكم رسولا كما أرسلنا إلأى فرعون رسولا قبل ذلك ، فكانت النتيجة أن عصى فرعون أمر الرسول الذى أرسلناه إليه ، واستهزأ به ، وتطاول عليه فكانت عاقبة هذا التطاول ، أن أخذناه ( أَخْذاً وَبِيلاً ) .أى أهلكنا فرعون إهلاكا شديدا ، وعاقبناه عقابا ثقيلا ، فوبيل بزنة فعيل - صفة مشبهة ، مأخوذة من وَبُل المكان ، إذا وَخُم هواؤه وكان ثقيلا رديئا . ويقال : مرعى وبيل ، إذا كان وخما رديئا .وخص - سبحانه - موسى وفرعون بالذكر ، لأن أخبارهما كانت مشهورة عند أهل مكة .و ( أل ) فى قوله ( فعصى فِرْعَوْنُ الرسول ) للعهد . أى : فعصى فرعون الرسول المعهود عندكم ، وهو موسى - عليه السلام - .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم نكر الرسول ثم عرف؟ قلت : لأنه أراد : أرسلنا إلى فرعون بعض الرسل ، فلما أعاده وهو معهود بالذكر أدخل لام التعريف . إشارة إلى المذكور بعينه . .وأظهر - سبحانه - اسم فرعون مع تقدم ذكره فقال : ( فعصى فِرْعَوْنُ الرسول ) ، دون أن يؤتى بضميره ، للإِشعار بفظعة هذا العصيان ، وبلوغه النهاية فى الطغيان .والمقصود من هاتين الآيتين ، تهديد المشركين ، بأنهم إذا ما استمروا فى تكذيبهم لرسولهم ، محمد صلى الله عليه وسلم فقد يصيبهم من العذاب ما أصاب فرعون عندما عصى موسى - عليه السلام - .
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا
📘 ثم ذكرهم - سبحانه - بأهوال يوم القيامة ، لعلهم يتعظون أو يرتدعون فقال : ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً . السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) .والاستفهام فى قوله : ( فَكَيْفَ ) مستعمل فى التوبيخ والتعجيز ، و ( تَتَّقُونَ ) بمعنى تصونون أنفسكم من العذاب ، ومعنى ( إِن كَفَرْتُمْ ) إن بقيتم على كفركم وأصررتم عليه . وقوله ( يَوْماً ) : منصوب على أنه مفعول به لقوله : ( تَتَّقُونَ ) .
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ۚ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا
📘 وقوله : ( السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ) صفة ثانية لهذا اليوم .والمراد بالولدان : الأطفار الصغار ، وبه بمعنى فيه . .والمقصود بهاتين الآيتين - أيضا - تأكيد التهديد للمشركين ، حتى يقلعوا عن شركهم وكفرهم . . أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم من سوء عاقبة المكذبين ، فكيف تصونون أنفسكم - إذا ما بقيتم على كفركم - من عذاب يوم هائل شديد ، هذا اليوم من صفاته أنه يحول الشعر الشديد السواد للولدان ، إلى شعر شديد البياض ..وهذا اليوم من صفاته - أيضا - أنه لشدة هوله ، أن السماء - مع عظمها وصلابتها - تصير شيئا منفطرا - أى : متشققا ( به ) أى : فيه ، والضمير يعود إلى اليوم . .وصدر - سبحانه - الحديث عن يوم القيامة ، بلفظ الاستفهام " كيف " للإِشعار بشدة هوله . وأنه يعجز الواصفون عن وصفه .ووصف - سبحانه - هذا اليوم بأنه يشيب فيه الولدان ، ثم وصفه بأن السماء مع عظمها تتشقق فيه ، للارتقاء فى الوصف من العظيم إلى الأعظم ، إذ أن تحول شعر الأطفال من السوادإلى البياض - مع شدته وعظمه - أشد منه وأعظم ، انشقاق السماء فى هذا اليوم .قال صاحب الكشاف : وقوله ( يَجْعَلُ الولدان شِيباً ) مثل فى الشدة ، يقال فى اليوم الشديد ، يوم يشيب نواصى الأطفال والأصل فيه أن الهموم والأحزان ، إذا تفاقمت على الإِنسان ، أسرع فيه الشيب ، كما قال أبو الطيب :والهَمُّ يَخْتَرِم الجسيمَ نحافةً ... ويُشِيبُ ناصيةَ الصبى ويُهْرِمويجوز أن يوصف اليوم بالطول ، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب . وقوله : ( السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ) وصف لليوم بالشدة - أيضا - وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق . .ووصف - سبحانه - السماء بقوله : ( مُنفَطِرٌ ) بصيغة التذكير ، حيث لم يقل منفطرة ، لأن هذه الصيغة ، صيغة نسب . أى : ذات انفطار ، كما فى قولهم : امرأة مرضع وحائض ، أى : ذات إرضاع وذات حيض . أو على تأويل أن السماء بمعنى السقف ، كما فى قوله - تعالى - : ( وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً ) أو على أن السماء اسم جنس واحده سماوة ، فيجوم وصفه بالتذكير والتأنيث .وقوله : ( كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) الضمير فيه يعود إلى الخالق - عز وجل - والوعد مصدر مضاف لفاعله . أى : كان وعد ربك نافذا ومفعولا ، لأنه - سبحانه - لا يخلف موعوده .ويجوز أن تكون هذه الجملة صفة ثالثة لليوم ، والضمير فى وعده يعود إليه ، ويكون من إضافة المصدر لمفعوله . أى : كان الوعد بوقوع يوم القيامة نافذا ومفعولا .
إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ۖ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا
📘 ثم ختم - سبحانه - هذه التهديدات بقوله : ( إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) .واسم الإِشارة " هذه " يعود إلى الآيات المتقدمة ، المشتملة على الكثير من القوارع والزواجر .والتذكرة : اسم مصدر بمعنى التذكير والاتعاظ والاعتبار . ومفعول " شاء " محذوف .والمعنى : إن هذه الآيات التى سقناها لكم تذكرة وموعظة ، فمن شاء النجاة من أهوال يوم القيامة ، فعليه أن يؤمن بالله - تعالى - إيمانا حقا ، وأن يتخذ بسبب إيامنه وعمله الصالح ، طريقا وسبيلا إلى ربه ورحمته ومغفرته .والتعبير بقوله : ( فَمَن شَآءَ اتخذ .. . ) ليس من قبيل التخبير ، وإنما المقصود به الحض والحث على سلوك الطريق الموصل إلى الله - تعالى - بدليل قوله - تعالى - قبل ذلك : ( إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ ) أى : هذه الآيات تذكرة وموعظة ، فمن ترك العمل بها ساءت عاقبته ، ولم يكن من الذين سلكوا طريق النجاة .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : ( وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ) هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، - من أول السورة إلى هنا - يراها قد نادت الرسول صلى الله عليه وسلم نداء فيه ما فيه من الملاطفة والمؤانسة ، وأمرته بأن يقوم الليل إلا قليلا متعبدا لربه ، كما أمرته بالصبر على أذى المشركين ، حتى يحكم الله - تعالى - بينه وبينهم .كما يراها قد هددت المكذبين بأشد أنواع التهديد ، وذكرتهم بأهوال يوم القيامة ، وبما حل بالمكذبين من قبلهم ، وحرضتهم على سلوك الطريق المستقيم .
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا
📘 ( قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً ) أى : قم الليل متعبدا لربك ، ( إِلاَّ قَلِيلاً ) منه ، على قدر ما تأخذ من راحة لبدنك ، فقوله : ( إِلاَّ قَلِيلاً ) بدل كل من كل ، على سبيل التفصيل بعد الإِجمال . .أى : قم نصف الليل للعبادة لربك ، واجعل النصف الثانى من الليل لراحتك ونومك . .ووصف - سبحانه - هذا النصف الكائن للراحة بالقلة فقال ( إِلاَّ قَلِيلاً ) للإِشعار بأن النصف الآخر ، العامر بالعبادة والصلاة . . هو النصف الأكثر ثوابا وقربا من الله - تعالى - بالنسبة للنصف الثانى المتخذ للراحة والنوم .
۞ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
📘 وبعد هذه الإِنذارات المتعددة للمكذبين ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن قيام الليل لعبادة الله - تعالى - وطاعته . . فقال - سبحانه - :( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن . . . ) .المراد بالقيام فى قوله - تعالى - : ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ . . . ) التهجد بالليل عن طريق الصلاة تقربا إلى الله - تعالى - .وقوله : ( أدنى ) بمعنى أقرب ، من الدنو بمعنى القرب ، تقول : رأيت فلانا أدنى إلى فعل الخير من فلان . أى : أقرب ، واستعير هنا للأقل ، لأن المسافة التى بين الشئ والشئ إذا قربت كانت قليلة ، وهو منصوب على الظرفية بالفعل " تقوم " .وقوله : ( وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ) قرأه بعض القراء السبعة بالجر عطفا على ( ثُلُثَيِ الليل ) وقرأه الجمهور بالنصب عطفا على أدنى .والمعنى على قراءة الجمهور : إن ربك - أيها الرسول الكريم - يعلم أنك تقوم من الليل ، مدة قد تصل تارة إلى ثلثى الليل ، وقد تصل تارة أخرى إلى نصفه أو إلى ثلثه . . على حسب ما يتيسر لك ، وعلى حسب أحوال الليل فى الطول والقصر .والمعنى على قراءة غير الجمهور : إن ربك يعلم أنك تقوم تارة أقل من ثلثى الليل وتارة أقل من نصفه ، وتارة أقل من ثلثه . . وذلك لأنك لم تستطع ضبط المقدار الذى تقومه من الليل ضبطا دقيقا ، ولأن النوم تارة يزيد وقته وتارة ينقص ، والله - تعالى - قد رفع عنك المؤاخذة بسبب عدم تعمدك القيام أقل من ثلث الليل . .فالآية الكريمة المقصود منها بيان رحمة الله - تعالى - بنبيه صلى الله عليه وسلم حيث قبل منه قيامه بالليل متهجدا ، حتى ولو كان هذا القيام أقل من ثلث الليل . .وافتتاح الآية الكريمة بقوله - سبحانه - ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ . . . ) يشعر بالثناء علريه صلى الله عليه وسلم . وبالتلطف معه فى الخطاب ، حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على قيام الليل . على قدر استطاعته ، بدون تقصير أو فتور .وفى الحديث الشريف : أنه صلى الله عليه وسلم قام الليل حتى تورمت قدماه .والتعبير بقوله - تعالى - : ( أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ) يدل على أن قيامه صلى الله عليه وسلم ، وعلى حسب طول الليل وقصره .وقوله - سبحانه - : ( وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ ) معطوف على الضمير المستتر فى قوله : ( تقوم )أى : أنت أيها الرسول الكريم - تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه ، وتقوم طائفة من أصحابك للصلاة معك ، أما بقية أصحابك فقد يقومون للتهجد فى منازلهم .روى البخارى فى صحيحه عن عائشة ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة فى المسجد ، فصلى بصلاته ناس ، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ، ثم اجتمعوا فى الليلة الثالثة أو الرابعة ، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال : " قد رأيت الذى صنعتم ، ولم يمنعنى من الخروج إليكم ، إلا أنى خشيت أن تفرض عليكم " " .قال بعض العلماء : قوله : ( وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ ) معطوف على الضمير المستكن فى ( تقوم )وهو - وإن كان ضمير رفع متصل - ، قد سوغ العطف عليه الفصل بينه وبين المعطوف .والمعنى : أن الله يعلم أنه كان يقوم كذلك جماعة من الذين آمنوا بك ، واتبعوا هداك . .وقد يقال : إن هذا يدل على أن قيام الليل لم يكن فرضا على جميع الأمة ، وهو خلاف ما تقرر تفسيره فى أول السورة ، ويخالف - أيضا - ما دلت عليه الآثار المتقدمة هناك . .والجواب : أنه ليس فى الآية ما يفيد أن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا جميعا يصلون مع النبى صلى الله عليه وسلم صلاة التهجد فى جماعة واحدة ، فلعل بعضهم كان يقيمها فى بيته ، فلا ينافى ذلك فريضة القيام على الجميع . .وقوله - سبحانه - : ( والله يُقَدِّرُ الليل والنهار ) بيان لشمول علمه - تعالى - ولنفاذ إرادته . أى : والله - تعالى - وحده ، هو الذى يعلم مقادير ساعات الليل والنهار ، وهو الذى يحدد زمانهما - طولا وقصرا - على حسب ما تقتضيه مشيئته وحكمته .والآية الكريمة تفيد الحصر والاختصاص ، عن طريق سياق الكلام ، ودلالة المقام .وقوله - تعالى - : ( عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) مؤكد لما قبله ، وإحصاء الأشياء ، عدها والإِحاطة بها .والضمير المنصوب فى قوله : ( تُحْصُوهُ ) يعود على المصدر المفهوم من قوله : ( يقدر ) فى الجملة السابقة .والتوبة فى قوله - سبحانه - : ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) يصح أن تكون بمعنى المغفرة ، وعدم المؤاخذة ، أو بمعنى قبولها منهم ، والتيسير عليهم فى الأحكام ، وتخفيفها عنهم .أى : والله - تعالى - هو الذى يقدر أجزاء الليل والنهار ، وهو الذى يعلم - دون غيره - أنكم لن تستطيعوا تقدير ساعاته تقديرا دقيقا . . ولذلك خفف الله عنكم فى أمر القيام ، ورفع عنكم المقدار المحدد ، وغفر لكم ما فرط منكم من تقصير غير مقصود ، ورخص لكم أن تقوموا المقدار الذى تستطيعون قيامه من الليل ، مصلين ومتهجدين . .فالجملة الكريمة تقرر جانبا من فضل الله - تعالى - على عباده ، ومن رحمته بهم .والفاء فى قوله - تعالى - : ( فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن ) للإِفصاح ، والمراد بالقراءة الصلاة ، وعبر عنها بالقراءة ، لأنها من أركانها . . أى : إذا كان الأمر كما وضحت لكم ، فصلوا ما تيسر لكم من الليل .قال الآلوسى : قوله : ( فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن ) أى : فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ، وعبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها ، وقيل : الكلام على حقيقته ، من طلب قراءة القرآن بعينها وفيه بعد عن مقتضى السياق .ومن ذهب إلى الأول قال : إن الله - تعالى - افترض قيام مقدار معين من الليل ، لقوله :( قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً . نِّصْفَهُ . . . ) الخ . ثم نسخ بقيام مقدار ما منه ، فى قوله : ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن . . . ) فالأمر فى الموضعين للوجوب ، إلا أن الواجب أولا كان معينا من معينات ، وثانيا كان بعضا مطلقا ، ثم نسخ وجوب القيام على الأمة مطلقا بالصلوات الخمس .ومن قال بالثانى : ذهب إلى أن الله - تعالى - رخص لهم فى ترك جميع القيام بالصلاة ، وأمر بقراءة شئ من القرآن ليلا ، فكأنه قيل : فتاب عليكم ورخص لكم من الترك ، فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، إن شق عليكم القيام . .وقال الإِمام ابن كثير : وقوله : ( فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن ) أى : من غير تحديد بوقت ، أى : لكن قوموا من الليل ما تيسر ، وعبر عن الصلاة بالقراءة ، كما قال فى آية أخرى : ( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ) أى : بقراءتك ( وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ) وقد استدل الأحناف بهذه الآية على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة فى الصلاة ، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ، ولو بآية . أجزأه واعتضدوا بحديث المسئ صلاته الذى فى الصحيحين ، وفيه : " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " .وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت ، وهو فى الصحيحين - أيضا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج . . غير تمام " وفى صحيح ابن خزيمة عن أبى هريرة مرفوعا : " لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب " .وقوله - سبحانه - بعد ذلك : ( عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ . . ) بدل اشتمال من جملة : ( عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ . . ) ، أو هو كلام مستأنف لبيان الحكمة التى من أجلها خفف الله على المسلمين قيام الليل .أى : صلوا من الليل على قدر استطاعتكم من غير تحديد بوقت ، فالله - تعالى - يعلم أنكم لا تستطيعون ضبط ساعات الليل ولا أجزائه ، فخفف عليكم لذلك ، ولعلمه - أيضا - أن منكم المرضى الذين يعجزون عن قيام ثلثى الليل أو نصفه أو أقل من ذلك بقليل .ومنكم - أيضا - الذين ( يَضْرِبُونَ فِي الأرض ) أى : يسافرون فيها للتجارة وللحصول على مطالب الحياة ، وهم فى كل ذلك يبتغون ويطلبون الرزق من فضله - تعالى - . ومنكم - أيضا - الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله ، ويجاهدون من أجل نشر دينه وما دام الأمر كذلك ، فقد أبحت لكم - بفضلى وإحسانى - أن تصلوا من الليل ما تيسر لكم .وقد جمع - سبحانه - بين السعى فى الأرض لطلب الرزق ، وبين الجهاد فى سبيله ، للإِشعار بأن الأول لا يقل فى فضله عن الثانى ، متى توفرت فيه النية الطيبة ، وعدم الانشغال به عن ذكر الله - تعالى - .قال الإِمام القرطبى : سوى الله - تعالى - فى هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال والحلال ، للنفقة على النفس والعيال . . فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد فى سبيل الله .وفى الحديث الشريف : " ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد ، فيبيعه بسعر يومه ، إلا كانت منزلته عند الله كمنزلة الشهداء ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية . . " .وأعيدت جملة ( فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ) لتأكيد التيسير والتخفيف وتقريره ، وليعطف عليه ما بعده من بقية الأوامر ، وهى قوله - تعالى - : ( وَأَقِيمُواْ الصلاة ) أى : وأدوها كاملة الأركان والخشوع والسنن . . فى وقتها بدون تأخير .( وَآتُواْ الزكاة ) أى : قدموها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهما .قال ابن كثير : أى : أقيموا الصلاة الواجبة عليكم ، وآتوا الزكاة المفروضة ، وهذا يدل لمن قال : إن فرض الزكاة نزل بمكة ، لكن مقادير النصاب لم تبين إلا بالمدينة . .وقوله : ( وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً ) . والقرض : ما قدمته لغيرك من مال ، على أن يرده إليك بعد ذلك . والمراد من إقراض الله - تعالى - : إعطاء الفقراء والمساكين ما يحتاجونه على سبيل المعاونة والمساعدة .وشبه - سبحانه - إعطاء الصدقة للمحتاج ، بقرض يقدم له - تعالى - ، للإِشعار بأن ما سيعطى لهذا المحتاج ، سعود إضعافه على المعطى . لأن الله - تعالى - قد وعد أن يكافئ على الصدقة بعشر أمثالها ، وهو - سبحانه - بعد ذلك يضاعف لمن يشاء الثواب والعطاء .ووصف القرض بالحسن ، لحض النفوس على الإخلاص وعلى البعد عن الرياء والأذى . .ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله : ( وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ ) أى : أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وأقرضوا الله قرضا حسنا ، وافعلوا ما تستطيعونه - بعد ذلك - من وجوه الخير ، وما تقدموا لأنفسكم من هذا الخير الذى يحبه - سبحانه - ( تَجِدُوهُ عِندَ الله ) أى : تجدوا ثوابه وجزاءه عند الله - تعالى - ، ففى الكلام إيجاز بالحذف ، وقد استغنى عن المحذوف بذكر الجزاء عليه . والهاء فى قوله ( تَجِدُوهُ ) هو المفعول الأول .والضمير المنفصل فى قوله : ( هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ) هو ضمير الفصل . . . ( خَيْراً ) هو المفعول الثانى . أى : كل فعل موصوف بأنه خير ، تقدمونه عن إخلاص لغيركم ، لن يضيع عند الله - تعالى - ثوابه ، بل ستجدون جزاءه وثوابه مضاعفا عند الله - تعالى - .( واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) أى : وواظبوا على الاستغفار وعلى التوبة النصوح ، وعلى التضرع إلى الله - تعالى - أن يغفر لكم ما فرط منكم ، فإنه - سبحانه - واسع المغفرة والرحمة ، لمن تاب إليه وأناب . .
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا
📘 وقوله - سبحانه - : ( أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ . . ) تخيير له صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ، وإظهار لما اشتملت عليه شريعة الإِسلام من يسر وسماحة . .فكأنه - تعالى - يقول له على سبيل التلطف والإرشاد إلى ما يشرح صدره - يأيها المتلفف بثيابه ، قم الليل للعبادة والصلاة ، إلا وقتا قليلا منه يكون لراحتك ونومك ، وهذا الوقت القليل المتخذ للنوم والراحة قد يكون نصف الليل ، أو قد يكون أقل من النصف بأن يكون فى حدود ثلث الليل
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا
📘 ولك - أيها الرسول الكريم - أن تزيد على ذلك ، بأن تجعل ثلثى الليل للعبادة ، وثلثه للنوم والراحة ..فأنت ترى أن الله - تعالى - قد رخص لنبيه صلى الله عليه وسلم فى أن يجعل نصف الليل أو ثلثه ، أو ثلثيه للعبادة والطاعة ، وأن يجعل المقدار الباقى من الليل للنوم والراحة . .وخص - سبحانه - الليل بالقيام ، لأنه وقت سكون الأصوات . . فتكون العبادة فيه أكثر خشوعا ، وأدى لصفاء النفس ، وطهارة القلب ، وحسن الصلة بالله - عز وجل - .هذا ، وقد استمر وجوب الليل على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بعد فرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته . تعظيما لشأنه ، ومداومة له على مناجاة ربه ، خصوصا فى الثلث الأخير من الليل ، يدل على ذلك قوله - تعالى - : ( وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ) وقد كان المسلمون يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم فى قيام الليل وقد أثنى - سبحانه - عليهم بسبب ذلك فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - : ( تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) وقد ذكر الإِمام أحمد حديثا طويلا عن سعيد بن هشام ، وفيه أنه سأل السيدة عائشة عن قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل ، فقالت له : ألست تقرأ هذه السورة ، يأيها المزمل . . ؟إن الله افترض قيام الليل فى أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم . وأمسك الله ختامها فى السماء اثنى عشر شهرا ، ثم أنزل التخفيف فى آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة . .قال القرطبى ما ملخصه : واختلف : هل كان قيام الليل فرضا وحتما ، أو كان ندبا وحضا؟ والدلائل تقوى أن قيامه كان حتما وفرضا ، وذلك أن الندب والحض ، لا يقع على بعض الليل دون بعض ، لأن قيامه ليس مخصوصا به وقت دون وقت .واختلف - أيضا - هل كان فرضا على النبى صلى الله عليه وسلم وحده؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء؟ أو عليه وعلى أمته؟ ثلاثة أقوال . . أصحها ثالثها للحديث المتقدم الذى رواه سعيد بن هشام عن عائشة - رضى الله عنها - .وقال بعض العلماء بعد أن ساق العلماء فى هذه المسألة بشئ من التفصيل : والذى يستخلص من ذلك أن أرجح الأقوال ، هو القول القائل بأن التهجد كانفريضة على النبى صلى الله عليه وسلم وعلى أمته ، إذ هو الذى يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية ، ويشهد له ما تقدم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما .ويرى بعض العلماء أن وجوب التهجد باق على الناس جميعا ، وأنه لم ينسخ ، وإنما الذى نسخ هو وجوب قيام جزء مقدر من الليل ، لا ينقص كثيرا عن النصف .ويرد على هذا القول بما ثبت فى الصحيحين ، من " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذى سأله عما يجب عليه من صلاة؟ قال : خمس صلوات فى اليوم والليلة . قال : هل على غيرها؟ قال : لا إلا أن تطوع " .ويرى فريق آخر : أن قيام الليل نسخ عن الرسول وعن أمته بآخر سورة المزمل . واستبدل به قراءة القرآن ، على ما يعطيه قوله - تعالى - ( عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن ) ويدل عليه - أيضا - ظاهر ما روى عن عائشة ، من قولها : فصار قيام الليل تطوعا من بعد الفريضة ، دون أن تقيد ذلك بقيد .ويرى فريق ثالث : أن وجوب التهجد استمر على النبى وعلى الأمة ، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج .ويرى فريق رابع : أن قيام الليل نسخ عن الأمة وحدها ، وبقى وجوبه على النبى صلى الله عليه وسلم على ما يعطيه ظاهر آية الإِسراء .ولعل أرجح هذه الأقوال هو القول الرابع . . فإن آية سورة الإِسراء وهى قوله - تعالى - : ( وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ . . . ) تدل على أن وجوب التهجد قد بقى عليه صلى الله عليه وسلم .وقوله - تعالى - : ( وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً ) إرشاد له صلى الله عليه وسلم ولأمته إلى أفضل طريقة لقراءة القرآن الكريم ، حتى يستمروا عليها ، وهم فى أول عهدهم بنزول القرآن الكريم .والترتيل : جعل الشئ مرتلا ، أى : منسقا منظما ، ومنه قولهم : ثغر مرتل ، أى : منظم الأسنان ، لم يشذ بعضها عن بعض .أى : قم - أيها الرسول الكريم - الليل إلا قليلا منه . . متعبدا لربك مرتلا للقرآن ترتيلا جميلا حسنا ، تستبين معه الكلمات والحروف ، حتى يفهمها السامع ، وحتى يكون ذلك أعون على حسن تدبره ، وأثبت لمعانيه فى القلب . .قال الإِمام ابن كثير : وكذلك كان يقرأ صلى الله عليه وسلم فقد قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة فيرتلها . . وسئل أنس عن قراءته صلى الله عليه وسلم فقال : كانت مدا . . وقال صلى الله عليه وسلم : " زينوا القرآن بأصواتكم " .وقال عبد الله بن مسعود : لا تنثروه نثر الرمَل ، ولا تهذوه هذَّ الشِّعر وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب - أى لا تسرعوا فى قراءته كما تسرعوا فى قراءة الشعر .والهذ : سرعة القطع - هذا ، وليس معنى قوله - سبحانه - : ( وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً ) ، أن يقرأ بطريقة فيها تلحين أو تطريب يغير من ألفاظ القرآن ، ويخل بالقراءة الصحيحة من حيث الأداء ، ومخارج الحروف ، والغن والمد ، والإِدغام والإِظهار . . وغير ذلك مما يقتضيه القراءة السليمة للقرآن الكريم .وإنما معنى قوله - تعالى - : ( وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً ) أن يقرأه بصوت جميل وبخشوع وتدبر ، وبالتزام تام للقراءة الصحيحة ، من حيث مخارج الحروف ومن حيث الوقف والمد والإِظهار والإِخفاء ، وغير ذلك . .وقد بسط القول فى هذه المسألة بعض العلماء فارجع إليه إن شئت .
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا
📘 وقوله - تعالى - ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) تعليل للأمر بقيام الليل ، وهو كلام معترض بين قوله - سبحانه - ( قُمِ الليل . . ) وبين قوله - تعالى - بعد ذلك : ( إِنَّ نَاشِئَةَ الليل . . . ) .والمراد بالقول الثقيل : القرآن الكريم الذى أنزله - سبحانه - على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم .ويشهد لثقل القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة ، منها : ما رواه الإِمام البخارى من أن السيدة عائشة قالت : ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحى ، فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا .ومنها قوله صلى الله عليه وسلم " ما من مرة يوحَى إلى ، إلا ظننت أن نفسى تفيض " - أى : تخرج . .ونمها قول زيد بن ثابت : أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ من القرآن - وفخذه على فخذى فكادت تُرَض فخذى - أى : تتكسر . .ومنها ما رواه هشام بن عروة عن أبيه ، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى عليه وهو على ناقته ، وضعت جرانها - أى باطن عنقها - فما تستطيع أن تتحرك ، حتى يُسَرَّى عنه .أى : قم - أيها الرسول الكريم - الليل إلا قليلا منه متعبدا لربك ، متقربا إليه بألوان الطاعات ، فإنا سنلقى عليك قولا ثقيلا ، وهذا القول هو القرآن الكريم ، الثقيل فى وزنه وفى ميزان الحق ، وفى أثره فى القلوب ، وفيما اشتمل عليه من تكاليف ، وصدق الله إذا يقول : ( لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله . . . ) قال الجمل : قوله : ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) أى : كلاما عظيما جليلا ذا خطر وعظمة ، لأنه كلام رب العالمين ، وكل شئ له خطر ومقدار فهو ثقيل .أو هو ثقيل لما فيه من التكاليف ، والوعد والوعيد ، والحلال والحرام ، والحدود والأحكام .قال قتادة : ثقيل والله فى فرائضه وحدوده . . وقال محمد بن كعب : ثقيل على المنافقين ، لأنه يهتك أسرارهم . . وقال السدى : ثقيلا بمعنى كريم ، مأخوذ من قولهم : فلان ثقل علىَّ ، أى كرم على . . وقال ابن المبارك : هو والله ثقيل مبارك ، كما ثقل فى الدنيا ، ثقل فى الميزان يوم القيامة .وقيل : ثقيلا بمعنى أن العقل الواحد لا يفى بإدراك فوائده ومعانيه ، فالمتكلمون غاصوا فى بحار معقولانه ، والفقهاء بحثوا فى أحكامه . . والأولى أن جميع هذه المعانى فيه .وقيل : المراد بالقول الوحى ، كما فى الخبر ، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى إليه ، وهو على ناقته وضعت جرانها - أى : وضعت صدرها على الأرض - فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه . .ويبدو لنا أن وصف القرآن بالثقل وصف حقيقى ، لما ثبت من ثقله على النبى صلى الله عليه وسلم وقت نزوله عليه . . وهذا لا يمنع أن ثقله يشمل ما اندرج فيه من علوم نافعة ، ومن هدايات سامية ، ومن أحكام حكيمة ، ومن آداب قويمة ، ومن تكاليف جليلة الشأن .وعبر - سبحانه - عن إيحائه بالقرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالإِلقاء للإِشعار بأنه يلقى إليه على غير ترقب منه صلى الله عليه وسلم ، بل ينزل إليه فى الوقت الذى يريده سبحانه - وللإِشارة من أول الأمر إلى ما يوحى إليه شئ عظيم وشديد الوقع على النفس .
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا
📘 ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الحكمة من أمره له صلى الله عليه وسلم بقيام الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة فقال : ( إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً ) .وقوله : ( نَاشِئَةَ ) : وصف من النشء وهو الحدوث ، وهو صفة لموصوف محذوف . وقوله : ( وَطْأً ) بمعنى مواطأة وموافقة ، وأصل الوطء : وضع الرجل على الأرض بنظام وترتيب ، ثم استعير للموافقة ، ومنه قوله - تعالى - ( لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله ) ومنه قولهم : وطأت فلانا على كذا ، إذا وافقته عليه . وهو منصوب على التمييز . وقوله : ( قِيلاً ) بمعنى قولا .وقوله : ( وَأَقْوَمُ ) بمعنى أفضل وأنفع .والمعنى : يأيها المزمل قم الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة . فإن العبادة الناشئة بالليل . هى أشد مواطأة وموافقة لإِصلاح القلب ، وتهذيب النفس ، وأقوم قولا ، وأنفع وقعا ، وأفضل قراءة من عبادة النهار ، لأن العبادة الناشئة بالليل يصحبها ما يصحبها من الخشوع والإِخلاص ، لهدوء الأصوات بالليل ، وتفرغ العابد تفرغا تاما لعبادة ربه .قال الشوكانى ما ملخصه : قوله : ( إِنَّ نَاشِئَةَ الليل . . . ) أى : ساعاته وأوقاته ، لأنها تنشأ أولا فأولا ، ويقال : نشأ الشئ ينشأ ، إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شئ ، فهو ناشئ . . قال الزجاج : ناشئة الليل ، كل ما نشأ منه ، أى : حدث منه . . والمراد ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف عن الاسم الموصوف .وقيل : إن ناشئة الليل ، هى النفس التى تنشأ من مضجعها للعبادة ، أى : تنهض ، من نشأ من مكانه ، إذا نهض منه .( هِيَ أَشَدُّ وَطْأً ) قرأ الجمهور ( وَطْأً ) بفتح الواو وسكون الاء مقصورة ، وقرأ بعضهم ( وَطْأً ) بكسر الواو وفتح الطاء ممدودة .والمعنى على القراءة الأولى : أن الصلاة الناشئة فى الليل ، أثقل على المصلى من صلاة النهار ، لأن الليل للنوم .. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم أشدد وطأتك على مضر " .والمعنى على القراءة الثانية : أنها أشد مواطأة وموافقة بين السمع والبصر والقلب واللسان ، لانقطاع الأصوات والحركات ، ومنه قوله - تعالى - : ( لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله ) أى : ليوافقوا .( وَأَقْوَمُ قِيلاً ) أى : وأشد مقالا . وأثبت قراءة ، لحضور القلب فيها ، وهدوءالأصوات ، وأشد استقامة واستمرارا على الصواب . .
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا
📘 وقوله - سبحانه - ( إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً ) تقرير للأمر بقيام الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة والتقرب إليه - سبحانه - .والسبح : مصدر سبح ، وأصله الذهاب فى الماء والتقلب فيه ثم استعير للتقلب والتصرف المتسع ، الذى يشبه حركة السابع فى الماء .أى : إنا أمرناك بقيام الليل للعبادة والطاعة ، لأن لك فى النهار - أيها الرسول الكريم - تقلبا وتصرفا فى مهماتك ، واشتغالا بأعباء الرسالة يجعلك لا تستطيع التفرغ لعبادتنا ، أما فى الليل فتستطيع ذلك لأنه وقت السكون والراحة والنوم .فالمقصود من الآية الكريمة التخفيف والتيسير عليه صلى الله عليه وسلم وبيان الحكمة من أمره بقيام الليل - إلا قليلا منه - للعبادة ، حيث لم يجمع - سبحانه - عليه الأمر بالتهجد فى الليل والنهار ، وإنما يسر عليه الأمر ، فجعله بالليل فحسب ، أما النهار فهو لمطالب الحياة : ولتبليغ رسالته - سبحانه - إلى الناس .
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا
📘 ثم أمره - سبحانه - بعد ذلك بالمداومة على ذكره ليلا ونهارا فقال : ( واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً . رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً ) .وقوله - سبحانه - ( وَتَبَتَّلْ ) من التبتل ، وهو الاشتغال الدائم بعبادة الله - تعالى - ، والانقطاع لطاعته . ومنه قولهم بتل فلان الحبل ، إذا قطعه ، وارمأة بتول .أى : منقطعة عن الزواج ، ومتفرغة لعبادة الله - تعالى -والمراد به هنا : التفرغ لما يرضى الله - تعالى - ، والاشتغال بذلك عن كل شئ سواه .أى : ودوام - أيها الرسول الكريم - على ذكر الله - تعالى - عن طريق تسبيحه ، وتحميده وتكبيره ، وتفرغ لعبادته وطاعته تفرغا تاما ، دون أن يشغلك عن ذلك شاغل .
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا
📘 فربك - عز وجل - هو ( رَّبُّ المشرق والمغرب ) . أى : هو - سبحانه - رب جهتى الشروق والغروب للشمس .( لاَ إله إِلاَّ هُوَ ) مستحق للعبادة والطاعة ، وما دام الأمر كذلك ( فاتخذه وَكِيلاً ) .أى : فاتخذه وكيلك الذى تفوض إليه أمرك ، وتلجأ إليه فى كل أحوالك . . إذ الوكيل هو الذى توكل إليه الأمور ، ويترك له التصرف فيها .وليس المراد بقوله - تعالى - : ( واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ) الانقطاع التام عن الأعمال ، لأن هذا يتنافى مع قوله - تعالى - قبل ذلك : ( إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً ) وإنما المراد التنبيه إلى أنه صلى الله عليه وسلم ينبغى له أن لا يشغله السبح الطويل بالنهار ، عن طاعته - عز وجل - وعن المداومة على مراقبته وذكره .ومما لا شك فيه أن ما كان يقوم به النبى صلى الله عليه وسلم من الاشتغال بأمر الدعوة إلى وحدانية الله - تعالى - ، ومن تعليم الناس العلم النافع ، والعمل الصالح . . كل ذلك يندرج تحت المواظبة على ذكر الله - تعالى - ، وعلى التفرغ لعبادته .وقال - سبحانه - ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ) ولم يقل تبتلا حتى يكون الفعل موافقا لمصدره ، للإِشارة إلى أن التبتل والانقطاع إلى الله يحتاجان إلى عمل اختيارى منه صلى الله عليه وسلم ، بأن يجرد نفسه عن كل ما سوى الله - تعالى - ، وبذلك يحصل التبتل الذى هو أثر للتبتيل ، بمعنى ترويض النفس وتعويدها على العبادة والطاعة .ووصف - سبحانه - ذاته بأنه ( رَّبُّ المشرق والمغرب ) ، لمناسبة الأمر بذكره فى الليل والنهار ، وهما وقت ابتداء طلوع الشمس وغروبها ، فكأنه - سبحانه - يقول : داوم على طاعتى لأنى أنا رب جميع جهات الأرض ، التى فيها تشرق الشمس وتغرب .والمراد بالمشرق والمغرب هنا جنسهما ، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس ، التى هى ثلاثمائة وستون مشرقا - كما يقول العلماء - وعلى كل مغرب من مغاربها التى هى كذلك .والمراد بالمشرقين والمغربين كما جاء فى سورة الرحمن : مشرق ومغرب الشتاء والصيف .والمراد بالمشارق والمغارب كما جاء فى سورة المعارج : مشرق ومغرب كل يوم للشمس والكواكب .